ألف ليلة وليلة
الجزء السادس
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المرأة لما صارت
مقصودة للناس وهي مقبلة على عبادتها في الصومعة كان من قضاء الله تعالى أنه نزل
بأخي زوجها الذي رجمها عاهة في وجهه، وأصاب المرأة التي ضربتها برص وابتلى الشاطر
بوجع أقعده وقد جاء القاضي زوجها من حجه وسأل أخاه عنها فأخبره أنها ماتت، فأسف
عليها واحتسبها عند الله، ثم تسامعت الناس بالمرأة حتى كانوا يقصدون صومعتها من
أطراف الأرض ذات الطول والعرض، فقال القاضي لأخيه: يا أخي هل قصدت هذه المرأة
الصالحة? لعل الله يجعل لك على يديها شفاء، قال: يا أخي احملني إليها، وسمع بها
زوج المرأة التي نزل بها البرص فسار بها إليها وسمع أهل الشاطر المقعد بخبرها
فساروا به إليها أيضاً واجتمع الجميع عند باب صومعتها، وكانت ترى جميع من يأتي
صومعتها من حيث لا يراها أحد، فانتظروا خادمها حتى جاء ورغبوا إليه في أن يستأذن
لهم في الدخول عليها ففعل فتنقبت واستترت ووقفت عند الباب تنظر زوجها وأخاه اللص
والمرأة فعرفتهم وهم لا يعرفونها فقالت لهم: يا هؤلاء إنكم ما تستريحون مما بكم
حتى تعترفون بذنوبكم فإن العبد إذا اعترف بذنبه تاب الله عليه وأعطاه ما هو متوجه
إليه. فقال القاضي لأخيه: يا أخي تب إلى الله ولا تصر على عصيانك فإنه أنفع
لخلاصك، فعند ذلك قال أخ القاضي: الآن أقول الحق إني فعلت بزوجتك ما هو كذا وكذا
وهذا ذنبي، فقالت البرصاء: وأنا كانت عندي امرأة فنسبت غليها ما لم أعلمه وضربتها
عمداً وهذا ذنبي، فقال المقعد: وأنا دخلت على امرأة لأقتلها بعد مراودتها عن نفسها
وامتناعها من الزنا فذبحت صبياً كان بين يديها وهذا ذنبي.
فقالت المرأة: اللهم كما أريتهم ذل المعصية فأرهم عز
الطاعة، إنك على كل شيء قدير، فشفاهم الله عز وجل وجعل القاضي ينظر إليها ويتأملها
فسألته عن سبب النظر فقال لها: كانت لي زوجة ولولا أنها ماتت لقلت أنها أنت فعرفته
بنفسها، وجعلا يحمدان الله عز وجل على ما من عليهما به من جمع شملهما ثم طفق كل من
أخ القاضي واللص والمرأة يسألونها المسامحة فسامحت الجميع وعبدوا الله تعالى في
ذلك المكان مع لزوم خدمتها إلى أن فرق الموت بينهم.
ومما يحكى، أن بعض السادة قال: بينما أنا أطوف بالكعبة
في ليلة مظلمة إذ سمعت صوتاً ذي أنين، ينطق عن قلب حزين وهو يقول: يا كريم لطفك
القديم فإن قلبي على العهد مقيم فتطاير قلبي لسماع ذلك الصوت، تطايراً أشرفت منه
على الموت، فقصدت نحوه فإذا صاحبته امرأة فقلت: السلام عليك يا أمة الله، فقالت:
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فقلت: أسألك بالله العظيم ما العهد الذي قلبك
عليه مقيم، فقالت: لولا أقسمت بالجبار ما أطلعتك على الأسرار انظر ما بين يدي، نظر
فإذا بين يديها صبي نائم يغط في نومه فقالت: خرجت وأنا حامل بهذا الصبي لأحج هذا
البيت فركبت على سفينة فهاجت علينا الأمواج، واختلفت علينا الرياح وانكسرت بنا
السفينة فنجوت على لوح منها، ووضعت هذا الصبي وأنا على ذلك اللوح، فبينما هو في
حجري والأمواج تضربني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: لما
انكسرت السفينة نجوت على لوح منها ووضعت هذا الصبي وأنا على ذلك اللوح فبينما هو
في حجري والأمواج تضربني إذ نظرت إلى رجل من ملاحي السفينة وحصل معي وقال لي:
والله لقد كنت أهواك وأنت في السفينة، والآن قد حصلت معك فمكنيني من نفسك وإلا
قذفتك في هذا البحر فقلت: ويحك أما كان لك مما رأيت تذكرة وعبرة? فقال: إني رأيت
مثل ذلك مراراً، ونجوت وأنا لا أبالي، فقلت: يا هذا نحن في بلية ارجو السلامة منها
بالطاعة لا بالمعصية، فألح علي فخفت منه وأردت أن أخادعه فقلت له: مهلاً حتى ينام
هذا الطفل، فأخذه من حجري وقذفه في البحر، فلما رأيت جرأته وما فعل بالصبي طار
قلبي وزاد كربي فرفعت رأسي إلى السماء، وقلت: يا من يحول بين المرء وقلبه حل بيني
وبين هذا الأسد إنك على كل شيء قدير فوالله ما فرغت من كلامي إلا ودابة قد طلعت من
البحر فاختطفته من فوق اللوح وبقيت وحدي وزاد كربي وحزني اشفاقاً على ولدي فأنشدت
وقلت:
مرة العين حـبـيبـي ولـدي ضاع حيث الوجه أوهى جلدي
وأرى جسماً غريقاً وغـدت بالتياع الوجد تشوي كبـدي
ليس لي في كربتي من فرج غير ألطافك يا معتـمـدي
أنت يا رب ترى ما حل بـي من غرامي بفراقي ولـدي
فاجمع الشمل وكن لي راحماً فرجائي فيك أقوى عـددي
فبقيت على تلك الحالة يوماً وليلة فلما كان الصباح نظرت
قلع سفينة تلوح من بعد، فما زالت الأمواج تقذفني والرياح تسوقني، حتى وصلت إلى تلك
السفينة التي كنت أرى قلعها، فأخذني أهل السفينة ووضعوني فيها فنظرت فإذا ولدي
بينهم، فتراميت عليه وقلت: يا قوم هذا ولدي فمن أين كان لكم? قالوا: بينما نحن
نسير في البحر إذ حبست السفينة فإذا دابة كأنها المدينة العظيمة وهذا الصبي على
ظهرها يمص إبهامه فأخذناه فلما سمعت ذلك حدثتهم بقصتي وما جرى لي وشكرت ربي على ما
أنالني، وعاهدته أن لا أبرح من بيته ولا أنثني عن خدمته وما سألته بعد ذلك شيئاً
إلا أعطاني إياه فممدت يدي إلى كيس النفقة وأردت أن أعطيها فقالت: إليك عني يا
بطال أأحدثك بإفضاله وكرم فعاله، وآخذ الرفد عن يد غيره فلم أقدر على أن أجعلها
تقبل مني شيئاً، فتركتها وانصرفت من عندها وأنا أنشد وأقول هذه الأبيات:
وكم لك من لطف خـفـي يدق خفاه عن فهم الذكـي
وكم بسر أني من بعد عسر وفرج لوعة القلب الشجي
وكم هم تعانيه صـبـاحـاً فتعقبه المسرة بالعـشـي
إذا ضاقت بك الأسباب يوماً فثق بالواحد الصمد العلي
تشفع بالنبي فكـل عـبـد يفوز إذا تشفع بالـنـبـي
وما زالت في عبادة بها ملازمة بيته إلى أن أدركها الموت.
ومما يحكى أنه كان من بني إسرائيل رجل من خيارهم وقد
اجتهد في عبادة ربه وزهد دنياه وأزالها عن قلبه، وكانت له زوجة مساعدة له على شأنه
مطيعة له في كل زمان وكانا يعيشان من عمل الأطباق والمراوح يعملان النهار كله فإذا
كان آخر النهار خرج الرجل بما عملاه في يده ومشى به يمر على الأزقة والطرق يلتمس
مشترياً يبيع له ذلك، وكانا يديمان الصوم فأصبحا في يوم من الأيام وهما صائمان وقد
عملا يومهما ذلك، فلما كان آخر النهار وخرج على عادته وبيده ما عملاه يطلب من
يشتريه منه فمر بباب أحد أبناء الدنيا وأهل الرفاهية والجاه، وكان الرجل وضيء
الوجه جميل الصورة فرأته امرأة صاحب الدار فعشقته ومال قلبها إليه ميلاً شديداً
وكان زوجها غائباً، فدعت خادمتها وقالت لها: لعلك تتحلين على ذلك الرجل لتأتي به
عندنا. فخرجت الخادمة ودعته لتشتري منه ما بيده وردته من طريقه. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخادمة خرجت إلى
الرجل ودعته وقالت: ادخل فإن سيدتي تريد أن تشتري من هذا الذي بيدك شيئاً بعد أن
تختبره وتنظر إليه، فتخيل الرجل أنها صادقة في قولها، ولم ير في ذلك بأساً فدخل
وقعد كما أمرته فأغلقت الباب عليه وخرجت سيدتها من بيتها وأمسكت بجلابيبه وجذبته
وأدخلته وقالت له: كم ذا أطلب خلوة منك، وقد عيل صبري من أجلك، وهذا البيت مبخر
والطعام محضر وصاحب الدار غائب في هذه الليلة وأنا قد وهبت لك نفسي ولطالما طلبتني
الملوك والرؤساء وأصحاب الدنيا فلم ألتفت لأحد منهم وطال أمرها في القول والرجل لا
يرفع رأسه من الأرض حياء من الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه كما قال الشاعر:
ورب كبيرة ما حال بيني وبين ركوبها إلى الحياء
وكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء
قال: وطمع الرجل في أن يخلص نفسه منها فلم يقدر فقال:
أريد منك شيئاً فقالت: وما هو? قال: أريد ماء طاهراً أصعد به إلى أعلى موضع في
دارك لأقضي به أمراً وأغسل به درناً مما لا يمكنني أن أطلعك عليه، فقالت: الدار
متسعة ولها خبايا وزوايا، وبيت المطهرة معد، قال: ما غرضي إلا الارتفاع، فقالت
لخادمتها: اصعدي به إلى المنظرة العليا من الدار، فصعدت به إلى أعلى موضع فيها
ودفعت له آنية الماء ونزلت، فتوضأ الرجل وصلى ركعتين ونظر إلى الأرض ليلقي نفسه
فرآها بعيدة، فخاف أن لا يصل إليها وقد يتمزق، ثم تفكر في معصية الله تعالى وعقابه
فهان عليه بذل نفسه وسفك دمه، فقال: إلهي وسيدي ترى ما نزل بي ولا يخفى عليك حالي
إنك على كل شيء قدير، ثم إن الرجل ألقى نفسه من أعلى المنظرة، فبعث الله إليه
ملكاً احتمله على جناحه وأنزله إلى الأرض سالماً دون أن يناله ما يؤذيه فلما استقر
بالأرض حمد الله عز وجل على ما أولاه من عصمته وما أناله من رحمته.
وسار دون شيء إلى زوجته وكان قد أبطأ عنها فدخل وليس معه
شيء فسألته عن سبب بطئه وعما خرج به في يده وما فعل به وكيف رجع بدون شيء فأخبرها
بما عرض له من الفتنة وأنه ألقى نفسه من ذلك الموضع فنجاه الله، فلقالت زوجته:
الحمد لله الذي صرف عنك الفتنة وحال بينك وبين المحنة ثم قالت: يا رجل إن الجيران
قد تعودوا منا أن نوقد تنوراً كل ليلة، فإن رأونا الليلة دون نار، وعلموا أننا بلا
شيء ومن شكر اله كتم ما نحن فيه من الخصاصة ووصال صوم هذه الليلة باليوم الماضي
وقيامها لله تعالى، فقامت إلى التنور وملأته حطباً وأضرمته لتغالط به الجيران
وأنشدت تقول هذه الأبيات:
سأكتم ما بي من غرامي وأشجانـي وأضرم ناري كي أغالط جيرانـي
وأرضى بما أمضى من الحكم سيدي عساه يرى ذلي إليه فيرضـانـي
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المرأة أضرمت النار
كي تغالط الجيران نهضت هي وزوجها فتوضآ وقاما إلى الصلاة، فإذا امرأة من جاراتها
تستأذن في أن توقد من تنورها فقالا لها: لا شأنك والتنور فلما دخلت المرأة من
التنور لتأخذ النار نادت: يا فلانه أدركي خبزك قبل أن يحترق، فقالت امرأة الرجل
لزوجها: أسمعت ما تقول هذه المرأة? فقال: قومي وانظري، فقامت وتوجهت للتنور فإذا
هو قد امتلأ من خبز نقي أبيض فأخذت المرأة الأرغفة ودخلت على زوجها وهي تشكر الله
عز وجل على ما أولى من الخير العميم والمن الجسيم فأكلا من الخبز وشربا من الماء
وحمدا الله تعالى، ثم قالت المرأة لزوجها: تعال ندعو الله تعالى عساه أن يمن علينا
بشيء يغنينا عن كد العيشة وتعب العمل ويعيننا به على عبادته والقيام بطاعته قال
لها: نعم فدعا الرجل ربه وأمنت المرأة على دعائه، فإذا السقف قد انفرج ونزلت
ياقوتة أضاء البيت من نورها فزادا شكراً وثناء وسرا بتلك الياقوتة سروراً كثيراً
وصليا ما شاء الله تعالى.
فلما كان آخر الليل ناما فرأت المرأة في منامها كأنها
دخلت الجنة وشاهدت منابر كثيرة مصفوفة وكراسي كثيرة منصوبة، فقالت: ما هذه المنابر
وما هذه الكراسي? فقيل لها: هذه منابر الأنبياء وهذه كراسي الصديقين والصالحين
فقالت: وأين كرسي زوجي فلان? فقيل لها: هذا فنظرت إليه فإذا في جانبه ثلم فقالت:
وما هذا الثلم? فقيل لها: هو ثلم الياقوتة المنزلة عليكما من سقف بيتكما.
فانتبهت من منامها وهي باكية حزينة على نقصان كرسي زوجها
بين كراسي الصديقين فقالت: أيها الرجل ادع ربك أن يرد هذه الياقوتة إلى موضعها
فمكابدة الجوع والمسكنة في الأيام القلائل أهون من ثلم كرسيك بين أصحاب الفضائل
فدعا الرجل ربه فإذا الياقوتة قد سارت صاعدة إلى السقف وهما ينظران إليها وما زالا
على فقرهما وعبادتهما حتى لقيا الله عز وجل.
ومما يحكى أن سيدي إبراهيم الخواص رحمة الله عليه قال:
طالبتني نفسي، في وقت من الأوقات، بالخروج إلى بلاد الكفار فكففتها فلم تكف وتكتف،
وعملت على نفي هذا الخاطر فلم ينتف، فخرجت أخترق ديارها وأجول أقطارها والعناية
تكتنفني والرعاية تحفني لا ألقى نصرانياً إلا غض ناظره عني وتباعد مني إلى أن أتيت
مصراً من الأمصار فوجدت عند بابها جماعة من العبيد عليهم الأسلحة وبأيديهم الحديد
فلما رأوني قاوا على القدوم وقالوا لي: أطبيب أنت? قلت: نعم فقالوا: أجب الملك
واحتملوني إليه فإذا هو ملك عظيم ذو وجه وسيم. فلما دخلت عليه نظر إلي وقال: أطبيب
أنت? قلت: نعم فقال: احملوه إليها وعرفوه بالشرط قبل دخوله عليها فأخرجوني وقالوا
لي: إن للملك ابنة قد أصابها إعلال شديد وقد أعيا الأطباء علاجها، وما من طبيب دخل
عليها وعالجها ولم يفد طبه إلا قتله الملك فانظر ماذا ترى? فقلت لهم: إن الملك
سألني إليها فأدخلوني عليها فاحتملوني إلى بابها فلما وصلت قرعوه فإذا هي تنادي:
من داخل الدار أدخلوها على الطبيب صاحب السر العجيب وأنشدت تقول:
افتحوا الباب فقد جاء الطبـيب وانظروا نحوي فلي سر عجيب
فلكم مـقـتـرب مـبـتـعـد ولكم مبتـعـد وهـو قـريب
كنتم فيما بينـكـم فـي غـربة فأراد الحق أنسـي بـغـريب
جمـعـتـنـا نـسـبة دينـية فترى أي مـحـب وحـبـيب
ودعاني للـتـلاقـي إذا دعـا حجب العاذل عنا والـرقـيب
فاتركوا عذلي وخلوا لومـكـم إنني يا ويحكم لـسـت أجـيب
لست ألوي نحـو فـان غـائب إنما قصـدي بـاق لا يغـيب
قال: فإذا شيخ كبير قد فتح الباب بسرعة وقال: ادخل فدخلت
فإذا بيت مبسوط بأنواع الرياحين وستر مضروب في زاويته ومن خلفه أنين ضعيف يخرج من
هيكل نحيف فجلست بإزاء الستر وأردت أن أسلم فتذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: لا
تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه فأمسكت
فنادت من داخل الستر: أين سلام التوحيد والإخلاص يا خواص? قال: فتعجبت من ذلك
وقلت: من أين عرفتيني? فقالت: إذا صفت القلوب والخواطر أعربت الألسن عن مخبآت
الضمائر وقد سألته البارحة أن يبعث إلي ولياً من أوليائه يكون لي على يديه الخلاص
فنوديت من زوايا بيتي لا تحزني إنا سنرسل إليك إبراهيم الخواص. فقلت لها: ما خبرك?
فقالت لي: أنا منذ أربع سنين قد لاح لي الحق المبين فهو المحدث والأنيس والمقرب
والجليس. فرمقني قومي بالعيون وظنوا بي الظنون ونسبوني إلى الجنون فما دخل علي
طبيب منهم إلا أوحشني ولا زائر إلا أدهشني فقلت: وما دليل ذلك على ما وصلت إليه،
قالت: براهينه الواضحة وآياته اللائحة وإذا وضح لك السبيل شاهدت المدلول والدليل،
قال: فبينما أنا أكلمها إذ جاء الشيخ الموكل بها وقال لها: ما فعل طبيبك? قالت:
عرف العلة وأصاب الدواء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الموكل بها لما
دخل عليها قال لها: ما فعل طبيبك? قالت: عرف العلة وأصاب الدواء فظهر لي منه البشر
والسرور وقابلني بالبر والحبور، فسار إلى الملك وأخبره، فحضه الملك على إكرامي
فبقيت اختلف إليها سبعة أيام فقالت: يا أباإسحق متى تكون الهجرة إلى دار الإسلام?
فقلت: كيف يكون خروجك ومن يتجاسر عليه? فقالت: الذي أدخلك علي وساقك إلي فقلت: نعم
ما قلت.
فلما كان الغد خرجنا على باب الحصن وحجب عنا العيون من
أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، قال: فما رأيت أصبر منها على الصيام
والقيام فجاورت بيت الله الحرام سبعة أعوام ثم قضت نحبها وكانت أرض مكة تربتها
أنزل الله عليها الرحمات ورحم الله من قال هذه الأبيات:
ولما أتوني بالطبـيب وقـد بـدت دلائل من دم سفوح ومن سـقـم
نضا الثوب عن وجهي فلم ير تحته سوى نفس من غير روح ولا جسم
فقال لهـم ذا قـد تـعـذر بـرؤه وللحب سر ليس يدرك بالـوهـم
فقالوا إذا لم يعلم الـنـاس مـابـه ولم يك تعريف بـحـد ولا رسـم
فكيف يكون الطب فيه مؤثـراً دعوني فإني لست أحكم بالوهم
ومما يحكى أن رجلاً من خيار بني إسرائيل كان كثير المال
وله ولد صالح مبارك فحضرت الرجل الوفاة، فقعد ولده عند رأسه وقال: ياسيدي أوصني
فقال: يا بني لا تحلف بالله باراً ولا فاجراً ثم مات الرجل وبقي الولد بعد أبيه
فتسامع به فساق بني إسرائيل، فكان الرجل يأتيه فيقول لي: عند والدك كذا وكذا وأ،ت
تعلم بذلك أعطني ما في ذماته وإلا فاحلف فيقف الولد على الوصية ويعطيه جميع ما
طلبه فما زالوا به حتى فني ماله واشتد إقلاله، وكان للولد زوجة صالحة مباركة وله
منها ولدان صغيران فقال لها: إن الناس قد أكثروا طلبي، ومادام معي ما أدفع به عن
نفسي بذلته والآن لم يبق لي شيء فإن طالبني مطالب امتحنت أنا وأنت فالأولى أن نفوز
بأنفسنا ونذهب إلى موضع لا يعرفنا فيه أحد ونتعيش بين أظهر الناس قال: فركب بها البحر
وبولديه وهو لا يعرف أين يتوجه والله يحكم ولا معقب لحكمه ولسان الحال يقول:
يا خارجاً خوف العدا من داره واليسر قد وافاه عند فـراره
لا تجزعن من البعاد فربـمـا عز الغريب يطول بعد مراره
لو قد أقام الدر في أصـدافـه ما كان تاج الملك بيت قراره
قال: فانكسرت السفينة وخرج الرجل على لوح وخرجت المرأة
على لوح وخرج كل ولد على لوح وفرقتهم الأمواج، فحصلت المرأة على بلدة، وحصل أحد
الولدين على بلدة أخرى والتقط الولد الآخر أهل سفينة في البحر، وأما الرجل فقذفته
الأمواج إلى جزيرة منقطعة، فخرج إليها وتوضأ من البحر وأذن وأقام الصلاة. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرجل لما خرج إلى
الجزيرة وتوضأ من البحر، وأذن وأقام الصلاة. فإذا قد خرج من البحر أشخاص بألوان
مختلفة فصلوا معه ولما فرغ قام إلى شجرة في الجزية فأكل من ثمرها فزال عنه جوعه ثم
وجد عين ماء فشرب منها وحمد الله عز وجل وبقي ثلاثة أيام يصلي وتخرج أقوام يصلون
مثل صلاته، وبعد مضي الأيام الثلاثة سمع منادياً يناديه: يا أيها الرجل الصالح
البار بأبيه المجل قدر ربه، لا تحزن، إن الله عز وجل مخلف عليك ما خرج من يدك فإن
في هذه الجزية كنوزاً وأموالاً ومنافع يريد الله أن تكون لها وارثاً وهي في موضع
كذا وكذا من هذه الجزيرة فاكشف عنها وإنا لنسوق إليك السفن فأحسن إلى الناس وادعهم
إليك، فإن الله عز وجل يميل قلوبهم إليك فقصد ذلك الموضع من الجزيرة وكشف الله
تعالى له عن تلك الكنوز وصارت أهل السفن ترد عليه فيحسن إليهم إحساناً عظيماً
ويقول لهم: لعلكم تدلون علي الناس. فإني أعطيكم كذا وكذا، واجعل لهم كذا وكذا فصار
الناس يأتون من الأقطار والأماكن. وما مضت عليه عشري سنين إلا والجزيرة قد عمرت
والرجل صار ملكها لا يأوي إليه أحد إلا أحسن إليه.
وشاع ذكره في الأرض بالطول والعرض. وكان ولده الأكبر قد
وقع عند رجل علمه وأدبه والآخر قد وقع عند رجل رباه وأحسن تربيته وعلمه طرق
التجارة والمرأة قد وقعت عند رجل من التجار ائتمنها على ماله وعاهدها على أن لا
يخونها وأن يعينها على طاعة الله عز وجل، وكان يسافر بها في السفينة إلى البلاد
ويستصحبها في أي موضع أراد، فسمع الولد الأكبر بصيت ذلك الملك فقصده وهو لا يعلم
من هو. فلما دخل عليه أخذه وائتمنه على سره وجعله كاتباً له وسمع الولد الآخر بذلك
الملك العادل الصالح فقصده وسار إليه وهو لا يعلم من هو أيضاً. فلما دخل عليه وكله
على النظر في أموره، وبقي مدة من الدهر في خدمته وكل واحد منهم لا يعلم بصاحبه
وسمع الرجل التاجر الذي عند المرأة بذلك الملك وبره للناس وإحسانه إليهم فأخذ
جانباً من الثياب الفاخرة ومما يستظرف من تحف البلاد وأتى بسفينة والمرأة معه حتى
وصل إلى شاطئ الجزيرة، ونزل إلى الملك وقدم له هديته فنظرها الملك وسر بها سروراً
كبيراً وأمر للرجل بجائزة سنية، وكان في الهدية عقاقير، أراد الملك من التاجر أن
يعرفها له بأسمائها ويخبره بمصالحها فقال الملك للتاجر: أقم الليلة عندنا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر لما قال له
الملك: أقم الليلة عندنا قال: إن لي في السفينة وديعة عاهدتها أن لا أوكل أمرها
إلى غيري وهي امرأة صالحة تمنيت بدعائها وظهرت لي البركة في آرائها فقال الملك:
سأبعث لها أمناء يبيتون عليها ويحرسون كل ما لديها قال: فأجابه لذلك وبقي عند
الملك ووجه الملك كاتبه ووكيله إليها وقال لهما: اذهبا واحرسا سفينة هذا الرجل
الليلة إن شاء الله تعالى قال: فسارا وصعدا إلى السفينة وقعد هذا على مؤخرها وذاك
على مقدمها وذكر الله عز وجل برهة من الليل ثم قال أحدهما للآخر: يا فلان إن الملك
قد أمرنا بالحراسة ونخاف النوم فتعالى نتحدث بأخبار الزمان وما رأينا من الخير
والامتحان، فقال الآخر: يا أخي أما أنا فمن امتحاني أن فرق الدهر بيني وبين أبي
وأمي وأخ لي كان اسمه كاسمك، والسبب في ذلك أنه ركب والدنا البحر من بلد كذا وكذا،
فهاجت علينا الرياح واختلفت فكسرت السفينة وفرق الله شملنا.
فلما سمع الآخر بذلك قال: وما كان اسم والدتك يا أخي?
قال: فلانة قال: وما اسم والدك? قال: فلان، فترامى الأخ على أخيه وقال له: أنت
أخي. والله حقاً وجعل كل واحد منهما يحدث أخاه بما جرى عليه في صغره والأم تسمع
الكلام ولكنها كتمت أمرها وصبرت نفسها، فلما طلع الفجر قال أحدهما للآخر: سر يا
أخي نتحدث في منزلي قال: نعم فسارا، وأتى الرجل فوجد المرأة في كرب شديد، فقال
لها: ما دهاك وما أصابك? قالت: وبعثت إلي الليلة من أرادني بالسوء وكنت منهما في
كرب عظيم، فغضب التاجر وتوجه للملك وأخبره بما فعل الأمينان، فأحضرهما الملك بسرعة
وكان يحبهما لما تحقق فيهما من الأمانة والديانة ثم أمر بإحضار المرأة حتى تذكر ما
كان منهما مشافهة. فجيء بها وأحضرت فقال لها: أيتها المرأة ماذا رأيت من هذين
الأمينين? فقالت: أيها الملك أسألك بالله العظيم رب العرشي الكريم. إلا ما أمرتهما
يعيدا كلامهما الذي تكلما به البارحة فقال لهما الملك: قولا ما قلتما ولا تكتما
منه شيئاً فأعادا كلامهما. وإذا بالملك قد قام من فوق السرير وصاح صيحة عظيمة وترامى
عليهما واعتنقهما. وقال: والله أنتما ولداي حقاً، فكشفت المرأة عن وجهها وقالت:
أنا والله أمهما فاجتمعوا جميعاً وصاروا في ألذ عيش وأهنأه إلى أن أتاهم الموت
فسبحان من إذا قصده العبد نجا ولم يخب ما أمله فيه ورجا وما أحسن ما قيل في
المعنى:
لكل شيء من الأشياء مـيقـات والأمر فيه أخي محو واثـبـات
لا تجز عن لامر قد دهـيت بـه فقد أتانا بيسر الـعـسـر آيات
ورب ذي كربة بانت مضرتهـا تبدو وباطنها فيه الـمـسـرات
وكم مبهان عيان الناس تشـنـؤه من الهوان تغشية الكـرامـات
هذا الذي ناله كـرب وكـابـده ضر وحلت به في الوقت آفات
وفرق الدهر منه شمل الفـتـه فكلهم بعد طول الجمع اشتـات
أعطاه مولاه خيرا ثم جاء بـهـم وفي الجميع إلى المولى اشارات
سبحان من عمت الأكوان قدرتـه وأخبرت بـتـدانـيه الـدلالات
فهو القريب ولكـن لا يكـيفـه عقل وليست تدانيه المسـافـات
حكاية حاسب كريم الدين
ومما يحكى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان
حكيم من حكماء اليونان وكان ذلك الحكيم يسمى دانيال وكان له تلامذة وجنود وكانت
حكماء اليونان يذعنون لأمره ويعولون على علومه ومع هذا لم يرزق ولداً ذكراً،
فبينما هو ذات ليلة من الليالي يتفكر في نفسه على عدم إنجاب ولد يرثه في علومه من
بعده، إذ خطر بباله أن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة من إليه أناب وأنه ليس على
باب فضله أبواب ويرزق من يشاء بغير حساب ولا يرد سائلاً إذا سأله بل يجزل الخير
والإحسان له، فسأل الله تعالى الكريم أن يرزقه ولداً يخلفه من بعده ويجزل له
الإحسان من عنده، ثم رجع إلى بيته وواقع زوجته فحملت منه في تلك الليلة. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحكيم اليوناني رجع
إلى بيته وواقع زوجته فحملت منه تلك الليلة ثم بعد أيام سافر إلى مكان في مركب
فانكسرت به المركب وراحت كتبه في البحر وطلع هو على لوح من تلك السفينة وكان معه
خمس ورقات بقيت من الكتب التي وقعت منه في البحر فلما رجع إلى بيته، وضع تلك
الأوراق في صندوق وقفل عليها، وكانت زوجته قد ظهر حملها فقال لها: اعلمي أني قد
دنت وفاتي وقرب انتقالي من دار الفناء إلى دار البقاء وأنت حامل، فربما تلدين بعد
موتي صبياً ذكراً، فإذا وضعتيه فسميه حاسبا كريم الدين وربيه أحسن التربية فإذا
كبر وقال لك: ما خلف لي أبي من الميراث فأعطيه هذه الخمس ورقات فإذا قرأها وعرف
معناها يصير أعلم أهل زمانه ثم إنه ودعها وشهق شهقة ففارق الدنيا وما فيها رحمة
الله تعالى عليه فبكت عليه أهله وأصحابه ثم غسلوه وأخرجوه خرجة عظيمة ودفنوه
ورجعوا.
ثم إن زوجته بعد أيام قلائل وضعت ولداً مليحاً فسمته
حاسبا كريم الدين كما أوصاها به، ولما ولدته أحضرت له المنجمين فحسسوا طالعه
وناظره من الكواكب ثم قالوا لها: اعلمي أيتها المرأة أن هذا المولود يعيش أياماً
كثيرة ولكن بعد شدة تحصل له في مبتدا عمره، فإذا نجا منها فإنه يعطى بعد ذلك علم
الحكمة ثم مضى المنجمون إلى حال سبيلهم فأرضعته اللبن سنتين وفطمته.
فلما بلغ خمس سنين حطته في المكتب ليتعلم شيئاً من العلم
فلم يتعلم، فأخرجته من المكتب وحطته في الصنعة فلم يتعلم شيئاً من الصنعة ولم يطلع
من يده شيء من الشغل فبكت أمه من أجل ذلك، فقال لها الناس: زوجيه لعله يحمل هم
زوجته ويتخذ له صنعة، فقامت وخطبت له بنتاً وزوجته بها، ومكث على ذلك الحال مدة من
الزمان وهو لم يتخذ له صنعة أبداً، ثم إنهم كان لهم جيران حطابون فأتوا أمه وقالوا
لها: اشتري لابنك حماراً وحبلاً وفأساً ويروح معنا إلى الجبل فنحتطب نحن وإياه
ويكون ثمن الحطب له ولنا وينفق عليكم مما يخصه.
فلما سمعت أمه ذلك من الحطابين فرحت فرحاً شديداً واشترت
لابنها حماراً وحبلاً وفأساً وأخذته وتوجهت به إلى الحطابين وسلمته إليهم وأوصتهم
عليه فقالوا لها: لا تحملي هم هذا الولد ربنا يرزقه وهذا ابن شيخنا ثم أخذوه معهم
وتوجهوا إلى الجبل فقطعوا الحطب وأنفقوا على عيالهم، ثم إنهم شدوا حميرهم ورجعوا
إلى الاحتطاب في ثاني يوم وثالث يوم ولم يزالوا على هذه الحالة مدة من الزمان
فاتفق أنهم ذهبوا إلى الاحتطاب في بعض الأيام فنزل عليهم مطر عظيم فهربوا إلى
مغارة عظيمة ليداروا أنفسهم فيها من ذلك المطر فقام من عندهم حاسب كريم الدين،
وجلس وحده في مكان من تلك المغارة، وصار يضرب الأرض بالفأس فسمع حس الأرض خالية من
تحت الفأس، فلما عرف أنها خالية مكث يحفر ساعة فرأى بلاطة مدورة وفيها حلقة فلما
رأى ذلك فرح ونادى جماعته الحطابين وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حاسبا كريم الدين لما
رأى البلاطة التي فيها الحلقة فرح ونادى جماعته فحضروا إليه فرأوا تلك البلاطة
فتسارعوا إليها وقلعوها فوجدوا تحتها باباً ففتحوا الباب الذي تحت البلاطة، فإذا
هو جب ملآن عسل نحل، فقال الحطابون لبعضهم: هذا جب ملآن عسلاً وما لنا إلا أن نروح
المدينة ونأتي بظروف ونعبي هذا العسل فيها ونبيعه ونقتسم حقه وواحد منا يقعد
ليحفظه من غيرنا.
فقال حاسبك أنا أقعد وأحرسه حتى تروحوا وتأتوا بالظروف،
فتركوا حاسبا كريم الدين يحرس لهم الجب وذهبوا إلى المدينة وأتوا بظروف وعبوها من
ذلك العسل وحملوا حميرهم ورجعوا إلى المدينة وباعوا ذلك العسل ثم عادوا إلى الجب
ثاني مرة، وما زالوا على هذه الحالة مدة من الزمان وهم يبيعون في المدينة ويرجعون
إلى الجب يعبون من ذلك العسل وحاسب كريم الدين قاعد يحرس لهم الجب.
فقالوا لبعضهم يوماً من الأيام إن الذي لقي جب العسل
حاسب كريم الدين وفي غد ينزل إلى المدينة ويدعي علينا ويأخذ ثمن العسل ويقول: أنا
الذي لقيته، ومالنا خلاص من ذلك إلا أن ننزله في الجب ليعبئ العسل الذي بقي فيه
ونتركه هناك فيموت كمداً ولا يدري به أحدا، فاتفق الجميع على هذا الأمر ثم ساروا
وما زالوا سائرين حتى أتوا إلى الجب، فقالوا له: يا حاسب انزل الجب وعبئ لنا العسل
الذي بقي فيه فنزل حاسب في الجب وعبأ لهم العسل الذي بقي فيه وقال لهم اسحبوني فما
بقي فيه شيء فلم يرد عليه أحد منهم جواباً وحملوا حميرهم وساروا إلى المدينة
وتركوه في الجب وحده وصار يستغيث ويبكي ويقول: لاحول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم قد مت كمداً، هذا ما كان من أمر حاسب كريم الدين.
وأما ما كان من أمر الحطابين فإنهم لما وصلوا إلى
المدينة باعوا العسل وراحوا إلى أم حاسب وهم يبكون وقالوا لها: يعيش رأسك في ابنك
حاسب فقالت لهم: ما سبب موته? قالوا لها: كنا قاعدين فوق الجبل فأمطرت علينا
السماء مطراً عظيماً فآوينا إلى مغارة لنتدارى فيها من ذلك المطر فلم نشعر إلا
وحمار ابنك هرب في الوادي، فذهب خلفه ليرده من الوادي وكان فيه ذئب عظيم فافترس
ابنك وأكل الحمار. فلما سمعت أمه كلام الحطابين لطمت وجهها وحثت التراب على رأسها
وأقامت عزاءه وصار الحطابون يجيئون لها بالأكل والشرب في كل يوم، هذا ما كان من
أمر أمه.
وأما ما كان من أمر الحطابين، فإنهم فتحوا لهم دكاكين
وصاروا تجاراً ولم يزالوا في أكل وشرب وضحك ولعب.
وأما ما كان من أمر حاسب كريم الدين فإنه صار يبكي وينتحب،
فبينما هو قاعد في الجب على هذه الحالة وإذا بعقرب كبير وقع إليه فقام وقتله ثم
تفكر في نفسه وقال: إن الجب كان ملآناً عسلاً فمن أين أتى هذا العقرب? فقام ينظر
المكان الذي وقع منه العقرب، وصار يلتفت يميناً وشمالاً في الجب فرأى المكان الذي
وقع منه العقرب يلوح منه النور، فأخرج سكيناً كانت معه ووسع ذلك المكان، حتى صار
قدر الطاقة وخرج منه وتمشى ساعة في داخله فرأى دهليزاً عظيماً فمشى فيه فرأى باباً
عظيماً من الحديد الأسود وعليه قفل من الفضة وعلى ذلك القفل مفتاح من الذهب، فتقدم
إلى الباب ونظر من خلاله فرأى نوراً عظيماً يلوح من داخله فأخذ المفتاح وفتح الباب
وعبر إلى داخله وتمشى ساعة حتى وصل إلى بحيرة عظيمة فرأى في تلك البحيرة شيئاً
يلمع مثل الماء فلم يزل يمشي حتى وصل إليه فرأى تلاً عالياً من الزبرجد الأخضر
وعليه تخت منصوب من الذهب مرصع بأنواع الجواهر، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حاسبا الدين كريم لما
وصل إلى التل وجده من الزبرجد الأخضر، وعليه تخت منصوب من الذهب مرصع بأنواع
الجواهر وحول ذلك التخت كراسي منصوبة بعضها من الذهب وبعضها من الفضة وبعضها من
الزمرد الأخضر فلما أتى إلى تلك الكراسي تنهد ثم عدها فرآها اثني عشر كرسي، فطلع
على ذلك التخت المنصوب في وسط تلك الكراسي وقعد عليه، وصار يتعجب من تلك البحيرة
وتلك الكراسي المنصوبة ولم يزل متعجباً حتى غلب عليه النوم، فنام ساعة وإذا هو
يسمع نفخاً وصفيراً وهرجاً عظيماً، ففتح عينيه وقعد فرأى على الكرسي حيات عظيمة
طول كل حية منهن مائة ذراع فحصل له من ذلك فزع عظيم ونشف ريقه من شدة خوفه ويئس من
الحياة وخاف خوفاً عظيماً ورأى عين كل حية تتوقد مثل الجمر وهي فوق الكراسي،
والتفت إلى البحيرة فرأى فيها حيات صغار لا يعلم عددها إلا الله تعالى. وبعد ساعة
أقبلت عليه حية عظيمة مثل البغل، وعلى ظهر تلك الحية طبق من الذهب، وفي وسط ذلك
الطبق حية تضيء مثل البلور ووجهها وجه إنسان وهي تتكلم بلسان فصيح فلما قربت من
حاسب الدين سلمت عليه فرد عليها السلام.
ثم أقبلت حية من تلك الحيات التي فوق الكراسي إلى ذلك
الطبق وحملت الحية التي فوقه وحطتها على كرسي من تلك الكراسي، ثم إن تلك الحية
زعقت في تلك الحيات بلغاتها فخرت جميع الحيات من فوق كراسيها ودعون لها وأشارت
إليهن بالجلوس فجلسن ثم إن الحية قالت لحاسب كريم الدين لا تخف منا يا أيها الشاب
فإني أنا ملكة الحيات وسلطانتهن، فلما سمع حاسب كريم الدين ذلك الكلام من الحية
اطمأن قلبه ثم إن الحية أشارت إلى تلك الحيات أن يأتوا بشيء من الأكل فأتوا بتفاح
وعنب ورمان وفستق وبندق وجوز ولوز وموز وحطوه قدام حاسب كريم الدين، ثم قالت له ملكة
الحيات: مرحباً بك يا شاب ما اسمك? فقال لها: اسمي حاسب كريم الدين فقالت له: يا
حاسب كل من هذه الفواكه فما عندنا طعام غيرها ولاتخف منا أبداً فلما سمع حاسب هذا
الكلام من الحية أكل حتى اكتفى وحمد الله تعالى.
فلما اكتفى من الأكل رفعوا السماط من قدامه، ثم بعد ذلك
قالت له ملكة الحيات: أخبرني يا حاسب من أين أنت ومن أين أتيت إلى هذا المكان وما
جرى لك فحكى لها حاسب ما جرى لأبيه وكيف ولدته أمه وألحقته في المكتب وهو ابن خمس
سنين ولم يتعلم شيئاً من العلم، وكيف حطته في الصنعة وكيف اشترت أمه له الحمار
وصار حطاباً، وكيف لقي جب العسل وكيف تركه رفقاؤه الحطابون في الجب وراحوا، وكيف
نزل عليه العقرب وقتله وكيف وسع الشق الذي نزل منه العقرب وطلع من الجب وأتى إلى
الباب الحديدي وفتحه حتى وصل إلى ملكة الحياة التي يكلمها ثم قال لها: وهذه حكايتي
من أولها إلى آخرها والله أعلم بما يحصل لي بعد هذا كله.
فلما سمعت ملكة الحيات حكاية حاسب كريم الدين من أولها
إلى آخرها قالت له ما يحصل لك إلا كل خير، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملكة الحيات لما سمعت
حكاية حاسب كريم الدين من أولها إلى آخرها قالت له ما يحصل لك إلا كل خير، ولكن
أريد منك يا حاسب أن تقعد عندي مدة من الزمن، حتى أحكي لك حكايتي وأخبرك بما جرى
لي من العجائب فقال لها: سمعاً وطاعة فيما تأمريني به فقالت له: اعلم يا حاسب أنه
كان بمدينة مصر ملك من بني إسرائيل، وكان له ولد اسمه بولقيا وكان هذا الملك
عالماً عابداً مكباً على قراءة كتب العلم فلما ضعف وأشرف على الموت، طلعت له أكابر
دولته ليسلموا عليه، فلما جلسوا عنده وسلموا عليه قال لهم. يا قوم اعلموا أنه قد
دنا رحيلي من الدنيا إلى الآخرة وما لي عندكم شيء أوصيكم به إلا ابني بلوقيا
فاستوصوا به، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وشهق شهقة ففارق ال دنيا رحمة الله
عليه، فجهزوه وغسلوه ودفنوه وأخرجوه خرجة عظيمة، وجعلوا ولده سلطاناً عليهم وكان
ولده عادلاً في الرعية واستراحت الناس في زمانه، فاتفق في بعض الأيام أنه فتح
خزائن أبيه ليتفرج فيها ففتح خزانة من تلك الخزائن فوجد فيها صورة باب ففتحه فإذا
هي خلوة صغيرة، وفيها عامود من الرخام الأبيض وفوقه صندوق من الأبنوس، فأخذه
بلوقيا وفتحه فوجد فيه صندوقاً آخر من الذهب ففتحه فرأى فيه كتاباً ففتحه وقرأه
فرأى فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يبعث في آخر الزمان وهو سيد الأولين
والآخرين.
فلما قرأ بلوقيا هذا الكتاب وعرف صفات سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم، تعلق قلبه بحبه، ثم إن بلوقيا جمع أكابر بني إسرائيل من الكهان
والأحبار والرهبان وأطلعهم على ذلك الكتاب وقرأه عليهم وقال لهم: يا قوم ينبغي أن
أخرج أبي من قبره وأحرقه وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا قال لقومه
لابد أن أخرج أبي من قبره وأحرقه، فقال له قومه: لأي شيء تحرقه? فقال لهم بلوقيا:
لأنه أخفى عني هذا الكتاب ولم يظهره لي، وقد كان استخرجه من التوراة ومن صحف
إبراهيم ووضع هذا الكتاب في خزانة من خزائنه ولم يطلع عليه أحد من الناس، فقالوا
له يا ملكنا إن أباك قد مات وهو الآن في التراب وأمره مفوض إلى ربه ولا تخرجه من
قبره فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من أكابر بني إسرائيل عرف أنهم لا يمكنونه من
أبيه فتركهم ودخل على أمه وقال لها: يا أمي إني رأيت في خزائن أبي كتاباً صفة محمد
صلى الله عليه وسلم، وهو نبي يبعث في آخر الزمان وقد تعلق قلبي بحبه وأنا أريد أن
أسيح في البلاد حتى أجتمع به فإنني إن لم أجتمع به مت غراماً في حبه، ثم نزع ثيابه
ولبس عباءة وزربوناً وقال لا تنسيني يا أمي من الدعاء، فبكت عليه أمه وقالت له:
كيف يكون حالنا بعدك? قال بلوقيا: ما بقي لي صبر أبداً وقد فوضت أمري وأمرك إلى
الله تعالى.
ثم خرج سائحاً نحو الشام ولم يدر به أحد من قومه وسار
حتى وصل إلى ساحل البحر فرأى مركباً فنزل فيها مع الركاب، وسارت بهم إلى أن أقبلوا
على جزيرة فطلع الركاب من المركب إلى تلك الجزيرة وطلع معهم، ثم انفرد عنهم في
الجزيرة وقعد تحت شجرة فغلب عليه النوم فنام ثم إنه أفاق من نومه وقام إلى المركب
لينزل فيه فرأى المركب أقلع، ورأى في تلك الجزيرة حيات مثل الحمال ومثل النخل وهم
يذكرون الله عز وجل، ويصلون على محمد صلى الله عليه وسلم ويصيحون بالتهليل
والتسسبيح، فلما رأى ذلك بلوقيا تعجب غاية العجب وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما رأى
الحيات يسبحون ويهللون تعجب من ذلك غاية العجب ثم إن الحيات لما رأوا بلوقيا
اجتمعوا عليه وقالت له حية منهم: من تكون أنت ومن أين أتيت وما اسمك وإلى أين رائح
فقال لها اسمي بلوقيا وأنا من بني إسرائيل وخرجت هائماً في حب محمد صلى الله عليه
وسلم وفي طلبه فمن تكونون أنتم أيتها الخليقة الشريفة فقالت له الحيات نحن من سكان
جهنم وقد خلقنا الله تعالى نقمة على الكافرين فقال لهم بلوقيا وما الذي جاء بكم
إلى هذا المكان? فقالت له الحياة اعلم يا بلوقيا أن جهنم من كثرة غليانها تتنفس في
السنة مرتين مرة في الشتاء ومرة في الصيف واعلم أن كثرة الحر من شدة قيحها ولما
تخرج نفسها ترمينا من بطنها ولما تسحب نفسها تردنا إليها فقال لهم بلوقيا: هل في
جهنم أكبر منكم? فقالت له الحيات إننا ما نخرج إلا مع تنفسها لصغرنا فإن في جهنم
كل حية لو عبر أكبر ما فينا في أنفها لم تحس به.
فقال لهم بلوقيا: أنتم تذكرون الله وتصلون على محمد ومن
أين تعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا يا بلوقيا: إن اسم محمد صلى الله
عليه وسلم مكتوب على باب الجنة ولولاه ما خلق الله المخلوقات، ولا جنة ولا نار ولا
سماء ولا أرضاً، لأن الله لم يخلق جميع الموجودات إلا من أجل محمد صلى الله عليه
وسلم وقرن اسمه في كل مكان، ولأجل هذا نحن نحب محمداً صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الحيات زاد غرامه في حب
محمد صلى الله عليه وسلم وعظيم اشتياقه إليه، ثم إن بلوقيا ودعهم وسار حتى وصل إلى
شاطئ البحر فرأى مركباً راسياً في جنب الجزيرة، فنزل فيه مع ركابه وسار بهم وما
زالوا سائرين حتى وصلوا إلى جزيرة أخرى، فطلع عليها وتمشى ساعة فرأى فيها حيات
كباراً وصغاراً لا يعلم عددها إلا الله تعالى وبينهم حية بيضاء أبيض من البلور،
وهي جالسة على طبق من الذهب وذلك الطبق على ظهر حية مثل الفيل، وتلك الحية ملكة
الحيات وهي أنا يا حاسب ثم إن حاسبا سأل ملكة الحيات وقال لها أي شيء جوابك مع
بلوقيا.
فقالت الحية يا حاسب اعلم أني لما نظرت إلى بلوقيا سلمت
فرد علي السلام وقلت له: من أنت وما شأنك ومن أين أقبلت وإلى أين تذهب وما اسمك
فقال أنا من بني إسرائيل واسمي بلوقيا، وأنا سائح في حب محمد صلى الله عليه وسلم
وفي طلبه فإني رأيت صفاته في الكتب المنزلة، ثم إن بلوقيا سألني وقال لي أي شيء
أنت وما شأنك وما هذه الحيات التي حولك، فقلت له يا بلوقيا أنا ملكة الحيات وإذا
اجتمعت بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقرأه مني السلام ثم إن بلوقيا ودعني ونزل في
المركب حتى وصل إلى بيت المقدس.
وكان في بيت المقدس رجل تمكن من جميع العلوم وكان متقناً
لعلم الهندسة وعلم الفلك والحساب والكيمياء والروحاني، وكان يقرأ التوراة والإنجيل
والزبور وصحف إبراهيم وكان يقال له عفان وقد وجد في كتاب عنده، أن كل من لبس خاتم
سيدنا سليمان، انقادت له الإنس والجن والطير والوحوش وجميع المخلوقات ورأى في بعض
الكتب أنه لما توفي سيدنا سليمان وضعوه في تابوت وعدوا به سبعة أبحر وكان الخاتم
في اصبعه ولا يقدر أحد من الإنس ولا من الجن أن يأخذ ذلك الخاتم، ولا يقدر أحد من
أصحاب المراكب أن يروح بمركب إلى ذلك المكان، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة الحادية والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عفان وجد في بعض الكتب
أنه لا يقدر أحد من الإنس ولا من الجن، أن يأخذ الخاتم من اصبع سيدنا سليمان ولا
يقدر أحد من أصحاب المراكب أن يسافر بمركبه في السبعة أبحر التي عدوها بتابوته
ووجد في بعض الكتب أيضاً أن بين الأعشاب عشباً كل من أخذ منه شيئاً وعصره وأخذ
ماءه ودهن به قدميه فإنه يمشي على أي بحر خلقه الله تعالى ولا تبتل قدماه ولا يقدر
أحد على تحصيل ذلك إلا إذا كانت معه ملكة الحيات ثم إن بلوقيا لما دخل بيت المقدس
جلس في مكان يعبد الله تعالى فبينما هو جالس يعبد الله، إذ أقبل عليه عفان وسلم
عليه فرد عليه السلام ثم إن عفان نظر إلى بلوقيا فرآه يقرأ في التوراة وهو جالس
يعبد الله تعالى فتقدم إليه وقال له: أيها الرجل ما اسمك ومن أين أتيت، وإلى أين
تذهب، فقال له: اسمي بلوقيا وأنا من مدينة مصر خرجت سائحاً في طلب محمد صلى الله
عليه وسلم.
فقال عفان لبلوقيا: قم معي إلى منزلي حتى أستضيفك، فقال
سمعاً وطاعة فأخذ عفان بيد بلوقيا وذهب إلى منزله وأكرمه غاية الإكرام، وبعد ذلك
قال له أخبرني يا أخي بخبرك من أين عرفت محمد صلى الله عليه وسلم حتى تعلق قلبك
بحبه وذهبت في طلبه ومن دلك على هذا الطريق فحكى له بلوقيا حكايته من الأول إلى
الآخر.
فلما سمع عفان كلامه كاد أن يذهب عقله وتعجب من ذلك غاية
العجب ثم إن عفان قال لبلوقيا اجمعني على ملكة الحيات وأنا أجمعك على محمد صلى
الله عليه وسلم لأن زمان مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بعيد، وإذا ظفرنا بملكة
الحيات نحطها في قفص ونروح إلى الأعشاب التي في الجبال وكل عشب جزنا عليه وهي معنا
ينطق ويخبر بمنفعته بقدرة الله تعالى، فإني قد وجدت عندي في الكتب أن في الأعشاب
عشباً كل من أخذه ودقه وأخذ ماءه ودهن به قدميه ومشى على أي بحر خلقه الله تعالى
لم يبتل له قدم فإذا أخذنا ملكة الحيات تدلنا على ذلك العشب وإذا وجدناه نأخذه
وندقه ونأخذ ماءه، ثم نطلقها إلى حال سبيلها وندهن بذلك الماء أقدامنا ونعدي
السبعة أبحر ونصل إلى مدفن سيدنا سليمان ونأخذ الخاتم من اصبعه ونحكم كما حكم
سيدنا سليمان ونصل إلى مقصودنا وبعد ذلك ندخل بحر الظلمات فنشرب من ماء الحياة
فيمهلنا الله إلى آخر الزمان نجتمع بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من عفان قال يا عفان أنا
أجمعك بملكة الحيات وأريك مكانها فقام عفان وصنع له قفصاً من حديد وأخذ معه قدحين
وملأ أحدهما خمراً وملأ الآخر لبناً وسار عفان هو وبلوقيا أياماً وليالي حتى وصلا
إلى الجزيرة التي فيها ملكة الحيات فطلع عفان وبلوقيا إلى الجزيرة وتمشيا فيها
وبعد ذلك وضع عفان القفص ونصب فيه فخاً، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عفان وضع القفص ونصب
فيه فخاً ووضع فيه القدحين المملوءين خمراً ولبناً ثم تباعدا عن القفص واستخفيا
ساعة فأقبلت ملكة الحيات على القفص حتى قربت من القدحين فتأملت فيهما ساعة فلما
شمت رائحة اللبن نزلت من فوق ظهر الحية التي هي فوقها وطلعت من الطبق ودخلت القفص
وأتت إلى القدح الذي فيه الخمر وشربت منه، فلما شربت من ذلك القدح داخت رأسها ونامت.
فلما رأى ذلك عفان تقدم إلى القفص المقفل على ملكة
الحيات ثم أخذها هو وبلوقيا وسارا، فلما أفاقت رأت روحها في القفص من حديد والقفص
على رأس رجل وبجانبه بلوقيا فلما رأت ملكة الحيات بلوقيا قالت هذا جزاء من لا يؤذي
بني آدم، فرد عليها بلوقيا وقال لها: لا تخافي منا يا ملكة الحيات فإننا لا نؤذيك
أبداً، ولكن نريد أن تدلينا على العشب كل من أخذه ودقه واستخرج ماءه ودهن به قدميه
ومشى على أي بحر خلقه الله تعالى لا تبتل قدماه فإذا وجدنا ذلك العشب أخذناه ونرجع
بك إلى مكانك ونطلقك إلى حال سبيلك ثم إن عفا وبلوقيا سارا بملكة الحيات نحو
الجبال التي فيها الأعشاب ودارا بها على جميع الأعشاب فصار كل عشب ينطق ويخبر
بمنفعته بإذن الله تعالى.
فبينما هما في هذا الأمر والأعشاب تنطق يميناً وشمالاً
وتخبر بمنافعها، وإذا بعشب نطق وقال أنا العشب الذي كل من أخذني ودقني وأخذ مائي
ودهن قدميه وجاز على أي بحر خلقه الله تعالى لا تبتل قدماه.
فلما سمع عفان كلام العشب حط القفص من فوق رأسه وأخذا من
ذلك العشب ما يكفيهما ودقاه وعصراه وأخذا ماءه وجعلاه في قزازتين وحفظاهما والذي
فضل منهما دهنا به أقدامهما ثم إن بلوقيا وعفان أخذا ملكة الحيات وسارا بها ليالي وأياماً
حتى وصلا إلى الجزيرة التي كانت فيها وفتح عفان باب القفص فخرجت منه ملكة الحيات
فلما خرجت قالت لهما: ما تصنعان بهذا الماء? قالا لها: مرادنا أن ندهن به أقدامنا
حتى نتجاوز السبعة أبحر ونصل إلى مدفن سيدنا سليمان ونأخذ الخاتم من اصبعه.
فقالت لهما ملكة الحيات: هيهات أن تقدرا على أخذ الخاتم
فقالا لها: لأي شيء? فقالت لهما: لأن الله تعالى من على سيدنا سليمان بإعطائه ذلك
الخاتم وخصه بذلك لأنه قال: رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب
فما لكما وذلك الخاتم، ثم قالت لهما: لو أخذتما من العشب الذي كل من أكل منه لا
يموت إلى النفخة الأولى وهو بين تلك الأعشاب لكان أنفع لكما من هذا الذي أخذتماه
فإنه لا يحصل لكما منه مقصودكما، فلما سمعا كلامها ندما ندماً عظيماً وسارا إلى
حال سبيلهما، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بلوقيا وعفان لما سمعا
كلام ملكة الحيات ندما ندماً عظيماً وسارا إلى حال سبيلهما هذا ما كان من أمرهما.
وأما ما كان من أمر ملكة الحيات، فإنها أتت إلى عساكرها
فرأتهم قد ضاعت مصالحهم وضعف قويهم وضعيفهم مات فلما رأت الحيات ملكتهم بينهم
فرحوا واجتمعوا حولها وقالوا لها: ما خبرك وأين كنت? فحكت لهم جميع ما جرى لها مع
عفان وبلوقيا، ثم بعد ذلك جمعت جنودها وتوجهت بهم إلى جبل قاف، لأنها كانت تشتي
فيه وتصيف المكان الذي رآها فيه حاسب كريم الدين.
ثم إن الحية قالت: يا حاسب هذه حكايتي وما جرى لي فتعجب
حاسب من كلام الحية ثم قال لها: أريد من فضلك أن تأمري أحداً من أعوانك أن يخرجني
إلى وجه الأرض وأروح إلى أهلي فقالت له ملكة الحيات: يا حاسب ليس لك رواح من عندنا
حتى يدخل الشتاء وتروح معنا إلى جبل قاف وتتفرج فيه على تلال ورمال وأشجار وأطيار
تسبح الواحد القهار وتتفرج على مردة وعفاريت وجان ما يعلم عددهم إلا الله تعالى.
