ألف ليلة وليلة الجزء العاشر


ألف ليلة وليلة

الجزء العاشر





وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما سمع كلام بواب الخان وصنائعية المصبغة تحقق أنه عنده خبث أبي قير فأقام عليه النكير وقال لأعوانه: خذوه وجرسوه في المدينة وحطوه في زكيبة وارموه في البحر، فقال أبو صير: يا ملك الزمان شفعني فيه فأني سامحته من جميع ما فعل بي فقال الملك: إن كنت سامحته في حقك فأنا لا يمكن أن أسامحه في حقي، ثم صاح وقال: خذوه وجرسوه وبعد ذلك وضعوه في زكيبة ووضعوا معه الجير ورموه في البحر فمات غريقاً حريقاً وقال الملك: يا أبا صير تمن علي تعط، فقال له: تمنيت عليك أن ترسلني إلى بلادي فأني ما بقي لي رغبةٌ في القعود هنا فأعطاه شيئاً كثيراً زيادة على ماله ونواله ومواهبه ثم أنعم عليه بغلون مشحون بالخيرات وكان بحريته مماليك فوهبهم له أيضاً بعد أن عرض عليه أن يجعله وزيراً فما رضي ثم ودع الملك وسافر وجميع ما في الغليون ملكه حتى النوتية ملكه وما زال سائراً حتى وصل أرض الإسكندرية ورسوا على جانب إسكندرية وخرجوا إلى البر فرأى مملوكاً معه زكيبة في جانب البر. فقال: يا سيدي إن في جنب شاطئ البحر زكيبة ثقيلة وفما مربوط ولا أدري ما بها فأتى أبو صير وفتحها فرأى فيها أبو قير قد دفعه البحر إلى جهة إسكندرية فأخرجه ودفنه بالقرب من إسكندرية وعمل له مزاراً ووقف عليه أوقافاً ثم أن أبا صير أقام مدة وتوفاه الله فدفنوه بجوار قبر رفيقه أبي قير ومن أجل ذلك سمي هذا المكان بأبي قير وأبي صير واشتهر إلى الآن بأنه أبو قير، وهذا ما بلغنا من حكايتهما فسبحان الباقي على الدوام وبإرادته تصرف الليالي والأيام.

حكاية عبد الله البري مع عبد الله البحري

ومما يحكى أيضاً أنه كان رجلٌ صيادٌ اسمه عبد الله وكان كثير العيال وله تسعة أولادٍ وأمهم وكان فقير جداً لا يملك إلا الشبكة وكان يروح كل يومٍ إلى البحر ليصطاد فإذا اصطاد قليلاً يبيعه وينفقه على أولاده بقدر ما رزقه الله وإن اصطاد كثيراً يطبخ طبخةً طيبةً ويأخذ فاكهةً ولا يزال يصرف حتى لا يبقى معه شيءٌ ويقول في نفسه: رزق غدٍ يأتي غداً فلما وضعت زوجته صاروا عشرة أشخاصٍ وكان الرجل في ذلك اليوم لا يملك شيئاً أبدا فقالت زوجته: يا سيدي انظر لي شيئاً أتقوت به فقال لها: ها أنا سارحٌ على بركة الله تعالى إلى البحر في هذا اليوم على بخت هذا المولود الجديد حتى ننظر سعده.
فقالت له: توكل على الله فأخذ الشبكة وتوجه إلى البحر، ثم أنه رمى الشبكة على بخت ذلك الطفل الصغير وقال: اللهم أجعل رزقه يسيراً غير عسير وكثيراً وغير قليل وصبر عليهما مدةً سحبها فخرجت ممتلئةً عفشاً ورملاً وحشيشاً ولم ير فيها شيئاً من السمك لا كثيراً ولا قليلاً فرماها ثاني مرةٍ وصبر عليها ثم سحبها فلم ير فيها سمكاً فرمى ثالثاً ورابعاً وخامساً فلم يطلع فيها سمكاً فانتقل إلى مكان أخر وجعل يطلب رزقه من الله ولم يزل على هذه الحالة إلى آخر النهار فلم يصطد ولا سمكةً صغيرةً فتعجب في نفسه وقال: هل هذا المولود خلقه الله تعالى من غير رزقٍ فهذا لا يكون أبداً لأن الذي شق الأشداق تكفل لها بالأرزاق فالله تعالى كريمٌ رزاقٌ.
ثم أنه حمل الشبكة ورجع مكسور الخاطر وقلبه مشغولٌ بعياله فأنه تركهم بغير أكلٍ ولا سيما زوجته نفساء وما زال يمشي وهو يقول في نفسه: كيف العمل وماذا أقول للأولاد في هذه الليلة? ثم أنه وصل قدام فرن خبازٍ فرأى عليه زحمةً وكان وقت غلاءٍ وفي تلك الأيام لا يوجد عند الناس من المؤونة إلا القليل والناس يعرضون الفلوس على الخباز وهو لا ينتبه لأحد منهم من كثرة الزحام فوقف ينظر ويشم رائحة العيش السخن فصارت نفسه تشتهيه من الجوع فنظر إليه الخباز وصاح عليه وقال: تعال يا صياد فتقدم إليه وقال له أتريد عيشاً? فسكت وقال له: تكلم ولا تستح الله كريمٌ أن لم يكن معك دراهم فأنا أعطيك وأصبر عليك حتى يجيئك الخير فقال له: والله يا معلم أنا ما معي دراهم ولكن أعطني عيشاً كفاية عيالي وأرهن عندك هذه الشبكة إلى الغد. فقال له الخباز: يا مسكين أن هذه الشبكة دكانك وباب رزقك فإذا رهنتها بأي شيءٍ تصطاد فأخبرني بالقدر الذي يكفيك? قال: بعشرة أنصاف فضةٍ فأعطاه خبراً بعشرة أنصافٍ ثم أعطاه عشرة أنصافٍ فضةٍ وقال له: خذ هذه العشرة أنصاف وأطبخ لك بها طبخةً فيبقى عندك عشرون نصف فضةٍ وفي غدٍ هات لي بها سمكاً وأن لم يحصل لك شيءٌ تعال خذ عيشك وعشرة أنصافٍ وأنا أصبر عليك حتى يأتيك الخير.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخباز قال للصياد خذ ما تحتاج إليه وأنا أصبر عليك حتى يأتيك الخير وبعد ذلك هات لي بما استحقه عندك سمكاً فقال له الصياد: آجرك الله تعالى وجزاك عني كل خيرٍ ثم أخذ العيش والعشرة أنصاف فضة وراح مسروراً واشترى ما تيسر ودخل على زوجته فرآها قاعدةً تأخذ بخاطر الأولاد وهم يبكون من الجوع وتقول لهم: في هذا الوقت يأتي أبوكم بما تأكلونه فلما دخل عليهم حط لهم العيش فأكلوا وأخبر زوجته بما حصل له، فقالت له: الله كريم.
وفي ثاني يوم حمل شبكته وخرج من داره وهو يقول: اسألك يا رب أن ترزقني في هذا اليوم بما يبيض وجهي مع الخباز فلما وصل إلى البحر صار يطرح الشبكة فلا يخرج فيها سمكاً ولم يزل كذلك إلى أخر النهار فلم يحصل شيءً فرجع وهو في غمٍ عظيمٍ وكان طريق بيته على فرن الخباز، فقال في نفسه: من أين أروح إلى داري ولكن أسرع خطاي حتى لا يراني الخباز فلما وصل إلى فرن الخباز رأى زحمةً فأسرع في المشي من حيائه من الخباز حتى لا يراه وإذا بالخباز وقع بصره عليه فصاح وقال له: يا صياد تعال خذ عيشك ومصروفك فأنك نسيت.
قال: والله ما نسيت وإنما استحيت منك فأني لم أصطد سمكاً في هذا اليوم فقال له: لا تستح أما قلت لك على مهلك حتى يأتيك الخير، ثم أعطاه العيش والعشرة أنصاف وراح إلى زوجته وأخبرها بالخبر فقالت له الله كريم أن شاء الله يأتيك الخير وتوفيه حقه ولم يزل على هذه الحالة مدة أربعين يوماً وهو في كل يومٍ يروح إلى البحر من طلوع الشمس إلى غروبها ويرجع بلا سمكٍ ويأخذ عيشاً ومصروفاً من الخباز، ولم يذكر له السمك يوماً من الأيام ولم يمهله مثل الناس بل يعطيه العشرة أنصاف والعيش وكلما يقول له يا أخي حاسبني يقول له روح ما هذا وقت الحساب حتى يأتيك الحساب فأحاسبك، فيدعوا له ويذهب من عنده شاكراً له.
وفي اليوم الحادي والأربعون قال لامرأته: مرادي أن أقطع هذه الشبكة وأرتاح من هذه المعيشة، فقالت له: لأي شيءٍ? قال لها: كأن رزقي انقطع في البحر فإلى متى هذا الحال والله أني ذبت حياءً من الخباز فأنا ما بقيت أروح إلى البحر حتى لا أجوز على فرنه فأنه ليس لي طريقٌ إلا على فرنه وكلما جزت عليه يناديني ويعطيني العيش والعشرة أنصاف وإلى متى وأنا أتداين منه? قالت له: الحمد لله تعالى الذي عطف قلبه عليك فيعطيك القوت وأي شيءٍ تكره من هذا? قال: بقي له علي قدرٌ عظيمٌ من الدراهم ولا بد أنه يطلب حقه، قالت له زوجته: هل آذاك بكلامٍ? قال: لا ولا يرضى أن يحاسبني ويقول لي: حتى يأتيك الخير، قالت: فإذا طالبك قل له حتى يأتي الخير الذي نرتجيه أنا وأنت فقال لها: متى يجيء الخير الذي نرتجيه? قالت: الله كريم قال: صدقت، ثم حمل شبكته وتوجه إلى البحر وهو يقول: يا رب أرزقني ولو بسمكةٍ واحدةٍ حتى أهديها إلى الخباز ثم أنه رمى الشبكة في البحر وسحبها فوجدها ثقيلة فما زال يعالج فيها حتى تعب تعباً شديداً فلما أخرجها وجد فيها حماراً ميتاً منفوخاً ورائحته كريهةٌ فسئمت نفسه ثم خلصه من الشبكة وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد عجزت وأنا أقول لهذه المرأة ما بقي لي رزقٌ في البحر، دعيني أترك هذه الصنعة وهي تقول لي: الله كريمٌ سيأتيك الخير فهل هذا الحمار الميت هو الخير? ثم أنه حصل له غمٌ شديدٌ وتوجه إلى مكانٍ آخر ليبعد عن رائحة الحمار وأخذ الشبكة ورماها وصبر عليها ساعةً زمانيةً، ثم جذبها فرآها ثقيلةً فلم يزل يعالج فيها حتى خرج الدم من كفيه فلما أخرج الشبكة رأى فيها آدميا فظن أنه عفريتٌ من عفاريت سيدنا سليمان الذي كان يحبسهم في قماقم النحاس ويرميهم في البحر فلما انكسر القمقم من طول السنين خرج منه ذلك العفريت وطلع في الشبكة فهرب منه وصار يقول: الأمان الأمان يا عفريت سليمان فصاح عليه الآدمي من داخل الشبكة وقال: تعالى يا صياد لا تهرب مني فأني آدمي مثلك فخلصني لتنال أجري فلما سمع الصياد اطمأن قلبه وجاءه وقال: أما أنت عفريتٌ من الجن? قال: لا وإنما أنا أنسيٌ مؤمن بالله ورسوله. قال له: ومن رماك في البحر? قال له: أنا من أولاد البحر كنت دائراً فرميت على الشبكة ونحن أقوامٌ مطيعون لأحكام الله ونشفق على خلق الله تعالى ولولا أني أخاف وأخشى أن أكون من العاصين لقطعت شبكتك ولكن رضيت بما قدر الله علي وأنت إذا خلصتني تصير مالكاً وأنا أصير أسيرك فهل لك أن تعتقني ابتغاءً لوجه الله تعالى وتعاهدني وتبقى صاحبي أجيئك كل يومٍ في هذا المكان وأنت تأتيني وتجيء لي معك بهديةٍ من ثمار البرفان عندكم عنباً وتيناً وبطيخاً وخوخاً ورماناً وغير ذلك وكل شيءٍ تجيء به إليَّ مقبولٌ منك ونحن عندنا مرجانٌ ولؤلؤٌ وزمردٌ وياقوتٌ وجواهرٌ فأنا أملأ لك المشنة التي تجيء لي فيها بالفاكهة معادن من جواهر البحر فما تقول يا أخي في هذا الكلام? قال له الصياد: الفاتحة بيني وبينك على هذا الكلام فقرأ كل منهما الفاتحة وخلصه من الشبكة ثم قال له الصياد: ما اسمك? قال له: اسمي عبد الله البحري فإذا أتيت إلى هذا المكان ولم ترني فناد وقل: أين أنت يا عبد الله يا بحري فأكون عندك في الحال.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله البحري قال له: إذا أتيت إلى هذا المكان ولم ترني فناد وقل: أين أنت يا عبد الله يا بحري فأكون عندك في الحال وأنت ما اسمك? فقال الصياد: اسمي عبد الله قال أنت عبد الله البحري فقف هنا حتى أروح وآتيك بهديةٍ، فقال له: سمعاً وطاعةً فراح عبد الله البحري في البحر فعند ذلك ندم عبد الله البري على كونه خلصه من الشبكة وقال في نفسه: من أين أعرف أنأأنه يرجع إلي وإنما هو يضحك علي حتى خلصته ولو أبقيته كنت أفرج عليه الناس في المدينة وآخذ عليه الدراهم وأدخل به بيوت الأكابر فصار يتندم على إطلاقه ويقول في لنفسه: راح صيدك من يدك فبينما هو يتأسف على خلاصه من يده وإذا بعبد الله البحري رجع إليه ويداه مملوءتان لؤلؤاً ومرجاناً وزمرداً وياقوتاً وجواهر، وقال له: خذ يا أخي ولا تؤاخذني فأنه ما عندي مشنةٌ كنت أملؤها لك.
فعند ذلك فرح عبد الله البري وأخذ منه الجواهر وقال له: كل يوم تأتي إلى هذا المكان قبل طلوع الشمس ثم ودعه وانصرف ودخل البحر وأما الصياد فأنه دخل المدينة وهو فرحانٌ ولم يزل ماشياً حتى وصل إلى فرن الخباز وقال له: يا أخي قد أتانا الخير فحاسبني قال له: ما نحتاج إلى حسابٍ أن كان ما معك شيءٌ فخذ عيشك ومصروفك ورح إلى أن يأتيك الخير. فقال له: يا صاحبي قد أتاني الخير من فيض الله وقد بقي لك عندي جملةً كثيرةً ولكن خذ هذا وكبش له كبشةً من لؤلؤٍ ومرجانٍ وياقوتٍ وجواهرٍ وكانت تلك الكبشة نصف ما معه فأعطاها للخباز وقال له: أعطني شيئاً من المعاملة أصرفه في هذا اليوم حتى أبيع هذه المعادن فأعطاه كل ما كان تحت يده من الدراهم وجميع ما في المشنة التي كانت عنده من الخبز وفرح الخباز بتلك المعادن وقال للصياد: أنا عبدك وخدامك وجمع العيش الذي عنده على رأسه ومشى خلفه إلى البيت فأعطى العيش لزوجته وأولاده، ثم راح إلى السوق وجاء باللحم والخضار وسائر أصناف الفاكهة وترك الفرن وأقام طول ذلك اليوم وهو يعاطي خدمة عبد الله البري ويقضي له مصالحه.
فقال له الصياد: يا أخي أتعبت نفسك، قال له الخباز: هذا واجبٌ لأني صرت خدامك وإحسانك قد غمرني فقال له: أنت صاحب الإحسان علي في الضيق والغلاء وبات معه تلك الليلة على أحسن حال، ثم أن الخباز صار صديقاً للصياد أخبر زوجته بواقعته مع عبد الله البحري ففرحت وقالت: أكتم سرك لئلا تتسلط عليك الحكام فقال لها: أن كتمت سري عن جميع الناس فلا أكتمه عن الخباز، ثم أنه أصبح في ثاني يوم وكان قد ملأ مشنة فاكهة من سائر الأصناف في وقت المساء ثم حملها قبل الشمس وتوجه إلى البحر، وحطها على جانب الشاطئ وقال: أين أنت يا عبد الله يا بحري? وإذا به يقول له: لبيك وخرج إليه فقدم له الفاكهة فحملها ونزل بها وغطس في البحر وغاب ساعةً زمانيةً ثم خرج ومعه المشنة ملآنةً من جميع أصناف المعادن والجواهر فحملها عبد الله البري على رأسه وذهب بها، فلما وصل إلى فرن الخباز قال له: يا سيدي قد خبزت لك أربعين كف شريكٍ وأرسلتها إلى بيتك وها أنا أخبز العيش الخاص فمتى خلص أوصله البيت وأروح لك أجيء بالخضار واللحم فكبش له من المشنة ثلاث كبشاتٍ وأعطاه إياها وتوجه إلى البيت وحط المشنة وأخذ من كل صنفٍ من أصناف الجواهر فأخذ جواهر نفيسةً، ثم ذهب إلى سوق الجواهر ووقف على دكان شيخ السوق وقال: اشتر مني هذه الجواهر فقال له: أرني إياها فأراه فقال له: هل عندك غير هذا? قال: عندي مشنةً ممتلئةً، قال له: أين بيتك? قال: في الحارة الفلانية فأخذ منه الجواهر وقال لأتباعه: أمسكوه فأنه هو الحرامي الذي سرق مصالح الملكة زوجة السلطان ثم أمرهم أن يضربوه فضربوه وكتفوه وقام الشيخ هو وجميع أهل سوق الجواهر وصاروا يقولون: مسكنا الحرامي وبعضهم يقول: ما سرق متاع فلانٍ إلا هذا الخبيث وبعضهم يقول: ما سرق جميع ما في بيت فلانٍ، إلا هو وبعضهم يقول كذا وكذا كل ذلك وهو ساكت ولم يرد على أحدٍ منهم جواباً ولم يبدأ له خطابا حتى أوقفوه قدام الملك قال الشيخ: يا ملك الزمان لما سرق عقد الملكة أرسلت أعلمتنا وطلبت منا وقوع الغريم فاجتهدت أنا من دون الناس وأوقعت لك الغريم وها هو بين يديك وهذه الجواهر خلصناها من يده.
فقال الملك للطواشي: خذ هذه المعادن وأرها للملكة وقل لها: هل هذا متاعك الذي ضاع من عندك? فأخذها الطواشي ودخل بها قدام الملكة فلما رأتها تعجبت منها وأرسلت تقول للملك: أني رأيت عقد في مكاني وهذا ما هو متاعي ولكن هذه الجواهر أحسن من جواهر عقدي فلا تظلم الرجل.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زوجة الملك لما أرسلت تقول له: هذا ما هو متاعي ولكن هذه الجواهر أحسن من جواهر عقدي فلا تظلم الرجل وأن كان يبيعها فاشترها منه لبنتك أم السعود ليضعها لها في عقدٍ فلما رجع الطواشي وأخبر الملك بما قالته الملكة لعن شيخ الجواهرجية هو وجماعته لعنةً عادٍ وثمودٍ فقالوا: يا ملك الزمان أنا كنا نعرف أن هذا الرجل صيادٌ فقيرٌ فاستكثرنا ذلك عليه وقد ظننا أنه سرقها فقال: يا قبحاء أتستكثرون النعمة على مؤمنٍ فلا شيء لم يدر بما رزقه الله بها من حيث لا يحتسب فكيف تجعلونه حرامياً وتفضحونه بين العالم? اخرجوا لا بارك الله فيكم فخرجوا وهم خائفون. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر الملك فأنه قال له: يا رجل بارك الله لك فيما أنعم به عليك وعليك الأمان ولكن أخبرني بالصحيح من أين هذه الجواهر فأني ملكٌ ولا توجد عندي مثلها? فقال: يا ملك الزمان أنا عندي مشنةً ممتلئةً منها وهو أن الأمر كذا وكذا وأخبره بصحبته لعبد الله البحري وقال له: أنه قد صار بيني وبينه عهدٌ على أنني كل يوم أملأ له المشنة فاكهةً وهو يملؤها لي من هذه الجواهر، فقال له: يا رجل هذا نصيبك ولكن المال يحتاج إلى الجاه فأنا أدفع عنك تسلط الناس عليك في هذه الأيام ولكن ربما عزلت أو مت وتولى غيري فأنه يقتلك من أجل حب الدنيا والطمع فمرادي أن أزوجك ابنتي وأجعلك وزيري وأوصي لك بالملك من بعدي حتى لا يطمع فيك أحد بعد موتي.
ثم أن الملك قال: خذوا هذا الرجل وأدخلوه الحمام فأخذوه وغسلوا جسده وألبسوه ثياباً من الملوك وأخرجوه قدام الملك فجعله وزيراً له ثم أرسل إلى زوجته ملابس نساء الملوك هي وأولادها وأركبوها في تختروان ومشت قدامها جميع النساء الأكابر والعساكر والسعاة وأصحاب النوبة وأتوا بها إلى بيت الملك والطفل الصغير في حضنها وأدخلوا أولادها الكبار على الملك فأكرمهم وأخذهم على حجره وأجلسهم في جانبه وهم تسعة أولادٍ ذكورٍ وكان الملك معدوم الذرية، ما رزق غير تلك البنت التي اسمها أم السعود وأما الملكة فأنها أكرمت زوجة عبد الله البري وأنعمت عليها وجعلتها وزيرةً وأرسل السعاة وأصحاب النوبة وجميع نساء الأكابر إلى بيته فألبسوا عندها وأمر الملك يكتب عبد الله البري على ابنته وجعل مهرها جميع ما كان عنده من الجواهر والمعادن، وفتحوا باب الفرح وأمر الملك أن ينادي بزينة المدينة من أجل فرح ابنته وفي اليوم الثاني بعد أن دخل على بنت الملك وأزال بكارتها طل الملك من الشباك فرأى عبد الله حاملاً على رأسه مشنةً ممتلئةً فاكهةً، فقال له: ما هذا الذي معك يا نسيبي وإلى أين تذهب? فقال: إلى صاحبي عبد الله البحري فقال له: يا نسيبي ما هذا وقت الرواح إلى صاحبك فقال: أخاف أن أخلف معه المعاد فيعدني كذاباً ويقول لي أن الدنيا الهتك عني قال: صدقت رح إلى صاحبك أعانك الله فمشى في البلد وهو متوجهٌ إلى صاحبه وكانت الناس قد عرفته فصار يسمع الناس يقولون: هذا نسيب الملك رائحٌ يبدل الأثمار بالجواهر والذي يكون جاهلا به ولا يعرفه يقول: يا رجل بكم الرطل? تعالي بعني فيقول له: انتظرني حتى أرجع إليك ولا يغم أحداً، ثم راح واجتمع بعبد الله البحري وأعطاه الفاكهة وأبدلها له بالجواهر ولم يزل على هذه الحالة وفي كل يومٍ يمر على الخباز فيراه مقفولاً ودام على ذلك مدة عشرة أيامٍ، فلما لم ير الخباز ورأى فرنه مقفولا قال في نفسه: أن هذا شيءٌ عجيبٌ يا ترى أين راح الخباز? ثم أنه سأل عنه جارٌ له يا أخي أين جارك الخباز? فما فعل الله به? قال له: يا سيدي أنه مريض لا يخرج من بيته قال له: أين بيته? قال له: في الحارة الفلانية فعمد إليه وسأل عنه فلما طرق الباب طل الخباز من الطاقة فرأى صاحبه الصياد وعلى رأسه مشنةً ممتلئةً فنزل إليه وفتح له الباب ورمى روحه عليه وعانقه وقال له: كيف حالك يا صاحبي فأن كان من أمر على الفرن فأراه مقفولاً ثم سألت جارك فأخبرني بأنك مريضٌ فسألت عن البيت لأجل أن أراك فقال له الخباز: جزاك الله عني كل خير فليس بي مرضٌ، وإنما بلغني أن الملك أخذك لأن بعض الناس كذب عليك وادعى أنك حرامي فخفت أنا وقفلت الفرن واختفيت.
قال: صدقت ثم أنه أخبره بقضيته وما وقع له مع الملك وشيخ سوق الجواهرجية وقال له: أن الملك قد زوجني ابنته وجعلني وزيره ثم قال له: خذ من المشنة نصيبك ولا تخف، ثم خرج من عنده بعد أن ذهب عنه الخوف وراح إلى الملك بالمشنة فارغةً فقال له الملك: يا نسيبي كأنك ما اجتمعت برفيقك عبد الله البحري في هذا اليوم? فقال: رحت له والذي أعطاه لي أعطيته إلى صاحبي الخباز فأن له علي جميلاً قال: من يكون هذا الخباز? قال: أنه رجلٌ صاحبٌ معروفٌ وجرى لي معه في أيام الفقر ما هو كذا وكذا ولم يهملني يوما ولا كسر خاطري قال الملك: ما اسمه? قال: عبد الله الخباز وأنا اسمي عبد الله البري وصاحبي اسمه عبد الله البحري قال الملك: وأنا اسمي عبد الله وعبيد الله كلهم أخوان فأرسل إلى صاحبك الخباز هاته لتجعله وزير ميسرة، فأرسل إليه، فلما حضر بين يدي الملك ألبسه بدلة وزيرٍ وجعله وزير الميسرة وجعل عبد الله البري وزير الميمنة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك جعل عبد الله البري نسيبه وزير الميمنة وعبد الله الخباز وزير الميسرة واستمر عبد الله على تلك الحالة سنةً كاملةً وهو في كل يوم يأخذ المشنة ممتلئةً فاكهةً ويرجع بها ممتلئةً جواهر ومعادن ولما فرغت الفواكه من البساتين صار يأخذ زبيباً ولوزاً وبندقاً وجوزاً وتيناً وغير ذلك وجميع ما يأخذه له يقبله منه ويرد له المشنة ممتلئةً جواهر على عادته فاتفق يوماً من الأيام أنه أخذ المشنة ممتلئةً نقلاً على عادته فأخذها منه وجلس عبد الله البري على الشاطئ وجلس عبد الله البحري في الماء قرب الشاطئ وصارا يتحدثان مع بعضهما ويتداولان الكلام بينهما حتى أنجرا إلى ذكر المقابر فقال البحري: يا أخي أنهم يقولون في أن النبي صلى الله عليه وسلم مدفونٌ عندكم في البر فهل تعرف قبره? قال نعم قال له: في أي مكانٍ هو? قال له: في مدينةٍ يقال لها مدينة طية فقال: وهل تزوره الناس أهل البر? قال: نعم قال: هنيئا لكم يا أهل البر بزيارة هذا النبي الكريم الرؤوف الرحيم الذي من زاره استوجب شفاعته، وهل أنت زرته يا أخي? قال: لا لأني كنت فقيرٌ ولا أجد ما أنفقه في الطريق وما استغنيت إلا من حين عرفتك وتصدقت علي بهذا الخير، ولكن قد وجبت عليَّ زيارته بعد أن أحج بيت الله الحرام وما منعني من ذلك إلا محبتك فأني لا أقدر أن أفارقك يوماً واحداً.
فقال له: وهل تقدم محبتي على زيارة قبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي يشفع فيك يوم العرض على الله وينجيك من النار وتدخل الجنة بشفاعته? وهل من أجل حب الدنيا تترك زيارة قبر نبيك محمد صلى الله عليه وسلم? فقال: لا والله إن زيارته مقدمةٌ عندي على كل شيءٍ ولكن أريد منك إجازة أن أزوره في هذا العام، قال: أعطيك الإجازة بزيارته وإذا وقفت على قبره فاقرئه مني السلام، وعندي أمانةً فأدخل معي البحر حتى آخذك إلى مدينتي وأدخلك بيتي وأضيفك وأعطيك أمانةً لتضعها على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقل له يا رسول الله أن عبد الله البحري يقرئك السلام وقد أهدى إليك هذه الهدية وهو يرجو منك الشفاعة من النار. فقال له عبد الله البري: يا أخي أنت خلقت من الماء ومسكنك الماء وهولا يضرك فهل إذا خرجت منه إلى البر يحصل لك ضررٌ? قال: نعم ينشف بدني وتهب علي نسمات البر فأموت، قال له: وأنا كذلك خلقت في البر ومسكني البر فإذا دخلت البحر يدخل الماء في جوفي ويخنقني فأموت. قال له: لا تخف من ذلك فأني آتيك بدهنٍ تدهن به جسمك فلا يضرك الماء ولو كنت تقضي بقية عمرك وأنت دائرٌ في البحر وتنام وتقوم في البحر ولا يضرك شيءٌ، قال: إذا كان الأمر كذلك لا بأس هات لي الدهان حتى أجربه قال: وهو كذلك ثم أخذ المشنة ونزل في البحر وغاب قليلاً ثم رجع ومعه شحمٌ مثل شحم البقر لونه أصفر كلون الذهب ورائحته زكيةٌ، فقال له عبد الله البري: ما هذا يا أخي? فقال: شحم كبد صنفٍ من أصناف السمك يقال له الدندان وهو أعظم أصناف السمك خلقةً وهو أشد أعدائنا علينا وصورته أكبر صورةٍ توجد عندكم من دواب البر، ولو رأى الجمل والفيل لابتلعه.
فقال له: يا أخي وما يأكل هذا المشؤوم? فقال: يأكل من دواب البحر أما سمعت أنه يقال في المثل: مثل سمك البحر القوي يأكل الضعيف? قال: صدقت ولكن هل عندكم من هذا الدندان في البحر كثيرٌ? قال: عندنا شيءٌ لا يحصيه إلا الله تعالى. قال عبد الله البري: أني أخاف إذا نزلت معك أن يصادفني هذا النوع فيأكلني، قال عبد الله البحري: لا تخف فإنه متى رآك عرف أنك ابن آدمٍ فيخاف منك ويهرب ولا يخاف من أحدٍ في البحر مثل ما يخاف من ابن آدم لأنه متى أكل ابن آدم مات من وقته وساعته فأن شحم ابن آدم قاتلٌ لهذا النوع ونحن ما نجمع شحم كبده إلا بواسطة ابن آدمٍ إذا وقع في البحر غريقاً فإنه تتغير صورته وربما تمزق لحمه فيأكله الدندان لظنه أنه من حيوان البحر فيموت فنعثر به ميتاً فنأخذ شحم كبده وندهن به أجسامنا وندور في البحر فأي مكانٍ كان فيه ابن آدم إذا كان فيه مائة أو مائتان أو أكثر من هذا النوع وسمعوا صيحة ابن آدم فإن الجميع يموتون لوقتهم من صيحةٍ واحدةٍ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله البحري قال لعبد الله البري: وإذا سمع ألفٌ من هذا النوع أو أكثر صيحةً واحدةً من بني آدم يموتون لوقتهم ولا يقدر أحد منهم أن ينتقل من مكانه، فقال عبد الله البري: توكلت على الله، ثم قلع ما كان عليه من الملبوس وحفر في شاطئ البحر ودفن ثيابه وبعد ذلك دهن جسمه من فوقه إلى قدمه بهذا الدهن ثم نزل في الماء وغطس وفتح عينيه فلم يضره الماء فمشى يميناً وشمالاً ثم جعل أن شاء يعلو وأن شاء ينزل إلى القرار ورأى ماء البحر مخيماً عليه مثل الخيمة ولا يضره.
فقال عبد الله البحري: ماذا ترى يا أخي? قال له: أرى خيراً وقد صدقت فيما قلت فأن الماء ما ضرني، قال له: اتبعني فتبعه وما زالا يمشيان من مكانٍ إلى مكانٍ وهو يرى أمامه وعن يمينه وشماله جبالاً من الماء فصار يتفرج عليها وعلى أصناف السمك وهي تلعب في البحر البعض كبيرٌ والبعض صغيرٌ وفيه شيءٌ يشبه الجاموس وشيءٌ يشبه البقر وشيءٌ يشبه الكلاب وشيءٌ يشبه الآدميين وكل نوعٍ قربنا منه يهرب، فقال له: مخافةٌ منك لأن جميع ما خلقه الله تعالى يخاف من ابن آدم.
وما زال يتفرج على عجائب البحر حتى وصل إلى جبلٍ عالٍ فمشى عبد الله البري بجانب ذلك الجبل فلم يشعر إلا وصيحةً عظيمةً فالتفت فرأى شيئاً أسوداً منحدراً عليه من ذلك الجبل وهو قدر الجمل أو أكبر وصار يصيح، فقال: ما هذا يا أخي? قال له البحري: هذا الدندان فأنه نازل في طلبي مراده أن يأكلني فصح عليه يا أخي قبل أن يصل إلينا فيخطفني ويأكلني فصاح عليه عبد الله البري فوقع ميتاً، قال: سبحان الله وبحمده أنا لا ضربته بسيفٍ ولا بسكينٍ كيف هذه العظمة التي فيها هذا المخلوق ولم يحمل صيحتي بل مات? فقال له عبد الله البحري: لا تعجب يا أخي فو الله لو كان من هذا النوع ألفٌ أو ألفان لما حملوا صيحة ابن آدم.
ثم مشيا إلى مدينةٍ فرأيا أهلها جميعاً بنات وليس فيهن ذكورٌ فقال: يا أخي ما هذه المدينة وما هذه البنات? فقال له: هذه مدينة البنات لأن أهلها من بنات البحر، قال: هل فيهن ذكور? قال: لا، قال: كيف يحبلن ولا يلدن من غير ذكور? قال: أن ملك البحر ينفيهن إلى هذه المدينة وهن لا يحبلن ولا يلدن وإنما كل واحدةٍ غضب عليها من بنات البحر يرسلها إلى هذه المدينة ولا تقدر أن تخرج منها فأن خرجت منها فكل من يراها من دواب البحر يأكلها، وأما غير هذه المدينة ففيها رجالٌ وبناتٌ. قال له: هل في البحر مدنٌ غير هذه المدينة? قال له: كثيرٌ، قال: وهل عليكم سلطانٌ في البحر? قال: نعم، قال له: يا أخي أني رأيت في البحر عجائب كثيرة، قال له: وأي شيءٍ رأيت من العجائب? قال: أما سمعت صاحب المثل يقول: عجائب البحر أكثر من عجائب البر? قال: صدقت.
ثم أنه صار يتفرج على هذه البنات فرأى لهن وجوهاً مثل الأقمار وشعوراً مثل شعور النساء ولكن لهن أيادٍ وأرجلٍ في بطونهن ولهن أذنابٌ مثل أذناب السمك، ثم أنه فرجه على أهل تلك المدينة وخرج به ومشى قدامه إلى مدينةٍ أخرى فرآها ممتلئةً خلائق إناثاً وذكوراً صورتهم مثل صورة البنات ولهن أذناب ولكن ليس عندهم بيعٌ ولا شراءٌ مثل أهل البر وليسوا لابسين بل الكل عراةٍ مكشوفي العورة فقال له: يا أخي أني أرى الإناث والذكور مكشوفوا العورة فقال له: أن أهل البحر لا قماش عندهم.
فقال له: يا أخي كيف يصنعون إذا تزوجوا? فقال له: هم لا يتزوجون بل كل من أعجبته أنثى يقضي مراده منها، قال له: أن هذا شيءٌ حرامٌ، ولأي شيءٍ لا يخطبها يمهرها ويقيم لها فرحا ويتزوجها بما يرضي الله ورسوله? قال: ليس كلنا ملةً واحدةً فإن فينا مسلمين موحدين وفينا نصارى ويهودٌ وغير ذلك والذي يتزوج حصوص المسلمين. فقال: أنتم عراةٌ وما عندكم بيعٌ ولا شراءٌ، فأي شيءٍ يكون مهر نسائكم، وهل تعطوهن جواهر ومعادن? قال له: أن الجواهر أحجار ليس لها عندنا قيمةٌ وإنما الذي يريد أن يتزوج يجعلون شيئاً معلوماً من أصناف السمك يصطاده قدر ألف أو ألفين أو أكثر حسب ما يحصل عليه الاتفاق بينه وبين والد الزوجة فحين يحضر المطلوب يجتمع أهل العريس وأهل العروسة ويأكلون الوليمة ثم يدخلونه على زوجته وبعد ذلك يصطاد من السمك ويطعمها وإذا عجز تصطاد هي وتطعمه. قال: وأن زنى بعضهم ببعض كيف يكون الحال? قال: أن الذي يثبت عليه الأمر أن كانت أنثى ينفونها إلى مدينة البنات فإذا كانت حاملاً من الزنى فإنهم يتركونها إلى أن تلد، فأن ولدت بنتاً ينفونها معها وتسمى زانيةً ولا تزال بنتاً حتى تموت، وأن كان المولود ذكراً فأنهم يأخذونه إلى الملك السلطان فيقتله.
فتعجب عبد الله البري من ذلك، ثم أن عبد الله البحري أخذه إلى مدينةٍ أخرى، وهكذا وما زال يفرجه حتى فرجه على ثمانين مدينةٍ وكل مدينةٍ يرى أهلها لا يشبهون أهل غيرها من المدن، فقال له: يا أخي هل بقي في البحر مدائن? قال: وأي شيء رأيت من مدائن البحر وعجائبه، وحق النبي الكريم الرؤوف الرحيم لو كانت فرجتك ألف عامٍ كل عام على مدينةٍ وأريتك في كل مدينةٍ ألف أعجوبةٍ ما أريتك قيراطاً من أربعةٍ وعشرون قيراطاً من مدائن البحر وعجائبه وإنما فرجتك على أرضنا وديارنا لا غير، فقال له: يا أخي حيث كان الأمر كذلك يكفيني ما تفرجت عليه فأني سئمت من أكل السمك ومضى لي في صحبتك ثمانون يوماً وأنت لا تطعمني صباحاً ومساءً إلا سمكاً طرياً لا مستوياً ولا مطبوخاً، فقال لها: أي شيءٍ يكون المطبوخ والمشوي? قال له عبد الله البري: نحن نشوي السمك في النار ونطبخه ونجعله أصنافاً ونصنع منه أنواعاً كثيرةً، فقال له البحري: من أين تأتي لنا النار فنحن لا نعرف المشوي من المطبوخ وغير ذلك، فقال له البري: نحن نقليه بالزيت والسيرج فقال له البحري: ومن أين لنا الزيت والسيرج ونحن في هذا البحر لا نعرف شيئاً مما ذكرته? قال: صدقت ولكن يا أخي قد فرجتني على مدائن كثيرةٍ ولم تفرجني على مدينتك.
قال له: أما مدينتي فأننا فتناها بمسافة وهي قريبةٍ من البر الذي أتينا منه وإنما تركت مدينتي وجئت بك إلى هنا لأني قصدت أن أفرجك على مدائن البحر. قال له: يكفيني ما تفرجت عليه ومرادي أن تفرجني على مدينتك، قال له: وهو كذلك، ثم رجع وإياه إلى مدينته فلما وصلا إليها قال له: هذه مدينتي فرآها مدينةً صغيرةً عن المدائن التي تفرج عليها، ثم دخل المدينة ومعه عبد الله البحري إلى أن وصلا إلى مغارةٍ فقال له: هذا بيتي وكل بيوت هذه المدينة كذلك مغائرٌ كبيرةٌ وصغيرةٌ في الجبال وكذلك جميع مدائن البحر على هذه الضفة فأن كل من أراد أن يصنع له بيتاً يروح إلى الملك ويقول له: أريد أن أتخذ بيتاً في المكان الفلاني فيرسل معه الملك طائفةً من السمك تسمى النقارين ويجعل كراهم شيئاً معلوماً من السمك ولهم مناقر تفتت الحجر الجلمود فيأتون إلى الجبل الذي أراده صاحب البيت وينقرون في البيت وصاحب البيت يصطاد لهم السمك ويلقمهم حتى تتم المغارة فيذهبون وصاحب البيت يسكنه، وجميع أهل البحر على هذه الحالة لا يتعاملون مع بعضهم ولا يخدمون بعضهم إلا بالسمك وكلهم سمك.
ثم قال: أدخل، فدخل، فقال عبد الله البحري: يا ابنتي وإذا بابنته أقبلت عليه ولها وجهٌ مدورٌ مثل القمر ولها شعرٌ طويلٌ وردفٌ ثقيلٌ وطرفٌ كحيلٌ وخصرٌ نحيلٌ لكنها عريانةٌ ولها ذنبٌ فلما رأت عبد الله البري مع أبيها قالت له: يا أبي ما هذا الأزعر الذي جئت به معك? فقال لها: يا ابنتي هذا صاحبي عبد الله البري الذي كنت أجيء لك من عنده بالفاكهة البرية تعالي سلمي عليه فتقدمت وسلمت عليه بلسانٍ فصيحٍ وكلامٍ بليغٍ فقال أبوها: هات زاداً لضيفنا الذي حلت علينا بقدومه البركة فجاءت له بسمكتين كبيرتين كل واحدةٍ منها مثل الخروف فقال له: كل فأكل غصباً عنه من الجوع لأنه سئم من أكل السمك وما عندهم شيءٌ غير السمك فما مضى حصةً إلا وامرأة عبد الله البحري أقبلت وهي جميلة الصورة ومعها ولدان كل واحدٍ في يده فرخٌ من السمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الحيات فلما رأت عبد الله البري قالت: أي شيء هذا الأزعر? وتقدم الولدان وأختهما وأمهم وصاروا ينظرون إلى دبر عبد الله البري ويقولون: أي أزعر والله وصاروا يضحكون عليه سخريةً فقال عبد الله البري: يا أخي هل أنت جئت بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله البري قال لعبد الله البحري: يا أخي هل أنت جئت بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك? فقال له عبد الله البحري: العفو يا أخي فأن الذي لا ذنب له غير موجودٍ عندنا وإذا وجد من غير ذنبٍ يأخذه السلطان ليضحك عليه ولكن يا أخي لا تؤاخذ هؤلاء الأولاد الصغار والمرأة فأن عقولهم ناقصةٌ ثم صرخ عبد الله البحري على عياله وقال لهم: اسكتوا فخافوا منه وسكتوا وجعل يأخذ بخاطره فبينما هو يتحدث معه وإذا بعشرة أشخاصٍ كبارٍ شدادٍ غلاظٍ أقبلوا عليه وقالوا: يا عبد الله أنه بلغ الملك أن عندك أزعر من البر، قال: نعم وهو هذا الرجل فأنه صاحبي أتاني ضيفاً ومرادي أن أرجعه إلى البر، قالوا له: أننا لا نقدر أن نروح إلا به فأن كان مرادك كلاماً فقم وخذه وأحضر به قدام الملك والذي تقوله لنا قله للملك فقال عبد الله البحري. يا أخي العذر واضحٌ ولا يمكننا مخالفة الملك ولكن أمضي معي للملك وأنا أسعى في خلاصك منه أن شاء الله تعالى فلا تخف فأنه متى رآك وعرف أنك من أولاد البر ومتى علم أنك بريءٌ فلا بد أنه يكرمك ويردك إلى البر. فقال عبد الله البري: الرأي رأيك فأنا أتوكل على الله وأمشي معك ثم أخذه ومضى به إلى أن وصل إلى الملك فلما رآه ضحك وقال: مرحباً بالأزعر وصار كل من كان حوله يضحك عليه ويقول: أي والله أنه أزعر فتقدم عبد الله البحري إلى الملك وأخبره بأحواله وقال له: هذا من أولاد البر وصاحبي وهو لا يعيش بيننا لأنه لا يحب أكل السمك إلا مقلياً أو مطبوخاً والمراد أنك تأذن لي في أن أرده إلى البر.
فقال له الملك: حيث أن الأمر كذلك وأنه لا يعيش عندنا فقد أذنت لك أن ترده إلى مكانه بعد الضيافة ثم أن الملك قال: هاتوا له الضيافة فأتوا له بسمكٍ أشكالاً وألواناً فأكل امتثالاً لأمر الملك ثم قال له الملك: تمن علي فقال عبد الله البري: أتمنى عليك أن تعطيني جواهر فقال: خذوه إلى دار الجواهر ودعوه ينقي ما يحتاج إليه فأخذه صاحبه إلى دار الجواهر ونقى على قدر ما أراد ثم رجع إلى مدينته وأخرج له صرةً وقال له: خذ هذه أمانةٌ وأوصلها إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها وهو لا يعلم ما فيها ثم خرج معه ليوصله إلى البر فرأى في طريقه غناءً وفرحاً وسماطاً ممدوداً من السمك والناس يأكلون ويغنون وهم في فرحٍ عظيمٍ فقال عبد الله البري لعبد الله البحري: ما لهؤلاء الناس في فرحٍ عظيمٍ هل عندهم عرسٌ? فقال البحري: ليس عندهم عرسٌ وإنما مات عندهم ميتٌ فقال له: وهل أنتم إذا مات عندكم ميت تفرحون له وتغنون وتأكلون? قال: نعم وأنتم يا أهل البر ماذا تفعلون? قال البري: إذا مات عندنا ميت نحزن عليه ونبكي والنساء يلطمن وجوههن ويشققن جيوبهن حزناً على من مات فحملق عبد الله البحري عينيه في عبد الله البري وقال له: هات الأمانة فأعطاها له ثم أخرجه إلى البر وقال له: قد قطعت صحبتك وودك فبعد هذا اليوم لا تراني ولا أراك فقال له: لماذا هذا الكلام? فقال له: ما أنتم يا أهل البر أمانة الله. فقال البري: نعم قال: فكيف لا يهون عليكم أن الله يأخذ أمانته بل تبكون عليها فكيف أعطيك أمانة النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم إذا أتاكم المولود تفرحون به مع أن الله يضع فيه الروح أمانةً فإذا أخذها كيف تصعب عليكم وتبكون وتحزنون فما لنا في رزقكم حاجةً ثم تركه وراح إلى البر ثم أن عبد الله البري لبس حوائجه وأخذ جواهره وتوجه إلى الملك فتلقاه باشتياقٍ وفرحٍ به وقال له: كيف أنت يا نسيبي وما سبب غيابك عني هذه المدة? فأخبره بقصته وما رآه من العجائب في البحر.
فتعجب الملك من ذلك ثم أخبره بما قاله عبد الله البحري فقال له: أنت الذي أخطأت في أخبارك له بهذا الخبر ثم أنه استمر مدةً من الزمان وهو يروح إلى جانب البحر ويصيح على عبد الله البحري فلم يرد عليه ولم يأت إليه فقطع عبد الله البري الرجاء منه وأقام هو والملك نسيبه وأهلهما في أسر حالٍ وأحسن أعمالٍ حتى أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات وماتوا جميعاً فسبحان الحي الذي لا يموت ذي الملك والملكوت وهو على كل شيءٍ قديرٍ وبعباده لطيفٌ خبيرٌ.
من نوادر هارون الرشيد مع الشاب العماني
ومما يحكى أيضاً أن الخليفة هارون الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً فاستدعى مسروراً فحضر فقال له: ائتني بجعفرٍ بسرعةٍ فمضى وأحضره، فلما حضر وقف بين يديه قال له: يا جعفر قد اعتراني في هذه الليلة أرقٌ فمنع عني النوم ولا أعلم ما يزيله عني قال: يا أمير المؤمنين قد قالت الحكماء: النظر إلى المرآة ودخول الحمام واستعمال الغناء يزيل الهم والفكر فقال: يا جعفر أني قد فعلت هذا كله فلم يزل عني شيئاً وأنا أقسم بآبائي الطاهرين أن لم تتسبب فيما يزيل عني ذلك لأضربن عنقك قال: يا أمير المؤمنين هل تفعل ما أشير به عليك? قال الخليفة: وما الذي تشير به علي? قال: أن تنزل بنا في زورقٍ وننحدر به في بحر الدجلة مع الماء إلى محلٍ يسمى قرن الصراط لعلنا نسمع أو ننظر ما لم ننظر فأنه قد قبل تفريج الهم بواحدٍ من ثلاثة أمور وأن يرى الإنسان ما لم يكن رآه أو يسمع ما لم يكن سمعه أو يطأ أرضاً ما لم يكن وطئها فلعل ذلك يكون سبباً في زوال القلق عنك يا أمير المؤمنين. فعند ذلك قام الرشيد من موضعه وصحبته جعفر وأخوه الفضل وأبو اسحق النديم وأبو نواس وأبو دلف ومسرور والصياد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما قام من موضعه وصحبته جعفر وباقي جماعته دخلوا حجرة الثياب ولبسوا كلهم ملابس التجار وتوجهوا إلى الدجلة ونزلوا في زورقٍ مزركشٍ بالذهب وانحدروا مع الماء حتى وصلوا إلى الموضع الذي يريدونه فسمعوا أصواتاً جاريةً تغني على العود وتنشد هذه الأبيات:
قولٌ وقد حضر الـعـقـار                    وقد غنى على الأيك الهزار
إلى كم ذا التأني عن سرورٍ                أفق ما العمر إلا مستعار
فخذها من يدي ظبيٍ غريرٍ                 بجفنيه فتورٌ وانكـسـار
زرعت بخده ورداً طـرياً                    فأثمر في السوالف جلنار
وتحسب موضع التخمـيس                 فيه رمادا خامداً والخدنار
يقول لي العزول تسل عنه                 فما عذري وقد تم العـذار