فلما سمع حاسب كريم الدين كلام ملكة الحيات صار مهموماً
مغموماً ثم قال لها: اعلميني بعفان وبلوقيا لما فارقاك وسارا هل عديا السبعة بحور
ووصلا إلى مدفن سيدنا سليمان أو لا وإذا كانا وصلا إلى مدفن سيدنا سليمان هل قدرا
على أخذ الخاتم أو لا. فقالت له: اعلم أن عفان وبلوقيا لما فارقاني وسارا دهنا
أقدامهما من ذلك الماء ومشيا على وجه البحر حتى عديا السبعة أبحر، فلما عديا تلك
البحار وجدا جبلاً عظيماً شاهقاً في الهواء وهو من الزمرد الأخضر وفيه عين تجري
وترابه كله من المسك فلما وصلا إلى ذلك المكان فرحا وقالا: قد بلغنا مقصودنا، ثم
سارا حتى وصلا إلى جبل عال فمشيا فيه فرأيا مغارة من بعيد في ذلك الجبل وعليها قبة
عظيمة والنور يلوح منها فلما رأيا تلك المغارة قصداها حتى وصلا إليها فدخلا فرأيا
فيها تختاً منصوباً من الذهب مرصعاً بأنواع الجواهر وحوله كراسي منصوبة لايحصي لها
عدد إلا الله تعالى، ورأيا السيد سليمان نائماً فوق ذلك التخت، وعليه حلة من
الحرير الأخضر مزركشة بالذهب مرصعة بنفيس المعادن من الجوهر ويده اليمنى على صدره
والخاتم في اصبعه ونور الخاتم يغلب على نور تلك الجواهر التي في ذلك المكان، ثم إن
عفان علم بلوقيا أقساماً وعزائم وقال له: اقرأ هذه الأقسام ولا تترك قراءتها حتى
آخذ الخاتم، ثم تقدم عفان إلى التخت حتى قرب منه، وإذا بحية عظيمة طلعت من تحت
التخت ورعقت زعقة عظيمة فارتعد ذلك المكان من زعقتها وصار الشرر يطير من فمها ثم
إن الحية قالت لعفان: إن لم ترجع أهلكتك، فاشتغل عفان بالأقسام ولم ينزعج من تلك
الحية فنفخت عليه الحية نفخة عظيمة كادت تحرق ذلك المكان وقالت: ويلك إن لم ترجع
أحرقتك.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الحية طلع من المغارة
وأما عفان فإنه لم ينزعج من ذلك، ثم تقدم إلى السيد سليمان ومد يده ولمس الخاتم
وأراد أن يسحبه من اصبع السيد سليمان وإذا بالحية نفخت على عفان فأحرقته وصار كوم
رماد. وهاذ ما كان من أمر هؤلاء. وأما ما كان من أمر بلوقيا فإنه وقع مغشياً عليه
من هذا الأمر، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بلوقيا لما رأى عفان
احترق وصار كوم رماد وقع مغشياً عليه، وأمر الرب جل جلاله جبريل أن يهبط إلى الأرض
قبل أن تنفخ الحية على بلوقيا فهبط إلى الأرض بسرعة فرأى بلوقيا مغشياً عليه، ورأى
عفان احترق من نفخة الحية، فأتى جبريل إلى بلوقيا وأيقظه من غشيته. فلما أفاق سلم
عليه جبريل وقال له: من أين أتيتما إلى هذا المكان? ف حكى له بلوقيا جميع حكايته
من الأول إلى الآخر، ثم قال له: اعلم أنني ما أتيت إلى هذا المكان إلا بسبب محمد
صلى الله عليه وسلم، فإن عفان أخبرني أنه يبعث في آخر الزمان ولا يجتمع به إلا من
يعيش إلى ذلك الوقت إلا من شرب من ماء الحياة، ولايمكن ذلك إلا بالحصول على خاتم
سليمان عليه السلام فصحبته إلى هذا المكان وحصل له ما حصل وهاهو قد احترق وأنا لم
أحترق ومرادي أن تخبرني بمحمد أين يكون.
فقال له جبريل: يا بلوقيا اذهب إلى حال سبيلك فإن زمان
محمد بعيد، ثم ارتفع جبريل إلى السماء من وقته وأما بلوقيا فإنه صار يبكي بكاء
شديداً وندم على ما فعل وتفكر قول ملكة الحيات: هيهات أن يقدر أحد على أخذ الخاتم
فتجبر بلوقيا في نفسه وبكى، ثم إنه نزل من الجبل وسار ولم يزل سائراً حتى قرب من
شاطئ البحر، وقعد هناك يتعجب من تلك الجبال والبحار والجزائر. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا تعجب من تلك
الجبال والبحار والجزائر ثم بات تلك الليلة في ذلك الموضع ولما أصبح الصباح دهن
قدميه من الذي كانا أخذاه من العشب ونزل البحر وصار ماشياً فيه أياماً وليالي وهو
يتعجب من أهوال البحر وعجائبه وغرائبه ومازال ماشياً على وجه الماء حتى وصل إلى
جزيرة كأنها الجنة فطلع بلوقيا إلى تلك الجزيرة وصار يتعجب منها ومن حسنها وساح
فيها فرآها جزيرة عظيمة ترابها زعفران وحصاها من الياقوت والمعادن الفاخرة،
وسياجها الياسمين وزرعها من أحسن الأشجار وأبهج الرياحين وأطيبها وفيها عيون جارية
وحطبها من العود القماري والعود القاقلي وبوصها من قصب السكر، وحولها الورد
والنرجس والغبهر والقرنفل والأقحوان والسوسن والبنفسج وكل ذلك فيها أشكال وألوان
وأطيارها تناغي على تلك الأشجار، وهي مليحة الصفات واسعة الجهات كثيرة الخيرات، قد
حوت جميع الحسن والمعاني وتغريد أطيارها ألطف من رنات المثاني وأشجارها باسقة
وأطيارها ناطقة وأنهارها دافقة وعيونها جارية ومياهها خالية، وفيها الغزلان تمرح
والجآذر تسنح الأطيار على تلك الأغصان تسلي العاشق الولهان، فتعجب بلوقيا من هذه
الجزيرة وعلم أنه قد تاه عن الطريق التي قد أتى منها أول مرة حين كان معه عفان
فساح في تلك الجزيرة وتفرج فيها إلى وقت المساء.
فلما أمسى عليه الليل طلع على شجرة عالية لينام فوقها
وصار يتفكر في حسن تلك الجزيرة فبينما هو فوق الشجرة على تلك الحالة إذا بالبحر قد
اختبط وطلع منه حيوان عظيم وصاح صياحاً عظيماً حتى انزعجت حيوانات تلك الجزيرة من
صياحه، فنظر إليه بلوقيا وهو جالس على الشجرة فرآه حيواناً عظيماً فصار يتعجب منه،
فلم يشعر بعد ساعة إلا وطلع خلفه من البحر وحوش مختلفة الألوان، وفي يد كل وحش
منها جوهرة تضيء مثل السراج حتى صارت الجزيرة مثل النهار من ضياء الجواهر.
وبعد ساعة أقبلت من الجزيرة وحوش لا يعلم عددها إلا الله
تعالى فنظر إليها بلوقيا فرآها وحوش الفلاة من سباع ونمور وفهود، وغير ذلك من
حيوانات البر ولم تزل وحوش البر مقبلة حتى اجتمعت مع وحوش البحر في جانب الجزيرة
وصاروا يتحدثون إلى الصباح، فلما أصبح الصباح افترقوا عن بعضهم ومضى كل واحد منهم
إلى حال سبيله.
فلما داهم بلوقيا خاف ونزل من فوق الشجرة وسار إلى شاطئ
البحر، ودهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر الثاني وسار على وجه الماء ليالي
وأياماً حتى وصل إلى جبل عظيم وتحت ذلك الجبل واد ما له من آخر وذلك الوادي حجارته
من المغناطيس ووحوشه سباع وأرانب ونمور، فطلع بلوقيا إلى ذلك الجبل وساح فيه من
مكان إلى مكان حتى أمسى عليه المساء فجلس تحت قنة من قنن ذنك الجبل بجانب البحر
وصار يأكل من السمك الناشف الذي يقذفه البحر.
فبينما هو جالس يأكل من ذلك السمك وإذ بنمر عظيم أقبل
على بلوقيا وأراد أن يفترسه، فالتفت بلوقيا إلى ذلك النمر فرآه هاجماً عليه
ليفترسه فدهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر الثالث هرباً من ذلك النمر وسار
على وجه الماء في الظلام وكانت ليلة سوداء ذات ريح عظيم، وما زال سائراً حتى أقبل
على جزيرة فطلع عليها فرأى فيها أشجاراً رطبة ويابسة، فأخذ بلوقيا من ثمر تلك الأشجار
وأكل وحمد الله تعالى ودار فيها يتفرج إلى وقت المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا دار يتفرج في
تلك الجزيرة ولم يزل دائراً يتفرج فيها إلى وقت المساء فنام في تلك الجزيرة ولما
أصبح الصباح صار يتأمل في جهاتها ولم يزل يتفرج فيها مدة عشرة أيام وبعد ذلك توجه
إلى شاطئ البحر ودهن قدميه ونزل البحر الرابع ومشى على الماء ليلاً ونهاراً حتى
وصل إلى جزيرة، فرأى أرضها من الرمل الناعم الأبيض وليس فيها شيء من الشجر ولا من
الزرع فتمشى فيها ساعة فوجد وحشها الصقور وهي معششة في ذلك الرمل، فلما رأى ذلك
دهن قدميه ونزل في البحر الخامس وسار فوق الماء ومازال سائراً ليلاً ونهاراً، حتى
أقبل على جزيرة صغيرة أرضها وجبالها مثل البلور وفيها العروق التي يصنع منها الذهب
وفيها أشجار غريبة ما رأى مثلها في سياحته وأزهارها كلون الذهب فطلع منها بلوقيا
إلى تلك الجزيرة وصار يتفرج فيها إلى وقت المساء.
فلما جن عليه الظلام صارت الأزهار تضيء في تلك الجزيرة
كالنجوم فتعجب بلوقيا من هذه الجزيرة وقال: أن الأزهار التي في هذه الجزيرة هي
التي تيبس من الشمس وتسقط على الأرض فتضربها الرياح فتجتمع تحت الحجارة وتصير
أكسيراً فيأخذونها ويصنعون منها الذهب، ثم إن بلوقيا نام في تلك الجزيرة إلى وقت
الصباح وعند طلوع الشمس دهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر السادس وسار ليالي
وأياماً حتى أقبل على جزيرة فطلع عليها وتمشى فيها ساعة فرأى فيها جبلين وعليهما
أشجار كثيرة وأثمار تلك الشجرة كرؤوس الآدميين وهي معلقة من شعورها ورأى فيها
أشجاراً أخرى أثمارها طيور خضر معلقة من أرجلها وفيها أشجار تتوقد مثل النار ولها
فواكه مثل الصبر وكل من سقطت عليه نقطة من تلك الفواكه احترق بها، ورأى بها فواكه
تبكي وفواكه تضحك ورأى بلوقيا في تلك الجزيرة عجائب، ثم إنه تمشي إلى شاطئ البحر
فرأى شجرة عظيمة فجلس تحتها إلى وقت العشاء.
فلما أظلم الظلام طلع فوق الشجرة وصار يتفكر في مصنوعات
الله تعالى فبينما هو كذلك إذا بالبحر قد اختلط وطلع منه نبات البحر وفي يد كل
واحدة منهن جوهرة تضيء مثل المصباح وسرن حتى أتين تلك الشجرة وجلسن ولعبن ورقصن
وطربن فصار بلوقيا يتفرج عليهن وهن في هذه الحالة ولم يزلن في لعب إلى الصباح.
فلما أصبحن نزلن إلى البحر فتعجب منهن بلوقيا ونزل من
فوق الشجرة ودهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر السابع وسار ولم يزل سائراً
مدة شهرين وهو لا ينظر جبلاً ولا جزيرة ولا براً ولا وادياً ولا ساحلاً حتى قطع
ذلك البحر وقاسى فيه جوعاً عظيماً حتى صار يخطف السمك من البحر ويأكله نيئاً من
شدة جوعه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما قاسى في
البحر الجوع العظيم وصار يخطف السمك من البحر ويأكله نيئاً من شدة جوعه ولم يزل
سائراً على هذه الحالة حتى انتهى إلى جزيرة أشجارها كثيرة وأنهارها غزيرة، فطلع
إلى تلك الجزيرة وصار يمشي فيها ويتفرج يميناً وشمالاً وكان ذلك في وقت الضحى وما
زال يتمشى حتى أقبل على شجرة تفاح، فمد يده ليأكل من تلك الشجرة إذا بشخص صاح عليه
من تلك الشجرة وقال له: إن تقربت إلى هذه الشجرة وأكلت منها شيئاً قسمتك نصفين،
فنظر بلوقيا إلى ذلك الشخص فرآه طويلاً طوله أربعون ذراعاً، بذراع أهل الزمان،
فلما رآه بلوقيا خاف منه خوفاً شديداً وامتنع عن تلك الشجرة.
ثم قال بلوقيا: لي شيء تمنعني من الأكل من هذه الشجرة?
فقال له: لأنك ابن آدم وأبوك نسي عهد الله فعصها وأكل من الشجرة فقال له بلوقيا:
أي شيء أنت ولمن هذه الجزيرة والأشجار وما اسمك? فقال له الشخص: أنا اسمي شراهيا
وهذه الأشجار والجزيرة للملك صخر، وأنا من أعوانه، وقد وكلني على هذه الجزيرة.
ثم أن شراهيا سأل بلوقيا وقال له: من أنت ومن أين أتيت
إلى هذه البلاد? فحكى له بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخر، فقال له شراهيا: لاتخف
ثم جاء له بشيء من الأكل فأكل بلوقيا حتى اكتفى ثم ودعه وسار ولم يزل سائراً مدة
عشرة أيام، فبينما هو سائر في جبال ورمال إذ نظر غبرة عاقدة في الجو فقصد بلوقيا
صوب تلك الغبرة، فسمع صياحاً وضرباً وهرجاً عظيماً، فمشى بلوقيا نحو تلك الغبرة
حتى وصل إلى واد عظيم طوله مسيرة شهرين ثم تأمل بلوقيا في جهة ذلك الصياح، فرأى
أناساً راكبين على خيل وهم يقتتلون مع بعضهم، وقد جرى الدم بينهم حتى صار مثل
النهر ولهم أصوات الرعد وفي أيديهم رماح وسيوف وأعمدة من الحديد وقسى ونبال، وهم
في قتال عظيم فأخذه خوف شديد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما رأى هؤلاء
الناس بأيديهم السلاح وهم في قتال عظيم أخذه الخوف الشديد وتحير في أمره فبينما هو
كذلك إذ رأوه فلما رأوه امتنعوا عن بعضهم وتركوا الحرب، ثم أتت إليه طائفة منهم
فلما قربوا منه تعجبوا من خلقته ثم تقدم إليه فارس منهم وقال له: أي شيء أنت? ومن
أين أتيت? وإلى أين رائح? ومن دلك على هذا الطريق حتى وصلت إلى بلادنا? فقال له
بلوقيا: أنا من بني آدم وجئت هائماً في حب محمد صلى الله عليه وسلم ولكني تهت عن
الطريق، فقال له الفارس: نحن ما رأينا ابن آدم قط ولا أتى إلى هذه الأرض وصاروا
يتعجبون منه ومن كلامه.
ثم إن بلوقيا سألهم وقال لهم أي شيء أنتم أيتها الخلقة?
قال له الفارس: نحن من الجان فقال له بلوقيا: يا أيها الفارس ما سبب القتال الذي
بينكم وأين مسكنكم وما اسم هذا الوادي وهذه الأراضي? فقال له الفارس نحن مسكننا
الأرض البيضاء وفي كل عام يأمرنا الله تعالى أن نأتي إلى هذه الأرض ونغزو الجان
الكافرين. فقال له بلوقيا: وأين الأرض البيضاء? فقال له الفارس: خلف جبل قاف
بمسيرة خمسة وسبعين سنة وهذا الأرض يقال لها: أرض شاد بن عاد ونحن أتينا إليها
لنغزوها، وما لنا شغل سوى التسبيح والتقديس ولنا ملك يقال له: الملك صخر وما يمكن
إلا أن تروح معنا إليه حتى ينظرك ويتفرج عليك.
ثم إنهم ساروا وبلوقيا معهم، حتى أتوا منزلهم فنظر
بلوقيا خياماً من الحرير الأخضر، لا يعلم عددها إلا الله تعالى، ورأى بينها خيمة
منصوبة من الحرير الأحمر واتساعها مقدار ألف ذراع وأطنابها من الحرير الأزرق
وأوتادها من الذهب والفضة، فتعجب بلوقيا من تلك الخيمة، ثم إنهم ساروا بي حتى
أقبلوا على الخيمة فإذا هي خيمة الملك صخر. ثم دخلوا به حتى أتوا قدام الملك صخر،
فنظر بلوقيا إلى الملك فرآه جالساً على تخت عظيم من الذهب الأحمر مرصع بالدر
والجواهر، وعلى يمينه ملوك الجان وعلى يساره الحكماء والأمراء وأرباب الدولة
وغيرهم فلما رآه الملك صخر أمر أن يدخلوا به عنده فدخلوا به عند الملك فتقدم
بلوقيا وسلم عليه وقبل الأرض بين يديه فرد عليه السلام الملك صخر ثم قال له: ادن
مني أيها الرجل فدنا منه بلوقيا حتى صار بين يديه فعند ذلك أمر الملك صخر أن
ينصبوا له كرسياً بجانبه فنصبوا له كرسياً بجانب الملك ثم أمره الملك صخر أن يجلس
على ذلك الكرسي فجلس بلوقيا عليه.
ثم إن الملك صخر سأل بلوقيا وقال له: أي شيء أنت? فقال
له: أنا من بني آدم من بني إسرائيل فقال له الملك صخر: احك لي حكايتك وأخبرني بما
جرى لك وكيف أتيت إلى هذه الأرض? فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له في سياحته من
الأول إلى ا لآخر فتعجب الملك صخر من كلامه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما أخبر
الملك صخر بجميع ما جرى له في سياحته من الأول إلى الآخر تعجب من ذلك، ثم أمر
الفراشين أن يأتوا بسماط، فأتوه به ومدوه، ثم إنهم أتوا بصواني من الذهب الأحمر
وصواني من الفضة وصواني من النحاس وبعض الصواني فيها خمسون جملاً مسلوقة وبعضها
فيها عشرون جملاً وبعضها فيها خمسون رأساً من الغنم وعدد الصواني ألف وخمسمائة
صينية. فلما رأى بلوقيا ذلك تعجب غاية العجب ثم إنهم أكلوا وأكل بلوقيا معهم حتى
اكتفى وحمد الله تعالى وبعد ذلك رفعوا الطعام وأتوا بفواكه فأكلوا ثم بعد ذلك
سبحوا الله وصلوا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بلوقيا ذكر محمد
تعجب وقال للملك صخر: أريد أن أسألك بعض مسائل فقال له الملك صخر: سل ماتريد، فقال
له بلوقيا: يا ملك أي شيء أنتم ومن أين أصلكم ومن أين تعرفون محمداً صلى الله عليه
وسلم حتى تصلون عليه وتحبونه? فقال له الملك صخر: يا بلوقيا إن الله تعالى خلق
النار سبع طبقات بعضها فوق بعض وبين كل طبقة مسيرة ألف عام، وجعل اسم الطبقة
الأولى جهنم وأعدها لعصاة المؤمنين الذين يموتون من غير توبة، واسم الطبقة الثانية
لظى وأعدها للكفار، واسم الطبقة الثالثة الجحيم وأعدها ليأجوج ومأجوج، واسم
الرابعة السعير وأعدها لقوم إبليس واسم الخامسة سقر وأعدها لتارك الصلاة واسم
السادسة الحطمة وأعدها لليهود والنصارى واسم السابعة الهاوية وأعدها للمنافقين.
فهذه السبع طبقات، فقال له بلوقيا: لعل جهنم أهون عذاباً
من الجميع لأ،ها هي الطبقة الفوقانية، قال الملك صخر: نعم هي أهون الجميع عذاباً
ومع ذلك فيها ألف جبل من النار وفي كل جبل سبعون ألف واد من النار وفي كل واد
سبعون ألف مدينة من النار وفي كل مدينة سبعون ألف قلعة من النار، وفي كل قلعة
سبعون ألف بيت من النار وفي كل بيت سبعون ألف تخت من ال نار، وفي كل تخت سبعون ألف
نوع من العذاب وما في جميع طبقات النار يا بلوقيا أهون عذاباً من عذابها لأنها هي
الطبقة الأولى، وأما الباقي فلا يعلم عدد ما فيها من أنواع العذاب إلا الله تعالى،
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الملك صخر وقع مغشياً عليه فلما أفاق من غشيته بكى،
وقال: يا ملك كيف يكون حالنا? فقال له الملك صخر: يا بلوقيا لا تخف والعم أن من
كان يحب محمد لم تحرقه النار وهو معتوق لأجل محمد صلى الله عليه وسلم وكل من كان
على ملته تهرب منه النار، وأما نحن فخلقنا الله تعالى من النار وأول ما خلق الله
المخلوقات في جهنم خلق شخصين من جنوده، أحدهما اسمه خليت والآخر اسمه مليت وجعل
خليت على صورة أسد ومليت على صورة ذئب.
وكان ذنب مليت على صورة لأنثى ولونها أبلق، وذنب خليت
على صورة ذكر وهو في هيئة حية، وذنب مليت في هيئة سلحفاة، وطول ذنب خليت مسيرة
عشرين سنة، ثم أمر الله تعالى ذنبيهما أن يجتمعا مع بعضيهما ويتناكحا فتوالد منهما
حيات وعقارب ومسكنهما في النار ليعذب الله بها من يدخلها.
ثم إن تلك الحيات والعقارب تناسلوا وتكاثروا ثم بعد ذلك
أمر الله تعالى ذنبي خليت ومليت أن يجتمعا ويتناكحا ثاني مرة، فاجتمعا وتناكحا
فحمل ذنب مليت من ذنب خليت، فلما وضعت ولدت سبعة ذكور وسبع إناث فتربوا حتى كبروا
فلما كبروا تزوج الإناث بالذكور وأطاعوا والدهم إلا واحداً منهم عصى والده، فصار
دودة وتلك الدودة هي إبليس لعنه الله تعالى وكان من المقربين فإنه عبد الله تعالى
حتى ارتفع إلى السماء وتقرب من الرحمن وصار رئيس المقربين. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال له: إن
إبليس كان عبد الله تعالى وصار رئيس المقربين ولما خلق الله تعالى آدم عليه السلام
أمر إبليس بالسجود له فامتنع من ذلك فطرده الله تعالى ولعنه فلما تناسل جاء ت منه
الشياطين.
وأما الستة ذكور الذين قبلهم فهم الجان المؤمنون ونحن من
نسلهم وهذا أصلنا يا بلوقيا فتجب بلوقيا من كلام الملك صخر، ثم إنه قال: يا ملك أريد
منك أن تأمر واحداً من أعوانك ليوصلني إلى بلادي فقال له الملك صخر: ما نقدر أن
نفعل شيئاً من ذلك إلا إذا أمرنا الله تعالى، ولكن يا بلوقيا إن شئت الذهاب من
عندنا فإني أحضر لك فرساً من خيلي وأركبك على ظهرها وآمرها أن تسير بك إلى آخر
حكمي، فإذا وصلت إلى آخر حكمي يلاقيك جماعة ملك اسمه براخيا، فينظرون الفرس
فيعرفونها وينزلونك من فوقها ويرسلونها إلينا وهذا الذي نقدر عليه لا غير.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام بكى وقال للملك: افعل ما
تريد فأمر الملك أن يأتوا له بالفرس فأتوا له بالفرس وأركبوه على ظهرها، وقالوا
له: احذر أن تنزل من فوق ظهرها أو تضربها أو تصيح في وجهها فإن فعلت ذلك أهلكتك بل
استمر راكباً عليها مع السكون حتى تقف بك، فانزل عن ظهرها ورح إلى حال سبيلك فقال
لهم بلوقيا: سمعاً وطاعة، ثم ركب الفرس وسار في الخيام مدة طويلة، ولم يمر في سيره
إلا على مطبخ الملك صخر فنظر بلوقيا إلى قدور معلقة في كل قدر خمسون جملاً والنار
تلتهب من تحتها فلما رأى بلوقيا تلك القدور وكبرها تأملها وتعجب منها، وأكثر
التعجب والتأمل فيها فنظر إليه الملك فرآه متعجباً من المطبخ فظن الملك في نفسه
أنه جائع فأمر أن يجيئوا له بجملين مشويين وربطوهما خلفه على ظهر الفرس ثم إنه
ودعهم وسار حتى وصل إلى آخر حكم الملك صخر، فوقفت الفرس فنزل عنها بلوقيا ينفض
تراب السفر من ثيابه. وإذا برجال أتوا إليه ونظروا الفرس فعرفوها، فأخذوها وساروا
وبلوقيا معهم حتى وصلوا إلى الملك براخيا فلما دخل بلوقيا على الملك براخيا سلم
عليه فرد عليه السلام، ثم إن بلوقيا نظر إلى الملك فرآه جالساً في صيوان عظيم
وحوله عساكر وأبطال وملوك الجان على يمينه وشماله ثم إن الملك أمر بلوقيا أن يدنو
منه فتقدم بلوقيا إليه فأجلسه الملك بجانبه، وأمر أن يأتوا بالسماط فنظر بلوقيا
إلى حال الملك براخيا فرآه مثل حال الملك صخر، ولما حضرت الأطعمة أكلوا وأكل
بلوقيا حتى اكتفى وحمد الله تعالى ثم إنهم رفعوا الأطعمة وأتوا بالفاكهة فأكلوا،
ثم إن الملك براخيا سأل بلوقيا وقال له: متى فارقت الملك صخر? فقال له: من مدة
يومين، فقال الملك براخيا لبلوقيا: أتدري مسافة كم يوم سافرت في هذين اليومين?
قال: لا، قال: مسيرة سبعين شهراً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة الثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك براخيا قال
لبلوقيا: إنك سافرت في هذين اليومين مسيرة سبعين شهراً، ولكنك لما ركبت الفرس فزعت
منك وعلمت منك أنك ابن آدم وأرادت أن ترميك عن ظهرها، فأثقلوها بهذين الجملين،
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الملك براخيا تعجب وحمد الله تعالى على السلامة، ثم
إن الملك براخيا قال لبلوقيا: أخبرني بما جرى لك وكيف أتيت إلى هذه البلاد? فحكى
له بلوقيا جميع ما جرى له وكيف ساح وأتى إلى هذه البلاد فلما سمع الملك كلامه تعجب
منه ومكث عنده شهرين.
فلما سمع حاسب كلام ملكة الحيات تعجب غاية العجب ثم قال
لها: أريد من فضلك وإحسانك أن تأمري أحداً من أعوانك أن يخرجني إلى وجه الأرض حتى
أروح إلى أهلي، فقالت له ملكة الحيات: يا حاسب كريم الدين اعلم أنك متى خرجت إلى
وجه الأرض تروح أهلك ثم تدخل الحمام وتغتسل وبمجرد ما تفرغ من غسلك أموت أنا لأن
ذلك يكون سبباً لموتي فقال حاسب: أنا أحلف لك ما أدخل الحمام طول عمري، وإذا وجب
علي الغسل أغتسل في بيتي. فقالت له ملكة الحيات: لو حلفت لي مائة يمين ما أصدقك
أبداً، فإن هذا لا يكون واعلم أنك ابن آدم مالك عهد، فإن أباك آدم قد عاهد الله
ونقض عهده وكان الله تعالى خمر طينته أربعين صباحاً وأسجد له ملائكته وبعد ذلك
الكلام نسي العهد ونسيه خالقه.
فلما سمع حاسب ذلك الكلام سكت وبكى ومكث يبكي مدة عشرة
أيام ثم قال لها حاسب: أخبريني بالذي جرى لبلوقيا بعد قعوده شهرين عند الملك
براخيا? فقالت له: اعلم يا حاسب أن بلوقيا بعد قعوده عند الملك بارخاي ودعه وسار
في البراري ليلاً ونهاراً حتى وصل إلى جبل عال فطلع ذلك الجبل فرأى فوقه ملكاً
عظيماً جالساً على ذلك الجبل وهو يذكر الله تعالى ويصلي على محمد وبين يدي ذلك
الملك لوح مكتوب فيه شيء أبيض وشيء أسود وهو ينظر في اللوح وله جناحان أحدهما
ممدود بالمشرق والآخر ممدود بالمغرب فأقبل عليه بلوقيا وسلم عليه فرد عليه السلام،
ثم إن الملك سأل بلوقيا وقال له: من أنت? ومن أين أتيت? وغلى أين رائح? وما اسمك?.
فقال بلوقيا: أنا من بني آدم من قوم بني إسرائيل وأنا
سائح في حب محمد صلى الله عليه وسلم واسمي بلوقيا، فقال الملك: ما الذي جرى لك في
مجيئك إلى هذه الأرض? فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له وما رأى في سياحته.
فلما سمع الملك من بلوقيا ذلك الكلام تعجب منه، ثم إن
بلوقيا سأل الملك وقال: أخبرني أنت الآخر بهذا اللوح وأي شيء مكتوب فيه، وما هذا
الأمر الذي فيه? وما اسمك? فقال له: أنا اسمي ميخائيل وأنا موكل بتصريف الليل
والنهار وهذا شغلي إلى يوم القيامة.
فلما سمع بلوقيا ذلك الكلام تعجب منه ومن صورة ذلك الملك
ومن هيبته وعظم خلقته، ثم إن بلوقيا ودع ذلك الملك وسار ليلاً وهاراً حتى وصل إلى
مرج عظيم، فتمشى في ذلك المرج فرأى فيه سبعة أنهر ورأى أشجاراً كثيرة، فتعجب
بلوقيا من ذلك المرج العظيم وسار في جوانبه فرأى فيه شجرة عظيمة وتحت تلك الشجرة أربعة
ملائكة، فتقدم إليهم بلوقيا ونظر إلى خلقتهم فرأى واحداً منهم صورته صورة بني آدم
والثاني صورته صورة وحش، والثالث صورته صورة طير، والرابع صورته صورة ثور وهم
مشغولون بذكر الله تعالى، ويقول كل منهم: إلهي وسيدي ومولاي بحقك وبجاه نبيك محمد
صلى الله عليه وسلم أن تغفر لكل مخلوق خلقته على صورتي وتسامحه إنك على كل شيء
قدير.
فلما سمع بلوقيا منهم ذلك الكلام تعجب وسار من عندهم
ليلاً ونهاراً حتى وصل إلى جبل قاف فطلع فوقه فرأى هناك ملكاً عظيماً وهو جالس
يسبح الله تعالى ويقدسه ويصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ورأى ذلك الملك في قبض
وبسط أو طي ونشر فبينما هو في هذا الأمر إذ أقبل عليه بلوقيا وسلم عليه فرد الملك
عليه السلام وقال له: أي شيء أنت? ومن أين أتيت? وإلى أين رائح? وما اسمك? فقال
بلوقيا: أنا من بني إسرائيل من بني آدم واسمي بلوقيا وأنا سائح فلي حب محمد صلى
الله عليه وسلم ولكن تهت في طريقي وحكى له جميع ما جرى.
فلما فرغ بلوقيا من حكايته سأل الملك وقال له: من أنت?
وما هذا الجبل? وما هذا الشغل الذي أنت فيه? فقال له: اعلم يا بلوقيا أن هذا جبل
قاف المحيط بالدنيا وكل أرض خلقها الله في الدنيا فقبضتها في يدي فإذا أراد الله تعالى
بتلك الأرض شيئاً من زلزلة أو قحط أو خصب أو قتال أو صلح، أمرني أن أفعله فأفعل
وأنا في مكاني وأعلم أن يدي قابضة بعروق الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال لبلوقيا:
واعلم أن يدي قابضة بعروق الأرض فقال بلوقيا للملك: هل خلق الله في جبل قاف أرضاً
غير هذه الأرض التي أنت فيها? قال الملك: نعم خلق الله ارضاً بيضاء مثل الفضة وما
يعلم قدر اتساعها إلا الله سبحانه وتعالى، وأسكنها ملائكة أكلهم وشربهم التسبيح
والتقديس والإكثار من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وفي كل ليلة جمعة يأتون
إلى هذا الجبل ويجتمعون ويدعون الله تعالى طول الليل إلى وقت الصباح ويهدون ثواب
ذلك التسبيح والتقديس والعبادات للمذنبين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن من
اغتسل غسل الجمعة وهذا حالهم إلى يوم القيامة.
ثم إن بلوقيا سأل الملك وقال له: هل خلق الله جبالاً خلف
جبل قاف? فقال الملك: نعم خلف جبل قاف قدره مسيرة خمسمائة عام وهو من الثلج والبرد
وهو الذي منع حر جهنم عن الدنيا، ولولا ذلك الجبل لاحترقت الدنيا من حر نار جهنم،
وخلف جبل قاف أربعون أرضاً في كل منها قدر الدنيا أربعون مرة، منها ما هو من الذهب
ومنها ما هو من الفضة ومنها ما هو من الياقوت ولكل أرض من تلك الأراضي لون وأسكن
الله في تلك الأراضي ملائكة لا شغل لهم سوى التسبيح والتقديس والتهليل والتكبير
ويدعون الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يعرفون حواء ولا آدم ولا ليلاً ولا
نهاراً، واعلم يا بلوقيا أن الأرض سبع طباق بعضها فوق بعض. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال لبلوقيا:
واعلم يا بلوقيا أن الأرض سبع طبقات بعضها فوق بعض وخلق الله ملكاً من الملائكة لا
يعلم أوصافه ولا قدره إلا الله عز وجل، وهو حامل السبع أراضي على كاهله وخلق الله
تعالى تحت ذلك الملك صخرة، وخلق الله تعالى تحت تلك الصخرة نوراً. وخلق الله تعالى
تحت ذلك النور حوتاً، وخلق الله تعالى تحت ذلك الحوت بحراً عظيماً وقد أعلم الله
تعالى عيسى عليه السلام بذلك الحوت. فقال له: يارب أرني ذلك الحوت حتى أنظر إليه
فأمر الله تعالى ملكاً من الملائكة أن يأخذ عيسى ويروح به إلى الحوت حتى ينظره.
فأتى ذلك الملك إلى عيسى عليه السلام وأخذه وأتى به البحر الذي فيه الحوت وقال له:
انظر يا عيسى إلى الحوت فنظر عيسى إلى الحوت فلم يره فمر الحوت على عيسى مثل
البرق.
فلما رأى ذلك عيسى وقع مغشياً عليه، فلما أفاق أوحى الله
إليه وقال: يا عيسى هل رأيت الحوت? وهل علمت طوله وعرضه? فقال عيسى: وعزتك وجلالك
يا رب ما رأيته، ولكن مر على ثور عظيم قدره مسافة ثلاثة أيام ولم أعرف ما شأن ذلك
الثور فقال الله له: يا عيسى ذلك الذي مر عليك وقدره ثلاثة أيام إنما هو رأس
الثور. واعلم يا عيسى أنني في كل يوم أخلق أربعين حوتاً مثل ذلك الحوت.
فلما سمع ذلك الكلام تعجب من قدرة الله تعالى ثم إن
بلوقيا سأل الملك وقال له: أي شيء خلق الله تحت البحر الذي فيه الحوت? فقال له
الملك: خلق الله تحت البحر هواء عظيماً وخلق الله تحت الهواء ناراً وخلق تحت النار
حية عظيمة اسمها فلق ولولا خوف تلك الحية من الله تعالى، لابتلعت جميع ما فوقها من
الهواء والنار والملك وما حمله ولم تحس بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال لبلوقيا في
وصف الحية ولولا خوفها من الله تعالى لابتلعت جميع ما فوقها من الهواء والنار
والملك وما حمله ولم تحس بذلك ولما خلق الله تعالى الحية أوحى إليها: إني أريد منك
أن أودع عندك أمانة فاحفظيها فقالت الحية: افعل ما تريد? فقال الله تعالى لتلك
الحية: افتحي فاك ففتحت فاها فأدخل الله جهنم في بطنها، وقال لها: احفظي جهنم إلى
يوم القيامة، فإذا جاء يوم القيامة يأمر الله ملائكته أن يأتوا ومعهم سلاسل يقودون
بها جهنم إلى المحشر، ويأمر الله تعالى جهنم أن تفتح أبوابها فتفتحها ويطير منها
شرر كبار أكبر من الجبال، فلما سمع بلوقيا ذلك الكلام من ذلك الملك بكى بكاء
شديداً.
ثم إنه ودع الملك وسار إلى ناحية الغرب، حتى أقبل على
شخصين فرآهما جالسين وعندهما باب عظيم مقفول فلما قرب منهما رأى أحدهما صورته صورة
أسد والآخر صورته صورة ثور فسلم عليهما بلوقيا فردا عليه السلام، ثم إنهما قالا
له: أي شيء أنت ومن أين أتيت وإلى أين رائح? فقال لهما بلوقيا: أنا من بني آدم
وأنا سائح في حب محمد صلى الله عليه وسلم ولكن تهت عن طريقي، ثم إن بلوقيا سألهما
وقال لهما: أي شيء أنتما وما هذا الباب الذي عندكما? فقالا له: نحن حراس هذا
الباب. الذي تراه ومالنا شغل سوى التسبيح والتقديس والصلاة على محمد صلى الله عليه
وسلم. فلما سمع بلوقيا هذا الكلام تعجب، وقال لهما: أي شيء داخل هذا الباب? فقالا:
لا ندري، فقال لهما: بحق ربكما الجليل أن تفتحا لي هذا الباب حتى أنظر شيئاً داخله
فقالا له: ما نقدر أن نفتح هذا الباب، ولا يقدر على فتحه أحد من المخلوقين إلا
الأمين جبريل عليه السلام، فلما سمع بلوقيا ذلك تضرع إلى الله تعالى وقال: يا رب
ائتني بالأمين جبريل ليفتح لي هذا الباب حتى أنظر ما داخله فاستجاب الله أمر
دعائه، وأمر الأمين جبريل أن ينزل إلى الأرض ويفتح باب مجمع البحرين حتى ينظر
بلوقيا، فنزل جبريل إلى بلوقيا وسلم عليه وأتى إلى ذلك الباب وفتحه، ثم إن جبريل
قال لبلوقيا: ادخل إلى هذا الباب فإن الله أمرني أن أفتحه لك، فدخل بلوقيا وسار
فيه ثم إن جبريل قفل الباب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما دخل قفل
جبريل الباب وارتفع إلى السماء ورأى بلوقيا داخل الباب بحراً عظيماً نصفه مالح
ونصفه حلو وحول ذلك البحر جبلان وهذان الجبلان من الياقوت الأحمر وسار بلوقيا حتى
أقبل على هذين الجبلين، فرأى فيهما ملائكة مشغولين بالتسبيح والتقديس، فلما رآهم
بلوقيا سلم عليهم فردوا عليه السلام، فسألهم عن البحر وعن هذين الجبلين فقال له
الملائكة: إن هذا مكان تحت العرش وإن هذا البحر يمد كل بحر في الدنيا ونحن نقسم
هذا الماء ونسوقه إلى الأراضي المالح للأرض المالحة والحلو للأرض الحلوة وهذان
الجبلان خلقهما الله ليحفظا هذا الماء وهذا أمرنا إلى يوم القيامة.
ثم إنهم سألوه وقالوا له: من أين أقبلت? وإلى أين رائح?
فحكى لهم بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخر، ثم إن بلوقيا سألهم عن الطريق فقالوا
له: اطلع هنا على ظهر هذا البحر ليلاً ونهاراً، فبينما هو سائر وإذا هو بشاب مليح
سائر على ظهر البحر فأتى إليه وسلم عليه فرد عليه السلام، ثم إن بلوقيا لما فارق
الشاب رأى أربعة ملائكة سائرين على وجه البحر وسيرهم مثل البرق الخاطف فتدقم
بلوقيا ووقف في طريقهم فلما وصلوا إليه، سلم عليهم بلوقيا وقال لهم: أريد أن
أسألكم بحق العزيز الجليل، ما اسمكم? ومن أين أنتم? وإلى أين تذهبون? فقال واحد
منهم: أنا اسمي جبريل، والثاني اسمه إسرافيل، والثالث اسمه ميكائيل، والرابع اسمه
عزرائيل، وقد ظهر في المشرق ثعبان عظيم وذلك الثعبان خرب ألف مدينة وأكل أهلها،
وقد أمرنا الله تعالى أن نروح إليه ونمسكه ونرميه في جهنم فتعجب منهم بلوقيا ومن
عظمهم، وسار على عادته ليلاً ونهاراً حتى وصل إلى جزيرة فطلع عليها وتمشى فيها
ساعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثمانيني بعد
الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا طلع إلى
الجزيرة وتمشى فيها ساعة فرأى شاباً مليحاً والنور يلوح من وجهه، فلما قرب منه
بلوقيا رآه جالساً بين قبرين مبنيين وهو ينوح ويبكي، فأتى إليه بلوقيا وسلم عليه
فرد عليه السلام ثم إن بلوقيا سأل الشاب وقال له: ماشأنك? وما اسمك? وما هذان
القبران المبنيان اللذان أنت جالس بينهما? وما هذا البكاء الذي أنت فيه? فالتفت
الشاب إلى بلوقيا وبكى بكاء شديد، حتى بل ثيابه من دموعه وقال لبلوقيا: اعلم يا
أخي أن حكايتي عجيبة وقصتي غريبة، وأحب أن تجلس عندي حتى تحكي لي ما رأيت في عمرك
وما سبب مجيئك إلى هذا المكان وما اسمك وإلى أين رائح? واحكي لك أنا الآخر
بحكايتي، فجلس بلوقيا عند الشاب وأخبره بجميع ما وقع له في سياحته من الأول إلى
الآخر، وأخبره كيف مات والده وخلفه، وكيف فتح الخلوة ورأى فيها الصندوق، وكيف رأى
الكتاب الذي فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكيف تعلق قلبه به وطلع سائحاً في
حبه وأخبره بجميع ما وقع له إلى أن وصل إليه، ثم قال له: وهذه حكايتي بتمامها
والله أعلم وما أدري بالذي يجري علي بعد ذلك، فلما سمع الشاب كلامه تنهد وقال له:
يا مسكين أي شيء رأيت في عمرك? اعلم يا بلوقيا أنني رأيت السيد سليمان زمانه ورأيت
شيئاً لا يعد ولا يحصى، وحكايتي عجيبت وقصتي غريبة، وأريد منك أن تقعد عندي حتى
أحكي لك حكايتي، وأخبرك بسبب قعودي هنا.
فلما سمع حاسب هذا الكلام من الحية تعجب وقال: يا ملكة
الحيات بالله عليك أن تعتقيني وتأمري أحد خدمك أن يخرجني إلى وجه الأرض واحلف لك
يميناً أنني لا أدخل الحمام طول عمري، فقالت: إن هذا الأمر لا يكون ولا أصدقك في
يمينك، فلما سمع منها ذلك الكلام بكى وبكت الحيات جميعأً لأجله، وصارت تتشفع له
عند الملكة وتقول لها: نريد منك أن تأمري إحدانا أن يخرجنه إلى وجه الأرض، ويحلف
لك يميناً أنه لا يدخل الحمام طول عمره وكانت ملكة الحيات اسمها يمليخا فلما سمعت
يلميخا منهن ذلك الكلام أقبلت على حاسب وحلفته فحلف لها ثم أمرت حية أن تخرجه إلى
وجه الأرض، فأتته وأرادت أن تخرجه.
فلما أتت تلك الحية لتخرجه قال لملكة الحيات: أريد منك
أن تحكي لي حكاية الشاب الذي قعد عنده بلوقيا ورآه جالساً بين القبرين، فقالت:
اعلم يا حاسب أن بلوقيا جلس عند الشاب وحكى له حكايته من أولها إلى آخرها لأجل أن
يحكي له الآخر قصته، ويخبره بما جرى له في عمره ويعرفه بسبب قعوده بين القبرين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما حكى للشاب
حكايته قال له الشاب: وأي شيء رأيت من العجائب يا مسكين? أنا رأيت السيد سليمان في
زمانه ورأيت عجائب لا تعد ولاتحصى، واعلم يا أخي أن أبي كان يقال له: الملك
طيغموس، وكان يحكم على بلاد كابل وعلى بني شهلان وهم عشرة آلاف بهلوان كل بهلوان
منهم يحكم على مائة مدينة ومائة قلعة بأسوارها، وكان يحكم على سبعة سلاطين ويحمل
له المال من المشرق إلى المغرب وكان عادلاً في حكمه وقد أعطاه الله تعالى كل هذا
ومن عليه بذلك الملك العظيم ولم يكن له ولد وكان مراده في عمره أن يرزقه الله
ولداً ذكراً ليخلفه في ملكه بعد موته.
فاتفق أنه طلب العلماء والمنجمين والحكماء وأرباب
المعرفة والتقويم يوماً من الأيام وقال لهم: انظروا طالعي وهل يرزقني الله في عمري
ولداً ذكراً، فيخلفني في ملكي، ففتح المنجمون الكتب وحسبوا طالعه وناظره من
الكواكب ثم قالوا له: اعلم أيها الملك أنك ترزق ولداً ذكراً ولا يكون ذلك الولد إلا
من بنت ملك خراسان. فلما سمع طيغموس ذلك منهم فرح فرحاً شديداً وأعطى المنجمين
والحكماء مالاً كثيراً لا يعد ولا يحصى وذهبوا إلى حال سبيلهم، وكان عند الملك
طيغموس وزيراً كبيراً وكان بهلواناً عظيماً مقوماً بألف فارس، وكان اسمه عين زار،
فقال له: يا وزير أريد من ك أن تتجهز للسفر إلى بلاد خراسان وتخطب بنت الملك
بهروان ملك خراسان وحكى الملك طيغموس لوزيره عين زار ما أخبره به المنجمون، فلما
سمع الوزير ذلك الكلام من الملك طيغموس ذهب من وقته وساعته وتجهز للسفر. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير عين زار قام
وتجهز للسفر ثم برز إلى خارج المدينة بالعساكر والأبطال والجيوش. هذا ما كان من
أمر الوزير.
وأما ما كان من أمر الملك طيغموس فإنه جهز ألفاً
وخمسمائة حمل من الحرير والجواهر واللؤلؤ واليواقيت والذهب والفضة والمعادن وجهز
شيئاً كثيراً من آلة العرش وحملها على الجمال والبغال وسلمها إلى وزيره عين زار
وكتب له كتاباً مضمونه: أما بعد فالسلام على الملك بهروان اعلم أننا قد جمعنا
المنجمين والحكماء وأرباب التقاويم فأخبرونا أننا نرزق ولداً ذكراً ولا يكون ذلك
الولد إلا من بنتك. وها أنا جهزت لك الوزير عين زار ومعه أشياء كثيرة من آلة
العرس، وإني أقمت وزيري مقامي في هذه المسألة ووكلته في قبول العقد وأريد من فضلك
أن تقضي للوزير حاجته فإنها حاجتي ولا تبدي في ذلك إهمالاً ولا إمهالاً. وما فعلته
من الجميل فهو مقبول منك والحذر من المخالفة في ذلك واعلم يا ملك بهروان أن الله
قد من علي بمملكة كابل وملكني على بني شهلان وأعطاني ملكاً عظيماً، وإذا تزوجت
بنتك أكون أنا وأنت في الملك شيئاً واحداً وأرسل إليك في كل سنة ما يكفيك من
المال. وهذا قصدي منك، ثم إن الملك طيغموس ختم الكتاب وناوله لوزيره عين زار وأمره
بالسفر إلى بلاد خراسان فسافر الوزير حتى وصل إلى قرب مدينة الملك بهروان فأعلموه
بقدوم وزير الملك طيغموس.
فلما سمع الملك بهروان بذلك الكلام جهز أمراء دولته
للملاقاة وجهز معهم أكلاً وشرباً وغير ذلك، وأعطاهم عليقاً لأجل الخيل وأمرهم
بالمسير إلى ملاقاة الوزير عين زار. فحملوا الأحمال وساروا حتى أقبلوا على الوزير
وحطوا الأحمال ونزلت الجيوش والعساكر، وسلم بعضهم على بعض ومكثوا في ذلك المكان
مدة عشرة أيام وهم في أكل وشرب، ثم بعد ذلك ركبوا وتوجهوا إلى المدينة وطلع الملك
بهروان إلى مقابلة وزير الملك طيغموس وعانقه وسلم عليه وأخذه وتوجه به إلى القلعة،
ثم إن الوزير قدم الأحمال والتحف وجميع الأموال للملك بهروان وأعطاه الكتاب، فأخذه
الملك بهروان وقراه وعرف ما فيه وفهم معناه وفرح فرحاً شديداً ورحب بالوزير وقال
له: أشر بما تريد ولو طلب الملك طيغموس روحي لأعطيته إياها وذهب الملك بهروان من
وقته وساعته إلى بنته وأمها وأقاربها وأعلمهم بذلك الأمر واستشارهم فيه فقالوا له:
افعل ما شئت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك استشار البنت
وأمها وأقاربها فقالوا له: افعل ما شئت ثم إن الملك بهروان رجع إلى الوزير عين زار
وأعلمه بقضاء حاجته ومكث الوزير عند الملك بهروان مدة شهرين ثم بعد ذلك قال الوزير
للملك: إننا نريد أن تنعم علينا بما أتيناك فيه ونروح إلى بلادنا. فقال الملك
للوزير: سمعاً وطاعة ثم أمر بإقامة العرس وتجهيز الجهاز ففعلوا ما أمرهم به، وبعد
ذلك أمر بإحضار وزرائه وجميع الأمراء وأكابر دولته فحضروا جميعاً، ثم أمر بإحضار
الرهبان والقسيس فحضروا وعقدوا عقد البنت للملك طيغموس وهيأ الملك بهروان آلة السفر
وأعطى بنته من الهدايا والتحف والمعادن وما يكل عنه الوصف، وأمر بفرش أزقة المدينة
وزينها بأحسن زينة وسافر الوزير عين زار ببنت الملك بهروان إلى بلاده.
فلما وصل الخبر إلى الملك طيغموس أمر بإقامة الفرح وزينت
المدينة ثم إن الملك طيغموس دخل على بنت الملك بهروان وأزال بكارتها، فما مضت عليه
أيام قلائل حتى علقت منه ولما أتمت شهرها وضعت ذكراً مثل البدر في ليلة تمامه فلما
علم الملك طيغموس أن زوجته وضعت ولداً ذكراً مليحاً فرح فرحاً شديداً وطلب الحكماء
والمنجمين وأرباب التقاويم وقال لهم: أريد منكم أن تنظروا طالع هذا المولود وناظره
من الكواكب وتخبروني بما يلقاه في عمره فحسب الحكماء والمنجمون طالعه وناظره،
فرأوا الولد سعيداً ولكنه يحصل له في أول عمره تعب وذلك عند بلوغه خمس عشرة سنة،
فإن عاش بعدها رأى خيراً كثيراً وصار ملكاً عظيماً أعظم من أبيه وعظم سعده وهلك
ضده وعاش عيشاً هنيئاً وإن مات فلا سبيل إلى ما فات والله أعلم.
فلما سمع الملك ذلك الخبر فرح فرحاً شديداً وسماه جانشاه
وسلمه للمراضع والدايات وأحسن تربيته فلما بلغ من العمر خمس سنين علمه أبوه
القراءة وصار يقرأ في الإنجيل، وعلمه فنون الحرب والطعن والضرب في أقل من سبع
سنين، وجعل يركب للصيد والقنص، وصار بهلواناً عظيماً كاملاً في جميع آلات الفروسية
وصار أبوه كلما سمع بفروسيته في جميع آلات الحرب يفرح فرحاً شديداً، فاتفق في يوم
من الأيام أن الملك طيغموس أمر عسكره أن يركبوا للصيد والقنص، فطلعت العسكر
والجيوش فركب الملك هو وابنه جانشاه وساروا إلى البراري والقفار، واشتغلوا بالصيد
والقنص إلى عصر اليوم الثالث فسنحت لجانشاه غزالة عجيبة اللون وشردت قدامه فلما
نظر جانشاه إلى تلك الغزالة وهي شاردة قدامه تبعها وأسرع في الجري وراءها، وهي
هاربة، فانتبذ سبعة مماليك من مماليك الملك طيغموس وذهبوا في اثر جانشاه فلما
نظروا إلى سيدهم وهو مسرع وراء تلك الغزالة راحوا مسرعين وراءه وهم على خيل سوابق
ومازالوا سائرين حتى وصلوا إلى بحر فتهاجم الجميع على الغزالة ليمسكوها قنصاً ففرت
منهم الغزالة وألقت نفسها في البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه هو ومماليكه
لما هجموا على الغزالة ليمسكوها قنصاً، ففرت منهم ورمت نفسها في البحر، وكان في
ذلك البحر مركب صياد فنطت فيه الغزالة، فنزل جانشاه ومماليكه عن خيولهم إلى المركب
وقنصوا الغزالة وأرادوا أن يرجعوا إلى البر، وإذا بجانشاه ينظر إلى جزيرة عظيمة،
فقال للماليك الذين معه: إني أريد أن أذهب إلى هذه الجزيرة فقالوا له سمعاً وطاعة
وساروا بالمركب إلى ناحية الجزيرة حتى وصلوا إليها فلما وصلوا إليها طلعوا فيها
وساروا يتفرجون عليها. ثم بعد ذلك عادوا إلى المركب ونزلوا فيها وساروا والغزالة
معهم قاصدين البر الذي أتوا منه فأمسى عليهم المساء وتأهبوا في البحر فهبت عليهم
الريح وأجرت المركب في وسط البحر وناموا إلى وقت الصباح، ثم انتبهوا لا يعرفون
الطريق وهم لا يزالوا سائرين في البحر. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر الملك طيغموس والد جانشاه فإنه تفقد
ابنه فلم يره فأمر العسكر أن يروح جماعة منهم إلى طريق فصاروا دائرين يفتشون على
ابن الملك طيغموس وذهب جماعة منهم إلى البحر، فرأوا المملوك الذي خلوه عند الخيل
فأتوه وسألوه عن سيده وعن الستة مماليك فأخبرهم المملوك بما جرى لهم فأخذوا
المملوك والخيل ورجعوا إلى الملك طيغموصس وأخبروه بذلك الخبر فلما سمع الملك ذلك
الكلام بكى بكاء شديداً ورمى التاج من فوق رأسه وعض يديه ندماً وقام من وقته وكتب
كتباً، وأرسلها إلى الجزائر التي في البحر وجمع مائة مركب وأنزل فيها عساكر،
وأمرهم أن يدوروا في البحر ويفتشوا على ولده جانشاه ثم إن الملك أخذ بقية العساكر
والجيوش ورجع إلى المدينة وصار في نكد شديد، ولما علمت والدة جانشاه بذلك. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن والدة جانشاه لما
علمت بذلك لطمت على وجهها وأقامت عزاءه. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر جانشاه والمماليك الذين معه، فإنهم
لم يزالوا تائهين في البحر، ولم يزل الرواد دائرين يفتشون عليهم في البحر مدة عشرة
أيام فما وجدوهم فرجعوا إلى الملك وأعلموه بذلك ثم إن جانشاه والمماليك الذين معه
هب عليهم ريح عاصف وساق المركب الذي هم فيه حتى أوصله إلى جزيرة فطلع جانشاه
والستة مماليك من المركب وتمشوا في تلك الجزيرة حتى وصلوا إلى عين ماء في وسط تلك
الجزيرة، فرأوا رجلاً جالساً على بعد قريباً من العين فأتوه وسلموا عليه فرد عليهم
السلام ثم إن الرجل كلمهم بكلام مثل صفير الطير.
فلما سمع جانشاه كلام الرجل تعجب، ثم إن الرجل التفت
يميناً وشمالاً وبينما هم يتعجبون من ذلك الرجل إذ هو انقسم إلى نصفين وراح كل نصف
في ناحية وبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم أصناف رجال لا تحصى ولا تعد وأتوا من جانب
الجبل وساروا حتى وصلوا إلى العين، وصار كل واحد منهم منقسماً نصفين ثم إنهم أتوا
جانشاه والمماليك ليأكلوهم.
فلما رآهم جانشاه يريدون أكلهم هرب منهم وهربت معه
المماليك فتبعهم هؤلاء الرجال فأكلوا من المماليك ثلاثة وبقي ثلاثة مع جانشاه، ثم
إن جانشاه نزل في المركب ومعه الثلاثة مماليك ودفعوا المركب إلى وسط البحر وساروا
ليلاً ونهاراً وهم لا يعرفون أين تذهب بهم المركب، ثم إنهم ذبحوا الغزالة وصاروا
يقتاتون منها فضربتهم الرياح فألقتهم إلى جزيرة أخرى فنظروا إلى تلك الجزيرة فرأوا
فيها أشجاراً وأنهاراً وأثماراً وبساتين وفيها من جميع الفواكه والأنهار تجري من
تحت تلك الأشجار وهي كأنها الجنة.
فلما رأى جانشاه تلك الجزيرة أعجبته وقال للماليك: من
فيكم يطلع هذه الجزيرة وينظر لنا خبرها? فقال مملوك منهم: أنا أطلع وأكشف لكم عن
خبرها وأرجع إليكم، فقال جانشاه: هذا أمر لايكون وإنما تطلعون أنتم الثلاثة
وتكشفون خبر هذه الجزيرة وأنا قاعد لكم في المركب حتى ترجعوا، ثم إن جانشاه أنزل
الثلاثة مماليك ليكشفوا عن خبر هذه الجزيرة، فطلع الثلاثة إلى الجزيرة. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المماليك الثلاثة لما
طلعوا إلى الجزيرة داروا فيها شرقاً وغرباً فلم يجدوا فيها أحداً ثم مشوا فيها إلى
وسطها فرأوا على بعد قلعة من الرخام الأبيض وبيوتها من البلور الصافي، وفي وسط تلك
القلعة بستان فيه جميع الفواكه اليابسة والرطبة ما يكل عنه الوصف وفيه جميع
المشموم ورأوا في تلك القلعة أشجاراً وأثماراً وأطياراً تناغي على تلك الأشجار،
وفيها بحيرة عظيمة وبجانب البحيرة إيوان عظيم وعلى ذلك الإيوان كراسي منصوبة وفي
وسط تلك الكراسي تخت منصوب من الذهب الأحمر مرصع بأنواع الجواهر واليواقيت.
فلما رأى المماليك حسن تلك القلعة وذلك البستان داروا في
تلك القلعة يميناً وشمالاً فما رأوا فيها أحداً، ثم طلعوا من القلعة ورجعوا إلى
جانشاه وأعلموه بما رأوه فلما سمع جانشاه ابن الملك منهم هذا الخبر قال: إنه لابد
لي من أن أتفرج في هذه القلعة، ثم إن جانشاه طلع من المركب وطلعت معه المماليك
وساروا حتى أتوا القلعة ودخلوا فيها فتعجب جانشاه من حسن ذلك المكان ثم داروا
يتفرجون في البستان ويأكلون من تلك الفواكه ولم يزالوا دائرين إلى وقت المساء،
ولما أمسى عليهم المساء أتوا إلى الكراسي المنصوبة وجلس جانشاه على التخت المنصوب
في الوسط، وصارت الكراسي منصوبة عن يمينه وشماله ثم إن جانشاه لما جلس على ذلك
التخت صار يتفكر ويبكي على فراق تخت والده وعلى فراق بلده وأهله وأقاربه، وبكت
حوله الثلاثة مماليك.
فبينما هم في ذلك الأمر إذا بصيحة عظيمة من جانب البحر
فالتفتوا إلى تلك الصيحة، فإذا هم قردة كالجراد المنتشر، وكانت تلك القلعة
والجزيرة للقردة ثم إن هؤلاء القردة لما رأوا المركب الذي أتى فيه جانشاه خسفوه
على شاطئ البحر، وأتوا إلى جانشاه وهو جالس في القلعة قالت ملكة الحيات كل هذا يا
حاسب مما يحكيه الشاب الجالس بين القبرين لبلوقيا.
فقال لها حاسب: وما فعل جانشاه مع القردة بعد ذلك? قالت
له ملكة الحيات: لما طلع جانشاه جلس على التخت والمماليك عن يمينه وشماله أقبل
عليهم القردة فأفزعوهم وأخافوهم خوفاً عظيماً، ثم دخلت جماعة من القردة وتقدموا
إلى أن قربوا من التخت الجالس عليه جانشاه وقبلوا الأرض بين يديه ووضعوا أيديهم
على صدورهم ووقفوا قدامه ساعة، وبعد ذلك أقبلت جماعة منهم ومعهم غزلان، فذبحوها
وأتوا بها إلى القلعة وسلخوها وقطعوا لحمها وشووها حتى طابت للأكل، وحطوها في
صيوان من الذهب والفضة ومدوا السماط وأشاروا إلى جانشاه وجماعته أن يأكلوا فنزل
جانشاه من فوق التخت وأكل وأكلت معه القرود والمماليك حتى اكتفوا من الأكل، ثم إن
القرود رفعوا سماط الطعام وأتوا بفاكهة فأكلوا منها وحمدوا الله تعالى، ثم إن
جانشاه أشار إلى أكابر القرود بالإشارة وقال لهم: ماشأنكم ولمن هذا المكان فقال
القردة بالإشارة اعلم أن هذا المكان كان لسيدنا سليمان بن داود عليهما السلام وكان
يأتي إليه في كل سنة مرة يتفرج فيه ويروح من عندنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه أخبرته القرود
عن القلعة وقالوا له أن هذا المكان لسيدنا سليمان بن داود، وكان يأتي إليه في كل
سنة مرة يتفرج ويروح من عندنا ثم قالت له القرود: اعلم أيها الملك أنك بقيت علينا
سلطاناً ونحن في خدمتك وكل واشرب وكل ما أمرتنا به نفعله، ثم قام القرود وقبلوا
الأرض بين يديه، وانصرف كل واحد منهم إلى حال سبيله، ونام جانشاه فوق التخت ونام
المماليك حوله على الكراسي إلى وقت الصبح ثم دخل عليه الأربعة وزراء الرؤساء على
القرود وعساكرهم حتى امتلأ ذلك المكان وصاروا حوله صفاً بعد صف وأتت الوزراء
واشاروا إلى جانشاه أن يحكم بينهم بالصواب، ثم صاح القرود على بعضهم وانصرفوا وبقي
منهم جانب قدام الملك جانشاه من أجل الخدمة ثم أقبل قردة وهم معهم كلاب في صورة
الخيل وفي راس كل كلب منهم سلسلة فتعجب جانشاه من هؤلاء الكلاب ومن عظم خلقتها، ثم
إن وزراء القرود أشاروا لجانشاه أن يركب ويسير معهم فركب جانشاه والثلاثة
المماليك، وركب معهم عسكر القرود وصاروا مثل الجراد المنتشر، بعضهم راكب وبعضهم
ماش فتعجب من أمورهم ولم يزالوا سائرين إلى شاطئ البحر. فلما رأى جانشاه المركب
الذي كان راكباً فيه قد خسف، التفت إلى وزرائه من القرود وقال لهم: أين المركب
الذي كان هنا? فقالوا له: اعلم أيها الملك أنكم لما أتيتم إلى جزيرتنا علمنا بأنك
تكون سلطاناً علينا وخفنا أن تهربوا منا إذا أتينا عندكم وتنزلوا المركب فمن أجل
ذلك خسفناه.
فلما سمع جانشاه هذا الكلام التفت إلى المماليك وقال
لهم: ما بقي لنا حيلة في الرواح من عند هؤلاء القرود ولكن نصبر لما قدر الله تعالى
ثم ساروا ومازالوا سائرين حتى وصلوا إلى شاطئ نهر وفي جانب ذلك النهر جبل عال فنظر
جانشاه إلى ذلك الجبل فرأى غيلاناً كثيرة، فالتفت إلى القرود وقال لهم: ما شأن
هؤلاء الغيلان? فقال له القرود: اعلم أيها الملك أن هؤلاء الغيلان أعداءنا ونحن
أتينا لنقاتلهم، فتعجب جانشاه من هؤلاء الغيلان ومن عظم خلقتهم وهم راكبون على
الخيل ورؤوس بعضهم على صورة رؤوس البقر وبعضهم على صورة الجمال.
فلما رأى الغيلان عسكر القرود هجموا عليهم ووقفوا على
شاطئ النهر وصاروا يرجمونهم بشي من الحجارة في صورة العواميد وحصل بينهم حرب عظيم
فلما رأى جانشاه الغيلان غلبوا لاقرود زعق على المماليك وقال لهم: اطلعوا القسي
والنشاب وارموا عليهم بالنبال حتى تقتلوهم وتردوهم عنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه قال لمماليكه:
ارموا الغيلان بالنبال وردوهم عنا ففعل المماليك ما أمرهم به جانشاه حتى حصل
للغيلان كرب عظيم وقتل منهم خلق كثير وانهزموا وولوا هاربين.
فلما رأى القرود من جانشاه هذا الأمر نزلوا في النهر
وعبروه وجانشاه معهم وطردوا الغيلان حتى غابوا عن أعينهم وانهزموا وقتل منهم كثير
ولم يزل جانشاه والقرود سائرين حتى وصلوا إلى جبل عال فنظر جانشاه إلى ذلك الجبل
فوجد فيه لوحاً من المرمر مكتوباً فيه: اعلم يا من دخل هذه الأرض إنك تصير سلطاناً
على هؤلاء القرود وما يتأتى لك رواحاً من عندهم إلا إن رحت من الدرب الشرقي بناحية
الجبل وطوله ثلاثة أشهر وأنت سائر بين الوحوش والغيلان والمردة والعفاريت وبعد ذلك
تنتهي إلى البحر المحيط بالدنيا أو رحت من الدرب الغربي وطوله أربعة أشهر وفي رأسه
وادي النمل حتى تنتهي إلى جبل عال وذلك الجبل يتوقد مثل النار ومسيرة عشرة أيام،
فلما رأى جانشاه ذلك اللوح. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه لما رأى ذلك
اللوح قرأه ورأى فيه ما ذكرناه ورأى في آخر الكلام، ثم تنتهي إلى نهر عظيم وهو
يجري وجريانه يخطف البصر من شدة عزمه، وذلك النهر في كل يوم سبت ييبس وبجانبه
مدينة أهلها كلهم يهود ولد بن محمد جحود ما فيهم مسلم وما في هذه الأرض إلا هذه
المدينة وما دمت مقيم عند القرود هم منصورون على الغيلان واعلم أن هذا اللوح كتبه
السيد سليمان بن داود عليه السلام.
فلما قرأه جانشاه بكى بكاء شديداً، ثم التفت إلى مماليكه
وأعلمهم بما هو مكتوب على اللوح، وبعد ذلك ركب وركب حوله عساكر القرود وصاروا
فرحانين بالنصر على أعدائهم، ورجعوا إلى قلعتهم ومكث جانشاه في القلعة سلطاناً على
القرود سنة ونصف ثم بعد ذلك أمر جانشاه عساكر القرود أن يركبوا للصيد والقنص،
فركبوا وركب معهم جانشاه ومماليكه وساروا في البراري والقفار، ولم يزالوا سائرين
من مكان إلى مكان حتى عرف وادي النمل ورأى الإمارة المكتوبة في اللوح المرمر.
فلما رأى ذلك أمرهم أن ينزلوا في ذلك المكان، فنزلوا
ونزلت عساكر القرود ومكثوا في أكل وشرب مدة عشرة أيام، ثم اختلى جانشاه بمماليكه
لية من الليالي وقال لهم: إني أريد أن نهرب ونروح إلى وادي النمل ونسير إلى مدينة
اليهود لعل الله ينجينا من هؤلاء القرود ونروح إلى حال سبيلنا فقالوا له سمعاً
وطاعة. ثم إنه صبر حتى مضى من الليل شيء قليل وقام وقامت معه المماليك وتسلحوا
بأسلحتهم وحزموا أوساطهم بالسيوف والخناجر وما أشبه ذلك من آلات الحرب وخرج جانشاه
هو ومماليكه وساروا من أول الليل إلى وقت الصبح.
فلما انتبه القرود من نومهم لم يروا جانشاه ولا مماليكه
فعلموا أنهم هربوا منهم فقالمت جماعة من القرود وركبوا وساروا ناحية الدرب الشرقي
وجماعة ركبوا وساروا إلى وادي النمل. فبينما القرود سائرين إذ نظروا جانشاه
والمماليك معه وهم مقبلون على وادي النمل فلما رأوهم أسرعوا وراءهم، فلما نظرهم
جانشاه هرب وهربت معه المماليك ودخلوا وادي النمل، فما مضت ساعة من الزمان، إلا
والقرود قد هجمت عليهم وأرادوا أن يقتلوا جانشاه هو ومماليكه وإذا هم بنمل قد خرج
من تحت الأرض مثل الجراد المنتشر كل نملة منه قدر الكلب.
فلما رأى النمل القرود هجم عليهم وأكل منهم جماعة وقتل
من النمل جماعة كثيرة ولكن حصل النصر للنمل وصارت النملة تأتي إلى القرد وتضربه
فتقسمه نصفين وصار العشرة قرود يركبون النملة الواحدة ويمسكونها ويقسمونها نصفين
ووقع بينهم حرب عظيم إلى وقت المساء. ولما أمسى الوقت هرب جانشاه هو والمماليك في
بطن الوادي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه لما أقبل المساء هرب
جانشاه هو ومماليكه في بطن الوادي إلى الصباح، فلما أصبح الصباح أقبل القرود على
جانشاه، فلما رآهم زعق على مماليكه وقال لهم: اضربوهم بالسيوف فسحب المماليك
سيوفهم وجعلوا يضربون القرود يميناً وشمالاً. فتقدم قرد عظيم له أنياب مثل أنياب
الفيل وأتى إلى واحد من المماليك وضربه فقسمه نصفين وتكاثرت القرود على جانشاه،
فهرب إلى أسفل الوادي ورأى هناك نهراً عظيماً وبجانبه نمل عظيم. فلما رأى النمل
جانشاه مقبلاً عليه احتاط به، وإذا بمملوك ضرب نملة بالسيف فقسمها نصفين. فلما رأت
عساكر النمل ذلك تكاثروا على المملوك وقتلوه فبينما هم في هذا الأمر إذا بالقرود
قد أقبلوا من فوق الجبل وتكاثروا على جانشاه.
فلما رأى جانشاه اندفاعهم عليه، نزع ثيابه ونزل في النهر
ونزل معه المملوك الذي بقي وعاما في الماء إلى وسط النهر، ثم إن جانشاه رأى شجرة
على شاطئ النهر من الجهة الأخرى، فمد يده إلى غصن من أغصانها وتناوله وتعلق به
وطلع إلى البر، وأما المملوك فإنه غلب عليه التيار فأخذه وقطعه في الجبل وصار
جانشاه واقفاً وحده في البر يعصر ثيابه وينشفها في الشمس ووقع بين القرود والنمل
قتال عظيم ثم رجع القرود إلى بلادهم. هذا ما كان من أمر القرود والنمل.
وأما ما كان من أمر جانشاه فإنه صار يبكي إلى وقت المساء
ثم دخل مغارة واستكن فيها وقد خاف خوفاً شديداً واستوحش لفقد مماليكه، ثم سار ولم
يزل سائراً ليالي وأياماً وهو يأكل من الأعشاب حتى وصل إلى الجبل الذي يتوقد مثل
النار. فلما أتى إليه سار فيه حتى وصل إلى النهر الذي ينشف كل يوم سبت فلما وصل
إليه رآه نهراً عظيماً وبجانبه مدينة عظيمة وهي مدينة اليهود التي رآها مكتوبة في
اللوح فأقام هناك إلى أن أتى يوم السبت ونشف النهر، ثم مشى من النهر حتى وصل إلى
مدينة اليهود فلم ير فيها أحداً فمشى فيها حتى وصل إلى باب بيت ففتحه ودخله فرأى
أهله ساكتين لا يتكلمون أبداً، فقال لهم: إني رجل غريب جائع فقالوا له بإشارة: كل
واشرب ولا تتكلم فقعد عندهم وأكل وشرب ونام تلك الليلة، فلما أصبح الصباح سلم عليه
صاحب البيت ورحب به وقال له: من أين أنت وإلى أين رائح? فلما سمع جانشاه كلام ذلك
اليهودي بكى بكاء شديداً وحكى له قصته وأخبره بمدينة أبيه فتعجب اليهودي من ذلك
وقال له: ما سمعنا بهذه المدينة قط غير أننا كنا نسمع من قوافل التجار أن هناك
بلاداً تسمى بلاد اليمن، فقال جانشاه لليهودي: هذه البلاد التي تخبر بها التجار كم
تبعد عن هذا المكان? فقال له اليهودي: إن تجار تلك القوافل يزعمون أن مدة سفرهم من
بلادهم إلى هنا سنتان وثلاثة أشهر، فقال جانشاه لليهودي: ومتى تأتي القافلة? فقال
له: تأتي في السنة القابلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه لما سأل
اليهودي عن مجيء القافلة قال له: تأتي في السنة القابلة فلما سمع جانشاه كلامه بكى
بكاء شديداً وحزن على نفسه وعلى مماليكه، وعلى فراق أمه وأبيه، وعلى ما جرى له في
سفره، فقال له اليهودي: لا تبك يا شاب واقعد عندنا حتى تأتي القافلة ونحن نرسلك
معها إلى بلادك.
فلما سمع جانشاه ذلك الكلام قعد عند اليهودي مدة شهرين
وصار في كل يوم يخرج إلى أزقة المدينة ويتفرج فيها، فاتفق أنه خرج على عادته يوماً
من الأيام ودار في شوارع المدينة يميناً وشمالاً فسمع رجلاً ينادي ويقول: من يأخذ
ألف دينار وجارية حسناء بديعة الحسن والجمال، ويعمل لي شغلاً من وقت الصباح إلى
الظهر فلم يجبه أحد، فلما سمع جانشاه كلام المنادي قال في نفسه: لولا أن هذا الشغل
خطر ما كان صاحبه يعطي ألف دينار وجارية حسناء في شغل من الصبح إلى الظهر، ثم إن
جانشاه تمشى إلى المنادي وقال له: أنا أعمل هذا الشغل.
فلما سمع المنادي من جانشاه هذا الكلام أخذه وأتى به إلى
بيت التاجر فدخل هو وجانشاه هذا البيت فوجده بيتاً عظيماً ووجد هناك رجلاً يهودياً
آخراً جالساً على كرسي من الأبنوس، فوقف المنادي قدامه وقال له: أيها التاجر إن لي
ثلاثة شهور وأنا أنادي في المدينة فلم يجبني أحد إلا هذا الشاب. فلما سمع التاجر
كلام المنادي رحب بجانشاه وأخذه ودخل به إلى مكان نفيس وأشار إلى عبيده أن يأتوا
له بالطعام، فمدوا له السماط وأتوا بأنواع الأطعمة فأكل التاجر وجانشاه وغسلا
أيديهما وأتوا بالمشروب فشربا ثم إن التاجر قام وأتى لجانشاه بكيس فيه ألف دينار
وأتى له بجارية بديعة الحسن والجمال وقال له: خذ هذه الجارية وهذا المال في الشغل
الذي تعمله، فأخذ جانشاه الجارية والمال وأجلس الجارية بجانبه وقال له التاجر: في
غد اعمل لنا الشغل ثم ذهب التاجر من عنده ونام جانشاه هو والجارية في تلك الليلة.
ولما أصبح الصباح راح إلى الحمام فأمر التاجر عبيده أن
يأتوا له ببدلة من الحرير فأتوا له ببدلة نفيسة من الحرير وصبروا حتى خرج من
الحمام وألبسوه البدلة وأتوا به إلى البيت، فأمر التاجر عبيده أن يأتوا بالجنك
والعود والمشروب، فأتوا إليهما بذلك فشربا ولعبا وضحكا إلى أن مضى من الليل نصفه
وبعد ذلك ذهب التاجر إلى حريمه، ونام جانشاه مع الجارية إلى وقت الصباح ثم راح إلى
الحمام.
فلما رجع من الحمام جاء إليه التاجر وقال: إني أريد أن
تعمل لنا الشغل فقال جانشاه: سمعاً وطاعة فأمر التاجر عبيده أن يأتوا ببغلتين
فأتوا ببغلتين فركب بغلة وأمر جانشاه أن يركب البغلة الثانية فركبها، ثم إن جانشاه
والتاجر سارا من وقت الصباح إلى وقت الظهر حتى وصلا إلى جبل عال ما له حد في العلو
فنزل التاجر من فوق ظهر البغلة وأمر جانشاه أن ينزل فنزل جانشاه ثم إن التاجر ناول
جانشاه سكيناً وحبلاً وقال له: أريد منك أن تذبح هذه البغلة فشمر جانشاه ثيابه
وأتى إلى البغلة ووضع الحبل في أربعتها ورماها على الأرض وأخذ السكين وذبحها
وسلخها وقطع أربعتها ورأسها وصارت كوم لحم فقال له التاجر: أمرتك أن تشق بطنها
وتدخل فيه وأخيط عليك وتقعد هناك ساعة من الزمان ومهما تراه في بطنها فأخبرني به،
فشق جانشاه بطن البغلة ودخله وخيطها عليه التاجر ثم تركه وبعد عنه. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر لما خيط بطن
البغلة على جانشاه وتركه وبعد عنه واستخفى في ذيل الجبل، بعد ساعة نزل على البغلة
طائر عظيم فاختطفها وطار ثم حطها على أعلى الجبل وأراد أن يأكلها فأحس جانشاه
بالطائر فشق بطن البغلة وخرج منها، فجفل الطائر لما رأى جانشاه وطار وراح إلى حال
سبيله، فقام جانشاه على قدميه وصار ينظر يميناً وشمالاً فلم ير أحداً إلا رجالاً
يابسة من الشمس فلما رأى ذلك قال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم إنه نظر إلى أسفل الجبل فرأى التاجر واقفاً تحت الجبل
ينظر إلى جانشاه فلما رآه قال له: ارم لي من الحجارة نحو مائتي حجر وكانت الحجارة
من الياقوت والزبرجد والجواهر الثمينة.
ثم إن جانشاه قال للتاجر: دلني على الطريق، وأنا أرمي لك
مرة أخرى فلم التاجر تلك الحجارة وحملها على البغلة التي كان راكبها، وسار ولم يرد
له جواباً وبقي جانشاه فوق الجبل وحده فصار يستغيث ويبكي ثم مكث فوق الجبل ثلاثة
أيام فقام وسار في عرض الجبل مدة شهرين وهو يأكل من أعشاب الجبل وما زال سائراً
حتى وصل في سيره إلى طرف الجبل، فلما وصل إلى الجبل رأى وادياً على بعد وفيه أشجار
وأثمار وأطيار تسبح الله الواحد القهار فلما أرى جانشاه ذلك الوادي فرح فرحاً
شديداً فقصده ولم يزل ماشياً ساعة من الزمان حتى وصل إلى شرم في الجبل ينزل منه
السيل، فنزل منه وسار حتى وصل إلى الوادي الذي رآه وهو على الجبل، فنزل الوادي
وصار يتفرج فيه يميناً وشمالاً، وما زال يمشي ويتفرج حتى وصل إلى قصر عال شاهق في
الهواء فتقرب جانشاه من ذلك القصر حتى وصل إلى بابه فرأى شيخاً مليح الهيئة يلمع
وجهه وبيده عكاز من الياقوت وهو واقف على باب القصر فتمشى جانشاه حتى قرب منه وسلم
عليه فرد عليه السلام، ورحب به وقال له: اجلس يا ولدي فجلس جانشاه على باب ذلك
القصر ثم إن الشيخ سأله وقال له: من أين أتيت إلى هذه الأرض وابن آدم ما داسها قط?
وإلى أين رائح? فلما سمع جانشاه كلام الشيخ بكى بكاء شديداً من كثرة ما قاساه
وخنقه البكاء، فقال له الشيخ: يا ولدي اترك البكاء فقد أوجعت قلبي، ثم قام الشيخ
وأتى له بشيء من الأكل وحطه قدامه وقال له: كل من هذا فأكل جانشاه حتى اكتفى وحمد
الله تعالى، ثم إن الشيخ بعد ذلك سأل جانشاه وقال له: يا ولدي أريد منك أن تحكي لي
حكايتك وتخبرني بما جرى لك فحكى له حكايته وأخبره بجميع ما جرى له من أول الأمر
إلى أن وصل إليه، فلما سمع كلامه تعجب منه عجباً شديداً، فقال جانشاه للشيخ: أريد
منك أن تخبرني بصاحب هذا الوادي ولمن هذا القصر العظيم? فقال الشيخ لجانشاه: اعلم
يا ولدي أن هذا الوادي، وما فيه وذلك القصر وما حواه للسيد سليمان بن داود عليه
السلام وأنا اسمي الشيخ نصر ملك الطيو، واعلم أن السيد سليمان وكلني بهذا القصر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الأربعمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر ملك الطيور
قال لجانشاه: واعلم أن السيد سليمان وكلني بهذا القصر وعلمني منطق الطير وجعلني
حاكماً على جميع الطيور الذين في الدنيا، وفي كل سنة تأتي الطيور إلى هذا القصر
تنظره وتروح وهذا سبب قعودي في هذا المكان.
فلما سمع جانشاه كلام الشيخ نصر بكى بكاء شديداً، وقال
له: يا والدي كيف تكون حيلتي حتى أروح إلى بلادي? فقال له الشيخ: اعلم يا ولدي أنك
بالقرب من جبل قاف وليس لك رواح من هذا المكان، إلا أذا أتت الطيور وأوصي عليك
واحداً منها فيوصلك إلى بلادك، فاقعد عندي في هذا المكان وكل واشرب وتفرج في هذه
المقاصير حتى تأتي الطيور، فقعد جانشاه عند الشيخ نصر وصار يدور في الوادي ويأكل
من تلك الفواكه ويتفرج ويضحك ويلعب، ولم يزل مقيماً في ألذ عيش مدة منالزمان حتى
قرب مجيء الطيور، قام على قدميه وقال لجانشاه، يا جانشاه خذ هذه المفاتيح وافتح
المقاصير التي في هذا القصر وتفرج على ما فيها إلا المقصورة الفلانية فاحذر أن
تفتحها ومتى خالفتني وفتحتها ودخلتها لا يحصل لك خير أبداً ووصى جانشاه بهذه
الوصية وأكد عليه فيها وسار من عنده لملاقاة الطيور فلما نظرت الطيور الشيخ نصر
أقبلت عليه وقبلت يديه جنساً بعد جنس. هذا ما كان من أمر الشيخ نصر.
وأما ما كان من أمر جانشاه، فإنه قام على قدميه وصار
سائراً يتفرج على القصر يميناً وشمالاً، وفتح جميع المقاصير التي في القصر حتى وصل
إلى المقصورة التي حذره الشيخ نصر من فتحها، فنظر إلى باب تلك المقصورة فأعجبه
ورأى عليه قفلاً من الذهب فقال في نفسه: إن هذه المقصورة أحسن من جميع المقاصير
التي في القصر، يا ترى ما يكون في هذه المقصورة حتى منعني الشيخ نصر من الدخول
فيها? فلابد أن أدخل هذه المقصورة وأنظر الذي فيها، وما كان مقدراً على العبد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جانشاه قال: وما كان
مقدراً على العبد لابد أن يستوفيه ثم مد يده وفتح المقصورة ودخلها فرأى فيها بحيرة
عظيمة وبجانب البحيرة قصر صغير وهو مبني من الذهب والفضة والبلور وشبابيكه من
الياقوت، ورخامه من الزبرجد الأخضر والبلخش والزمرد، واجلواهر مرصعة في الأرض على
هيئة الرخام وفي وسط ذلك القصر فسقية من الذهب ملآنة بالماء، وحول تلك الفسقية وحوش
وطيور متنوعة من الذهب والفضة يخرج من بطونها الماء، وإذا هب النسيم يدخل في
آذانها فتصفر كل صورة بلغتها، وبجانب الفسقية ليوان عظيم وعليه تخت عظيم من
الياقوت مرصع بالدر والجواهر وعلى ذلك التخت خيمة منصوبة من الحرير الأخضر مزركشة
بالفصوص والمعادن الفاخرة ومقدار سعتها خمسون ذراعاً وداخل تلك الخيمة مخدع فيه
البساط الذي كان للسيد سليمان عليه السلام.
ورأى جانشاه حول ذلك القصر بستاناً عظيماً وفيه أشجار
وأثمار وأنهار وفي دائرة القصر مزارع من الورد والريحان والنسرين، ومن كل مشموم
وإذا هبت الرياح على الأشجار تمايلت تلك الأغصان، ورأى جانشاه في ذلك البستان من
جميع الأشجار رطباً ويابساً وكل ذلك في تلك المقصورة. فلما رأى جانشاه هذا الأمر
تعجب منه غاية العجب وصار يتفرج في ذلك البستان وفي ذلك القصر على ما فيهما من
العجائب والغرائب ونظر إلى البحيرة فرأى حصاها من الفصوص النفيسة والجواهر الثمينة
والمعادن الفاخرة ورأى في تلك المقصورة شيئاً كثيراً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه رأى في تلك
المقصورة شيئاً كثيراً فتعجب منه، ثم تمشى حتى دخل القصر الذي في تلك المقصورة
وطلع على التخت المنصوب على الليوان بجانب الفسقية ودخل الخيمة المنصوبة فوقه ونام
في تلك الخيمة مدة من الزمان ثم أفاق وقام يتمشى حتى خرج من باب القصر وجلس على
كرسي قدام باب القصر وهو يتعجب من حسن ذلك المكان فبينما هو جالس إذ أقبل عليه من
الجو ثلاثة طيور في صفة الحمام ثم إن الطيور حطوا بجانب البحيرة ولعبوا ساعة، وبعد
ذلك نزعوا ما عليهم من الريش فصاروا ثلاث بنات كأنهن الأقمار ليس لهن في الدنيا
شبيه، ثم نزلن البحيرة وسبحن فيها ولعبن وضحكن.
فلما رآهن جانشاه تعجب من حسنهن وجمالهن واعتدال قدودهن،
ثم طلعن إلى البر ودرن يتفرجن في البستان فلما رآهن جانشاه طلعن إلى البر كاد عقله
أن يذهب وقام على قدميه وتمشى حتى وصل إليهن، فلما قرب منهن سلم عليهن فرددن عليه
السلام ثم إنه سألهن وقال لهن: من أنتن أيتها السيدات الفاخرات ومن أين أقبلتن?
فقالت له الصغيرة: نحن أتينا من ملكوت الله تعالى لنتفرج في هذا المكان فتعجب من
حسنهن ثم قال للصغيرة: ارحميني وتعطفي علي وارثي لحالي وما جرى لي في عمري، فقالت
له: دع عنك هذا الكلام واذهب إلى حال سبيلك، فلما سمع الكلام بكى بكاء شديداً
واشتدت به الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
بدت لي في البستان بالحلل الأخضر مفككة الأزرار محلولة الشـعـر
فقلت لها ما الاسم قالت أنا الـتـي كويت قلوب العاشقين على الجمر
شكوت إليها ما ألاقي من الهـوى فقالت إلى صخر شكوت ولم تدر
فقلت لها إن كان قلبـك صـخـر فقد أنبع الله الزلال من الصخـر
فلما سمع البنات هذا الشعر من جانشاه ضحكن ولعبن وغنين
وطربن ثم إن جانشاه أتى إليهن بشيء من الفواكه فأكلن وشربن ونمن مع جانشاه تلك
الليلة إلى الصباح، فلما أصبح الصباح لبست البنات ثيابهن الريش وصرن هيئة الحمام
وطرن ذاهبات إلى حال سبيلهن، فلما رآهن جانشاه طائرات وقد غبن عن عيونه كاد عقله
أن يطير معهن وزعق زعقة عظيمة ووقع مغشياً عليه ومكث في غشيته طوال ذلك اليوم.
فبينما هو طريح على الأرض وإذا بالشيخ نصر قد أتى من
ملاقاة الطيور وفتش على جانشاه ليرسله مع الطيور ويروح إلى بلاده فلم يره، فعلم
الشيخ نصر أنه دخل المقصورة وقد كان الشيخ نصر قد قال للطيور: إن عندي ولداً
صغيراً جاءت به المقادير من بلاد بعيدة إلى هذه الأرض وأريد منكم أن تحملوه
وتوصلوه إلى بلاده، فقالوا له: سمعاً وطاعة ولم يزل الشيخ نصر يفتش على جانشاه حتى
أتى إلى باب المقصورة التي نهاه عن فتحها فوجده مفتوحاً، فدخل فرأى جانشاه مرمياً
تحت شجرة وهو مغشي عليه، فأتاه بشيء من المياه العطرية ورشه على وجهه، فأفاق من
غشيته وصار يلتفت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر لما رأى
جانشاه مرمياً تحت شجرة أتاه بشيء من المياه العطرية ورشه على وجهه، فأفاق من
غشيته وصار يلتفت يميناً وشمالاً، فلم ير عنده أحداً سوى الشيخ نصر فزادت به
الحسرة وأنشد هذه الأبيات:
فبدت كبدر التم في لـيلة الـسـعـد منعمة الأطراف ممشـوقة الـقـد
لها مقلة تسبي العقول بسـحـرهـا وثغر حكى الياقوت في حمرة الورد
تحدر فوق الردف أسود شعـرهـا فإياك إياك الحباب مـن الـسـعـد
لقد وفت الأعطاف منها وقلـبـهـا على صبها أقسى من الحجر الصلد
وترسل سهم اللحظ من قوس حاجب يصيب ولم يخطئ ولو كان من بعد
فيا حسنها قـد فـاق كـل مـلاحة وليس لها بـين الـبـرية مـن نـد
فلما سمع الشيخ نصر من جانشاه هذه الأشعار، قال له: يا
ولدي أما قلت لك لا تفتح هذه المقصورة ولا تدخلها? ولكن أخبني يا ولدي بما رأيت
فيها واحك لي حكايتك وعرفني ما جرى لك? فحكى له جانشاه حكايته وأخبره بما جرى له
مع الثلاث بنات وهو جالس فلما سمع الشيخ نصر كلامه قال له: يا ولدي إن هذه البنات
من بنات الجان، وفي كل سنة يأتين إلى هذا المكان فيلعبن وينشرحن إلى وقت العصر ثم
يذهبن إلى بلادهن فقال له جانشاه: وأين بلادهن? فقال له الشيخ نصر: والله يا ولدي
ما أعلم أين بلادهن.
ثم إن الشيخ نصر قال له: قم معي وقو نفسك حتى أرسلك إلى
بلادك مع الطيور وخل عنك هذا العشق فلما سمع جانشاه كلام الشيخ نصر صرخ صرخة عظيمة
ووقع مغشياً عليه، ولما أفاق قال له: يا والدي أنا لا أريد الرواح إلى بلادي حتى
أجتمع بهؤلاء البنات واعلم يا والدي أني ما بقيت أذكر أهلي ولو أموت بين يديك، ثم
بكى وقال: أنا رضيت بأن أنظر وجه من عشقتها ولو في السنة مرة واحدة، ثم صعد
الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
ليت الخيال على الأحباب ما طرقـا وليت هذا الهوى للناس ما خلـقـا
لولا حرارة قلبي من تـذكـركـم ما سال دمعي على خدي ولا اندفعا
أصبر القلب في يومي ولـيلـتـه وصار جسمي بنار الحب محترقـا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه لما فرغ من
شعره وقع على رجلي الشيخ نصر وقبلهما وبكى بكاء شديداً، وقال له: ارحمني يرحمك الله
وأعينني على بلوتي يعينك الله، فقال له الشيخ نصر: يا ولدي والله لا أعرف هؤلاء
البنات ولا أدري أين بلادهن، ولكن يا ولدي حيث تولعت بإحداهن فاقعد عندي إلى مثل
هذا العام لأنهن يأتين في السنة القابلة في مثل هذا اليوم فإذا قربت الأيام التي
يأتين فيها، فكن في البستان تحت شجرة حين ينزلن البحيرة ويسبحن فيها ويلعبن ويبعدن
عن ثيابهن فخذ ثياب التي تريدها منهن فإذا نظرتك يطلعن على البر ليلبسن ثيابهن،
وتقول لك التي أخذت ثيابها بعذوبة كلام وحسن ابتسام: أعطني ثيابي يا أخي حتى
ألبسها وأستتر بها ومتى قبلت كلامها وأعطيتها ثيابها فإنك لا تبلغ مرادك منها
أبداً، بل تلبس ثيابها وتروح إلى أهلها ولا تنظرها بعد ذلك أبداً فإذا ظفرت
بثيابها فاحفظها تحت إبطك، ولا تعطها إياها حتى أرجع من ملاقاة الطيور وأوفق بينك
وبينها وأرسلك إلى بلادك وهي معك وهذا الذي أقدر عليه يا ولدي لا غير. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر قال
لجانشاه: احفظ ثياب التي تريدها ولا تعطها إياها، حتى أرجع من ملاقاة الطيور وأوفق
بينك وبينها وأرسلك إلى بلادك وهذا الذي أقدر عليه يا ولدي لاغير.
فلما سمع جانشاه كلام الشيخ نصر اطمأن قلبه، وقعد عنده
إلى ثاني عام وصار يعد الماضي من الأيام التي تأتي الطيور عقبها، فلما جاء ميعاد
مجيء الطيور، أتى الشيخ نصر إلى جانشاه وقال له: اعمل بالوصية التي أوصيتك بها من
أمر ثياب البنات فإنني ذاهب إلى ملاقاة الطيور، فقال جانشاه: سمعاً وطاعة لأمرك يا
والدي ثم ذهب الشيخ نصر إلى ملاقاة الطيور، وبعد ذهابه قام جانشاه وتمشى حتى دخل
البستان، واختفى تحت شجرة بحيث لا يراه أحد وقعد أول يوم وثاني يوم وثالث يوم، فلم
يأتين إليه البنات فقلق وصار في بكاء وأنين ناشيء عن قلب حزين ولم يزل يبكي حتى
أغمي عليه، ثم بعد ساعة أفاق وجعل ينظر تارة إلى السماء، وتارة ينظر إلى الأرض،
وتارة ينظر إلى البحيرة وتارة ينظر إلى البر وقلبه يرتجف من شدة العشق، فبينما هو
على هذه الحالة إذ أقبل عليه من الجو ثلاث طيور في صفة الحمام ولكن كل حمامة قدر
النسر، ثم إنهن نزلن بجانب البحيرة وتلفتن يميناً وشمالاً، فلم يرين أحداً من
الإنس ولا من الجن، فنزعن ثيابهن ونزلن البحيرة وصرن يلعبن ويضحكن وينشرحن وهن
كسبائك الفضة، ثم إن الكبيرة منهن قالت لهن: أخشى يا أخواتي أن يكون أحداً مختفياً
لنا في هذا القصر فقالت الوسطى منهن: يا أختي إن هذا القصر من عهد سليمان ما دخله
إنس ولا جان، فقالت الصغيرة منهن وهي تضحك: والله يا أخواتي إن كان أحد مختفياً في
هذا المكان فإنه لا يأخذ إلا أنا، ثم إنهن لعبن وضحكن وقلب جانشاه يرتجف من فرط
الغرام، وهو مختف تحت الشجرة ينظر وهن لا ينظرنه، ثم إنهن سبحن في الماء حتى وصلن
إلى وسط البحيرة وبعدن عن ثيابهن.
فقام جانشاه على قدميه وهو يجري كالبرق الخاطف، وأخذ
ثياب البنت الصغيرة وهي التي تعلق قلبه بها وكان اسمها شمسة، فلما التفتت رأت
جاناه فارتجفت قلوبهن واستترن منه بالماء وأتين إلى قرب البر، ثم نظرن إلى وجه
جانشاه فرأينه كأنه البدر في ليلة تمامه، فقلن له: من أنت وكيف أتيت إلى هذا
المكان وأخذت ثياب السيدة شمسة? فقال لهن: تعالين عندي حتى أحكي لك حكايتي وأخبرك
بما جرى لي وأعلمك بسبب معرفتي بك فقالت: يا سيدي وقرة عيني وثمرة فؤادي أعطني
ثيابي حتى ألبسها وأستتر بها، وأطلع عندك، فقال لها جانشاه: يا سيدة الملاح ما
يمكن أن أعطيك ثيابك وأقتل نفس من الغرام، فلا أعطيك إلا إذا أتى الشيخ نصر ملك
الطيور، فلما سمعت السيدة شمسة كلام جانشاه قالت له: إن كنت لا تعطيني ثيابي فتأخر
عنا قليلاً حتى يطلع أخواتي إلى البر ويلبسن ثيابهن ويعطينني شيئاً أستتر به، فقال
جانشاه: سمعاً وطاعة.
ثم تمشى من عندهن إلى القصر ودخله فطلعت السيدة شمسة هي
وأخواتها إلى البر ولبسن ثيابهن، ثم إن أخت السيدة شمسة الكبيرة أعطتها ثياباً من
ثيابهن لا يمكنها الطيران بها وألبستها إياها ثم قامت السيدة شمسة وهي كالبدر
الطالع والغزال الرائع، وتمشت حتى وصلت إلى جانشاه فرأته جالساً فوق التخت فسلمت
عليه وجلست قريباً منه وقالت له: يا مليح الوجه أنت الذي قتلتني وقتلت نفسك ولكن
أخبرنا بما جرى لك حتى ننظر ما خبرك.
فلما سمع جانشاه كلام السيدة شمسة بكى حتى بل ثيابه من
دموعه فلما علمت أنه مغرم بحبها، قامت على قدميها وأخذته من يده وأجلسته بجانبها
ومسحت دموعه بكمها، وقالت له: يا مليح الوجه دع عنك هذا البكاء واحك لي ما جرى لك
فحكى لها ما جرى له وأخبرها بما رآه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة شمسة قالت
لجانشاه: احك لي ما جرى لك فحكى لها جميع ما جرى له فلما سمعت السيدة شمسة منه هذا
الكلام، تنهدت وقالت له: يا سيدي إذا كنت مغرماً بي فأعطني ثيابي حتى ألبسها وأروح
أنا وأخواتي إلى أهلي وأعلمهم بما جرى لك في محبتي، ثم أرجع إليك وأحملك إلى
بلادك. فلما سمع جانشاه منها هذا الكلام بكى بكاء شديداً وقال لها: أيحل لك من
الله أن تقتليني ظلماً? فقالت له: يا سيدي بأي سبب أقتلك ظلماً? فقال لها: لأنك
متى لبست ثيابك ورحت من عندي فإني أموت من وقتي فلما سمعت السيدة شمسة كلامه ضحكت
وضحك أخواتها ثم قالت له: طب نفساً وقر عيناً فلابد أن أتزوج بك ومالت عليه
وعانقته وضمته إلى صدرها وقبلت بين عينيه وفي خده وتعانقت هي وإياه ساعة من
الزمان، ثم افترقا وجلسا فوق ذلك التخت، فقامت أختها الكبيرة وخرجت من القصر إلى
البستان فأخذت شيئاً من الفواكه والمشموم وأتت به إليهم فأكلوا وشربوا وتلذذوا
وطربوا وضحكوا ولعبوا وكان جانشاه بديع الحسن والجمال رشيق القد والاعتدال. فقالت
له السيدة شمسة: يا حبيبي والله أنا أحبك محبة عظيمة وما بقيت أفارقك أبداً، فلما
سمع جانشاه كلامها انشرح صدره وضحك سه واستمروا يضحكون ويلعبون، فبينما هم في حظ
وسرور إذا بالشيخ نصر قد أتى من ملاقاة الطيور. فلما أقبل عليهم نهض الجميع إليه
قائمين على أقدامهم وسلموا عليه وقبلوا يديه فرحب بهم الشيخ نصر وقال لهم: اجلسوا
فجلسوا، ثم إن الشيخ نصر قال للسيدة شمسة: إن هذا الشاب يحبك محبة عظيمة، فبالله
عليك أن تتوصي به فإنه من أكابر الناس ومن أبناء الملوك وأبوه يحكم على بلاد كابل
وقد حوى ملكاً عظيماً.
فلما سمعت السيدة شمسة كلام الشيخ نصر، قالت له سمعاً
وطاعة لأمرك ثم إنها قبلت يدي الشيخ نصر ووقفت قدامه فقال لها الشيخ نصر: إن كنت
صادقة في قولك فاحلفي لي بالله أنك لا تخونينه مادمت على قيد الحياة، فحلفت يميناً
عظيماً أنها لا تخونه أبداً ولابد أن تتزوج به، وبعد أن حلفت قالت: اعلم يا شيخ
نصر أني لا أفارقه أبداً، فلما حلفت السيدة شمسة للشيخ نصر صدق يمينها وقال
لجانشاه: الحمد لله الذي وفق بينك وبينها ففرح جانشاه بذلك فرحاً شديداً، ثم قعد
جانشاه هو والسيدة شمسة عند الشيخ نصر مدة ثلاثة أشهر في أكل وشرب وعلب وضحك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه هو والسيدة
شمسة قعدا عند الشيخ نصر ثلاثة أشهر في أكل وشرب ولعب وحظ عظيم وبعد ثلاثة أشهر
قالت السيدة شمسة لجانشاه: إني أريد أن أروح إلى بلادك وتتزوج بي ونقيم فيها فقال
لها سمعاً وطاعة، ثم إن جانشاه شاور الشيخ نصر، وقال له: إننا نريد أن نروح إلى
بلادي وأخبره بما قالته السيدة شمسة، فقال لهما الشيخ نصر: اذهبا إلى بلادك وتوصى
بها فقال جانشاه سمعاً وطاعة، ثم إنها طلبت ثوبها وقالت: يا شيخ نصر مره أن يعطيني
ثوبي حتى ألبسه فقال له: يا جانشاه أعطها ثوبها فقال: سمعاً وطاعة ثم قام مسرعاً
ودخل القصر وأتى بثوبها وأعطاه لها فأخذته منه ولبسته، وقالت لجانشاه: اركب فوق
ظهري وغمض عينيك وسكر أذنيك حتى لا تسمع دوي الفلك الدوار وأمسك في ثوبي الريش
وأنت على ظهري بيدك واحترس على نفسك من الوقوع.
فلما سمع جانشاه كلامها ركب على ظهرها، ولما أرادت
الطيران قال لها الشيخ نصر: قفي حتى أصف لك بلاد كابل خوفاً عليكما أن تغلطا في
الطريق فوقفت حتى وصف لها البلاد وأوصاها بجانشاه، ثم ودعهما وودعت السيدة شمسة
أختيها وقالت لهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شمسة قالت لأختيها:
روحا إلى أهلكما وأعلماهم بما جرى لي مع جانشاه، ثم إنها طارت من وقتها وساعتها
وسارت في الجو مثل هبوب الريح والبرق اللامع، وبعد ذلك طارت أختاها وذهبتا إلى
أهليهما وأعلماهما بما جرى للسيدة شمسة مع جانشاه، ومن حين طارت السيدة شمسة ولم
تزل طائرة من وقت الضحى إلى وقت العصر، وجانشاه راكب على ظهرها وفي وقت العصر لاح
لهما على بعد واد ذو أشجار وأنهار فقالت لجانشاه: قصدي أن ننزل في هذا الوادي
لنتفرج على ما فيه من الأشجار والنبات هذه الليلة، فقال لها جانشاه: افعلي ما
تريدين فنزلت من الجو وحطت في ذلك الوادي ونزل جانشاه من فوق ظهرها وقبلها بين
عينيها ثم جلسا بجانب نهر ساعة من الزمان.
وبعد ذلك، قاما على قدميهما وصارا دائرين في الوادي
يتفرجان على ما فيه ويأكلان من تلك الأثمار ولم يزالا يتفرجان في الوادي إلى وقت
المساء ثم أتيا إلى شجرة وناما عندها إلى الصباح ثم قامت السيدة شمسة وأمرت جانشاه
أن يركب على ظهرها فقال جانشاه سمعاً وعطاعة ثم ركب جانشاه على ظهرها وطارت به من
وقتها وساعتها ولم تزل طائرة من الصبح إلى وقت الظهر فبينما هما سائران إذ نظرا
الإمارات التي أخبرهما الشيخ نصر فلما رأت السيدة شمسة تلك الإمارات، نزلت من أعلى
الجو إلى مرج فسيح ذي زرع مليح فيه غزلان رائعة وعيون نابعة وأثمار يانعة وأنهار
واسعة فلما نزلت في ذلك المرج نزل جانشاه من فوق ظهرها وقبلها بين عينيها، فقالت:
يا حبيبي وقرة عيني أتدري ما المسافة التي سرناها? قال لها: لا، قالت: مسافة
ثلاثين شهراً، فقال لها جانشاه: الحمد لله على السلامة.
ثم جلس وجلست بجانبه وقعدا في أكل وشرب ولعب وضحك فبينما
هما في هذا الأمر إذ أقبل عليهما مملوكان، أحدهما الذي كان عند الخيل لما نزل
جانشاه في مركب الصياد والثاني من المماليك الذين كانوا معه في الصيد والقنص فلما
رأيا جانشاه عرفاه وسلما عليه وقالا له: عن إذنك نتوجه إلى والدك ونبشره بقدومك
فقال لهما جانشاه: اذهبا إلى أبي وأعلماه بذلك وائتيا بالخيام ونحن نقعد في هذا
المكان سبعة أيام لأجل الراحة حتى يجيء الموكب لملاقاتنا وندخل في موكب عظيم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه قال للملوكين:
اذهبا إلى أبي وأعلماه بي وائتيا بالخيام، ونحن نقعد في هذا المكان سبعة أيام لأجل
الراحة حتى يجيء الموكب لملاقاتنا وندخل في موكب عظيم، فركب المملوكان خيلهما
وذهبا إلى أبيه وقالا له البشارة يا ملك الزمان، فلما سمع الملك طيغموس كلام
المملوكين قال لهما: بأي شيء تبشراني? هل قدم ابني جانشاه? فقالا: نعم إن ابنك
جانشاه أتى من غيبته وهو بالقرب منك في مرج الكراني. فلما سمع الملك كلام
المملوكين، فرح فرحاً شديداً ووقع مغشياً عليه من شدة الفرح فلما أفاق أمر وزيره
أن يخلع على المملوكين كل واحد خلعة نفيسة ويعطي كل واحد منهما قدراً من المال
فقال له الوزير: سمعاً وطاعة ثم قام من وقته وأعطى المملوكين ما أمره به الملك
وقال لهما: خذا المال في نظير البشارة التي أتيتما بها هذه سواء كذبتما أو صدقتما
فقال المملوكان: نحن ما نكذب وكنا في هذا الوقت قاعدين عنده وسلمنا عليه وقبلنا
يديه وأمرنا أن نأتي له بالخيام وهو يقعد في مرج الكراني سبعة أيام حتى تذهب
الأمراء والوزراء وأكابر الدولة لملاقاته ثم إن الملك قال لهما: كيف حال ولدي?
فقالا له: إن ولدك معه حورية كأنها خرجت من الجنة.
فلما سمع ذلك الكلام أمر بدق الكاسات والبوقات فدقت
البشائر وأرسل الملك طيغموس المبشرين في جهات المدينة ليبشروا أم جانشاه ونساء
الأمراء والوزراء وأكابرالدولة، فانتشر المبشرون في المدينة وأعلموا أهلها بقدوم
جانشاه ثم تجهز الملك طيغموس بالعساكر والجيوش إلى مرج الكراني فبينما جانشاه جالس
والسيدة شمسة بجانبه وإذا بالعساكر أقبلت عليهما فقام جانشاه على قدميه وتمشى حتى
قرب منهم، فلما رأته العساكر عرفوه ونزلوا عن خيلهم وترجلوا إليه وسلموا عليه
وقبلوا يديه وما زال جانشاه سائراً والعساكر قدامه واحداً بعد واحد حتى وصل إلى
أبيه.
فلما نظر الملك طيغموس ولده رمى نفسه عن ظهر الفرس وحضنه
وبكى بكاء شديداً، ثم ركب وركب ابنه والعساكر عن يمينه وشماله وما زالوا سائرين
حتى أتوا إلى جانب النهر، فنزلت العساكر والجيوش ونصبوا الخيام والصواوين والبيارق
ودقت الطبول وزمرت الزمور وضربت الكاسات وزعقت البوقات، ثم إن الملك طيغموس أمر
الفراشين أن يأتوا بخيمة من الحرير الأحمر وينصبوها للسيدة شمسة، ففعلوا ما أمرهم
به وقامت السيدة شمسة وقلعت ثوبها الريش وتمشت حتى وصلت إلى تلك الخيمة وجلست فيها
فبينما هي جالسة وإذا بالملك طيغموس وابنه جانشاه بجانبه أقبلا عليها. فلما رأت
السيدة شمسة الملك طيغموس قامت على قدميها وقبلت الأرض بين يديه، ثم جلس الملك
وأخذ ولده جانشاه عن يمينه والسيدة شمسة عن شماله ورحب بالسيدة شمسة وسأل ابنه
جانشاه وقال له: أخبرني بالذي وقع لك في هذه الغيبة فحكى له جميع ما جرى له من
الأول إلى الآخر فلما سمع الملك من ابنه هذا الكلام تعجب عجباً شديداً والتفت إلى
السيدة شمسة وقال: الحمد لله الذي وفقك حتى جمعت بيني وبين ولدي إن هذا لهو الفضل
العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك طيغموس قال
للسيدة شمسة: الحمد لله الذي وفقك حتى جمعت بيني وبين ولدي إن هذا لهو الفضل
العظيم ولكن أريد منك أن تتمني علي ما تشتهينه حتى أفعله إكراماً لك فقالت له
السيدة شمسة: تمنيت عليك عمارة قصر في وسط بستان والماء يجري من تحته، فقال سمعاً
وطاعة، فبينما هما في الكلام وإذا بأم جانشاه أقبلت ومعها جميع نساء الأمراء
والوزراء ونساء أكابر المدينة جميعاً، فلما رآها جانشاه خرج من الخيمة وقابلها
وتعانقا ساعة من الزمان ثم إن أمه من فرط الفرح أجرت دمع العين وأنشدت هذين
البيتين:
هجم السرور علي حتـى أنـه من فرط ما قد سرني أبكانـي
يا عين قد صار الدمع منك سجية تبكين من فرح ومـن أحـزان
ثم شكيا لبعضهما ما قاسياه من البعد وألم الشوق، ثم
انتقل والده إلى خيمته وانتقل جانشاه هو وأمه إلى خيمته وجلسا يتحدثان مع بعضهما
فبينما هما جالسان إذ أقبلت المبشرون بقدوم السيدة شمسة وقالوا لأم جانشاه: إن
السيدة شمسة أتت إليك وهي ماشية تريد أن تسلم عليك.
فلما سمعت أم جانشاه هذا الكلام قامت على قدميها
وقابلتها وسلمت عليها وقعدتا ساعة من الزمان ثم قامت أم جانشاه مع السيدة شمسة
وسارت هي وإياها ونساء الأمراء وأرباب الدولة وما زلن سائرات حتى صولن خيمة السيدة
شمسة فدخلنها وجلسن فيها.
ثم إن الملك طيغموس أجزل العطايا وأكرم الرعايا وفرح
بابنه فرحاً شديداً ومكثوا في ذلك المكان مدة عشرة أيام وهم في أكل وشرب وأهنأ
عيش، وبعد ذلك أمر الملك عساكره أن يرحلوا ويتوجهوا إلى المدينة ثم ركب الملك
وركبت حوله العساكر والجيوش، وسارت الوزراء والحجاب عن يمينه وعن شماله وما زالوا
سائرين حتى دخلوا المدينة.
وذهبت أم جانشاه هي والسيدة شمسة إلى منزلهم وتزينت
المدينة بأحسن زينة ودنت البشائر والكاسات وذوقوا المدينة بالحلوى والحلل وفرشوا
نفيس الديباج تحت سنابك الخيل وفرحت أرباب الدولة وأظهروا التحف وانبهر المتفرجون
وأطعموا الفقراء والمساكين وعملوا فرحاً عظيماً مدة عشرة أيام وفرحت السيدة شمسة
فرحاً شديداً لما رأت ذلك.
ثم إن الملك طيغموس أرسل إلى البنائين والمهندسين وأربا
المعرفة وأمرهم أن يعملوا له قصراً في ذلك البستان فأجابوه بالسمع والطاعة وشرعوا
في تجهيز ذلك القصر ثم إنهم أتموه على أحسن حال، وحين علم جانشاه بصدور الأمر
ببناء القصر أمر الصناع أن يأتوا بعمودين من الرخام الأبيض، وأن ينقروه ويجوفوه
ويجعلوه على صورة صندوق ففعلوا ما أمرهم، ثم إن جانشاه أخذ ثوب السيدة شمسة الذي
تطير به وحطه في ذلك العمود ودفنه على أساس القصر وأمر البنائين أن يبنوا فوقه
القناطر التي عليها القصر، ولما تم بناء القصر فرشوه وصار قصراً عظيماً في وسط ذلك
البستان والأنهار تجري من تحته، ثم إن الملك طيغموس بعد ذلك عمل عرس جانشاه في
تلكا لمدة وصار فرحاً عظيماً لم ير له نظير وزفوا السيدة شمسة إلى عريسها، وذهب كل
واحد منهم إلى حال سبيله ولما دخلت السيدة شمسة في ذلك القصر شمت رائحة ثوبها
الريش.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العاشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة شمسة لما دخلت
ذلك القصر شمت رائحة ثوبها الريش الذي تطير به وعرفت مكانه وأرادت أخذه فصبرت إلى
نصف الليل حتى استغرق جانشاه في النوم ثم قامت وتوجهت إلى العامود الذي عليه
القناطر وحفرت بجانبه حتى وصلت إلى العامود الذي فيه الثوب وأزالت الرصاص الذي كان
مسبوكاً عليه، وأخرجت منه الثوب ولبسته وطارت من وقتها وجلست على أعلى القصر وقالت
لهم: أريد منكم أن تحضروا إلي جانشاه حتى أودعه فأخبروا جانشاه بذلك، فذهب إليها
فرآها فوق سطح القصر وهي لابسة ثوبها الريش فقال لها: كيف فعلت هذه الفعال? فقالت
له: يا حبيبي وقرة عيني وثمرة فؤادي والله إني أحبك محبة عظيمة وقد فرحت فرحاً
شديداً حيث أوصلتك إلى أرضك وبلادك، ورأيت أمك وأباك فإن كنت تحبني كما أحبك فتعال
عندي إلى قلعة جوهر تكني، ثم طارت من وقتها وساعتها ومضت إلى أهلها.
فلما سمع جانشاه كلام السيدة شمسة وهي فوق سطح القصر كاد
أن يموت من الجوع ووقع مغشياً عليه، فمضوا إلى أبيه وأعلموه بذلك فركب أبوه وتوجه
إلى القصر، ودخل على ولده فرآه مطروحاً على الأرض فبكى الملك طيغموس وعلم أن ابنه
مغرم بحب السيدة شمسة، فرش على وجهه ماء ورد فأفاق فرأى أباه عند رأسه فبكى من
فراق زوجته.
فقال له أبوه: ما الذي جرى لك يا ولدي? فقال: اعلم يا
أبي أن السيدة شمسة من بنات الجان وأنا أحبها ومغرم بها وقد عشقت جمالها وكان عندي
ثوب لها وهي ما تقدر أن تطير بدونه، وقد كنت أخذت ذلك الثوب وأخفيته في عامود على
هيئة الصندوق وسكبت عليه الرصاص ووضعته على أساس القصر فحفرت ذلك الأساس وأخذته
ولبسته وطارت ثم نزلت على القصر وقالت: إني أحبك وقد أوصلتك إلى بلادك، واجتمعت
بأبيك وأمك فإن كنت تحبني فتعال عندي في قلعة جوهر تكني، ثم طارت من سطح القصر
وراحت إلى حال سبيلها، فقال الملك طيغموس: يا ولدي لا تحمل هماً، فإننا نجمع أرباب
التجارة والسواحين في البلاد ونستخبرهم عن تلك القلعة، فإذا عرفناها نسير إليها
ونذهب إلى أهل السيدة شمسة، ونرجو من الله تعالى أن يعطوك إياها وتنزوج بها.
ثم خرج الملك من وقته وساعته وأحضر وزراءه الأربعة وقال
لهم: اجمعوا كل من في المدينة من التجار والسواحين واسألوهم عن قلعة جوهر تكني وكل
من عرفها ودل عليها فإني أعطيه خمسين ألف دينار، فلما سمع الوزراء ذلك الكلام
قالوا له سمعاً وطاعة، ثم ذهبوا من وقتهم وساعتهم وفعلوا ما أمرهم به الملك،
وصاروا يسألون التجار والسواحين في البلاد عن قلعة جوهر تكني فما أخبرهم أحد فأتوا
الملك وأخبروه بذلك فلما سمع الملك كلامهم قام من وقته وساعته، وأمر أن يأتوا
بابنه جانشاه من السراري الحسان والجواري ربات الالات والمحاظي المطربات بما لا
يوجد مثلهن عند الملوك، لعله يتسلى عن السيدة شمسة فأتوا بما طلبه.