فلما سمع الخليفة هذا الصوت قال: يا جعفر ما أحسن هذا الصوت قال جعفر: يا مولانا ما طرق سمعي أطيب ولا أحسن من هذا الغناء ولكن يا سيدي أن السماع من وراء جدارٍ نصف سماعٍ فكيف بالسماع من خلف سترٍ فقال: انهض بنا يا جعفر حتى نتطفل على صاحب هذه الدار لعلنا نرى المغنية عياناً، قال جعفر: سمعاً وطاعةً فصعدوا من الكوكب واستأذنوا في الدخول وإذا بشابٍ مليح المنظر عذب الكلام فصيح اللسان خرج إليهم وقال: أهلاً وسهلاً يا سادتي المنعمين علي أدخلوا بالرحب والسعة فدخلوا وهو بين أيديهم فرأوا الدار بأربعة أوجهٍ وسقفها بالذهب وحيطانها منقوشةٌ بالأزورد وفيها إيوانٌ به سدبةٌ جميلةٌ وعليها مائة جاريةٍ كأنهن أقمار فصاح عليهن فنزلن عن أسرتهن ثم التفت رب المنزل إلى جعفر وقال: يا سيدي أنا ما أعرف منكم الجليل من الأجل بسم الله ليتفضل منكم من هو أعلى في الصدر ويجلس أخوانه كل واحد في مرتبته فجلس كل واحدٍ في منزلته وقام مسرورٌ في الخدمة بين أيديهم، ثم قال لهم صاحب المنزل عن أذنكم هل أحضر لكم شيئاً من المأكول? قالوا له: نعم. فأمر الجواري بإحضار الطعام فأقبل أربع جوارٍ مشدودات الأوساط بين أيديهن مائدةٌ وعليها من غرائب الألوان مما درج وطار وسبح في البحار من قطاً وسماني وأفراخ وحمام ومكتوب على حواشي السفرة من الأشعار ما يناسب المجلس فأكلوا على قدر كفايتهم ثم غسلوا أيديهم فقال الشاب: يا سادتي أن كان لكم حاجةٌ فأخبرونا بها حتى نتشرف بقضائها قالوا: نعم فأننا ما جئنا منزلك إلا لأجل صوت سمعناه من وراء حائط دارك فاشتهينا أن نسمعه ونعرف صاحبته فأن رأيت أن تنعم علينا بذلك كان من مكارم أخلاقك ثم نعود من حيث جئنا. فقال: مرحبا بكم. ثم التفت إلى جاريةٍ سوداءٍ وقال: أحضري سيدتك فلانةٌ. فذهبت الجارية ثم جاءت ومعها كرسي فوضعته ثم ذهبت ثانيةٍ وأتت جاريةٌ كأنها البدر في تمامه فجلست على الكرسي أمام الجارية السوداء وناولتها خرقة من أطلسٍ فأخرجت منها عوداً مرصعاً بالجواهر واليواقيت وملأوا من الذهب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما أقبلت جلست على كرسي وأحرجت العود من الخريطة وإذا هو مرصع بالجوهر واليواقيت وملاويه من الذهب فشدت أوتاره لرناتٍ المزاهر وهي كما قال فيها وفي عودها الشاعر:
حضنته كالأم الشفيقة بابـنـهـا             في حجرها وجلت عليه ملاويه
ما حركت يدها اليمـين لـجـه               إلا وأصلحت اليسـار مـدويه
ثم ضمت العود إلى صدرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وجست أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه، ثم ضربت عليه وجعلت تنشد هذه الأبيات:
جاد الزمان بمن أحب فاعـتـبـا             يا صاحبي فأدر كؤوسك واشربا
من خمرةٍ ما مازحت قلب امريءٍ                   إلا وأصبح بالمسرة مـطـربـا
قام النسيم يحملها في كـأسـهـا            أرايت بدر الثم يحمل كـوكـبـا
كم ليلةٍ سامرت فيهـا بـدرهـا              من فوق دجلة قد أضاء الغيهبـا
والبدر يجنح للغـروب كـأنـمـا              قد مد فوق الماء سيفاً مذهـبـا

فلما فرغت من شعرها بكت بكاءً شديداً وصاح كل من في الدار من البكاء حتى كادوا أن يهلكوا وما منهم أحدٌ إلا وغاب عن وجوده ومزق أثوابه ولطم على وجهه لحسن غنائها فقال الرشيد: أن غناء هذه الجارية يدل على أنها عاشقةٌ مفارقةٌ فقال سيدها: أنها ثاكلةٌ لأمها وأبيها فقال الرشيد: ما هذا بكاء من فقد أباه وأمه وإنما هو شجو من فقد محبوبه وطرب الرشيد من غنائها وقال لأبي اسحق: والله ما رأيت مثلها فقال أبو اسحق: يا سيدي أني لأعجب منها غاية العجب ولا أملك نفسي من الطرب وكان الرشيد مع ذلك كله ينظر إلى صاحب الدار ويتأمل في محاسنه وظرف شمائله فرأى في وجهه اصفرارا فالتفت إليه وقال: يا فتى فقال: لبيك يا سيدي فقال له: هل تعلم من نحن? قال: لا فقال له جعفر: أتحب أن نخبرك عن كل واحدٍ باسمه? فقال: نعم فقال جعفر: هذا أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسيلين وذكر له بقية أسماء الجماعة وبعد ذلك قال الرشيد: أشتهي أن تخبرني عن هذا الاصفرار الذي في وجهك هل هو مكتسبٌ أو أصلي من حين ولادتك? قال: يا أمير المؤمنين أن حديثي غريب وأمري عجيب لو كتب بالإبر على أماق البصر لكان عبرةً لمن أعتبر.
قال: أعلمني به لعل شفاءك يكون على يدي قال: يا أمير المؤمنين أعرني سمعك، وأخلي لي ذرعك قال: هات فحدثني فقد شوقتني إلى سماعه.
فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني رجلٌ تاجرٌ من تجار البحر، وأصلي من مدينة عمان وكان أبي تاجرا كثير المال وكان له ثلاثون مركباً تعمل في البحر أجرتها في كل عام ثلاثون ألف دينارٍ وكان رجلاً كريماً وعلمني الخط وجميع ما يحتاج إليه الشخص فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بما جرت به العادة ثم توفاه الله تعالى إلى رحمته وأبقى الله أمير المؤمنين وكان لأبي شركاءٌ يتجرون في ماله ويسافرون في البحر فاتفق في بعض الأيام أني كنت قاعداً في منزلي مع جماعةٍ من التجار إذ دخل علي غلامٌ من غلماني وقال: يا سيدي أن بالباب رجلاً يطلب الإذن في الدخول عليك فأذنب له فدخل وهو حامل على رأسه شيئاً مغطى فوضعه بين يدي وكشفه فإذا فيه فواكه بغير أوانٍ وملح وطرائف ليست في بلادنا فشكرته على ذلك وأعطيته مائة دينارٍ وانصرف شاكراً، ثم فرقت ذلك على كل من كان حاضراً من الأصحاب.
ثم سألت التجار: من أين هذا? فقالوا: أنه من البصرة وأثنوا عليه وصاروا يصفون حسن البصرة وأجمعوا على أنه ليس في البلاد أحسن من مدينة بغداد ومن أهلها وصاروا يصفون بغداد وحسن أخلاقها وأهلها وطيب هوائها وحسن تركيبها فاشتاقت نفسي إليها وتعلقت آمالي برؤيتها فقمت وبعت العقار والأملاك وبعت المراكب بمائة ألف دينارٍ وبعت العبيد والجواري وجمعت مالي فصار ألف ألف دينارٍ غير المعادن والجواهر وأكتريت مركباً وشحنتها بأموالي وسائر متاعي وسافرت بها أياماً وليالي حتى جئت إلى البصرة فأقمت بها مدةً ثم استأجرت سفينةً وأنزلت مالي فيها وسرنا منحدرين أياماً قلائل حتى وصلنا إلى بغداد فسألت أين تسكن التجار وأي موضعٍ أطيب للسكان? فقالوا: في حارة الكرح فجئت إليها واستأجرت داراً في درب يسمى درب الزعفران ونقلت جميع مالي إلى تلك الدار وأقمت بها مدةً.
ثم توجهت في بعض الأيام إلى الفرجة ومعي شيءٌ من المال وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فأتيت إلى جامعٍ يسمى جامع المنصور تقام فيه الجمعة وبعد أن خلصنا من الصلاة خرجت مع الناس إلى موضعٍ يسمى قرن الصراط فرأيت في ذلك المكان موضعاً عالياً جميلاً وله روشنٌ مطلٌ على الشاطئ وهناك شباك فذهبت من جملة الناس إلى ذلك المكان فرأيت شيخاً جالساً وعليه ثيابٌ جميلةٌ وتفوح منه رائحةٌ طيبةٌ وقد شرح لحيته فافترقت على صدره فرقتين كأنها قضيبٌ من لجين وحوله أربع جوارٍ وخمسة غلمانٍ فقلت لشخصٍ ما اسم هذا الشيخ وما صنعته? فقال: هذا طاهر ابن العلاء وهو صاحب الفتيان وكل من دخل عنده يأكل ويشرب وينظر إلى الملاح فقلت له: والله أن لي زماناً وأنا أدور على مثل هذا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال: والله أن لي زماناً وأنا أدور على مثل هذا، ثم قال: فتقدمت إليه يا أمير المؤمنين وسلمت عليه، وقلت له: يا سيدي أن لي عندك حاجة، فقال: ما حاجتك? قلت: أشتهي أن أكون ضيفك في هذه الليلة فقال: حباً وكرامةً ثم قال: يا ولدي عندي جوارٌ كثيرةٌ منهن من ليلتها بعشرة دنانيرٍ ومنهن من ليلتها بأكثر فاختر من تريد فقلت: أختار التي ليلتها بعشرة دنانيرٍ، ثم وزنت له ثلثمائة دينارٍ عن شهرٍ فسلمني لغلامٍ فأخذني ذلك الغلام وذهب بي إلى حمام القصر وخدمني خدمةً حسنةً فخرجت من الحمام وأتى بي إلى مقصورةٍ وطرق الباب فخرجت له جاريةٌ فقال له: خذي ضيفك فتلقتني بالرحب والسعة ضاحكةً مستبشرةً وأدخلتني داراً عجيبةً مزركشةً بالذهب فتأملت في تلك الجارية فرأيتها كالبدر ليلة تمامه وفي خدمتها جاريتان كأنهم كوكبان ثم أجلستني وجلست بجانبي ثم أشارت إلى الجواري فأتين بمائدةٍ فيها من أنواع اللحوم من دجاجٍ وسماني وقطاً وحمامٍ فأكلنا حتى اكتفينا وما رأيت في عمري ألذ من ذلك الطعام، فلما أكلنا رفعت تلك المائدة وأحضرت مائدة الشراب والمشموم والحلوى والفواكه وأقمت عندها شهراً على هذا الحال، فلما فرغ الشهر دخلت الحمام وجئت إلى الشيخ وقلت له: يا سيدي أريد التي ليلتها بعشرين ديناراً فقال: أرني الذهب فمضيت وأحضرت الذهب فوزنت له ستمائة دينارٍ عن شهرٍ فنادى غلاماً وقال لله: خذ سيدك فأخذني وأدخلني الحمام فملا خرجت أتى بي إلى باب مقصورةٍ وطرقه فخرجت جارية، فقال لها: خذي ضيفك فتلقتني بأحسن ملتقى وإذا حولها أربع جوارٍ ثم أمرت بإحضار الطعام فحضرت مائدة عليها من سائر الأطعمة فأكلت ولما فرغت من الأكل ورفعت المائدة فأخذت العود وغنت بهذه الأبيات:
أيا نفحات المسك من أرض بابلٍ                    بحق غرامي أن تؤدي رسائلي
عهدت بهاتيك الأراضي منازلاً             لأحبابنا أكرم بها من مـنـازل
وفيها التي ما حبها كل عاشـقٍ            تغني ولم يرتد منهـا بـطـائلٍ