ثم أرسل الملك رواداً وجواسيس إلى جميع البلاد والجزائر
والأقاليم ليسالوا عن قلعة جوهر تكني، فسألوا عنها مدة شهرين فما أخبرهم بها أحد
فرجعوا إلى الملك وأعلموه بذلك فبكى بكاء شديداً وذهب إلى ابنه فوجده جالساً بين
السراري والمحاظي وربات آلات الطرب، من الجنك والسنطير وغيرهما وهو لا يتسلى بهن
عن السيدة شمسة فقال له: يا ولدي ما وجدت من يعرف هذه القلعة وقد أتيتك بأجمل
منها، فلما سمع جانشاه ذلك الكلام بكى وأفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
ترحل صبري والغرام مـقـيم وجسمي من فرط الغرام سقيم
متى تجمع الأيام شملي بشمسة وعظمي من حر الفراق رميم
ثم إن الملك طيغموس كان بينه وبين ملك الهند عداوة عظيمة
لأن الملك طيغموس كان قد تعدى عليه وقتل رجاله وسلب أمواله، وكان ملك الهند يقال
له: الملك كفيد، وله جيوش وعساكر وأبطال وكان له ألف بهلوان وكل بهلوان منهم يحكم
على ألف قبيلة، وكل قبيل من تلك القبائل تشمل على أربعة آلاف فارس، وكان عنده
أربعة وزراء وتحته ملوك وأكابر وأمراء وجيوش كثيرة وكان يحكم على ألف مدينة لكل
مدينة ألف قلعة، وكان ملكاً عظيماً شديد البأس وعساكره قد ملأت جميع الأرض فلما
علم الملك كفيد ملك الهند أن الملك طيغموس اشتعل بحب ابنه، وترك الحكم والملك وقلت
من عنده العساكر وصار في هم ونكد بسبب اشتغاله بحب ابنه، جمع الوزراء والأمراء
وأرباب الدولة وقال لهم: أما تعلمون أن الملك طيغموس قد هجم على بلادنا وقتل أبي
وأختي ونهب أموالنا وما منكم أحد إلا وقتل له قريباً وأخذ له مالاً ونهب رزقه وأسر
أهله وإني سمعت اليوم أنه مشغول بحب ابنه جانشاه وقد قلت من عنده العساكر، وهذا
وقت أخذ الثأر منه فتأهبوا للسفر إليه وجهزوا آلات الحبر للهجوم عليه، ولا
تتهاونوا في هذا الأمر بل نسير إليه ونهجم عليه ونقتله هو وابنه ونملك بلاده،
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك كفيد ملك الهند
أمر جيوشه وعساكره أن يركبوا على بلاد الملك طيغموس، وقال لهم تأهبوا للسفر إليه
وجهزوا آلات الحرب للهجوم عليه، ولا تتهاونوا في هذا الأمر بل نسير إليه ونهجم
عليه ونقتله هو وابنه ونملك بلاده.
فلما سمعوا منه هذا الكلام قالوا سمعاً وطاعة، وأخذ كل
واحد منهم في تجهيز عدته واستمروا في تجهيز العدد والسلاح وجع العساكر ثلاثة أشهر،
ولما تكاملت العساكر والجيوش والأبطال، دقوا الكاسات ونفخوا في البوقات ونصبوا
البيارق والرايات، ثم إن الملك كفيد خرج بالعساكر والجيوش وسار حتى وصل إلى أطراف
بلاد كابل وهي بلاد الملك طيغموس، ولما وصلوا إلى تلك البلاد نهبوها فسقوا في
الرعية وذبحوا الكبار وأسروا الصغار فوصل الخبر إلى الملك طيغموس.
فلما سمع بذلك الخبر اغتاظ غيظاً شديداً وجمع أكابر
دولته ووزراءه وأمراء مملكته وقال لهم اعلموا أن الملك كفيد قد أتى ديارنا ونزل
بلادنا ويريد قتالنا ومعه جيوش وأبطال وعساكر لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، فما
الرأي عندكم?
فقالوا يا ملك الزمان الرأي عندنا أننا نخرج إليه نقاتله
ونرده عن بلادنا فقال لهم الملك طيغموس تجهزوا للقتال ثم أخرج لهم من الزرد
والدروع والخوذ والسيوف وجميع آلات الحرب، ما يردي الأبطال ويتلف صناديد الرجال
فاجتمعت العساكر والجيوش والأبطال وتجهزوا للقتال ونصبوا الرايات ودقوا الكاسات
ونفخ في البوقات وضربت الطبول وزمرت الزمور، وسار الملك طيغموس على واد يقال له
وادي زهران وهو في أطراف بلاد كابل.
ثم إن الملك طيغموس كتب كتاباً وأرسله مع رسول من عسكره
إلى الملك كفيد مضمونه، أما بعد فالذي نعم به الملك كفيد أنك ما فعلت إلا فعل
الأوباش ولو كنت ملكاً ابن ملك ما فعلت هذه الفعال ولا كنت تجيء بلادي وتنهب أموال
الناس وتفسق في رعيتي، أما علمت أن هذا كله جور منك، ولو علمت بأنك تتجارى على
مملكتي لكنت أتيتك قبل مجيئك بمدة ومنعتك عن بلادي ولكن إن رجعت وتركت الشر بيننا
وبينك فبها ونعمت وإن لم ترجع فابرز إلى حومة الميدان وتجلد لدي في موقف الحرب
والطعان، ثم إنه ختم الكتاب وسلمه لرجل عامل من عسكره وأرسل معه جواسيس يتجسسون له
على الأخبار ثم إن الرجل أخذ الكتاب وسار به حتى وصل إلى الملك كفيد.
فلما قرب من مكانه رأى خياماً منصوبة على بعد وهي مصنوعة
من الحرير الأطلس ورأى رايات من الحرير الأزرق، ورأى بين الخيام خيمة عظيمة من
الحرير الأحمر وحول تلك الخيمة عسكر عظيم وما زال سائراً حتى وصل إلى تلك الخيمة
فسأل عنها فقيل له إنها خيمة الملك كفيد فنظر الرجل إلى وسط الخيمة، فرأى الملك
كفيد جالساً على كرسي مرصع بالجواهر وعنده الوزراء والأمراء وأرباب الدولة.
فلما رأى ذلك ظهر الكتاب في يده فذهب إليه جماعة من عسكر
الملك كفيد وأخذوا الكتاب منه وأتوا به أمام الملك، فأخذه الملك فلما قرأه عرف
معناه وكتب له جواباً أما بعد فالذي نعلم به الملك طيغموس أنه لابد من أننا نأخذ
الثأر، ونكشف العار، ونخرب الديار، ونهتك الأسرار، ونقتل الكبار، ونأسر الصغار وفي
غد ابرز إلى القتال في الميدان حتى أريك الحرب والطعان ثم ختم الكتاب وسلمه لرسول
الملك طيغموس فأخذه وسار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك كفيد سلم رد
الجواب الذي أرسله الملك طيغموس لرسوله فأخذه ورجع فلما وصل إليه قبل الأرض بين
يديه ثم أعطاه الكتاب وأخبره بما رآه وقال له: يا ملك إني رأيت فرساناً وأبطالاً
ورجالاً لا يحصى لهم عدد ولا يقطع لهم مدد فلما قرأ الكتاب وفهم معناه غضب غضباً
شديداً وأمر وزيره عين زار أن يركب ومعه ألف فارس ويهجم على عسكر الملك كفيد في
نصف الليل وأن يخوضوا فيهم ويقتلوهم.
فقال له الوزير عين زار: سمعاً وطاعة، ثم ركب وركبت معه
العساكر والجيوش وساروا نحو الملك كفيد وكان للمك كفيد وزير يقال له غطرفان فأمره
أن يركب ويأخذ معه خمسة آلاف فارس ويذهب بهم إلى عسكر الملك طيغموس ويهجموا عليهم
ويقتلوهم فركب الوزير غطرفان وفعل ما أمره به الملك كفيد وسار بالعسكر نحو الملك
طيغموس، ومازالوا سائرين إلى نصف الليل حتى قطعوا نصف الطريق فإذا بالوزير غطرفان
وقع بالوزير عين زار فصاحت الرجال على الرجال ووقع بينهم قتال شديد القتال، ومازال
يقاتل بعضهم بعضاً إلى وقت الصباح.
فلما أصبح الصباح انهزمت عساكر الملك كفيد وولوا هاربين
إليه، فلما رأى ذلك غضب غضباً شديداً وقال لهم: يا ويلكم ما الذي أصابكم حتى فقدتم
أبطالكم? فقالوا له: يا ملك الزمان إنه لما ركب الوزير غطرفان وسرنا نحو الملك
طيغموس ولم نزل سائرين إلى أن نصفنا الليل وقطعنا نصف الطريق، فقابلنا عين زار
وزير الملك طيغموس، وأقبل علينا ومعه جيوش وأبطال وكانت المقابلة بجانب وادي
زهران، فما نشعر إلا ونحن في وسط العسكر، ووقعت العين على العين وقاتلنا قتالاً
شديداً من نصف الليل إلى الصباح وقد قتل خلق كثير وصار الوزير عين زار يصيح في وجه
الفيل ويضربه، فيجفل الفيل من شدة الضرب ويدوس الفرسان ويولي هارباً، وما بقي أحد
ينظر أحداً من كثرة ما يطير من الغبار وصار الدم يجري كالتيار، ولولا أننا أتينا
هاربين لكنا قتلنا عن آخرنا.
فلما سمع الملك كيفيد هذا الكلام قال: لا باركت فيكم
الشمس بل غضبت عليكم غضباً شديداً، ثم إن الوزير عين زار رجع إلى الملك طيغموس
وأخبره بذلك فهنأه الملك طيغموس بالسلامة وفرح فرحاً شديداً وأمر بدق الكاسات
والنفخ في البوقات، ثم تفقد عسكره فإذا هم قد قتل منهم ائتا فارس من الشجعان
الشداد، ثم إن الملك كفيد هيأ عسكره وجنوده وجيوشه وأتى الميدان واصطفوا صفاً
فكملوا خمسة عشر صفاً في كل صف عشرة آلاف فارس، وكان معه ثلاثمائة بهلوان يركبون
على الأفيال، وقد انتخب الأبطال وصناديد الرجال ونصبت البيارق والرايات ودقت
الكاسات ونفخ في البوقات وبرز الأبطال طالبين القتال.
وأما الملك طيغموس فإنه صف عسكره صفاً بعد صف فإذا هم
عشرة صفوف كل صف عشرة آلاف فارس وكان معه مائة بهلوان يركبون عن يمينه وشماله،
ولما اصطفت الصفوف تقدم كل فارس موصوف وتصادمت الجيوش وضاق رحب الأرض عن الخيل،
وضربت الطبول وزمرت الزمور ودقت الكاسات ونفخ في البوقات وصاح النفير، وصمت الأذان
من صهيل الخيل في الميدان وصاحت الرجال بأصواتهم وانعقد الغبار على رؤوسهم
واقتتلوا قتالاً شديداً من أول النهار إلى أن أقبل الظلام، ثم افترقوا وذهبت
العساكر إلى منازلهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العساكر افترقوا
وذهبوا إلى منازلهم فتفقد الملك كفيد عسكره، فإذا هم قتل منهم خمسة آلاف فارس فغضب
غضباً شديداً، وتفقد الملك طيغموس عسكره فإذا هم قد فقد منهم ثلاثة آلاف فارس من
خواص شجعانه فلما رأى ذلك غضب غضباً شديداً، ثم إن الملك كفيد برز إلى الميدان
ثانياً، وفعل كما فعل أول مرة وكل واحدم منهما يطلب النصر لنفسه، وصاح الملك كفيد
على عسكره وقال: هل فيكم من يبرز إلى الميدان ويفتح لنا باب الحرب والطعان? فإذا
ببطل يقال له بركيك قد أقبل راكباً على فيل وكان بهلواناً عظيماً ثم تقدم ونزل من
فوق ظهر الفيل وقبل الأرض بين يدي الملك كفيد واستأذنه في البراز ثم ركب الفيل
وساقه إلى الميدان وصاح وقال: هل من مبارز? هل من مناجز? هل من مقاتل? فلما سمع
ذلك الملك طيغموس التفت إلى عسكره وقال لهم: من يبرز إلى هذا البطل منكم? فإذا
بفارس قد برز من بين الصفوف راكباً على جواد عظيم الخلقة وسار حتى أقبل على الملك
طيغموس وقبل الأرض قدامه واستأذنه في المبارزة ثم توجه إلى بركيك فلما أقبل عليه
قال له: من تكون أنت حتى تستهزئ بي وتبرز إلي وحدك وما اسمك? فقال له: اسمي غضنفر
بن كحيل فقال له بركيك: كنت أسمع بك وأنا في بلادي، فدونك والقتال بين صفوف
الأبطال. فلما سمع غضنفر كلامه سحب عمود الحديد من تحت فخذه، وقد أخذ بركيك السيف
في يده وتقاتلا قتالاً شديداً، ثم إن بركيك ضرب غضنفر بالسيف فأتت الضربة في خوذته
ولم يصبه منها ضرر، فلما رأى ذلك غضنفر ضربه بالعمود فاستوى لحمه بلحم الفيل.
فأتاه شخص وقال له: من أنت حتى تقتل أخي، ثم أخذ نبلة في يده وضرب بها غضنفر
فأصابت فخذه فسمرت الدرع فيه فلما رأى ذلك غضنفر جر السيف في يده وضربه فقسمه
نصفين فنزل إلى الأرض يخور في دمه، ثم إن غضنفر ولى هارباً نحو الملك طيغموس.
فلما رأى ذلك الملك كفيد صاح على عسكره وقال لهم: انزلوا
إلى الميدان وقاتلوا الفرسان ونزل الملك طيغموس بعسكره وجيوشه وقاتلوا قتالاً
شديداً وقد صهلت الخيل وصاحت الرجال على الرجال وتجردت السيوف وتقدم كل فارس موصوف
وحملت الفرسان على الفرسان وفر الجبان من موقف الطعان ودقت الكاسات ونفخ في
البوقات فما تسمع الناس إلا ضجة صياح وقعقعة سلاح وهلك في ذلك الوقت من الأبطال من
هلك وما زالوا على هذا الحال إلى أن صارت الشمس في قبة الفلك، ثم إن الملك طيغموس
انفرق بعساكره وجيوشه وعاد لخيامه وكذلك الملك كفيد.
ثم إن الملك طيغموس تفقد رجاله فوجدهم قد قتل منهم خمسة
آلاف فارس وانكسرت منهم أربعة بيارق، فلما علم الملك طيغموس ذلك غضب غضباً شديداً،
وأما الملك كفيد فإنه تفقد عسكره فوجدهم قد قتل منهم ستمائة فارس من خواص شجعانه
وانكسرت منهم تسعة بيارق، ثم ارتفع القتال من بينهم مدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك كتب
الملك كفيد كتاباً وأرسله مع رسول من عسكره إلى ملك يقال له فاقون الكلب، فذهب
الرسول إليه وكان كفيد يدعي أنه قريبه من جهة أمه، فلما علم الملك فاقون بلذلك جمع
عسكره وجيوشه وتوجه إلى الملك كفيد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك فاقون جمع
عساكره وجيوشه وتوجه إلى الملك كفيد، فبينما الملك طيغوس جالس في حظه إذ أتاه شخص
وقال له: إني رايت غبرة ثائرة على بعد قد ارتفعت إلى الجو فأمر الملك طيغموس جماعة
من عسكره أن يكشفوا خبر تلك الغبرة فقالوا له سمعاً وطاعة وذهبوا ورجعوا وقالوا:
أيها الملك قد رأينا الغبرة وبعد ساعة ضربها الهواء وقطعها وبان من تحتها سبعة
بيارق تحت كل بيرق ثلاثة آلاف فارس، وساروا إلى ناحية الملك كفيد، ولما وصل الملك
فاقون الكلب إلى الملك كفيد سلم عليه وقال له: ما خبرك وما هذا القتال الذي أنت
فيه? فقال له الملك كفيد: أما تعلم أن الملك طيغموس عدوي وقاتل إخوتي وأبي وأنا قد
جئته لأقاتله وآخذ بثأري منه. فقال الملك فاقون: باركت الشمس فيك ثم إن الملك كفيد
أخذ الملك فاقون الكلب وذهب به إلى خيمته وفرح فرحاً شديداً، هذا ما كان من أمر
الملك طيغموس والملك كفيد.
وأما ما كان من أمر الملك جانشاه، فإنه استمر شهرين وهو
لم ينظر أباه ولم يأذن بالدخول عليه لأحد من الجواري اللواتي كن في خدمته فحصل له
بذلك قلق عظيم فقال لبعض أتباعه: ما خبر أبي حتى أنه لم يأتني? فأخبروه بما جرى
لأبيه مع الملك كفيد، فقال: ائتوني بجوادي حتى أذهب إلى أبي فقالوا له: سمعاً
وطاعة وأتوا له بالجواد.
فلما حضر جواده قال في نفسه: أنا مشغول بنفسي فالرأي أن
آخذ فرسي وأسير إلى مدينة اليهود، وإذا وصلت إليها يهون الله على ذلك التاجر الذي
استأجرني للعمل لعله يفعل بي مثل ما فعل أول مرة، وما يدري أحد أين تكون الخيرة.
ثم إنه ركب وأخذ معه ألف فارس. حتى صار الناس يقولون إن
جانشاه ذاهب إلى أبيه ليقاتل معه، ومازالوا سائرين إلى وقت المساء، ثم نزلوا في
مرج عظيم وباتوا بذلك المرج، فلما ناموا وعلم جانشاه أن عسكره ناموا كلهم، قام في
خفية وشد وسطه وركب جواده وسار إلى طريق بغداد لأنه كان سمع من اليهود أنه تأتيهم
في كل سنة مرتين قافلة من بغداد وقال في نفسه: إذا وصلت إلى بغداد أسير مع القافلة
حتى أصل إلى مدينة اليهود وصمم في نفسه على ذلك وسار إلى حال سبيله.
فلما استيقظ العساكر من نومهم ولم يروا جانشاه ولا جواده
ركبوا وساروا يفتشون عن جانشاه يميناً وشمالاً، فلم يجدوا له خبر فرجعوا إلى أبيه
وأعلموه بما فعل ابنه فغضب غضباً شديداً وكاد الشرر يطلع من فيه ورمى بتاجه من فوق
رأسه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد فقدت ولدي والعدو قبالي
فقال له الملوك والوزراء: اصبر يا ملك الزمان فما بعد الصبر إلا الخير.
ثم إن جانشاه صار من أجل أبيه وفراق محبوبته حزيناً
مهموماً جريح القلب قريح العين سهران الليل والنهار، وأما أبوه فلما علم بفقده مع
عساكره وجيوشه، ورجع عن حرب عدوه وتوجه إلى مدينته ودخلها وغلق أبوابها وحصن
أسوارها وصار هارباً من الملك كفيد وصار كفيد في كل شهر يجيء المدينة طالباً
القتال والخصام، ويقعد عليها سبع ليال وثمانية أيام وبعد ذلك يأخذ عسكره ويرجع بهم
إلى الخيام ليداوي المجروحين من الرجال.
فأما أهل مدينة الملك طيغموس فإنهم عند انصراف العدو
عنهم يشتغلون بإصلاح السلاح وتحصين الأسوار وتهيئة المنجنيقات، ومكث الملك طيغموس
والملك كفيد على هذه الحالة، سبع سنين والحرب مستمرة بينهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك طيغموس مكث هو
والملك كفيد على هذه الحالة سبع سنين. هذا ما كان من أمرهما.
وأما ما كان من أمر جانشاه فإنه لم يزل سائراً يقطع
البراري والقفار وكلما وصل إلى بلد من البلاد سأل عن قلعة جوهر تكني فلم يخبره أحد
بها وإنما يقولون له إننا لم نسمع بهذا الاسم أصلاً، ثم إنه سأل عن مدينة اليهود
فأخبره رجل من التجار أنها في أطراف بلاد المشرق، وقال له في هذا الشهر سر معنا
إلى مدينة شمعون ومنها إلى خوارزم وتبقى مدينة اليهود قريبة من خوارزم فإن بينهما
مسافة سنة وثلاثة أشهر.
فصبر جانشاه حتى سافرت القافلة، وسافر معها إلى أن وصل
إلى مدينة مرزقان ولما دخل تلك المدينة صار يسأل عن قلعة جوهر تكني فلم يخبره أحد
بها وقالوا له: ما سمعنا بهذا الاسم أصلاً وقاسى في الطريق شدة عظيمة وأهوالاً
صعبة وجوعاً وعطشاً.
ثم سافر من الهند، ولم يزل مسافراً حتى وصل إلى بلاد
خراسان وانتهى إلى مدينة شمعون ودخلها وسأل عن مدينة اليهود فأخبروه عنها ووصفوا
له طريقها، فسافر أياماً وليالي حتى وصل إلى نهر بجانب مدينة اليهود وجلس على
شاطئه وصبر إلى يوم السبت حتى نشف بقدرة الله تعالى فعدى منه إلى بيت اليهودي الذي
كان فيه أول مرة فسلم عليه هو وأهل بيته، ففرحوا به وأتوا بالأكل والشرب ثم قالوا
له: أين كانت غيبتك? فقال لهم: بملك الله تعالى، ثم بات تلك الليلة عندهم ولما كان
الغد دار في المدينة يتفرج فرأى منادياً ينادي ويقول: يا معاشر الناس من يأخذ ألف
دينار وجارية حسنة ويعمل عندنا شغل نصف يوم فقال له جانشاه: أنا أعمل، فقال له
المنادي: اتبعني فتبعه حتى وصل إلى بيت اليهودي التاجر الذي وصل إليه أول مرة. ثم
قال المنادي لصاحب البيت: إن هذا الولد يعمل الشغل الذي تريد، فرحب به التاجر وقال
له: مرحباً بك، وأخذه ودخل به إلى الحريم وأتاه بالأكل والشرب فأكل جانشاه وشرب ثم
إن التاجر قدم له الدنانير والجارية الحسنة وباتا معاً تلك الليلة، ولما أصبح
الصباح أخذ الدنانير والجارية وسلمها لليهودي الذي بات في بيته أول مرة. ثم رجع
إلى التاجر صاحب الشغل، فركب معه وساراً حتى وصلا إلى جبل عال شاهق العلو، ثم إن
التاجر أخرج حبلاً وسكيناً وقال لجانشاه: ارم هذه الفرس على الأرض، فرماها وكتفها
بالحبل وذبحها وسلخها وقطع قوائمها ورأسها وشق بطنها كما أمره التاجر ثم قال
التاجر لجانشاه ادخل بطن هذه الفرس حتى أخيطهلا عليك ومهما رأيته فيه فقل لي عليه،
فهذا الشغل الذي أخذت أجرته، فدخل جانشاه بطن الفرس وخيطها عليه التاجر، ثم ذهب
إلى محل بعيد عن الفرس واختفى فيه وبعد ساعة أقبل طير عظيم ونزل من الجو وخطف
الفرس وارتفع بها إلى عنان السماء ثم نزل على رأس الجبل فلما استقر على رأس الجبل أراد
أن يأكل الفرس، فلما أحس به جانشاه شق بطن الفرس وخرج فجفل الطير منه وطار إلى حال
سبيله.
فطلع جانشاه ونظر إلى التاجر فرآه واقفاً تحت الجبل مثل
العصفور فقال ما تريد أيها التاجر فقال له ارم بشيء من هذه الحجار التي حواليك حتى
أدلك على الطريق التي تنزل منها، فقال جانشاه أنت الذي فعل بي كيت وكيت من مدة خمس
سنين قد قاسيت جوعاً وعطشاً وحصل لي تعب عظيم وشر كثير وها أنت عدت بي إلى هذا
المكان وأردت هلاكي، فوالله لا أرمي لك شيء ثم إن جانشاه سار وقصد الطريق التي
توصل إلى الشيخ نصر ملك الطيور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه سار وقصد
الطريق التي توصل إلى الشيخ نصر ملك الطيور، ولم يزل سائراً أياماً وليالي وهو
باكي العين حزين القلب وإذا جاع يأكل من نبات الأرض وإذا عطش يشرب من أنهارها حتى
وصل إلى قصر السيد سليمان، فرأى الشيخ نصر جالساً على باب القصر فأقبل عليه وقبل
يديه فرحب به الشيخ نصر وسلم عليه ثم قال له يا ولدي ما خبرك حتى جئت هذا المكان
وكنت قد توجهت من هنا مع السيدة شمسة وأنت قرير العين منشرح الصدر? فبكى جانشاه،
وحكى له ما جرى من السيدة شمسة لما طارت، وقالت له: إن كنت تحبني تعال عندي في
قلعة جوهر تكني.
فتعجب الشيخ نصر من ذلك وقال: والله يا ولدي ما أعرفها
وحق السيد سليمان ولا سمعت بهذا الاسم طول عمري، فقال جانشاه كيف أعمل وقد مت من
العشق والغرام? فقال له الشيخ نصر: اصبر حتى تأتي الطيور ونسألهم عن قلعة جوهر
تكني لعل أحد منهم يعرفها.
فاطمأن قلب جانشاه ودخل القصر وذهب إلى المقصورة
المشتملة على البحيرة التي رأى فيها البنات الثلاث، ومكث عند الشيخ نصر مدة من
الزمان فبينما هو جالس على عادته إذ قال له الشيخ نصر يا ولدي إنه قرب مجيء الطير
ففرح جانشاه بذلك الخبر ولم تمض إلا أياماً قلائل حتى أقبلت الطيور فجاء الشيخ نصر
إلى جانشاه، وقال له يا ولدي تعلم هذه الأسماء وأقبل على الطيور.
فجاءت وسلمت على الشيخ نصر جنساً بعد جنس ثم سألها عن
قلعة جوهر تكني فقال كل منها ما سمعت بهذه القلعة طول عمري، فبكى بكاء شديداً
وتحسر ووقع مغشياً عليه، فطلب الشيخ نصر طيراً عظيماً وقال له أوصل هذا الشاب إلى
بلاد كابل ووصف له البلاد وطريقها فقال له سمعاً وطاعة.
ثم ركب جانشاه على ظهره وقال له احترس على نفسك وإياك أن
تميل فتنقطع في الهواء، وسد أذنيك من الريح لئلا يضربك جري الأفلاك ودوي البحار
فقبل جانشاه ما قاله الشيخ نصر، ثم أقبل به الطير وعلا به إلى الجو وسار به يوماً
وليلة، ثم نزل به عند ملك الوحوش واسمه شاه بدوي فقال لجانشاه قد تهنا عن البلاد
التي وصفها لنا الشيخ نصر وأراد أن يأخذ جانشاه ويطير به، فقال له جانشاه اذهب إلى
حال سبيلك واتركني في هذه الأرض حتى أموت وأصل إلى بلادي، فتركه الطير عند ملك
الوحوش شاه بدوي وذهب إلى حال سبيله ثم إن شاه بدوي سأله وقال له من أنت ومن أين
أقبلت مع هذا الطير العظيم وما حكايتك? فحكى له جميع ما جرى له من الأول إلى
الآخر.
فتعجب ملك الوحوش من حكايته وقال له: وحق السيد سليمان
إني ما أعرف هذه القلعة وكل من دلنا عليها نكرمه ونرسلك إليها، فبكى جانشاه بكاء
شديداً وصبر مدة قليلة وبعدها أتاه ملك الوحوش وهو شاه بدوي وقال له قم يا ولدي
وخذ هذه الألواح واحفظ الذي فيها وإذا أتت الوحوش نسألها عن تلك القلعة. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شاه بدوي ملك الوحوش
قال لجانشاه احفظ ما في هذه الألواح وإذا جاءت الوحوش نسألها عن تلك القلعة فما
مضى غير ساعة حتى أقبلت الوحوش جنساً بعد جنس وصاروا يسلمون على الملك شاه بدوي ثم
إنه سألهم عن قلعة جوهر تكني فقالوا له جميعاً ما نعرف هذه القلعة ولا سمعنا بها،
فبكى جانشاه وتأسف على عدم ذهابه مع الطير الذي أتى به من عند الشيخ نصر.
فقال له ملك الوحوش: يا ولدي لا تحمل هماً إن لي أخاً
أكبر مني ويقال له الملك شماخ وكان أسيراً عند السيد سليمان لأنه كان عاصياً عليه
وليس أحد من الجن أكبر منه هو والشيخ نصر، فلعله يعرف هذه القلعة وهو يحكم على
الجان الذين في هذه البلاد ثم أركبه ملك الوحوش على ظهر وحش منها وأرسل معه كتاباً
إلى أخيه بالوصية عليه، ثم إن ذلك الوحش سار من وقته وساعته ولم يزل سائراً
بجانشاه أياماً وليالي حتى وصل إلى الملك شماخ فوقف ذلك الوحش في مكان وحده بعيداً
عن الملك ثم نزل جانشاه من فوق ظهره وصار يتمشى حتى وصل إلى حضرة الملك شماخ، فقبل
يديه وناوله الكتاب فقرأه وعرف معناه ورحب به وقال له: والله يا ولدي إن هذه
القلعة عمري ما سمعت بها ولا رأيتها فبكى جانشاه وتحسر.
فقال له الملك شماخ: احك لي حكايتك وأخبرني من أنت ومن
أين أتيت وإلى أين تذهب فأخبره بجميع ما جرى له من الأول إلى الآخر، فتعجب شماخ من
ذلك وقال له: يا ولدي أنا أعرف راهباً في الجبل وهو كبير في العمر وقد أطاعته جميع
الطيور والوحوش والجان من كثرة اقسامه لأنه ما زال يتلو الأقسام على ملوك الجن حتى
أطاعوه قهراً عنهم من شدة تلك الأقسام والسحر الذي عنده وجميع الطيور والوحوش تسير
إلى خدمته وأنا قد كنت عصيت السيد سليمان فهو أسرني عنده وما غلبني سوى هذا الراهب
من شدة مكره وأقسامه وسحره وقد بقيت في خدمته واعلم أنه ساح في جميع البلاد
والأقاليم وعرف جميع الطرق والجهات والأماكن والقلاع والمدائن وما أظن أنه يخفى
عليه مكان فأنا أرسلك إليه لعله يدلك على هذه القلعة وإن لم يدلك هو عليها فما
يدلك عليها أحد لأنه قد أطاعته الطيور والوحوش والجان وكلهم يأتونه من شدة سحره
وقد اصطنع له عكازة ثلاث قطع فغرزها في الأرض ويتلو القسم على القطعة الأولى من
العكازة فيخرج منها لحم ويخرج منها دم ويتلو القسم على القطعة الثانية، فيخرج منها
قمح وشعير وبعد ذلك يخرج العكازة من الأرض ثم يذهب إلى ديره وديره يسمى دير الماس
وهذا الراهب الكاهن يخرج من يده اختراع كل صنعة غريبة وهو ساحر كاهن مخادع خبيث
واسمه يغموس وقد حوى جميع الأقسام والعزائم ولابد من أن أرسلك إليه مع طير عظيم له
أربعة أجنحة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شماخ قال
لجانشاه: ولابد من أن أرسلك إلى الراهب مع طير عظيم له أربعة أجنحة ثم أركبه على
ظهر طير عظيم له أربعة أجنحة طول كل جناح منها ثلاثون ذراعاً بالهاشمي وله أرجل
مثل أرجل الفيل لكنه لا يطير في السنة إلا مرتين وكان عند الملك شماخ عون يقال له
طمشون كل يوم يخطف لهذا الطير بختيتين من بلاد العراق ويفسخهما له ليأكلهما، فلما
ركب جانشاه على ظهره وسار به ليالي وأياماً حتى وصل إلى الجبل القلع ودير الماس
فنزل جانشاه عند ذلك الدير فرأى يغموس الراهب داخل الكنيسة وهو يتعبد فيها، فتقدم
جانشاه إليه وقبل الأرض ووقف بين يديه. فلما رآه الراهب قال له: مرحباً بك يا ولدي
يا غريب الدار وبعيد المزار أخبرني ما سبب مجيئك إلى هذا المكان فبكى جانشاه وحكى
له حكايته من الأول إلى الآخر. فلما سمع الراهب الحكاية تعجب منها غاية العجب وقال
له: والله يا ولدي عمري ما سمعت بهذه القلعة، ولا رأيت من سمع بها أو رآها مع أني
كنت موجوداً في عهد نوح نبي الله وحكمت من عهد نوح إلى زمن السيد سليمان بن داود
على الوحوش والطيور والجان، وما أظن أن السيد سليمان سمع بهذه القلعة ولكن اصبر يا
ولدي حتى تأتي الطيور والوحوش وأعوان الجان واسألهم لعل أحداً منهم يخبرنا بها
ويأتينا بخبر عنها ويهون الله تعالى عليك.
فقعد جانشاه مدة من الزمان عند الراهب فبينما هو قاعد إذ
أقبلت عليه الطيور والوحوش والجان أجمعين وصار جانشاه والراهب يسألونهم عن قلعة
جوهر تكني، فما أحد منهم قال أنا رأيتها أو سمعت بها، بل كان كل منهم يقول ما رأيت
هذه القلعة ولا سمعت بها فصار جانشاه يبكي وينوح ويتضرع إلى الله تعالى، فبينما هو
كذلك وإذا بطير قد أقبل آخر الطيور وهو أسود اللون عظيم الخلقة ولما نزل من أعلى
الجو جاء وقبل يدي الراهب فسأله الراهب عن قلعة جوهر تكني فقال له الطير: أيها
الراهب إننا كنا ساكنين خلف جبل قاف بجبل البلور في بر عظيم، وكنت أنا وإخوتي
فراخاً صغاراً وأبي وأمي كانا يسرحان في كل يوم يجيئان برزقنا فاتفق أنهما سرحا
يوماً من الأيام وغابا عنا سبعة أيام فاشتد علينا الجوع ثم أتيا في اليوم الثامن
وهما يبكيان فقلنا لهما: ما سبب غيابكما عنا? فقالا: إنه خرج علينا مارد فخطفنا
وذهب بنا إلى قلعة جوهر تكني وأوصلنا إلى الملك شهلان، فلما رآنا الملك شهلان أراد
قتلنا فقلنا له: إن وراءنا فراخاً صغاراً فأعتقنا من القتل ولو كان أبي وأمي في
قيد الحياة لكانا أخبراكم عن القلعة.
فلما سمع جانشاه هذا الكلام بكى بكاء شديداً وقال
للراهب: أريد منك أن تأمر هذا الطير أن يوصلني إلى نحو وكر أبيه وأمه في جبل
البلور خلف جبل قاف فقال الراهب للطير: أيها لاطير أريد منك أن تطيع هذا الولد في
جميع ما يأمرك به فقال الطير للراهب سمعاً وطاعة لما تقول، ثم إن ذلك الطير أركب
جانشاه على ظهره وطار ولم يزل طائراً به أياماً وليالي حتى أقبل على جبل البلور،
ثم نزل به هناك ومكث برهة من الزمان ثم أركبه على ظهره وطار ولم يزل طائراً به مدة
يومين حتى وصلا إلى الأرض التي فيها الوكر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة التاسعة عشرة بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الطير لم يزل طائراً
بجانشاه مدة يومين حتى وصل به إلى الأرض التي فيها الوكر ونزل به هناك ثم قال له:
يا جانشاه هذا الوكر الذي كنا فيه فبكى جانشاه بكاء شديداً وقال للطير: أريد منك
أن تحملني وتوصلني إلى الناحية التي كان أبوك وأمك يذهبان إليها ويجيئان منها
بالرزق.
فقال له الطير سمعاً وطاعة يا جانشاه ثم حمله وطار به
ولم يزل طائراً سبع ليالي وثمانية أيام حتى وصل به إلى جبل عال ثم أنزله من فوق
ظهره فنام في رأس ذلك الجبل، فلما أفاق من النوم رأى بريقاً على بعد يملأ نوره
الجو فصار متحيراً في نفسه من ذلك اللمعان والبريق ولم يدر أنه أمام القلعة التي
هو يفتش عليها وكان بينه وبينها مسيرة شهرين وهي مبنية من الياقوت الأحمر وبيوتها
من الذهب الأصفر، ولها ألف برج مبنية من المعادن النفيسة التي تخرج من بحر
الظلمات، ولهذا سميت قلعة جوهر تكني لأنها من نفيس الجواهر والمعادن، وكانت قلعة
عظيمة واسم ملكها شهلان وهو أبو البنات الثلاث. هذا ما كان من أمر جانشاه.
وأما ما كان من أمر السيدة شمسة فإنها لما هربت من عند
جانشاه وراحت عند أبيها وأمها وأهلها أخبرتهم بما جرى لها مع جانشاه وحكت لهم
حكايته وأعلمتهم أنه ساح في الأرض ورأى العجائب، وعرفتهم بمحبته لها ومحبتها له
وبما وقع بينهما. فلما سمع أبوها وأمها ذلك الكلام قالا لها: ما يحل لك من الله أن
تفعلي معه هذا الأمر ثم إن أباها حكى هذه المسألة لأعوانه من مردة الجان وقال لهم:
كل من رأى منكم إنسياً فيأتيني به، وكانت السيدة شمسة أخبرت أمها أن جانشاه مغرم
بها وقالت لها: ولابد من أنه يأتينا لأني لما طرت من فوق البيت قلت له: إن كنت
تحبني فتعال في قلعة جوهر تكني، ثم إن جانشاه لما رأى ذلك البريق واللمعان قصد
نحوه ليعرف ما هو، وكانت السيدة شمسة قد أرسلت عوناً من الأعوان في شغل بناحية جبل
قرموس، فبينما ذلك العون سائر إذ هو نظر من بعيد شخص أنسي. فلما رآه أقبل نحوه
وسلم عليه فخاف جانشاه من ذلك العون ورد عليه السلام فقال له العون: ما اسمك? فقال
له: اسمي جانشاه وكنت قبضت على جنية اسمها السيدة شمسة لأني تعلقت بحسنها وجمالها
وكنت أحبها محبة عظيمة ثم إنها هربت مني بعد دخولها إلى قصر والدي وحكى له جميع ما
جرى له وصار جانشاه يكلم المارد وهو يبكي.
فلما نظر العون إلى جانشاه وهو يبكي أحرق قلبه وقال له:
لا تبك فإنك قد وصلت إلى مرادك واعلم أنها تحبك محبة عظيمة، وقد أعلمت أباها وأمها
بمبتك لها وكل من في القلعة يحبك لأجلها فطب نفساً وقر عيناً ثم إن المارد حمله
على كاهله وسار به حتى وصل إلى قلعة جوهر تكني وذهب المبشرون إلى الملك شهلان وإلى
السيدة شمسة وإلى أمها يبشرونهم بمجيء جانشاه. فلما جاءتهم البشائر بذلك فرحوا
فرحاً عظيماً، ثم إن الملك شهلان أمر جميع الأعوان أن يلاقوا جانشاه، وركب هو
وجميع الأعوان والعفاريت والمردة إلى ملاقاة جانشاه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
وفي الليلة العشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك شهلان ركب هو
وجميع الأعوان والعفاريت والمردة إلى ملاقاة جانشاه فلما أقبل الملك شهلان أبو
السيدة شمة على جانشاه عانقه، ثم إن جانشاه قبل يدي الملك شهلان فأمر له الملك
بخلعة عظيمة من الحرير مختلفة الألوان مطرزة بالذهب ومرصعة بالجوهر، ثم ألبسه
التاج الذي ما رأى مثله أحد من ملوك الإنس ثم أمر له بفرس عظيمة من خيل ملوك الجان
فركبها ثم ركب الأعوان عن يمينه وشماله وسار هو والملك في موكب عظيم حتى أتوا باب
القصر فنزل الملك ونزل جانشاه في ذلك القصر فرآه قصراً عظيماً حيطانه مبنية
بالجواهر واليواقيت ونفيس المعادن، فقام الملك إليه وأجلسه على تخته بجانبه، ثم
إنهم أتوا بالسماط فأكلوا وشربوا، ثم غسلوا أيديهم.
بعد ذلك أقبلت عليه أم السيدة شمسة فسلمت عليه ورحبت به،
وقالت له: قد بلغت المقصود من التعب ونامت عينك بعد السهر والحمد لله على سلامتك
ثم ذهبت من وقتها إلى ابنتها السيدة شمسة وأتت بها إلى جانشاه. فلما أقبلت عليه
السيدة شمسة سلمت عليه وأقبلت عليه وأطرقت برأسها خجلاً منه ومن أمها وأبيها، وأتى
أخواتها اللواتي كن معها في القصر وقبلوا يديه وسلموا عليه، ثم إن والدة شمسة قالت
له: مرحباً يا ولدي ولكن بنتي شمسة قد أخطأت في حقك ولا تؤاخذها بما فعلت معك
لأجلنا. فلما سمع جانشاه منها ذلك الكلام صاح ووقع مغشياً عليه فتعجب الملك منه،
ثم إنهم رشوا على وجهه ماء الورد الممزوج بالمسك والزباد فأفاق ونظر إلى السيدة
شمسة وقال: الحمد لله الذي بلغني مرادي وأطفأ ناري حتى لم يبق في قلبي نار فقالت
له السيدة شمسة: سلامتك من النار ولكن يا جانشاه أريد أن تحكي لي على ما جرى لك
بعد فراقي، وكيف أتيت إلى هذا المكان مع أن أكثر الجان لا يعرفون قلعة جوهر تكني.
ونحن عاصون على جميع الملوك وما أحد عرف طريق هذا المكان ولا سمع به.
فأخبرها جانشاه بجميع ما جرى له وكيف أتى، وأعلمهم بما
جرى لأبيه مع الملك كفيد وأخبرهم بما قاساه في الطريق، وما رآه من الأهوال
والعجائب، وقال لها: كل هذا من أجلك يا سيدتي شمسة، فقال له أبوها قد بلغت المراد
والسيدة شمسة جارية نهديها إليك، فلما سمع ذلك جانشاه فرح فرحاً شديداً فقالت له
بعد ذلك إن شاء الله تعالى في الشهر القابل ننصب الفرح ونعمل العرس ونزوجك بها ثم
تذهب بها إلى بلادك ونعطيط ألف مارد من الأعوان لو أذنت لأقل من فيهم أن يقتل
الملك كفيد هو وقومه لفعل ذلك في لحظة وفي كل عام نرسل إليك قوماً إذا أمرت واحداً
منهم بإهلاك أعداءك جميعاً أهلكهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا السيدة شمسة قال
له: وفي كل عام نرسل إليك قوماً إذا أمرت أقل واحد منهم بإهلاك أعداءك جميعاً
أهلكهم عن آخرهم، ثم إن الملك شهلان جلس فوق التخت وأمر أرباب الدولة أن يعملوا
فرحاً عظيماً ويزينوا المدينة سبعة أيام بلياليها فقالوا سمعاً وطاعة. ثم ذهبوا في
ذلك الوقت وأخذوا في تجهيز الأهبة للفرح، ومكثوا في التجهيز مدة شهرين، وبعد ذلك
عملوا عرساً عظيماً للسيدة شمسة حتى صار فرحاً عظيماً لم يكن مثله ثم أدخلوا
جانشاه على السيدة شمسة واستمر معها مدة سنتين في ألذ عيش وأهنأه وأكل وشرب ثم بعد
ذلك قال للسيدة شمسة: إن أباك قد وعدنا بالذهاب إلى بلادي وأن نقعد هناك سنة وهنا
سنة، فقالت السيدة شمسة: سمعاً وطاعة، ولكن اصبر إلى أول الشهر حتى نجهز لكما
الأعوان فأخبرت جانشاه بما قاله أبوها وصبر المدة التي عينها، وبعد ذلك أذن الملك
شهلان للأعوان أن يخرجوا في خدمة السيدة شمسة وجانشاه حتى يوصلوهما إلى بلاد
جانشاه وقد جهز لهما تختاً عظيماً من الذهب الأحمر المرصع بالدر والجواهر، فوقه
خيمة من الحرير الأخضر منقوشة بسائر الألوان مرصعة بنفس الجواهر يحار في حسنها
الناظر. فطلع جانشاه هو والسيدة شمسة فوق التخت، ثم انتخب من الأعوان أربعة
ليحملوا ذلك التخت فحملوه وصار كل واحد منهم في جهة من جهاته وجانشاه والسيدة شمسة
فوقه، ثم إن السيد شمسة ودعت أمها وأبيها وأخواتها وأهلها وقد ركب أبوها وسار مع
جانشاه، وسارت الأعوان بذلك التخت ولم يزل الملك شهلان سائراً معهم إلى وسط
النهار، ثم حطت الأعوان ذلك التخت ونزلوا وودعوا بعضهم، وصار الملك شهلان يوصي
جانشاه على السيدة شمسة ويوصي الأعوان عليها.
ثم أمر الأعوان أن يحملوا التخت، فوقه السيدة شمسة وكذلك
جانشاه وسارا ورجع أباها وكان أبوها قد أعطاها ثلاثمائة من السراري الحسان، وأعطى
جانشاه ثلاثمائة مملوك من أولاد الجان، ثم إنهم ساروا من ذلك الوقت بعد أن طلعوا
بأجمعهم على ذلك التخت، والأعوان الأربعة قد حملته وطارت به بين السماء والأرض،
وصاروا يسيرون كل يوم مسيرة ثلاثين شهراً ولم يزالوا سائرين على هذه الحالة مدة
عشرة أيام، وكان في الأعوان عون يعرف بلاد كابل فلما رآها أمرهم أن ينزلوا على
المدينة الكبيرة في تلك المدينة وكانت تلك المدينة مدينة الملك طيغموس فنزلوا
عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأعوان نزلوا على
مدينة الملك طيغموس ومعهم جانشاه والسيدة شمسة، وكان الملك طيغموس قد انهزم من
الأعداء وهرب من مدينته وصار في حصر عظيم، وضيق عليه الملك كفيد.
فلما رأت السيدة شمسة الملك طيغموس ومملكته في ذلك
الحال، أمرت الأعوان أن يضربوا العسكر الذين حاصروهم ضرباً شديداً ويقتلوهم، وقالت
للأعوان: لا تبقوا منهم أحداً ثم إن جانشاه أومأ إلى عون من الأعوان شديد البأس
اسمه قراطش وأمره أن يجيء بالملك كفيد مقيداً، ثم إن الأعوان ساروا وأخذوا ذلك
التخت معهم وما زالوا سائرين حتى حطوا ثم هجموا على الملك كفيد وعساكره وصاروا
يقتلونهم وصار الواحد يأخذ عشرة أو ثمانية وهم على ظهر الفيلة ويطير بهم إلى الجو،
ثم يلقيهم فيتمزقون في الهواء، وكان بعض الأعوان يضرب العساكر بالعمد الحديد.
ثم إن العون الذي اسمه قراطش ذهب من وقته إلى خيمة كفيد
فهجم عليه وهو جالس فوق السرير وأخذه وطار به إلى الجو فزعق من هيبة ذلك العون ولم
يزل طائراً به حتى وضعه على التخت قدام جانشاه، فأمر الأعوان الأربعة أن يقتلعوا
التخت وينصبوه في الهواء فلم ينتبه الملك كفيد إلا وقد رأى نفسه ما بين السماء
والأرض فصار يلطم وجهه ويتعجب من ذلك، هذا ما كان من أمر الملك كفيد.
وأما ما كان من أمر الملك طيغموس فإنه لما رأى ابنه كاد
يموت من شدة الفرح وصاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه، فرشوا على وجهه ماء الورد
فلما أفاق تعانق هو وابنه وبكيا بكاء شديداً ولم يعلم الملك طيغموس بأن الأعوان في
قتال الملك كفيد وبعد ذلك قامت السيدة شمسة وتمشت حتى وصلت إلى الملك طيغموس أبي
جانشاه وقبلت يديه وقالت له: يا سيدي اصعد إلى أعلى القصر وتفرج على قتال أعوان
أبي. فصعد الملك إلى أعلى القصر وجلس هو والسيدة شمسة يتفرجان على حرب الأعوان
وذلك أنهم صاروا يضربون في العساكر طولاً وعرضاً وكان منهم من يأخذ العمود الحديد
ويضرب به الفيل فينهرس الفيل والذي على ظهره حتى صارت الفيلة لا تتميز من الآدميين
ومنهم من يحيي جماعة وهم هاربون فيصيح في وجوههم فيسقطون ميتين ومنهم من يقبض على
العشرين فارساً ويقلع بهم إلى الجو ويلقيهم إلى الأرض فيتقطعون قطعاً، هذا وجانشاه
ووالده والسيدة شمسة ينظرون إليهم ويتفرجون على القتال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت
عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك طيغموس وابنه
جانشاه وزوجته السيدة شمسة ارتقوا إلى أعلى القصر، وصاروا يتفرجون على قتال
الأعوان مع عسكر الملك كفيد، وصار الملك كفيد ينظر إليهم وهو فوق التخت ويبكي
ومازال القتل في عسكره مدة يومين حتى قطعوا عن آخرهم، ثم إن جانشاه أمر الأعوان أن
يأتوا بالتخت وينزلوا به إلى الأرض في وسط قلعة الملك طيغموس فأتوا به وفعلوا ما
أمرهم به سيدهم الملك جانشاه ثم إن الملك طيغموس أمر عوناً من الأعوان يقال له
شموال أن يأخذ الملك كفيد ويجعله في السلاسل والأغلال ويسجنه في البرج الأسود ففعل
شمول ما أمره به. ثم بعد ذلك بأيام توجهت السيدة شمسة إلى الملك طيغموس وتشفعت
عنده في الملك كفيد وقالت له: أطلقه ليرجع إلى بلاده وإن حصل منه شر أمرت أحد
الأعوان أن يخطفه ويأتيك به. فقال لها سمعاً وطاعة ثم أرسل إلى شموال أن يحضر إليه
الملك كفيد، فأتى به في السلاسل والأغلال فلما قدم عليه قبل الأرض بين يديه فأمر
الملك طيغموس أن يحلوه من تلك الأغلال فحلوه منها، ثم أركبه على فرس عرجاء وقال
له: إن الملكة شمسة قد تشفعت فيك، فاذهب إلى بلادك وإن عدت لما كنت عليه، فإنها
ترسل إليك عوناً من الأعوان فيأتي بك، فسار الملك كفيد إلى بلاده وهو في أسوأ حال.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك كفيد سار إلى
بلاده وهو في أسوأ حال، ثم إن جانشاه قعد هو وأبوه والسيدة شمسة في ألذ عيش وأهنأ
وأطيب سرور وأوفاه وكل هذا يحكيه الشاب الجالس بين القبرين لبلوقيا ثم قال له: وها
أنا جانشاه الذي رأيت هذا كله يا أخي يابلوقيا فتعجب بلوقيا من حكايته. ثم إن
بلوقيا السائح في حب محمد صلى الله عليه وسلم قال لجانشاه: يا أخي وما شأن هذين
القبرين وما سبب جلوسك بينهما وما سبب بكائك? فرد عليه جانشاه وقال له: اعلم يا
بلوقيا أننا كنا في ألذ عيش وأهنأ وأطيب سرور وأوفاه وكنا نقيم ببلادنا سنة وبقلعة
جوهر تكني سنة ولا نسير إلا ونحن جالسون فوق التخت والأعوان تحمله وتطير به بين
السماء والأرض.
فقال له بلوقيا: يا أخي يا جانشاه ما كان طول المسافة
التي بين تلك القلعة وبين بلادكم? فرد عليه جانشاه وقال له: كنا نقطع في كل يوم
مسافة ثلاثين شهراً وكنا نصل إلى القلعة في عشرة أيام ولم نزل على هذه الحالة مدة
من السنين، فاتفق أننا سافرنا على عادتنا حتى وصلنا إلى هذا المكان فنزلنا فيه
بالتخت لنتفرج فيه على هذه الجزيرة، فجلسنا على شاطئ النهر وأكلنا وشربنا. فقالت
السيدة شمسة: إني أريد أن أغتسل في هذا النهر ثم نزعت ثيابها ونزع الجواري ثيابهن
ونزلن في النهر وسبحن فيه ثم إني تمشيت على شاطئ النهر وتركت الجواري يلعبن فيه مع
السيدة شمسة، فإذا بفرس عظيم من دواب البحر ضربها في رجلها من دون الجواري، فصرخت
ووقعت ميتة من وقتها وساعتها فطلعت الجواري من النهر هاربات إلى الخيمة من ذلك
الفرس ثم إن بعض الجواري حملها وأتى بها الخيمة وهي ميتة. فلما رأيتها ميتة وقعت
مغشياً علي فرشوا وجهي بالماء فلما أفقت بكيت عليها وأمرت الأعوان أن يأخذوا التخت
ويروحوا به إلى أهلها ويعلموهم بما جرى لها فراحوا إليهم وأعلموهم بما جرى، فلم
يغب أهلها إلا قليلاً حتى أتوا هذا المكان فغسلوها وكفنوها وفي هذا المكان دفنوها
وعملوا عزاءها وطلبوا أن يأخذوني معهم إلى بلادهم فقلت لأبيها: أريد منك أن تحفر
لي حفرة بجانب قبرها واجعل تلك الحفرة قبراً لي لعلي إذا مت أدفن فيها بجانبها
فأمر الملك شهلان عوناً من الأعوان بذلك ففعل لي ما أردته ثم راحوا من عندي وخلوني
هنا أنوح وأبكي عليها وهذه قصتي وسبب قعودي بين هذين القبرين، ثم أنشد هذين
البيتين:
ما الدار مذ غبتم يا سادتـي دار كلا ولا ذلك الجار الرضي جار
ولا الأنيس الذي قد كنت أعهـده فيها أنيس ولا الأنـوار أنـوار
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من جانشاه تعجب. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما سمع هذا
الكلام من جانشاه تعجب وقال والله كنت أظن أنن سحت ودرت طائفاً في الأرض والله إني
نسيت الذي رأيته بما سمعته من قصتك ثم إنه قال لجانشاه: أريد من فضلك وإحسانك يا
أخي أن تدلني على طريق السلامة، فدله على الطريق ثم ودعه وسار وكل هذا الكلام
تحكيه ملكة الحيات لحاسب كريم الدين.
فقال لها حاسب يا ملكة الحيات أخبريني بما جرى لبلوقيا
حين عاد إلى مصر، فقالت له اعلم يا حاسب أن بلوقيا لما فارق جانشاه سار ليالي
وأياماً حتى وصل إلى بحر عظيم، ثم إنه دهن قدميه من الماء الذي معه ومشى على وجه
الماء حتى وصل إلى جزيرة ذات أشجار وأنهار كأنها الجنة ودار في تلك الجزيرة فرأى
شجرة عظيمة ورقها مثل قلوع المراكب، فقرب من تلك الشجرة، فرأى تحتها سماطاً
ممدوداً وفيه جميع الألوان الفاخرة من الطعام ورأى على تلك الشجرة طيراً عظيماً من
اللؤلؤ والزمرد الأخضر ورجلاه من الفضة ومنقاره من الياقوت الأحمر وريشه من نفيس
المعادن وهو يسبح الله تعالى ويصلي على محمد صلى الله عليه وسلم. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما طلع إلى
الجزيرة ووجدها كالجنة تمشي في جوانبها ورأى فيها من العجائب ومن جملتها الطير
الذي هو من اللؤلؤ والزمرد الأخضر وريشه من نفيس المعادن على تلك الحالة وهو يسبح
الله تعالى ويصلي على محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى بلوقيا ذلك الطائر العظيم قال له من أنت وما
شأنك فقال له أنا من طيور الجنة واعلم يا أخي أن الله تعالى أخرج آدم من الجنة
وأخرج معه أربع ورقات استتر بها فسقطن في الأرض فوحدة منهن أكلها الدود فصار منها
الحرير، والثانية أكلها الغزلان فصار منها المسك، والثالثة أكلها النحل فصار منها
العسل، والرابعة وقعت في الهند فصار منها البهار، وأما أنا فإني سحت في جميع الأرض
إلى أن من الله علي بهذا المكان فمكثت فيه وإنه في كل جمعة ويومها تأتي الأولياء
والأقطاب الذين في الدنيا هذا المكان ويزورونه ويأكلون من هذا الطعام وهو ضيافة
الله تعالى لهم يضيفهم به في كل ليلة ويومها، وبعد ذلك يرتفع السماط إلى الجنة ولا
ينقص أبداً ولا يتغير فأكل بلوقيا ولما فرغ من الأكل حمد الله تعالى فإذا الخضر
عليه السلام قد أقبل فقام بلوقيا وسلم عليه وأراد أن يذهب.
فقال له الطير اجلس يا بلوقيا في حضرة الخضر عليه السلام،
فجلس بلوقيا فقال له الخضر أخبرني بشأنك واحك لي حكايتك، فأخبره بلوقيا بجميع ما
فيه بين يدي الخضر، ثم قال له يا سيدي ما مقدار الطريق من هنا إلى مصر فقال له
مسيرة خمسة وتسعين عاماً.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام بكى ثم وقع على يد الخضر
وقبلها وقال له أنقذني من هذه الغربة وأجرك على الله لأني قد أشرفت على الهلاك وما
بقيت لي حيلة، فقال له الخضر ادع الله تعالى أن يأذن لي أن أوصلك إلى مصر قبل أن
تهلك، فبكى بلوقيا وتضرع إلى الله تعالى، فتقبل الله دعاؤه وألهم الخضر عليه
السلام أن يوصله إلى أهله.
فقال الخضر عليه السلام لبلوقيا ارفع رأسك فقد تقبل الله
دعاؤك وألهمني أن أوصلك إلى مصر فتعلق بي واقبض علي بيديك وأغمض عينيك، فتعلق
بلوقيا بالخضر عليه السلام وقبض عليه بيديه وأغمض عينيه وخطى عليه السلام خطوة ثم
قال لبلوقيا افتح عينيك، ففتح عينيه فرأى نفسه واقفاً على باب منزله ثم التفت
ليودع الخضر عليه السلام فلم يجد له أثراً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة السابعة والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما أوصله
الخضر عليه السلام إلى باب منزله فتح عينيه ليودعه فلم يجده فدخل بيته، فلما رأته
أمه صاحت صيحة عظيمة ووقعت مغشياً عليها من شدة الفرح، فرشوا على وجهها الماء حتى
أفاقت فلما أفاقت عانقته وبكت بكاء شديداً وصار بلوقيا تارة يبكي وتارة يضحك وأتاه
أهله وجماعته وجميع أصحابه وصاروا يهنؤونه بالسلامة، وشاعت الأخبار في البلاد،
وجاءته الهدايا من جميع الأقطار، ودقت الطبول وزمرت الزمور وفرحوا فرحاً شديداً.
ثم بعد ذلك حكى لهم بلوقيا حكايته وأخبرهم بجميع ما جرى
له وكيف أتى به الخضر وأوصله إلى باب منزله، فتعجبوا من ذلك وبكوا حتى ملوا من
البكاء وكال هذا تحكيه ملكة الحيات لحاسب كريم الدين، فتعجب حاسب كريم الدين من
ذلك وبكى بكاء شديداً ثم قال لملكة الحيات إني أريد الذهاب إلى بلادي، فقالت ملكة
الحيات إني أخاف يا حاسب إذا وصلت بلادك أن تنقض العهد وتحنث في اليمين الذي حلفته
وتدخل الحمام، فحلف يميناً آخر وثيقة أنه لا يدخل الحمام طول عمره فأمرت حية وقالت
لها أخرجي حاسب كريم الدين إلى وجه الأرض فأخذته الحية وسارت به إلى مكان حتى
أخرجته على وجه الأرض من سطح جب مهجور.
ثم مشى حتى وصل إلى المدينة وتوجه إلى منزله، وكان ذلك
في آخر النهار، وقت اصفرار الشمس، ثم طرق الباب فخرجت أمه وفتحت الباب، فرأت ابنها
واقفاً فلما رأته صاحت من شدة الفرح وألقت نفسها عليه وبكت فلما سمعت زوجته
بكاءها، خرجت إليها فرأت زوجها فسلمت عليه وقبلت يديه وفرح بعضهم ببعض فرحاً
عظيماً ودخل البيت وبعد ما استقر بهم الجلوس وقعد بين أهله سأل عن الحطابين الذين
كانوا معه وراحوا وخلوه في الجب فقالت له أمه أنهم أتوني وقالوا لي أن ابنك أكله
الذئب في الوادي، وقد صاروا تجاراً وأصحاب أملاك ودكاكين واتسعت عليهم الدنيا وهم
في كل يوم يجيئوننا بالأكل والشرب وهذا دأبهم إلى الآن فقال لأمه في غد روحي إليهم
وقولي لهم قد جاء حاسب كريم من سفره فتعالوا وقابلوه وسلموا عليه.
فلما أصبح الصباح راحت أمه إلى بيوت الحطابين وقالت لهم
ما وصاها به ابنها، فلما سمع الحطابون ذلك الكلام تغيرت ألوانهم وقالوا سمعاً
وطاعة، وقد أعطاها كل واحد منهم بدلة من الحرير مطرزة بالذهب، وقالوا لها أعطي
ولدك هذه ليلبسها وقولي له أنهم في غد يأتوك عندك، فقالت لهم سمعاً وطاعة، ثم رجعت
من عندهم إلى ابنها وأعلمته بذلك وبما أعطوها إياه، هذا ما كان من أمر حاسب كريم
الدين وأمه.
وأما ما كان من أمر الحطابين فإنهم جمعوا جماعة من
التجار وأعلموهم بما حصل منهم في حق حاسب كريم الدين وقالوا لهم كيف نصنع معه
الآن? فقال لهم التجار ينبغي لكل منكم أن يعطيه نصف ماله معه وذهبوا إليه جميعاً
وسلموا عليه وقبلوا يديه، وأعطوه ذلك، وقالوا له هذا من بعض إحسانك وقد صبرنا بين
يديك، فقبله منهم، وقال لهم قد راح الذي راح وهذا مقدر من الله تعالى والمقدر يغلب
المحذور فقالوا له قم بنا نتفرج في المدينة وندخل الحمام فقال لهم أنا قد صدر مني
يمين أنني لا أدخل الحمام طول عمري فقالوا قم بنا لبيوتنا حتى نضيفك فقال لهم
سمعاً وطاعة.
ثم قام وراح معهم إلى بيوتهم، وصار كل واحد منهم يضيفه
ليلة، ولم يزالوا على هذه الحالة مدة سبع ليال وقد صار صاحب أموال وأملاك ودكاكين
واجتمعت به تجار المدينة فأخبرهم بجميع ما جرى له وما رآه، وصار من أعيان التجار
ومكث على هذا الحال مدة من الزمان، فاتفق إنه خرج يوماً من الأيام يتمشى في
المدينة فرآه صاحب حمام وهو جالس على باب الحمام، ووقعت العين على العين فسلم عليه
وعانقه، وقال له تفضل علي بدخول الحمام وتكيس حتى أعمل لك ضيافة، فقال له صدر مني
يمين أنني لا أدخل الحمام مدة عمري، فحلف الحمامي وقال له نسائي الثلاث طالقات
ثلاثاً إن لم تدخل معي الحمام وتغتسل فيه فتحير حاسب كريم الدين في نفسه، وقال:
أتريد يا أخي أنك تيتم أولادي وتخرب بيتي وتجعل الخطيئة في رقبتي، فارتمى الحمامي
على رجل حاسب كريم الدين وقبلها وقال له: أنا في جيرتك أن تدخل معي الحمام وتكون
الخطيئة في رقبتي أنا واجتمع عمال الحمام وكل من فيه على حاسب كريم الدين وتداخلوا
عليه ونزعوا عنه ثيابه وأدخلوه الحمام.
فبمجرد ما دخل الحمام وقعد بجانبالحائط وسكب على رأسه من
الماء أقبل عليه عشرون رجلاً وقالوا له: قم يا أيها الرجل من عندنا فإنك غريم
السلطان وأرسلوا واحداً منهم إلى وزير السلطان، فراح الرجل وأعلم الوزير فركب
الوزير وركب معه ستون مملوكاً وساروا حتى أتوا إلى الحمام واجتمعوا بحاسب كريم
الدين، وسلم عليه الوزير ورحب به وأعطى الحمامي مائة دينار وأمر أن يقدموا لحاسب
حصاناً ليركبه، ثم ركب الوزير وحاسب وكذلك جماعة الوزير وأخذوه معهم، وساروا به
حتى وصلوا إلى قصر السلطان فنزل الوزير ومن معه ونزل حاسب كريم الدين وجلسوا في
القصر وأتوا بالسماط فأكلوا وشربوا ثم غسلوا أيديهم، وخلع عليه الوزير خلعتين كل
واحدة تساوي خمسة آلاف دينار، وقال له: اعلم أن الله قد من علينا بك ورحمنا بمجيئك
فإن السلطان كان أشرف على الموت من الجذام الذي به وقد دلت عندنا الكتب على أن
حياته على يديك فتعجب حاسب من أمرهم ثم تمشى الوزير وحاسب وخواص الدولة من أبواب
القصر السبعة، إلى أن دخلوا على الملك وكان يقال له الملك كرزدان ملك العجم، وقد
ملك الأقاليم السبعة، وكان في خدمته مائة سلطان يجلسون على كراسي من الذهب الأحمر
وعشرة آلاف بهلوان، وكل بهلوان تحت يده مائة نائب ومائة جلاد، بأيديهم السيوف
والأطيار، فوجدوا ذلك الملك نائماً ووجهه ملفوف في منديل وهو يئن من شدة الأمراض.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير شمهور أقبل
على حاسب وأجلسه على كرسي عن يمين الملك كرزدان وأحضروا السماط فأكلوا وشربوا
وغسلوا أيديهم ثم بعد ذلك قام الوزير شمهور وقام لأجله كل من في المجلس هيبة له
وتمشى إلى نحو حاسب كريم الدين وقال له: نحن في خدمتك وكل ما طلبت نعطيك ولو طلبت
نصف الملك أعطيناك إياه لأن شفاء الملك على يديك، ثم أخذه من يده وذهب به إلى
الملك، فكشف حاسب عن وجه الملك ونظر إليه فرآه في غاية المرض فتعجب من ذلك، ثم إن
الوزير نزل على يد حاسب وقبلها وقال له: نريد منك أن تداوي هذا الملك والذي تطلبه
نعطيك إياه وهذه حاجتنا عندك.
فقال حاسب: نعم إني ابن دانيال نبي الله لكنني ما أعرف
شيئاً من العلم فإنهم وضعوني في صنعة الطب ثلاثين يوماً فلم أتعلم شيئاً من تلك
الصنعة وكنت أود لو عرفت شيئاً من العلم وأداوي هذاالملك فقال الوزير: لا تطل
علينا الكلام فلو جمعنا حكماء المشرق والمغرب ما يداوي الملك إلا أنت فقال له
حاسب: كيف أداويه وأنا لا أعرف داءه ولا دواءه، قال له الوزير: إن دواء الملك
عندك، فقال له حاسب: لو كنت أعرف دواءه لداويته، فقال له الوزير: أنت تعرف دواءه
معرفة تامة فإن دواءه ملكة الحيات وأنت تعرف مكانها وكنت عندها.
فلما سمع حاسب هذا الكلام عرف أن سبب ذلك دخول الحمام
وصار يتندم حيث لا ينفعه الندم وقال لهم. كيف يكون دواءه ملكة الحيات وأنا لا أعرفها
ولا سمعت طول عمري بهذا الاسم، فقال الوزير: لا تنكر معرفتها فإن عندي دليلاً على
أنك تعرفها وأقمت عندها سنتين. فقال حاسب: أنا لا أعرفها ولارأيها ولا سمعت بهذا
الخبر إلا في هذا الوقت منكم فأحضر الوزير كتاباً وفتحه وصار يحسب، ثم قال: إن
ملكة الحيات تجتمع برجل ويمكث عندها سنتين ويرجع من عندها ويطلع على وجه الأرض
فإذا دخل الحمام تسود بطنه، ثم قال حاسب: انظر إلى بطنك فنظرإليه فرآه أسود فقال
لهم حاسب: إن بطني أسود من يوم ولدتني أمي، فقال له: أنا كنت وكلت على كل حمام
ثلاثة مماليك لأجل أن يتعهدوا كل من يدخل الحمام وينظروا إلى بطنه ويعلموني به
فلما دخلت أنت الحمام نظروا إلى بطنك فوجدوه أسود فأرسلوا إلي خبراً بذلك، وما
صدقنا أننا نجتمع بك في هذا اليوم، وما لنا عندك حاجة إلا أن ترينا الموضع الذي
طلعت منه وتروح إلى حال سبيلك ونحن نقدر على إمساك ملكة الحيات وعندنا من يأتينا
بها.
فلما سمع حاسب هذا الكلام ندم على دخول الحمام ندماً
عظيماً حيث لا ينفعه الندم، وصار الأمراء والوزراء يتداخلون على حاسب في أن يخبرهم
بملكة الحيات حتى عجزوا وهو يقول: لا رأيت هذا الأمر ولا سمعت به. فعند ذلك طلب
الوزير الجلاد فأتوه به فأمره أن ينزع ثياب حاسب عنه ويضربه ضرباً شديداً ففعل ذلك
حتى عاين الموت من شدة الضرب وبعد ذلك قال الوزير: إن عندنا دليلاً على أنك تعرف
مكان ملكة الحيات فلأي شيء أنت تنكره أرنا الموضع الذي خرجت منه وابعد عنا، وعندنا
الذي يمسكها ولا ضرر عليك ثم لاطفه وأقامه وأمر له بخلعة مزركشة بالذهب والمعادن
فامتثل حاسب لأمر الوزير وقال له: أنا أريكم الموضع الذي خرجت منه.
فلما سمع الوزير كلامه فرح فرحاً شديداً وركب هو
والأمراء جميعاً وركب حاسب كريم الدين وسار قدام العسكر ومازالوا سائرين حتى وصلوا
إلى الجبل ثم أنه دخل بهم إلى المغارة وبكى وتحسن ونزلت الأمراء والوزراء وتمشوا
وراء حاسب حتى وصلوا إلى البئر الذي طلع منه، ثم تقدم الوزير وجلس وأطلق البخور
وأقسم وتلا العزائم ونفث وهمهم لأنه كان ساحراً ماكراً كاهناً يعرف علم الروحاني
وغيره ولما فرغ من عزيمته الأولى قرأ عزيمة ثانية وعزيمة ثالثة وكلما فرغ البخور
وضع غيره على النار ثم قال. اخرجي يا ملكة الحيات، فإذا البئر قد غاض ماؤها وانفتح
فيها باب عظيم وخرج منها صراخ عظيم مثل الرعد حتى ظنوا أن تلك البئر قد انهدمت
ووقع جميع الحاضرين في الأرض مغشياً عليهم ومات بعضهم وخرج من تلك البئر حية عظيمة
مثل الفيل يطير من عينيها ومن فاها الشرر مثل الجمر وعلى ظهرها طبق من الذهب
الأحمر مرصع بالدر والجوهر وفي وسط ذلك الطبق حية تضيء المكان ووجهها كوجه إنسان
وتتكمل بأفصح لسان وهي ملكة الحيات والتفتت يميناً وشمالاً فوقع بصرها على حاسب
كريم الدين فقالت له: أين العهد الذي عاهدتني به واليمين الذي حلفته لي من أنك لا
تدخل الحمام ولكن لا تنفع حيلة في القدر والذي على الجبين مكتوب ما منه مهروب وقد
جعل الله آخر عمري على يديك وبهذا حكم الله وأراد أن أقتل أنا والملك يشفى من مرضه
ثم إن ملكة الحيات بكت بكاء شديداً وبكى حاسب لبكائها.
ولما رأى الوزير شمهور الملعون ملكة الحيات مد إليها يده
ليسمكها فقالت له: امنع يدك يا ملعون وإلا نفخت عليك وصيرتك كوم أسود، ثم صاحت على
حاسب وقالت له: تعال عندي وخذني بيدك وحطني في هذه الصينية التي معكم واحملها على
رأسك، فإن موتي على يدك مقدر من الأزل ولا حيلة لك في دفعه.
فأخذها حاسب وحطها في الصينية وحملها على رأسه وعادت
البئر كما كانت ثم ساروا وحاسب حامل الصينية التي هي على رأسه فبينما هم في أثناء
الطريق غذ قالت ملكة الحيات لحاسب كريم الدين سراً: يا حاسب اسمع ما أقوله لك من
النصيحة وإن كنت نقضت العهد وحنثت في اليمين وفعلت هذه الأفعال لأن ذلك مقدر من
الأزل. فقال لها: سمعاً وطاعة ما الذي تأمرينني به يا ملكة الحيات? فقالت له: إذا
وصلت إلى بيت الوزير فإنه يقول لك اذبح ملكة الحيات وقطعها ثلاث قطع فامتنع من ذلك
ولا تفعل وقل له: أنا ما أعرف الذبح لأجل أن يذبحني هو بيده ويعمل في ما يريد،
فإذا ذبحني وقطعني يأتيه رسول من عند الملك كرزدان ويطلبه إلى الحضور عنده فيضع
لحمي في قدر من النحاس ويضع القدر فوق الكانون قبل الذهاب إلى الملك ويقول لك:
أوقد النار على القدر حتى تطلع رغوة اللحم، فخذها وحطها في قنينة واصبر عليها حتى
تبرد واشربها فإذا شربتها لا يبقى في بدنك وجع فإذا طلعت الرغوة الثانية فحطها
عندك في قنينة ثانية حتى يجيء من عندك الملك واشربها من أجل مرض في صلبي ثم إنه
يعطيك القنينتين ويروح إلى الملك فإذا راح إليه فأوقد النار على القدر حتى تطلع
الرغوة الأولى فخذها وحطها في قنينة واحفظها عندك وإياك أن تشربها فإن شربتها لم
يحصل لك خيراً، وإذا طلعت الرغوة الثانية فحطها في القنينة الثانية واصبر حتى تبرد
واحفظها عندك حتى تشربها، فإذا جاء من عند الملك وطلب منك القنينة فأعطه الأولى
وانظر ما يجري له. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ملكة الحيات أوصت
حاسب كريم الدين بعدم الشرب من الرغوة الأولى والمحافظة على الرغوة الثانية وقالت
له: إذا رجع الوزير من عند الملك وطلب منك القنينة الثانية، فأعطه الأولى وانظر ما
يجري له ثم بعد ذلك اشرب أنت الثانية فإذا شربتها يصير قلبك بيت الحكمة، ثم بعد
ذلك اطلع اللحم وحطه في صينية من النحاس وأعط الملك إياه ليأكله فإذا أكله واستقر
في بطنه فاستر وجهه بمنديل واصبر عليه إلى وقت الظهر حتى يبرد بطنه وبعد ذلك اسقه
شيئاً من الشراب فإنه يعود صحيحاً بها وحافظ عليها كل المحافظة، وما زالوا سائرين
حتى أقبلوا على بيت الوزير.
فقال الوزير لحاسب: ادخل معي البيت فلما دخل الوزير
وحاسب وتفرق العساكر وراح كل منهم إلى حال سبيله وضع حاسب الصينية التي فيها ملكة
الحيات من فوق رأسه ثم قال له الوزير اذبح ملكة الحيات فقال له حاسب: أنا لاأعرف
الذبح وعمري ما ذبحت شيئاً فإن كان لك غرض في ذبحها فاذبحها أنت بيدك، فقام الوزير
شمهور وأخذ ملكة الحيات من الصينية التي هي فيها وذبحها. فلما رأى حاسب ذلك بكى
بكاء شديداً، فضحك شمهور ومنه وقال له: يا ذاهل العقل كيف تبكي من أجل ذبح حية،
وبعد أن ذبحها الوزير قطعها ثلاث قطع ووضعها في قدر من النحاس ووضع القدر على
النار وجلس ينتظر نضج لحمها فبينما هو جالس وإذا بمملوك أقبل من عند الملك وقال
له: إن الملك يطلبك في هذه الساعة. فقال له: سمعاً وطاعة، ثم قام وأحضر قنينتين
لحاسب وقال له: أوقد النار على هذا القدر حتى تخرج رغوة اللحم الأولى، فإذا خرجت
فاكشفها من فوق اللحم وحطها في إحدى هاتين القنينتين واصبر عليها حتى تبرد واشربها
أنت فإذا شربتها صح جسمك ولا يبقى في جسدك وجع ولا مرض وإذا طلعت الرغوة الثانية
فضعها في القنينة الأخرى واحفظها عندك حتى أرجع من عند الملك وأشربها لأن في صلبي
وجعاً عساه يبرأ إذا شربتها، ثم توجه إلى الملك بعد أن أكد على حاسب في تلك
الوصية، فصار حاسب يوقد النار تحت القدر حتى طلعت الرغوة الأولى، فكشطها وحطها في
قنينة من الاثنتين ووضعها عنده، ولم يزل يوقد النار تحت القدر حتى طلعت الرغوة
الثانية فكشطها في القنينة الأخرى وحفظها عنده، ولما استوى اللحم أنزل القدر من
فوق النار وقعد ينتظر الوزير.
فلما أقبل الوزير من عند الملك قال لحاسب: أي شيء فعلت?
فقال له حاسب: قد انقضى الشغل فقال له الوزير ما فعلت في القنينة الأولى? قال له:
شربت ما فيها في هذا الوقت فقال له الوزير: أرى جسدك لم يتغير منه شيء. فقال له
حاسب: إن جسدي من فوق إلى قدمي أحس منه بأنه يشتعل مثل النار فكتم الماكر الوزير
شمهور الأمر عن حاسب خداعاً ثم إنه قال له: هات القنينة الثانية لأشرب ما فيها
لعلي أشفى وأبرأ من هذا المرض الذي في صلبي، ثم إنه شرب ما في القنينة الأولى وهو
يظن أنها الثانية فلم يتم شربها حتى سقطت من يده وتورم من ساعته، وصح فيه قول صاحب
المثل: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
فلما رأى حاسب ذلك الأمر تعجب منه وصار خائفاً من شرب
القنينة الثانية ثم تفكر وصية الحية وقال في نفسه: لو كان ما في القنينة الثانية
مضراً ما كان الوزير اختارها لنفسه، ثم إنه قال: توكلت على الله تعالى وشرب ما
فيها ولما شربه فجر الله في قلبه ينابيع الحكمة وفتح له عين العلم وحصل له الفرح
والسرور وأخذ اللحم الذي كان في القدر ووضعه في صينية من نحاس وخرج به من بيت
الوزير ورفع رأسه إلى السماء فرأى السموات السبع وما فيهن إلى سدرة المنتهى ورأى
كيفية دوران الفلك، وكشف الله له عن جميع ذلك ورأى النجوم السيارة والثوابت، وعلم
كيفية سير الكواكب، وشاهد هيئة البر والبحر، واستيقظ من ذلك وعلم التنجيم وعلم
الهيئة وعلم الفلك وعلم الحساب وما يتعلق بذلك كله وعرف ما يترتب على الكسوف
والخسوف وغير ذلك ثم نظر إلى الأرض فعرف ما فيها من المعادن والنبات والأشجار وعلم
جميع ما لها من الخواص والمنافع واستنبط من ذلك علم الطب وعلم الكيمياء وعلم
السيمياء وعرف صنعة الذهب والفضة، ولم يزل سائراً بذلك اللحم حتى وصل إلى قصر
الملك كرزدان ودخل عليه وقبل الأرض بين يديه وقال له: تعيش رأسك في وزيرك شمهور.
فاغتاظ الملك غيظاً شديداً بسبب موت وزيره، وبكى بكاء شديداً وبكت عليه الوزراء
والأمراء وأكابر الدولة ثم بعد ذلك قال الملك كرزدان: إن الوزير شمهور كان عندي في
هذا الوقت وهو في غاية الصحة، ثم ذهب ليأتيني باللحم إن كان طبخه فما سبب موته في
هذه الساعة وأي شيء عرض له من العوارض، فحكى حاسب للملك جميع ما جرى لوزيره ثم إنه
شرب القنينة وتورم وانتفخ بطنه ومات، فحزن عليه الملك حزناً شديداً ثم قال لحاسب:
كيف حالي بعد شمهور?
فقال حاسب: لاتحمل هماً يا ملك الزمان فأنا أداويك في
ثلاثة أيام ولا أترك في جسمك شيء من الأمراض فانشرح صدر الملك كرزدان وقال لحاسب:
أنا مرادي أن أعافى من هذا البلاء ولو بعد مدة من السنين. فقام حاسب وأتى بالقدر
وحطه قدام الملك وأخذ قطعة من لحم ملكة الحيات وأطعمها للملك كرزدان وغطاه ونشر
على وجهه منديلاً وقعد عنده وأمره بالنوم فنام من وقت الظهر إلى وقت المغرب حتى
دارت قطعة اللحم في بطنه، ثم بعد ذلك أيقظه وسقاه شيئاً من الشراب، وأمره بالنوم
فنام الليل إلى وقت الصبح، ولما طلع النهار فعل معه ما فعل بالأمس حتى أطعمه القطع
الثلاث على ثلاثة أيام فقب جلد الملك وانقشر جميعه فعند ذلك عرق الملك حتى جرى
العرق من رأسه إلى قدمه وتعافى وما بقي في جسده شيء من الأمراض.
وبعد ذلك قال له حاسب: لابد من دخول الحمام، ثم أدخله
الحمام وغسل جسده وأخرجه فصار جسمه مثل قضيب الفضة، وعاد لما كان عليه من الصحة
وردت له العافية أحسن ما كانت أولاً، ثم إنه لبس أحسن ملبوسه وجلس على التخت وأذن
لحاسب كريم الدين في أن يجلس معه فجلس بجانبه ثم أمر الملك بمد السماط فمد وأكلا
وغسلا أيديهما، وبعد ذلك أمر أن يأتوا بالمشروب فأتوا بما طلب فشربا.
ثم بعد ذلك أتى جميع الأمراء والوزراء والعسكر وأكابر
الدولة وعظماء رعيته وهنوه بالعافية ودقوا الطبول وزينوا المدينة من أجل سلامة
الملك، ولما اجتمعوا عنده للتهنئة قال لهم الملك: يا معشر الوزراء والأمراء وأرباب
الدولة هذا حاسب كريم الدين داواني من مرضي اعلموا أني قد جعلته وزيراً أعظم من
مكان الوزير شمهور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال لوزرائه
وأكابر دولته أن الذي داواني من مرضي هو حاسب كريم الدين وقد جعلته وزيراً أعظم من
مكان الوزير شمهور، فمن أحبه قد أحبني ومن أكرمه فقد أكرمني ومن أطاعه فقد أطاعني.
فقالوا له جميعاً: سمعاً وطاعة ثم قاموا كلهم وقبلوا يد حاسب كريم الدين وسلموا
عليه وهنوه بالوزارة ثم بعد ذلك خلع عليه خلعة سنية منسوجة بالذهب الأحمر مرصعة
بالدر والجوهر أقل جوهرة فيها تساوي خمسة آلاف دينار وأعطاه ثلاثمائة مملوك،
وثلاثمائة سرية تضيء مثل الأقمار، وثلاثمائة جارية من الجيش وخمسمائة بغلة محملة
من المال، وأعطاه من المواشي والغنم والجاموس والبقر ما يكل عنه الوصف.
وبعد هذا كله أمر وزراءه وأمراءه وأرباب دولته وأكابر
مملكته وعموم رعيته أن يهادوه ثم ركب حاسب كريم الدين وركبت خلفه الوزراء والأمراء
وأرباب الدولة وجميع العساكر وساروا إلى بيته الذي أخلاه له الملك ثم جلس على كرسي
وتقدمت إليه الأمراء والوزراء وقبلوا يده وهنوه بالوزارة وجاء أهله وهنوه بالسلامة
والوزارة وفرحوا به فرحاً شديداً ثم بعد ذلك أقبل عليه أصحابه الحطابون وهنوه
بالوزارة، وبعد ذلك ركب وسار حتى وصل إلى قصر الوزير شمهور فختم على بيته ووضع يده
على ما فيه. ثم نقله إلى بيته وبعد أن كان لا يعرف شيئاً من العلوم، ولاقراءة الخط
صار عالماً بجميع العلوم بقدرة الله تعالى، وانتشر علمه وشاعت حكمته في جميع
البلاد واشتهر بالتبحر في علم الطب والهيئة والهندسة والتنجيم والكيمياء والسيمياء
والروحاني وغير ذلك من العلوم، ثم إنه قال لأمه يوماً من الأيام: يا والدتي إن أبي
دانيال كان عالماً فاضلاً فأخبريني بما خلفه من الكتب وغيرها. فلما سمعت أمه كلامه
أتته بالصندوق الذي كان أبوه قد وضع فيه الورقات الخمس الباقية من الكتب التي غرقت
في البحر وقالت له: ما خلف أبوك شيء من الكتب إلا الورقات الخمس التي في هذا
الصندوق ففتح الصندوق وأخذ منه الورقات الخمس وقرأها وقال لها: يا أمي إن هذه
الأوراق من جملة كتاب وأين بقيته? فقالت له: إن أباك كان قد سافر بجميع كتبه إلى
البحر فانكسر به المركب وغرقت كتبه ونجاه الله من الغرق ولم يبق من كتبه إلا هذه
الورقات الخمس ولما جاء أبوك من السفر كنت حاملاً بك، فقال لي ربما تلدين ذكراً فخذي
هذه الأوراق واحفظيها عندك، فإذا كبر الغلام وسأل عن تركتي فأعطيه إياها وقولي له:
إن أباك لم يخلف غيرها وهذه هي، ثم إن حاسباً كريم الدين تعلم جميع العلوم، ثم بعد
ذلك قعد في أكل وشرب وأطيب معيشة وأرغد عيش إلى أن أتاه هادم اللذات ومفرق
الجماعات، وهذا آخر ما انتهى إلينا من حديث حاسب بن دانيال رحمه الله تعالى والله
أعلم.
حكاية السندباد
قالت: بلغني أنه كان في زمن الخليفة أمير المؤمنين هارون
الرشيد بمدينة بغداد رجل يقال له السندباد الحمال، وكان رجلاً فقير الحال يحمل
تجارته على رأسه فاتفق له أنه حمل في يوم من الأيام حملة ثقيلة، وكان ذلك اليوم
شديد الحر فتعب من تلك الحملة وعرق واشتد عليه الحر، فمر على باب رجل تاجر قدامه
كنس ورش وهناك هواء معتدل، وكان بجانب الباب مصطبة عريضة فحط الحمال حملته على تلك
المصطبة ليستريح ويشم الهواء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحمال لما حط حملته
على تلك المصطبة ليستريح ويشم الهواء خرج عليه من ذلك الباب نسيم رائق ورائحة
ذكية، فاستلذ الحمال لذلك وجلس على جانب المصطبة، فسمع في ذلك المكان نغم أوتار
وعود وأصوات مطربة وأنواع إنشاد معربة، وسمع أيضاً أصوات طيور تناغي وتسبح الله
تعالى باختلاف الأصوات وسائر اللغات، من قماري وهزار وشحارير وبلابل وفاخت وكروان.
فعند ذلك تعجب من نفسه وطرب طرباً شديداً، فتقدم إلى ذلك
فوجد داخل البيت بستاناً عظيماً. ونظر فيه غلماناً وعبيداً وخداماً وحشماً وشيئاً
لا يوجد إلا عند الملوك والسلاطين وبعد ذلك هبت عليه رائحة أطعمة طيبة ذكية من
جميع الألوان المختلفة والشراب الطيب فرفع طرفه إلى السماء وقال: سبحانك يا رب، يا
خالق، يا رزاق، ترزق من تشاء بغير حساب اللهم إني أستغفرك من جميع الذنوب وأتوب
إليك من العيوب يا رب لا أعترض عليك في حكمك وقدرتك فإنك لا تسأل عما تفعل وأنت
على كل شيء قدير سبحانك تغني من تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء لا إله إلا أنت ما
أعظم شأنك وما أقوى سلطانك وما أحسن تدبيرك، قد أنعمت على من تشاء من عبادك فهذا
المكان صاحبه في غاية النعمة، وهو متلذذ بالروائح اللطيفة والمآكل اللذيذه،
والمشارب الفاخرة في سائر الصفات وقد حكمت في خلقك بما تريد وما قدرته عليهم،
فمنهم تعبان ومنهم مستريح ومنهم سعيد ومنهم من هو مثلي في غاية التعب والذل، وأنشد
يقول:
فكم من شـقـي بـلا راحة ينعم في خير فـيء وظـل
وأصبحت فـي تـعـب زائد وأمري عجيب وقد زاد حملي
وغيري سعيد بـلا شـقـوة وما حمل الدهر يوماً كحملي
ينـعـم فـي عـيشة دائمـاً ببسط وعز وشـرب وأكـل
وكل الخلائق مـن نـطـفة أنا مثل هذا وهذا كمثـلـي
ولكن شتـان مـا بـينـنـا وشتان بين خـمـر وخـل
ولست أقول عليك افـتـراء فأنت حكيم حكمت بـعـدل
فلما فرغ السندباد الحمال من شعره ونظمه أراد أن يحمل
حملته ويسير، إذ قد طلع عليه من ذلك الباب، غلام صغير السن حسن الوجه مليح القد
فاخر الملابس فقبض على يد الحمال، وقال له: ادخل كلم سيدي فإنه يدعوك، فأراد
الحمال الامتناع عن الدخول مع الغلام فلم يقدر على ذلك، فحط حملته عند الباب في
وسط المكان ودخل مع الغلام داخل الدار فوجد داراً مليحة وعليها أنس ووقار ونظر إلى
مجلس عظيم، فنظر فيه من السادات الكرام والموالي العظام، وفيه من جميع أصناف الزهر
وجميع أصناف المشموم ومن أنواع النقل والفواكه وشيء كثير من أصناف الأطعمة النفيسة
وفيه مشروب من خواص دوالي الكروم، وفيه آلات السماع والطرب من أصناف الجواري
الحسان كل منهن في مقامه على حسب الترتيب. وفي صدر ذلك المجلس رجل عظيم محترم قد
لكزه الشيب في عوارضه وهو مليح الصورة حسن المنظر وعليه هيبة ووقار وعز وافتخار
فعند ذلك بهت السندباد الحمال وقال في نفسه: والله إن هذا المكان من بقع الجنان أو
أنه يكون قصر ملك أو سلطان، ثم تأدب وسلم عليهم وقبل الأرض بين أيديهم ووقف وهو
منكس رأسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد الحمال لما
قبل الأرض بين أيديهم وقف منكس الرأس متخشع فأذن له صاحب المكان بالجلوس فجلس وقد
قربه إليه وصار يؤانسه بالكلام ويرحب به، ثم إنه قدم له شيئاً من أنواع الطعام
المفتخر الطيب النفيس فتقدم السندباد الحمال وسمى وأكل حتى اكتفى وشبع وقال: الحمد
لله على كل حال ثم إنه غسل يديه وشكرهم على ذلك.
فقال صاحب المكان: مرحبا بك ونهارك مبارك فما يكون اسمك
وما تعاني من الصنائع? فقال له: يا سيدي اسمي السندباد الحمال وأنا أحمل على رأسي
أسباب الناس بالأجرة، فتبسم صاحب المكان وقال له: اعلم يا حمال أن اسمك مثل اسمي
فأنا السندباد البحري ولكن يا حمال قصدي أن تسمعني الأبيات التي كنت تنشدها وأنت
على الباب، فاستحى الحمال وقال له: بالله عليك لا تؤاخذني فإن التعب والمشقة وقلة
ما في اليد تعلم الإنسان قلة الأدب والسفه. فقال له: لا تستحي فأنت صرت أخي فانشد
هذه الأبيات فإنها أعجبتني لما سمعتها منك وأنت تنشدها على الباب فعند ذلك أنشده
الحمال تلك الأبيات فأعجبته وطرب لسماعها وقال له: اعلم أن لي قصة عجيبة وسوف
أخبرك بجميع ما صار لي وما جرى لي من قبل أن أصير في هذه السعادة واجلس في هذا
المكان الذي تراني فيه فإني ما وصلت إلى هذه السعادة وهذا المكان، إلا بعد تعب
شديد ومشقة عظيمة وأهوال كثيرة، وكم قاسيت في الزمن الأول من التعب والنصب وقد
سافرت سبع سفرات وكل سفرة لها حكاية تحير الفكر وكل ذلك بالقضاء والقدر وليس من المكتوب
مفر ولا مهروب.
الحكاية الأولى من حكايات السندباد البحري
وهي أول السفرات
اعلموا يا سادة يا كرام، أنه كان لي أب تاجر وكان من
أكابر الناس والتجار وكان عنده مال كثير ونوال جزيل وقد مات وأنا ولد صغير وخلف لي
مالاً وعقاراً وضياعاً فلما كبرت وضعت يدي على الجميع وقد أكلت أكلاً مليحاً وشربت
شرباً مليحاً وعاشرت الشباب وتجملت بلبس الثياب ومشيت مع الخلان والأصحاب واعتقدت
أن ذلك يدوم لي وينفعني، ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان ثم إني رجعت إلى
عقلي وأفقت من غفلتي فوجدت مالي قد مال وحالي قد حال وقد ذهب جميع ما كان عندي،
ولم أستفق لنفسي إلا وأنا مرعوب مدهوش، وقد تفكرت حكاية كنت أسمعها سابقاً وهي
حكاية سيدنا سليمان بن داود عليه السلام في قوله: ثلاثة خير من ثلاثة، يوم الممات
خير من يوم الولادة، وكلب حي خير من سبع ميت والقبر خير من القصر. ثم إني قمت وجمع
ما كان عندي من أثاث وملبوس وبعته ثم بعت عقاري وجميع ما تملك يدي، فجمعت ثلاثة
آلاف درهم وقد خطر ببالي السفر إلى بلاد الناس وتذكرت كلام بعض الشعراء حيث قال:
بقدر الكد تكتسب المـعـالـي ومن طلب العلا سهر الليالي
يغوص البحر من طلب اللآلئ ويحظى بالسـيادة والـنـوال
ومن طلب العلا من غير كـد أضاع العمر في طلب المحال
فعند ذلك هممت فقمت واشتريت لي بضاعة ومتاعاً وأسباباً
وشيئاً من أغراض السفر وقد سمحت لي نفسي بالسفر في البحر فنزلت المركب وانحدرت إلى
مدينة البصرة مع جماعة من التجار وسرنا في البحر أياماً وليالي وقد مررنا بجزيرة
بعد جزيرة ومن بحر إلى بحر ومن بر إلى بر وفي كل مكان مررنا به نبيع ونشتري ونقايض
بالبضائع فيه، وقد انطلقنا في سير البحر إلى أن وصلنا إلى جزيرة كأنها روضة من
رياض الجنة فأرسى بنا صاحب المركب على تلك الجزيرة ورمى مراسيها وشد السقالة فنزل
جميع من كان في المركب في تلك الجزيرة وعملوا لهم كوانين وأوقدوا فيها النار
واختلفت أشغالهم، فمنهم من صار يطبخ ومنهم من صار يغسل ومنهم من صار يتفرج، وكنت
أنا من جملة المتفرجين في جوانب الجزيرة.
وقد اجتمع الركاب على أكل وشرب ولهو ولعب، فبينما نحن
على تلك الحالة وإذا بصاحب المركب واقف على جانبه وصاح بأعلى صوته: يا ركاب
السلامة أسرعوا واطلعوا إلى المركب وبادروا إلى الطلوع واتركوا أسبابكم واهربوا
بأرواحكم وفوزوا بسلامة أنفسكم من الهلاك فإن هذه الجزيرة التي أنتم عليها ما هي
جزيرة وإنما هي سمكة كبيرة رست في وسط البحر فبنى عليها الرمل فصارت مثل الجزيرة
وقد نبتت عليها الأشجار من قديم الزمان فلما وقدتم عليها النار أحست بالسخونة
فتحركت، وفي هذا الوقت تنزل بكم في البحر فتغرقون جميعاً فاطلبوا النجاة لأنفسكم
قبل الهلاك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ريس المركب لما صاح
على الركاب وقال لهم: اطلبوا النجاة لأنفسكم واتركوا الأسباب ولما سمع الركاب كلام
ذلك الريس، أسرعوا وبادروا بالطلوع إلى المركب، وتركوا الأسباب وحوائجهم ودسوتهم
وكوانينهم فمنهم من لحق المركب ومنهم من لم يلحقه وقد تحركت تلك الجزيرة ونزلت إلى
قرار البحر بجميع ما كان عليها وانطبق عليها البحر العجاج المتلاطم بالأمواج وكنت
من جملة من تخلف في الجزيرة، فغرقت في البحر مع جملة من غرق، ولكن الله تعالى
أنقذني ونجاني من الغرق ورزقني بقطعة خشب كبيرة من القطع التي كانوا يغسلون فيها
فمسكتها بيدي وركبتها من حلاوة الروح ورفست في الماء برجلي مثل المجاذيف والأمواج
تلعب بي يميناً وشمالاً.
وقد نشر الريس قلاع المركب وسافربالذين طلع بهم في
المركب ولم يلتفت لمن غرق منهم ومازلت أنظر إلى ذلكالمركب حتى خفي عن عيني وأيقنت
بالهلاك ودخل علي الليل وأنا على هذه الحالة فمكثت على ما أنا فيه يوماً وليلة وقد
ساعدني الريح والأمواج إلى أن رست بي تحت جزيرة عالية وفيها أشجار مطلة على البحر
فمسكت فرعاً من شجرة عالية وتعلقت به بعدما أشرفت على الهلاك وتمسكت به إلى أن
طلعت إلى الجزيرة، فوجدت في رجلي خدلاً وأثر أكل السمك في بطونهما، ولم أشعر بذلك
من شدة ما كنت فيه من الكرب والتعب وقد ارتميت في الجزيرة وأنا مثل الميت وغبت عن
وجودي وغرقت في دهشتي ولم أزل على هذه الحالة إلى ثاني يوم. وقد طلعت الشمس علي
وانتبهت في الجزيرة فوجدت رجلي قد ورمتا، فسرت حزيناً على ما أنا فيه، فتارة أزحف
وتارة أحبو على ركبي وكان في الجزيرة فواكه كثيرة وعيون ماء عذب، فصرت آكل من تلك
الفواكه ولم أزل على هذه الحالة مدة أيام وليال فانتعشت نفسي وردت لي روحي وقويت
حركتي وصرت أتفكر وأمشي في جانب الجزيرة وأتفرج بين الأشجار مما خلق الله تعالى.
وقد عملت لي عكازاً من تلك الأشجار أتوكأ عليه، ولم أزل على هذه الحالة إلى أن
تمشيت يوماً من الأيام في جانب الجزيرة، فلاح لي شبح من بعيد فظننت أنه وحش أو أنه
دابة من دواب البحر، فتمشيت إلى نحوه ولم أزل أتفرج عليه وإذا هو فرس عظيم المنظر
مربوط في جانب الجزيرة على شاطئ البحر فدنوت منه فصرخ علي صرخة عظيمة فارتعبت منه
وأردت أن أرجع وإذا برجل خرج من تحت الأرض وصاح علي واتبعني وقال لي: من أنت ومن
أين جئت وما سبب وصولك إلى هذا المكان? فقلت له: يا سيدي اعلم أني رجل غريب وكنت
في مركب وغرقت أنا وبعض من كان فيها، فرزقني الله بقطعة خشب فركبتها وعامت بي إلى
أن رمتني الأمواج في هذه الجزيرة.
فلما سمع كلامي أمسكني من يدي وقال لي: امش معي فنزل بي
في سرداب تحت الأرض، ودخل بي إلى قاعة كبيرة تحت الأرض وأجلسني في صدر تلك القاعة
وجاء لي بشيء من الطعام، وأنا كنت جائعاً فأكلت حتى شبعت واكتفيت وارتاحت نفسي، ثم
إنه سألني عن حالي وما جرى لي فأخبرته بجميع ما كان من أمري من المبتدأ إلى
المنتهى فتعجب من قصتي.
فلما فرغت من حكايتي قلت: بالله عليك ياسيدي لا تؤاخذني،
فأنا قد أخبرتك بحقيقة حالي وما جرى لي، وأنا أشتهي منك أن تخبرني من أنت وما سبب
جلوسك في هذه القاعة التي تحت الأرض، وما سبب ربطك هذه الفرس على جانب البحر.
فقال لي اعلم أننا جماعة متفرقون في هذه الجزيرة على
جوانبها ونحن سياس الملك المهرجان وتحت أيدينا جميع خيوله، وفي كل شهر عند القمر
نأتي بالخيل الجياد ونربطها في هذه الجزيرة من كل بكر، ونختفي في هذه القاعة تحت
الأرض حتى لا يرانا أحد، فيجيء حصان من خيول البحر على رائحة تلك الخيل ويطلع على
البر فلم ير أحداً، فيثب عليها ويقضي منها حاجته وينزل عنها ويريد أخذها معه، فلا
تقدر أن تسير معه من الرباط فيصيح عليه ويضربها برأسه ورجليه ويصيح فنسمع صوته
فنعلم أنه نزل عنها فنطلع صارخين عليه فيخاف وينزل البحر والفرس تحمل وتلد مهراً
أو مهرة تساوي خزنة مال ولا يوجد لها نظير على وجه الأرض، وهذا وقت طلوع الحصان
وإن شاء الله تعالى آخذك معي إلى الملك المهرجان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السايس قال للسندباد
البحري آخذك معي إلى الملك المهرجان وأفرجك على بلادنا، واعلم أنه لولا اجتماعك
علينا ما كنت ترى أحداً في هذا المكان غيرنا وكنت تموت كمداً ولا يدري بك أحد ولكن
أنا أكون سبب حياتك ورجوعك إلى بلادك فدعوت له وشكرته على فضله وإحسانه، فبينما
نحن في هذا الكلام وإذا بالحصان قد طلع من البحر وصرخ صرخة عظيمة، ثم وثب على
الفرس فلما فرغ منها نزل عنها وأراد أخذها معه فلم يقدر ورفست وصاحت عليه فأخذ
الرجل السايس سيفاً بيده ودرقة وطلع من باب تلك القاعة، وهو يصيح على رفقته ويقول
اطلعوا إلى الحصان ويضرب بالسيف على الدرقة، فجاء جماعة بالرماح صارخين فجفل منهم
الحصان وراح إلى حال سبيله ونزل في البحر مثل الجاموس، وغاب تحت الماء.
فعند ذلك جلس الرجل قليلاً، وإذا هو بأصحابه قد جاؤه ومع
كل واحد فرس يقودها فنظروني عنده فسألوني عن أمري فأخبرتهم بما حكيته لو وقربوا
مني ومدوا السماط وأكلوا وعزموني فأكلت معهم، ثم إنهم قاموا وركبوا الخيول وأخذوني
إلى مدينة الملك المهرجان، وقد دخلوا عليه وأعلموه بقصتي فطلبني فأدخلوني عليه وأوقفوني
بين يديه فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي وحياني بإكرام وسألني عن حالي،
فأخبرته بجيع ما حصل لي وبكل ما رأيته من المبتدأ إلى المنتهى.
فعند ذلك تعجب مما وقع لي ومما جرى لي، فعند ذلك قال لي
يا ولدي والله لقد حصل لك مزيد السلامة ولولا طول عمرك ما نجوت من هذه الشدائد
ولكن الحمد لله على السلامة، ثم إنه أحسن إلي وأكرمني وقربني إليه وصار يؤانسني
بالكلام والملاطفة وجعلني عنده عاملاً في ميناء البحر وكاتباً على كل مركب عبر إلى
البر وصرت واقفاً عنده لأقضي له مصالحه وهو يحسن إلي وينفعني من كل جانب، وقد
كساني كسوة مليحة فاخرة، وصرت مقدماً عنده في الشفاعات وقضاء مصالح الناس ولم أزل
عنده مدة طويلة.
وأنا كلما اشق على جانب البحر، اسأل التجار والمسافرين
والبحريين عن ناحية مدينة بغداد لعل أحداً يخبرني عنها فأروح معه إليها وأعود إلى
بلادي فلم يعرفها أحد ولم يعرف من يروح إليها، وقد تحيرت في ذلك وسئمت من طول
الغربة، ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان إلى أن جئت يوماً من الأيام ودخلت
على الملك المهرجان فوجدت عنده جماعة من الهنود، فسلمت عليهم فردوا علي السلام
ورحبوا بي، وقد سألوني عن بلادي فذكرتها لهم وسألتهم عن بلادهم ذركوا لي أنهم
أجناس مختلفة فمنهم الشاركية وهم أشرف أجناسهم لا يظلمون أحداً ولا يقهرونه.
ومنهم جماعة تسمى البراهمة وهم قوم لا يشربون الخمر
أبداً، وإنما هم أصحاب حظ وصفاء ولهو وطرب وجمال وخيول ومواشي، وأعلموني أن صنف
الهنود يفترق على اثنين وسبعين فرقة فتعجبت من ذلك غاية العجب.
ورأيت في مملكة المهرجان جزيرة من جملة الجزائر، يقال
لها كابل يسمع فيها ضرب الدفوف والطبول طول الليل، وقد أخبرنا أصحاب الجزائر
والمسافرين أنهم أصحاب الجد والرأي. ورأيت في البحر سمكة طولها مائتا ذراع ورأيت
أيضاً سمكاً وجهه مثل وجه البوم ورأيت في تلك السفرة كثيراً من العجائب والغرائب
مما لو حكيته لكم لطال شرحه ولم أزل أتفرج على تلك الجزائر وما فيها، إلى أن وقفت
يوماً من الأيام على جانب البحر وفي يدي عكاز حسب عاداتي وإذا بمركب قد أقبل وفيه
تجار كثيرون.
فلما وصل إلى ميناء المدينة وفرضته، وطوى الريس قلوعه
وأرسله على البر ومد السقالة واطلع البحرية جميع ما كان في ذلك المركب إلى البر،
وأبطأوا في تطليعه وأنا واقف أكتب عليهم، فقلت لصاحب المركب هل بقي في مركبك شيء
فقال نعم يا سيدي معي بضائع في بطن المركب ولكن صاحبها غرق معنا في البحر في بعض
الجزائر ونحن قادمون في البحر، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الريس قال للسندباد
البحري أن صاحب هذه البضائع غرق وصارت بضائعه معنا، فغرضنا أننا نبيعها ونأخذ
ثمنها لأجل أن نوصله إلى أهله في مدينة بغداد دار السلام، فقلت للريس ما يكون اسم
ذلك الرجل صاحب البضائع، فقال اسمه السندباد البحري وقد غرق معنا في البحر.
فلما سمعت كلامه حققت النظر فيه فعرفته وصرخت عليه صرخة
عظيمة وقلت يا ريس اعلم أني أنا صاحب البضائع التي ذكرتها وأنا السندباد البحري
الذي نزلت من المركب في الجزيرة مع جملة من نزل من التجار ولما تحركت السمكة التي
كنا عليها وصحت أتت علينا طلع من طلع وغرق الباقي وكنت أنا من جملة من غرق ولكن
الله تعالى سلمني ونجاني من الغرق بقطعة كبيرة من القطع التي كان الركاب يغسلون
فيها. فركبتها وصرت أرفس برجلي وساعدني الريح والموج إلى أن وصلت إلى هذه الجزيرة
فطلعت فيها وأعانني الله تعالى بسياس الملك المهرجان فأخبرته بقصتي فأنعم علي
وجعلني كاتباً على ميناء هذه المدينة، فصرت أنتفع بخدمته وصار لي عنده قبول وهذه
البضائع التي معك بضائعي ورزقي قال الريس لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ما بقي لأحد أمانة ولا ذمة فقلت له يا ريس ما سبب ذلك وأنك سمعتني أخبرتك بقصتي
فقال الريس لأنك سمعتني أقول أن معي بضائع صاحبها غرق فتريد أن تأخذها بلا حق وهذا
حرام عليك، فإننا رأيناه لما غرق وكان معه جماعة من الركاب كثيرون وما نجا منهم
أحد فكيف تدعي أنك أنت صاحب البضائع.
فقلت له يا ريس اسمع قصتي وافهم كلامي يظهر لك صدقي، فإن
الكذب سيمة المنافقين ثم إني حكيت للريس جميع ما كان مني من حين خرجت معه من مدينة
بغداد إلى أن وصلنا تلك الجزيرة التي غرقنا فيها، وأخبرته ببعض أحوال جرت بيني
وبينه، فعند ذلك تحقق الريس والتجار من صدقي فعرفوني وهنوني بالسلامة، وقالوا
جميعاً والله ما كنا نصدق بأنك نجوت من الغرق ولكن رزقك الله عمراً جديداً ثم إنهم
أعطوني البضائع فوجدت اسمي مكتوباً عليها ولم ينقص منها شيء، ففتحتها وأخرجت منها
شيئاً نفيساً غالي الثمن وحملته معي بحرية المركب وطلعت به إلى الملك على سبيل
الهدية، وأعلمت الملك بأن هذا المركب الذي كنت فيه وأخبرته أن بضائعي وصلت إلي
بالتمام والكمال وأن هذه الهدية منها.
فتعجب الملك من ذلك الأمر غاية العجب، وظهر له صدقي في
جميع ما قلته وقد أحبني محبة شديدة وأكرمني إكراماً زائداً ووهب لي شيئاً كثيراً
في نظير هديتي ثم بعت حمولتي وما كان معي من البضائع وكسبت فيها شيئاً كثيراً
واشتريت بضاعة وأسباباً ومتاعاً من تلك المدينة.
ولما أراد تجار المركب السفر، شحنت جميع ما كان معي في
المركب ودخلت عند الملك وشكرته على فضله وإحسانه، ثم استأذنته في السفر إلى بلادي
وأهلي فودعني وأعطاني شيئاً كثيراً عند سفري من متاع تلك المدينة فودعته ونزلت
المركب وسافرنا بإذن الله تعالى، وخدمنا السعد وساعدتنا المقادير ولم نزل مسافرين
ليلاً ونهاراً إلى أن وصلنا بالسلامة إلى مدينة البصرة وطلعنا إليها وأقمنا فيها
زمناً قليلاً وقد فرحت بسلامتي وعودتي إلى بلادي.
وبعد ذلك توجهت إلى مدينة بغداد دار السلام ومعي الحمول
والمتاع والأسباب شيء كثير له قيمة عظيمة ثم جئت إلى حارتي ودخلت بيتي وقد جاء
جميع أهلي وأصحابي ثم إني اشتريت لي خدماً وحشماً ومماليك وسراري وعبيداً حتى صار
عندي شيء كثير، واشتريت لي دوراً وأماكن وعقاراً أكثر من الأول ثم إني عاشرت
الأصحاب ورافقت الخلان وصرت أكثر مما كنت عليه في الزمن الأول ونسيت جميع ما كنت
قاسيت من التعب والغربة والمشقة وأهوال السفر واشتغلت باللذات والمسرات والمآكل
الطيبة والمشارب النفيسة، ولم أزل على هذه الحالة. وهذا ما كان في أول سفراتي، وفي
غد إن شاء الله تعالى أحكي لكم الثانية من السبع سفرات.
ثم إن السندباد البحري عشى السندباد البري عنده وأمر له
بمائة مثقال ذهباً وقال له آنستنا في هذا النهار، فشكره الحمال وأخذ معه ما وهبه
له وانصرف إلى حال سبيله، وهو متفكر فيما يقع وما يجري للناس ويتعجب غاية العجب
ونام تلك الليلة في منزله.
ولما أصبح الصباح جاء إلى بيت السندباد البحري ودخل عنده
فرحب به وأكرمه وأجلسه عنده ولما حضر بقية أصحابه قدم لهم الطعام والشراب وقد صفا
لهم الوقت وحصل لهم الطرب، فبدأ السندباد البحري بالكلام وقال اعلموا يا إخواني
أنني كنت في ألذ عيش وأصفى سرور على ما تقدم ذكره لكم بالأمس. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتت عن الكلام المباح.
الحكاية الثانية من حكايات السندباد البحري
وهي السفرة الثانية
وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
اجتمع عنده أصحابه قال لهم إني كنت في ألذ عيش إلى أن خطر ببالي يوماً من الأيام
السفر إلى بلاد الناس واشتاقت نفسي إلى التجارة والتفرج في البلدان والجزر واكتساب
المعاش، فهممت في ذلك الأمر وأخرجت من مالي شيئاً كثيراً اشتريت به بضائع وأسباباً
تصلح للسفر وحزمتها وجئت إلى الاسحل فوجدت مركباً مليحاً جديداً، وله قلع قماش
مليح وهو كثير الرجال زائد العدة وأنزلت حمولتي فيه أنا وجماعة من التجار وقد
سافرنا في ذلك النهار وطاب لنا السفر ولم نزل من بحر إلى بحر ومن جزيرة إلى جزيرة
وكل محل رسونا عليه نقابل التجار وأرباب الدولة والبائعين والمشترين، ونبيع ونشتري
ونقايض بالبضائع فيه.
ولم نزل على هذه الحالة إلى أن ألقتنا المقادير على
جزيرة كثيرة الأشجار يانعة الأثمار فائحة الأزهار مترنمة الأطيار صافية الأنهار ولكن
ليس بها ديار ولا نافخ نار فأرسى بنا الريس على تلك الجزيرة، وقد طلع التجار
والركاب إلى تلك الجزيرة، يتفرجون على ما بها من الأشجار والأطيار ويسبحون الله
الواحد القهار ويتعجبون من قدرة الملك الجبار فعند ذلك طلعت إلى الجزيرة مع جملة
من طلع وجلست على عين ماء صاف بين الأشجار وكان معي شيء من المأكل فجلست في هذا
المكان آكل ما قسم الله تعالى لي وقد طاب النسيم بذلك المكان وصفا لي الوقت
فأخذتني سنة من النوم فارتحت في ذلك المكان وقد استغرقت في النوم وتلذذت بذلك
النسيم الطيب والروائح الزكية ثم إني قمت فلم أجد أحداً لا من التجار ولا من
البحرية فتركوني في الجزيرة وقد التفت فيها يميناً وشمالاً فلم أجد بها أحد غيري،
فحصل عندي قهر شديد ما عليه من مزيد وكادت مرارتي تنفقع من شدة ما أنا فيه من الغم
والحزن والتعب ولم يكن معي شيء من حطام الدنيا ولا من المأكل ولا من المشرب وصرت
وحيداً، وقد تعبت في نفسي ويئست من الحياة وبعد ذلك قمت على حيلي وتمشيت في
الجزيرة يميناً وشمالاً وصرت لا أستطيع الجلوس في محل واحد ثم إني صعدت على شجرة
عالية وصرت أنظر من فوقها يميناً وشمالاً فلم أر غير سماء وماء وأشجار وأطيار وجزر
ورمال ثم حققت النظر فلاح لي في الجزيرة شيء أبيض عظيم الخلقة فنزلت من فوق الشجرة
وقصدته وصرت أمشي إلى ناحيته، ولم أزل سائراً إلى أن وصلت غليه، وإذا به قبة كبيرة
بيضاء شاهقة فيالعلو كبيرة الدائرة فدنوت منها ودرت حولها، فلم أجد لها باباً ولم
أجد لي قوة ولا حركة في الصعود عليها من شدة النعومة فعلمت مكان وقوفي ودرت حول
القبة أقيس دائرتها فإذا هي خمسون خطوة وافية، فصرت متفكراً في الحيلة الموصلة إلى
دخولها وقد قرب زوال النهار وغروب الشمس وإذا بالشمس قد خفيت والجو قد أظلم
واحتجبت الشمس عني، ظننت أنه جاء على الشمس غمامة وكان ذلك في زمن الصيف فتعجبت
ورفعت رأسي وتأملت في ذلك فرأيت طيراً عظيم الخلقة كبير الجثة عريض الأجنحة طائراً
في الجو وهو الذي غطى عين الشمس وحجبها عن الجزيرة فازددت من ذلك عجباً ثم إني
تذكرت حكاية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
زاد تعجبه من الطائر الذي رآه في الجزيرة تذكر حكاية أخبره بها قديماً أهل السياحة
والمسافرون، وهي أن في بعض الجزائر طيراً عظيماً يقال له الرخ يزق أولاده بالأفيال
فتحققت أن القبة التي رأيتها إنما هي بيضة من بيض الرخ ثم إني تعجبت من خلق الله
تعالى فبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذلك الطير نزل على تلك القبة وحضنها
بجناحيه وقد مد رجليه من خلفه على الأرض ونام عليها فسبحان من لا ينام فعند ذلك
فككت عمامتي من فوق رأسي وثنيتها وفتلتها حتى صارت مثل الحبل وتحزمت بها وشددت
وسطي وربطت نفسي في رجلي ذلك الطير وشددتها شداً وثيقاً وقلت في نفسي لعل هذا
يوصلني إلى بلاد المدن والعمار ويكون ذلك أحسن من جلوسي في هذه الجزيرة وبت تلك
الليلة ساهراً خوفاً من أن أنام فيطير بي على حين غفلة.
فلما طلع الفجر وبان الصباح قام الطائر من على بيضته
وصاح صيحة عظيمة وارتفع بي إلى الجو حتى ظننت أنه وصل إلى عنان السماء وبعد ذلك
تنازل بي حتى نزل إلى الأرض وحط على مكان مرتفع عال، فلما وصلت إلى الأرض أسرعت
وفككت الرباط من رجليه وأنا أنتفض، مشيت في ذلك المكان ثم إنه أخذ شيئاً من على
وجه الأرض في مخالبه وطار إلى عنان السماء فتأملته فإذا هو حية عظيمة الخلقة كبيرة
الجسم قد أخذها وذهب بها إلى البحر فتعجبت من ذلك ثم إني تمشيت في ذلك المكان
فوجدت نفسي في مكان عال وتحته واد كبير واسع عميق، وبجانبه جبل عظيم شاهق في العلو
لا يقدر أحد أن يرى أعلاه من فرط علوه، وليس لأحد قدرة على الطلوع فوقه فلمت نفسي
على ما فعلته وقلت يا ليتني مكثت في الجزيرة فإنها أحسن من هذا المكان القفر، لأن
الجزيرة كان يوجد فيها شيء آكله من أصناف الفواكه وأشرب من أنهارها وهذا المكان
ليس فيه أشجار ولا أثمار ولا أنهار فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أنا كل
ما أخلص من مصيبة أقع فيما هو أعظم منها وأشد.