فأقمت عندها شهراً ثم جئت إلى الشيخ وقلت: أريد صاحبة الأربعين ديناراً فقال: أزن لي الذهب فوزنت له عن شهرٍ ألفا ومائتي دينارٍ ومكثت عندها شهراً كأنه يومٌ واحدٌ لما رأيت من حسن المنظر وحسن العشرة.
ثم جئت إلى الشيخ وكنا قد أمسينا فسمعت ضجةً عظيمةً وأصواتاً عاليةً فقلت له: ما الخبر? فقال لي الشيخ: أن هذه الليلة عندنا أشهر الليالي وجميع الخلائق يتفرجون على بعضهم فيها فهل لك أن تصعد على السطح وتتفرج على الناس فقلت: نعم وطلعت على السطح فرأيت ستارةً حسنةً ووراء الستارة محلٌ عظيمٌ وفيه سدلةً وعليها فرشٌ مليحٌ وهناك صبيةٌ تدهش الناظرين حسناً وجمالاً وقداً واعتدالاً وبجانبها غلاماً يده على عنقها وهو يقبلها فلما رأيتهما يا أمير المؤمنين لم أملك نفسي ولم أعرف أين أنا لما بهرني من حسن صورتها فلما نزلت الجارية التي أنا عندها وأخبرتها بصفتها فقالت: ما لك وما لها? فقلت: والله أنها أخذت عقلي فتبسمت وقالت: يا أبا الحسن ألك فيها غرضٌ? فقلت: أي والله فأنها تملكت قلبي ولبي فقالت: هذه ابنة طاهر بن العلاء وهي سيدتنا وكلنا جواريها أتعرف يا أبا الحسن بكم ليلتها ويومها: قلت: لا قالت: بخمسمائة دينارٍ وهي حسرةٌ في قلوب الملوك فقلت: والله لأذهبن مالي كله على هذه الجارية وبت أكابد الغرام وطول ليلي فلما أصبحت دخلت الحمام ولبست أفخر ملبوس من ملابس الملوك وجئت إلى أبيها وقلت: يا سيدي أريد التي ليلتها بخمسمائة دينارٍ فقال: زن الذهب فوزنت له عن كل شهرٍ عشرة آلاف دينارٍ فأخذها ثم قال للغلام: أعمد به إلى سيدتك فلانة فأخذني وأتى بي إلى دارٍ لم تر عيني أظرف منها على وجه الأرض.
فلما دخلت رأيت الصبية جالسةً فلما رأيتها اندهش عقلي بحسنها يا أمير المؤمنين وهي كالبدر في ليلة أربعة عشر ذات حسنٍ وجمالٍ وقدٍ واعتدالٍ وألفاظ تفضح رنات المزاهر كأنها المقصود الشاعر:
قالت وقد لعب الغرام بعطفهـا              في جنح ليلٍ سابـل الأحـلاك
يا هل ترى لي في دجاك مسامرٌ           أو هل لهذا الكس مـن نـياك
ضربت عليه بكفها وتنـهـدت              كتنهد الآسف الحزين البـاكـي
والثغر بالمسواك يظهر حسنه             والأير للاكساس كالمسـواك
يا مسلمون أما تقوم أيوركـم               ما فيكم أحد يغيث الشاكـي
فانفض من تحت الغلائل قائماً              أيري وقال لها أتـاك أتـاك
وحللت عقد أزارها فتفزعت                من أنت قلت فتىً أجاب نداك
وغدوت أرهزها بمثل ذراعها             رهز اللطيف يضر بالأوراك
حتى إذا ما قمت بعـد ثـلاثةٍ                قالت هناك النيك قلت هناك

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما حدث أمير المؤمنين بصفات الجارية وأنشد في حسنها الأبيات المتقدمة ثم أنشد هذه الأبيات:
ولو أنها للمشركين تـعـرضـت             لبلوائها من دون أصنامهـم ربـا
ولو تفلت في البـحـر مـالـح                لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
ولو أنها في الشرق لاحت لراهبٍ                   لخلي سبيل الشرق وأتبع الغربـا
وما أحسن قول الآخر:
نظرت إليها نظرةً فتغـيرت                 دقائق فكري في بديع صفاتها
فأوحى إليهم الوهم أني أحبها               فأثر ذاك الوهم في جناتهـا
فسلمت عليها فقالت: أهلاً وسهلاً ومرحباً وأخذت بيدي يا أمير المؤمنين وأجلستني إلى جانبها فمن فرط الإشتياق بكيت حماقة الفراق وأسبلت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:
أحب ليالي الهجر لا فرحاً بهـا             عسى الدهر يأتي بعدها بوصال
وأكره أيام الوصـال لأنـنـي                 أرى كل شيءٍ معقبـاً بـزوال
ثم أنها صارت تؤانسني بلطف وأنا غريقٌ في بحر الغرام خائف في القرب ألم الفراق من فرط الوجد والإشتياق وتذكرت لوعة النوى والبين فأنشدت هذين البيتين:
فكرت ساعة وصلها في هجرها           فجرت مدامع مقلتي كالعنـدم
فطفقت أمسح مقلتي في جيدها            من عادة الكافور إمساك الـدم

ثم أمرت بإحضار الأطعمة فأقبلت أربع جوار نهد أبكار فوضعن بين أيدينا من الأطعمة والفاكهة والحلوى والمشموم والمدام ما يصلح للملوك فأكلنا يا أمير المؤمنين وجلسنا على المدام وحولنا الرياحين في مجلسٍ لا يصلح إلا للملك ثم جاءتها يا أمير المؤمنين جاريةٌ بخريطةٍ من الابرسيم فأخذتها وأخرجت منها عوداً فوضعته في حجرها وجست أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه وأنشدت هذين البيتين:
لا تشرب الراح إلا من يدي رشأ                    تحيكه في رقة المعنى ويحيكها
أن المدامة لا يلتـذ شـاربـهـا               حتى يكون نقي الخد ساقيهـا.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال: لما أنشدت هذين البيتين فأقمت يا أمير المؤمنين عندها على هذه الحالة مدةً من الزمان حتى نفذ جميع مالي فتذكرت وأنا جالسٌ معها مفارقتها فنزلت دموعي على خدي كالأنهار وصرت لا أعرف الليل من النهار فقالت: لأي شيءٍ تبكي? فقلت لها: يا سيدتي من حين جئت إليك وأبوك يأخذ مني في كل ليلةٍ خمسمائة دينارٍ وما بقي عندي شيءٌ من المال وقد صدق قول الشاعر حيث قال:
الفقر في أوطاننا غـربةٌ           والمال في الغربة أوطان

فقالت: أعلم أن أبي من عادته أنه إذا كان عنده تاجرٌ وافتقر فأنه يضيفه ثلاثة أيامٍ ثم بعد ذلك يخرجه فلا يعود إلينا أبداً ولكن أكتم سرك وأخف أمرك وأنا أعمل حيلةً في اجتماعي بك إلى ما شاء الله فأن لك في قلبي محبةً عظيمةً وأعلم أن جميع مال أبي تحت يدي وهو لا يعرف قدره فأنا أعطيك في كل يوم كيساً فيه خمسمائة دينارٍ وأنت تعطيه لأبي وتقول له: ما بقيت أعطي الدراهم إلا يوماً بيومٍ وكل ما دفعته إليه فأنه يدفعه إلى وأنا أعطيه لك وتستمر هكذا إلى أن شاء الله فشكرتها على ذلك وقبلت يدها.
ثم أقمت عندها يا أمير المؤمنين على هذه الحالة مدة سنةٍ كاملةٍ فاتفق في بعض الأيام أنها ضربت جاريتها ضرباً وجيعاً فقالت لها: والله لأوجعن قلبك كما أوجعتيني ثم مضت تلك الجارية إلى أبيها وأعلمته بأمرنا من أوله إلى أخره فلما سمع طاهر بن العلاء كلام الجارية قام من وقته وساعته ودخل علي وأنا جالسٌ مع ابنته وقال لي: فلان قلت له: لبيك قال: عادتنا انه إذا كان عندنا تاجر وافتقر أننا نضيفه عندنا ثلاثة أيامٍ وأنت لك عندنا سنةً تأكل وتشرب وتفعل ما تشاء.
ثم التفت إلى غلمانه وقال: اخلعوا ثيابه ففعلوا وأعطوني ثياباً رديئةً قيمتها خمسة دراهمٍ ودفعوا إلي عشرة دراهمٍ ثم قال له: أخرج فأنا لا أضربك ولا أشتمك واذهب إلى حال سبيلك وأن أقمت في هذه البلدة كان دمك هدارٌ فخرجت يا أمير المؤمنين رغم أنفي ولا أعلم أين أذهب وحل قلبي كل همٍ في الدنيا وشغلني الوسواس وقلت في نفسي كيف أجيء في البحر بألف ألف من جملتها ثمن ثلاثين مركباً ويذهب هذا كله في دار هذا الشيخ النحس وبعد ذلك أخرج من عنده عريانا مكسور القلب? فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم أقمت في بغداد ثلاثة أيامٍ لم أذق طعاماً ولا شراباً وفي اليوم الرابع رأيت سفينةً متوجهةً إلى البصرة فنزلت واستكريت مع صاحبها إلى أن وصلت إلى البصرة فدخلت السوق وأنا في شدة الجوع فرآني رجل بقال فقام إلي وعانقني لأنه كان صاحباً لي ولأبي من قبلي وسألني عن حالي فأخبرته بجميع ما جرى لي فقال لي: والله ما فعال عاقلٍ ومع هذا الذي جرى لك فأي شيءٌ في ضميرك تريد أن تفعله? فقلت له: لا أدري ماذا أفعل فقال: أتجلس عندي وتكتب خرجي ودخلي ولك في كل يومٍ درهم زيادةً على أكلك وشربك? فأجبته وأقمت عنده يا أمير المؤمنين سنةً كاملةً أبيع واشتري إلى أن صار معي مائة دينارٍ فاستأجرت غرفةً على شاطئ البحر لعل مركباً تأتي ببضاعةٍ فاشتري بالدنانير بضاعةً وأتوجه إلى بغداد فاتفق في بعض الأيام أن المراكب جاءت وتوجهت إليها جميع التجار يشترون فرحت معهم وإذا برجلين قد خرجا من بطن المركب ونصبا لهما كرسيين وجلسا عليهما ثم أقبل التجار عليها لأجل الشراء فقال لبعض الغلمان: أحضروا البساط فأحضروه وجاء واحدٌ بخرجٍ منه جراباً وفتحه وكبه على البساط وإذا به يخطف البصر لما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان والعقيق من سائر الألوان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما أخبر الخليفة بقضية التجار وبالجراب وما فيه من سائر أنواع الجواهر قال: يا أمير المؤمنين ثم أن واحداً من الرجلين الجالسين على الكراسي التفت إلى التجار وقال لهم: يا معشر التجار أنا ما أبيع في يومي هذا لأني تعبان فتزايدت التجار في الثمن حتى بلغ مقداره أربعمائة دينارٍ فقال لي صاحب الجراب وكان بيني وبينه معرفةً قديمةً لماذا لم تتكلم ولم تزود مثل التجار? فقلت له: والله يا سيدي ما بقي عندي شيءٌ من الدنيا سوى مائة دينارٍ واستحيت منه ودمعت عيناي فنظر إلي وقد عسر عليه حالي، ثم قال للتجار: أشهدوا على أني بعت جميع ما في الجراب من أنواع الجواهر والمعادن لهذا الرجل بمائة دينار وأنا أعرف أنه يساوي كذا وكذا ألف دينارٍ وهو هديةٌ مني إليه فأعطاني الخرج والجراب والبساط وجميع ما عليه من الجواهر فشكرته على ذلك وجميع من حضر من التجار أثنوا عليه ثم أخذت ذلك ومضيت به إلى سوق الجواهر وقعدت أبيع واشتري وكان من جملة هذه المعادن قرص تعويذ صنعه المعلمين وزنته نصف رطلٍ وكان أحمر شديد الحمرة وعليه أسطر مثل دبيب النمل من الجانبين ولم أعرف منفعته فبعت واشتريت مدة سنةٍ كاملةٍ ثم أخذت قرص التعويذ وقلت: هذا له عندي مدة لا أعرفه ولا أعرف منفعته فدفعته إلى الدلال فأخذه ودرا به ثم عاد وقال: ما دفع واحدٌ من التجار سوى عشرة دراهمٍ فقلت له: ما أبيعه بهذا القدر فرماه في وجهي وانصرف.
فعرضته للبيع يوماً أخر فلبغ ثمنه خمسة عشر درهماً فأخذته من الدلال مغضباً ورميته عندي فبينما أنا جالس يوماً إذ أقبل علي رجل فسلم علي وقال لي: عن أذنك هل أقلب ما عندك من البضائع? قلت: نعم وأنا يا أمير المؤمنين مغتاظٌ من كساد قرص التعويذ فقلب الرجل البضاعة ولم يأخذ منها سوى قرص التعويذ فلما رآه يا أمير المؤمنين قبل يده وقال: الحمد لله ثم قال: يا سيدي أتبيع هذا? فازداد غيظي وقلت له: نعم فقال لي: كم ثمنه? فقلت له: كم تدفع فيه أنت? قال عشرين ديناراً، فتوهمت أنه يستهزيء بي فقلت: اذهب إلى حال سبيلك فقال لي هو: أبخمسين ديناراً فلم أخاطبه فقال: ألف دينارٍ هذا كله يا أمير المؤمنين وأنا ساكتٌ ولم أجبه وهو يضحك من سكوتي ويقول: لأي شيءٍ لم ترد علي? فقلت له: اذهب إلى حال سبيلك وأردت أن أخاصمه وهو يزيد ألفاً بعد ألفٍ ولم أرد عليه حتى قال: أتبيعه بعشرين ألف دينارٍ? وأنا أظن أنه يستهزيء بي فاجتمع علينا الناس كلٌ منهم يقول بعد وأن لم يشتر فنحن الكل عليه ونضربه ونخرجه من البلد فقلت له: هل أنت تشتري أو تستهزيء? قلت له: أبيع قال: هو بثلاثين ألف دينارٍ وخذها وأمضي البيع وأنا أخبرك بفائدته ونفعه فقلت: بعتك فقال: الله على ما تقول وكيل.
ثم أخرج الذهب وأقبضني إياه وأخذ قرص التعويذ ووضعه في جيبه ثم قال لي: هل رضيت? قلت: نعم فقال أشهدوا عليه أنه أمضى البيع وقبض الثمن ثلاثين ألف دينارٍ ثم إنه التفت إلى وقال: يا مسكين والله لو أخرت البيع لزدناك إلى مائة ألف دينارٍ بل إلى مائة ألف ألف دينارٍ، فلما سمعت يا أمير المؤمنين هذا الكلام نفر الدم من وجهي وعلا عليه هذا الاصفرار الذي أنت تنظره من ذلك اليوم ثم قلت له: أخبرني ما سبب ذلك وما نفع هذا القرص? فقال: اعلم أن ملك الهند له بنت لم ير أحسن منها وبها داء الصداع فأحضر الملك أرباب الأقلام وأهل العلوم والكهان فلم يرفعوا عنها ذلك فقلت له وكنت حاضراً بالمجلس: أيها الملك أنا أعرف رجلاً يسمى سعد الله البابلي ما على وجه الأرض أعرف منه بهذه الأمور فإن رأيت أن ترسلني إليه فأفعل فقال: اذهب إليه فقلت له: أحضر إلي قطعةً كبيرةً من العقيق ومعها ألف دينارٍ وهديةٍ فأخذت ذلك وتوجهت إلى بلاد بابلٍ فسألت عن الشيخ فدلوني عليه ودفعت له المائة ألف دينارٍ والهدية فأخذ ذلك مني ثم أخذ قطعة العقيق وأحضر حكاكاً فعملها هذا التعويذ ومكث الشيخ سبعة أشهرٍ يرصد النجم حتى اختار وقتاً لكتابته وكتب عليه هذه الطلاسم التي تنظرها ثم جئت به إلى الملك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لأمير المؤمنين: إن الرجل قال لي: أخذت هذا التعويذ وجلت به إلى الملك فلما وضعه على ابنته برنت من ساعتها وكانت مربوطةً في أربع سلاسلٍ وكل ليلةٍ تبيت عندها جاريةٌ فتصبح مذبوحةً فمن حين وضع عليها هذا التعويذ برنت لوقتها ففرح الملك فرحاً شديداً وخلع علي وتصدق بمالٍ كثيرٍ ثم وضعه في عقدها فاتفق أنها نزلت يوماً في مركب هي وجواريها تتنزه في البحر فمدت جاريةٌ يدها إليها لتلاعبها فانقطع العقد وسقط في البحر فعاد من ذلك الوقت العارض لابنة الملك فحصل ما حصل للملك من الحزن فأعطاني مالاً كثيراً وقال لي: اذهب إلى الشيخ ليعمل لها تعويذةً عوضاً عنها فسافرت إليه فوجدته قد مات فرجعت إلى الملك وأخبرته فبعثني أنا وعشرة أنفسٍ نطوف في البلاد لعلنا نجد لها دواء فأوقعني الله به عندك فأخذه مني يا أمير المؤمنين وانصرف فكان ذلك الأمر سبباً للاصفرار الذي في وجهي ثم أني توجهت إلى بغداد ومعي جميع مالي وسكنت في الدار التي كنت فيها فلما أصبح الصباح لبست ثيابي وجئت إلى بيت طاهر بن العلاء لعلي أرى من أحبها فإن حبها لم يزل يتزايد في قلبي فلما وصلت إلى داره رأيت الشباك قد انهدم فسألت غلاماً وقلت له: ما فعل الله بالشيخ? فقال: يا أخي أنه قدم عليه في سنة من السنين رجلٌ تاجرٌ يقال له أبو الحسن العماني فأقام مع ابنته مدةً من الزمان ثم بعد أن ذهب ماله أخرجه الشيخ من عنده مكسور الخاطر وكانت الصبية تحبه حباً شديداً فلما فارقها مرضت مرضاً شديداً حتى بلغت الموت وعرف أباها بذلك فأرسل خلفه في البلاد وقد ضمن لمن يأتي به مائة ألف دينارٍ فلم يره أحد ولم يقع له على أثرٍ وهي الآن مشرفة على الموت قلت: وكيف حال أبيها? قال: باع الجواري من عظم ما أصابه فقلت له: هل أدلك على أبي الحسن العماني? فقال: وبالله عليك يا أخي أن تدلني عليه فقلت له: اذهب إلى أبيها وقل له: لي البشارة عندك فإن أبا الحسن العماني واقفٌ على الباب.
فذهب الرجل يهرول كأنه بغلٌ انطلق من طاحونٍ ثم غاب ساعةٍ وجاء وصحبته الشيخ فلما رأني رجع إلى داره وأعطى الرجل مائة ألف دينارٍ فأخذها وانصرف وهو يدعو لي ثم أقبل الشيخ وعانقني وبكى وقال: يا سيدي أين كنت في هذه الغيبة هلكت ابنتي من أجل فراقك فأدخل معي إلى المنزل فلما دخلت سجد شكراً لله تعالى وقال الحمد لله الذي جمعنا بك ثم دخل لابنته وقال لها شفاك الله من هذا المرض فقالت يا أبت ما أبرا من مرضي إلا إذا نظرت وجه أبي الحسن فقال إذا أكلت أكله ودخلت الحمام جمعت بينكما فلما سمعت كلامه قالت أصحيحٌ ما تقول قال لها والله العظيم أن الذي قلته صحيحٌ فقالت والله إن نظرت وجهاً ما أحتاج إلى أكلٍ فقال لغلامه: أحضر سيدك فدخلت فلما نظرت إلى أمير المؤمنين وقعت مغشياً عليها فلما أفاقت أنشدت هذا البيت:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما              يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

ثم استوت جالسةً وقالت: يا سيدي ما كنت أظن أني أرى وجهك إلا أن كان مناماً، ثم أنها عانقتني وبكت وقالت يا أبا الحسن الآن آكل وأشرب فأحضروا الطعام والشراب، ثم صرت عندهم يا أمير المؤمنين مدةً من الزمان وعادت كما كانت عليه من الجمال، ثم أن أباها استدعى بالقاضي والشهود وكتب كتابها علي وعمل وليمةً عظيمةً وهي زوجتي إلى الآن.
ثم أن ذلك الفتى قام من عند الخليفة ورجع إليه بغلامٍ بديع الجمال بقدٍ ذي رشاقةٍ واعتدالٍ وقال له قبل الأرض بين يدي أمير المؤمنين فقبل الأرض بين يدي الخليفة فتعجب الخليفة من حسنه وسبح خالقه، ثم أن الرشيد انصرف هو وجماعته وقال يا جعفر مما هذا إلا شيءٌ عجيبٌ ما رأيت ولا سمعت بأغرب منه. فلما جلس الرشيد في دار الخلافة قال: يا مسرور قال: لبيك يا سيدي قال أجمع في هذا الإيوان خراج البصرة وخراج بغداد وخراج خراسان فجمعه فصار مالاً عظيماً لا يحصى عدده إلا الله تعالى.
ثم قال الخليفة: يا جعفر قال لبيك قال أحضر لي أبا الحسن قال سمعاً وطاعةً ثم أحضره فلما حضر قبل الأرض بين يدي الخليفة وهو خائفٌ أن يكون طلبه بسبب خطأ وقع منه وهو عنده بمنزله فقال الرشيد: يا عماني قال له لبيك يا أمير المؤمنين خلد الله نعمه عليك، فقال له اكشف هذه الستارة، وكان الخليفة أمرهم أن يضعوا مال الأقاليم ويسلبوا عليه الستارة، فلما كشف العماني الستارة عن الإيوان اندهش عقله من كثرة المال فقال الخليفة يا أبا الحسن أهذا المال أكثر أم الذي فاتك من قرص التعويذ فقال له بل هذا يا أمير المؤمنين أكثر بأضعافٍ كثيرة.
قال الرشيد: أشهدوا يا من حضر أني وهبت هذا المال لهذا الشاب، فقبل الأرض واستحى وبكى من شدة الفرح بين يدي الرشيد، فلما بكى جرى الدمع من عينيه على خده فرجع الدم إلى محله فصار وجهه كالبدر ليلة تمامه، فقال الخليفة لا آله إلا الله سبحان من يغير حالاً بعد حال وهو باقٍ لا يتغير، ثم أتى بمرآة وأراه وجهه فيها فلما رآه سجد شكراً لله تعالى، ثم أمر الخليفة يحمل إليه المال وسأله أنه لا ينقطع عنه لأجل المنادمة فصار يتردد إليه إلى أن توفى الخليفة إلى رحمة الله تعالى، فسبحان الحي الذي لا يموت ذي الملك والملكوت.

حكاية إبراهيم بن الخصيب مع جميلة بنت أبي الليث عامل البصرة

ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن الخصيب صاحب مصر كان له ولدٌ ولم يكن في زمانه أحسن منه وكان من خوفه عليه لا يمكنه من الخروج إلا لصلاة الجمعة، فمر وهو خارجٌ من صلاة الجمعة على رجلٌ كبيرٌ وعنده كتب كثيرة فنزل عن فرسه وقعد عنده وقلب الكتب وتأملها فرأى فيها صورة امرأةٍ تكاد أن تنطق ولم ير أحسن منها على وجه الأرض فسلبت عقله وأذهلت لبه.
فقال له: يا شيخ بغني هذه الصورة، فقبل الأرض بين يديه ثم قال له يا سيدي بغير ثمن فدفع له مائة دينارٍ وأخذ الكتاب الذي به الصورة وصار ينظر إليها ويبكي ليله ونهاره وامتنع عن الأكل والشراب والمنام، فقال في نفسه، لو سألت الكتبي عن صانع هذه الصورة من هو ربما أخبرني فإن كانت صاحبتها في الحياة توصلت إليها وإن كانت صورة مطلقةٍ تركت التولع بها ولا أعذب نفسي بشيءٍ لا حقيقة له.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال في نفسه لو سألت الكتبي عن هذه الصورة ربما أخبرني فإن كانت صورة مطلقة تركت التولع بها لا أعذب نفسي بشيءٍ لا حقيقة له. فلما كان يوم الجمعة مر على الكتبي فنهض إليه قائماً فقال له يا عم أخبرني من صنع هذه الصورة قال: يا سيدي صنعها رجل من أهل بغداد يقال له أبو القاسم الصندلاني في حارةٍ تسمى حارة الكرح ولا أعلم من هي.
فقام الغلام من عنده ولم يعلم أحداً من أهل مملكته، ثم صلى الجمعة وعاد إلى البيت فتناول جراباً وملأه من الجواهر والذهب وقيمة الجواهر ثمانون ألف دينارٍ، ثم صبر إلى الصباح وخرج ولم يعلم به أحدٌ ولحق قافلةً فرأى بدوياً فقال له يا عم كم بيني وبين بغداد فقال له يا ولدي أين أنت وأين بغداد إن بينك وبينها مسيرة شهرين فقال له يا عم إن أوصلتني إلى بغداد أعطيك مائة دينارٍ وهذه الفرس التي تحتي وقيمتها ألف دينارٍ.
فقال له البدوي الله على ما تقول وكيل ولكن لا ننزل في هذه الليلة إلا عندي، فأجابه إلى قوله وبات عنده، فلما لاح الفجر رافقه البدوي وسار به سريعاً في طريقٍ قريبٍ طمعاً في تلك الفرس التي وعده بها، وما زالا سائرين حتى وصلا إلى حيطان بغداد فقال له البدوي الحمد لله على السلامة يا سيدي هذه بغداد، ففرح الغلام فرحاً شديداً ونزل عن الفرس وأعطاها للبدوي هي والمائة دينار.
ثم تناول الجراب ومضى يسائل عن حارة الكرح وعن محل التجار فساقه القدر إلى دربٍ فيه خمسه عشر ججر تقاتل وفي صدر الدار بابٌ بمصراعين له حلقة من فضة وفي الباب مصطبتان من الرخام مفروشتان بأحسن الفرش وفي أحدهما رجلٌ جالسٌ وهو مهابٌ حسن الصورة وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وبين يديه خمس مماليك كأنهم أقمارٌ، فلما رأى الغلام ذلك عرف العلامة التي ذكرها له الكتبي فسلم على الرجل فرد عليه السلام ورحب به وأجلسه وسأله عن حاله فقال له الغلام: أنا رجلٌ غريبٌ وأريد من إحسانك أن تنظر لي في هذا الدرب داراً لأسكن فيها.
فصاح الرجل وقال: يا غزالة، فخرجت إليه جارية وقالت لبيك يا سيدي فقال: خذي معك بعض خدم واذهبوا إلى حجرة ونظفوها وافرشوها وحطوا فيها جميع ما يحتاج من آنية وغيرها لأجل هذا الشاب الحسن الصورة، فخرجت الجارية وفعلت ما أمرها به، ثم أخذه الشيخ وأراه الدار فقال له الغلام يا سيدي كم أجرة هذا الدار? فقال له يا جميل أنا ما آخذ منك أجرةً ما دمت هنا، فشكره على ذلك.
ثم أن الشيخ نادى جاريةً ثانيةً فخرجت إليه جاريةٌ كأنها الشمس فقال لها هات الشطرنج فأتت له، ففرش المملوك الرقعة وقال الشيخ للغلام: أتلعب معي قال نعم فلعب معه مراتٍ والغلام يغلبه، فقال أحسنت يا غلام لقد كملت صفاتك والله ما في بغداد من يغلبني وقد غلبتني أنت، ثم بعد أن هيأوا الدار بالفراش وسائر ما يحتاج إليه وسلمه المفاتيح وقال يا سيدي إلا تدخل منزلي وتأكل عيشي فنتشرف بك فأجابه الغلام إلى ذلك ومشى معه فلما وصلا إلى الدار حسنةً جميلةً مزركشةً بالذهب وفيها من جميع التصاوير ومن أنواع الفرش والأمتعة ما يعجز عن شرحه اللسان، ثم صار يحييه وأمر بإحضار الطعام فأتوا بمائدة من شغل صنعاء اليمن فوضعت وأتوا بالطعام ألواناً غريبةً لا يوجد أفخر منها ولا ألذ.
فأكل الغلام حتى اكتفى ثم غسل يديه، وصار الغلام ينظر إلى الدار والفرش، ثم التفت إلى الجراب الذي كان معه فلم يره فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أكلت لقمةً تساوي درهماً أو درهمين فذهب مني جراب فيه ثلاثون ألف دينارٍ ولكنه استعان بالله ثم سكت ولم يقدر أن يتكلم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما رأى الجراب مفقودٌ حصل له غمٌ كبيرٌ فسكت ولم يقدر أن يتكلم، فقدم الشيخ الشطرنج وقال للغلام: هل تلعب معي? فقال: نعم فغلبه الشيخ فقال الغلام: أحسنت: ثم ترك اللعب وقام فقال له: ما لك يا غلام? فقال: أريد الجراب، فقام وأتى به وقال: ها هو يا سيدي هل ترجع إلى اللعب معي? قال: نعم فلعب معه فغلبه الغلام، فقال الرجل: لما اشتغل فكرك بالجراب غلبتك فلما جئت به إليك غلبتني.
ثم قال له: يا ولدي أخبرني من أي البلاد أنت? فقال: من مصر، فقال له: وما سبب مجيئك إلى بغداد? فأخرج له الصورة وقال: يا عم إني ابن الخصيب صاحب مصر وقد رأيت هذه الصورة عند رجل كتبي فسلبت عقلي فسألت عن صانعها فقيل لي: إن صانعها رجل من بغداد بحارة الكرح يقال له أبو القاسم الصندلاني بدرب الزعفران فأخذت معي شيئاً من المال وجئت وحدي ولم يعلم بحالي أحدٌ وأريد من تمام إحسانك أن تدلني عليه حتى أسأله عن سبب تصويره لهذه والصورة من هي ومهما أراده مني فإني أعطيه إياه فقال: والله يا ابني إني أنا أبو القاسم الصندلاني وهذا أمرٌ عجيب كيف ساقتك المقادير إلي.
فلما سمع الغلام كلامه قام إليه وعانقه وقبل رأسه ويديه وقال له: بالله عليك أن تخبرني صورة من هي، فقال سمعاً وطاعةً، ثم قام وفتح خزانةً وأخرج منها عدة كتبٍ كان صور فيها هذه الصورة وقال له: اعلم يا ولدي أن صاحبة هذه الصورة ابنة عمي وهي في البصرة وأبوها حاكم البصرة يقال له: أبو الليث وهي يقال لها جميلة وما على وجه الأرض أجمل منها ولكنها زاهدةٌ في الرجال ولا تقدر أن تسمع ذكر رجلٍ في مجلسها وقد ذهبت إلى عمي بقصد أنه يزوجني بها وبذلت له الأموال فلم يجيبني إلى ذلك فلما علمت ابنته بذلك اغتاظت وأرسلت إلي كلاماً من جملته أنها قالت: إن كان لك عقلٌ فلا تقم بهذه البلدة وإلا تهلك ويكون ذنبك في عنقك وهي جبارةٌ من الجبابرة فخرجت من البصرة وأنا منكسر الخاطر وعملت هذه الصورة في الكتب وفرقتها في البلاد لعلها تقع في يد غلامٍ حسن الصورة مثلك فيتحيل في الوصول إليها لعلها تعشقه وأكون قد أخذت عليه العهد أنه إذا تمكن منها يريني إياها ولو نظرةً من بعيد، فلما سمع إبراهيم ابن الخصيب كلامه أطرق برأسه ساعةً وهو يتفكر فقال له الصندلاني: يا ولدي إني ما رأيت ببغداد أحسن منك وأظن أنها إذا نظرتك تحبك فهل يمكنك إذا اجتمعت بها أن تريني إياها ولو نظرةً من بعيد? فقال: نعم فقال: إذا كان الأمر كذلك فأقم عندي إلى أن تسافر فقال: لا أقدر على المقام فإن في قلبي من عشقها ناراً زائدةً، فقال له: اصبر حتى أجهز لك مركبا في ثلاثة أيام لنذهب فيها إلى البصرة فصبر حتى جهز له مركباً ووضع فيها كل ما يحتاج إليه من المأكولٍ ومشروبٍ وغير ذلك وبعد ثلاثة أيامٍ قال للغلام تجهز للسفر فقد جهزت لك مركباً فيها سائر ما تحتاج إليه والمركب ملكي والملاحون من أتباعي وفي المركب ما يكفيك إلى أن تعود وقد أوصيت الملاحين أن يخدموك إلى أن ترجع بالسلامة.
فنهض الغلام ونزل في المركب وودعه وسار حتى وصل إلى البصرة فأخرج الغلام مائة دينارٍ للملاحين فقالوا له: نحن أخذنا الأجرة من سيدنا، فقال لهم: خذوها إنعاماً وأنا لا أخبره بذلك فأخذوها منه ودعوا له، ثم دخل الغلام البصرة وسأل: أين مسكن التجار? فقالوا له: في خان يسمى خان حمدان فمشى حتى وصل إلى السوق الذي فيه الخان فامتدت إليه الأعين بالنظر من فرط حسنه وجماله ثم دخل الخان مع رجلٌ ملاحٍ وسأل عن البواب فدلوه عليه فرآه شيخاً كبيراً مهاباً فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: يا عم هل عندك حجرةً ظريفةً? قال: نعم.
ثم أخذه هو والملاح وفتح لهما حجرةً ظريفةً مزركشةً بالذهب، وقال يا غلامٍ أن هذه الحجرة تصلح لك فأخرج الغلام دينارين وقال له: خذ هذين حلوان المفتاح فأخذهما ودعا له وأمر الغلام الملاح بالذهاب إلى المركب ثم دخل الحجرة فاستمر عند بواب الخان وخدمه وقال له: يا سيدي حصل لنا بك السر فأعطاه الغلام ديناراً وقال له: هات لنا به خبزاً ولحماً وحلوى وشراباً فأخذه وذهب به إلى السوق ورجع إليه وقد اشترى ذلك بعشرة دراهم وأعطاه الباقي فقال الغلام: اصرفه على نفسك ففرح البواب بذلك فرحاً عظيماً ثم أن الغلام أكل مما طلبه قرصاً واحداً بقليل من الآدم وقال لبواب الخان: خذ هذا إلى أهل منزلك فأخذه وذهب به إلى أهل منزله وقال لهم: ما أظن أن أحداً على وجه الأرض أكرم من الغلام الذي سكن عندنا في هذا اليوم ولا أحلى منه فإن دام عندنا حصل لنا الغنى.
ثم أن بواب الخان دخل على إبراهيم فرآه يبكي فقعد وصار يكبس رجليه ثم قبلهما وقال: يا سيدي لأي شيءٍ تبكي لا أبكاك الله? فقال: يا عم أريد أن أشرب أنا وأنت في هذه الليلة فقال سمعاً وطاعةً فأخرج له خمسة دنانيرٍ وقال له: اشتر لنا بها فاكهةً وشراباً ثم دفع له خمسة دنانيرٍ أخرى وقال له: اشتر لنا بهذه نقلاً ومشموماً وخمس فراخٍ سمان وأحضر لي عوداً فخرج واشترى له ما أمره به وقال لزوجته: ضعي هذا الطعام وصفي لنا هذا الشراب وليكن ما تصنعينه جيداً فإن هذا الغلام قد عمنا بإحسانه فصنعت زوجته ما أمرها به على غاية المراد. ثم أخذه ودخل على إبراهيم ابن السلطان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بواب الخان لما صنعت زوجته الطعام والشراب أخذه ودخل به على ابن السلطان فأكلا وشربا وطربا فبكى الغلام وأنشد هذين البيتين:
يا صاحبي لو بذلت الروح مجتهداً                  وجملة المال والدنيا وما فـيهـا
وجنة الخلد والفردوس أجمعهـا                    بساعة الوصل كان القلب شاريها
ثم شهق شهقةً عظيمةً وخر مغشياً عليه فتنهد بواب الخان فلما رآه أفاق قال له بواب الخان: يا سيدي ما يبكيك ومن هي التي تريدها بهذا الشعر فإنها لا تكون إلا تراباً لأقدامك? فقام الغلام وأخرج بقجةً من أحسن ملابس النساء وقال له: خذ هذه إلى حريمك فأخذها منه ودفعها إلى زوجته فأتت معه ودخلت على الغلام فإذا هو يبكي، فقالت له: فتت أكبادنا فعرفنا بأي مليحةٍ تريدها وهي لا تكون إلا جاريةً عندك. فقال: يا عم اعلم أني أنا ابن الخصيب صاحب مصر وإني متعلق بجميلة بنت أبي الليث العميد فقالت زوجة بواب الخان: الله الله يا أخي اترك هذا الكلام لئلا يسمع بنا أحد فنهلك فإنه ما على وجه الأرض أجبر منها ولا يقدر أحدٌ أن يذكر لها اسم رجلٍ لأنها زاهدةٌ في الرجال يا ولدي اعدل عنها لغيرها، فلما سمع كلامها بكى بكاءً شديداً فقال له بواب الخان: ما لي سوى روحي فأنا أخاطر بها في هواك وأدبر لك أمراً فيه بلوغ مرادك.
ثم خرجا من عنده فلما أصبح الصباح دخل الحمام ولبس حلةً من ملبوس الملوك وإذا ببواب الخان هو وزوجته قدما عليه وقالا له: يا سيدي اعلم أن هنا رجلاً خياطاً أحدب وهو خياط السيدة جميلة فاذهب إليه وأخبره بحالك فعساه بذلك على ما فيه وصولك إلى أغراضك فقام الغلام وقصد دكان الخياط الأحدب فدخل عليه فوجد عنده عشرة مماليكٍ، كأنهم الأقمار فسلم عليهم فردوا عليه السلام وفرحوا به وأجلسوه وتحيروا في محاسنه وجماله فلما رآه الأحدب اندهش عقله من حسن صورته فقال له الغلام: أريد أن تخبط لي جيبي فتقدم الخياط وأخذ فتلة من الحرير وخاطه وكان الغلام قد فتقه عمداً فلما خاطه أخرج له خمسة دنانيرٍ أعطاها له وانصرف إلى حجرته فقال الخياط: أي شيءٍ عملته لهذا الغلام حتى أعطاني الخمسة دنانير? ثم بات ليلته يفكر في حسنه وكرمه فلما أصبح الصباح ذهب إلى دكان الخياط الأحدب ثم دخل وسلم عليه فرد عليه السلام وأكرمه ورحب به فلما جلس قال للأحدب: يا عم خيط لي جيبي فإنه فتق ثانياً فقال له: يا ولدي على الرأس والعين ثم تقدم وخاطه فدفع له عشرة دنانير فأخذها وصار مبهوتاً من حسنه وكرمه، ثم قال له: والله يا غلام إن فعلك لا بد له من سببٍ وما هذا خبر خياطة جيب ولكن أخبرني عن حقيقة أمرك فإن كنت عشقت واحداً من هؤلاء الأولاد فو الله ما فيهم أحسن منك وكلهم تراب أقدامك وها هم عبيدك وبين يديك وإن كان غير هذا فأخبرني? فقال: يا عم ما هذا محل الكلام، فإن حديثي عجيبٌ وأمري غريبٌ قال: فإذا كان الأمر كذلك فقم بنا في خلودٍ، ثم نهض الخياط وأخذه بيده ودخل معه حجرةً في داخل الدكان وقال له: يا غلام حدثني ماذا تريد، فحدثه بأمره من أوله إلى آخره فبهت من كلامه وقال: يا غلام اتق الله في نفسك فإن التي ذكرتها جبارةٌ زاهدةٌ في الرجال فاحفظ يا أخي لسانك وإلا فأنك تهلك نفسك.
فلما سمع الغلام كلامه بكى بكاءً شديداً ولزم ذيل الخياط وقال: أجرني يا عم فإني هالكٌ وقد تركت ملكي وملك أبي وجدي وصرت في البلاد غريباً وحيداً ولا صبر لي عنها، فلما رأى الخياط ما حل به رحمه وقال: يا ولدي ما عندي إلا نفسي فأنا أخاطر بها في هواك فإنك قد جرجرت قلبي ولكن في الغد أدبر لك أمراً ليطيب به قلبك فدعا له وانصرف إلى الخان فحدث بواب الخان بما قاله الأحدب فقال له: قد فعل معك جميلاً، فلما أصبح الصباح لبس الغلام أفخر ثيابه وأخذ كيساً فيه دنانير وأتى إلى الأحدب فسلم وجلس ثم قال له: يا عم انجز وعدي فقال له: قم في هذه الساعة وخذ ثلاث فراخٍ سمان وثلاث أوراقٍ من السكر النبات وكوزين لطيفين واملأهما شرابا وخذ قدحاً وضع ذلك في كارةٍ وأنزل بعد صلاة الصبح في زورقٍ مع ملاح وقل له: أريد أن تذهب بي تحت البصرة فإن قال لك: ما أقدر أن أعدي أكثر من فرسخ فقل له: الرأي لك فإذا عدى فرغبه بالمال حتى يوصلك فإذا وصلت فأول بستانٍ تراه فأنه بستان السيدة جميلة فإذا رأيته فاذهب إلى بابه ترى درجتين عاليتين عليهما فرش من الديباج وجالس عليهما رجل أحدب مثلي فاشك إليه حالك وتوسل به فعساه أن يرثي لحالك ويوصلك إلى أن تنظرها ولو نظرةً من بعيدٍ وما بيدي حيلةٌ غير هذا، وأما إذا لم يرث لحالك فقد هلكت أنا وأنت وهذا ما عندي من الرأي والأمر إلى الله تعالى فقال الغلام: استعنت بالله تعالى ما شاء الله كان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قام من عند الخياط الأحدب وذهب إلى حجرته وأخذ ما أمره به في كارةٍ لطيفةٍ ثم أنه لما أصبح جاء إلى شاطئ الدجلة وإذا هو برجلٍ ملاحٍ نائم فأيقظه وأعطاه عشرة دنانيرٍ وقال له: عدني إلى تحت البصرة فقال له: يا سيدي بشرطٍ أني لا أعدي أكثر من فرسخ وإن تجاوزته شبراً هلكت أنا وأنت فقال له: الرأي لك فأخذه وانحدر به فلما قرب من البستان قال: يا ولدي من هنا ما أقدر أن أعدي فإن تعديت هذا الحد هلكت أنا وأنت فأخرج له عشرة دنانير وقال: خذ هذه نفقة لتستعين بها على حالك فاستحى منه وقال: سلمت أمري لله تعالى.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما أعطى للملاح العشرة دنانير الأخرى أخذها وقال: سلمت أمري لله تعالى وانحدر به فلما وصلا إلى البستان نهض الغلام من فرحته ووثب من الزورق وثبة مقدار رمية رمحٍ ورمى نفسه فرجع الملاح هارباً، ثم تقدم الغلام فرأى جميع ما وصفه له الخياط الأحدب من البستان ورأى بابه مفتوحاً وفي الدهليز سريرٌ من العاج جالس عليه رجلٌ أحدب لطيف المنظر عليه ثيابٌ مذهبةٌ وفي يده دبوسٌ من فضةٍ مطليٌ بالذهب فنهض الغلام مسرعاً وانكب على يده وقبلها فقال له: من أنت ومن أين أتيت ومن أوصلك إلى هنا يا ولدي? وكان ذلك الرجل لما رأى إبراهيم بن الخصيب انبهر من جماله فقال له إبراهيم: يا عم أنا صبيٌ جاهلٌ غريبٌ.
ثم بكى فرق له وأصعده على السرير ومسح له دموعه وقال: لا بأس عليك أن كنت مديوناً قضى الله دينك وأن كنت خائفاً آمن الله خوفك، فقال: يا عم لا بي خوفٌ ولا علي دينٌ ومعي مالٌ جزيلٌ بحمد الله وعونه فقال له: يا ولدي ما حاجتك حتى خاطرت بنفسك وجمالك إلى محلٍ فيه الهلاك? فحكى له حكايته وشرح له أمره فلما سمع كلامه أطرق برأسه ساعةً إلى الأرض وقال: هل الذي دلك علي الخياط الأحدب? قال: نعم، قال: هذا أخي وهو رجلٌ مباركٌ.
ثم قال: يا ولدي لولا أن محبتك نزلت في قلبي ورحمتك لهلكت أنت وأخي وبواب الخان وزوجته ثم قال: أعلم أن هذا البستان ما على وجه الأرض مثله والله يقال له بستان اللؤلؤة وما دخله أحدٌ مدة عمري إلا السلطان وأنا وصاحبته جميلة وأقمت فيه عشرين سنةً فما رأيت أحدٌ جاء إلى هذا المكان وكل أربعين يوماً تأتي في المركب إلى هنا وتصعد بين جواريها في حلة أطلسٍ تحمل أطرافها عشر جوارٍ بكلاليبٍ من الذهب إلى أن تدخل فلم أر منها شيئاً ولكن أنا ما لي إلا نفسي فأخاطر بها من أجلك فعند ذلك قبل الغلام يده وقال له: اجلس عندي حتى أدبر لك أمراً ثم أخذ بيد الغلام وأدخله البستان فلما دخل إبراهيم ذلك البستان ظن أنه الجنة ورأى الأشجار ملتفةً والنخيل باسقةً والمياه متدفقةً والأطيار تناغي بأصواتٍ مختلفة ثم ذهب به إلى قبةٍ وقال له: هذه التي تقعد فيها السيدة جميلة فتأمل تلك القبة فوجدها من أعجب المنتزهات وفيها سائر التصاوير بالذهب واللازورد وفيها أربعة أبواب يصعد إليها بخمس درج وفي وسطها بركةٌ ينزلها إليها بدرج من الذهب وتلك الدرج مرصعة بالمعادن وفي وسط البركة سلسبيل من الذهب فيه صور كبار وصغار والماء يخرج من أفواهها فإذا صفت الصور عند خروج الماء بأصواتٍ مختلفةٍ تخيل لسامعها أنه في الجنة وحول القبة ساقية قواديسها من الفضة وهي مكسوةٌ بالديباج وعلى يسار الساقية شباك من الفضة مطلٍ على برجٍ أخضرٍ فيه من سائر الطيور والوحوش والغزلان والأرانب وعلى يمينها شباكٌ مطلٌ على ميدانٍ فيه من سائر الطيور وكلها تغرد بأصوات مختلفة تدهش السامع، فلما رأى الغلام ذلك أخذه الطرب وقعد في باب البستان، وقعد البستاني بجانبه فقال له: كيف ترى بستاني? فقال له الغلام: هو جنة الدنيا، فضحك البستاني ثم قام وغاب عنه ساعةً وعاد ومعه طبقٌ فيه دجاجٌ وسمانٌ ومأكولٌ مليحٌ وحلوى من السكر فوضعه بين يدي الغلام وقال له: كل حتى تشبع قال إبراهيم: فأكلت حتى اكتفيت.
فلما رآني أكلت فرح وقال: هكذا شأن الملوك أولاد الملوك ثم قال: يا إبراهيم أي شيء معك في هذه الكارة فحللتها بين يديه فقال: أحملها معك فأنها تنفعك إذا حضرت السيدة جميلة فأنها إذا جاءت لا أقدر أن أدخل لك بما تأكله ثم قام وأخذ بيدي وأتى بي إلى مكان قبال قبة جميلة فعمل عريشة بين الأشجار وقال له: أصعد هنا فإذا جاءت فأنك تنظرها وهي لا تنظرك وهذا أكثر ما عندي من الحيلة وعلى الله الاعتماد فإذا غنت فاشرب على غنائها فإذا ذهبت فارجع من حيث جئت أن شاء الله مع السلامة. فشكره الغلام وأراد أن يقبل يده فمنعه ثم أن الغلام وضع الكارة في العريشة التي عملها له ثم قال له البستاني: يا إبراهيم تفرج في البستان وكل من أثماره فأن ميعاد حضور صاحبتك في الغد فصار إبراهيم يتنزه في البستان ويأكل من أثماره وبات ليلته عنده فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح صلى إبراهيم الصبح وإذا بالبستاني جاء وهو مصفر اللون وقال له: يا ولدي قم واصعد إلى العريشة فإن جواري السيدة جميلة قد أتين ليفرشن المكان وهي تأتي بعدهن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخولي لما دخل على إبراهيم بن الخصيب في البستان قال له: قم يا ولدي اصعد على العريشة فأن الجواري قد أتين ليفرشن المكان وهي تأتي بعدهن واحذر من أن تبصق أو تمخط أو تعطس فنهلك أنا وأنت فقام الغلام وصعد إلى العريشة وذهب الخولي وهو يقول: رزقك الله السلامة يا ولدي فبينما الغلام قاعدٌ وإذا بخمس جوار أقبلن لم ير مثلهن أحد فدخلن القبة وقلعن ثيابهن وغسلن القبة ورششنها بماء الورد، وأطلقن العود والعنبر وفرشن الديباج وأقبل بعدهن خمسون جارية ومعهن آلات الطرب وجميلة بينهن من داخل خيمة حمراء من الديباج والجواري رافعات أذيال الخيمة بكلاليب من الذهب حتى دخلت القبة فلم ير منها ولا أثوابها شيئاً فقال في نفسه: والله أنه ضاع جميع تعبي ولكن لا بد من أن أصبر حتى أنظر كيف يكون الأمر.
فقدمت الجواري الأكل والشرب، ثم أكلن وشربن وغسلن أيديهن، ونصبن لها كرسياً فجلست عليه ثم ضربن بآلات الملاهي جميعهن وغنين بأصوات مطربة لا مثيل لها ثم خرجت عجوز قهرمانة فصفقت ورقصت فجذبها الجواري وإذا بالستر رفع وخرجت جميلة وهي تضحك فرآها إبراهيم وعليها الحلي والحلل وعلى رأسها تاجٌ مرصعٌ باللؤلؤ فقامت الجواري وقبلن الأرض بين يديها وهي تضحك.
قال إبراهيم بن الخصيب: فلما رأيتها غبت عن وجودي واندهش عقلي وتحير فكري بما بها من جمالٍ لم يكن على وجه الأرض مثله ووقعت مغشياً علي ثم أفقت باكي العينين وأنشدت هذين البيتين:
أراك فلا أرد الطرف كيلا                   يكون حجاب رؤيتك الجفون
ولو أني نظرت بكل لحـظٍ                   لما استوفت محاسنك العيون

فقالت العجوز للجواري: ليقمن منكن عشر يرقصن ويغنين فلما رآهن إبراهيم قال في نفسه: اشتهي أن ترقص السيدة جميلة فلما انتهى رقص العشر جواري فأقبلن حولها وقلن: يا سيدتنا نشتهي أن ترقصي في هذا المجلس ليتم سرورنا بذلك لأننا ما رأينا أطيب من هذا اليوم فقال إبراهيم بن الخصيب في نفسه: لا شك أن أبواب السماء قد فتحت واستجاب الله دعائي، ثم قبل الجواري أقدامها وقلن لها: والله ما رأينا صدرك مشروحاً مثل هذا اليوم فما زلن يرغبنها حتى قلعت أثوابها وصارت بقميص من نسيج الذهب مطرزاً بأنواع الجواهر وأبرزت نهوداً كأنهن الرمان وأسفرت عن وجه كالبدر ليلة تمامه فرأى إبراهيم من الحركات ما لم ير في عمره مثله وأتت في رقصها بأسلوبٍ غريبٍ وابتداعٍ عجيبٍ، حتى أنست رقص الحبيب في الكؤوس، وذكرت ميل العمائم عن الرؤوس وهي كما قال فيها الشاعر:
كما اشتهت خلقت حتى إذا اعتدلت                 في قالب الحسن لا طول ولا قصر
كأنها خـلـت مـن مـاء لـؤلـؤٍ               في كل جاريةٍ من حسنها قـمـر
وكما قال الآخر:
وراقص مثل غصن البان قامته            تكاد تذهب روحي من تنقلـه
لا يستقر له في رقصته قـدم               كلفا نار قلبي تحت أرجـلـه

قال إبراهيم: فبينما أنظر إليها إذ لاحت منها التفاتة إلي فرأتني فلما نظرتني تغير وجهها فقالت لجواريها: غنوا أنتم حتى أجيء إليكن ثم عمدت إلى سكين قدر نصف ذراع وأخذتها وأتت نحوي ثم قالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فلما قربت مني غبت عن الوجود فلما رأتني ووقع وجهها في وجهي وقعت السكين من يدها وقالت: سبحان مقلب القلوب ثم قالت لي: يا غلام طب نفساً وقر عيناً ولك الأمان مما تخاف? فصرت أبكي وهي تمسح دموعي بيدها وقالت: يا غلام أخبرني من أنت وما جاء بك إلى هذا المكان? فقلبت الأرض بين يديها ولزمت ذيلها فقالت: لا بأس عليك فو الله ما ملأت عيني من ذكر غيرك فقل من أنت? قال: إبراهيم: فحدثتها بحديثي من أوله إلى أخره فتعجبت من ذلك وقالت لي: يا سيدي أناشدك هل أنت إبراهيم بن الخصيب? قلت: نعم فانكبت علي وقالت: يا سيدي أنت الذي زهدتني في الرجال لأنني لما سمعت أنه وجد في مصر صبي لم يكن على وجه الأرض أجمل منه واسمه إبراهيم بن الخصيب هويتك بالوصف وتعلق قلبي بحبك لما بلغني عنك من الجمال الباهر وصرت فيك كما قال الشاعر:
أذني لقد سبقت في عشقه بصري                  والأذن تعشق قبل العين أحيانـاً

فالحمد لله الذي أراني وجهك والله لو كان أحد غيرك لكنت صلبت البستاني وبواب الخان والخياط ومن يلوذ بهم ثم قالت لي: كيف احتال على شيءٍ تأكله من غير إطلاع الجواري? فقلت له: معي ما نأكل وما نشرب ثم حللت الكارة بين يديها فأخذت دجاجة وصارت تلقمني وألقمها فلما رأيت ذلك منها توهمت أنه منا. ثم قدمت الشراب فشربنا كل ذلك وهي عندي والجواري يغنين وما زلنا كذلك من الصبح إلى الظهر ثم قامت وقالت قم الآن هيء لك مركباً وانتظرني في المحل الفلاني حتى أجيء إليك فما بقي لي صبرٌ على فراقك فقلت: يا سيدتي أن معي مركباً وهي ملكي والملاحون في إجارتي وهم في انتظاري فقالت: هذا هو المراد ثم مضت إلى الجواري.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة جميلة لما مضت إلى الجواري قالت لهن: قمن بنا لنروح إلى قصرنا فقلن لها: كيف نقوم في هذه الساعة وعادتنا أننا نقعد ثلاثة أيامٍ? فقالت: إني أجد في نفسي ثقلاً عظيماً كأني مريضةٌ وأخاف أن يثقل علي ذلك فقلن لها سمعاً وطاعةً فلبسن ثيابهن ثم توجهن إلى الشاطئ ونزلن في الزورق وإذا بالبستاني قد أقبل على إبراهيم وما عنده علمٌ بالذي جرى له فقال له: يا إبراهيم ما لك حظٌ في التلذذ برؤيتها فأن من عادتها أن تقيم هنا ثلاثة أيامٍ وأنا أخاف أن تكون رأتك فقال إبراهيم: ما رأتني ولا رأيتها ولا خرجت من القبة قال: صدقت يا ولدي فأنها لو رأتك لكنا هلكنا ولكن أقعد عندي حتى تأتي لي الأسبوع الثاني وتراها وتشبع من النظر إليها فقال إبراهيم: أن معي مالاً وأخاف عليه وورائي رجالٌ فأخاف أن يستغيبوني فقال: يا ولدي أنه يعز علي فراقك ثم عانقه وودعه ثم أن إبراهيم توجه إلى الخان الذي كان نازلاً فيه وقابل بواب الخان وأخذ ماله فقال بواب الخان: خير إن شاء الله فقال له إبراهيم: إني ما وجدت إلى حاجتي سبيلاً وأريد أن أرجع إلى أهلي فبكى بواب الخان وودعه وحمل أمتعته وأوصله إلى المركب وبعد ذلك توجه إلى المحل الذي قالت له عليه وانتظرها فيه.
فلما جن الليل وإذا قد أقبلت عليه وهي في زي رجلٍ شجاعٍ بلحيةٍ مستديرةٍ ووسطٍ مشدودٍ بمنطقةٍ وفي إحدى يديها قوس ونشاب وفي الأخرى سيفٌ مجردٌ وقالت له: هل أنت ابن الخصيب صاحب مصر? فقال له إبراهيم: هو أنا فقالت له: وأي علق أنت حتى جئت تفسد بنات الملوك قم كلم السلطان قال إبراهيم: فوقعت مغشياً علي وأما الملاحون فإنهم ماتوا في جلدهم من الخوف فلما رأت ما حل بي خلعت تلك اللحية ورمت السيف وحلت المنطقة فرأيتها هي السيدة جميلة فقلت لها: والله إنك قطعت قلبي ثم قلت للملاحين: اسرعوا في سير المركب فحلوا الشراع وأسرعوا في السير فما كان إلا أيامٌ قلائل حتى وصلنا إلى بغداد وإذا بمراكب واقفةٍ على جانب الشط فلما رآنا الملاحون الذين معنا صاروا يقولون: يا فلان ويا فلان نهنئكم بالسلامة دفعوا مراكبهم على مركبنا فنظرنا فإذا فيها أبو القاسم الصندلاني فلما رآنا قال: إن هذا هو مطلوبي امضوا في وداعة الله وأنا أريد التوجه إلى غرضٍ وكان بين يديه شمعةً ثم قال لي: الحمد لله على السلامة هل قضيت حاجتك? قلت: نعم فقرب الشمعة منا فلما رأته جميلة تغير حالها واصفر لونها ولما رآها الصندلاني قال: اذهبوا في أمان الله أنا رائحٌ إلى البصرة في مصلحة للسلطان ولكن الهدية لمن حضر.
ثم أحضر علبةً من الحلويات ورماها في مركبنا وكان فيها البنج فقال إبراهيم: يا قرة عيني كلي من هذا فبكت وقالت: يا إبراهيم أتدري من هذا? قلت: نعم هذا فلان قالت: أنه ابن عمي وكان سابقاً قد حضر ليخطبني من والدي فما رضيت به وهو متوجه إلى البصرة فربما عرف أبي بنا فقلت: يا سيدتي هو لا يصل إلى البصرة حتى نصل نحن إلى مصر ولم يعلما بما هو مخبوء لهما في الغيب فأكلت شيئاً من الحلاوة فما نزلت جوفي حتى ضربت الأرض برأسي فلما كان وقت السحر عطست فخرج البنج من منخاري وفتحت عيني فرأيت نفسي عرياناً مرمياً في الخراب فلطمت على وجهي وقلت في نفسي: إن هذه الحيلة عملها في الصندلاني فسرت لا أدري أين اذهب وما علي سوى سروال.
فقمت وتمشيت قليلاً وإذا بالوالي أقبل علي ومعه جماعةً بسيوفٍ ومطارقٍ فخفت فرأيت حماماً خرباً فتواريت فيه فعثرت رجلي في شيءٍ فوضعت يدي عليه فتلوثت بالدم فمسحتها في سروال ولم أعلم ما هو ثم مددت يدي إليه ثانياً فجاءت على قتيلٍ وطلعت رأسه في يدي فرميتها وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم دخلت زاوية من زوايا الحمام وإذا بالوالي واقفٌ على باب الحمام وقال: ادخلوا هذا المكان وفتشوه فدخل منهم عشرةٌ بالمشاعل فمن خوفي دخلت وراء حائطٍ فتأملت تلك المقتول فرأيتها صبية ووجهها كالبدر ورأسها في ناحيةٍ وجثتها في ناحيةٍ وعليها ثياب ثمينة فلما رأيتها وقعت الرجفة في قلبي ودخل الوالي وقال: فتشوا واجهات الحمام فدخلوا الموضع الذي أنا فيه فنظرني رجلٌ منهم فجاءني وبيده سكين طولها نصف ذراعٍ فلما قرب مني قال: سبحان الله خالق هذا الوجه الحسن يا غلام من أين أنت? ثم أخذ بيدي وقال: يا غلام لأي شيءٍ قتلت هذه المقتولة? فقلت: والله ما قتلتها وما أعرف من قتلها وما دخلت هذا المكان إلا فزعاً منكم وأخبرته بقصتي وقلت له: بالله عليك لا تظلمني فأني مشغولٌ بنفسي فأخذني وقدمني إلى الوالي فلما رأى على يدي أثر الدم قال: هذا لا يحتاج إلى بينة فاضربوا عنقه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الخصيب قال: فلما قدموني للوالي ورأى على يدي أثر الدم قال: هذا ما يحتاج إلى بينة فاضربوا عنقه فلما سمعت هذا الكلام بكاءً شديداً وجرت مني دموع العين وأنشدت هذين البيتين:
مشيناها خطى كتبت علـينـا                ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منـيتـه بـأرضٍ                  فليس يموت في أرضٍ سواها