ثم إني قمت وقويت نفسي ومشيت في ذلك الوادي، فرأيت أرضه
من حجر الألماس الذي يثقبون به المعادن والجواهر ويثقبون به الصيني والجزع منه
شيئاً ولا أن يكسره إلا بحجر الرصاص وكل تلك الوادي حيات وأفاع وكل واحدة مثل
النخلة ومن أعظم خلقتها لو جاءها فيل لابتلعته، وتلك الحيات يظهرن في الليل
ويختفين في النهار خوفاً من طير الرخ والنسر أن يختطفها ويقطعها ولا أدري ما سبب
ذلك.
فأقمت بتلك الوادي وأنا متندم على ما فعلته وقلت في نفسي
والله إني قد عجلت بالهلاك على نفسي وقد ولى النهار علي فصرت أمشي في تلك الوادي
والتفت على محل أبيت فيه وأنا خائف من تلك الحيات ونسيت أكلي وشربي ومعاشي واشتغلت
بنفسي فلاح لي مغارة بالقرب مني فمشيت فوجدت بابها ضيقاً فدخلتها ونظرت إلى حجر
كبير عند بابها فدفعته وسددت به باب تلك المغارة وأنا داخلها وقلت في نفسي قد أمنت
لما دخلت في هذا المكان، وإن طلع النهار اطلع وأنظر ما تفعل القدرة.
ثم التفت في داخل المغارة فرأيت حية عظيمة نائمة في صدر
المغارة على بيضها فاقشعر بدني وأقمت رأسي وسلمت أمري للقضاء والقدر وبت ساهراً
طوال الليل إلى أن طلع الفجر ولاح، فأزحت الحجر الذي سددت به باب المغارة، وخرجت
منه وأنا مثل السكران دائخ من شدة السهر والجوع والخوف وتمشيت في الوادي.
وبينما أنا على هذه الحالة وإذا بذبيحة قد سقطت من قدامي
ولم أجد أحداً فتعجبت من ذلك أشد العجب وتفكرت حكاية أسمعها من قديم الزمان من بعض
التجار والمسافرين وأهل السياحة أن في جبال حجر الألماس الأهوال العظيمة ولا يقدر
أحد أن يسلك إليه ولكن التجار الذين يجلبونه يعملون حيلة في الوصول إليه ويأخذون
الشاة من الغنم ويذبحونها ويسلخونها ويرشون لحمها ويرمونه من أعلى ذلك الجبل إلى
أرض الوادي فتنزل وهي طرية فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة ثم تتركها التجار إلى
نصف النهار فتنزل الطيور من النسور والريخ إلى ذلك اللحم وتأخذه في مخالبها وتصعد
إلى أعلى الجبل فيأتيها التجار وتصيح عليها وتصير من عند ذلك اللحم وتخلص منه
الحجارة اللاصقة به ويتركون اللحم للطيور والوحوش ويحملون الحجارة إلى بلادهم ولا
أحد يقدر أن يتوصل إلى مجيء حجر الألماس إلا بهذه الحيلة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري صار
يحكي لأصحابه جميع ما حصل له في جبل الماس، ويخبرهم أن التجار لا يقدرون على مجيء
شيء منه إلا بحيلة مثل الذي ذكره، ثم قال فلما نظرت إلى تلك الذبيحة تذكرت هذه
الحكاية قمت وجئت عند الذبيحة فنقيت من هذه الحجارة شيئاً كثيراً وأدخلته في جيبي
وبين ثيابي وصرت أنقي وأدخل في جيوبي وحزامي وعمامتي وبين حوائجي، فبينما أنا على
هذه الحالة وإذا بذبيحة كبيرة فربطت نفسي عليها ونمت على ظهري وجعلتها على صدري
وأنا قابض عليها فصارت عالية على الأرض وإذا بنسر نزل على تلك الذبيحة وقبض عليها
بمخالبه وأقلع بها إلى الجو وأنا معلق بها ولم يزل طائراً بها إلى أن صعد بها إلى
أعلى الجبل وحطها وأراد أن ينهش منها، وإذا بصيحة عظيمة عالية من خلف ذلك النسر
وشيء يخبط بالخشب على ذلك الجبل فجفل النسر وطار إلى الجو، ففككت نفسي من الذبيحة
وقد تلوثت ثيابي من دمها، ووقفت بجانبها، وإذا بذلك التاجر الذي صاح على النسر تقدم
إلى الذبيحة فرآني واقفاً فلم يكلمني، وقد فزع مني وارتعب، وأتى الذبيحة وقلبها
فلم يجد فيها شيئاً فصاح صيحة عظيمة وقال واخيبتاه، لا حول ولا قوة إلا بالله نعوذ
بالله من الشيطان الرجيم وهو يتندم ويخبط كفاً على كف ويقول واحسرتاه أي شيء هذا
الحال..
فتقدمت إليه فقال لي: من أنت? وما سبب مجيئك إلى هذا
المكان? فقلت له: لا تخف ولا تخش، فإني إنسي من خيار الإنس، وكنت تاجراً ولي حكاية
عظيمة وقصة غريبة، وسبب وصولي إلى هذا الجبل وهذا الوادي حكاية عجيبة فلا تخف فلك
ما يسرك مني، وأنا معي شيء كثير من حجر الألماس فأعطيك منه شيئاً يكفيك، وكل قطعة
معي أحسن من كل شيء يأتيك فلا تجزع ولا تخف.
فعند ذلك شكرني الرجل ودعا لي وتحدث معي وإذا بالتجار
سمعوا كلامي مع رفيقهم فجاؤوا إلي وكان كل تاجر رمى ذبيحته فلما قدموا علينا سلموا
علينا وهنؤوني بالسلامة وأخذوني معهم، وأعلمتهم بجميع قصتي وما قاسيته في سفرتي
وأخبرتهم بسبب وصولي إلى هذه الوادي، ثم إني أعطيت لصاحب الذبيحة التي تعلقت فيها
شيئاً كثيراً مما كان معي ففرح بي جداً فما أحد وصل إلى هذا المكان قبلك ونجا منه
ولكن الحمد لله على بسلامتي ونجاتي من وادي الحيات ووصولي إلى بلاد العمار.
ولما طلع النهار قمنا وسرنا على ذلك الجبل العظيم وصرنا
ننظر في ذلك الجبل حيات كثيرة، ولم نزل سائرين إلى أن أتينا بستاناً في جزيرة
عظيمة مليحة وفيها شجر الكافور وكل شجرة منها يستظل تحتها إنسان، وإذا أراد أن
يأخذ منه أحد يثقب من أعلى الشجرة ثقباً بشيء طويل ويتلقى ما ينزل منه فيسيل منه
ماء الكافور ويعقد مثل الشمع وهو عسل ذلك الشجر وبعد ذلك تيبس الشجرة وتصير حطباً.
وفي تلك الجزيرة صنف من الوحوش يقال له الكركدن يرعى
فيها رعياً مثل ما يرعى البقر والجاموس في بلادنا ولكن جسم ذلك الوحش أكبر من جسم
الجمل ويأكل العلق وهو دابة عظيمة لها قرن واحد غليظ في وسط رأسها طوله قدر عشرة
أذرع وفيه صورة إنسان وفي تلك الجزيرة شيء من صنف البقر.
وقد قال لنا البحريون المسافرون وأهل السياحة في الجبال
والأراضي أن هذا الوحش المسمى بالكركدن يحمل الفيل الكبيرعلى قرنه ويرعى به في
الجزيرة والسواحل ولا يشعر به ويموت الفيل على قرنه ويسيح دهنه من حر الشمس على
رأسه ويدخل في عينيه فيعمى فيرقد في جانب السواحل فيجيء له طير الريخ، فيحمله في
مخالبه ويروح به عند أولاده ويزقهم به وبما على قرنه، وقد رأيت في تلك الجزيرة
شيئاً كثيراً من صنف الجاموس ليس له عندنا نظير، وفي تلك الوادي شيء كثير من حجر
ألماس الذي حملته معي وخبأته في جيبي وقايضوني عليه ببضائع ومتاع من عندهم وحملوها
لي عهم وأعطوني دراهم ودنانير ولم أزل سائراً معهم وأنا أتفرج على بلاد الناس وعلى
ما خلق الله من واد إلى واد ومن مدينة إلى مدينة، ونحن نبيع ونشتري إلى أن وصلنا
إلى مدينة البصرة وأقمنا بها أياماً قلائل ثم جئت إلى مدينة بغداد. وأدرك شهرزاد
الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
رجع من غيبته ودخل مدينة بغداد دار السلام وجاء إلى حارته ودخل داره ومعه من صنف
حجر الألماس شيء كثير ومعه مال ومتاع وبضائع لها صورة، وقد اجتمع بأهله وأقاربه،
ثم تصدق ووهب وأعطى وهادى جميع أهله وأصحابه وصار يأكل طيباً ويشرب طيباً ويلبس
ملبساً طيباً، ويعاشر ويرافق ونسي جميع ما قاساه، ولم يزل في عيش هني وصفاء خاطر
وانشراح صدر ولعب وطرب وصار كل من سمع بقدومه يجيء إليه ويسأله عن حال السفر
وأحوال البلاد فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه، فيتعجب من شدة ما قاساه ويهنئه
بالسلامة وهذا آخر ما جرى لي وما اتفق لي في السفرة الثانية ثم قال لهم وفي الغد إن
شاء الله تعالى أحكي لكم حال السفرة الثالثة.
فلما فرغ السندباد البحري من حكايته للسندباد البري،
تعجبوا من ذلك وتشعوا عنده، وأمر للسندباد بمائة مثقال ذهباً فأخذها وتوجه إلى حال
سبيله وهو يتعجب مما قاساه السندباد البحري وشكره ودعا له في بيته، ولما أصبح
الصباح وأضاء بنوره ولاح قام السندباد البري كما أمره ودخل إليه وصبح عليه فرحب به
وجلس معه حتى أتاه باقي أصحابه وجماعته فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا وانشرحوا ثم
ابتدأ السندباد البحري بالكلام وقال:
الحكاية الثالثة من حكايات السندباد البحري
الحكاية الثالثة من حكايات السندباد البحريوهي السفرة
اعلموا يا إخواني واسمعوا مني حكاية فإنها أعجب من الحكايات المتقدمة قبل تاريخه
والله أعلم بغيبة واحكم أني فيما مضى وتقدم، لما جئت من السفرة الثانية وأنا في
غاية البسط والانشراح فرحان بالسلامة وقد كسبت مالاً كثيراً كما حكيت لكم أمس
تاريخه، وقد عوض الله علي ما راح مني أقمت بمدينة بغداد مدة من الزمان، وأنا في
غاية الحظ والصفاء والبسط والانشراح فاشتاقت نفسي إلى السفر والفرجة، وتشوقت إلى
المتجر والكسب والفوائد والنفس أمارة بالسوء فهممت واشتريت شيئاً كثيراً من
البضائع المناسبة لسفر البحر وحزمتها للسفر وسافرت بها من مدينة بغداد إلى مدينة
البصرة وجئت إلى ساحل البحر فرأيت مركباً عظيماً، وفيه تجار وركاب كثيرة أهل خير
وناس ملاح طيبون أهل دين ومعروف وصلاح، فنزلت معهم في ذلك المركب وسافرنا على بركة
الله تعالى بعونه وتوفيقه وقد استبشرنا بالخير والسلامة.
ولم نزل سائرين من بحر إلى بحر ومن جزيرة إلى جزيرة ومن
مدينة إلى مدينة وفي كل مكان مررنا عليه نتفرج ونبيع ونشتري، ونحن في غاية الفرح
والسرور، إلى أن كنا يوماً من الأيام سائرين في وسط البحر العجاج المتلاطم
بالأمواج فإذا بالريس وهو جانب المركب ينظر إلى نواحي البحر ثم إنه لطم وجهه وطوى
قلوع المركب ورمى مراسيه ونتف لحيته ومزق ثيابه وصاح صيحة عظيمة فقلنا له يا ريس
ما الخبر فقال اعلموا يا ركاب السلامة أن الريح غلب علينا وعسف بنا في وسط البحر
ورمتنا المقادير لسوء بختنا إلى جبل القرود، وما وصل إلى هذا المكان أحد، ولم يسلم
منه قط وقد أحس قلبي بهلاكنا أجمعين.
فما استتم قول الريس حتى جاءنا القرود وأحاطوا المركب من
كل جانب، وهم شيء كثير مثل الجراد المنتشر في المركب وعلى البر فخفنا إن قتلنا
منهم أحداً أو طردناه أن يقتلونا لفرط كثرتهم والكثرة تغلب الشجاعة وبقينا خائفين
منهم أن ينهبوا رزقنا ومتاعنا، وهم أقبح الوحوش وعليهم شعور مثل لبد الأسود،
ورؤيتهم تفزع، ولا يفهم لهم أحد كلاماً ولا خيراً وهم مستوحشون من الناس صفر
العيون وسود الوجوه صغار الخلقة، طول كل واحد منهم أربعة أشبار، وقد طلعوا على
حبال المرساة وقطعوها بأسنانهم وقطعوا جميع حبال المركب من كل جانب، فمال المركب
من الريح ورسى على جبلهم وصار المركب في برهم وقبضوا على جميع التجار والركاب
وطلعوا إلى الجزيرة وأخذوا المركب بجميع ما كان فيه وراحوا به.
فبينما نحن في تلك الجزيرة نأكل من أثمارها وبقولها
وفواكهها ونشرب من الأنهار التي فيها إذ لاح لنا بيت عامر في وسط تلك الجزيرة
فقصدناه ومشينا إليه فإذا هو قصر مشيد الأركان عالي الأسوار له باب بدرفتين مفتوح
وهو من خشب الأبانوس فدخلنا باب ذلك القصر، فوجدنا له حظيراً واسعأً مثل الحوش
الواسع الكبير وفي دائره أبواب كثيرة وفي صدره مصطبة عالية كبيرة وفيها أواني طبيخ
معلقة على الكوانين، وحواليها عظام كثيرة ولم نر فيها أحد فتعجبنا من ذلك غاية
العجب، وجلسنا في حضير ذلك القصر. قليلاً ثم بعد ذلك نمنا ولم نزل نائمين من ضحوة
النهار إلى غروب الشمس، وإذ بالأرض قد ارتجت من تحتنا وسمعنا دوياً من الجو، وقد
نزل علينا من أعلى القصر شخص عظيم الخلقة في صفة إنسان، وهو أسود اللون طويل
القامة كأنه نحلة عظيمة، وله عينان كأنهما شعلتان من نار، وله أنياب مثل أنياب
الخنازير وله فم عظيم الخلقة مثل البئر وله مشافر مثل مشافر الجمل مرخية على صدره،
وله أذنان مثل الحرامين مرخيتان على أكتافه وأظافر يديه مثل مخالب السبع فلما
نظرناه على هذه الحالة غبنا عن وجودنا وقوي خوفنا واشتد فزعنا وصرنا مثل الموتى من
شدة الخوف والجزع والفزع.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الأربعون بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري
ورفقته لما رأوا هذا الشخص الهائل الصورة وحصل لهم غاية الخوف والفزع، فلما نزل
على الأرض جلس قليلاً على المصطبة، ثم إنه قام وجاء عندنا، ثم قبض على يدي من بين
أصحابي التجار ورفعني بيده عن الأرض وحبسني وقلبني فصرت في يده مثل اللقمة الصغيرة
وصار يحبسني مثل ما يحبس الجزار ذبيحة الغنم فوجدني ضعيفاً من كثرة القهر، هزيلاً
من كثرة التعب والسفر، وليس في شيء من اللحم فأطلقني من يده، وأخذ واحداً غيري من
رفاقي وقلبه كما قلبني وحبسه كما حبسني وأطلقه، ولم يزل يحبسنا ويقلبنا واحداً بعد
واحد إلى أن وصل إلى ريس المركب الذي كنا فيه وكان رجلاً سميناً غليظاً عريض
الأكتاف صاحب قوة وشدة فأعجبه وقبض عليه مثل ما يقبض الجزار على ذبيحته، ورماه على
الأرض ووضع رجله على رقبته، وجاء بسيخ طويل فأدخله في حلقه حتى أخرجه من دبره،
وأوقد ناراً شديدة وركب عليها ذلك السيخ المشكوك فيه الريس، ولم يزل يقلبه على
الجمر حتى استوى لحمه وأطلعه من النار وحطه أمامه وفسخه كما يفسخ الرجل الفرخة.
وصار يقطع لحمه بأظافره ويأكل منه ولم يزل على هذه الحالة حتى أكل لحمه ونهش عظمه.
ولم يبق منه شيئاً ورمى باقي العظام في جنب القصر.
ثم إنه جلس قليلاً وانطرح ونام على تلك المصطبة وصار
يشخر مثل شخير الخروف أو البهيمة المذبوحة ولم يزل نائماً إلى الصباح، ثم قام وخرج
إلى حال سبيله. فلما تحققنا بعده تحدثنا مع بعضنا وبكينا على أرواحنا وقلنا ليتنا
غرقنا في البحر وأكلتنا القرود خير من شوي الإنسان على الجمر والله إن هذا الموت
رديء ولكن ما شاء الله كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لقد متنا
كمداً ولم يدر بنا أحد وما بقي لنا نجاة من هذا المكان.
ثم إننا قمنا وخرجنا إلى الجزيرة لننظر لنا مكان نختفي
فيه أو نهرب وقد هان علينا أن نموت ولا يشوى لحمنا بالنار، فلم نجد مكان نختفي فيه
وقد أدركنا المساء فعدنا إلى القصر من شدة خوفنا وجلسنا قليلاً وإذا بالأرض قد
ارتجفت من تحتنا وأقبل ذلك الشخص الأسود وجاء عندنا وصار يقلبنا واحداً بعد الآخر
مثل المرة الأولى ويحبسنا حتى أعجبه واحد.
فقبض عليه وفعل به مثل ما فعل بالريس في أول يوم فشواه
وأكله على تلك المصطبة ولم يزل نائماً في تلك الليلة وهو يشخر مثل الذبيحة فلما
طلع النهار قام وراح إلى حال سبيله وتركنا على جري عادته، فاجتمعنا وتحدثنا وقلنا
لبعضنا والله لأن نلقي أنفسنا في البحر ونموت غرقاً خير من أن نموت حرقاً، لأن هذه
قتلة شنيعة فقال واحد منا اسمعوا كلامي أننا نحتال عليه ونرتاح من همه ونريح
المسلمين من عدوانه وظلمه.
فقلت لهم اسمعوا يا إخواني إن كان لابد من قتله فإننا
نحول هذا الخشب وننقل شيئاً من هذا الحطب ونعمل لنا فلكاً مثل المركب وبعد ذلك
نحتال في قتله وننزل في الفلك ونروح في البحر إلى أي محل يريده الله. وإننا نقعد
في هذا المكان حتى يمر علينا مركب فننزل فيه، وإن لم نقدر على قتله ننزل ونروح في
البحر ولو كنا نغرق نرتاح من شوينا على النار ومن الذبح، وإن سلمنا سلمنا وإن
غرقنا متنا شهداء.
فقالوا جميعاً، والله هذا رأي سديد وفعل رشيد واتفقنا
على هذا الأمر وشرعنا في فعله فنقلنا الأخشاب إلى خارج القصر، وصنعنا فلكاً
وربطناه على جانب البحر ونزلنا فيه شيئاً من الزاد وعدنا إلى القصر.
فلما كان وقت المساء إذا بالأرض قد ارتجفت بنا ودخل
علينا الأسود وهو كأنه الكلب العقور، ثم قلبنا وحبسنا واحداً بعد واحد ثم أخذ
واحداً وفعل به مثل ما فعل بسابقيه، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري قال
إن الأسود أخذ واحداً منا وفعل به مثل ما فعل بسابقيه، وأكله ونام على المصطبة
وصار شخيره مثل الرعد، فنهضنا وقمنا وأخذنا سيخين من حديد من الأسياخ المنصوبة
ووضعناهما في النار القوية حتى احمرا وصارا مثل الجمر، وقبضنا عليهما قبضاً
شديداً، وجئنا بهما إلى ذلك الأسود وهو نائم يشخر ووضعناهما في عينيه واتكأنا
عليهما جميعاً بقوتنا وعزمنا، فأدخلناهما في عينيه وهو نائم فانطمستا وصاح صيحة
عظيمة فارتعبت قلوبنا منه.
ثم قام من فوق تلك المصطبة بعزمه وصار يفتش علينا ونحن
نهرب منه يميناً وشمالاً فلم ينظرنا وقد عمي بصره فخفنا منه مخافة شديدة وأيسنا في
تلك الساعة بالهلاك ويأسنا من النجاة فعند ذلك قصد الباب وهو يتحسس وخرج منه وهو
يصيح ونحن في غاية الرعب منه، وإذا بالأرض ترتج من تحتنا من شدة صوته.
فلما خرج من القصر وراح إلى حال سبيله وهو يدور علينا،
ثم إنه رجع ومعه أنثى أكبر وأوحش منه خلقة، فلما رأيناه والذي معه أفظع حالة منه
خفنا غاية الخوف، فلما رأونا أسرعنا ونهضنا ففككنا الفلك الذي صنعناه ونزلنا فيه
ودفعناه في البحر، وكان مع كل واحد منهم صخرة عظيمة وصارا يرجماننا بها إلى أن مات
أكثرنا من الرجم وبقي منا ثلاثة أشخاص أنا واثنان، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
نزل في الفلك هو وأصحابه وصار يرجمهم السود ورفيقته فمات أكثرهم ولم يبق منهم إلا
ثلاثة أشخاص فطلع بهم الفلك إلى جزيرة، قال فمشينا إلى آخر النهار فدخل علينا ونحن
على هذه الحالة فنمنا قليلاً واستيقظنا من نومنا وإذا بثعبان عظيم الخلقة كبير
الجثة واسع الجوف قد أحاط بنا وقصد واحداً فبلعه إلى أكتافه ثم بلع باقيه فسمعنا
أضلاعه تتكسر في بطنه وراح في حال سبيله، فتعجبنا من ذلك غاية العجب وحزنا على
رفيقنا، وصرنا في غاية الخوف على أنفسنا وقلنا والله هذا أمر عجيب وكل موتة أشنع
من السابقة، وكنا فرحنا بسلامتنا من الأسود فما تمت الفرحة ولا حول ولا قوة إلا
بالله، والله قد نجونا من الأسود ومن الغرق فكيف تكون نجاتنا من هذه الآفة
المشؤومة ثم إننا قمنا فمشينا في الجزيرة وأكلنا من ثمرها وشربنا من أنهارها ولم
نزل فيها إلى وقت المساء فوجدنا صخرة عظيمة عالية فطلعناها ونمنا فوقها وقد طلعت
أنا على فروعها.
فلما دخل الليل وأظلم الوقت جاء الثعبان وتلفت يميناً
وشمالاً ثم إنه قصد تلك الشجرة التي نحن عليها، ومشى حتى وصل إلى رفيقي وبلعه حتى
أكتافه والتف به على الشجرة فسمعت عظامه تتكسر في بطنه، ثم بلعه بتمامه وأنا أنظر
بعيني، ثم إن الثعبان نزل من فوق الشجرة وراح إلى حال سبيله، ولم أزل على تلك
الشجرة في تلك الليلة.
فلما طلع النهار وبان النور ونزلت من فوق الشجرة وأنا
مثل الميت من كثرة الخوف والفزع وأردت أن ألقي بنفسي في البحر وأستريح من الدنيا،
فلم تهن علي روحي لأن الروح عزيزة، فربطت خشبة عريضة على أقدامي بالعرض وربطت
واحدة مثلها على جنبي الشمال ومثلها على جنبي اليمين ومثلها على بطني، وربطت واحدة
طويلة عريضة من فوق رأسي بالعرض مثل التي تحت أقدامي وصرت أنا في وسط هذا الخشب
وهو محتاط بي من كل جانب وقد شددت ذلك شداً وثيقاً وألقيت نفسي بالجميع على الأرض،
فصرت نائماً بين تلك الأخشاب وهي محيطة بي كالمقصورة.
فلما أمسى الليل أقبل الثعبان على جري عادته، ونظر إلي
وقصدني فلم يقدر أن يبلغني وأنا على تلك الحالة والأخشاب حولي من كل جانب، فدار
الثعبان حولي فلم يستطع الوصول إلي وأنا أنظر بعيني وقد صرت كالميت من شدة الخوف
والفزع وصار الثعبان يبعد عني ويعود إلي، ولم يزل على هذه الحالة وكلما أراد
الوصول إلي ليبتلعني تمنعه تلك الأخشاب المشدودة علي من كل جانب ولم يزل كذلك من
غروب الشمس إلى أن طلع الفجر وبان النور وأشرقت الشمس، فمضى الثعبان إلى حال سبيله
وهو في غاية من القهر والغيظ.
فعند ذلك مددت يدي وفككت نفسي من تلك الأخشاب وأنا في
حكم الأموات من شدة ماقاسيت من ذلك الثعبان، ثم إني قمت ومشيت في الجزيرة حتى
انتهيت إلى آخرها، فلاحت لي مني التفاتة إلى ناحية البحر فرأيت مركباً على بعد في
وسط اللجة، فأخذت فرعاً كبيراً من شجرة ولوحت به إلى ناحيتهم وأنا أصيح عليهم.
فلما رأوني قالوا لابد أننا ننظر ما يكون هذا لعله
إنسان، إنهم قربوا مني وسمعوا صياحي عليهم فجاءوا إلي وأخذوني معهم في المركب
وسألوني عن حالي، فأخبرتهم بجميع ما جرى لي من أوله إلى آخره وماقاسيته من الشدائد
فتعجبوا من ذلك غاية العجب، ثم إنهم ألبسوني من عندهم ثياباً وستروا عورتي.
وبعد ذلك قدموا لي شيئاً من الزاد حتى اكتفيت وسقوني ماء
بارداً عذباً فانتعش قلبي وارتاحت نفسي وحصل لي راحة عظيمة وأحياني الله تعالى بعد
موتي فحمدت الله تعالى على نعمه الوافرة وشكرته وقويت همتي بعدما كنت أيقنت
بالهلاك حتى تخيل لي أن جميع ما أنا فيه منام، ولم نزل سائرين وقد طاب لنا الريح
بإذن الله تعالى إلى أن أشرفنا على جزيرة يقال لها جزيرة السلاهطة فأوقف الريس
المركب عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المركب الذي نزل فيه
السندباد البحري رسى على جزيرة فنزل منه جميع التجار فالتفت إلي صاحب المركب وقال
لي اسمع كلامي أنت رجل غريب فقير، وقد أخبرتنا أنك قاسيت أهوالاً كثيرة، ومرادي
أنفعك بشيء يعينك على الوصول إلى بلادك وتبقى تدعو لي، فقلت له نعم ولك مني
الدعاء.
فقال اعلم أنه كان معنا رجل مسافر فقدناه ولم نعلم هل
بالحياة أم مات ولم نسمع عنه خبراً، ومرادي أن أدفع لك حمولة لتبيعها في هذه
الجزيرة وتحفظها وأعطيك شيئاً في نظير تعبك وخدمتك، وما بقي منها نأخذه إلى أن
تعود إلى مدينة بغداد فنسأل عن أهله وندفع إليهم بقيتها وثمن ما بيع منها فهل لك
أن تتسلمها وتنزل بها هذه الجزيرة فتبيعها مثل التجار، فقلت سمعاً وطاعة لك يا
سيدي ولك الفضل والجميل ودعوت له وشكرته على ذلك فعند ذلك أمر الحالين والبحرية
بإخراج تلك البضائع إلى الجزيرة، وأن يسلموها إلي.
فقال كاتب المركب يا ريس ما هذه الحمول التي أخرجها
البحرية، والحمالون واكتبها باسم من من التجار. فقال اكتب عليها اسم السندباد
البحري الذي كان معنا وغرق في الجزيرة ولم يأتنا عنه خبر، فنريد أن يبيعها هذا
الغريب ونحمل ثمنها ونعطيه شيئاً منه نظير تعبه وبيعه، والباقي نحمله معنا حتى
نرجع إلى مدينة بغداد، فإن وجدناه أعطيناه إياه وإن لم نجده ندفعه إلى أهله في
مدينة بغداد فقال الكاتب كلامك مليح ورأيك رجيح.
فلما سمعت كلام الريس وهو يذكر أن الحمول باسمي، قلت في
نفسي والله أنا السندباد البحري وأنا غرقت في الجزيرة مع جملة من غرق ثم إني تجلدت
وصبرت إلى أن طلع التجار من المركب واجتمعوا يتحدثون ويتذاكرون في أمور البيع
والشراء، فتقدمت إلى صاحب المركب وقلت له يا سيدي هل تعرف كيف كان صاحب الحمول
التي سلمتها إلي لأبيعها? فقال لي لا أعلم له حالاً ولكنه كان رجلاً من مدينة
بغداد يقال له السندباد البحري وقد أرسينا على جزيرة من الجزائر، فغرق منا فيها
خلق كثير وفقد بجملتهم ولم نعلم له خبراً إلى هذا الوقت.
فعند ذلك صرخت صرخة عظيمة وقلت له يا ريس السلامة اعلم
أني أنا السندباد البحري لم أغرق، ولكن لما أرسيت على الجزيرة وطلع التجار والركاب
طلعت أنا مع جملة الناس ومعي شيء آكله بجانب الجزيرة، ثم إني تلذذت بالجلوس في ذلك
المكان، فأخذتني سنة من النوم فنمت وغرقت في النوم، ثم إني قمت فلم أجد المركب ولم
أجد أحداً عندي وهذا المال مالي وهذه البضائع بضائعي وجميع التجار الذين يجلبون
حجر الألماس رأوني وأنا في جبل الألماس ويشهدون لي بأني أنا السندباد البحري كما
أخبرتهم بقصتي وما جرى لي معكم في المركب وأخبرتكم بأنكم نسيتموني في الجزيرة نائماً
وقمت فلم أجد أحداً وجرى لي ما جرى.
فلما سمع التجار والركاب كلامي اجتمعوا علي، فمنهم من
صدقني ومنهم من كذبني فبينما نحن كذلك وإذا بتاجر من التجار حين سمعني أذكر وادي
الألماس نهض وتقدم عندي وقال لهم اسمعوا يا جماعة كلامي إني لما كنت ذكرت لكم أعجب
ما رأيت في أسفاري لما ألقينا الذبائح في وادي الألماس وألقيت ذبيحتي معهم على جري
عادتي طلع على ذبيحتي رجل متعلق بها ولم تصدقوني بل كذبتموني، فقالوا له نعم حكيت
لنا على هذا الأمر ولم نصدقك، فقال لهم التاجر هذا الذي تعلق في ذبيحتي وقد أعطاني
شيء من حجر الألماس الغالي الثمن الذي لا يوجد نظيره، وعوضني أكثر ما كان يطلع لي
في ذبيحتي، وقد استصحبه معي إلى أن وصلنا إلى مدينة البصرة، وبعد ذلك توجه إلى
بلاده وودعنا ورجعنا إلى بلادنا وهو هذا، وأعلمنا أن اسمه السندباد البحري وقد
أخبرنا بذهاب المركب وجلوسه في هذه الجزيرة، واعلموا أن هذا الرجل ما جاءنا هنا
إلا لتصدقوا كلامي مما قلته لكم وهذه البضائع كلها رزقه، فإنه أخبر بها في وقت
اجتماعه علينا وقد ظهر صدقه في قوله.
فلما سمع الريس كلام ذلك التاجر قام على حيله وجاء عندي
وحقق في النظر ساعة وقال ما علامة بضائعك فقلت له اعلم أن علامة بضائعي ما هو كذا
وكذا وقد أخبرته بأمر السندباد البحري فعانقني وسلم علي وهنأني بالسلامة وقال لي
يا سيدي إن قصتك عجيبة وأمرك غريب، ولكن الحمد لله الذي جمع بيننا وبينك ورد
بضائعك ومالك عليك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
تبين للريس والتجار أنه هو بعينه وقال له الريس الحمد لله الذي رد بضائعك ومالك
عليك قال فعند ذلك تصرفت في بضائعي بمعرفتي وربحت بضائعي في تلك السفرة شيئاً
كثيراً وفرحت بذلك فرحاً عظيماً وهنأت بالسلامة وعاد مالي إلي، ولم نزل نبيع
ونشتري في الجزائر إلى أن وصلنا إلى بلاد السندباد وبعنا فيها واشترينا ورأيت في
ذلك البحر شيئاً كثيراً من العجائب والغرائب لا تعد ولا تحصى ومن جملة ما رأيت في
ذلك البحر، سمكة على صفة البقرة وشيئاً على صفة الحمير ورأيت طيراً يخرج من صدف
البحر. ويبيض ويفرخ على وجه الماء ولا يطلع من البحر على وجه الأرض أبداً.
وبعد ذلك لم نزل مسافرين بإذن الله تعالى وقد طاب لنا
الريح والسفر إلى أن وصلنا إلى اببصرة وقد أقمت فيها أياماً قلائل، وبعد ذلك جئت
إلى مدينة بغداد فتوجهت إلى حارتي ودخلت بيتي وسلمت على أهلي وأصحابي وأصدقائي وقد
فرحت بسلامتي وعودتي إلى بلادي وأهلي ومدينتي ودياري وتصدقت ووهبت وكسوت الأرامل
والأيتام. وجمعت أصحابي وأحبابي ولم أزل على هذه الحالة في أكل وشرب ولهو وضرب
وأنا آكل وأشر طيباً وأعاشر وأخالط وقد نسيت جميع ما جرى لي وما قاسيت من الشدائد
والأهوال وكسبت شيئاً في هذه السفرة لا يعد ولا يحصى، وهذا أعجب ما رأيت في هذه
السفرة وفي غد إن شاء الله تعالى تجيء إلي وأحكي لك حكاية السفرة الرابعة فإنها
أعجب من هذه السفرات ثم إن السندباد البحري أمر بأن يدفعوا إليه مائة مثقال من
الذهب على جري عادته وأمر بمد السماط فمدوه وتعشى الجماعة وهم يتعجبون من تلك
الحكاية وما جرى فيها ثم إنهم بعد العشاء انصرفوا إلى حال سبيلهم، وقد أخذ
السندباد الحمال ما أمر له من الذهب وانصرف إلى حال سبيله وهو متعجب مما سمعه من
السندباد البحري وبات في بيته.
ولما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، قام السندباد الحمال
وصلى الصبح وتمشى إلى السندباد البحري وقد دخل عليه وتلقاه بالفرح والانشراح
وأجلسه عنده إلى أن حضر بقية أصحابه وقدموا الطعام فأكلوا وشربوا وانبسطوا فبدأهم
بالكلام وحكى لهم الحكاية الرابعة.
الحكاية الرابعة من حكايات السندباد البحري
وهي السفرة الرابعة
الحكاية الرابعة من حكايات السندباد البحري وهي السفرة
الرابعة قال السندباد البحري: اعلموا يا إخواني أني لما عدت إلى مدينة بغداد
واجتمعت على أصحابي وأحبابي وصرت في أعظم ما يكون من الهناء والسرور والراحة، وقد
نسيت ما كنت فيه لكثرة الفوائد وغرقت في اللهو والطرب ومجالسة الأحباب والأصحاب
وأنا في ألذ ما يكون من العيش، فحدثتني نفسي الخبيثة بالسفر إلى بلاد الناس وقد
اشتقت إلى مصاحبة الأجناس والبيع والمكاسب، فهممت في ذلك الأمر واشتريت بضاعة
نفيسة تناسب البحر وحزمت حمولاً كثيرة زيادة عن العادة وسافرت من مدينة بغداد إلى
مدينة البصرة ونزلت حمولتي في المركب واصطحبت بجماعة من أكابر البصرة وقد توجهنا
إلى السفر وسافر بنا المركب على بركة الله تعالى في البحر العجاج المتلاطم
بالأمواج وطاب لنا السفر ولم نزل على هذه الحالة مدة ليالي وأيام من جزيرة إلى
جزيرة ومن بحر إلى بحر. إلى أن خرجت علينا ريح مختلفة يوماً من الأيام، فرمى الريس
مراسي المركب وأوقفه في وسط البحر خوفاً عليه من الغرق.
فبينما نحن على هذه الحالة ندعو ونتضرع إلى الله تعالى
إذ خرج علينا ريح عاصف شديد مزق القلع وقطعه قطعاً وغرق الناس وجميع حمولهم وما
معهم من المتاع والأموال وغرقت أنا بجملة من غرق. وعمت في البحر نصف نهار وقد
تخليت عن نفسي فيسر الله تعالى لي قطعة لوح خشب من ألواح المركب فركبتها أنا
وجماعة من التجار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري بعد
أن غرق المركب وطلع على لوح خشب هو وجماعة من التجار قال اجتمعنا على بعضنا ولم
نزل راكبين على ذلك اللوح ونرفس بأرجلنا في البحر والأمواج والريح تساعدنا. فمكثنا
على هذه الحالة يوماً وليلة.
فلما كان ثاني يوم ضحوة نهار، ثار علينا ريح وهاج البحر
وقوي الموج والريح فرمانا الماء على جزيرة ونحن مثل الموتى من شدة السهر والتعب
والبرد والجوع والخوف والعطش، وقد مشينا في جوانب تلك الجزيرة فوجدنا فيها نباتاً
كثيراً. فأكلنا منه شيئاً يسد رمقنا ويقيتنا. وبتنا تلك الليلة على جانب الجزيرة.
فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح قمنا ومشينا في
الجزيرة يميناً وشمالاً فلاح لنا عمارة على بعد فسرنا في تلك الجزيرة قاصدين تلك
العمارة التي رأيناها من بعد ولم نزل سائرين إلى أن وقفنا على بابها. فبينما نحن
واقفون هناك إذ خرج علينا من ذلك الباب جماعة عراة ولم يكلمونا وقد قبضوا علينا
وأخذونا عند ملكهم فأمرنا بالجلوس فجلسنا وقد أحضروا لنا طعاماً لم نعرفه ولا في
عمرنا رأينا مثله فلم تقبله نفسي ولم آكل منه شيئاً دون رفقتي، وكان قلة أكلي منه
لطفاً من الله تعالى حتى عشت إلى الآن.
فلما أكل أصحابي من ذلك الطعام ذهلت عقولهم وصاروا
يأكلون مثل المجانين وتغيرت أحوالهم وبعد ذلك أحضروا لهم دهن النارجيل فسقوهم منه
ودهنوهم منه فلما شرب أصحابي من ذلك الدهن زاغت أعينهم من وجوههم وصاروا يأكلون من
ذلك الطعام بخلاف أكلهم المعتاد فعند ذلك احترت في أمرهم وصرت أتأسف عليهم وقد صار
عندي هم عظيم من شدة الخوف على نفسي من هؤلاء العرايا وقد تأملتهم فإذا هم قوم
مجوس وملك مدينتهم غول وكل من وصل إلى بلادهم أو رأوه في الوادي أو الطرقات يجيئون
به إلى ملكهم، ويطعمونه من ذلك الطعام ويدهنونه بذلك الدهن فيتسع جوفه لأجل أن
يأكل كثيراً ويذهل عقله وتنطمس فكرته ويصير مثل الإبل فيزيدون له الأكل والشرب من
ذلك الطعام والدهن حتى يسمن ويغلظ فيذبحونه ويشوونه ويطعمونه لملكهم. وأما أصحاب
الملك فيأكلون من لحم الإنسان بلا شوي ولا طبخ.
فلما نظرت منهم ذلك الأمر صرت في غاية الكرب على نفسي
وعلى أصحابي، وقد صار أصحابي من فرط ما دهشت عقولهم لا يعلمون ما يفعل بهم وقد
سلموهم إلى شخص، فصار يأخذهم كل يوم ويخرج يرعاهم في تلك الجزيرة مثل البهائم وأما
أنا فقد صرت من شدة الخوف والجوع ضعيفاً سقيم الجسم وصار لحمي يابساً على عظمي.
فلما رأوني على هذه الحالة تركوني ونسوني ولم يتذكرني
منهم أحد ولا خطرت لهم على بال إلى أن تحيلت يوماً من الأيام وخرجت من ذلك المكان
ومشيت في تلك الجزيرة، ولم أزل سائراً حتى طلع النهار وأصبح الصباح وأضاء بنوره
ولاح وطلعت الشمس على رؤوس الروابي والبطاح وقد تعبت وجعت وعطشت، فصرت آكل من
الحشيش والنبات الذي في الجزيرة، ولم أزل آكل من ذلك النبات حتى شبعت وانسد رمقي
وبعد ذلك قمت ومشيت في الجزيرة، ولم أزل على هذه الحالة طول النهار والليل وكلما
أجوع آكل من النبات ولم أزل على هذه الحالة مدة سبعة أيام بلياليها.
فلما كانت صبيحة اليوم الثامن لاحت مني نظرة فرأيت شبحاً
من بعيد فسرت إليه ولم أزل سائراً إلى أن حصلته بعد غروب الشمس فحققت النظر فيه
بعد وأنا بعيد عنه وقلبي خائف من الذي قاسيته أولاً وثانياً، وإذا هم جماعة يجمعون
حب الفلفل فلما قربت منهم ونظروني تسارعوا إلي وجاءوا عندي وقد أحاطوني من كل جانب
وقالوا لي من أنت ومن أين أقبلت فقلت لهم اعلموا يا جماعة أني رجل غريب مسكين
وأخبرتهم بجميع ما كان من أمري وما جرى لي من الأهوال والشدائد وما قاسيته. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
رأى الجماعة الذين يجمعون حب الفلفل في الجزيرة وسألوه عن حاله، حكى لهم جميع ما
جرى له وما قاساه من الشدائد فقالوا والله هذا أمر عجيب ولكن كيف خلاصتك من
السودان وكيف مرورك عليهم في هذه الجزيرة وهم خلق كثيرون ويأكلون الناس ولا يسلم
منهم أحد ولا يقدر أن يجوز عليهم أحد. فأخبرتهم بما جرى لي معهم وكيف أخذوا أصحابي
وأطعموهم الطعام ولم آكل منه فهنوني بالسلامة وصاروا يتعجبون مما جرى لي، ثم
أجلسوني عندهم حتى فرغوا من شغلهم وأتوني بشيء من الطعام فأكلت منه وكنت جائعاً،
وارتحت عندهم ساعة من الزمان.
وبعد ذلك، أخذوني ونزلوا بي في مركب وجاؤوا إلى جزيرتهم
ومساكنهم وقد عرضوني على ملكهم فسلمت عليه ورحب بي وأكرمني وسألني عن حالي فأخبرته
بما كان من أمري. وما جرى لي وما اتفق لي من يوم خروجي من مدينة بغداد إلى حين وصلت
إليه، فتعجب ملكهم من قصتي غاية العجب هو ومن كان حاضراً في مجلسه ثم إنه أمرني
بالجلوس عنده فجلست وأمر بإحضار الطعام فأحضروه فأكلت منه على قدر كفايتي وغسلت
يدي وشكرت فضل الله تعالى وحمدته وأثنيت عليه.
ثم إني قمت من عند ملكهم وتفرجت في مدينته فإذا هي مدينة
عامرة كثيرة الأهل والمال. كثيرة الطعام والأسواق والبضائع والبائعين والمشترين،
ففرحت بوصولي إلى تلك المدينة، وارتاح خاطري واستأنست بأهلها وصرت عندهم وعند
ملكهم معززاً مكرماً، زيادة عن أهل مملكته من عظماء مدينته ورأيت جميع أكابرها
وأصاغرها يركبون الخيل الجياد الملاح من غير سروج فتعجبت من ذلك.
ثم إني قلت للملك لأي شيء يا مولاي لم تركب على سرج فإن
فيه راحة للراكب وزيادة قوة فقال لي: كيف يكون السرج هذا شيء عمرنا ما رأيناه ولا
ركبنا عليه فقلت له: هل لك أن تأذي أن أصنع لك سرجاً تركب عليه وتنظر حظه، فقال لي
افعل فقلت له أحضر لي شيئاً من الخشب فأمر لي بإحضار جميع ما طلبته.
فعند ذلك طلبت نجاراً شاطراً وجلست عنده وعلمته صنعة
السرج وكيف يعمله ثم إني أخذت صوفاً ونقشته وصنعت منه لبداً وأحضرت جلداً وألبسته
السرج وصقلته ثم إني ركبت سيوره وشددت شريحته، وبعد ذلك أحضرت الحداد ووصفت له
كيفية الركاب فدق ركاباً عظيماً وبردته وبيضته بالقصدير ثم إني شددت له أهداباً من
الحرير وبعد ذلك قمت وجئت بحصان من خيار خيول الملك، وشددت عليه السرج، وعلقت فيه
الركاب وألجمته بلجام وقدمته إلى الملك فأعجبه ولاق بخاطره وشكرني وركب عليه، وقد
حصل له فرح شديد بذلك السرج وأعطاني شيئاً كثيراً في نظير عملي له.
فلما نظرني وزيره عملت ذلك السرج، طلب مني واحداً مثله
فعملت له سرجاً مثله وقد صار أكابر الدولة وأصحاب المناصب يطلبون مني السروج فأفعل
لهم وعلمت النجار صنعة السرج والحداد صنعة الركاب، وصرنا نعمل السروج والركابات
ونبيعها للأكابر والمخاديم، وقد جمعت من ذلك مالاً كثيراً وصار لي عندهم مقاماً
كبيراً، وأحبوني محبة زائدة، وبقيت صاحب منزلة عالية عند الملك وجماعته، وعند
أكابر البلد وأرباب الدولة، إلى أن جلست يوماً من الأيام عند الملك وأنا في غاية
السرور والعز.
فبينما أنا جالس قال لي الملك اعلم يا هذا أنك صرت
معزوزاً مكرماً عندنا وواحداً منا، ولا نقدر على مفارقتك، ولا نستطيع خروجك من
مدينتنا ومقصودي منك شيء تطيعني فيه ولا ترد قولي، فقلت له: وما الذي تريد أيها
الملك فإني لا أرد قولك لأنه صار لك فضل وجميل وإحسان علي والحمد لله أنا صرت من
بعض خدامك، فقال أريد أن أزوجك عندنا زوجة حسنة مليحة ظريفة صاحبة مال وجمال،
وتصير مستوطناً عندنا وأسكنك عندي في قصري فلا تخالفني ولا ترد كلامي.
فلما سمعت كلام الملك استحييت منه وسكت ولم أرد عليه
جواباً من كثرة الحياء فقال لي لما لا ترد علي يا ولدي! فقلت يا سيدي الأمر أمرك
يا ملك الزمان، فأرسل من وقته وساعته وأحضر القاضي والشهود وزوجني في ذلك الوقت
بامرأة شريفة القدر، عالية النسب كثيرة المال والنوال عظيمة الأصل بديعة الجمال
والحسن صاحبة أماكن وأملاك وعقارات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري بعد
أن زوجه الملك وعقد له على امرأة عظيمة، قال: ثم إنه أعطاني بيتاً عظيماً مليحاً
بمفرده وأعطاني خداماً وحشماً ورتب له جرايات وجوامك وصرت في غاية الراحة والبسط
والانشراح، ونسيت جميع ما حصل لي من التعب والمشقة والشدة وقلت في نفسي، إذا سافرت
إلى بلادي آخذها معي، وكل شيء مقدر على الإنسان لابد منه ولم يعلم بما يجري له،
وقد أحببتها وأحبتني محبة عظيمة ووقع الوفاق بيني وبينها وقد أقمنا في ألذ عيش
وأرغد مورد، ولم نزل على هذه الحالة مدة من الزمن، فأفقد الله زوجة جاري وكان
صاحباً لي فدخلت إليه لأعزيه في زوجته فرأيته في أسوأ حال وهو مهموم تعبان السر
والخاطر فعند ذلك عزيته وسليته وقلت له لا تحزن على زوجتك الله يعوضك خيراً منها
ويكون عمرك طويلاً إن شاء الله تعالى فبكى بكاء شديداً وقال يا صاحبي: كيف أتزوج
بغيرها أو كيف يعوضني الله خيراً منها وأنا بقي من عمري يوم واحد فقلت له يا أخي
ارجع لعقلك ولا تبشر على روحك بالموت فإنك طيب بخير وعافية، فقال لي يا صاحبي
وحياتك في غد تعدمني وما بقيت عمرك تنظرني، فقلت له وكيف ذلك? فقال لي في هذا
النهار يدفنون زوجتي ويدفنوني معها في القبر فإنها عادتنا في بلادنا، إذا ماتت
المرأة يدفنون معها زوجها بالحياة، وإن مات الرجل يدفنون معه زوجته بالحياة حتى لا
يتلذذ أحد منهم بالحياة بعد رفيقه.
فقلت له بالله إن هذه العادة رديئة جداً وما يقدر عليها
أحد، فبينما نحن في ذلك الحديث وإذا بغالب أهل المدينة قد حضروا وصاروا يعزون
صاحبي في زوجته وفي نفسه وقد شرعوا في تجهيزها على جري عادتهم، فأحضروا تابوتاً
وحملوا فيه المرأة وذلك الرجل معهم وخرجوا بهما إلى خارج المدينة وأتوا إلى مكان
في جانب الجبل على البحر وتقدموا إلى مكان ورفعوا عنه حجراً كبيراً، فبان من تحت
ذلك الحجر خرزة من الحجر مثل خرزة البئر فرموا تلك المرأة فيها وإذا هو جب كبير
تحت الجبل، ثم إنهم جاؤوا بذلك الرجل وربطوه تحت صدره في سلبة، وأنزلوه في ذلك
الجب وأنزلوا عنده كوز ماء عذب كبير وسبعة أرغفة من الزاد ولما أنزلوه فك نفسه من
السلبة فسحبوا السلبة وغطوا فم البئر بذلك الحجر الكبير مثل ما كان وانصرفوا إلى
حال سبيلهم وتركوا صاحبي عند زوجته، فقلت في نفسي والله إن هذا الموت أصعب منالموت
الأول، ثم إني جئت عند ملكهم وقلت له يا سيدي كيف تدفنون الحي مع الميت في بلادكم.
فقال لي اعلم أن هذه عادتنا في بلادنا إذا مات الرجل
ندفن معه زوجته وإذا ماتت المرأة ندفن معها زوجها بالحياة حتى لا نفرق بينهما في
الحياة ولا في الممات وهذه العادة عن أجدادنا، فقلت يا ملك الزمان وكذا الرجل
الغريب مثلي إذا ماتت زوجته عندكم تفعلون به مثل ما فعلتم بهذا، فقال لي نعم ندفنه
معها ونفعل به كما رأيت.
فلما سمعت ذلك الكلام منه انشقت مرارتي من شدة الغم
والحزن على نفسي وذهل عقلي وصرت خائفاً أن تموت زوجتي قبلي فيدفنوني معها وأنا
بالحياة، ثم إني سليت نفسي لعلي أموت أنا قبلها ولم يعلم أحد السابق من اللاحق
وصرت أتلاهى في بعض الأمور. فما مضت مدة يسيرة بعد ذلك حتى مرضت زوجتي وقد مكثت
أياماً قلائل وماتت.
فاجتمع غالب الناس يعزونني ويعزون أهلها فيها وقد جاءني
الملك يعزيني فيها على جري عادتهم، ثم إنهم جاؤوا لها بغاسلة فغسلوها وألبسوها
أفخر ما عندها من الثياب والمصاغ والقلائد والجواهر من المعادن. فلما ألبسوا زوجتي
وحطوها في التابوت وحملوها وراحوا بها إلى ذلك الجبل، ورفعوا الحجر عن فم الجب
وألقوها فيه وأقبل جميع أصحابي وأهل زوجتي يودعونني في روحي وأنا أصيح بينهم أنا
رجل غريب وليس لي صبر على عادتكم، وهم لا يسمعون قولي ولا يلتفتون إلى كلامي. ثم
إنهم أمسكوني وربطوني بالغضب وربطوا معي سبعة أقراص من الخبز وماء عذب على جري
عادتهم، وأنزلوني في ذلك البئر فإذا هو مغارة كبيرة تحت ذلك الجبل، وقالوا لي فك
نفسك من الحبال فلم أرض أن أفك نفسي فرموا علي الحبال ثم غطوا فم المغارة بذلك
الحجر الكبير الذي كان عليها وراحوا إلى حال سبيلهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
حطوه في المغارة مع زوجته التي ماتت وردوا باب المغارة وراحوا إلى حال سبيلهم قال
وأما أنا فإني رأيت في تلك المغارة أمواتاً كثيرة ورائحتها منتنة كريهة، فلمت نفسي
على فعلتي وقلت: والله إني أستحق جميع ما يجري لي وما يقع لي، ثم إني صرت لا أعرف
الليل من النهار، وصرت أتقوت باليسير ولا آكل حتى يكاد أن يقطعني الجوع ولا أشرب
حتى يشتد بي العطش وأنا خائف أن يفرغ ما عندي من الزاد والماء، وقلت لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم أي شيء بلاني بالزواج في هذه المدينة، وكلما أقول خرجت
من مصيبة أقع في مصيبة أقوى منها، والله إن هذا الموت موت مشؤوم، يا ليتني غرقت في
البحر أو مت في الجبال كان أحسن لي من هذا الموت الرديء، ولم أزل على هذه الحالة
ألوم نفسي ونمت على عظام الأموات واستعنت بالله حتى أحرق قلبي الجوع وألهبني العطش
فقعدت وحسست على الخبز وأكلت منه شيئاً قليلاً وتجرعت عليه شيئاً قليلاً من الماء.
ثم إني قمت ووقفت على حيلي وصرت أمشي في جانب تلك
المغارة فرأيتها متسعة الجوانب خالية البطون ولكن في أرضها أموات كثيرة وعظام
رميمة من قديم الزمان فعند ذلك عملت لي مكاناً في جانب المغارة بعيداً عن الموتى
الطريين وصرت أنام فيه وقد قل زادي وما بقي معي إلا شيء يسير وقد كنت آكل في كل يوم
أو أكثر أكلة وأشرب شربة خوفاً من فراغ الماء والزاد من عندي قبل موتي، ولم أزل
على هذه الحالة إلى أن جلست يوماً من الأيام فبينما أنا جالس متفكر في نفسي كيف
أفعل إذا فرغ زادي والماء من عندي، وإذا بالصرة قد تزحزحت من مكانها ونزل منه
النور عندي فقلت يا ترى ما الخبر، وإذا بالقوم واقفون على رأس البئر وقد أنزلوا
رجلاً ميتاً وامرأة معه بالحياة وهي تبكي وتصيح على نفسها، وقد أنزلوا عندها شيئاً
كثيراً من الزاد والماء، فصرت انظر المرأة وهي لم تنظرني وقد غطوا فم البئر بالحجر
وانصرفوا إلى حال سبيلهم.
فقمت أنا وأخذت في يدي قصبة رجل ميت وجئت إلى المرأة
وضربتها في وسط رأسها فوقعت على الأرض مغشياً عليها فضربتها ثانياً وثالثاً فماتت
فأخذت خبزها وما معها ورأيت عليها شيئاً كثيراً من الحلي والحلل والقلائد والجواهر
والمعادن ثم إني أخذت الماء والزاد الذي مع المرأة وقعدت في الموضع الذي كنت عملته
في جانب المغارة لأنام فيه وصرت آكل من ذلك الزاد شيئاً قليلاً على قدر ما يقوتني
حتى لا يفرغ بسرعة، فأموت من الجوع والعطش وأقمت في تلك المغارة مدة من الزمان
وأنا كل من دفنوه أقتل من دفن معه بالحياة وآخذ أكله وشربه أتقوت به، إلى أن كنت
نائماً يوماً من الأيام فاستيقظت من منامي وسمعت شيئاً يكركب في جانب المغارة فقلت
ما يكون هذا ثم إني قمت ومشيت نحوه ومعي قصبة رجل ميت فلما أحس بي فر وهرب مني
فإذا هو وحش فتبعته إلى صدر المغارة فبان لي نور من مكان صغير مثل النجمة تارة
يبين لي وتارة يخفى عني.
فلما نظرته قصدت نحوه وبقيت كلما أتقرب منه يظهر لي نور
منه ويتسع فعند ذلك تحققت أنه خرق في تلك المغارة ينفذ للخلاء فقلت في نفسي لابد
أن يكون لهذا المكان حركة، إما أن يكون مدفناً ثانياً مثل الذي نزلوني منه وإما أن
يكون تخريق من هذا المكان ثم إني تفكرت في نفسي ساعة من الزمان ومشيت إلى ناحية
النور وإذا به ثقب في ظهر الجبل من الوحوش ثقبوه وصاروا يدخلون منه إلى هذا المكان
ويأكلون الموتى حتى يشبعون ويطلعون من ذلك الثقب فلما رأيته هدأت واطمأنت نفسي
وارتاح قلبي وأيقنت بالحياة بعد الممات وصرت كأني في المنام ثم إني عالجت حتى طلعت
من ذلك الثقب فرأيت نفسي على جانب البحر المالح فوق جبل عظيم وهو قاطع بين البحرين
وبين الجزيرة والمدينة ولا يستطيع أحد الوصول إليه فحمدت الله تعالى وشكرته وفرحت
فرحاً عظيماً وقوي قلبي.
ثم إني بعد ذلك رجعت من الثقب إلى المغارة ونقلت جميع ما
فليها من الزاد والماء الذي كنت وفرته ثم إني أخذت من ثياب الأموات ولبست شيئاً
منها غير الذي كان علي، وأخذت مما عليهم شيئاً كثيراً من أنواع العقود والجواهر
وقلائد اللؤلؤ والمصاغ من الفضة والذهب المرصع بأنواع المعادن والتحف وربطته في
ثياب الموتى وطلعتها من الثقب إلى ظهر الجبل ووقفت على جانب البحر وبقيت في كل يوم
أنزل المغارة وأطلع وكل من دفنوه آخذ زاده وماؤه وأقتله سواء كان ذكراً أو أنثى،
وأطلع من ذلك الثقب فأجلس على جانب البحر لأنتظر الفرج من الله تعالى وإذا بمركب
يجوز علي وصرت أنقل من تلك المغارة كل شيء رأيته من المصاغ وأربطه في ثياب الموتى،
ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري سار
ينقل من تلك المغارة ما يلقاه فيها من مصاغ وغيره، ويجلس على جانب البحر مدة من
الزمان قال فبينما أنا جالس يوماً من الأيام على جانب البحر وأنا متفكر في أمري
وإذا بمركب سائر في وسط البحر العجاج المتلاطم بالأمواج فأخذت في يدي ثوباً أبيض
من ثياب الموتى وربطته في عكاز وجريت به على شاطئ البحر وصرت أشير إليهم بذلك الثوب
حتى لاحت منهم التفاتة فرأوني وأنا في رأس الجبل، فجاؤوا إلي وسمعوا صوتي وأرسلوا
إلي زورقاً من عندهم وفيه جماعة من المركب ولم نزل مسافرين من جزيرة إلى جزيرة،
ومن بحر إلى بحر، وأنا أرجو النجاة، وصرت فرحاناً بسلامتي وكلما أتفكر قعودي في
المغارة مع زوجتي يغيب عقلي.