ثم شهقت شقهةً فوقعت مغشياً علي فرق لي قلب الجلاد وقال: والله هذا وجه من لا يقتل فقال الوالي: اضربوا عنقه فأجلسوني في نطع الدم وشدوا علي عيني غطاء وأخذ السياف سيفه واستأذن الوالي وأراد أن يضرب عنقي فصحت: وأغربتاه وإذا الخيل قد أقبلت وقائلٌ يقول: دعوه أمنع يدك يا سياف، وكان لذلك سبباً عجيباً وأمراً غريباً وهو أن الخصيب صاحب مصر كان قد أرسل حاجبه إلى الخليفة هارون الرشيد ومعه هدايا وتحف وصحبته كتاب يذكر له فيه: أن ولدي قد فقد منذ سنة وقد سمعت أنه ببغداد، والمقصود من إنعام خليفة الله أن يفحص عن خبره ويجتهد في طلبه ويرسل إلي مع الحاجب. فلما قرأ الخليفة الكتاب أمر الوالي أن يبحث عن حقيقة خبره فلم يزل الوالي والخليفة يسألان عنه حتى قيل له أنه بالبصرة وأمره أن يسافر إلى البصرة ويأخذ معه جماعةً من أتباع الوزير في حرص الحاجب فلما رأى الوالي الحاجب وعرفه ترجل إليه فقال له الحاجب: ما هذا الغلام وما شأنه? فأخبره بالخبر الحاجب والحال أنه لم يعرف أنه ابن السلطان إن وجه هذا الغلام وجه من لا يقتل وأمره بحل وثاقه فحله فقال: قدمه إلي، فقدمه إليه وكأن ذهب جماله من شدة الأهوال فقال له الحاجب: أخبرني بقضيتك يا غلام وما شأن هذه المقتولة معك? 
فلما نظر إبراهيم إلى الحاجب عرفه فقال له: ويلك أما تعرفني? أما أنا إبراهيم ابن سيدك فلعلك جئت في طلبي فأمعن الحاجب فيه النظر فعرفه غاية المعرفة فلما عرفه انكب على أقدامه فلما رأى الوالي ما حصل من الحاجب اصفر لونه فقال له الحاجب: ويلك يا جبار هل كان مرادك أن تقتل ابن سيدي الخصيب صاحب مصر? فقبل الوالي ذيل الحاجب وقال له: يا مولاي من أين أعرفه وإنما رأيناه على هذه الصفة ورأينا الضبية مقتولة بجبانة فقال: ويلك أنك لا تصلح للولاية هذا غلام له من العمر خمسة عشر عاماً وما قتل عصفوراً فكيف يقتل قتيلاً? هلا أمهلته وسألته عن حاله، ثم قال الحاجب والوالي: فتشوا على قاتل الصبية فدخلوا الحمام ثانياً فرأوا قاتلها فأخذوه وأتوا به الوالي فأرسله دار الخلافة وأعلم الخليفة بما جرى فأمر الرشيد بقتل قاتل الصبية ثم أمر بإحضار ابن الخصيب فلما تمثل بين يديه تبسم الرشيد في وجهه وقال له: أخبرني بقضيتك وما جرى لك? فحدثه بحديثه من أوله إلى أخره فعظم ذلك عنده فنادى مسرور السياف وقال: اذهب في هذه الساعة وأهجم على دار أبي القاسم الصندلاني وائتني به وبالصبية فمضى من ساعته وهجم على داره فرأى الصبية في وثاقٍ من شعرها وهي في حالة التلف فحلها مسرور وأتى بها وبالصندلاني فلما رآها الرشيد تعجب من جمالها ثم التفت إلى الصندلاني وقال: خذوه واقطعوا يديه اللتين ضرب بهما هذه الصبية واصلبوه وسلموا أمواله وأملاكه إلى إبراهيم ففعلوا ذلك فبينما هم كذلك وإذا بأبي الليث عامل البصرة والد السيدة جميلة قد أقبل عليهم يستغيث بالخليفة من إبراهيم بن الخصيب صاحب مصر ويشكوا إليه أنه أخذ ابنته فقال له الرشيد أنه كان سبباً في خلاصها من العذاب والقتل وأمر بإحضار ابن الخصيب فلما حضر قال أبي الليث: ألا ترضى أن يكون هذا الغلام ابن السلطان مصر بعلاً لابنتك فقال سمعاً وطاعةً لله ولك يا أمير المؤمنين فدعا الخليفة بالقاضي والشهود وزوج الصبية بإبراهيم ابن الخصيب ووهب له جميع أموال الصندلاني وجهزه إلى بلاده وعاش معها في أتم سرور وفي حبور إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحي الذي لا يموت.

حكاية أبي الحسن الخراساني الصيرفي مع شجرة الدر

ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن المعتضد بالله كان عالي الهمة شريف النفس وكان له ببغداد ستمائة وزير وما كان يخفى عليه من أمور الناس شيء، فخرج يوماً هو وابن خلدون يتفرجان على الرعايا ويسمعان ما يتجدد من أخبار الناس فحمي عليهما الحر والهجير وقد انتهيا إلى زقاقٍ لطيفٍ في شارعٍ فدخلا ذلك الزقاق فرأيا في صدر الزقاق داراً حسنةً شامخة البناء تفصح عن صاحبها بلسان الثناء فقعدا على الباب يستريحان فخرج من تلك الدار خادمان وجه كل منهما كالقمر ليلة أربعة عشر فقال أحدهما لصاحبه: لو استأذن اليوم ضيف لأن سيدي لا يأكل إلا مع الضيفان، وقد صرنا إلى هذا الوقت ولم أر أحداً.
فتعجب الخليفة من كلامهما وقال: إن هذا دليلٌ على كرم صاحب الدار ولا بد أن ندخل داره وننظر مرؤوته ويكون ذلك سبباً في نعمة تصل إليه منه. ثم قال للخادم: استأذن سيدك في قدوم جماعة أغراب، وكان الخليفة في ذلك الزمان إذا أراد الفرجة على الرعية تنكر في زي التجار فدخل الخادم على سيده وأخبره ففرح وقام وذهب إليهما بنفسه وإذا به جميل الوجه حسن الصورة وعليه قميص نيسابوري ورداءٍ مذهب وهو مضمخ بالطيب وفي يده خاتمٌ من الياقوت، فلما رآهما قال: أهلاً وسهلاً بالسادة المنعمين علينا غاية الإنعام بقدومهما، فلما دخلا تلك الدار رأياها تنسي الأهل الأوطان كأنها قطعة من الجنان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما دخل الدار هو ومن معه رأياها تنسي الأهل والأوطان كأنها قطعة من الجنان ومن داخلها بستان فيه من سائر الأشجار وهي تدهش الأبصار وأماكنها مفروشةً بنفائس الفرش فجلسوا وجلس المعتضد يتأمل في الدار والفرش، فقال ابن حمدان: فنظرت إلى الخليفة فرأيت وجهه قد تغير وكنت أعرف من وجهه حال الرضا والغضب، فلما رأيته قلت في نفسي، يا ترى ما باله حتى غضب? 
ثم جاؤوا بطشت من الذهب فغسلنا أيدينا ثم جاؤوا بسفرةٍ من الحرير وعليها مائدة من الخيزران فلما انكشفت الأغطية عن الأواني رأينا طعاماً كزهر الربيع في عز الأوان صنوان وغير صنوان. ثم قال صاحب الدار: بسم الله يا سادتنا والله أن الجوع قد أضناني فأنعموا علي بالأكل من هذا الطعام كما هو أخلاق الكرام وصاحب الدار يفسخ الدجاج ويضعه بين أيدينا ويضحك وينشد الأشعار ويورد الأخبار ويتكلم بلطيف ما يليق بالمجلس.
وقال ابن حمدان: فأكلنا وشربنا ثم نقلنا إلى مجلسٍ آخر يدهش الناظرين تفوح منه الروائح الزكية، ثم قدم لنا سفرة فاكهةٍ جنيةٍ وحلوياتٍ شهيةٍ فزادت أفراحنا وزالت أتراحنا. قال ابن حمدان: ولم يزل الخليفة في عبوس ولم يبتسم لما فيه فرح النفوس مع أن عادته أنه يحب اللهو والطرب ودفع الهموم وأنا أعرف أنه غير حسودٍ ولا ظلومٍ فقلت في نفسي يا ترى ما سبب عبوسه وعدم زوال بؤسه? ثم جاؤوا بطبق الشراب ومجمع شمل الأحباب وأحضروا الشراب المروق وبواطي الذهب والبخور والفضة وضرب صاحب الدار على باب مقصورةٍ بقضيبٍ من الخيزران وإذا بباب المقصورة قد فتح وخرج منه ثلاث جوار نهد أبكارٍ وجوههن كالشمس في رابعة النهار وتلك الجواري ما بين عوادةٍ وجنكيةٍ ورقاصةٍ، ثم قدم لنا النقل والفواكه.
قال ابن حمدان: فضرب بيننا وبين الثلاث جوارٍ ستارةً من الديباج وشراريبها من الأبريسيم وحلقاتها من الذهب فلم يلتفت الخليفة إلى هذا جميعه وصاحب الدار لم يعلم من هو الذي عنده، فقال الخليفة لصاحب الدار: أشريفٌ أنت? لا يا سيدي إنما أنا رجلٌ من أولاد التجار أعرف بين الناس بأبي الحسن علي ابن أحمد الخراساني، فقال له الخليفة: أتعرفني يا رجل? قال له: والله يا سيدي ليس لي معرفةٌ بأحدٍ من جنابكم الكريم، فقال له ابن حمدان: يا رجل هذا أمير المؤمنين المعتضد بالله حفيد المتوكل على الله، فقام الرجل وقبل الأرض بين يدي الخليفة وهو يرتعد من خوفه، وقال: يا أمير المؤمنين بحق آبائك الطاهرين أن كنت رأيت مني تقصيراً أو قلة أدبٍ بحضرتك أن تعفو عني.
فقال الخليفة: أما ما صنعته معنا من الإكرام فلا مزيد عليه، وأما ما أنكرته عليك هنا فإن صدقتني حديثه واستقر ذلك بعقلي نجوت مني وأن لم تعرفني حقيقته أخذتك بحجةٍ واضحةٍ وعذبتك عذابا لم أعذب أحداً مثله. قال: معاذ الله أن أحدث بالمحال، وما الذي أنكرته على أمير المؤمنين? فقال الخليفة: أنا من حين دخلت الدار وأنا أنظر إلى حسنها وأوانيها وفراشها وزينتها، حتى ثيابك ولماذا عليها اسم جدي المتوكل على الله? قال: نعم أعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله الحق شعارك والصدق وداءك ولا قدرة لأحدٍ على أن يتكلم بغير الصدق في حضرتك، فأمره بالجلوس فجلس فقال له: حدثني فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله بنصره وحقك بلطائف أمره أنه لم يكن ببغداد أحداً يسر مني ولا من أبي ولكن أخل لي ذهنك وسمعك وبصرك حتى أحدثك بسبب ما أنكرته علي، فقال له الخليفة: قل حديثك فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان أبي يسوق الصيارف والعطارين والبزازين وكان له في كل سوقٍ حانوت ووكيل وبضائع من سائر الأصناف وكان له حجرةً من داخل الدكان التي بسوق الصيارف لأجل الخلوة فيها وجعل الدكان لأجل البيع والشراء وكان ماله يكثر عن العد ويزيد عن الحد ولم يكن له ولد غيري وكان محباً لي وشفوقاً علي فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بوالدتي وبتقوى الله تعالى ثم مات رحمه الله وأبقى أمير المؤمنين فاشتغلت باللذات وأكلمت وشربت ثم اتخذت الأصحاب والأصدقاء وكانت أمي تنهاني عن ذلك وتلومني عليه فلم أسمع كلامها حتى ذهب المال جميعه وبعت العقار ولم يبق لي شيءٌ غير الدار التي أنا فيها وكانت داراً حسنةً يا أمير المؤمنين.
فقلت لأمي: أريد أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي أن بعتها تفتضح ولا تعرف مكاناً تأوي إليه فقلت: هي تساوي خمسة الألف دينارٍ فأشتري من جملة ثمنها داراً بألف دينارٍ ثم أتجر بالباقي فقالت: أتبيعني هذه الدار بهذا المقدار? قلت: نعم فجاءت إلى طابقٍ وفتحته وأخرجت منه إناءً من الصيني فيه خمسةً الآلف دينارٍ فخيل إلي أن الدار كلها ذهب فقالت لي: يا ولدي لا تظن أن هذا المال مال أبيك والله يا ولدي أنه من مال أبي وكنت أدخرته لوقت الحاجة إليه فأني كنت في زمن أبيك غنية عن الاحتياج إلى هذا المال فاتخذت المال منها يا أمير المؤمنين وعدت لما كنت عليه من المأكل والمشرب والصحبة حتى نفذت الخمسة الألف دينارٍ ولم أقبل من أمي كلاماً ولا نصيحةً ثم قلت لها: مرادي أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي قد نهيتك عن بيعها لعلمي أنك محتاج إليها فكيف تريد بيعها ثانياً? فقلت لها: لا تطيلي علي الكلام فلا بد من بيعها فقالت: بعني إياها بخمسة عشر ألف دينارٍ بشرط أن أتولى شؤونك بنفسي فبعتها لها بذلك المبلغ على أن تتولى أموري بنفسها فطلبت وكلاء أبي وأعطت كل واحدٍ منهم ألف دينار ووضعت المال تحت يدها والأخذ والعطاء معها وأعطتني بعضاً من المال لأتجر فيه وقالت لي: أقعد أنت في دكان أبيك فعملت ما قالت أمي يا أمير المؤمنين وجئت إلى الحجرة التي في سوق الصيارف وجاء أصحابي وصاروا يشترون مني وأبيع لهم وطاب لي الربح وكثر مالي.
فلما رأتني أمي على هذه الحالة الحسنة أظهرت لي ما كان مدخراً عندها من جواهرٍ ومعادنٍ ولؤلؤٍ وذهبٍ ثم أعادت أملاكي التي كان وقع فيها التفريط وكثر مالي كما كان ومكثت على هذه الحال مدة وجاء وكلاء أبي فأعطيتهم البضائع ثم بنيت حجرةً ثانيةً من داخل الدكان.
فبينما أنا قاعدٌ فيها يا أمير المؤمنين وإذا بجاريةٍ قد جاءت إلي لم تر العيون أجمل منها منظراً فقالت: هذه حجرة أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني? قلت لها: نعم، قالت: أين هو? فقلت: هو أنا، ولكن اندهش عقلي من فرط جمالها يا أمير المؤمنين، ثم أنها قعدت وقالت لي: قل للغلام يزن لي ثلاثمائة دينار فأمرته أن يزن لها المقدار فوزنه لها فأخذته وانصرفت وأنا ذاهل العقل فقال لي غلامي: أتعرفها? قلت: لا والله قال: فلم قلت لي زن لها? فقلت: والله أني لم أدر ما أقول مما بهرني من حسنها وجمالها.
فقام الغلام وتبعها من غير علمي ثم رجع وهو يبكي وبوجهه أثر ضربةٍ، فقلت له: ما بالك? فقال: أني تبعت الجارية لأنظر أين تذهب فلما أحست بي رجعت وضربتني هذه الضربة فكادت أن تتلف عيني، ثم مكثت شهراً لم أرها ولم تأت وأنا ذاهل العقل في هواها يا أمير المؤمنين، فلما كان آخر الشهر وإذا بها جاءت وسلمت على فكدت أن أطير فرحاً فسألتني عن خبري وقالت: لعلك قلت في نفسك ما شأن هذه المحتالة كيف أخذت مالي وانصرفت فقلت: والله يا سيدتي أن مالي وروحي ملكٌ لك، فأسفرت عن وجهها وجلست لتستريح والحلي والحلل تلعب على وجهها وصدرها ثم قالت: زن لي ثلاثمائة دينار فقلت سمعاً وطاعةً.
ثم وزنت لها الدنانير فأخذتها وانصرفت فقلت للغلام: أتبعها فتبعها ثم عاد لي وهو مبهوتٌ ومضت، فبينما أنا جالسٌ في بعض الأيام وإذا بها قد جاءت إلي وتحدثت ساعةً ثم قالت لي: زن لي خمسمائة دينارٍ فأني قد أحتجت إليها، فأردت أن أقول لها على أي شيءٍ أعطيك مالي فمنعني فرط الغرام من الكلام وأنا يا أمير المؤمنين كلما رأيتها ترتعد مفاصلي ويصفر لوني وأنسى ما أريد أن أقول وأصير أقول كما قال الشاعر:
كما هو إلا أن أراها فجأة                   فأبهت حتى لا أكاد أجيب
ثم وزنت لها الخمسمائة دينارٍ فأخذتها وانصرفت فقمت وتبعتها بنفسي إلى أن وصلت إلى سوق الجواهر فوقفت عند إنسانٍ فأخذت منه عقداً والتفتت فرأتني فقالت: زن لي خمسمائة دينار، فلما نظرني صاحب العقد قام إلي وعظمني فقلت له: أعطها العقد وثمنه علي فقال: سمعاً وطاعةً فأخذت العقد وانصرفت.
سفرت عنوأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد التسعمائة

وفي الليلة الستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن الخراساني قال: فقلت له أعطها العقد وثمنه علي فأخذت العقد وانصرفت فتبعتها حتى جاءت إلى الدجلة ونزلت في مركبٍ فأومأت إلى الأرض لأقبلها بين يديها فذهبت وضحكت ومكثت واقفاً انظرها إلى أن دخلت قصراً فتأملتها فإذا هو قصر الخليفة المتوكل فرجعت يا أمير المؤمنين وقد حل بقلبي كل همٍ في الدنيا وكانت قد أخذت مني ثلاثة آلاف دينارٍ فقلت في نفسي: قد أخذت مالي وسلبت عقلي وربما تلفت نفسي في هواها.
ثم رجعت إلى داري وقد حدثت أمي بجميع ما جرى لي فقالت لي: يا ولدي إياك أن تتعرض لها بعد ذلك فتهلك، فلما رحت إلى دكاني جاءني وكيلي الذي بسوق العطارين وكان شيخاً كبيراً فقال لي: يا سيدي ما لي أراك متغير الحال يظهر عليك أثر الكآبة فحدثني بخبرك? فحدثته بجميع ما جرى لي معها فقال لي: يا ولدي أن هذه من جواري قصر أمير المؤمنين وهي محظية الخليفة فاحتسب المال لله تعالى ولا تشغل نفسك بها وإذا جاءتك فاحذر أن تتعرض لها وأعلمني بذلك حتى أدبر لك أمراً لئلا يحصل لك ثم تركني وذهب وفي صدري لهيب النار.
فلما كان أخر الشهر إذ بها جاءت إلي ففرحت بها غاية الفرح، فقالت لي: ما حملك على أن تتبعني? فقلت لها: حملني على ذلك فرط الوجد الذي بقلبي وبكيت بين يديها فبكت رحمةً وقالت: والله ما في قلبك شيءٌ من الغرام إلا وفي قلبي أكثر منه ولكن كيف أعمل، والله ما لي من سبيل غير أني أراك في كل شهرٍ مرةٍ.
ثم دفعت إلي ورقةً وقالت: خذ هذه إلى فلان الفلاني فأنه وكيلي وأقبض منه ما فيها فقلت: ليس لي حاجة بمال ومالي وروحي فداك، فقالت: سوف أدبر لك أمراً يكون فيه وصولك إلي وأن كان فيه تعبٌ ثم ودعتي وانصرفت فجئت إلى الشيخ وأخبرته بما جرى فجاء معي إلى دار المتوكل فرأيتها هي والمكان الذي دخلت فيه الجارية فصار الشيخ متحيراً في حيلةٍ يفعلها فرأى خياطاً قبل الشباك المطل على الشاطئ وعنده صناعٌ فقال: بهذا تنال مرادك ولكن أفتق جيبك وتقدم إليه وقل له أن يخيطه فإذا خاطه فادفع له عشرة دنانيرٍ فقلت: سمعاً وطاعةً، ثم توجهت إلى الخياط وأخذت معي شقتين من الديباج الرومي وقلت له: فصل لي هاتين أربعة ملابسٍ اثنين فرجية واثنين غير فرجية.
فلما فرغ الخياط من تفصيل الملابس وخياطتها أعطيته أجريتها زيادة عن العادة بكثيرٍ، ثم مد يده إلى تلك الملابس فقلت: خذها لك ولمن حضر عندك، وصرت أقعد عنده وأطيل القعود معه ثم فصلت عنده غيرها وقلت له: علقه على وجه الدكان لمن ينظره فيشتريه ففعل، وصار كل من خرج من قصر الخليفة وأعجبه شيءٌ من الملابس وهبته له حتى البواب، فقال الخياط: يا مأمن الأيام أريد يا ولدي أن تصدقني حديثك لأنك فصلت عندي مائة حلةٍ ثمينةٍ ولك حلةٌ تساوي جملةً من المال ووهبت غالبها للناس وهذا ما هو فعل تاجرٍ لأن التاجر يحاسب على الدرهم وما مقدار رأس مالك حتى تعطي هذه العطايا وما يكون مكسبك في كل يومٍ فأخبرني خبراً صحيحاً حتى أعاونك على مرادك ثم قال: أناشدك الله أما أنت عاشقٌ? قلت: نعم، فقال: لمن? قلت: لجاريةٍ من جواري قصر الخليفة فقال: قبحهن الله كم يفتن الناس ثم قال: هل تعرف اسمها? قلت: لا فقال: صفها لي، فوصفتها له فقال: ويلاه هذه عوادة الخليفة المتوكل والمحظية عنده لكن لها مملوك فأجعل بينك وبينه صداقةً لعله يكون سبباً في اتصالك بها فبينما نحن في الحديث وإذا بالملوك مقبلٌ من الخليفة وهو كأنه القمر في ليلة أربعة عشر وبين يدي الثياب التي خاطها لي الخياط وكانت من الديباج من سائر الألوان فصار ينظر إليها ويتأمل ثم أقبل علي فقمت وسلمت عليه فقال: من أنت? فقلت: رجلٌ من التجار، قال: أتبيع هذه الثياب? قلت: نعم فأخذ منها خمسةٌ وقال: بكم الخمسة? فقلت: هي هدية مني إليك عقد صحبةٍ بيني وبينك ففرح بها ثم جئت إلى بيتي وأخذت له ملبوساً مرصعاً بالجواهر واليواقيت قيمته ثلاثة ألاف دينارٍ وتوجهت به إليه فقبل مني ثم أخذني ودخل بي حجرةً في داخل القصر وقال: 
ما اسمك بين التجار? فقلت له: رجلاً منهم فقال: قدر ابني أمرك فقلت: لماذا? قال: أنك أهديت لي شيئاً كثيراً ملكت قلبي به وقد صح عندي أنك أبو الحسن الخراساني أكثر الصيرفي، فبكيت يا أمير المؤمنين فقال لي: لم تبكي? فو الله التي تبكي من أجلها عندها من الغرام بك أكثر مما عندك من الغرام بها وأعظم وقد شاع عند جميع جواري القصر خبرها معك. ثم قال لي: وأي شيءٍ تريد? فقلت: أريد أنك تساعدني في بليتي فوعدني إلى الغد، فمضيت إلى داري، فلما أصبحت وتوجهت إليه ودخلت حجرته قال: أعلم أنها لما فرغت من خدمتها عند الخليفة بالأمس ودخلت حجرتها حدثتها بحديثك جميعه وقد عزمت على الاجتماع بك فاقعد عندي إلى آخر النهار فقعدت عنده.
فلما جن الليل إذا بالمملوك أتى ومعه قميصٌ منسوجٌ من الذهب وحلةٌ من حلل الخليفة فألبسني إياها وبخرني فصرت أشبه بالخليفة ثم أخذني إلى محلٍ فيه الحجر صفين من الجانبين وقال: هذه حجرة الجواري الخواص فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأنه من عادة الخليفة أن يفعل هكذا في كل ليلةٍ.

وفي الليلة الواحدة والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المملوك لما قال لأبي الحسن: فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأن من عادة الخليفة أن يفعل هكذا إلى أن تأتي إلى الدرب الثاني الذي على يدك اليمنى فترى حجرةً عتبة بابها من المرمر فإذا قدمت إليها فمسها بيدك أن شئت فعد الأبواب فهي كذا وكذا باباً فأدخل الباب الذي علامته كذا وكذا فتراك صاحبتك وتأخذك عندها، وأما خروجك فإن الله يهون علي فيه ولو أخرجك في صندوقٍ.
ثم تركني ورجع وصرت أمشي وأعد الأبواب واضع على كل بابٍ حبة فولٍ: فلما صرت في وسط الحجر سمعت ضجةً عظيمةً ورأيت ضوء شموع وأقبل ذلك الضوء نحوي حتى قرب مني فتأملته فإذا هو الخليفة وحوله الجواري ومعهن الشموع فسمعت واحدةً منهن تقول لصاحبتها: يا أختي هل نحن لنا خليفتان? على أن الخليفة قد جاز حجرتي وشممت رائحة العطر والطيب ووضع حبة الفول على حجرتي كعادته، وفي هذه الساعة أرى ضوء شموع للخليفة وها هو مقبلٌ. فقالت: أن هذا الأمر عجيب لأن التزيي بزي الخليفة لا يجسر عليه أحدٌ، ثم قرب الضوء مني فارتعدت أعضائي وإذا بخادمٍ يصيح على الجواري ويقول: ههنا، فانعطفوا إلى حجرةٍ من الحجر ودخلوا ثم خرجوا ومشوا حتى وصلوا إلى بيت صاحبتي فسمعت الخليفة يقول: حجرة من هذه? فقالوا: هذه حجرة شجرة الدر فقال: نادوها فنادوها فخرجت وقبلت أقدام الخليفة فقال لها: أتشربين الليلة? فقالت: أن لم يكن لحضرتك والنظر إلى طلعتك فلا أشرب فأنني لا أميل إلى الشراب في هذه الليلة، فقال للخازن: ادفع لها العقد الفلاني.
ثم أمر بالدخول إلى حجرتها فدخلت بين الشموع وإذا بجاريتها أمامهم وضوء وجهها غالبٌ على ضوء الشمعة التي بيدها فقربت مني وقالت: من هذا? ثم قبضت علي وأخذتني إلى حجرةٍ من الحجر وقالت لي: من أنت? فقلبت الأرض بين يديها وقالت لها: أناشدك الله يا مولاتي أن تحقني دمي وترحميني وتتقربي إلى الله بانقاذ مهجتي وبكيت فزعاً من الموت، فقالت: لا ريب أنك لصٌ? فقلت: لا والله ما أنا لصٌ فهل ترين علي أثر اللصوص? فقالت: أصدقني خبرك وأنا أجعلك في أمانٍ، فقلت: أنا جاهلٌ أحمقٌ قد حملتني الصبابة وجهلي على ما ترين مني حتى وقعت في هذه الورطة، فقالت: قف هنا أجيء إليك.
ثم خرجت وجاءتني بثياب جاريةٍ من جواريها وألبستني تلك الثياب في تلك الزاوية وقالت: تعال خلفي فمشيت خلفها حتى وصلت إلى حجرتها وقالت: ادخل هنا فدخلت حجرتها فجاءت بي إلى سريرٍ وعليه فرشٌ عظيمٌ وقالت: أجلس لا بأس عليك أما أنت أبو الحسن الخراساني? قلت: بلى قالت: قد حقن الله دمك أن كنت صادقاً ولم تكن لصاً فأنك تهلك لا سيما وأنت في زي الخليفة ولباسه وبخوره، وأما أن كنت أبا الحسن الخراساني الصيرفي فأنك قد أمنت ولا بأس عليك فأنك صاحب شجرة الدر التي هي أختي فأنها لا تقطع خبرها عنك أبداً وتخبرنا كيف أخذت منك المال ولم تتغير وكيف جئت وراءها إلى الشاطئ وأومأت لها إلى الأرض تعظيماً وفي قلبها منك الحب أكثر مما في قلبك منها، ولكن كيف وصلت إلى ههنا بأمرها أم بغير أمرها بل خاطرت بنفسك وما مرادك من الاجتماع? 
فقلت: والله يا سيدتي أني أنا الذي خاطرت بنفسي وما غرضي من الاجتماع بها إلا النظر والإستماع لحديثها فقالت: أحسنت فقلت: يا سيدتي الله شهيد على ما أقول أن نفسي لم تحدثني في شأنها بمعصيةٍ، فقالت: بهذه النية نجاك الله ووقعت رحمتك في قلبي، ثم قالت لجاريتها فلانه: أمضي إلى شجرة الدر وقولي لها: أن أختك تسلم عليك فتفضلي عندها في هذه الليلة على جري عادتك فأن صدرها ضيقٌ.
فتوجهت إليها ثم عادت وأخبرتها أنها تقول: متعني الله بطول حياتك وجعلني فداك الله لو دعوتيني إلى غير ما توقفت لكن يضرني صداع الخليفة وأنت تعلمين منزلتي عنده، فقالت للجارية: أرجعي إليها وقولي لها: أنه لا بد من حضورك لسرٍ بينك وبينها، فتوجهت إليها الجارية وبعد ساعةٍ جاءت الجارية ووجهها يضيء كأنه البدر فقابلتها واعتنقتها وقالت: يا أبا الحسن أخرج إليها وقبل يديها.
وكنت في مخدعٍ في داخل الحجرة فخرجت إليها يا أمير المؤمنين فلما رأتني ألقت نفسها علي وضمتني إلى صدرها وقالت لي: كيف صرت بلباس الخليفة وزينته وبخوره? ثم قالت: حدثني بما جرى لك، فحدثتها بما جرى لي وبما قاسيته من الخوف وغيره فقالت: يعز عليَّ ما قاسيته من أجلي والحمد لله الذي جعل العاقبة إلى السلامة وتمام السلامة دخولك في منزلي ومنزل أختي.
ثم أخذتني إلى حجرتها وقالت لأختها: أني قد عاهدته أن لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذا الهول لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً على نعليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت لأختها: أني قد عاهدته أني لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذه الأهوال لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً لنعليه، فقالت لها أختها: بهذه النية تجاه الله تعالى فقالت: سوف ترين ما أصنع حتى اجتمع معه في الحلال، فلا بد أن أبذل مهجتي في التحيل.
فبينما نحن في الحديث وإذا بضجةٍ عظيمةٍ فالتفتنا فرأينا الخليفة قد جاء يريد حجرتها من كثرة ما هو كلفٌ بها فأخذتني يا أمير المؤمنين ووضعتني في سردابٍ وطبقته علي وخرجت تقابل الخليفة فلاقته ثم جلس فوقفت بين يديه وخدمته ثم أمرت بإحضار الشراب، وكان الخليفة يحب جاريةً اسمها البنجة وهي أم المعتز بالله وكانت الجارية قد هجرته وهجرها فلعز الحسن والجمال تصالحه والمتوكل لعزة الخلافة والملك لا يصالحها ولا يكسر نفسه لها مع أن في قلبه منها لهيب النار ولكنه تشاغل عنها بنظائرها من الجواري والدخول إليهن في حجراتهن، وكان يحب غناء شجرة الدر فأمرها بالغناء وتناولت العود وشدت الأوتار وغنت بهذه الأشعار:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينهـا                    فلما انقضى ما بيننا سكن الدهـر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى                   وزرتك حتى قيل ليس له صبـر
فيا حبها زدني جـوىً كـل لـيلةٍ            ويا سلوة الأيام موعدك الحشـر
لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ             رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فـكـانـتـا              فعولان بالألباب ما يفعل السحـر
فلما سمعها الخليفة طرب طرباً شديداً وطربت أنا يا أمير المؤمنين في السرداب، ولولا لطف الله تعالى لصحت وافتضحنا، ثم أنشدت هذه الأبيات:
أعانقه والنفس بعـد مـشـوقةٌ              إليه وهل بعد العنـاق تـدانـي
وألثم فاه كي تزول حـرارتـي              فيشتد ما ألقى من الـهـيمـان
كأن فؤادي ليس يبري غلـيلـه             سوى أن ترى الروحان يمتزجان

فطرب الخليفة وقال: تمني عليَّ يا شجرة الدر فقالت: أتمنى عليك عتقي يا أمير المؤمنين لما فيه الثواب فقال: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى فقبلت الأرض بين يديه فقال: خذي العود وقولي لنا شيئاً في شأن جاريتي التي أنا متعلقٌ بهواها والناس تطلب رضاي وأنا أطلب رضاها، فأخذت العود وأنشدت هذين البيتين:
أيا ربة الحسن التي اذهبت نسكي                   على كل أحوالي فلا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بـالـهـوى              وأما بعزٍ وهو أليق بالـمـلـك

فطرب الخليفة وقال: خذي العود وغني شهراً يتضمن شرح حال مع ثلاث جوار ملكن قيادي ومنعن رقادي وهن: أنت وتلك الجارية أهاجرة وأخرى لا أسميها لها مناظرة، فأخذت العود، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:
ملك الثلاث الغانيات عنانـي                 وحللن من قلبي أعز مكـان
ما لي مطاوع في البرية كلها              وأطيعن وهو في عصيانـي
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى               وبه غلبن أعز من سلطاني

فتعجب الخليفة من موافقة هذا الشعر لحاله غاية العجب ومال به إلى مصالحة الجارية الهاجرة الطرب ثم خرج وقصد حجرتها فسبقته جاريةٌ وأخبرتها بقدوم الخليفة فأستقبلته وقبلت الأرض بين يده ثم قبلت قدميه فصالحها وصالحته. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر شجرة الدر فأنها جاءت إلي وهي فرحانةٌ وقالت: أني صرت حرةً بقدومك المبارك ولعل الله يعينني على ما أدبره حتى اجتمع بك في الحلال فقلت: الحمد لله.
فبينما نحن في الحديث وإذا بخادمها قد دخل علينا فحدثناه بما جرى لنا فقال: الحمد لله الذي جعل آخره خيراً ونسأل الله أن يتم ذلك بخروجك سالماً فبينما نحن في الحديث وإذا بالجارية أختها وقد جاءت وكان اسمها فاتر فقالت: يا أختي كيف نعمل حتى نخرجه من القصر سالماً فأن الله تعالى منَّ علي بالعتق وصرت حرةً ببركة قدومه فقالت لها: ليس لي حيلةٌ في خروجه إلا بأن ألبسه ثياب النساء ثم جاءت ببدلةٍ من ثياب النساء فألبستني إياها ثم خرجت يا أمير المؤمنين في ذلك الوقت فلما جئت إلى وسط القصر إذا بأمير المؤمنين جالسٌ والخدم بين يديه فنظر إلي وأنكرني غاية الإنكار وقال لحاشيته: اسرعوا ائتوني بهذه الجارية فلما أتوا بي رفعوا نقابي فلما رآني عرفني وسألني فأخبرته بالخبر ولم أخف عليه شيئاً فلما سمع حديثي تفكر في أمري ثم قام من وقته وساعته ودخل حجرة شجرة الدر فقال: كيف تختارين علي بعض أولاد التجار? فقلبت الأرض بين يديه وحدثته بحديثها من أوله إلى آخره على وجه ثم انصرف ودخل عليها خادمها وقال: طيبي نفساً أن صاحبك لما حضر بين يدي الخليفة سأله فأخبره كما أخبرته حرفاً بحرفٍ ثم رجع الخليفة وأحضرني بين يديه وقال: ما حملك على التجارة على دار الخلافة? فقلت: يا أمير المؤمنين حملني على ذلك جهلي والصبابة والإقبال على عفوك وكرمك ثم بكيت وقلبت الأرض بين يديه فقال: عفوت عنكما ثم أمرني بالجلوس فجلست فدعا بالقاضي أحمد ابن أبي داؤد وزوجني بها وأمر بحمل جميع ما عندها إلي وزفوها علي في حجرتها.
وبعد ثلاثة أيامٍ خرجت ولقيت جميع ذلك إلى بيتي فجميع ما تنظره يا أمير المؤمنين في بيتي وتنكره كله من جهازها ثم أنها قالت لي يوماً من الأيام: اعلم أن المتوكل رجلٌ كريمٌ وأخاف أن يتذكرنا أو يذكرنا عنده أحدٌ من الحساد فأريد أن أعمل شيئاً يكون فيه الخلاص من ذلك قلت: وما هو? قالت: أريد أن استأذنه في الحج والتوبة من الغناء فقلت لها: نعم الرأي الذي أشرت إليه فبينما نحن في الحديث وإذا برسول الخليفة قد جاء في طلبها لأنه كان يحب غناءها فمضت وخدمته فقال لها: لا تنقطعي عنا فقالت سمعاً وطاعةً فاتفق أنها ذهبت إليه في بعض الأيام وكان قد أرسل إليها على جري العادة فلم أشعر إلا وقد جاءت من عنده ممزقة الثياب باكية العين ففزعت من ذلك، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون وتوهمت أنه أمر بالقبض علينا فقلت لها: هل المتوكل غضب علينا? فقالت: وأين المتوكل? أن المتوكل قد انقضى حكمه وانحى رسمه فقلت: أخبريني بحقيقة الأمر فقالت له: أنه كان جالساً خلف الستارة يشرب وعنده الفتح بن خافان وصدقة بن صدقة فهجم عليه ولده المنتصر هو وجماعته من الأتراك فقتله وانقلب السرور بالشرور والخد الجميل بالبكاء والعويل فهربت أنا والجارية وسلمنا الله.
ثم قمت في الحال يا أمير المؤمنين وانحدرت إلى البصرة وجاءني الخبر بعد ذلك بوقوع فتنةٍ بين المنتصر والمستعين فخفت ونقلت زوجتي وجميع مالي إلى البصرة. وهذه حكايتي يا أمير المؤمنين لا زدتها حرفاً ولا نقصتها حرفاً فجميع ما نظرته في بيتي يا أمير المؤمنين مما عليه اسم جدك المتوكل هو من نعمته علينا لأن أصل نعمتنا من أصول الأكرمين وأنتم أهل النعم ومعدن الكرم ففرح الخليفة بذلك فرحاً عظيماً وتعجب من حديثه ثم أخرجت للخليفة الجارية وأولادي منها فقبلوا الأرض بين يديه فتعجب من جمالها واستدعى بدواة وقرطاس وكتب لنا برفع الخراج من أملاكنا عشرين سنةً ثم خرج الخليفة واتخذه نديماً إلى أن فرق الدهر بينهم وسكنوا القبور بعد القصور وسبحان الملك الغفور.

حكاية قمر الزمان مع معشوقته

ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان رجلٌ تاجرٌ اسمه عبد الرحمن قد رزقه الله بنتاً وولداً فسمى البنت كوكب الصباح لشدة حسنها وجمالها وسمى الولد قمر الزمان لشدة حسنه ولما نظر ما أعطاهما الله من الحسن والجمال والبهاء والاعتدال خاف عليهما من أعين الناظرين وألسنة الحاسدين ومكر الماكرين وتحيل الفاسقين فحجبهما عن الناس في قصرٍ مدة أربعة عشر سنةً ولم يرهما أحدٌ غير والديهما وجاريةٌ تتعاطى خدمتهما وكان والدهما يقرأ القرآن كما أنزله الله وكذلك أمهما تقرأ القرآن فصارت الأم تقريئ ابنتها والرجل يقرئ ولده حتى حفظا القرآن وتعلما الخط والحساب والفنون والآداب من والديهما ولم يحتاجا إلى معلمٍ فلما بلغ الولد مبلغ الرجال قالت المرأة لزوجها التاجر: إلى متى وأنت حاجب ولدك قمر الزمان عن أعين الناس? أهو بنتٌ أم غلامٌ? فقال لها: غلامٌ، قالت: حيث كان غلاماً لم لا تأخذه معك إلى السوق وتقعده في الدكان حتى يعرف الناس ويعرفوه لأجل أن يشتهر عندهم أنه ابنك وتعلمه البيع والشراء وربما يحصل لك أمر فيكون الناس قد عرفوا أنه ولدك فيضم يده على مخلفاتك وأما إذا مت على هذه الحالة وقال للناس أنا ابن التاجر عبد الرحمن فأنهم لا يصدقونه بل يقولون: ما رأيناك ولا نعرف أن له ولداً وتأخذ أموالك الحكام ويصير ولدك محروماً وكذلك البنت، مرادي أن أشهرها عند الناس لعل أحداً يكون كفؤاً لها يخطبها فنزوجها له ونفرح بها فقال لها: إنما فعلت ذلك مخافةً عليهما من أعين الناس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زوجة التاجر لما قالت له ذلك الكلام قال لها: إنما فعلت ذلك مخافةً عليهما من أعين الناس لأني محبٌ لهما والمحب شديد الغيرات وقد أحسن قول من قال هذه الأبيات:
أغار عليك من نظري ومني                ومنك ومن مكانك والزمان
ولو أني وضعتك في عيوني               دوماً ما سئمت من التداني
ولو واصلتني في كـل يومٍ                 إلى يوم القيامة ما كفانـي

فقالت له زوجته: توكل على الله ولا بأس على من يحفظه الله وخذه في هذا اليوم معك إلى الدكان ثم أنها ألبسته بدلةً من أفخر الملابس فصار فتنةً للناظرين وحسرةً في قلوب العاشقين وأخذه أبوه معه ومضى به إلى السوق فصار كل من رآه يفتتن به ويتقدم إليه ويبوس يده ويسلم عليه وصار أبوه يشتم الناس حيث يتبعنه لقصد الفرجة وصار البعض من الناس يقول: أن الشمس قد طلعت في المحل الفلاني وأشرقت في السوق، والبعض يقول: مطلع البدر في الجهة الفلانية والبعض يقول: ظهر هلال العيد على عباد الله وصاروا يلمحون إلى الولد بالكلام ويدعون له وقد حصل لأبيه خجلٌ من كلام الناس ولا يقدر أن يمنع أحداً منهم عن الكلام وصار يشتم أمه ويدعو عليها لأنها هي التي كانت سبباً في خروجه والتفت أبوه فرأى الخلائق مزدحمين عليه خلفه وقدامه وهو ماشٍ إلى أن وصل إلى الدكان ففتح الدكان وجلس وأجلس ولده قدامه والتفت إلى الناس فرآهم قد سدوا الطريق وصار كل من مر به من رائحٍ وغادٍ يقف قدام الدكان وينظر إلى ذاك الوجه الجميل ولا يقدر أن يفارقه وانعقد عليه اجماع النساء والرجال متمثلين بقول من قال:
خلقت الجمال لنا فـتـنةً            وقلت لنا يا عبدي أتقون
وأنت جميلٌ تحب الجمال                   فكيف عبادك لا يعشقون

فلما رأى التاجر عبد الرحمن الناس مزدحمين عليه وواقفين صفوفاً نساءً ورجالاً لديه شاخصين لولده خجل غاية الخجل وصار متحيراً في أمره ولم يدر ماذا يصنع فلم يشعر إلا ورجلٌ درويشٌ من السياحين وعليه شعار عباد الله الصالحين وقد أقبل عليه من طرف الشوق ثم تقدم إليه التاجر وصار ينشد الأشعار ويرخي الدموع الغزار فلما رأى قمر الزمان كأنه قضيب البان نابتٌ على قضيبٍ من الزعفران أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
رأيت غصناً على كئيب           شبيه بـدرٍ إذا تـلألأ
فقلت ما الاسم قال لولو           فقلت لي لي فقال لا لا
ثم أن الدرويش صار يمشي الهوينا ويمسح شيبته بيده اليمنى فانشق لهيبته قلب الرخام، فلما نظر إلى الغلام اندهش منه العقل والنظر وانطبق عليه قول الشاعر:
فبينما ذاك المليح فـي مـحـلٍ               من وجهه هلال عيد الفطر هل
إذا بشيخٍ ذي وقـار قـد أهـل               معتمداً في مشيه على مـهـل
يرى عـلـيه أثـر الـزهـد
قد مارس الأيام والليالي                    وخاض في الحرام والـحـلال
وهام بالـنـسـاء والـرجـال                  ورق حتى صار كـالـحـلال
وعاد عظماً بالباقـي جـلـد
وكان في ذا الفن مغربياً                    الشـيخ عـنـده يرى صـبـيا
وفي محبة الـنـسـاء عـذرياً                في الخصلتين مـاهـراً عـويا
فزينـب لـديه مـثــل زيد
يهيم بالحسنا ويهوى الحسنا              ويندب الربع ويبكي الـدمـنـا
تخاله من فرط شوقٍ غصـنـا              مع الصبا إلى هناك أو هـنـا
إن الجمود من طباع الصـلـد
وكان في فن الهوى خبيراً                 مستيقظاً في أمـره بـصـيرا
وجاب منه السهل والعـسـيرا              وعانق الظـبـية والـغـريرا
وهام بالشيب معاً والـمـراد

ثم تقدم إلى الولد وأعطاه عرق ريحانٍ فمد أبوه يده إلى جيبه وأخرج له ما تيسر من الدراهم وقال: خذ نصيبك يا درويش واذهب إلى حال سبيلك فأخذ منه الدرويش الدراهم وجلس على مصطبة الدكان قدام الولد وصار ينظر إليه ويبكي ويتحسر حسراتٍ متتابعةٍ ودموعه كالعيون النابعة فصارت الناس تنظر إليه وتعترض عليه وبعضهم يقول: كل الدراويش فساق وبعضهم يقول: أن الدرويش في قلبه من عشق الولد احتراق، وأما أبوه فأنه لما عاين هذا الحال قام وقال: قم يا ولدي حتى نقفل الدكان ونروح إلى بيتنا ولا ينبغي لنا في هذا اليوم بيعٌ ولا شراءٌ الله تعالى يجازي أمك بما فعلت معنا فأنها هي التي تسببت في هذا كله، ثم قال: يا درويش قم حتى أقفل الدكان، فقام الدرويش وقفل التاجر دكانه وأخذ ولده ومشى فتبعهما الدرويش والناس إلى أن وصلا إلى منزلهما فدخل الولد المنزل والتفت التاجر إلى درويش وقال له: ما تريد يا درويش? وما لي أراك تبكي? فقال: يا سيدي أريد أن أكون ضيفك في هذه الليلة والضيف ضيف الله تعالى فقال التاجر: مرحباً بضيف الله ادخل يا درويش.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الدرويش لما قال للتاجر والد قمر الزمان: أنا ضيف الله قال التاجر: مرحباً بضيف الله، أدخل يا درويش وقال التاجر في نفسه: إذا كان هذا الدرويش عاشقاً للولد وطلب منه فاحشةً فلا بد أن أقتله في هذه الليلة وأخفي قبره وأن كان ما عنده فسادٌ فإن الضيف يأكل نصيبه.
ثم أنه أدخل الدرويش هو وقمر الزمان قاعةً وقال لابنه قمر الزمان: سر يا ولدي واجلس بجانب الدرويش وناغشه ولاعبه بعد أن أخرج من عندكما فأن طلب منك فساداً فأنا أكون ناظراً لكما من الطاقة المطلة على القاعة فأنزل إليه وأقتله، ثم أن الولد لما اختلى به درويش في تلك القاعة وقعد بجانبه فصار الدرويش ينظر إليه ويتحسن ويبكي وإذا كلمه الولد يرد عليه برفقٍ وهو يرتعش ويلتفت إلى الولد ويتنهد ويبكي إلى أن أتى العشاء فصار يأكل وعينه على الولد ولا يفتر عن البكاء فلما مضى ربع الليل وفرغ الحديث وجاء وقت النوم قال أبو الولد: يا ولدي تقيد بخدمة عمك الدرويش ولا تخالفه وأراد أن يخرج فقال له الدرويش: يا سيدي خذ ولدك معك أو نم عندنا، قال: لا ها هو ولدي نائماً عندك ربما تشتهي نفسك شيئاً فولدي يقضي حاجتك ويقوم بخدمتك، ثم خرج وخلاهما وقعد في قاعةٍ ثانيةٍ فيها طاقةٌ تطل على القاعة التي هما فيها هذا ما كان من أمر التاجر.
وأما ما كان من أمر الولد فأنه تقدم إلى الدرويش وصار يناغشه ويعرض عليه نفسه فاغتاظ الدرويش وقال له: ما هذا الكلام يا ولدي? أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اللهم أن هذا منكراً لا يرضيك أبعد عني يا ولدي ثم قام الدرويش من مكانه وقعد بعيداً عن الولد فتبعه الولد ورمى روحه عليه وقال له: لأي شيءٍ يا درويش تحرم نفسك من لذة وصالي وأنا قلبي يحبك? فازداد غيظ الدرويش وقال له: أن لم تمتنع عني ناديت أباك وأخبرته بخبرك فقال له: أن أبي يعرف أنني بهذه الصفة ولا يمكن أن يمنعني ولا جبر بخاطري لأي شيء تمتنع عني أما أعجبتك? فقال له: والله يا ولدي ما أفعل ذلك ولو قطعت بالسيوف البواتر وأنشد قول الشاعر:
أن قلبي يهوى الملاح ذكوراً               وأناثاً ولست بالمـتـوانـي
بل أراهم أصائلاً وبـكـوراً                  لم أكن لائطاً ولا أنا زانـي

ثم بكى وقال: قم افتح لي الباب حتى أروح إلى سبيلي أنا ما بقيت أنام في هذا المكان ثم قام على قدميه فتعلق به الولد وصار يقول له: انظر لاشراق وجهي وحمرة خدي ولين معاطفي ورقة شفائفي، ثم كشف له عن ساق يخجل الخمر والسلقي ورنا إليه بلحظٍ يعجز السحر والراقي وكان بديع الجمال كثير الدلال كما قال فيه بعض من قال:
لم أنسه مذ قام يكشف عامداً              عن ساقه كاللؤلؤ الـبـراق
لا تعجبوا من أن تقوم قيامتي              إن القيامة يوم كشف الساقي