وقد وصلنا بقدرة الله تعالى مع السلامة إلى مدينة البصرة
فطلعت إليها وأقمت فيها أياماً قلائل، وبعدها جئت إلى مدينة بغداد فجئت إلى حارتي
ودخلت داري وقابلت أهلي وأصحابي وسألت عنهم ففرحوا بسلامتي وهنوني وقد خزنت جميع
ما كان معي من الأمتعة في حواصلي وتصدقت ووهبت وكسوت الأيتام والأرامل، وصرت في
غاية البسط والسرور وقد عدت لما كنت عليه من المعاشرة والمرافقة ومصاحبة الإخوان
واللهو والطرب، وهذا أعجب ما صار لي في السفرة الرابعة ولكن يا أخي تعش عندي وخذ
عادتك وفي غد تجيء عندي فأخبرك بما كان لي وما جرى لي في السفرة الخامسة فإنها
أعجب وأغرب مما سبق، ثم أمر له بمائة مثقال ذهب ومد السماط وتعشى الجماعة وانصرفوا
إلى حال سبيلهم وهم متعجبون غاية العجب، وكل حكاية أعظم من التي قبلها.
وقد راح السندباد الحمال إلى منزله وبات في غاية البسط
والانشراح وهو متعجب، ولما أصبح الصباح وأضاء نوره ولاح، قام السندباد البري وصلى
الصبح وتمشى إلى أن دخل دار السندباد البحري وصبح عليه. فرحب به وأمره بالجلوس
عنده حتى جاءه بقية أصحابه فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ودارت بينهم المحادثات
فابتدأ السندباد البحري بالكلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
الحكاية الخامسة من حكايات السندباد البحري
وهي السفرة الخامسة
وفي الليلة الخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري
ابتدأ بالكلام فيما جرى وما وقع له في الحكاية الخامسة فقال اعلموا يا إخواني أني
لما رجعت من السفرة الرابعة وقد غرقت في اللهو والطرب والانشراح وقد نسيت جميع ما
كنت لقيته وما جرى لي وما قاسيته من شدة فرحي بالمكسب والربح والفوائد، فحدثتني
نفسي بالسفر والتفرج في بلاد الناس وفي الجزائر فقمت وهممت في ذلك الوقت واشتريت
بضاعة تناسب البحر، وحزمت الحمول وسرت من مدينة بغداد وتوجهت إلى مدينة البصرة،
ومشيت على جانب الساحل، فرأيت مركباً كبيراً مليحاً فأعجبني فاشتريته وكانت عدته
جديدة واكتريت له ريساً وبحرية ونظرت عليه عبيدي وغلماني وأنزلت فيه حمولي وجاءني
جماعة من التجار فنزلوا حمولهم فيه ودفعوا لي الأجرة وسرنا ونحن في غاية الفرح
والسرور، وقد استبشرنا بالسلامة والكسب ولم نزل مسافرين من جزيرة إلى جزيرة ومن
بحر إلى بحر ونحن نتفرج في الجزر والبلدان ونطلع إليها نبيع فيها ونشتري، ولم نزل
على هذه الحالة إلى أن وصلنا يوماً من الأيام إلى جزيرة خالية من السكان. وليس
فيها أحد وهي خراب وفيها قبة عظيمة بيضاء كبيرة الحجم فطلعنا نتفرج عليها وإذا هي
بيضة رخ كبيرة.
فلما طلع التجار إليها وتفرجوا عليها، ولم يعلموا أنها
بيضة رخ فضربوها بالحجارة فكسرت ونزل منها ماء كثير وقد بان منها فرخ الرخ، فسحبوه
منها وطلعوه من تلك البيضة وذبحوه وأخذوا منه لحماً كثيراً وأنا في المركب ولم
أعلم ولم يطلعوني على ما فعلوه فعند ذلك قال لي واحد من الركاب يا سيدي قم تفرج
على هذه البيضة التي تحسبنها قبة، فقمت لاتفرج عليها فوجدت التجار يضربون البيضة،
فصحت عليهم لا تفعلوا هذا الفعل فيطلع طير الرخ ويكسر مركبنا ويهلكنا فلم يسمعوا
كلامي.
فبينما هم على هذه الحالة، وإذا بالشمس قد غابت عنا
والنهار أظلم وصار فوقنا غمامة أظلم الجو منها، فرفعنا رؤوسنا لننظر ما الذي حال
بيننا وبين الشمس، فرأينا أجنحة الرخ هي التي حجبت عنا ضوء الشمس حتى أظلم الجو
وذلك أنه لما جاء الرخ رأى بيضه انكسرت تبعنا وصاح علينا، فجاءت رفيقته، وصارا
حائمين على المركب يصرخان علينا بصوت أشد من الرعد فصحت أنا على الريس والبحرية
وقلت لهم: ادفعوا المركب واطلبو السلامة قبل أن نهلك فأسرع الريس وطلع التجار وحل
المركب وسرنا في تلك الجزيرة.
فلما رآنا الرخ سرنا في البحر غاب عنا ساعة من الزمان،
وقد سرنا وأسرعنا في السير بالمركب نريد الخلاص منهما والخروج من أرضهما، وإذا
بهما قد تبعانا وأقبلا علينا، وفي رجل كل واحد منهما صخرة عظيمة من الجبل، فألقى
الصخرة التي كان معه علينا، فجذب الريس المركب وقد أخطأها نزول الصخرة بشيء قليل،
فنزلت في البحر تحت المركب، فقام بنا المركب وقعد من عظم وقوعها في البحر وقد
رأينا قعر البحر من شدة عزمها.
ثم إن رفيقة الرخ ألقت علينا الصخرة التي معها وهي أصغر
من الأولى، فنزلت بالأمر المقدر على مؤخر المركب فكسرته وطيرت الدفة عشرين قطعة
وقد غرق جميع ما كان في المركب بالبحر، فصرت أحاول النجاة من حلاوة الروح فقدر
الله تعالى لي لوحاً من ألواح المركب فتعلقت فيه وركبته وصرت أقذف عليه برجلي
والريح والموج يساعداني على السير، وكان المركب قد غرق بالقرب من جزيرة في وسط
البحر، فرمتني المقادير بإذن الله تعالى إلى تلك الجزيرة فطلعت عليها وأنا على آخر
نفس وفي حالة الموت من شدة ما قاسيته من التعب والمشقة والجوع والعطش.
ثم إني انطرحت على شاطئ البحر ساعة من الزمان حتى ارتاحت
نفسي واطمأن قلبي ثم مشيت في تلك الجزيرة فرأيتها كأنها روضة من رياض الجنة
أشجارها يانعة، وأنهارها دافقة، وطيورها مغردة تسبح من له العزة والبقاء وفي تلك
الجزيرة شيء كثير من الأشجار، والفواكه وأنواع الأزهار، فعند ذلك أكلت من الفواكه
حتى شبعت وشربت من تلك الأنهار، حتى رويت وحمدت الله تعالى على ذلك واثنيت عليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري حمد
الله وأثنى عليه وقال ولم أزل على هذه الحالة قاعداً في الجزيرة، إلى أن أمسى
المساء وأقبل الليل وأنا مثل القتيل مما حصل لي من التعب والخوف ولم أسمع في تلك
الجزيرة صوتاً ولم أر فيها أحداً ولم أزل راقداً فيها إلى الصباح، ثم قمت على حيلي
ومشيت بين تلك الأشجار ساقية على عين ماء جارية وعند تلك الساقية شيخ جالس مليح،
وذلك الشيخ مؤتزر بإزار من ورق الأشجار فقلت في نفسي لعل هذا الشيخ طلع إلى هذه
الجزيرة وهو من الغرقى الذين كسر بهم المركب، ثم دنوت منه وسلمت عليه فرد الشيخ
علي السلام بالإشارة ولم يتكلم، فقلت له يا شيخ ما سبب جلوسك في هذا المكان فحرك
رأسه وتأسف وأشار لي بيده يعني احملني على رقبتك وانقلني من هذا المكان إلى جانب
الساقية الثانية فقلت في نفسي اعمل مع هذا معروفاً وأنقله إلى المكان الذي يريده
لعل ثوابه يحصل لي فتقدمت إليه وحملته على أكتافي وجئت إلى المكان الذي أشار لي
إليه وقلت له انزل على مهلك فلم ينزل عن أكتافي وقد لف رجليه على رقبتي فنظرت إلى
رجليه فرأيتهما مثل جلد الجاموس في السواد والخشونة ففزعت منه وأردت أن أرميه من
فوق أكتافي فقرط على رقبتي برجليه وخنقني بهما حتى اسودت الدنيا في وجهي وغبت عن
وجودي ووقعت على الأرض مغشياً علي مثل الميت فرفع ساقيه وضربني على ظهري وعلى
أكتافي فحصل لي ألم شديد فنهضت قائماً به وهو راكب فوق أكتافي وقد تعبت منه فأشار
لي بيده أن ادخل بين الأشجار فدخلت إلى أطيب الفواكه وكنت إذا خالفته يضربني
برجليه ضرباً أشد من ضرب الأسواط.
ولم يزل يشير إلي بيده إلى كل مكان أراده وأنا أمشي به
إليه وإن توانيت أو تمهلت يضربني وأنا معه شبه الأسير وقد دخلنا في وسط الجزيرة
بين الأشجار وصار يبول ويغوط على أكتافي ولا ينزل ليلاً ولا نهاراً وإذا أراد
النوم يلف رجليه على رقبتي وينام قليلاً، ثم يقوم ويضربني فأقوم مسرعاً به ولا
أستطيع مخالفته من شدة ما أقاسي منه وقد لمت نفسي على ما كان مني من حمله والشفقة
عليه.
ولم أزل معه على هذه الحالة وأنا في أشد ما يكون من
التعب وقلت في نفسي أنا فعلت مع هذا خيراً فانقلب علي شراً والله ما بقيت أفعل مع
أحد خيراً طول عمري، وقد صرت أتمنى الموت من الله تعالى في كل وقت وكل ساعة من
كثرة ما أنا فيه من التعب والمشقة.
ولم أزل على هذه الحالة مدة من الزمان إلى أن جئت به
يوماً من الأيام إلى مكان في الجزيرة فوجدت فيه يقطيناً كثيراً ومنه شيء يابس
فأخذت منه واحدة كبيرة يابسة وفتحت رأسها وصفيتها إلى شجرة العنب فملأتها منها
وسددت رأسها ووضعتها في الشمس وتركتها مدة أيام حتى صارت خمراً صافياً وصرت كل يوم
أشرب منه لأستعين به على تعبي مع ذلك الشيطان المريد وكلما سكرت منها تقوى همتي
فنظرني يوماً من الأيام وأنا أشرب فأشار لي بيده ما هذا فقلت له هذا شيء مليح يقوي
القلب ويشرح الخاطر.
ثم إني جريت به ورقصت بين الأشجار وحصل لي نشوة من السكر
فصفقت وغنيت وانشرحت، فلما رآني على هذه الحالة أشار لي أن أناوله اليقطينة ليشرب
منها فخفت منه وأعطيتها له فشرب ما كان باقياً فيها ورماها على الأرض وقد حصل له
طرب فصار يهتز على أ:تافي ثم إنه سكر وغرق في السكر وقد ارتخت جميع أعضائه وفرائصه
وصار يتمايل من فوق أكتافي فلما علمت بسكره وأنه غاب عن الوجود مددت يدي إلى رجليه
وفككتهما من رقبتي ثم ملت به إلى الأرض وألقيته عليها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
ألقى الشيطان عن أكتافه على الأرض قال فما صدقت أن خلصت نفسي ونجوت من الأمر الذي
كنت فيه ثم إني خفت منه أي يقوم من سكره ويؤذيني، وأخذت صخرة عظيمة من بين
الأشجار، وجئت إليه فضربته على رأسه وهو نائم فاختلط لحمه بدمه وقد قتل فلا رحمة
الله عليه وبعد ذلك مشيت في الجزيرة وقد ارتاح خاطري وجئت إلى المكان الذي كنت فيه
على ساحل البحر، ولم أزل في تلك الجزيرة آكل من أثمارها، وأشرب من أنهارها مدة من
الزمان وأنا أترقب مركباً يمر علي إلى أن كنت جالساً يوماً من الأيام متفكراً فيما
جرى لي وما كان من أمري وأقول في نفسي يا ترى هل يبقيني الله سالماً ثم أعود إلى
بلادي وأجتمع بأهلي وأصحابي? وإذا بمركب قد أقبل من وسط البحر العجاج المتلاطم
بالأمواج ولم يزل سائراً حتى رسى على تلك الجزيرة وطلع منه الركاب إلى الجزيرة
فمشيت إليهم فلما نظروني أقبلوا علي كلهم مسرعين واجتمعوا حولي وقد سألوني عن حالي
وما سبب وصولي إلى تلك الجزيرة، فأخبرتهم بأمري وما جرى لي فتعجبوا من ذلك غاية
العجب، وقالوا إن هذا الرجل الذي ركب على أكتافك يسمى شيخ البحر وما أحد دخل تحت
أغضائه وخلص منه إلا أنت والحمد لله على سلامتك، ثم إنهم جاؤوا إلي بشيء من الطعام
فأكلت حتى اكتفيت وأعطوني شيئاً من الملبوس لبسته وسترت به عورتي.
ثم أخذوني معهم في المركب وقد سرنا أياماً وليالي فرمتنا
المقادير على مدينة عالية البناء جميع بيوتها مطلة على البحر وتلك المدينة يقال
لها مدينة القرود وإذا دخل الليل، يأتي الناس الذين هم ساكنون في تلك المدينة
فيخرجون من هذه الأبواب التي على البحر، ثم ينزلون في زوارق ومراكب ويبيتون في
البحر خوفاً من القرود أن ينزلوا عليهم في الليل من الجبال فطلعت أتفرج في تلك
المدينة، فسافر المركب ولم أعلم فندمت على طلوعي إلى تلك المدينة وتذكرت رفقتي وما
جرى لي مع القرود أولاً وثانياً فقعدت أبكي وأنا حزين.
فتقدم إلي رجل من أصحاب هذه البلد. وقال يا سيدي كأنك
غريب في هذه الديار فقلت نعم أنا غريب ومسكين وكنت في مركب قد رسى على تلك المدينة
فطلعت منه لأتفرج في المدينة وعدت إليه فلم أره. فقال قم وسر معنا انزل الزورق،
فإنك إن قعدت في المدينة ليلاً أهلكتك القرود فقلت له سمعاً وطاعة وقمت من وقتي
وساعتي، ونزلت معهم في الزورق ودفعوه من البر حتى أبعدوه عن الساحل مقدار ميل
وباتوا تلك الليلة وأنا معهم.
فلما أصبح الصباح، رجعوا بالزورق إلى المدينة وطلعوا
وراح كل واحد منهم إلى شغله ولم تزل هذه عادتهم كل ليلة وكل مت تخلف منهم في
المدينة بالليل جاء إليه القرود وأهلكوه وفي النهار تطلع القرود إلى خارج المدينة
فيأكلون من أثمار البساتين ويرقدون في الجبال إلى وقت المساء ثم يعودون إلى
المدينة وهذه المدينة في أقصى بلاد السودان ومن أعجب ما وقع لي من أهل هذه المدينة
أن شخصاً من الجماعة الذين بت معهم في الزورق قال لي يا سيدي أنت غريب في هذه
الديار فهل لك صنعة تشتغل فيها فقلت لا والله يا أخي ليس لي صنعة ولست أعرف عمل
شيء وأنا رجل تاجر صاحب مال ونوال وكان لي مركب ملكي مشحوناً بأموال كثيرة وبضائع
فكسر في البحر وغرق جميع ما كان فيه وما نجوت من الغرق إلا بإذن الله فرزقني الله
بقطعة لوح ركبتها فكانت السبب في نجاتي من الغرق فعند ذلك قام الرجل وأحضر لي
مخلاة من قطن وقال لي خذ هذه المخلاة واملأها حجارة زلط من هذه المدينة واخرج مع
جماعة من أهل المدينة وأنا أرافقك به وأوصيهم عليك وافعل كما يفعلون فلعلك أن تعمل
بشيء تستعين به على سفرك وعودتك إلى بلادك.
ثم إن ذلك الرجل أخذني وأخرجني إلى خارج المدينة فنقيت
حجارة صغيرة من الزلط وملأت تلك المخلاة وإذا بجماعة خارجين من المدينة فأرفقني
بهم وأوصاهم علي، وقال لهم هذا رجل غريب فخذوه معكم وعلموه اللقط فلعله يعمل بشيء
يتقوت به ويبقى لكم الأجر والثواب فقالوا سمعاً وطاعة ورحبوا بي وأخذوني معهم،
وساروا وكل واحد منهم معه مخلاة مثل المخلاة التي معي مملوءة زلطاً ولم نزل سائرين
إلى أن وصلنا إلى واد واسع فيه أشجار كثيرة عالية لا يقدر أحد على أن يطلع عليها
وفي تلك الوادي قرود كثيرة.
فلما رأتنا هذه القرود نفرت منا وطلعت تلك الأشجار
فصاروا يرجمون القرود بالحجارة التي معهم في المخالي، والقرود تقطع من ثمار تلك
الأشجار وترمي بها هؤلاء الرجال فنظرت تلك الثمار التي ترميها القرود وإذا هي جوز
هندي فلما رأيت ذلك العمل من القوم، اخترت شجرة عظيمة عليها قرود كثيرة وجئت إليها
وصرت أرجم هذه القرود فتقطع ذلك الجوز وترميني به فأجمعه كما يفعل القوم فما فرغت
الحجارة من مخلاتي حتى جمعت شيئاً كثيراً.
فلما فرغ القوم من هذا العمل لموا جميع ما كان معهم وحمل
كل واحد منهم ما أطاقه ثم عدنا إلى المدينة في باقي يومنا فجئت إلى الرجل صاحبي
الذي أرفقني بالجماعة وأعطيته جميع ما جمعت وشكرت فضله فقال لي خذ هذا بعه وانتفع
بثمنه ثم أعطاني مفتاح مكان في داره وقال لي ضع في هذا المكان هذا الذي بقي معك من
الجوز واطلع في كل يوم مع الجماعة مثل ما طلعت هذا اليوم، والذي تجيء به ميز منه
الرديء وبعه وانتفع بثمنه واحفظه عندك في هذا المكان، فلعلك تجمع منه شيئاً يعينك
على سفرك فقلت له أجرك على الله تعالى وفعلت مثل ما قال لي ولم أزل في كل يوم أملأ
المخلاة من الحجارة وأطلع مع القوم وأعمل مثل ما يعملون وقد صاروا يتواصون بي
ويدلونني على الشجرة التي فيها الثمر الكثير ولم أزل على هذا الحال مدة من الزمان
وقد اجتمع عندي شيء كثير من الجوز الهندي الطيب وبعت شيئاً كثيراً وكثر عندي ثمنه،
وصرت أشتري كل شيء رأيته ولاق بخاطري، وقد صفا وقتي وزاد في المدينة حظي، ولم أزل
على هذه الحالة مدة من الزمان.
فبينما أنا واقف على جانب البحر وإذا بمركب قد ورد إلى
تلك المدينة ورسى على الساحل وفيها تجار معهم بضائع، فصاروا يبيعون ويشترون
ويقايضون على شيء من الجوز الهندي وغيره، فجئت عند صاحبي وأعلمته بالمركب الذي جاء
وأخبرته بأني أريد السفر إلى بلادي، فقال الرأي لك فودعته وشكرته على إحسانه لي ثم
إني جئت عند المركب وقابلت الريس واكتريت معه وأنزلت ما كان معي من الجوز وغيره في
ذلك المركب وقد ساروا بالمركب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
نزل من مدينة القرود في المركب وأخذ ما كان معه من الجوز الهندي وغيره واكترى مع
الريس قال وقد ساروا بالمركب في ذلك اليوم ولم نزل سائرين من جزيرة إلى جزيرة ومن
بحرإلى بحر إلى أن وصلنا البصرة، فطلعت فيها وأقمت بها مدة يسيرة، ثم توجهت إلى
مدينة بغداد ودخلت حارتي وجئت إلى بيتي وسلمت على أهلي وأصحابي فهنوني بالسلامة،
وخزنت جميع ما كان معي من البضائع والأمتعة، وكسوت الأيتام والأرامل وتصدقت ووهبت
وهاديت أهلي وأصحابي وأحبابي، وقد عوض الله علي بأكثر مما راح مني أربع مرات وقد
نسيت ما جرى لي وما قاسيته من التعب بكثرة الربح والفوائد وعدت لما كنت عليه في
الزمن الأول من المعاشر والصحبة وهذا أعجب ما كان من أمري في السفرة الخامسة، ولكن
تعشوا وفي غد تعالوا أخبركم بما كان في السفرة السادسة فإنها أعجب من هذه فعند ذلك
مدوا السماط وتعشوا.
فلما فرغوا من العشاء أمر السندباد للحمال بمائة مثقال
من الذهب فأخذها وانصرف وهو متعجب من ذلك الأمر وبات السندباد الحمال في بيته،
ولما أصبح الصباح قام وصلى الصبح ومشى إلى أن وصل إلى دار السندباد البحري فدخل
عليه وأمره بالجلوس فجلس عنده ولم يزل يتحدث معه حتى جاء بقية أصحابه فتحدثوا
ومدوا السماط وشربوا وتلذذوا وطربوا.
الحكاية السادسة من حكايات السندباد البحري وهي السفرة
السادسة وابتدأ السندباد البحري يحدثهم بحكاية السفرة السادسة فقال لهم اعلموا يا
إخواني وأحبائي وأصحابي، أني لما جئت من تلك السفرة الخامسة ونسيت ما كنت قاسيته
بسبب اللهو والطرب والبسط والانشراح وأنا في غاية الفرح والسرور، ولم أزل على هذه
الحالة إلى أن جلست يوماً من الأيام في حظ وسرور وانشراح زائد.
فبينما أنا جالس إذا بجماعة من التجار وردوا علي وعليهم
آثار السفر، فعند ذلك تذكرت أيام قدومي من السفر وفرحي بدخولي بلقاء أهلي وأصحابي
وأحبائي وفرحي ببلادي فاشتاقت نفسي إلى السفر والتجارة، فعزمت على السفر واشتريت
لي بضائع نفيسة فاخرة تصلح للبحر وحملت حمولي وسافرت من مدينة بغداد إلى مدينة
البصرة، فرأيت سفينة عظيمة فيها تجار وأكابر ومعهم بضائع نفيسة فنزلت حمولي معهم
في هذه السفينة وسرنا بالسلامة من مدينة البصرة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
جهز حموله ونزلها في المركب من مدينة البصرة وسافر قال ولم نزل مسافرين من مكان
إلى مكان ومن مدينة إلى مدينة، ونحن نبيع ونشتري ونتفرج على بلاد الناس وقد طاب
لنا السعد والسفر، واغتنمنا المعاش إلى أن كنا سائرين يوماً من الأيام وإذا بريس
المركب صرخ وصاح ورمى عمامته ولطم على وجهه ونتف لحيته ووقع في بطن المركب من شدة
الغم والقهر.
فاجتمع عليه جميع التجار والركاب وقالوا له يا ريس ما
الخبر فقال لهم الريس اعلموا يا جماعة أننا قد تهنا بمركبنا وخرجنا من البحر الذي
كنا فيه ودخلنا بحر لم نعرف طرقه وإذا لم يقيض الله لنا شيئاً يخلصنا من هذا البحر
هلكنا جميعاً فادعوا الله تعالى أن ينجينا من هذا الأمر، ثم إن الريس قام وصعد على
الصاري وأراد أن يحل القلوع، فقوي الريح على المركب فرده على مؤخره فانكسرت دفته
قرب جبل عال، فنزل الريس من الصاري وقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا
يقدر أحد أن يمنع المقدور، واعلموا أننا قد وقعنا في مهلكة عظيمة ولم يبق لنا منها
خلاص ولا نجاة، فبكى جميع الركاب على أنفسهم وودع بعضهم بعضاً لفراغ أعمارهم
وانقطع رجاؤهم ومال المركب على ذلك الجبل فانكسر وتفرقت الواحة فغرق جميع ما فيه
ووقع التجار في البحر، فمنهم من غرق ومنهم من تمسك بذلك الجبل وطلع عليه وكنت أنا
من جملة من طلع على ذلك الجبل، وإذا فيه جزيرة كبيرة عندها كثير من المراكب
المكسرة وفيها أرزاق كثيرة على شاطئ البحر من الذي يطرحه البحر من المراكب التي
كسرت وغرق ركابها وفيها شيء كثير يحير العقل والفكر من المتاع والأموال التي
يلقيها البحر على جوانبها.
فعند ذلك طلعت على تلك الجزيرة ومشيت فيها. فرأيت في
وسطها عين ماء عذب حار خارج من تحت أول ذلك الجبل وداخل في آخره من الجانب الثاني،
فعند ذلك طلع جميع الركاب على ذلك الجبل إلى الجزيرة وانتشروا فيها وقد ذهلت
عقولهم من ذلك وصاروا مثل المجانين من كثرة ما أروا في الجزيرة من الأمتعة
والأموال على ساحل البحر. وقد رأيت في وسط تلك العين شيئاً كثيراً من أصناف
الجواهر والمعادن واليواقيت اللآلئ الكبار الملوكية وهي مثل الحصى في مجاري الماء
في تلك الغيطان، وجميع أرض تلك العين تبرق من كثرة ما فيها من المعادن وغيرها.
ورأينا كثيراً في تلك الجزيرة من أعلى العود العود الصيني
والعود القماري، وفي تلك الجزيرة عين نابعة من صنف العنبر الخام وهو يسيل مثل
الشمع على جانب تلك من شدة حر الشمس ويمتد على ساحل البحر فتطلع الهوايش من البحر
وتبتلعه وتنزل في البحر فيحمي في بطونها، فتقذفه من أفواهها في البحر فيجمد على
وجه الماء فعند ذلك يتغير لونه وأحواله فتقذفه الأمواج إلى جانب البحر فيأخذه
السواحون والتجار الذين يعرفونه فيبيعونه.
وأما العنبر الخالص من الابتلاع فإنه يسيل على جانب تلك
العين ويتجمد بأرضه، وإذا طلعت عليه الشمس يسيح وتبقى منه رائحة ذلك الوادي كله
مثل المسك، وإذا زالت عنه الشمس يجمد وذلك المكان الذي هو فيه هذا العنبر الخام لا
يقدر أحد على دخوله ولا يستطيع سلوكه فإن الجبل محاط بتلك الجزيرة ولا يقدر أحد
على صعود الجبل، ولم نزل دائرين في تلك الجزيرة نتفرج على ما خلق الله تعالى فيها
من الأرزاق ونحن متحيرون من أمرنا وفيما نراه وعندنا خوف شديد.
وقد جمعنا على جانب الجزيرة شيئاً قليلاً من الزاد،
فصرنا نوفره ونأكل منه في كل يوم أو يومين أكلة واحدة ونحن خائفون أن يفرغ الزاد
منا فنموت كمداً من شدة الجوع والخوف، وكل من مات منا نغسله ونكفنه في ثياب وقماش
من الذي يطرحه البحر على جانب الجزيرة حتى مات منا خلق كثير ولم يبق منا إلا جماعة
قليلة فضعفنا بوجع البطن من البحر وأقمنا مدة قليلة، فمات جميع أصحابي ورفقائي
واحداً بعد واحد، وكل من مات منهم ندفنه وبقيت في تلك الجزيرة وحدي، وبقي معي زاد
قليل بعد أن كان كثيراً فبكيت على نفسي وقلت يا ليتني مت قبل رفقائي وكانوا غسلوني
ودفنوني فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسون بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
دفن رفقاءه جميعاً وصار في الجزيرة وحده قال: ثم إني أقمت مدة يسيرة ثم قمت حفرت
لنفسي حفرة عميقة في جانب تلك الجزيرة وقلت في نفسي، إذا ضعفت وعلمت أن الموت قد
أتاني أرقد في هذا القبر فأموت فيه ويبقى الريح يسف الرمل علي فيغطيني وأصير
مدفوناً فيه وصرت ألوم نفسي على قلة عقلي وخروجي من بلادي ومدينتي وسفري إلى
البلاد بعد الذي قاسيته أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً ولا سفرة من
الأسفار إلا وأقاسي فيها أهوالاً وشدائداً أشق وأصعب من الأهوال التي قبلها وما
أصدق بالنجاة والسلامة، وأتوب عن السفر في البحر وعن عودي إليه ولست محتاجاً لمال
وعندي شيء كثير والذي عندي لا أقدر أن أفنيه ولا أضيع نصفه في باقي عمري وعندي ما
يكفيني وزيادة، ثم إني تفكرت في نفسي وقلت والله لابد أن هذا النهر له أول وآخر
ولابد له من مكان يخرج منه إلى العمار، والرأي السديد عندي أن أعمل لي فلكاً
صغيراً على قدر ما أجلس فيه وأنزل وألقيه في هذا النهر وأسير به، فإن وجدت خلاصاً
أخلص وأنجو بإذن الله تعالى وإن لم أجد لي خلاصاً أموت داخل هذا النهر أحسن من هذا
المكان وصرت أتحسر على نفسي.
ثم إني قمت وسعيت فجمعت أخشاباً من تلك الجزيرة من خشب
العود الصيني والقماري، وشددتها على جانب البحر بحبال المراكب التي كسرت وجئت
بألواح مساوية من ألواح المراكب ووضعتها في ذلك الخشب وجعلت ذلك الفلك في عرض ذلك
النهر أو أقل من عرضه وشددته طيباً مكيناً وقد أخذت معي من تلك المعادن والجواهر
والأموال واللؤلؤ الكبير الذي مثل الحصى وغير ذلك من الذي في تلك الجزيرة وشيئاً
من العنبر الخام الخالص الطيب ووضعته في ذلك الفلك، ووضعت فيه جميع ما جمعته من
الجزيرة وأخذت معي جميع ما كان باقياً من الزاد ثم إني ألقيت ذلك الفلك في هذا
النهر وجعلت له خشبتين على جنبيه مثل المجاديف، وعملت بقول بعض الشعراء:
ترحل عن مكان فـيه ضـيم وخل الدار تنعي من بنـاهـا
فإنك واجـد أرضـاً بـأرض ونفسك لم تجد نفساً سـواهـا
ولا تجزع لحادثة الـلـيالـي فكل مصيبة يأتي انتهـاهـا
ومن كانت منـيتـه بـأرض فليس يموت في أرض سواها
ولا تبعث رسولك في مـهـم فما لنفس ناصحة سـواهـا
وسرت بذلك الفلك في النهر وأنا متفكر فيما يصير إليه
أمري، ولم أزل سائراً إلى المكان الذي يدخل فيه النهر تحت ذلك الجبل، وأدخلت الفلك
في هذا المكان وقد صرت في ظلمة شديدة فأخذتني سنة من النوم من شدة القهر فنمت على
وجهي في الفلك، ولم يزل سائراً بي وأنا نائم لا أدري بكثير ولا قليل حتى استيقظت
فوجدت نفسي في النور، ففتحت عيني فرأيت مكاناً واسعاً وذلك الفلك مربوط على جزيرة
وحولي جماعة من الهنود والحبشة، فلما رأوني قمت نهضوا إلي وكلموني بلسانهم فلم
أعرف ما يقولون وبقيت أظن أنه حلم وأن هذا في المنام من شدة ما كنت فيه من الضيق
والقهر.
فلما كلموني ولم أعرف حديثهم ولم أرد عليهم جواباً تقدم
إلي رجل منهم وقال لي بلسان عربي السلام عليك يا أخانا من أنت ومن أين جئت وما سبب
مجيئك إلى هذا المكان ونحن أصحاب الزرع والغيطان وجئنا لنسقي غيطاننا وزرعنا
فوجدناك نائماً في الفلك، فأمسكناه وربطناه عندنا حتى تقوم على مهلك فأخبرنا ما
سبب وصولك إلى هذا المكان فقلت له بالله عليك يا سيدي ائتني بشيء من الطعام فإني
جائع وبعد ذلك اسألني عما تريد، فأسرع وأتاني بالطعام فأكلت حتى شبعت، واسترحت
وسكن روعي وازداد شبعي وردت لي روحي فحمدت الله تعالى على كل حال، وفرحت بخروجي من
ذلك النهر ووصولي إليهم وأخبرتهم بجميع ما جرى لي من أوله إلى آخره وما لقيته في
ذلك النهار وضيقه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
طلع من الفلك على جانب الجزيرة ورأى فيها جماعة من الهنود والحبشة، واستراح من
تعبه سألوه عن خبره فأخبرهم بقصته.
ثم إنهم تكلموا مع بعضهم وقالوا لابد أن نأخذه معنا
ونعرضه على ملكنا ليخبره بما جرى له. قال: فأخذوني معهم وحملوه معي الفلك بجميع ما
فيه من المال والنوال والجواهر والمعادن والمصاغ وأدخلوني على ملكهم وأخبروه بما
جرى، فسلم علي ورحب بي وسألني عن حالي وما اتفق لي من الأمور فأخبرته بجميع ما كان
من أمري وما لاقيته من أوله إلى آخره فتعجب الملك من هذه الحكاية غاية العجب
وهنأني بالسلامة.
فعند ذلك قمت واطلعت من ذلك الفلك شيئاً كثيراً من
المعادن والجواهر والعود والعنبر الخام وأهديته إلى الملك. فقبله مني وأكرمني
إكراماً زائداً، وأنزلني في مكان عنده، وقد صاحبت أخيارهم وأكابرهم وأعزوني معزة
عظيمة وصرت لا أفارق دار الملك وصار الواردون إلى تلك الجزيرة يسألونني عن أمور
بلادي فأخبرهم بها. وكذلك أسألهم عن أمور بلادهم فيخبروني بها إلى أن سألني ملكهم
يوماً من الأيام عن أحوال بلادي. وعن أحوال حكم الخليفة في بلاد مدينة بغداد
فأخبرته بعدله في أحكامه، فتعجب من أموره وقال لي والله إن هذا الخليفة له أمور
عقلية وأحوال مرضية، وأنت قد حببتني فيه ومرادي أن أجهز له هدية وأرسلها معك إليه
فقلت سمعاً وطاعة يا مولانا أوصلها إليه وأخبره أنك محب صادق ولم أزل مقيماً عند
ذلك الملك وأنا في غاية العز والإكرام وحسن المعيشة، مدة من الزمان، إلى أن كنت
جالساً يوماً من الأيام في دار الملك، فسمعت بخبر جماعة من تلك المدينة أنهم جهزوا
لهم مركباً يريدون السفر فيه إلى نواحي مدينة البصرة، فقلت في نفسي ليس لي أوفق من
السفر مع هؤلاء الجماعة.
فأسرعت من وقتي وساعتي وقبلت يد ذلك الملك وأعلمته بأن
مرادي السفر مع الجماعة في المركب الذي جهزوه، لأني اشتقت إلى أهلي وبلادي فقال لي
الملك الرأي لك وإن شئت الإقامة عندنا فعلى الرأس والعين، وقد حصل لنا أنسك، فقلت
والله يا سيدي لقد غمرتني بجميلك وإحسانك ولكن قد اشتقت إلى أهلي وبلادي وعيالي.
فلما سمع كلامي أحضر التجار الذين جهزوا المركب وأوصاهم
علي ووهب لي شيئاً كثيراً من عنده ودفع عني أجرة المركب وأرسل معي هدية عظيمة إلى
الخليفة هارون الرشيد بمدينة بغداد.
ثم إني ودعت الملك ووعدت جميع أصحابي الذين كنت أتردد
عليهم ثم نزلت المركب مع التجار وسرنا، وقد طاب لنا الريح والسفر ونحن متوكلون على
الله سبحانه وتعالى، ولم نزل مسافرين من بحر إلى بحر ومن جزيرة إلى جزيرة إلى أن وصلنا
بالسلامة بإذن الله إلى مدينة البصرة فطلعت من المركب ولم أزل مقيماً بأرض البصرة
أياماً وليالي، حتى جهزت نفسي وحملت حمولي وتوجهت إلى مدينة بغداد دار السلام،
فدخلت على الخليفة هارون الرشيد وقدمت إليه تلك الهدية وأخبرته بجميع ما جرى لي.
ثم خزنت جميع أموالي وأمتعتي ودخلت حارتي وجاءني أهلي
وأصحابي وفرقت الهدايا على جميع أهلي وتصدقت ووهبت، وبعد مدة من الزمان أرسل إلي
الخليفة فسألني عن سبب تلك الهدية ومن أين هي فقلت: يا أمير المؤمنين والله لا
أعرف المدينة التي هي منها اسماً ولا طريقاً ولكن لما غرق المركب الذي كنت فيه
طلعت على جزيرة وصنعت لي فلكاً ونزلت فيه في نهر كان في وسط الجزيرة وأخبرته بما
جرى لي فيها وكيف كان خلاصي من ذلك النهر إلى تلك المدينة، وبما جرى لي فيها وبسبب
إرسال الهدية فتعجب من ذلك غاية العجب، وأمر المؤرخون أن يكتبوا حكايتي ويجعلوها
في خزائنه ليعتبر بها كل من رآها ثم إنه أكرمني إكراماً زائداً.
أقمت بمدينة بغداد على ما كنت عليه في الزمن الأول،
ونسيت جميع ما جرى لي وما قاسيته من أوله إلى آخره، ولم أزل في لذة عيش ولهو وطرب
فهذا ما كان من أمري في السفرة السادسة يا إخواني، وإن شاء الله تعالى في غد أحكي
لكم حكاية السفر السابعة فإنها أعجب وأغرب من هذه السفرات، ثم إنه أمر بمد السماط
وتعشوا عنده، وأمر السندباد البحري للسندباد الحمال بمائة مثقال من الذهب فأخذها
وانصرف الجماعة وهم متعجبون من ذلك غاية العجب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
الحكاية السابعة من حكايات السندباد البحري
وهي السفرة السابعة
وفي الليلة السابعة والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
حكى حكاية سفرته السادسة، وراح كل واحد إلى حال سبيله بات السندباد الحمال في
منزله ثم صلى الصبح وجاء إلى منزل السندباد البحري وأقبل الجماعة.
فلما تكلموا ابتدأ السندباد البحري بالكلام في حكاية
السفرة السابعة وقال اعلموا يا جماعة أني لما رجعت من السفرة السادسة وعدت لما كنت
عليه في الزمن الأول وأنا متواصل الهناء والسرور ليلاً ونهاراً وقد حصل لي مكاسب
كثيرة وفوائد عظيمة فاشتاقت نفسي إلى الفرجة في البلاد وإلى ركوب البحر وعشرة
التجار وسماع الأخبار فهممت بذلك الأمر وحزمت أحمالاً بحرية من الأمتعة الفاخرة
وحملتها من مدينة بغداد إلى مدينة البصرة، فرأيت مركباً محضراً للسفر وفيه جماعة
من التجار العظام فنزلت معهم واستأنست بهم وسرنا بسلامة وعافية قاصدين السفر وقد
طاب لنا الريح، حتى وصلنا إلى مدينة الصين ونحن في غاية الفرح والسرور نتحدث مع
بعضنا في أمر السفر والمتجر.
فبينما نحن على هذه الحالة وإذا بريح عاصف هب من مقدم
المركب ونزل علينا مطر شديد حتى ابتلينا وابتلت حمولنا فغطينا الحمول باللباد
والخيش خوفاً على البضاعة من التلف بالمطر وصرنا ندعوا الله تعالى ونتضرع إليه في
كشف ما نزل بنا مما نحن فيه فعند ذلك قام ريس المركب وشد حزامه وتشمر وطلع على
الصاري وصار يلتفت يميناً وشمالاً وبعد ذلك نظر إلى أهل المركب ولطم على وجهه ونتف
لحيته فقلنا يا ريس ما الخبر فقال لنا اطلبوا من الله تعالى النجاة مما وقعنا
وابكوا على أنفسكم وودعوا بعضكم واعلموا أن الريح قد غلب علينا ورمانا في آخر بحار
الدنيا.
ثم إن الريس نزل من فوق الصاري وفتح صندوقه، وأخرج منه
كيساً قطناً وفكه وأخرج منه تراباً مثل الرماد، وبله بالماء وصبر عليه قليلاً وشمه
ثم إنه أخرج من ذلك الصندوق كتاباً صغيراً، وقرأ فيه وقال لنا اعلموا يا ركاب أن
في هذا الكتاب أمراً عجيباً يدل على أن كل من وصل إلى هذه الأرض لم ينج منها بل
يهلك، فإن هذه الأرض تسمى إقليم الملوك وفيها قبر سيدنا سليمان بن داود عليهما
السلام، وفيه حيات عظام الخلقة هائلة المنظر فكل مركب وصل إلى هذا الإقليم يطلع له
حوت من البحر فيبتلعه بجميع ما فيه.
فلما سمعنا هذا الكلام من الريس تعجبنا غاية العجب من
حكايته فلم يتم الريس كلامه لنا حتى صار المركب يترفع بنا عن الماء ثم ينزل وسمعنا
صرخة عظيمة مثل الرعد القاصف فارتعبنا منها وصرنا كالأموات وأيقنا بالهلاك في ذلك
الوقت، وإذا بحوت قد أقبل على المركب كالجبل العالي ففزعنا منه وقد بكينا على
أنفسنا بكاء شديداً، وتجهزنا للموت وصرنا ننظر إلى ذلك الحوت ونتعجب من خلقته
الهائلة، وإذا بحوت ثان قد أقبل علينا فما رأينا أعظم خلقة منه ولا أكبر.
فعند ذلك ودعنا بعضنا ونحن نبكي على أرواحنا، وإذا بحوت
ثالث قد أقبل وهو أكبر من الاثنين اللذين جاءا قبله، وصرنا لا نعي ولا نعقل وقد
اندهشت عقولنا من شدة الخوف والفزع، ثم إن هذه الحيتان الثلاثة صاروا يدورون حول المركب،
وقد أهوى الحوت الثالث ليبتلع المركب بكل ما فيه وإذا بريح عظيم ثار فقام المركب
ونزل على شعب عظيم فانكسر وتفرقت جميع الألواح وغرقت جميع الحمول والتجار والركاب
في البحر.
فخلعت أنا جميع ما علي من الثياب ولم يبق علي غير ثوب
واحد ثم عمت قليلاً فلحقت لوحاً من ألواح المركب وتعلقت به، ثم إني طلعت عليه
وركبته وقد صارت الأمواج والأرياح تلعب بي على وجه الماء وأنا قابض على ذلك اللوح
والموج يرفعني ويحطني، وأنا في أشد ما يكون من المشقة والخوف والجوع والعطش وصرت
ألوم نفسي على ما فعلته وقد تعبت نفسي بعد الراحة وقلت لروحي يا سندباد يا بحري
أنت لم تتب، كل مرة تقاسي فيها الشدائد والتعب ولم تتب عن سفر البحر، وإن تبت تكذب
في التوبة فقاس كل ما تلقاه فإنك تستحق جميع ما يحصل لك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
غرق في البحر ركب لوحاً من الخشب وقال في نفسه أستحق جميع ما يجري لي وكل هذا مقدر
علي من الله تعالى حتى أرجع عما أنا فيه من الطمع وهذا الذي أقاسيه من طمعي فإن
عندي مالاً كثيراً ثم إنه قال وقد رجعت لعقلي وقلت إني في هذه السفرة قد تبت إلى
الله تعالى توبة نصوحاً عن السفر، وما بقيت عمري أذكره على لساني ولا على بالي ولم
أزل أتضرع إلى الله تعالى وأبكي، ثم إني تذكرت في نفسي ما كنت فيه من الراحة
والسرور واللهو والطرب والانشراح ولم أزل على هذه الحالة أول وثاني يوم إلى أن طلعت
على جزيرة عظيمة فيها شيء كثير من الأشجار والأنهار فصرت آكل من ثمر تلك الأشجار
وأشرب من ماء تلك الأنهار حتى انتعشت وردت لي روحي وقويت همتي وانشرح صدري ثم مشيت
في الجزيرة فرأيت في جانبها الثاني نهراً عظيماً من الماء العذب ولكن ذلك النهر
يجري جرياً قوياً: فتذكرت أمر الفلك الذي كنت فيه سابقاً وقلت في نفسي لابد أن
أعمل لي فلكاً مثله لعلي أنجو من هذا الأمر فإن نجوت به حصل المراد وتبت إلى الله
تعالى من السفر وإن هلكت ارتاح قلبي من التعب والمشقة، ثم إني قمت فجعلت أخشاباً
من تلك الأشجار من خشب الصندل العال الذي لا يوجد مثله وأنا لا أدري أي شيء هو،
ولما جمعت تلك الأخشاب تخليت بأغصان ونبات من هذه الجزيرة، وفتلتها مثل الحبال
وشددت بها الفلك وقلت إن سلمت فمن الله، ثم إني أنزلت في ذلك الفلك وسرت به في ذلك
النهر حتى خرجت من آخر الجزيرة، ثم بعدت عنها ولم أزل سائراً أول يوم وثاني يوم
وثالث يوم بعد مفارقة الجزيرة، وأنا نائم ولم آكل في هذه المدة شيئاً ولكن إذا
عطشت شربت من ذلك النهر، وصرت مثل الفرخ الدايخ من شدة التعب والجوع حتى انتهى بي
الفلك إلى جبل عال والنهر داخل من تحته.
فلما رأيت ذلك خفت على نفسي من الضيق الذي كنت أنا فيه
أول مرة في النهر السابق وأردت أن أوقف الفلك وأطلع منه إلى جانب الجبل فغلبني
الماء فجذب الفلك وأنا فيه ونزل به حت الجبل، فلما رأيت ذلك أيقنت بالهلاك وقلت لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولم يزل الفلك سائراً مسافة يسيرة ثم طلع إلى
مكان واسع وإذا هو واد كبير والماء يهدر فيه وله دوي مثل دوي الرعد وجريان مثل
جريان الريح، فصرت قابضاً على ذلك الفلك بيدي وأنا خائف أن أقع فوقه، والأمواج
تلعب يميناً وشمالاً في وسط ذلك المكان، ولم يزل الفلك منحدراً مع الماء الجاري في
ذلك الوادي وأنا لا أقدر على منعه ولا أستطيع الدخول به في جهة البر إلى أن رسى بي
على جانب مدينة عظيمة المنظر مليحة البناء فيها خلق كثير.
فلما رأوني وأنا في ذلك الفلك منحدر في وسط النهر مع
التيار رموا علي الشبكة والحبال في ذلك الفلك، ثم أطلعوا الفلك من ذلك النهر إلى
البر فسقطت بينهم وأنا مثل الميت من شدة الجوع والسهر والخوف فتلقاني من بين هؤلاء
الجماعة رجل كبير في السن وهو شيخ عظيم ورحب بي ورمى لي ثياباً كثيرة جميلة فسترت
بها عورتي ثم إنه أخذني وسار بي وأدخلني الحمام وجاء لي بالأشربة والروائح الذكية،
ثم بعد خروجنا من الحمام أخذني إلى بيته وأدخلني فيه ففرح بي أهل بيته، ثم أجلسني
في مكان ظريف وهيأ لي شيئاً من الطعام الفاخر فأكلت حتى شبعت وحمدت الله تعالى على
نجاتي.
وبعد ذلك قدم لي غلمانه ماء ساخناً فغسلت يدي، وجاءني
حواريه بمناشف من الحرير فنشفت يدي ومسحت فمي، ثم إن ذلك الشيخ قام من وقته وأخلى
لي مكاناً منفرداً وحده في جانب داره، وألزم غلمانه وجواريه بخدمتي وقضاء حاجتي
وجميع مصالحي فصاروا يتعهدونني، ولم أزل على هذه الحالة عنده في دار الضيافة ثلاثة
أيام، وأنا على أكل طيب وشرب طيب ورائحة طيبة حتى ردت لي روحي وسكن روعي وهدأ قلبي
وارتاحت نفسي.
فلما كان اليوم الرابع تقدم إلي الشيخ وقال لي آنستنا يا
ولدي والحمد لله على سلامتك، فهل لك أن تقوم مع إلى ساحل البحر وتنزل السوق فتبيع
البضاعة وتقبض ثمنها لعلك تشتري بها شيئاً تتجر فيه.
فسكت قليلاً وقلت في نفسي ليس معي بضاعة وما سبب هذا
الكلام? قال الشيخ يا ولدي لا تهتم ولا تفكر فقم بنا إلى السوق فإن رأينا من يعطيك
في بضاعتك ثمناً يرضيك أقبضه لك، وإن لم يجيء فيها شيء يرضيك أحفظها لك عندي في
حواصلي حتى تجيء أيام البيع والشراء، فتفكرت في أمري وقلت لعقلي طاوعه حتى تنظر أي
شيء تكون هذه البضاعة، ثم إني قلت له سمعاً وطاعة يا عم الشيخ والذي تفعله فيه
البركة ولا يمكنني مخالفتك في شيء ثم إني جئت معه إلى السوق فوجدته قد فك الفلك
الذي جئت فيه وهو من خشب الصندل وأطلق المنادي عليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
ذهب مع الشيخ إلى شاطئ البحر، ورأى الفلك الذي جاء فيه من خشب الصندل مفكوكاً وراء
الدلال يدلل عليه التجار وفتحوا باب سعره وتزايدوا فيه إلى أن بلغ ثمنه ألف دينار،
وبعد ذلك توقف التجار عن الزيادة فالتفت لي الشيخ وقال اسمع يا ولدي هذا سعر
بضاعتك في مثل هذه الأيام، فهل تبيعها بهذا السعر? أو تصبر، وأنا احفظها لك عندي
في حواصلي حتى يجيء أوان زيادتها في الثمن فنبيعها لك فقلت له يا سيدي الأمر أمرك
فافعل ما تريد فقال يا ولدي أتبيعني هذا الخشب بزيادة مائة دينار ذهباً فوق ما
أعطى فيه التجار فقلت له بعتك وقبضت الثمن.
فعند ذلك أمر غلمانه بنقل الخشب إلى حواصله، ثم إني رجعت
معه إلى بيته فجلسنا وعد لي جميع ثمن ذلك الخشب، وأحضر لي أكياساً ووضع المال فيها
وقفل عليها بقفل حديد وأعطاني مفتاحه، وبعد مدة أيام وليالي قال الشيخ يا ولدي إني
أعرض عليك شيئاً وأشتهي أن تطاوعني فيه فقلت له وما ذاك الأمر فقال لي اعلم أني
بقيت رجلاً كبير السن وليس لي ولد ذكر وعندي بنت صغيرة السن ظريفة الشكل لها مال
كثير وجمال فأريد أن أزوجها لك وتقعد معها في بلادنا، ثم إني أملكك جميع ما هو
عندي وما تمسكه يدي فإني بقيت رجلاً كبيراً وأنت تقوم مقامي فسكت ولم أتكلم، فقال
لي أطعني يا ولدي في الذي أقوله لك فإن مرادي لك الخير، فإن أطعتني زوجتك ابنتي
وتبقى مثل ولدي وجميع ما في يدي وما هو ملكي يصير لك، وإن أردت التجارة والسفر إلى
بلادك لا يمنعك أحد، وهذا مالك تحت يدك فافعل به ما تريد وما تختاره.
فقلت له والله يا عم الشيخ أنت أمرت مثل والدي، وأنا
قاسيت أهوالاً كثيرة ولم يبق لي رأي ولا معرفة فالأمر أمرك في جميع ما تريد.
فعند ذلك أمر الشيخ غلمانه بإحضار القاضي والشهود
فأحضرهم وزوجني ابنته وعمل لنا وليمة عظيمة وفرحاً كبيراً، وأدخلني عليها فرأيتها
في غاية الحسن والجمال بقد واعتدال وعليها شيء كثير من أنواع الحلي والحلل
والمعادن والمصاغ والعقود والجواهر الثمينة التي قيمتها ألوف الألوف من الذهب، ولا
يقدر أحد على ثمنها.
فلما دخلت عليها أعجبتني ووقعت المحبة بيننا، وأقمت معها
مدة من الزمان وأنا في غاية الأنس والانشراح وقد توفي والدها إلى رحمة الله تعالى،
فجهزناه ودفناه، ووضعت يدي على ما كان معه وصار جميع غلمانه غلماني وتحت يدي في
خدمتي، وولاني التجار مرتبته لأنه كان كبيرهم، ولا يأخذ أخد شيئاً إلا بمعرفته
واذنه لأنه شيخهم وصرت أنا في مكانه.
فلما خالطت أهل تلك المدينة، وجدتهم تنقلب حالتهم في كل
شهر فتظهر لهم أجنحة يطيرون بها إلى عنان السماء، ولا يبقى متخلفاً في ذلك
المدينة، غير الأطفال والنساء فقلت في نفسي إذا جاء رأس الشهر أسأل أحداً منهم
فلعلهم يحملوني معهم إلى أين يروحون، فلما جاء رأس ذلك الشهر تغيرت ألوانهم
وانقلبت صورهم فدخلت على واحد منهم وقلت له بالله عليك أن تحملني معك حتى أتفرج
وأعود معكم فقال لي هذا شيء لا يمكن فلم أزل أتداخل عليه حتى أنعم علي بذلك وقد
رافقتهم وتعلقت به فطار بي في الهواء، ولم أعلم أحداً من أهل بيتي ولا من غلماني
ولا من أصحابي، ولم يزل طائراً بي ذلك الرجل وأنا على أكتافه حتى علا بي في الجو،
فسمعت تسبيح الأملاك في قبة الأفلاك فتعجبت من ذلك وقلت سبحان الله فلم أستتم
التسبيح حتى خرجت نار من السماء كادت تحرقهم فنزلوا جميعاً وألقوني على جبل عال
وقد صاروا في غلبة الغيظ مني وراحوا وخلوني فصرت وحدي في ذلك الجبل، فلمت نفسي على
ما فعلت، وقلت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إني كلما أخلص من مصيبة أقع
في مصيبة أقوى منها ولم أزل في ذلك ولا أعلم أين أذهب وإذا بغلامين سائرين كأنهما
قمران وفي يد كل واحد منهما قضيب من ذهب يتعكز عليه.
فتقدمت إليهما وسلمت عليهما فردا علي السلام فقلت لهما
بالله عليكما من أنتما وما شأنكما، فقالا لي نحن من عباد الله تعالى ثم إنهما
أعطياني قضيباً من الذهب الأحمر الذي كان معهما وانصرفا في حال سبيلهما وخلياني،
فصرت أسير على رأس الجبل وأنا أتعكز بالعكاز وأتفكر في أمر هذين الغلامين، وإذا
بحية قد خرجت من تحت ذلك الجبل، وفي فمها رجل بلعته إلى تحت صرته وهو يصيح ويقول
من يخلصني يخلصه الله من كل شدة، فتقدمت إلى تلك الحية وضربتها بالقضيب الذهبي على
رأسها، فرمت الرجل من فمها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السندباد البحري لما
ضرب الحية بالقضيب الذهب الذي كان بيده وألقت الرجل من فمها قال فتقدم إلي الرجل
وقال حيث كان خلاصي على يديك من هذه الحية، فما بقيت أفارقك وأنت صرت رفيقي في هذا
الجبل فقلت له مرحباً وسرنا في ذلك الجبل وإذا بقوم أقبلوا علينا فنظرت إليهم فإذا
فيهم الرجل الذي كان حملني على أكتافه وطار بي فتقدمت إليه واعتذرت له وتلطفت به
وقلت له يا صاحبي ما هكذا تفعل الأصحاب بأصحابهم، فقال لي الرجل أنت الذي أهلكتنا
بتسبيحك على ظهري فقلت له لا تؤاخذني فإني لم أكن أعلم بهذا الأمر ولكنني لا أتكلم
بعد ذلك أبداً، فسمح بأخذي معه ولكن اشترط علي أن لا أذكر الله ولا أسبحه على
ظهره، ثم إنه حملني وطار بي مثل الأول حتى أوصلني إلى منزلي فتلقتني زوجتي وسلمت
علي وهنتني بالسلامة وقالت لي احترس من خروجك بعد ذلك مع هؤلاء الأقوام ولا
تعاشرهم، فإنهم إخوان الشياطين ولا يعلمون ذكر الله تعالى فقلت لها كيف حال أبيك
معهم، فقالت لي إن أبي ليس منهم ولا يعمل مثلهم، والرأي عندي حيث مات أبي أنك تبيع
جميع ما عندنا وتأخذ بثمنه بضائع، ثم تسافر إلى بلادك وأهلك وأنا أسير معك وليس لي
حاجة بالقعود هنا في هذه المدينة بعد أمي وأبي.
فعند ذلك صرت أبيع من متاع ذلك الشيخ شيئاً بعد شيء،
وأنا أترقب أحداً يسافر من تلك المدينة وأسير معه، فبينما أنا كذلك وإذا بجماعة في
المدينة أرادوا السفر ولم يجدوا لهم مركباً فاشتروا خشباً وصنعوا لهم مركباً كبيراً
فاكتريت معهم ودفعت إليهم الأجرة بتمامها.
ثم نزلت زوجتي وجميع ما كان معنا في المركب وتركنا
الأملاك والعقارات فسرنا ولم نزل سائرين في البحر من جزية إلى جزيرة ومن بحر إلى
بحر، وقد طاب لنا ريح السفر حتى وصلنا بالسلامة إلى مدينة البصرة فلم أقم بها، بل
اكتريت مركباً آخر ونقلت إليه جميع ما كان معي، وتوجهت إلى مدينة بغداد، ثم دخلت
حارتي وجئت داري وقابلت أهلي وأصحابي وأحبابي وخزنت جميع ما كان معي من البضائع في
حواصلي، وقد حسب أهلي مدة غيابي عنهم في السفرة السابعة، فوجدوها سبعاً وعشرين سنة
حتى قطعوا الرجاء مني.
فلما جئت وأخبرتهم بجميع ما كان من أمري وما جرى لي
صاروا كلهم يتعجبون من ذلك الأمر عجباً كبيراً وقد هنوني بالسلامة، ثم إني تبت إلى
الله تعالى عن السفر في البر والبحر بعد هذه السفرة السابعة التي هي غاية السفرات
وقاطعة الشهوات وشكرت الله سبحانه وتعالى وحمدته وأثنيت عليه حيث أعادني إلى أهلي
وبلادي وأوطاني، فانظر يا سندباد يا بري ما جرى لي وما وقع لي وما كان من أمري
فقال السندباد البري للسندباد البحري بالله عليك لاتؤاخذني بما كان مني في حقك،
ولم يزالوا في مودة مع بسط زائد وفرح وانشراح إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق
الجماعات ومخرب القصور ومعمر القبور وهو كأس الموت فسبحان الحي الذي لا يموت.