ثم بين له الغلام صدره وصار يقول له: انظر إلى نهودي فأنها أحسن من نهود البنات وريقي أحلى من السكر النبات فدع الورع والزهادة وخلنا وعليك الأمان من الردى وأترك هذه البلاد فأنها بئست العادة وصارت يريه ما خفي من محاسنه ويبديه ويثني عنان عقله والدرويش لم يلتفت إليه ويخفي وجهه ويقول: أعوذ بالله استح يا ولدي أن هذا الشيء حرامٌ لا أفعله ولا في من النسك والعبادة واغتنم وصالي وتمل بجمالي ولا تخف من الشيء أبدا المنام فشدد عليه الغلام فأنفلت الدرويش وأستقبل القبلة وصار يصلي.
فلما رآه تركه حتى صلى ركعتين وسلم وأراد أن يتقدم إليه فنوى الصلاة مرةً ثانيةً وصلى ركعتين ولم يزل يفعل هكذا ثالثاً ورابعاً وخامساً فقال له الولد: وما هذه الصلاة? هل مرادك أن تطير إلى السحاب أضعت حظنا وأنت طول الليل في المحراب ثم أن الغلام ارتمى عليه وصار يبوسه بين عينيه فقال له: يا ولدي أخز عنك الشيطان وعليك بطاعة الرحمن فقال له: أن لم تفعل بي ما أريد أنادي أبي وأقول له: أن الدرويش يريد أن يفعل بي الفاحشة فيدخل عليك ويضربك حتى يكسر عظمك على لحمك، كل هذا وأبوه ينظر بعينيه ويسمع بأذنيه فثبت عند أبا الولد أن الدرويش ما عنده فساد وقال في نفسه: لو كان هذا الدرويش مفسداً ما كان يتحمل هذه المشقة كلها.
ثم أن الولد صار يحاول الدرويش ولكما نوى الصلاة قطعها عليه حتى اغتاظ الدرويش غاية الغيظ على الولد وضربه فبكى الولد فدخل عليه أبوه ومسح دموعه وأخذ بخاطره وقال للدرويش: يا أخي حيث أنك على هذه الحالة لأي شيءٍ تبكي وتتحسر حين رأيت ولدي? فهل لهذا من سبب? فقال له الدرويش: نعم أنا لما رأيتك تبكي عند رؤيته ظننت فيك السوء، فأمرت الولد بهذا الأمر حتى أجربك واضمرت أني إذا رأيتك تطلب منه فاحشةً أدخل عليك وأقتلك فلما رأيتك ما وقع منك عرفت أنك من الصلاح على غايةٍ ولكن بالله عليك أن تخبرني بسبب بكائك، فتنهد الدرويش وقال له: يا سيدي لا تحرك علي ساكن الجراح فقال: لا بد أن تخبرني فقال له: اعلم أنني درويشٌ سياحٌ في البلاد والأقطار لاعتبر بآثار خالق الليل والنهار فاتفق أنني دخلت مدينة البصرة في يوم جمعة ضحوة النهار فرأيت الدكاكين مفتوحةً وفيها من سائر الأصناف والبضائع والمأكول والمشروب وهي خاليةٌ ليس فيها رجلٌ ولا امرأةٌ ولا بنتٌ ولا ولدٌ وليس في الشوارع كلابٌ ولا قططٌ ولا حس حسيسٍ ولا أنس أنيسٍ، فتعجبت من ذلك وقلت: يا ترى أين راح أهل هذه المدينة بقططهم وكلابهم? وما فعل الله بهم? وكنت جائعاً فأخذت عيشاً سخناً من فرن خبازٍ ودخلت دكان زيات وبسست العيش بالسمن والعسل وأكلت وطلعت دكان شرباتٍ فشربت ما أدرت، ورأيت القهوة مفتوحةً فدخلتها ورأيت فيها البكارج على النار ممتلئةً بالقهوة، وليس فيها أحدٌ فشربت كفايتي وقلت: أن هذا الشيء عجيبٌ كأن أهل هذه المدينة أتاهم الموت فماتوا كلهم في هذه الساعة أو خافوا من شيءٍ نزل بهم فهربوا وما قدروا أن يقفلوا دكاكينهم.
فبينما أنا أفكر في هذا الأمر وإذا بصوت نوبةٍ تدق فخفت واختفيت حصةً من الزمان، وصرت أنظر من خلال الخروق فرأيت جوارٍ كأنهن الأقمار قد مشين في السوق زوجاً من غير غطاءٍ بل مكشوفات الوجوه ومن أربعون زوجاً بثمانين جاريةٍ ورأيت وليدةً راكبةً على جوادٍ لا يقدر أن ينقل أقدامه مما عليه وعليها من الذهب والفضة والجواهر وتلك الوليدة مكشوفة الوجه من غير غطاءٍ وهي مزينةٌ بأفخر الزينة ولابسةً أفخر الملبوس وفي عنقها عقدٌ من الجوهر وفي صدرها قلائدٌ من الذهب وفي يديها أساورٌ تضيء كالنجوم وفي رجليها خلاخلٌ من الذهب مرصعةٌ بالمعادن والجواري قدامها وخلفها وعن يمينها وشمالها وبين يديها جاريةٌ مقلدةٌ بسيفٍ عظيمٍ قبضته زمردٌ وعلائقه من ذهبٍ مرصعٍ بالجواهر.
فلما وصلت تلك الصبية إلى الجهة التي قدامي حبست عنان الجواد وقالت: يا بناتي قد سمعت حس شيءٍ في داخل الدكان ففتشنه لئلا يكون فيه أحدٌ مستخف ومراده يتفرج علينا ونحن مكشوفات الوجوه ففتشن الدكان الذي قدام القهوة التي أنا مستخفٌ فيها وبقيت أنا خائفاً فرأيتهن قد خرجن برجل وقلن لها: يا سيدتنا قد رأينا هنا رجل وها هو بين يديك فقالت للجارية التي معها السيف: أرمي عنقه فتقدمت إليه الجارية وضربت عنقه، ثم تركته مطروحاً على الأرض ومضين ففزعت أنا لما رأيت هذه الحالة ولكن تعلق قلبي بعشق الصبية وبعد ساعةٍ ظهر الناس وصار كل من له دكان يدخلها ودرجت الناس في الأسواق والتموا على المقتول يتفرجون عليه فخرجت أنا من المكان الذي كنت فيه سراً ولم ينتبه لي أحداً ولكن تمالك قلبي عشق تلك الصبية فصرت أتجسس عليها سراً فلم يخبرني أحدٌ عنها بخبرٍ، ثم أني خرجت من البصرة وفي قلبي من عشقها حسرةٌ فلما رأيت ابنك هذا رأيته أشبه الناس بتلك الصبية فذكرني بها وهيج علي نار الغرام وأضرم لهيب الهيام وهذا سبب بكائي، ثم أنه بكى بكاءً شديداً ما عليه من مزيدٍ وقال له: يا سيدي بالله عليك أن تفتح لي الباب حتى أروح إلى حال سبيلي ففتح له الباب فخرج. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه لما سمع كلام الدرويش اشتغل باله بعشق تلك الصبية وتمكن منه الغرام وهاج به الوجد والهيام، فلما أصبح الصباح قال لأبيه: كل أولاد التجار يسافرون البلاد لتحصيل المراد وليس منهم واحدٌ إلا وأبوه يجهز له بضاعةً فيسافر بها ويربح فيها ولاي شيءٍ يا أبي لم تجهز لي تجارة حتى أسافر بها وأنظر سعدي? فقال له: يا ولدي أن التجار مقلون من المال فيسفرون أولادهم لأجل الفوائد والمكاسب وجلب الدنيا، وأما أنا فعندي أموالٌ كثيرةٌ وليس عندي طمعٌ فكيف أغربك وأنا لا أقدر على فراقك ساعةً خصوصاً وأنت فريدٌ في الجمال والحسن والكمال، وأخاف عليك فقال له: يا أبي لا يمكن إلا أن تجهز لي متجراً لأسافر به وإلا أغافلك وأهرب ولو كان من غير مالٍ ولا تجارةٍ وأن أردت تطيب خاطري فجهز لي بضاعةً حتى أسافر وأتفرج على بلاد الناس فلما رآه أبوه متعلقاً بالسفر أخبر زوجته بهذا الخبر وقال له: أن ولدك يريد أن أجهز له متجراً ليسافر به إلى بلاد الغربة كربة فقالت له زوجته: ماذا يضرك من ذلك? أن هذه عادة أولاد التجار فكلهم يتفاخرون بالأسفار والمكاسب فقال له: إن غالب التجار فقراء يطلبون كثرة الأموال وأما أنا فمالي كثيرٌ فقالت له: زيادة الخير لا تضر وأن كنت أنت لا تسمح له بذلك فأنا أجهز له متجراً من مالي، فقال التاجر: أني أخاف من الغربة لأنها بئست الكربة، قالت: لا بأس بالإغتراب الذي فيه الإكتساب ولا يذهب ولدنا ونطلبه فلا نراه ونفتضح بين الناس فقبل التاجر كلام زوجته وجهز متجراً للولد بتسعين ألف دينارٍ وأعطته أمه كيساً فيه أربعون فصاً من ثمين الجواهر أقل قيمة الواحد خمسمائة دينارٍ، وقالت: يا ولدي احتفظ بالجواهر فأنها تنفعك فأخذ قمر الزمان جميع ذلك وسافر إلى البصرة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أخذ جميع ذلك وسافر إلى البصرة وكان قد وضع الجواهر في كمرٍ وشده على وسطه ولم يزل مسافراً حتى لم يبق بينه وبين البصرة إلا مرحلةً واحدةً فخرج عليه العرب وعروه وقتلوا رجاله وخدمه فرقد بين قتيلين ولطخ روحه بالدم فظن العرب أنه مقتول فتركوه ولم يتقرب منه أحدٌ، ثم أخذوا أمواله وراحوا فلما راح العرب إلى حال سبيلهم قام قمر الزمان من بين القتلى ومشى وهو لا يملك شيئاً غير الفصوص التي على حزامه ولم يزل سائراً حتى دخل البصرة فاتفق أن دخوله كان في يوم جمعةٍ وكانت المدينة خاليةً من الناس كما أخبر الدرويش فرأى الأسواق خاليةً والدكاكين مفتوحةً وهي ممتلئةً بالبضائع فأكل وشرب وصار يتفرج.
فبينما هو كذلك إذ سمع النوبة تدق فاختفى في دكانٍ إلى أن جاءت البنات فتفرج عليهن ولما رأى الصبية أخذه العشق والغرام وملكه الوجد والهيام حتى لا يستطيع القيام وبعد حصةٍ من الزمان ظهرت الناس وملأت الأسواق فذهب إلى السوق وتوجه إلى رجلٍ جوهري وأخرج له حجراً من الأربعين يساوي ألف دينارٍ فباعه له ورجع إلى محله، ثم باع أربعة فصوصٍ بأربعة ألاف دينارٍ وصار يتفرج في شوارع البصرة وهو لابسٌ أفخر الملابس حتى وصل إلى سوقٍ فرأى فيه رجلاً مزيناً فدخل عنده وحلق رأسه وعمل معه صاحبه ثم قال له: يا ولدي أنا غريب عن البلاد وبالأمس دخلت هذه المدينة فرأيتها خاليةً من السكان وما فيها أحدٌ من أنسٍ ولا جانٍ ثم أني رأيت بنات بينهن صبيةً راكبةً في موكبٍ وأخبره بما رآه فقال له: يا ولدي هل أخبرت غيري بهذا الخبر? قال: لا، فقال له: يا ولدي إياك أن تذكر هذا الكلام قدام أحد غيري فأن كل الناس لا يكتمون الكلام والأسرار وأنت ولدٌ صغيرٌ فأخاف عليك أن ينقل الكلام من ناسٍ إلى ناسٍ، حتى يصل إلى أصحابه فيقتلونك.
وأعلم يا ولدي أن هذا الذي رأيته ما أحدٌ رآه ولا يعرفه في غير هذه المدينة وأما أهل البصرة فإنهم يموتون بهذه الحسرة وفي كل يوم جمعةٍ عند ضحوة النهار يحبسون الكلاب والقطط ويمنعونها عن المشي في صأأالأسواق وجميع أهل المدينة يدخلون الجوامع ويغلقون عليهم الأبواب ولا يقدر واحداً منهم أن يمر في السوق ولا أن يطل من طاقةٍ ولا يعرف أحدٌ ما سبب هذه البلية ولكن يا ولدي في هذه الليلة اسأل زوجتي عن سببها فأنها دايةٌ تدخل بيوت الأكابر وتعرف أخبار هذه المدينة فأن شاء الله تعالى تأتي عندي في الغد وأنا أخبرك بما تخبرني به فكبش كبشة وقال له: يا والدي خذ هذا الذهب وأعطه لزوجتك فأنها صارت أمي وكبش كبشةً ثانيةً وقال: خذ هذا لك، فقال المزين: يا ولدي اجلس مكانك حتى أروح إلى زوجتي واسألها وأجيء إليك بالخبر الصحيح، ثم تركه في الدكان وراح إلى زوجته وأخبرها بشأن الغلام وقال له: مرادي أن تخبريني بحقيقة أمر هذه المدينة حتى أخبر بها هذا الشاب التاجر فأنه متولعٌ بالإطلاع على حقيقة أمرها وامتناع الناس والحيوانات عن الأسواق في ضحوة يوم الجمعة وأظن أنه عاشقٌ وهو كريمٌ سخيٌ فإذا أخبرناه يحصل لنا منه خيرٌ كثيرٌ.
فقالت له: رح هاته وقل له: تعال كلم أمك زوجتي فأنها تقرئك السلام وتقول لك: إن الحاجة مقضيةٌ فذهب إلى الدكان فرأى قمر الزمان قاعدٌ النظرة فأخبره بالخبر وقال له: يا ولدي اذهب بنا إلى أمك زوجتي فأنها تقول لك: أن الحاجة مقتضيةٌ، ثم أخذه وسار به حتى دخل على زوجته فرحبت به وأجلسته ثم أنه أخرج مائة دينارٍ وأعطاها لها وقال لها: يا أمي أخبريني عن هذه الصبية من تكون? فقالت: يا ولدي أعلم أن سلطان البصرة قد جاءته الجوهرة من عند ملك الهند فأراد أن يثقبها فأحضر جميع الجواهرجية وقال لهم: أريد منكم أن تثقبوا لي هذه الجوهرة والذي يثقبها له علي تمنيةً فمهما تمناه أعطيته له وأن كسرها فأني أرمي رأسه فخافوا وقالوا: يا ملك الزمان أن الجواهر سريع العطب وقل أن يثقبه أحد ويسلم لأن الغالب عليه الكسر فلا تحملنا ما لا نطيق فنحن لا يخرج من أيدينا أن نثقب هذه الجوهرة وإنما شيخنا أخبر منا فقال للملك: ومن شيخكم? قالوا له: المعلم عبيد وهو أخبر منا بهذه الصناعة، وعنده أموالٌ كثيرةٌ وله معرفةٌ جيدةٌ، فأرسل إليه وأحضره بين يديك وأأمره أن يثقب لك هذه الجوهرة فأرسل إليه وأمره بثقبها وشرط عليه الشرط المذكور فأخذها وثقبها على مزاج الملك فقال: تمن علي يا معلم.
فقال: يا ملك الزمان أمهلني إلى الغد والسبب في ذلك أنه أراد أن يشاور زوجته وكانت زوجته تلك الصبية التي رأيتها في الموكب وكان يحبها محبةً عظيمةً ومن عظم محبته لها أنه كان لا يفعل شيئاً إلا إذا شاورها فيه ولأجل ذلك أمهل التمنية حتى يشاورها فلما أتى إليها قال لها: أنا ثقبت للملك جوهرةً وأعطاني تمنيةً وقد أمهلته حتى أشاورك فأي شيءٍ تريدين حتى أتمنى? قالت: نحن عندنا أموالٌ لا تأكلها النيران ولكن أن كنت تحبني فتمنى على الملك أنه ينادي في شوارع البصرة فأن أهلها يدخلون الجوامع يوم الجمعة قبل الصلاة بساعتين ولا يبقى في البلد كبيرٌ ولا صغيرٌ إلا ويكون في المسجد أو في البيت وتقفل عليهم أبواب المساجد والبيوت ويتركون دكاكين البلد مفتوحةً وأركب بجواري وأشق في المدينة ولا ينظرني أحدٌ من طاقةٍ ولا من شباكٍ وكل من عثرت به قتلته. فراح إلى الملك وتمنى عليه هذه الأمنية فأعطاه ما تمناه ونادى بين أهل البصرة بما تمناه فقالوا: أننا نخاف على البضائع من القطط والكلاب فأمر الملك بحبسها في ذلك اليوم حتى تخرج الناس من صلاة الجمعة وصارت تلك الجارية تخرج في كل يوم جمعةٍ قبل الصلاة بساعتين وتركب بجواربها في شوارع البصرة ولا يقدر أحدٌ أن يمر في السوق ولا أن يطل من طاقةٍ ولا من شباكٍ فهذا هو السبب وقد عرفتك بالجارية ولكن يا ولدي هل مرادك معرفة خبرها أو مرادك الاجتماع بها? فقال: يا أمي مرادي الاجتماع بها، فقالت: أخبرني بما عندك من الذخائر الفاخرة فقال: يا أمي عندي من ثمين المعادن أربعة أصنافٍ صنف ثمن كل منه خمسمائة دينارٍ وصنف ثمن كل واحدٍ منه سبعمائة دينارٍ وصنف ثمن كل واحدٍ منه ثمانمائة دينارٍ وصنف كل واحدٍ منه ألف دينارٍ، قالت له: تسمح نفسك بأربعة منهم? قال: نفسي تسمح بالجميع فقالت: قم يا ولدي من غير مطرود وأخرج فصاً منها يكون ثمنه خمسمائة دينارٍ واسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجواهرجية واذهب إليه تراه جالساً في دكانه وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وتحت يده الصناع فسلم عليه وأجلس في الدكان وأخرج الفص وقل له: يا معلم خذ هذا الحجر واصنع لي خاتماً بالذهب ولا تجعله كبيراً بل أجعله على قدر مثقالٍ من غير زيادةٍ وأصنعه صنعاً جيداً ثم أعطه عشرين ديناراً وأعط الصناع كل واحدٍ ديناراً وأقعد عنده حصةً وتحدث معه وإذا أتاك سائلٌ فأعطه ديناراً وأظهر الكرم حتى يتولع بمحبتك ثم قم من عنده ورح إلى منزلك وبت هناك فإذا أصبحت فهات معك مائة دينارٍ وأعطها لأبيك فأنه فقير الحال قال: وهو كذلك، ثم خرج من عنده وذهب إلى الوكالة وأخذ فصاً ثمنه خمسمائة دينار وعمد به إلى سوق الجواهر وسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجوهرية فدلوه على دكانه فلما وصل إلى الدكان رأى شيخ الجوهرية رجلاً مهاباً وعليه ثيابٌ فاخرةٌ وتحت يده أربعة صناعٍ فقال لهم: السلام عليكم فرد عليه السلام ورحب به وأجلسه فلما جلس أخرج له الفص وقال له: يا معلم أريد منك أن تصوغ لي هذا الحجر خاتماً بالذهب ولكن اجعله على قدر مثقالٍ من غير زيادةٍ وصغه صياغةً طيبةً ثم أخرج له عشرين ديناراً وقال له: خذ هذه في نظير نقشه الأجرة باقيةٌ ثم أعطى كل صانع ديناراً فأحبه الصناع وأحبه المعلم عبيد وقعد يتحدث معه وصار كل من أتاه من السائلين يعطيه ديناراً فتعجبوا من كرمه ثم أن المعلم عبيد كان عنده عدةً في بيته مثل العدة التي في الدكان وكان من عادته أنه إذا أراد أن يصنع شيئاً غريباً يشتغله في بيته حتى أن الصناع لا يتعلمون منه الصنعة الغريبة وكانت الصبية زوجته تجلس قدامه فإذا كانت قدامه ونظر إليها يصنع لك شيءٌ غريبٌ صناعته بحيث لا يليق إلا بالملوك فقعد يصنع هذا الخاتم صنعةً عجيبةً في البيت فلما رأته زوجته قالت: ما مرادك أن تصنع بهذا الفص? قال: أريد أن أصوغه خاتماً بالذهب فأن ثمنه خمسمائة دينارٍ فقالت له: لمن? قال: لغلامٍ تاجرٍ جميل الصورة له عيونٌ تجرح وخدودٌ تقدح وله فمٌ كخاتم سيدنا سليمان ووجنتان كشقائق النعمان وشفائف حمرٍ كالمرجان وله عنقٌ مثل أعناق الغزلان وهو أبيضٌ مشربٌ بحمرة ظريفٍ، لطيفٍ، كريمٍ فعل كذا وكذا وصار تارةً يصف لها حسنه وجماله وتارةً يصف لها كرمه وكماله وما زال يذكر لها محاسنه وكرم أخلاقه حتى عشقها فيه ولم يكن أحدٌ أعرض من الذي يصف لزوجته إنساناً بالحسن 
والجمال وفرط سخائه بالمال.جمال وفرط سخائه بالمال.
فلما أفاض منها الغرام قالت له: هل يوجد فيه شيء من محاسني? فقال لها: جميع محاسنك كلها فيه وهو شبيهك في الصفة وربما كان عمره قدر عمرك ولولا أني أخاف على خاطرك لقلت: أنه أحسن منك ألف مرةٍ فسكتت ولكن التهبت نار محبته في قلبها ثم أن الصائغ لم يزل يتحدث معها في تعداد محاسنه حتى فرغ من صياغة هذا الخاتم وناوله لها فلبسته فجاء على قدر إصبعها فقالت له: يا سيدي أن قلبي حب هذا الخاتم وأشتهي أن يكون لي ولا أنزعه من إصبعي، فقال لها: اصبري فأن صاحبه كريمٌ وأنا أطلب أن أشتريه منه فأن باعني إياه جئت به إليك وأن كان عنده حجرا آخر اشتريه لك وأصوغه مثله.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجوهري قال لزوجته: اصبري فأن صاحبه كريمٌ وأنا أطلب أن اشتريه منه فأن باعني إياه جئت به إليك وأن كان عنده حجرٌ آخر اشتريه وأصوغه لك مثله، هذا ما كان من أمر الجوهري وزوجته.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه بات في منزله فلما أصبح أخذ مائة دينارٍ وأتى إلى العجوز زوجة المزين وقال لها: خذي هذه المائة دينارٍ فقالت له: أعطيها لأبيك فأعطاها له ثم أنها قالت له: هل فعلت كما قلت? قال: نعم قالت له: قم وتوجه الآن إلى شيخ الجوهرية فإذا أعطاك الخاتم فضعه في رأس إصبعك وانزعه بسرعةٍ وقل له: يا معلم أخطأت أن الخاتم جاء ضيقاً فيقول لك: يا تاجر هل أكسره وأصوغه واسعاً? فقل له: ما أحتاج إلى كسره وصياغته ثانياً ولكن خذه وأعطه لجارية من جواريك وأخرج له حجراً آخر يكون ثمنه سبعمائة دينارٍ وقل له: خذ هذا الحجر صنعه لي فأنه أحسن من ذلك وأعطه ثلاثين ديناراً وأعط لكل صانعٍ دينارين وقل له: هذه الدنانير في نظير نقشه والأجرة باقيةٌ ثم أرجع إلى منزلك وبت هناك وتعالى في الصباح ومعك مائتا دينارٍ وأنا أكمل لك بقية الحيلة.
ثم أنه ذهب إلى الجوهري فرحب به وأجلسه على الدكان فلما جلس قال له: هل قضيت الحاجة? قال: نعم وأخرج له الخاتم فأخذه وحطه في رأس إصبعه ثم نزعه سريعاً وقال له: أخطأت يا معلم ورماه له وقال له: أنه ضيق على إصبعي فقال له الجوهري: يا تاجر هل أوسعه لك? قال: لا، ولكن خذه إحسانا وألبسه لبعض جواريك فأن ثمنه تافهٌ لأنه خمسمائة دينارٍ فلا يحتاج إلى صياغته ثانياً ثم أخرج له فصاً آخر ثمنه سبعمائة دينارٍ وقال له: اصنع هذا الخاتم ثم أعطاه ثلاثين ديناراً وأعطى كل صانعٍ دينارين فقال له: يا سيدي لما تصوغ الخاتم تأخذ أجرته قال: هذه في نظير نقشه والأجرة باقية ثم تركه ومضى فاندهش الجوهري من شدة كرم قمر الزمان وكذلك الصناع ثم أن الجوهري ذهب إلى زوجته وقال لها: يا فلانة ما رأت عيني أكرم من هذا الشاب وأنت بختك طيبٌ لأنه أعطاني الخاتم بلا ثمنٍ وقال لي: أعطه لبعض جواريك وحكى لها القصة.
ثم قال لها: أظن أن هذا الولد ما هو من أولاد التجار وإنما هو من أولاد الملوك والسلاطين وصار كلما مدحه تزداد فيه غراماً ووجداً وهياماً ثم لبست الخاتم والجوهري صاغ له الثاني أوسع من الأول بقليل فلما فرغ من صناعته لبسته في إصبعها من داخل الخاتم الأول ثم قالت: يا سيدي انظر ما أحسن الخاتمين في إصبعي فأشتهي أن يكون الخاتمان لي فقال لها: اصبري لعلي اشتري الثاني لك ثم بات فلما أصبح أخذ الخاتم وتوجه إلى الدكان. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه أصبح متوجهاً إلى العجوز زوجة المزين وأعطاها مائتي دينار فقالت له: توجه إلى الجوهري فإذا أعطاك الخاتم فضعه في إصبعك وانزعه سريعاً وقل أخطأت يا معلم أن الخاتم جاء واسعاً والمعلم الذي يكون مثلك إذا أتاه مثلي بشغلٍ ينبغي له أن يأخذ القياس فلو كنت أخذت قياس إصبعي ما أخطأت وأخرج له حجراً آخر يكون ثمنه ثمانمائة دينارٍ وقل له: خذ هذا اصنعه وأعط هذا الخاتم إلى جاريةٍ من جواريك ثم أعطه أربعين ديناراً وأعط كل صانع ثلاثة دنانيرٍ وقل له: هذا في نظير نقشه وأما الأجرة فأنها باقيةٌ وانظر ماذا يقول لك ثم تعال ومعك ثلثمائة دينارٍ وأعطها لأبيك يستعين بها على وقته فأنه رجلٌ فقير الحال، فقال سمعاً وطاعةً ثم أنه توجه إلى الجوهري فرحب به وأجلسه ثم أعطاه الخاتم فوضعه في إصبعه ونزل به بسرعةٍ وقال له: ينبغي للمعلم الذي مثلك إذا أتاه مثلي بشغلٍ أن يأخذ قياسه فلو كنت أخذت قياس إصبعي ما أخطأت ولكن خذه وأعطه لبعض جواريك ثم أخرج له حجراً ثمنه ثمانمائة دينارٍ وقال له: خذ هذا وأصنعه لي خاتماً على قدر إصبعي.
فقال: صدقت والحق معك فأخذ القياس وأخرج له أربعين ديناراً وقال له: خذ هذه في نظير نقشه والأجرة باقيةٌ فقال له: يا سيدي كم أجرة هذا أخذناها منك فإحسانك علينا كثيرٌ فقال له: لا بأس ثم أنه تحدث معه حصة وصار كلما يمر به سائل يعطيه ديناراً وبعد ذلك تركه وانصرف. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر الجوهري فأنه توجه إلى بيته وقال لزوجته: ما أكرم هذا الشاب التاجر فما رأيت أكرم منه وأجمل منه ولا أحلى من لسانه وصار يذكر لها محاسنه وكرمه ويبالغ في مدحه.
فقالت له: يا عديم الذوق حيث كنت تعرف فيه هذه الصفات وقد أعطاك خاتمين مثمنين ينبغي لك أن تعزمه وتعمل له ضيافةً وتتودد إليه فإذا رأى منك المودة وجاء منزلنا ربما تنال منه خيراً كثيراً وأن كنت لا تسمح له بضيافة فأعزمه وأنا أعمل له الضيافة من عندي، فقال لها هل أنت تعرفين أنني بخيلٌ حتى تقولي هذا الكلام? قالت له: ما أنت بخيلٌ ولكنك عديم الذوق فأعزمه في هذه الليلة ولا تجيء بدونه وأن أمتنع فأحلف بالطلاق وأكد عليه، فقال لها: على الرأس والعين? ثم أنه صاغ الخاتم ونام وأصبح في ثاني يوم متوجهاً إلى الدكان وجلس فيها. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأنه أخذ ثلثمائة دينارٍ وتوجه إلى العجوز وأعطاها لزوجها فقالت له: ربما يعزم عليك في هذا اليوم فإذا عزم عليك وبت عنده فمهما جرى لك فأخبرني به في الصباح وهات معك أربعمائة دينارٍ وأعطها لأبيك فقال سمعاً وطاعةً، وصار كلما فرغت منه الدراهم يبيع من الأحجار، ثم أنه توجه إلى الجوهري فقام له وأخذه بالأحضان وسلم عليه وعقد معه صحبةً، ثم أنه أخرج الخاتم فرآه على قدر إصبعه فقال له: بارك الله فيك يا سيد المعلمين أن الصياغة موافقةٌ، ولكن الفص ليس على مرادي، لأن عندي أحسن منه فخذه وأعطه لبعض جواريك وأخرج لي غيره، وأخرج له مائة دينارٍ وقال له: خذ أجرتك ولا تؤاخذنا فأننا تعبناك، فقال له: أن الذي تعبنا فيه قد أعطيتنا إياه وتفضلت علينا بشيءٍ كثيرٍ وأنا قلبي تعلق بحبك ولا أقدر على فراقك، فبالله عليك أن تكون ضيفي في هذه الليلة وتجبر خاطري.
فقال: لا بأس ولكن لا بد أن أتوجه إلى الخان لأجل أن أوصي أتباعي وأخبرهم بأنني بائت في الخان حتى لا ينتظروني، فقال له: أنت نازلٌ في أي خان? قال: في الخان الفلاني، فقال: أجيء إليك هناك، فقال: لا بأس. ثم أن الجوهري توجه إلى ذلك الخان قبل المغرب خوفاً من غضب زوجته عليه أن دخل البيت بدونه، ثم أنه أخذه ودخل به في بيته وجلسا في قاعة ليس لها نظير، وكانت الصبية رأته حين دخوله فافتتنت به، ثم صارا يتحدثان إلى أن جاء وقت العشاء فأكلا وشربا وبعد ذلك جاءت القهوة والشربات لم يزل يسامره إلى وقت العشاء فصليا الفريضة ثم دخلت عليهما جاريةٌ ومعها فنجانان من المشروب فلما شربا غلب عليهما النوم فناما ثم جاءت الصبية فرأتهما نائمين فنظرت إلى وجه قمر الزمان فاندهش عقلها من جماله وقالت: كيف ينام من عشق الملاح? ثم قلبته على قفاه وركبت على صدره، ومن شدة غيظها من غرامه نزلت على خدوده بعلقة بوس حتى أثر ذلك في خده فاشتدت حمرته وزهت وجنته ونزلت على شفتيه بالمص ولم تزل تمتص شفته حتى خرج الدم من فمها ومع ذلك لم تنطفئ نارها ولم يرو أوارها، ولم تزل معه بين بوس وعناق والتفاف ساق على ساق حتى أشرق جبين الصباح وتبلج الفجر ولاح.
ثم وضعت في جيبه أربعة عواشقٍ وتركته وراحت وبعد ذلك أرسلت جاريةً بشيء مثل النشوق فوضعته في مناخيرهما فعطسا وأفاقا فقالت لهما الجارية: اعلموا يا أسيادي أن الصلاة وجبت فقوموا لصلاة الصبح، وباتت لهما بالطشت والإبريق، ثم قال قمر الزمان: يا معلم أن الوقت جاء وقد تجاوزنا الحد في النوم، فقال الجوهري للتاجر: يا صاحبي أن نوم هذه القاعة ثقيلٌ كلما أنام فيها يجري لي هذا الأمر، فقال: صدقت، ثم أن قمر الزمان أخذ يتوضأ، فلما وضع الماء على وجهه أحرقته خدوده وشفته فقال: عجباً إذا كان هواء القاعة ثقيلاً واستغرقنا في النوم ما بال خدودي وشفتي تحرقني? ثم قال: يا معلم خدودي وشفتي تحرقني ثم قال: أظن أن هذا من فعل الناموس، فقال: عجباً وهل يجري لك فيها مثلي? قال: لا ولكن إذا كان عندي ضيفٌ مثلك يصبح يشكو من قرص الناموس ولا يكون ذلك إلا إذا كان الضيف مثلك أمرد وأما إذا كان متلحياً فلا يهوى أصحاب اللحى، فقال له: صدقت.
ثم أن الجارية جاءت لهما بالفطور فأفطرا وخرجا وراح قمر الزمان إلى العجوز فلما رأته قالت له: أني أرى آثار الحظ على وجهك بما رأيت? قال لها: ما رأيت شيئاً وإنما تعشيت أنا وصاحب المحل في قاعة وصلينا صلاة العشاء ثم نمنا فما أفقنا إلا الصبح، فضحكت وقالت: ما هذا الأثر الذي على خدك وعلى شفتك? قال لها: إن ناموس القاعة فعل معي هذه الفعال، فقالت: صدقت، وهل جرى لصاحب البيت مثل ما جرى لك? قال: لا ولكنه أخبرني أن ناموس تلك القاعة لا يضر أصحاب اللحى ولا يعف إلا على المرد وكلما يكون عنده ضيفٌ فأن كان أمرد يصبح يشكو من قرض الناموس وأن كان ملتحياً فلا يجري له شيءٌ من ذلك، فقالت: صدقت، فهل رأيت شيئاً غير هذا? قال: رأيت في جيبي أربعة عواشقٍ، قالت له: أرني إياها فأعطاها لها، فأخذتها وضحكت وقالت: إن معشوقتك قد وضعت هذه العواشق في جيبك، قال: وكيف ذلك? قالت: أنها تقول لك بالإشارة: لو كنت عاشقاً ما نمت فأن الذي يعشق لا ينام ولكن أنت لم تزل صغيرٌ ولا يليق بك إلا اللعب بهذه العواشق، فما حملك على عشق الملاح وقد جاءتك في الليل فرأتك نائما فقطعت خدودك بالبوس وحطت لك هذه الأمارة ولكنها لا يكفيها منك ذلك بل لا بد أن ترسل إليك زوجها فيعزم عليك في هذه الليلة فإذا رحت معه فلا تنم عاجلاً وهات معك خمسمائة دينارٍ وتعال أخبرني بما يحصل وأنا أكمل لك الحيلة، قال سمعاً وطاعةً ثم توجه إلى الخان. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر زوجة الجوهري فأنها قالت لزوجها: هل راح ضيفنا? قال: نعم ولكن يا فلانة أن الناموس شوش عليه في الليلة وقطع خدوده وشفته وأنا استحيت منه، فقالت: هذه عادة ناموس قاعتنا فأنه لا يهوى إلا المرد ولكن أعزمه في الليلة الآتية، فتوجه إلى الخان الذي هو فيه وعزمه وأتى به إلى القاعة فأكلا وشربا وصليا العشاء فدخلت عليهما الجارية وأعطت كل واحدٍ فنجاناً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية دخلت عليهما وأعطت كل واحدٍ منهما فنجان قهوة فشرباه وناما فأتت الصبية وقالت له: يا علق كيف تنام وتدعي أنك عاشقٌ والعاشق لا ينام، ثم ركبت على صدره وما زالت نازلةً عليه ببوسٍ وعضٍ ومصٍ وهراشٍ إلى الصباح، ثم حطت له في جيبه سكينةً وأرسلت جاريتها عند الصباح فنبهتهما وخدوده كأنها ملتهبةٌ بالنار من شدة الاحمرار وشفاهه كالمرجان بسبب المص والتقبيل، فقال له الجوهري لعل الناموس شوش عليك? قال: لا، لأنه لما عرف النكتة ترك الشكاية، ثم أنه رأى السكين في جيبه فسكت.
ولما فطر وشرب القهوة ذهب من عند الجوهري وتوجه إلى الخان وأخذ خمسمائة دينارٍ وذهب إلى العجوز وأخبرها بما رأى وقال لها: أني نمت غصباً عني ولما أصبحت ما رأيت شيئاً غير سكينٍ في جيبي فقالت له: الله يحميك منها في الليلة القابلة فأن نمت ذبحتك، فقال: وكيف يكون العمل? فقالت: أخبرني بما تأكله وتشربه قبل النوم? قال: نتعشى على عادة الناس ثم تأتي إلينا جاريةٌ بعد العشاء وتعطي كل واحدٍ منا فنجاناً فمتى شربت فنجاني نمت ولا أفيق إلا في الصباح.
فقالت له: أن الداهية في الفنجان فخذه منها ولا تشربه حتى يشرب سيدها ويرقد وحين تعطيه ذلك الجارية قل لها: أسقيني ماءً فتذهب لتأتي إليك بالقلة فكب الفنجان وراء المخدة وأجعل روحك نائماً وعندما ترجع إليك بالقلة تظن أنك نمت بعد أن شربت الفنجان فتروح عنك وبعد حصة يظهر لك الحال وإياك أن تخالف أمري، فقال: سمعاً وطاعةً، ثم توجه إلى الخان، هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر زوجة الجوهري فأنها قالت لزوجها: إكرام الضيف ثلاث مراتٍ فأعزمه مرةً ثالثةً، فتوجه إليه وعزمه وأخذه ودخل به إلى القاعة، فلما تعشيا وصليا العشاء إذ بالجارية دخلت وأعطت كل واحد فنجاناً فشرب سيدها ورقد وأما قمر الزمان فأنه لم يشرب فقالت له الجارية: أما تشرب يا سيدي? فقال لها: أنا عطشان هات القلة فذهبت لتجيء إليه بالقلة فكب الفنجان وراء المخدة ورقد، فلما رجعت الجارية رأته راقداً فأخبرت سيدتها بذلك وقالت: أنه لما شرب الفنجان رقد، فقالت الصبية في نفسها: أن موته أحسن من حياته ثم أخذت سكيناً ماضيةً ودخلت عليه وهي تقول: ثلاث مراتٍ وأنت لم تلحظ الإشارة يا أحمق الآن أشق بطنك، فلما رآها مقبلةً عليه وفي يدها السكين فتح عينيه وقام ضاحكا. فقالت له: ما فهمت هذه الإشارة بفطنتك فأخبرني من أين لك هذه المعرفة? قال: من عجوز وجرى لي معها كذا وكذا وأفادها بالخبر فقالت له: في غدٍ اذهب من عندنا ورح إلى العجوز وقل لها: هل بقي معك من الحيل زيادةً عن هذا المقدار? فأن قالت لك: معي فقل لها: اجتهدي في الوصول إليها جهاراً وأن قالت: ما لي مقدرةٌ وهذا آخر ما معي فأتركها عن بالك وفي ليلة غدٍ يأتي زوجي ويعزمك فتعال معه وأخبرني أنا أعرف بقية التدبير. فقال: لا بأس.