حكاية في شأن الجن والشياطين المسجونين في
القماقم
من عهد سليمان عليه الصلاة والسلام
بلغني أيضاً أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان
بدمشق الشام ملك من الخلفاء يسمى عبد الملك بن مروان، وكان جالساً يوماً من
الأيام، وعنده أكابر دولته من الملوك والسلاطين، فوقعت بينهم مباحثة في حديث الأمم
السالفة، وتذكروا أخبار سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام وما أعطاه الله تعالى
من الملك والحكم في الإنس والجن والطير والوحش وغير ذلك وقالوا قد سمعنا ممن كان
قبلنا أن الله سبحانه وتعالى، لم يعط أحد مثل ما أعطى سيدنا سليمان وأنه وصل إلى
شيء لم يصل إليه أحد حتى أنه كان يسجن الجن والمردة والشياطين في قماقم من النحاس
ويسبك عليهم بالرصاص ويختم عليهم بخاتمة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام
المباح.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة عبد الملك بن
مروان لما تحدث مع أعوانه وأكابر دولته وتذكروا سيدنا سليمان وما أعطاه الله من
الملك قال أنه وصل إلى شيء لم يصل غليه أحد حتى أنه كان يسجن المردة والشياطين في قماقم
من النحاس ويسبك عليهم بالرصاص ويختم عليهم بخاتمة، وأخبر طالب أن رجلاً نزل في
مركب مع جماعة وانحدروا إلى بلاد الهند ولم يزالوا سائرين حتى طلع عليهم ريح
فوجههم ذلك الريح إلى أرض من أراضي الله تعالى وكان ذلك في سواد الليل.
فلما أشرق النهار خرج إليهم من مغارات تلك الأرض أقوام
سود الألوان عراة الأجساد كأنهم وحوش، لا يفقهون خطاباً لهم ملك من جنسهم وليس
منهم أحد يعرف العربية غير ملكهم فلما رأوا المركب ومن فيها خرج إليهم في جماعة من
أصحابه فسلم عليهم ورحب بهم وسألهم عن دينهم، فأخبروه بحالهم فقال لهم لا بأس عليكم،
وحين سألهم عن دينهم كان كل منهم على دين من الأديان، سألهم عن دين الإسلام وعن
بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال أهل المركب نحن لا نعرف ما تقول ولا نعرف شيئاً من
هذا الدين فقال لهم الملك إنه لم يصل إلينا أحد من بني آدم قبلكم ثم إنه ضيفهم
بلحم الطيور والوحوش والسمك لأنه ليس لهم طعام غير ذلك ثم إن أهل المركب نزلوا
يتفرجون في تلك المدينة، فوجدوا بعض الصيادين أرخى شبكته في البحر ليصطاد سمكاً ثم
رفعها فيها قمقم من نحاس مرصص مختوم عليه بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام فخرج
به الصياد وكسره فخرج منه دخان أزرق التحق بعنان السماء فسمعنا صوتاً منكراً يقول
التوبة التوبة يا نبي الله ثم صار من ذلك الدخان شخص هائل المنظر مهول الخلقة تلحق
رأسه الجبل ثم غاب عن أعينهم.
فأما أهل المركب فكادت تنخلع قلوبهم، وأما السودان فلم
يفكروا في ذلك، فرجع رجل إلى الملك وسأله عن ذلك فقال له اعلم أن هذا من الجن
الذين كان سليمان بن داود إذا غضب عليهم سجنهم في هذه القماقم، ورصص عليهم ورماهم
في البحر فإذا رمى الصياد الشبكة يطلع بها القماقم في غالب الأوقات، فإذا كسرت
يخرج منها جني ويخطر بباله أن سليمان حي فيتوب ويقول التوبة يا نبي الله، فتعجب
أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان من هذا الكلام، وقال سبحان الله لقد أوتي سليمان
ملكاً عظيماً وكان ممن حضر في ذلك المجلس النابغة الذبياني فقال طالب فيما أخبرته
والديل على صدقه قول الحكيم الأول:
وفي سليمان إذ قال الإلـه لـه قم بالخلافة واحكم حكم مجتهد
فمن أطاعك فأكرمه بطاعتـي ومن أبى عنك فاحبسه إلى الأبد
وكان يجعلهم في قماقم من النحاس ويرميهم في البحر
فاستحسن أمير المؤمنين هذا الكلام وقال والله إني لأشتهي أن أرى شيئاً من هذه
القماقم فقال له طالب بن سهل، يا أمير المؤمنين إنك قادر على ذلك وأنت مقيم في
بلادك فأرسل إلى أخيك عبد العزيز بن مروان أن يأتيك بها من بلاد الغرب بأن يكتب
إلى موسى أن يركب من بلاد الغرب إلى هذا الجبل الذي ذكرناه ويأتيك من هذه القماقم
بما تطلب فإن البر متصل من آخر ولايته بهذا الجبل فاستصوب أمير المؤمنين رأيه وقال
يا طالب صدقت فيما قلته وأريد أن تكون أنت رسولي إلى موسى بن نصير في هذا الأمر
ولك الراية البيضاء وكل ما تريده من مال أو جاه أو غير ذلك وأنا خليفتك في أهلك
قال حباً وكرامة يا أمير المؤمنين فقال له سر على بركة الله تعالى وعونه.
ثم أمر أن يكتبوا له كتاباً لأخيه عبد العزيز نائبه في
مصر وكتاباً آخر إلى موسى نائبه في بلاد الغرب يأمره بالسير في طلب القماقم
السليمانية بنفسه ويستخلف ولده على البلاد ويأخذ معه الأدلة وينفق المال، وليستكثر
من الرجال ولا يلحقه في ذلك فترة ولا يحتج بحجة.
ثم ختم الكتابين وسلمهما إلى طالب بن سهل وأمره بالسرعة
ونصب الرايات على رأسه ثم إن الخليفة أعطاه الأموال والركائب والرجال ليكونوا
أعواناً له في طريقه وأمر بإجراء النفقة على بيته من كل ما يحتاج إليه وتوجه طالب
يطلب مصر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن طالب بن سهل سار هو
وأصحابه يقطعون البلاد من الشام إلى أن دخلوا مصر، فتلقاه أمير مصر وأنزله عنده
وأكرمه غاية الإكرام في مدة إقامته عنده، ثم بعث معه دليلاً إلى الصعيد الأعلى حتى
وصلوا إلى الأمير موسى بن نصير.
فلما علم به خرج إليه وتلقاه وفرح به فناوله الكتاب
فأخذه وقرأه وفهم معناه ووضعه على رأسه وقال سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ثم إنه
اتفق رأيه على أن يحضر أرباب دولته فحضروا فسألهم عما بدا لهم في الكتاب، فقالوا
أيها الأمير إن أردت من يدلك على طريق ذلك المكان، فعليك بالشيخ عبد الصمد بن عبد
القدوس الصمودي، فإنه رجل عارف وقد سافر كثيراً خبير بالبراري والقفار والبحار
وسكانها وعجائبها والأرضين وأقطارها فعليك به فإنه يرشدك إلى ما تريده.
فأمر بإحضاره فحضر بين يديه فإذا هو شيخ كبير قد أهرمه
تداول السنين والأعوام فسلم عليه الأمير موسى وقال له يا شيخ عبد إن مولانا أمير
المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أمرنا بكذا وكذا، وأنا قليل المعرفة بتلك الأرض
وقد قيل لي أنك عارف بتلك البلاد والطرقات، فهل لك رغبة في قضاء حاجة أمير
المؤمنين.
فقال الشيخ اعلم أيها الأمير أن هذه الطريق وعرة بعيدة
الغيبة قليلة المسالك فقال له الأمير كم مسيرة مسافتها فقال مسيرة سنتين ذهاباً
ومثلها إياباً، وفيها شدائد وأهوال وغرائب وعجائب وأنت رجل مجاهد وبلادنا بالقرب
من العدو فربما تخرج النصارى في غيبتك والواجب أن تستخلف في مملكتك من يدبرها قال
نعم فاستخلف ولده هارون عوضاً عنه في مملكته وأخذ عليه عهداً وأمر الجنود أن لا
يخالفون بل يطاوعوه في جميع ما يأمرهم به فسمعوا كلامه وأطاعون وكان ولده هارون
شديد البأس هماماً جليلاً وبطلاً كميناً، وأظهر له الشيخ عبد الصمد أن الموضع الذي
فيه حاجة أمير المؤمنين مسيرة أربعة أشهر وهو على ساحل البحر، وكله منازل تتصل
ببعضها وفيها عشب وعيون فقال قد يهون الله علينا ذلك ببركتك يا نائب أمير
المؤمنين.
فقال الأمير موسى هل تعلم أن أحداً من الملوك وطئ هذه
الأرض قبلنا قال له نعم يا أمير المؤمنين هذه الأرض لملك الاسكندرية داران الرومي،
ثم ساروا ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى قصر فقام تقدم بنا إلى هذا القصر
الذي هو عبرة لمن اعتبر، فتقدم الأمير موسى إلى القصر ومعهم الشيخ عبد الصمد وخواص
أصحابه حتى وصلوا إلى بابه، فوجدوه مفتوحاً وله أركان طويلة ودرجات وفي تلك
الدرجات درجتان ممتدتان وهما من الرخام الملون الذي لم ير مثله والسقوف والحيطان
منقوشة بالذهب والفضة والمعدن، وعلى الباب لوح مكتوب فيه باليوناني، فقال الشيخ
عبد الصمد هل أقرأه يا أمير المؤمنين فقال له تقدم واقرأ بارك الله فيك، فما حصل
لنا في هذا السفر إلا بركتك فقرأه فإذا فيه شعر هو:
قوم تراهم بعد ما صـنـعـوا يبكي على الملك الذي نزعوا
فالقصر فيه منتهـى خـبـر عن سادة في الترب قد جمعوا
أبادهـم مـوت وفـرقـهـم وضيعوا في التراب ما جمعوا
كأنما حـطـوا رحـالـهـم ليستريحوا سرعة رجـعـوا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد لما
قرأ هذه البيات بكى الأمير موسى حتى غشي عليه وقال له لا إله إلا الله الحي الباقي
بلا زوال ثم إنه دخل القصر فتحيرمن حسنه وبنائه، ونظر إلى ما فيه من الصور
والتماثيل وإذا على الباب الثاني أبيات مكتوبة، فقال الأمير موسى تقدم أيها الشيخ
واقرأ فتقدم وقرأ فإذا هي:
كم معشر في قبابها نـزلـوا على قديم الزمان وارتحلـوا
انظر إلى ما بغيرهم صنعت حوادث الدهر إذ بهم نزلـوا
سموا كل ما لهم جـمـعـوا وخلفوا حظ ذاك وارتحلـوا
كم لابسوا نعمة وكم أكـلـوا فأصبحوا في التراب قد أكلوا
فبكى الأمير موسى بكاء شديداً، واصفرت الدنيا في وجهه ثم
قال لقد خلقنا لأجل هذا ثم تأملوا القصر فإذا هو قد خلا من السكان، وعدم الأهل
والقطان دوره مرصعات، وجهاته مقفرات، وفي وسطه قبة عالية شاهقة في الهواء وحواليها
أربعمائة قبر فبكى الأمير موسى ومن معه، ثم دنا من القبة فإذا لها ثمانية أبواب من
خشب الصندل بمسامير من الذهب مكوكبة بكواكب الفضة مرصعة بالمعادن من أنواع الجواهر
مكتوب على الباب الأول هذه الأبيات:
ما قد تركت فما خلفـتـه كـرمـاً بل بالفضاء وحكم في الورى جاري
فطالما كنت مسروراً ومغتـبـطـاً احمي حماي كمثل الضيغم الضاري
لا أستقر ولا أسـخـى بـخـردلة شحاً عليه ولو ألقيت فـي الـنـار
حتى رمـيت بـأقـدار مـقـدرة شحاً عليه ولو ألقيت فـي الـنـار
إن كان موتي محتوماً على عـجـل فلم أطق دفعه عني بـإكـثـاري
فلما سمع الأمير موسى هذه الأبيات بكى بكاء شديداً حتى
غشي عليه، فلما أفاق دخل القبة، فرأى فيها قبراً طويلاً هائل المنظر، وعليه لوح من
الحديد الصيني، فدنا منه الشيخ عبد الصمد وقرأ فإذا فيه مكتوب بسم الله الدائم
الأبدي الأبد بسم الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد بسم ذي العزة
والجبروت باسم الحي الذي لا يموت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد لما
قرأ ما ذكرناه رأى مكتوباً في اللوح، أما بعد أيها الواصل إلى هذا المكان اعتبر بما
ترى من حوادث الزمان وطوارق الحدثان، ولا تغتر بالدنيا وزينتها وزورها وبهتانها
وغرورها وزخرفها فمنها ملاقاة مكارة غدارة أمورها مستعارة تأخذ المعار من المستعير
فهي كأضغاث النائم وحلم الحاكم كأنها سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء يزخرفها الشيطان
للإنسان إلى الممات، فهذه صفات الدنيا فلا تثق بها ولا تمل إليها فإنها تخون من
استند إليها وعول في أموره عليها لا تقع في حبالها ولا تتعلق بأذيالها فإني ملكت
أربعة آلاف حصان أحمر في دار وتزوجت ألف بنت من بنات الملوك نواهد أبكار كأنهن
القمار، ورزقت ألف ولد كأنهن الليوث العوابس، وعشت من العمر ألف سنة منعم البال
والأسرار، وجمعت من الأموال ما يعجز عنه ملوك الأقطار، كان ظني في النعيم يدوم لي
بلا زوال، فلم أشعر حتى نزل بنا هادم اللذات ومفرق الجماعات وموحش المنافل ومخرب
الدور العامرات، وإن سألت عن اسمي فإني كوش بن شداد ابن عاد الأكبر في ذلك اللوح
مكتوب أيضاً هذه الأبيات:
أن تذكروني بعد طول زمـانـي وتقـلـب الأيام والـحـدثـان
فأنا ابن شداد الذي ملك الـورى والأرض أجمعها بكل مـكـان
دانت لي الزمر الصعاب بأسرها والشام من مصر إلى عـدنـان
قد كنت في عز أذل ملوكـهـا وتخاف أهل الأرض من سلطان
فبكى الأمير موسى حتى غشي عليه لما رأى من مصارع القوم
قال فبينما هو يطوفون بنواحي القصر ويتأملون في مجالسه ومتنزهاته، وإذا بمائدة على
أربعة قوائم من المرمر مكتوب عليها، قد أكل على هذه المائدة ألف ملك أعور، وألف
ملك سليم العينين كلهم فارقوا الدنيا، وسكنوا الأرماس والقبور وسار العسكر والشيخ
عبد الصمد أمامهم يدلهم على الطريق حتى مضى ذلك اليوم كله وثانية وثالثة وإذا هم
برابية عالية فنظروا إليها فإذا عليها فارس من نحاس وفي رأس رمحه سنان عريض براق
يكاد يخطف البصر متوب عليه أيها الواصل إلي إن كنت لا تعرف الطريق الموصلة إلى
مدينة النحاس فافرك كف الفارس فإنه يدور ثم يقف فأي جهة وقف إليها فاسلكها ولا خوف
عليك ولا حرج فإنها توصلك إلى مدينة النحاس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى فرك كف
الفارس فدار كأنه البرق الخاطف وتوجه إلى غير الجهة التي كانوا فيها فتوجه القوم
فيها وساروا فإذا هي طريق حقيقية فسلكوها، ولم يزالوا سائرين يومهم وليلتهم حتى
قطعوا بلاداً بعيدة.
فبينما هم سائرون يوماً من الأيام وإذا هم بعمود من
الحجر الأسود وفيه شخص غائص في الأرض إلى إبطيه وله جنان عظيمان وأربع أيادي يدان
منها كأيدي الآدميين ويدان كأيدي السباع فيهما مخالب وله شعر في رأسه كأنه أذناب
الخيل وله عينان كأنهما مرآتان وله عين ثالثة في جبهته كعين فهد يلوح منها شرار
النار وهو أسود طويل وينادي سبحان رب حكم النبلاء العظيم والعذاب الأليم إلى يوم
القيامة.
فلما عاينه القوم طارت عقولهم واندهشوا لما رأوا من صفته
وولوا فقال الأمير موسى للشيخ عبد الصمد ما هذا قال لا أدري ما هو فقال ادن منه
وابحث عن أمره فلعله يكشف عن أمره ولعلك تطلع على خبره فقال الشيخ عبد الصمد أصلح
الله الأمير إننا نخاف منه قال لا تخافوا فإنه مكفوف عنكم وعن غيركم بما هو فيه
فدنا منه الشيخ عبد الصمد وقال له أيها الشخص ما اسمك وما شأنك وما الذي جعلك في
هذا المكان على هذه الصورة فقال له أما أنا فإني عفريت من الجن واسمي داهش بن
الأعمش، وأنا مكفوف ههنا بالعظمة محبوس بالقدرة معذب إلى ما شاء الله عز وجل.
قال الأمير موسى يا شيخ عبد الصمد اسأله ما سبب سجنه في
هذا العمود فسأله عن ذلك فقال له العفريت إن حديثي عجيب وذلك أنه كان لبعض أولاد
إبليس صنم من العقيق الأحمر وكنت موكلاً به وكان يعبده ملك من ملوك البحر جليل
القدر عظيم الخطر يقود من عساكر الجان ألف ألف يضربون بين يديه بالسيوف ويجيبون
دعوته في الشدائد وكان الجان الذي يطعيونه تحت أمري وطاعتي يتبعون قولي إذا أمرتهم
وكانوا كلهم عصاة عن سليمان بن داود عليهما السلام وكنت أدخل في جوف الصنم فآمرهم
وأنهاهم وكانت ابنة ذلك الملك تحب ذلك الصنم كثيرة السجود له منهمكة على عبادته
وكانت أحسن أهل زمانها ذات حسن وجمال وبهاء وكمال فوصفتها لسليمان عليه السلام
فأرسل إلى أبيها يقول له زوجني ابنتك واكسر صنمك العقيق وأشهد أن لا إله إلا الله
وأن سليمان نبي الله فإن أنت فعلت ذلك كان لك ما لنا وعليك ما علينا وإن أنت أبيت
أتيتك بجنود لا طاقة لك بها، فاستعد للسؤال جواباً والبس للموت جلباباً فسوف أسير
لك بجنود تملأ الفضاء وتدرك كالأمس الذي مضى، فلما جاءه رسول سليمان عليه السلام
طغى وتجبر وتعاظم في نفسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك تجبر وتعاظم في
نفسه وتكبر ثم قال لوزرائه ماذا تقولون في أمر سليمان بن داود فإنه أرسل يطلب
ابنتي وأن أكسر صنم العقيق، وأن أدخل في دينه فقالوا أيها الملك العظيم هل يقدر
سليمان أن يفعل بك وأنت في وسط هذا البحر العظيم فإن هو سار إليك لايقدر عليك فإن
مردة الجن يقاتلون معك وتستعين عليه بصنمك الذي تعبده فإنه يعينك وينصرك والصواب
أن تشاور ربك في ذلك - يعنون به الصنم العقيق الأحمر - وتسمع ما يكون جوابه فإن
أشار عليك أن تقاتله، فقاتله وإلا فلا، فعند ذلك سار الملك من وقته وساعته ودخل
على صنمه بعد أن قرب القربان وذبح الذبائح وخر له ساجداً وجعل يبكي ويقول شعراً:
يا رب إني عارف بقدركا وها سليمان يروم كسركا
يا رب إني طالب لنصركا فأمر فإني طائع لأمركا
ثم قال ذلك العفريت الذي نصفه في العمود للشيخ عبد الصمد
ومن حوله يسمع فدخلت أنا في جوف الصنم من جهلي وقلة عقلي وعدم اهتمامي بأمر سليمان
وجعلت أقول شعراً:
أما أنا فلست منـه خـائف لأني بكل أمـر عـارف
وإن يرد حربي فإني زاحف وإنني للروح منه خاطـف
فلما سمع الملك جوابي له قوي قلبه وعزم على حرب سليمان
نبي الله عليه السلام وعلى مقاتلته، فلما حضر رسول سليمان ضربه ضرباً وجيعاً ورد
عليه رداً شنيعاً وأرسل يهدده ويقول له مع الرسول: لقد حدثتك نفسك بالأماني
أتوعدني بزور الأقوال، فإما أن تسير إلي وإما أن أسير إليك ثم رجع الرسول إلى سليمان
وأعلمه بجميع ما كان من أمره وما حصل له.
فلما سمع نبي الله سليمان ذلك قامت قيامته وثارت عزيمته
وجهز عساكره من الجن والإنس والوحوش والطير والهوام وأمر وزيره الدمرياط ملك الجن
أن يجمع مردة الجن من كل مكان، فجمع له من الشياطين ستمائة ألف وأمر آصف بن برخيا أن
يجمع عساكره من الإنس فكانت عدتهم ألف أو يزيدون وأعدوا العدة والسلاح، وركب هو
وجنوده من الجن والإنس على البساط والطير فوق رأسه طائرة والوحوش من تحت البساط
سائرة حتى نزل بساحتك وأحاط بجزيرتك وقد ملأ الأرض بالجنود.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العفريت قال لما نزل
نبي الله سليمان عليه السلام بجيوشه حول الجزيرة أرسل إلى ملكنا يقول له: ها أنا
قد أتيت فاردد عن نفسك ما نزل، وإلا فادخل تحت طاعتي وأقر برسالتي واكسر صنمك واعبد
الواحد المعبود وزوجني ابنتك بالحلال وقل أنت ومن معك أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن سليمان نبي الله، فإن قلت ذلك كان لك الأمان والسلامة وإن أبيت فلا يمنعك
تحصنك مني في هذه الجزيرة فإن الله تبارك وتعالى أمر الريح بطاعتي فأمرها أن
تحملني إليك بالبساط وأجعلك عبرة ونكالاً لغيرك.
فجاء الرسول وبلغه رسالة نبي الله سليمان عليه السلام،
فقال له: ليس لهذا الأمر الذي طلبه مني سبيل فأعلمه أني خارج إليه. فعاد الرسول
إلى سليمان ورد عليه الجواب، ثم إن الملك أرسل إلى أرضه وجمع له من الجن الذين
كانوا تحت يده ألف ألف، وضم إليهم غيرهم من المردة والشياطين الذين في جزائر
البحار ورؤس الجبال ثم جهز عساكره وفتح خزائن السلاح وفرقها عليهم.
أما نبي الله سليمان عليه السلام فإنه رتب جنوده وأمر
الوحوش أن تنقسم شطرين على يمين القوم وعلى شمالهم وأمر الطيور أن تكون في الجزائر
وأمرها عند الحملة أن تختلف أعينهم بمناقيرها، وأن تضرب وجوههم بأجنحتها وأمر
الوحوش أن تفترس خيولهم فقالوا السمع والطاعة لله ولك يا نبي الله.
ثم إن سليمان نصب له سريراً من المرمر مرصعاً بالجوهر
مصفحاً بصفائح الذهب الأحمر وجعل وزيره آصف بن برخيا على الجانب الأيمن ووزيره
الدمرياط على الجانب الأيسر وملوك الإنس على يمينه وملوك الجن على يساره والوحوش
والأفاعي والحيات أمامه، ثم زحفوا علينا زحفة واحدة وتحاربنا معه في أرض واسعة مدة
يومين ووقع البلاء في الثالث فنفذ فينا قضاء الله تعالى وكان أول من حمل على
سليمان أنا وجنودي، وقلت لأصحابي الزموا مواطنكم حتى أبرز إليهم وأطلب قتال
الدمرياط وإذا به قد برز كأنه الجبل العظيم ونيرانه تلتهب ودخانه مرتفع فأقبل
ورماني بشهاب من نار فغلب سهمه على ناري وصرخ صرخة عظيمة تخيلت منها أن السماء
انطبقت علي واهتزت لصوته الجبال.
ثم أمر أصحابه فحملوا علينا حملة واحدة وحملنا عليهم
وصرخ بعضنا على بعض وارتفعت النيران وعلا الدخان وكادت القلوب أن تنفطر وقامت
الحرب على ساق، وصارت الطيور تقاتل في الهواء والوحوش تقاتل في الثرى، وأنا أقاتل
الدمرياط حتى أعياني وأعييته.
ثم بعد ذلك ضعفت وخذلت أصحابي وجنودي وانهزمت عشائري
وصاح نبي الله سليمان هذا الجبار العظيم النحس الذميم، فحملت الإنس على الإنس
والجن على الجن ووقعت بملكنا الهزيمة وكنا لسليمان غنيمة، وحملت العساكر على
جيوشنا والوحوش حولهم يميناً وشمالاً، والطيور فوق رؤوسنا تخطف أبصار القوم تارة
بمخالبها، وتارة بمناقيرها، وتارة تضرب بأجنحتها في وجوه القوم والوحوش تنهش
الخيول وتفترس الرجال، حتى أكثر القوم على وجه الأرض كجذوع النخل وأما أنا فطرت من
بين أيادي الدمرياط فتبعني مسيرة ثلاثة أشهر حتى لحقني ووقعت كما ترون.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
حكاية مدينة النحاس
وفي الليلة الثامنة والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجني الذي في
العامود لما حكى لهم حكايته من أولها إلى أن سجن في العامود، قالوا له أين الطريق
الموصلة إلى مدينة النحاس فأشار لنا إلى طريق المدينة وإذا بيننا وبينها خمسة وعشرون
باباً لا يظهر منها باب واحد ولا يعرف له أثر، وسورها كأنه قطعة من جبل أو حديد صب
في قالب، فنزل القوم ونزل الأمير موسى والشيخ عبد الصمد واجتهدوا أن يعرفوا لها
باباً ويجدوا لها سبيلاً فلم يصلوا إلى ذلك فقال الأمير موسى يا طالب كيف الحيلة
في دخول هذه المدينة فلابد أن نعرف لها باباً ندخل منه فقال طالب أصلح الله الأمير
لنستريح يومين أو ثلاثة وندبر الحيلة إن شاء الله تعالى في الوصول إليها والدخول
فيها.
قال: فعند ذلك أمر الأمير موسى بعض غلمانه أن يركب جملاً
ويطوف حول المدينة لعله يطلع على أثر باب، أو موضع قصر في المكان الذي هم فيه
نازلون فركب بعض غلمانه وسار حولها يومين بلياليهما يجد السير ولا يستريح فلما كان
اليوم الثالث أشرف على أصحابه، وهو مدهوش لما رأى من طولها وارتفاعها، ثم قال أيها
الأمير إن أهون موضع فيها هذا الموضع.
ثم إن الأمير موسى أخذ طالب بن سهل والشيخ عبد الصمد،
وصعد على جبل مقابلها وهو مشرف عليها، فلما طلعوا ذلك الجبل رأوا مدينة لم تر
العيون أعظم منها، قصورها عالية وقبابها زاهية ودورها عامرات وأنهارها جاريات
وأشجارها مثمرات وأنهارها يانعات وهي مدينة بأبواب منيعة خالية مدة لا حس فيها،
ولا انس يصفر البوم في جهاتها ويحوم الطير في عرضاتها وينمق الغراب في نواحيها
وشوارعها ويبكي على من كان فيها.
فوقف الأمير موسى يتندم على خلوها من السكان، وخرابها من
الأهل والقطان وقال سبحان من لا تغيره الدهور والأزمان خالق الخلق بقدرته فبينما
هو يسبح الله عز وجل إذ حانت منه التفاتة إلى جهة وغذا فيها سبعة ألواح من الرخام
الأبيض وهي تلوح من البعد، فدنا منه فإذا هي منقوشة مكتوبة فأمر أن تقرأ كتابتها،
فتقدم الشيخ عبد الصمد وتأملها وقرأها فإذا فيها وعظ واعتبار وزجر لذوي الأبصار،
مكتوب على اللوح الأول بالقلم اليوناني يا ابن آدم ماذا أغفلك عن أمر هو أمامك قد
ألهتك عنه سنينك وأعوانك أما علمت أن كأس المنية لك يترع وعن قريب له تتجرع فانظر
لنفسك قبل دخولك رمسك أين من ملك البلاد وأذل العباد وقاد الجيوش نزل بهم والله
هادم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب المنازل العامرات فنقلهم من سعة القصور إلى ضيق
القبور وفي أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:
أين الملوك ومن بالأرض قد عمروا قد فارقوا ما بنوا فيها وما عمروا
وأصبحوا رهن قبر بالذي عمـلـوا عادوا رميماً به من بعد ما
دثـروا
أين العساكر ما ردت وما نفـعـت وأين ما جمعوا فيها وما
ادخـروا
أتاهم رب العرش علـى عـجـل لم ينجهم مـنـه أمـوال ولا وزر
فبكى الأمير موسى وجرت دموعه على خده، وقال: والله إن
الزهد في الدنيا هو غاية التوفيق ونهاية التحقيق ثم إنه أحضر دواة وقرطاساً وكتب
ما على اللوح الأول، ثم إنه دنا من اللوح الثاني وإذا عليه مكتوب يا ابن آدم ما
غرك بقديم الأزل وما ألهاك عن حلول الأجل، ألا تعلم أن الدنيا دار بوار ما لأحد
فيها قرار وأنت ناظر إليها ومكب عليها، أين الملوك الذين عمروا العراق وملكوا
الآفاق أين من عمروا أصفهان وبلاد خراسان دعاهم داعي المنايا فأجابوه وناداهم
منادي الفناء فلبوه وما نفعهم ما بنوا وشيدوا ولا رد عنهم ما جمعوا وعددوا وفي
أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:
أين الذين بنـوا لـذاك وشـيدوا غرفاً به لم يحكـهـا بـنـيان
جمعوا العساكر والجيوش مخافة من ذل تقدير الإله فـهـانـوا
أين الأكاسرة المناع حصونهـم تركوا البلاد كأنهم ما كـانـوا
فبكى الأمير وقال والله لقد خلقنا لأمر عظيم ثم كتب ما
عليه ودنا من اللوح الثالث.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى دنا من
اللوح الثالث فوجد فيه مكتوباً يا ابن آدم أنت بحب الدنيا لاه وعن أمر ربك ساه كل
يوم من عمرك ماض وأنت قانع وراض فقدم الزاد ليوم الميعاد واستعد لرد الجواب بين
يدي رب العباد وفي أسفل اللوح مكتوب هذه الأبيات:
أين الذي عمر البلاد بأسرهـا سنداً وهنداً واعتدى وتجبـرا
والزنج والحبش استقاد لأمـره والنوب لما أن طغى وتكبـرا
لا تنتظر خيراً بما في قبـره هيهات أن تلقى بذلك مخبـرا
فدعته من ريب المنون حوادث لم ينجه من قصره ما عمـرا
فبكى الأمير موسى بكاء شديداً ثم دنا من اللوح الرابع
فرأى مكتوباً عليه يا ابن آدم كم يملك مولاك وأنت خائض في بحر لهواك كل يوم أوحى
إليك أنك لا تموت، يا ابن آدم لا تغرنك أيامك ولياليك، وساعاتك الملهية وغفلاتها
واعلم أن الموت لك مرصداً وعلى كتفك صاعداً ما من يوم يمضي إلا صبحك صباحا ومساك
مساء فاحذر من هجمته واستعد له فكأني بك وقد جعلت طول حياتك وضعت لذات أوقاتك،
فاسمع مقالي وثق بمولى الموالي ليس للدنيا ثبوت، إنما الدنيا نسجة العنكبوت ورأى
في أسفل اللوح مكتوباً هذه الأبيات:
أين من أسس الذرى وبنـاهـا وتولى مشـيدهـا ثـم عـلا
أين أهل الحصون من سكنوها كلهم عن تلك الصياصي تولى
أصبحوا في القبور رهناً ليوم فيه حقاً كل السرائر تبـلـى
ليس يبقى سوى الإله تعالـى وهو مازال للكـرامة أهـلا
فبكى الأمير موسى وكتب ذلك ونزل من فوق الجبل وقد صور
الدنيا بين عينيه، فلما وصل إلى العسكر وأقاموا يومهم يدبرون الحيلة في دخول
المدنية، فقال الأمير موسى لوزيره طالب بن سهل ولمن حوله من خواصه كيف تكون الحيلة
في دخول المدينة لننظر عجائبها لعلنا نجسد فيها ما نتقرب به إلى أمير المؤمنين.
فقال طالب بن سهل أدام الله نعمة الأمير نعمل سلماً
ونصعد عليه لعلنا نصل إلى الباب من الداخل، فقال الأمير موسى هذا ما خطر ببالي وهو
نعم الرأي، ثم إنه عاد بالنجارين والحدادين وأمرهم أن يسووا الأخشاب ويعملوا سلماً
مصفحاً بصفائح الحديد، ففعلوه وأحكموه ومكثوا في عمله شهراً كاملاً واجتمعت عليه
الرجال فأقاموه وألصقوه بالسور، فجاء مساوياً له كأنه قد عمل له قبل ذلك اليوم.
فتعجب الأمير موسى منه وقال بارك الله فيكم كأنكم قستموه
عليه من حسن صنعتكم ثم إن الأمير موسى قال للناس من يطلع منكم على هذا السلم ويصعد
فوق السور ويمشي عليه ويتحايل في نزوله إلى أسفل المدينة لينظر كيف الأمر ثم
يخبرنا بكيفية فتح الباب، فقال أحدهم أنا أصعد عليه أيها الأمير وأنزل أفتحه فقال
له الأمير موسى اصعد بارك الله فيك فصعد الرجل على السلم حتى صار في أعلاه ثم قام
على قدميه وشخص إلى المدينة وصفق بكفيه وصاح بأعلى صوته وقال أنت مليح، ورمى بنفسه
من داخل المدينة فانهرس لحمه على عظمه.
فقال الأمير موسى هذا فعل العاقل فكيف يكون فعل المجنون،
إن كنا نفعل هذا بجميع أصحابنا لم يبق منهم أحد فنعجز عن قضاء حاجتنا وحاجة أمير
المؤمنين ارحلوا فلا حاجة لنا بهذه فقال بعضهم لعل غير هذا أثبت منه فصعد ثان
وثالث ورابع وخامس فما زالوا يصعدون من ذلك السلم إلى السور واحداً بعد واحد إلى
أن راح منهم اثني عشر رجلاً وهم يفعلون كما فعل الأول.
فقال اليخ عبد الصمد ما لهذا الأمر غيري وليس المجرب
كغير المجرب، فقال له الأمير موسى لا تفعل ذلك ولا أمكنك من الطلوع إلى هذا السور
لأنك إذا مت كنت سبباً لموتنا كلنا ولا يبقى منا أحد لأنك أنت دليل القوم فقال له
الشيخ عبد الصمد لعل ذلك يكون على يدي بمشيئة الله تعالى فاتفق القوم كلهم على
صعوده.
ثم إن الشيخ عبد الصمد قام ونشط نفسه وقال بسم الله
الرحمن الرحيم ثم إنه صعد على السمل وهو يذكر الله تعالى ويقرأ آيات النجاة، إلى
أن بلغ أعلى السور ثم إنه صفق بيديه وشخص ببصره فصاح عليه القوم جميعاً وقالوا
أيها الشيخ عبد الصمد لا تفعل ولا تلق نفسك وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون إن
وقع الشيخ عبد الصمد هلكنا بأجمعنا، ثم إن الشيخ عبد الصمد ضحك ضحكاً زائداً وجلس
ساعة طويلة يذكر الله تعالى ويتلو آيات النجاة، ثم إنه قام على حيله ونادى بأعلى
صوته أيها الأمير لا بأس عليكم، فقد صرف الله عز وجل عني كيد الشيطان ومكره ببركة
بسم الله الرحمن الرحيم، فقال له الأمير ما رأيت أيها الشيخ قال لما وصلت أعلى
السور رأيت عشر جوار كأنهن الأقمار وهن يناديني.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعون بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد قال
لما وصلت أعلى السور رأيت عشر جوار كأنهن الأقمار، وهن يشرن بأيديهن أن تعال إلينا
وتخيل لي أن تحتي بحراً من الماء فأردت أن ألقي نفسي كما فعل أصحابنا، فرأيتهم
موتى فتماسكت عنهم وتلوت شيئاً من كتاب الله تعالى، فصرف الله عني كيدهن وانصرفن
عني فلم أرم نفسي ورد الله عني كيدهن وسحرهن ولاشك إن هذا سحر مكية صنعها أهل تلك
المدينة ليردوا عنها كل من أراد أن شرف عليها ويروم الوصول إليها وهؤلاء أصحابنا
مطروحون موتى، ثم إنه مشى على السور إلى أن وصل إلى البرجين النحاسيين فرأى لهما
بابين من الذهب ولا قفل عليهما وليس فيهما علامة للفتح، ثم وقف الشيخ أمام الباب
وتأمل فرأى في وسط الباب صورة فارس من نحاس له كف ممدود كأنه يشير به وفيه خط
مكتوب فقرأه الشيخ عبد الصمد، فإذا فيه افرك المسمار الذي في سرة الفارس اثني عشر
فركة فإن الباب ينفتح فتأمل الفارس فإذا في سرته مسمار محكم متقن مكين ففركه اثني
عشر فركة فانفتح الباب في الحال وله صوت كالرعد فدخل منه الشيخ عبد الصمد وكان
رجلاً فاضلاً عالماً بجميع اللغات والأقلام، فمشى إلى أن دخل دهليزاً طويلاً نزل
منه على درجات فوجده بدكك حسنة وعليها أقوام موتى وفوق رؤوسهم التروس المكلفة
والحسامات المرهفة والقسى الموترة والسهام المفوقة وخلف الباب عامود من حديد
ومتاريس من خشب وأقفال رقيقة وآلات محكمة.
فقال الشيخ عبد الصمد في نفسه لعل المفاتحي عند هؤلاء
القوم، ثم نظر بعينه، وإذا هو بشيخ يظهر أنه أكبرهم سناً وهو على دكة عالية بين
القوم الموتى فقال الشيخ عبد الصمد وما يدريك أن تكون مفاتيح هذه المدينة مع هذا
الشيخ ولعله بواب المدينة وهؤلاء من تحت يده، فدنا منه ورفع ثيابه وإذا بالمفاتيح
معلقة في وسطه.
فلما رآها الشيخ عبد الصمد فرح فرحاً شديدأً وكاد عقله
أن يطير من الفرحة، ثم إن الشيخ عبد الصمد أخذ المفاتيح ودنا من الباب وفتح
الأقفال وجذب الباب والمتاريس والآلات فانفتحت وانفتح الباب بصوت كالرعد لكبره
وهوله وعظم آلاته فعند ذلك كبر الشيخ وكبر القوم معه واستبشروا وفرحوا وفرح الأمير
بسلامة الشيخ عبد الصمد وفتح باب المدينة وقد شكره القوم على ما فعله فبادر العسكر
كلهم بالدخول من باب فصاح عليهم الأمير موسى وقال لهم يا قوم لا نأمن إذا دخلنا
كلنا من أمر يحدث ولكن يدخل النصف ويتأخر النصف.
ثم إن الأمير موسى دخل من الباب ومعه نصف القوم وهم
حاملون آلات الحرب فنظر القوم إلى أصحابهم وهم ميتون فدفنوهم ورأوا البوابين
والخدم والحجاب والنواب راقدين فوق الفراش الحرير موتى كلهم ودخلوا إلى سوق
المدينة فنظروا سوقاً عظيمة عالية الأبنية لا يخرج بعضها عن بعض والدكاكين مفتحة
والموازين معلقة والنحاس مصفوفاً والخانات ملآنة من جميع البضائع ورأوا التجار
موتى على دكاكينهم وقد يبست منهم الجلود ونخرت منهم العظام وصاروا عبرة لمن اعتبر.
ونظروا إلى أربعة أسواق مستقلات كالهشيم مملوءة بالمال
فتركوها ومضوا إلى سوق الخز، وإذا فيه من الحرير والديباج ما هو منسوج بالذهب
الأحمر والفضة البيضاء على اختلاف الألوان وأصحابه موتى رقود على انطاع الأديم
يكادون أن ينطقوا فتركوهم ومضوا إلى سوق الجواهر واللؤلؤ والياقوت فتركوه ومضوا
إلى سوق الصيارفة، فوجدوهم موتى وتحتهم أنواع الحرير والابريسم ودكاكينهم مملوءة
من الذهب والفضة، فتركوهم ومضوا إلى سوق العطارين فإذا دكاكينهم مملوءة بأنواع
العطريات ونوافح المسك والعنبر العود والكافور وغير ذلك وأهلها كلهم موتى وليس
عندهم شيء من المأكول.
!فلما طلعوا من سوق العطارين وجدوا قريباً منه قصراً
مزخرفاً متقناً، فدخلوه فوجدوا أعلاماً منشورة وسيوفاً مجردة وقسياً موترة وترساً
معلقة بسلاسل من الذهب والفضة وخوذاً مطلية بالذهب الأحمر، وفي دهاليز ذلك القصر
دكك من العاج المصفح بالذهب الوهاج الابريسم، وعليها رجال قد يبست منهم الجلود على
العظام يحتسبهم الجاهل قياماً ولكنهم من عدم القوت ماتوا وذاقوا الحمام، فعند ذلك
وقف الأمير موسى يسبح الله تعالى ويقدسه وينظر إلى حسن ذلك القصر ومحكم بنائه
وعجيب صنعه بأحسن صفة وأتقن هندسة وأكثر نقشة باللازورد الأخضر مكتوب على دائرة
هذه الأبيات:
انظر إلى ما ترى يا أيها الـرجـل وكن على حذر من قبل ترتـحـل
وقدم الزاد من خـير تـفـوز بـه فكل ساكن داراً سـوف يرتـحـل
وانظر إلى معشر زانوا منازلـهـم فأصبحوا في الثرى رهناً بما
عملوا
بنوا فما نفع الـبـنـيان وادخـروا لم ينجهم مالهم لما انقضى الأجـل
كم أملوا غير مقدور لهم فمـضـوا إلى القبور ولم ينفعـهـم الأمـل
واستنزلوا من أعالي عز رتبتـهـم لذل ضيق لحد ساء مـا نـزلـوا
فجاءهم صارخ من بعد ما دفـنـوا أين الأسرة والتيجـان والـحـلـل
أين الوجوه التي كانت مـحـجـبة من دونها تضرب الأستار والكلـل
فأفصح القبر عنهم حسب سائلـهـم أما الخدود فعندها الورد منتـقـل
قد طال ما أكلوا يوماً وما شـربـوا فأصبحوا بعد طيب الأكل قد أكلوا
فبكى الأمير موسى حتى غشي عليه، وأمر بكتابة هذا الشعر
ودخل القصر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والسبعون بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى دخل
القصر فرأى حجرة كبيرة وأربع مجالس عالية كباراً متقابلة واسعة منقوشة بالذهب
والفضة مختلفة وفي وسطها فسقية كبيرة من المرمر وعليها خيمة من الديباج وفي تلك
المجالس جهات، وفي تلك الجهات فساقي مزخرفة وحيضان مرخمة ومجار تجري من تحت تلك
المجالس، وتلك الأنهر الأربعة تجري وتجتمع في بحيرة عظيمة مرخمة باختلاف الألوان.
ثم قال الأمير موسى للشيخ عبد الصمد ادخل بنا هذه
المجالس، فدخلوا المجلس الأول، فوجدوه مملوءاً من الذهب والفضة البيضاء واللؤلؤ
والجواهر واليواقيت والمعادن النفيسة ووجدوا فيها صناديق مملوءة من الديباج الأحمر
والأصفر والأبيض، ثم إنهم انتقلوا إلى المجلس الثاني ففتحوا خزانة فيه فإذا هي
مملوءة بالسلاح وآلات الحرب من الخوذ المذهبة والدروع الداودية والسيوف الهندية
والرماح الخطية والدبابيس الخوارزمية، وغيرها من أصناف آلات الحرب والكفاح ثم
انتقلوا إلى المجلس الثالث فوجدوا فيه خزائن عليها أقفال مغلقة وفوقها ستارات
منقوشة بأنواع الطراز، ففتحوا منها خزانة فوجدوها مملوءة بالآت الطعام والشراب من
أصناف الذهب والفضة وسكارج البلور والأقداح المرصعة باللؤلؤ الرطب وكاسات العقيق
وغير ذلك فجعلوا يأخذون ما يصلح لهم من ذلك ويحمل كل واحد من العسكر ما يقدر عليه.
فلما عزموا على الخروج من تلك المجالس رأوا هنا باباً من
الصاج متداخلاً فيه العاج والأبنوس وهو مصفح بالذهب الوهاج في وسط ذلك القصر وعليه
ستر مسبول من حرير منقوش بأنواع الطراز وعليه أقفال من الفضة البيضاء تفتح بالحيلة
بغير مفتاح، فتقدم الشيخ عبد الصمد إلى تلك الأقفال وفتحها بمعرفته وشجاعته
وبراعته فدخل القوم من دهليز مرخم، وفي جوانب ذلك الدهليز بواقع عليها صور من
أصناف الوحوش والطيور وكل ذلك من ذهب أحمر وفضة بيضاء وأعينها من الدر واليواقيت
تحير كل من رآها، ثم وصلوا إلى قاعة مصنوعة.
فلما رآها الأمير موسى والشيخ عبد الصمد اندهشا من
صنعتها، ثم إنهم عبروا فوجدوا قاعة مصنوعة من رخام مصقول منقوش بالجواهر يتوهم
الناظر إليها أن في طريقها ماء جارية لو مر عليه لزلق فأمر الأمير موسى الشيخ عبد
الصمد أن يطرح عليها شيء حتى يتمكنوا أن يمشوا عليها، ففعل ذلك وتحيل حتى عبروا
فوجدوا فيها قبة عظيمة مبنية بحجارة مطلية بالذهب لم يشاهد القوم في جميع ما رأوه
أحسن منها. وفي وسط تلك القبة قبة عظيمة من المرمر بدائرها شبابيك منقوشة مرصعة
بقضبان الزمرد لا يقدر عليها أحد من الملوك، وفيها خيمة من الديباج منصوبة على
أعمدة من الذهب الأحمر، وفيها طيور وأرجلها من الزمرد الأخضر، وتحت كل طير شبكة من
اللؤلؤ الرطب مجللة على فسقية وموضوع على الفسقية سرير مرصع بالدر والجواهر
والياقوت وعلى السرير جارية كأنها الشمس الضاحية لم ير الراؤون أحسن منها وعليها
ثوب من اللؤلؤ الرطب وعلى رأسها تاج من الذهب الأحمر وعصابة من الجوهر، وفي عنقها
عقد من الجوهر وفي وسطه جواهر مشرقة. وعلى جوانبها جوهرتان نورهما كنور الشمس وهي
كأنها ناظرة إليهم تتأملهم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما رأى
هذه الجارية تعجب غاية العجب من جمالها وتحير من حسنها وحمرة خديها وسواد شعرها
يظن الناظر أنها بالحياة وليست ميتة، فقالوا لها السلام عليك أيتها الجارية فقال
لها طالب بن سهل أصلح الله شأنك أعلم أن هذه الجارية ميتة لا روح فيها فمن أين لها
أن ترد السلام ثم إن طالب بن سهل قال له أيها الأمير إنها صورة مدبرة بالحكمة وقد
قلعت عيناها بعد موتها وجعل تحتها زئبق وأعيدتا إلى مكانهما فهما يلمعان كأنما
يحركهما الهدب يتخيل للناظر أنها ترمش بعينيها وهي ميتة، فقال الأمير موسى سبحان
الذي قهر العباد بالموت وأما السرير الذي عليه الجارية فله درج وعلى الدرج عبدان
أحدهما أبيض، والآخر أسود بيد أحدهما آلة من الفولاذ، وبيد الآخر سيف مجوهر يخطف
الأبصار وبين يدي العبدين لوح من ذهب وفيه كتابة تقرأ وهي: بسم الله الرحمن
الرحيم، الحمد لله خالق الإنسان وهو رب الأرباب ومسبب الأسباب بسم الله الباقي
السرمدي بسم الله مقدر القضاء والقدر يا ابن آدم ما أجهلك بطول الأمل وما أسهاك عن
حلول الأجل. أما علمت أن الموت لك قد دعا وإلى قبض روحك قد سعى فكن على أهبة
الرحيل وتزود من الدنيا فستفارقها بعد قليل. أين آدم أبو البشر أين نوح وما نسل
أين الملوك الأكاسرة والقياصرة أين ملوك الهند والعراق أين ملوك الآفاق أين ملوك
العمالقة أين الجبابرة? لقد خلت منهم الديار وقد فارقوا الأهل والأوطان أين ملوك
العجم والعرب لقد ماتوا بأجمعهم وصاروا رمماً أين السادة ذوو الرتب? لقد ماتوا
جميعاً أين قارون وهامان أين شداد بن عاد بن كنعان وذووا الأوتاد قرضهم الله قارض
الأعمار وخلى منهم الديار فهل قدموا ليوم الميعاد واستعدوا لجواب رب العباد يا هذا
إن كنت لا تعرفني فأنا أعرفك باسمي ونسبي أنا ترمزين بنت عمالقة الملوك من الذين
عدلوا في اليلاد وملكت ما لم يملكه أحد من الملوك، وعدلت في القضية وأنصفت بين
الرعية وأعطيت ووهبت، وقد عشت زمناً طويلاً في سرور وعيش رغيد وأعتقت الجواري
والعبيد حتى نزل بي طارق وحلت بين يدي الرزايا وذلك أنه قد تواترت علينا سبع سنين
لم ينزل علينا ماء من السماء ولا نبت لنا عشب على وجه الأرض فأكلنا ما كان عندنا
من القوت فلم يجدوه ثم عادوا غلينا بالمال بعد طول الغيبة فحينئذ أظهرنا أموالنا
وذخائرنا وأغلقنا أبواب الحصون التي بمدينتنا وسلمنا الحكم لربنا وفوضنا أمرنا
لمالكنا فمتنا جميعاً كما ترانا وتركنا ما عمرنا وما ادخرنا فهذا هو الخبر وما بعد
العين إلا الأثر وقد نظروا في أسفل اللوح فرأوا مكتوباً فيه هذه الأبيات:
بنـي آدم لا يهـزأ بـك الأمــل عن كل ما ادخرت كفاك ترتحلوا
أراك ترغب في الدنيا وزينتـهـا وقد سعى قبلك الماضون والأول
قد حصلوا المال من حل ومن حرم فلم يرد القضا لما انتهى الأجـل
قادوا العساكر أفواجاً وقد جمعـوا فخلفوا المال والبنيان وارتحـلـوا
إلى قبور وضيق في الثرى رقدوا وقد أقاموا به رهناً بما عمـلـوا
كأنما الركب قد حطوا رحالهمـو في جنح ليل بدار ما بهـا نـزل
فقال صاحبها يا قوم ليس لـكـم فيها مقام فشدوا بعد ما نـزلـوا
فكلهم خائف أضحى بهـا وجـلا ولا يطيب له حل ومـرتـحـل
فقدم الزاد من خير تسـير غـدا وليس إلا بتقوى ربك العـمـل
فبكى الأمير موسى لما سمع هذا الكلام وقال والله إن
التقوى هي رأس الأمور والتحقيق والركن الوثيق وإن الموت هو الحق المبين، والوعد
اليقين فراع فيه يا هذا المرجع والمآب واعتبر بمن سلف قبلك في التراب وبادر إلى
سبيل الميعاد، أما ترى الشيب إلى القبر دعاك وبياض شعرك على نفسك قد نعاك فكن على
يقظة الرحيل والحساب، يا ابن آدم ما أقسى قلبك فما غرك بربك أين الأمراء السالفة
العبرة لمن يعتبر، أين ملوك الصين أهل البأس والتمكين، أين عاد بن شداد وما بنى
وعمر ابن النموردو الذي طغى وتجبر، أين فرعون الذي جحد وكفر كلهم قد قهرهم الموت
على الاثر، فما بقي صغيراً ولا كبيراً ولا أنثى ولا ذكر قرضهم قارض الأعمار ومكور
الليل على النهار اعلم أيها الواصل إلى هذا المكان ممن رآنا أنه لا يغتر بشيء من
الدنيا وحطامها، فإنها غدارة مكارة ودار بور وغرو، فطوبى لعبد ذكر ذنبه وخشي ربه
وأحسن المعاملة وقدم الزاد ليوم المعاد فمن وصل إلى مدينتنا ودخلها وسهل الله عليه
دخولها فيأخذ من المال ما يقدر عليه ولا يمس من فوق جسدي شيئاً فإنه ستر لعورتي
وجهازي من الدنيا فليتق الله ولا يسلب منه شيئاً فيهلك نفسه، وقد جعلت ذلك نصيحة
مني إليه وأمانة مني لديه والسلام، فأسأل الله أن يكفيكم شر البلايا والسقام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد الخمسمائة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما سمع
هذا الكلام بكى بكاء شديداً حتى غشي عليه فلما أفاق كتب جميع ما رآه واعتبر بما
شاهده ثم قال لأصحابه ائتوا بالأعدال واملوها من هذه الأموال وهذه الأواني والتحف
والجواهر فقال طالب بن سهل للأمير موسى أيها الأمير اترك هذه الجارية بما عليها
وهو شيء لا نظير له ولا يوجد في وقت مثله أوفى ما أخذت من الأموال وأحسن هدية
تتقرب إلى أمير المؤمنين، فقال الأمير موسى يا هذا ألم تسمع ما أوصت به الجارية في
هذا اللوح لاسيما وقد جعلته أمانة وما نحن من أهل الخيانة فقال الوزير طالب وهل
لأجل هذه الكلمات تترك الأموال وهذه الجواهر وهي ميتة فماذا ستصنع بهذا وهو زين
الدنيا وجمال الأحياء ويكفي ثوب من القطن نستر به هذه الجارية فهي أحق به منها يا
من السلم وصعد على الدرج حتى صار بين العمودين ووصل بين الشخصين وإذا بأحد الشخصين
ضربه في ظهره والآخر بالسيف الذي في يده ورمى رأسه ووقع ميتاً فقال الأمير موسى لا
رحم الله لك مضجعاً لقد كان هذه الأموال ما فيه كفاية والطمع لاشك يزري بصاحبه ثم
أمر بدخول العساكر فدخلوا وحملوا الجمال من تلك الأموال والمعادن ثم إن الأمير
موسى أمرهم أن يغلقوا الباب كما كان ثم ساروا على الساحل حتى أشرفوا على جبل عال
مشرف على البحر وفيه مغارات كثيرة وإذا فيها قوم من السود وعليهم نطوح وعلى رؤوسهم
برانس من نطوح لا يعرف كلامهم، فلما رأوا العسكر جفلوا منهم وولوا هاربين إلى تلك
المغارات ونساؤهم وأولادهم على أبواب المغارات.
فقالالأمير موسى يا شيخ عبد الصمد ما هؤلاء القوم فقال
هؤلاء طلبة أمير المؤمنين فنزلوا وضربت الخيام وحطت الأموال فما استقر بهم المكان
حتى نزل ملك السودان من الجبل ودنا من العسكر وكان يعرف العربية فلما وصل إلى
الأمير موسى سلم عليه فرد عليه السلام وأكرمه فقال ملك السودان للأمير موسى أنتم
من الإنس أم من الجن فقال الأمير موسى أما نحن فمن الإنس، وأما أنتم فلا شك أنكم
من الجن لانفرادكم في هذا الجبل المنفرد عن الخلق ولعظم خلقكم.
فقال ملك السودان بل نحن قوم آدميون من أولاد حام بن نوح
عليه السلام وأما هذا البحر فإنه يعرف بالكركر فقال له الأمير موسى ومن أين لكم
علم ولم يبلغكم نبي أو وحي إليه في مثل هذه الأرض فقال اعلم أيها الأمير أنه يظهر
لنا من هذا البحر شخص له نور تضيء له الآفاق فينادي بصوت يسمعه البعيد والقريب يا
أولاد حام استحيوا ممن يرى ولا يرى وقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنا
أبو العباس الخضر، وكنا قبل ذلك نعبد بعضنا فدعانا إلى عبادة رب العباد ثم قال
للأمير موسى وقد علمنا كلمات نقولها فقال الأمير موسى وما هذه الكلمات قال هي لا
إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير
وما نتقرب إلى الله عو وجل إلا بهذه الكلمات ولا نعرف غيرها وكل ليلة جمعة نرى
نوراً على وجه الأرض ونسمع صوتاً يقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح ماشاء الله
كان وما لم يشأ لم يكن كل نعمة فضل الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فقال له الأمير موسى نحن أصحاب ملك الإسلام عبد الملك بن
مروان وقد جئنا بسبب القماقم النحاس التي عندكم في بحركم وفيها الشياطين محبوسة من
عهد سليمان عليهما السلام، وقد أمر أن نأتيه بشيء منها يبصره ويتفرج عليه.
فقال له ملك السودان حباً وكرامة ثم أضافهم بلحوم السمك
وأمر الغواصين أن يخرجوا من البحر شيئاً من القماقم السليمانية فأخرجوا لهم اثني
عشر قمقماً ففرح الأمير موسى بها والشيخ عبد الصمد والعساكر لأجل قضاء حاجة أمير
المؤمنين، ثم إن الأمير موسى وهب لملك السودان مواهب كثيرة وأعطاه عطايا جزيلة،
وكذلك ملك السودان أهدى إلى الأمير موسى هدية من عجائب البحر على صفة الآدميين
وقال له إن ضيافتكم في هذه ثلاثة أيام من لحوم هذا السمك.
فقال الأمير موسى لابد أن نحمل معنا شيئاً حتى ينظر إليه
أمير المؤمنين فيطمئن خاطره بذلك أكثر من القماقم السليمانية، ثم ودعوه وساروا حتى
وصلوا إلى بلاد الشام، فدخلوا على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فحدثه الأمير
بجميع ما رآه وما وقع له من الأشعار والأخبار والمواعظ، وأخبره بخبر طالب بن سهل.
فقال له أمير المؤمنين ليتني كنت معكم حتى أعاين ما
عاينتم، ثم أخذ القماقم وجعل يفتح قمقماً بعد قمقم، والشياطين يخرجون منها ويقولون
التوبة يا نبي الله وما نعود لمثل ذلك أبداً فتعجب عبد الملك بن مروان من ذلك،
وأما بنات البحر اللواتي أهداها لهم ملك السودان، فإنهم صنعوا لها حيضاناً من خشب
وملأوها ماء ووضعوها فيها فماتت من شدة الحر، ثم إن أمير المؤمنين أحضر الأموال
وقسمها بين المسلمين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.ألف ليلة وليلة الجزء السابع