وفي الليلة الثامنة والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما توجه إلى العجوز، وأخبرهما بما جرى وقال له: أنها قالت لي كذا وكذا وقلت لها كذا وكذا فهل عندك أكثر من هذا التدبير حتى يوصلني إلى الاجتماع بها جهاراً? فقالت: يا ولدي إلى هنا انتهى تدبيري وفرغت حيلي فعند ذلك تركها وتوجه إلى الخان ولما أصبح الصباح توجه إليه الجوهري عند المساء وعزمه فقال له: لا يمكن أن أروح معك فقال له: لماذا وأنا أحببتك وما بقيت أقدر على فراقك فبالله عليك أن تمضي معي فقال له: أن كان مرادك طول العشرة معي ودوام الصحبة بيني وبينك فخذ لي بيتاً بجانب بيتك وأن شئت تسهر عندي وأنا أسهر عندك وعند النوم يروح كلٌ منا إلى بيته وينام فيه.
فقال له: أن عندي بيتاً بجانب بيتي وهو ملكي فامض معي في هذه الليلة وفي الغد أخليه لك فمضى معه وتعشيا وصليا العشاء وشرب زوجها الفنجان الذي فيه العمل فرقد وفنجان قمر الزمان لا غش فيه فشربه ولم يرقد فجاءته وقعدت تسامره إلى الصباح وزوجها مرميٌ مثل الميت ثم أنه صحا من النوم على العادة وأرسل أحضر الساكن وقال له: يا رجل أخل إلي بيتي فأني قد احتجت إليه فقال له: على الرأس والعين فأخلاه له وسكن فيه قمر الزمان ونقل جميع مصالحه فيه وفي تلك الليلة سهر الجوهري عند قمر الزمان، ثم راح إلى بيته وفي ثاني يوم أرسلت الصبية إلى معماري ماهر فأحضرته وارغبته بالمال حتى عمل لها سرداباً في قصرها يوصل إلى بيت قمر الزمان وجعل له طابقاً تحت الأرض فما يشعر قمر الزمان إلا وهي داخلةٌ عليه، ومعها كيسان من المال فقال لها: من أين جئت? فأرته السرداب وقالت له: خذ هذين الكيسين من ماله وقعدت تهارشه وتلاعبه إلى الصباح.
ثم قالت له: انتظرني حتى أروح له وانبهه ليذهب إلى دكانه وآتي لك فقعد ينتظرها وانصرفت لزوجها وأيقظته فقام وتوضأ وصلى وذهب إلى الدكان وبعد ذهابه أخذت أربعة أكياسٍ وراحت إلى قمر الزمان من السرداب وقالت له: خذ هذا المال وجلست عنده ثم انصرف كل منهما إلى حال سبيله فتوجهت إلى بيتها وتوجه قمر الزمان إلى السوق ولما رجع في وقت المغرب رأى عنده عدة أكياسٍ وجواهرٍ وغير ذلك ثم أن الجواهري جاء به في بيته وأخذنا إلى القاعة وسهر فيها هو وإياه فدخلت الجارية على العادة واسقتهما فرقد سيدها وقمر الزمان ما أصابه شيءٌ لأن فنجانه سالمٌ لا غش فيه، ثم أقبلت إليه الصبية وجلست تلاعبه وصارت الجارية تنقل المصالح إلى بيته من السرداب ولم يزالوا على هذه الحالة إلى الصباح.
ثم أن الجارية نبهت سيدها واستقهما القهوة وكلٌ منهما راح إلى حال سبيله وفي ثالث يومٍ أخرجت له سكيناً كانت لزوجها وهي صياغته وبيده كلفها خمسمائة دينارٍ ولم يوجد لها مثيلٌ في حسن الصياغة ومن كثرة ما طلبها منه الناس وضعها في صندوقٍ ولم تسمح نفسه ببيعها لأحد من المخلوقين ثم قالت له: خذ هذه السكين في حزامك ورح إلى زوجي واجلس عنده وأخرجها من حزامك وقل له: يا معلم انظر هذه السكين فأني اشتريتها في هذا اليوم وأخبرني هل أنا مغلوبٌ فيها أو غالب فأنه يعرفها ويستحي أن يقول لك هذه سكيني فأن قال لك: من أين اشتريتها وبكم أخذتها? فقل له: رأيت اثنين من اللاوندية يتقاتلان مع بعضهما فقال واحدٌ منهما للأخر: أين كنت? قال: كنت عند صاحبتي وكلما اجتمع معها تعطيني دراهم.
وفي هذا اليوم قالت لي: أن يدي لا تطول دراهم في هذا الوقت ولكن خذ هذه السكين فأنها سكين زوجي فأخذتها ومرادي بيعها فأعجبتني السكين ولما سمعته يقول ذلك قلت له: أتبيعها لي? فقال: اشتر، فأخذتها منه بثلثمائة دينارٍ فيا ترى هل هي رخيصةٌ أو غاليةٌ وانظر ما يقول لك ثم تحدث معه مدةً وقم من عنده وتعال إلي بسرعة فتراني قاعدةً في فم السرداب أنتظرك فأعطني السكين فقال لها سمعاً وطاعةً، ثم أخذ تلك السكين وحطها في حزامه وراح إلى دكان الجوهري فسلم عليه ورحب به وأجلسه فرأى السكين في حزامه فتعجب وقال في نفسه: أن هذه سكيني ومن أوصلها إلى هذا التاجر? وصار يفكر في نفسه ويقول: يا ترى هي سكيني أو سكين تشابهها? وإذا بقمر الزمان أخرجها وقال: يا معلم خذ هذه السكين وتفرج عليها، فلما أخذها من يده عرفها حق المعرفة وأستحى أن يقول هذه سكيني ثم قال له: من أين اشتريتها. فأخبره بما أوصته به الصبية فقال له: هذه بهذا الثمن رخيصةٌ لأنها تساوي خمسمائة دينارٍ، وانقادت النار في قلبه وارتبطت أياديه عن الشغل في صنعته وصار يتحدث معه وهو غريقٌ في بحر الأفكار وكلما كلمه الغلام خمسين كلمةً يرد عليه بكلمةٍ واحدةٍ وصار قلبه في عذابٍ وجسمه في اضطراب وتكدر منه الخاطر وصار كما قال الشاعر: لم أدر قولاً إذا حبوا مكالمتـي  أو كلموني يروني غائب الفكر
غرقانٌ في بحر فكرٍ لا قرار له  لا فرق للناس انثاها من الذكر
فلما رآه تغيرت حالته قال له: لعلك مشغولٌ في هذه الساعة ثم قام من عنده وتوجه إلى البيت بسرعةٍ فرآها واقفةٌ في باب السرداب تنتظره، فلما رأته قالت له: هل فعلت كما أمرتك? قال: نعم، قالت: ما قال لك? قال لها إنها أنا رخيصةٌ بهذا الثمن لأنها تساوي خمسمائة دينارٍ، ولكن تغيرت أحواله فقمت من عنده ولم أدر ما جرى بعد ذلك فقالت: هات السكين وما عليك منه ثم أخذت السكين وحطتها في موضعها وقعدت. هذا ما كان من أمرها.
وأما ما كان من أمر الجوهري، فأنه بعد ذهاب قمر الزمان من عنده التهبت بقلبه النار وكثر عنده الوسواس وقال في نفسه: لا بد أن أقوم وأتفقد السكين وأقطع الشك باليقين وأتى البيت ودخل على زوجته وهو ينفخ مثل الثعبان فقالت له: مالك يا سيدي? فقال لها: أين سكيني? قالت: في الصندوق، ثم دقت صدرها بيدها وقالت: يا همي لعلك تخاصمت مع أحد فأتيت تطلب السكين لتضربه.
قال لها: هات السكين أريني إياها قالت: حتى تحلف أنك لا تضرب بها أحداً فحلف لها ففتحت الصندوق وأخرجتها له فصار يقلبها ويقول: أن هذا شيءٌ عجيبٌ، ثم أنه قال لها: خذيها وحطيها في مكانها. قالت له: أخبرني ما سبب ذلك? قال لها: أني رأيت مع صاحبنا سكيناً مثلها وأخبرها بالخبر كله ثم قال: لما رأيتها في الصندوق قطعت الشك باليقين فقالت له: لعلك ظننت بي وجعلتني صاحبة اللاوندي وأعطيته السكين فقال لها: نعم أني شككت في هذا الأمر ولكن لما رأيت السكين ارتفع الشك من قلبي فقالت له: يا رجل أنت ما بقي فيك خيرٌ فصار يعتذر إليها حتى أرضاها. ثم خرج وتوجه إلى دكانه وفي ثاني يوم أعطت قمر الزمان ساعة زوجها وكان يضعها بيده ولم يكن أحد يملك مثلها، ثم قالت له: رح إلى دكانه واجلس عنده وقل له: أن الذي رأيته بالأمس رأيته في هذا اليوم وفي يده ساعة وقال له: أشتري هذه الساعة فقلت له. من أين لك هذه الساعة? قال: كنت عند صاحبتي فأعطتني إياها فاشتريتها منه بثمانية وخمسين ديناراً فانظر هل هي رخيصةٌ بهذا الثمن أو غاليةٌ وانظر ما يقول وإذا قمت من عنده فأتني بسرعة وأعطني إياها، فراح إليه قمر الزمان وفعل معه ما أمرته به فلما رآها الجوهري قال: هذه تساوي سبعمائة دينارٍ داخله الوهم. ثم أن الغلام تركه وراح إلى الصبية وأعطاها تلك الساعة وإذا بزوجها دخل ينفخ وقال لها: أين ساعتي? قالت له: ها هي حاضرةٌ قال لها: هاتيها فأتته بها فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقالت له: يا راجل ما أنت بلا خبرٍ فأخبرني بخبرك فقال لها: ماذا أقول أني تحيرت في هذه الحالات ثم أنشد هذه الأبيات: تحيرت والرحمن لا شك فـي أمـري  وضاقت بي الأحزان من حيث لا أدري 
سأصبر حتى يعلم الـصـبـر أنـنـي  صبرت على شيءٍ أمر من الصـبـر
وما مثل مر الصبر صبـرت وإنـمـا  صبرت على شيء أحر من الجـمـر
وما الأمر أمري في المـراد وإنـمـا  أمرت بحسن الصبر من صاحب الأمر

ثم قال: يا امرأة أني وجدت مع التاجر صاحبنا أولاً سكيني وقد عرفتها لأن صياغتها اختراعٌ من عقلي ولا يوجد مثلها وأخبرني بأخبار تغم القلب وأتيت فرأيتها معه الساعة ثانياً وصياغتها أيضاً اختراعٌ من عقلي وليس يوجد مثلها في البصرة وأخبرني بأخبار تغم القلب فتحيرت في عقلي وما بقيت أعرف ما جرى لي فقالت له: مقتضى كلامك أني أنا خليلة ذلك التاجر وصاحبته وأعطيته مصالحك وجوزت خيانتي فجئت تسألني ولو كنت ما رأيت السكين والساعة عندي كنت أثبتت خيانتي ولكن يا رجل حيث أنك ظننت بي هذا الظن ما بقيت أوكلك في زادٍ ولا أشاربك في ماءٍ بعد هذا فأني كرهتك كراهة التحريم فصار يأخذ بخاطرها حتى أرضاها، ثم خرج وتندم على مقابلتها بمثل هذا الكلام وتوجه إلى دكانه وجلس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والستين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجوهري لما خرج من عند زوجته صار يتندم على هذا الكلام ثم ذهب إلى الدكان وجلس وصار في قلقٍ شديدٍ وفكرٍ ما عليه من مزيدٍ وهو ما بين مصدقٍ ومكذبٍ وعند المساء أتى إلى البيت وحده ولم يأت بقمر الزمان معه فقالت له الصبية: أين التاجر? قال: في منزله قالت: هل بردت الصحبة التي بينك وبينه? قال لها: والله أني كرهته مما جرى منه فقالت له: قم هاته من شأن خاطري فقام ودخل عليه بيته فرأى حوائجه منشورة فيه فعرفها فقادت النار في قلبه وصار يتنهد.
فقال قمر الزمان: ما لي أراك في فكري? فاستحى أن يقول له حوائجي عندك من أوصلها إليك وإنما قال له: حصل عندي تشويشٌ ولكن قم بنا إلى البيت لنتسلى هناك. فقال: دعني في محلي فلا أروح معك فحلف عليه وأخذه ثم تعشى معه وسهر تلك الليلة وصار يتحدث معه وهو غريقٌ في بحر الأفكار وإذا تكلم الغلام التاجر مائة كلمة يرد عليه الجوهري بكلمةٍ واحدةٍ، ثم دخلت عليهما الجارية بفنجانين حسب العادة فلما شربا رقد التاجر ولم يرقد الغلام لأن فنجانه غير مغشوشٍ، ثم دخلت الصبية على قمر الزمان وقالت له: كيف رأيت هذا القرنان الذي هو في غفلته سكران ولا يعرف مكايد النسوان فلا بد أن أخدعه حتى يطلقني ولكن في الغد أتهيأ بهيئة جاريةٍ وأروح خلفك إلى الدكان وقل له أنت يا معلم أني دخلت اليوم خان اليسيرجية فرأيت هذه الجارية فاشتريتها بألف دينارٍ فأنظرها هل هي رخيصةٌ بهذا الثمن أو غاليةٌ ثم اكشف له عن وجهي ونهودي وفرجه علي. ثم خذني وأرجع بي إلى منزلك وأنا أدخل بيتي من السرداب حتى انظر آخر امرنا معه ثم أنهما أمضيا ليلتهما على الرأس وصفاءٍ ومنادمةٍ وهراشٍ وبسطٍ وانشراحٍ إلى الصباح وبعد ذلك ذهبت إلى مكانها وأرسلت الجارية فأيقظت سيدها وقمر الزمان فقاما وصليا الصبح وأفطرا وشربا القهوة وخرج الجوهري إلى دكانه، وقمر الزمان دخل بيته وإذا بالصبية خرجت من السرداب وهي بصفة جاريةٍ، وكأن أصلها جارية.
ثم توجه إلى دكان الجوهري ومشت خلفه ولم يزل ماشياً وهي خلفه حتى وصل بها إلى دكان الجوهري فسلم عليه وجلس وقال: يا معلم أني دخلت اليوم خان اليسيرجية بقصد الفرجة فرأيت هذه الجارية في يد الدلال فأعجبتني فاشتريتها بألف دينارٍ وقصدي أن تتفرج عليها وتنظر هل هي رخيصة الثمن أم لا وكشف عن وجهها فرآها زوجته وهي لابسةٌ أفخر ملبوسها ومتزينةٌ بأحسن الزينة ومكحلةٌ ومخضبةٌ كما كانت تتزين قدامه في بيته، فعرفها حق المعرفة بوجهها وملبوسها وصيغتها لأنه صاغها بيده ورأى الخواتم التي صاغها جديداً لقمر الزمان في إصبعها وتحقق عنده أنها زوجته من سائر الجهات، فقال لها: ما اسمك يا جارية? قالت: اسمي حليمة وزوجته اسمها حليمة فذكرت له الاسم بعينه فتعجب من ذلك وقال له: بكم اشتريتها? قال: بألف دينارٍ قال: أنك أخذتها بلا ثمنٍ لأن الألف دينارٍ أقل من ثمن الخواتم وملبسها ومصاغها بلا شيءٍ. فقال له: بتسرك الله الخير وحيث أعجبتك فأنا أذهب بها إلى بيتي فقال: افعل مرادك فأخذها وراح إلى بيته ونزلت من السرداب وقعدت في قصرها. هذا ما كان من أمرها.
وأما ما كان من أمر الجوهري فأن النار اشتعلت في قلبه وقال في نفسه: أنا أروح انظر زوجتي فأن كانت في البيت تكون هذه الجارية شبيهتها وسبحان من ليس له شبيهٌ وأن لم تكن زوجتي في البيت تكون هي من غير شك، ثم أنه قام يجري إلى أن دخل البيت فرآها قاعدةً بملبسها وزينتها التي رآها بها في الدكان فضرب يداً على يد وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقالت له: يا راجل هل حصل لك جنونٌ أو ما خبرك فما هذه عادتك لا بد أن يكون لك أمرٌ من الأمور فقال لها: إذا كان مرادك أن أخبرك فلا تغتمي فقالت: قل، فقال لها: إن التاجر صاحبنا اشترى جاريةً قدها مثل قدك وطولها مثل طولك واسمها مثل اسمك وملبوسها مثل ملبوسك وهي تشبهك في جميع صفاتك وفي إصبعها خواتم مثل خواتمك ومصاغها مثل مصاغك فلما فرجني عليها ظننت أنها أنت وقد تحيرت في أمري، ليتنا ما رأينا هذا التاجر ولا صحبناه ولا جاء من بلاده ولا عرفناه فأنه كدر عيشتي بعد الصفاء وكان سبباً في الجفاء بعد الوفاء وأدخل الشك في قلبي فقالت له: تأمل وجهي لعلي أكون أنا التي كنت معه والتاجر صاحبي وقد لبست بصفة جاريةٍ واتفقت معه على أن يفرجك علي حتى يكيدك فقال: أي شيء هذا الكلام أنا ما أظن بك أن تفعلي مثل هذه الفعال وكان ذلك الجوهري مغفلاً عن مكايدة النساء وما يفعلن مع الرجال.
ثم قالت له: ها أنا قاعدةٌ في قصري ورح أنت إليه في هذه الساعة وأطرق الباب واحتل على الدخول عليه بسرعةٍ فإذا دخلت ورأيت الجارية عنده تكون جاريته تشبهني وجل من ليس له شبيه وأن لم تر الجارية عنده أكون أنا الجارية التي رأيتها معه ويكون ظنك السوء بي محققاً فقال: صدقت، ثم تركها وخرج فقامت هي ونزلت من السرداب وقعدت عند قمر الزمان وأخبرته بذلك وقالت له: افتح الباب بسرعةٍ وفرجه علي.
فبينما هما في الكلام وإذا بالباب يطرق فقال: من بالباب? قال: أنا صاحبك فأنك فرجتني على الجارية في السوق وفرحت لك بها ولكن ما كملت فرحتي بها فافتح الباب وفرجني عليها، قال: لا بأس بذلك.
ثم فتح له الباب فرأى زوجته قاعدةً عنده فقامت وقبلت يده ويد قمر الزمان وتفرج عليها وتحدث معه مدةً فرآها لا تتميز عن زوجته بشيء فقال: يخلق الله ما يشاء ثم أنه خرج وكثر في قلبه الوسواس ورجع إلى بيته فرآى زوجته جالسةً لأنها سبقته من السرداب حين خرج من الباب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية سبقت زوجها من السرداب حين خرج من الباب، ثم قعدت في قصرها فلما دخل زوجها قالت له: أي شيءٍ رأيت? قال: رأيتها عند سيدها وهي تشبهك فقالت: توجه إلى دكانك وحسبك سوء الظن فما بقيت تظن بي سوءً فقال: الأمر كذلك فلا تؤاخذيني بما صدر مني قالت: سامحك الله ثم قبلها ذات اليمين وذات الشمال وراح إلى دكانه فنزلت من السرداب إلى قمر الزمان ومعها أربعة أكياسٍ وقالت: جهز حالك بسرعة للسفر واستعد للتحميل المال بلا إمهال حتى أفعل لك ما عندي من الحيل فطلع واشترى بغالاً وحمل أحمالاً وجهز تخترواناً واشتري مماليك وخدماً وأخرج الجميع من البلد وما بقي له عاقةً وأتى لها وقال: أني أتممت أموري فقالت: وأنا الأخرى قد نقلت بقية ماله وجميع ذخائره عندك وما خليت له قليلاً ولا كثيراً ينتفع به وكل هذا محبةً فيك يا حبيب قلبي فأنا أفديك ألف مرةٍ بزوجي ولكن ينبغي أن تذهب إليه وتودعه وتقول له: أنا أريد السفر بعد ثلاثة أيامٍ وجئت لأودعك فاحسب ما أتجمل لك عندي من أجرة البيت حتى أورده لك وتبرأ ذمتي وانظر ما يكون من جوابه وأرجع إلي وأخبرني وأنا أحتال عليه وأغيظه لأجل أن يطلقني فما أراه إلا متعلقاً بي وما بقي لنا أحسن من السفر إلى بلادك فقال لها: يا حبذا أن صحت الأحلام ثم راح إلى دكانه وجلس عنده وقال: يا معلم أنا مسافرٌ بعد ثلاثة أيامٍ وما جئت إلا لأودعك والمراد أنك بحسب ما تجمل لك عندي من أجرة البيت حتى أعطيه لك وتبرأ ذمتي فقال له: ما هذا الكلام أن فضلك علي والله ما آخذ منك شيئاً من أجرة البيت وحلت علينا البركات ولكنك توحشنا بسفرك ولولا أنه يحرم علي لتعرضت لك ومنعتك عن عيالك وبلادك.
ثم ودعه وتباكيا بكاءً شديداً ما عليه من مزيدٍ وقفل الدكان من ساعته وقال في نفسه: ينبغي أن أشبع من صاحبي وصار كلما راح يقضي حاجةً يروح بيته معه فإذا دخل بيت قمر الزمان يجدها فيه وتقف بين أيديهما، وتخدمهما وإذا رجع إلى بيته يراها قاعدةً هناك ولم يزل يراها في بيته إذا دخله ويراها في بيت قمر الزمان إذا دخله مدة ثلاثة أيامٍ، ثم أنها قالت له: أني نقلت جميع ما عنده من الذخائر والأموال والفرش ولم يبق عنده إلا الجارية التي تدخل عليكما بالشراب ولكني لا أقدر على فراقها لأنها قريبتي وعزيزةٌ عندي وكاتمةٌ لسري ومرادي أن أضربها وأغضب عليها وإذا أتى زوجي أقول له: أنا ما بقيت أقبل هذه الجارية ولا أقعد أنا وإياها في بيت فخذها وبعها فيأخذها ليبيعها فاشتريها أنت حتى نأخذها معنا فقال: لا بأس بذلك ثم أنها ضربتها فلما دخل زوجها رأى الجارية تبكي فسألها عن سبب بكائها فقالت: أن سيدتي ضربتني فدخل وقال: ما فعلت هذه الجارية الملعونة حتى ضربتيها? فقالت له: يا رجل أني أقول لك كلمةً واحدةً أنا ما بقيت أقدر أنظر هذه الجارية فخذها وبعها وإلا طلقني فقال: أبيعها ولا أخالف لك أمراً ثم أنه أخذها معه وهو خارجٌ إلى الدكان ومر بها على قمر الزمان وكانت زوجته بعد خروجه بالجارية مرقت من السرداب بسرعةٍ، إلى قمر الزمان، فادخلها في التختروان وقبل أن يصل إلى الشيخ الجوهري، فلما وصل إليه ورأى قمر الزمان الجارية معه، قال له: ما هذه? قال: جاريتي التي كانت تسقينا الشراب ولكنها خالفت سيدتها ما بقي لها قعودٌ عندها، فقال له: بعها لي حتى أشم رائحتك فيها واجعلها خادمة لجاريتي حليمة فقال: لا بأس خذها فقال له: بكم? فقال: أنا لا آخذ الآن منك شيئاً تفضلت علينا فقبلها منه وقال للصبية: قبلي يد سيدك، فبرزت له من التختروان وقبلت يده، ثم ركبت في التختروان وهو ينظر إليها.
ثم قال له قمر الزمان: استودعتك الله يا معلم عبيد أبريء ذمتي فقال له: أبرأ الله ذمتك وحملك بالسلامة إلى عيالك وودعه وتوجه إلى دكانه وهو يبكي وهو عزٌ عليه قمر الزمان لكونه كان رفيقا له والرفق له حقٌ ولكنه فرح بزوال الوهم الذي حصل له من أمر زوجته حيث سافر ولم يتحقق ما ظنه في زوجته، هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر قمر الزمان فأن الصبية قالت له: أن أردت السلامة فسافر بنا على غير طريقٍ معهودةٍ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والسبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما سافر قالت له الصبية: أن أردت السلامة فسافر بنا على غير طريق معهوده فقال: سمعاً وطاعةً، ثم سلك طريقاً غير الطريق التي تعهد الناس المشي فيها ولم يزل مسافراً من بلادٍ حتى وصل إلى حدود قطر مصر ثم كتب كتاباً وأرسله إلى والده مع ساعٍ وكان والده التاجر عبد الرحمن قاعداً في السوق بين التجار وفي قلبه من فراق ولده لهيب النار لأنه من يوم ما توجه ما أتاه من عنده خبرٌ فبينما هو كذلك وإذا بالساعي مقبلٍ وقال لهم: يا سادتي من فيكم اسمه التاجر عبد الرحمن? فقالوا له: ما تريد منه? قال لهم: أن معي كتاباً من عند ولده قمر الزمان وقد فارقته عند العريش ففرح وانشرح وفرح له التجار وهنوه بالسلامة، ثم أخذ الكتاب وقرأه فرآه من عند قمر الزمان إلى التاجر عبد الرحمن وبعد السلام عليك وعلى جميع التجار فأن سألتم عنا فلله الحمد والمنة فقد بعنا واشترينا وكسبنا، ثم قدمنا بالصحة والسلامة والعافية، فعند ذلك فتح باب الفرح وعمل الولائم وأكثر الضيافات والعزائم وأحضر آلات الطرب وأتى في الفرح بأنواع العجب فلما وصل ولده الصالحية خرج إلى مقابلته أبوه وجميع التجار فقابلوه وأعتنقه والده وضمه إلى صدره وبكى حتى أغمي عليه ولما أفاق قال له: يومٌ مباركٌ يا ولدي حيث جمعنا بك المهيمن القادر.
ثم أن التجار تقدموا إليه وسلموا عليه فرأوا معه أحمالاً كثيرةً وخدماً وتخترواناً وهو في دائرةٍ واسعةٍ، فأخذوه ودخلوا به البيت فلما خرجت الصبية من التختروان رآها أبوه فتنة لمن يراها ففتحوا لها قصراً عالياً كأنه كنزٌ انحلت عنه الطلاسم ولما رأتها أمه افتتنت بها وظنت أنها ملكةً من زوجات الملوك ففرحت بها وسألتها فقالت لها: أنا زوجة ولدك قالت أمه: حيث تزوج بك ينبغي لنا أن نقيم لك فرحاً عظيماً حتى نقرح بك وبولدي. هذا ما كان من أمرها.
أما ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن فأنه بعد انقضاض الناس وراح كل واحدٍ إلى حال سبيله اجتمع بولده وقال له: يا ولدي ما تكون هذه الجارية عندك وبك اشتريتها? فقال له: يا والدي ليست جارية وإنما هي التي كانت سبب غربتي فقال له والده: وكيف ذلك? قال: أنها التي كان يصفها لنا الدرويش ليلة ما بات عندنا فأن آمالي تعلقت بها في ذلك الوقت ولا طلبت السفر إلا من أجلها حتى تعريت في الطريق وأخذت العرب أموالي وما دخلت البصرة إلا وحدي وحصل لي كذا وكذا وصار يحكي لوالده من المبتدأ إلى المنتهى فلما فرغ من حديثه قال له: هل مرادك الزواج بها? قال: أن كنت تأمرني افعل ذلك وإلا فلا أتزوجها قال له: أن تزوجت بها أكون بريئاً منك في الدنيا والآخرة وأغضب عليك غضباً شديداً كيف تتزوج بها وعي عملت هذه الفعال مع زوجها وكما عملتها مع زوجها على شأنك تعمل معك مثلها على شأن غيرك فأنها خائنةٌ والخائن ليس له أمانٌ فأن كنت تخالفني أكون غضباناً عليك وأن سمعت كلامي أفتش لك على بنتٍ أحسن منها تكون طاهرةً زكيةً أزوجك بها ولو أنفق عليها جميع مالي وأعمل لك فرحاً ليس له نظيرٌ وافتخر بك وبها وإذا قال الناس فلان تزوج فلانة أحسن من أن يقولوا تزوج جاريةً معدومة النسب والحسب وصار يرغب ولده في عدم زواجها ويذكر له في شأن ذلك عبارات ونكتاً وأشعاراً وأمثالاً ومواعظ، فقال له قمر الزمان: يا والدي حيث كان الأمر كذلك لا علاقة لي بزواجها فلما قال قمر الزمان ذلك الكلام قبله أبوه بين عينيه وقال له: حقاً يا ولدي وحياتك لا بد من أن أزوجك بنتاً ليس لها نظير.
ثم أن التاجر عبد الرحمن حط زوجة عبيد الجوهري وجاريتها في قصرٍ عالٍ وقفل عليهما وقيد بهما جاريةً سوداء توصل لهما أكلهما وشربهما وقال لها: أنت وجاريتك تظلان محبوستين في هذا القصر حتى انظر لكما من يشتريكما وأبيعكما له وأن خالفت قتلتك أنت وجاريتك فأنك خائنةٌ ولا خير فيك فقالت له: افعل أنت مرادك فأني استحق جميع ما تفعله معي ثم أقفل عليهما الباب وودى عليهما حريمه وقال: لا يطلع عندهما أحدٌ ولا يكلمهما غير الجارية السوداء التي تعطيهما أكلهما وشربهما من طاقة القصر فقعدت هي وجاريتها تبكي وتتندم على ما فعلت بزوجها. هذا ما كان من أمرها.
وأما ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن فأنه أرسل الخطاب يخطبون بنتاً ذات حسب ونسب لولده فما زلن يفتشن وكلما رأين واحدةً يسمعن بأحسن منها حتى دخلن بيت شيخ الإسلام فرأين بنته ليس لها نظيرٌ في مصر وهي ذات حسنٍ وجمالٍ وقدٍ واعتدالٍ لأنها أحسن من زوجة عبيد الجوهري بألف طبقةٍ وأخبرته بها فذهب هو والأكابر إلى والدها وخطبوها منه وكتبوا الكتاب وعملوا فرحاً عظيماً ثم عمل الولائم وعزم في أول يوم الفقهاء فعملوا مولداً شريفاً وثاني يوم عزموا التجار تماماً ثم دقت الطبول وزمرت الزمور وزينت الحارة والخط بالقناديل وفي كل ليلةٍ تأتي سائر أرباب الملاعب يلعبون بأنواع اللعب وكل يوم يعمل ضيافةً لصنفٍ من أصناف الناس حتى عزم العلماء والأمراء والصناجق والحكام.
ولم يزل الفرح قائماً مدة أربعين يوماً وكل يومٍ يقعد التاجر ويستقبل الناس وولده يقعد بجانبه ليتفرج على الناس وهم يأكلون من السماط وكان فرحاً ليس له نظيرٌ وفي آخر يومٍ عزم الفقراء والمساكين غريباً وقريباً فصاروا يأتون زمراً ويأكلون والتاجر جالساً وابنه بجنبه فبينما هم كذلك وإذا بالشيخ عبيد زوج الصبية داخل في جملة الفقراء وهو عريانٌ تعبان وعلى وجهه أثر السفر فلما رآه قمر الزمان عرفه فقال لأبيه: انظر يا أبي إلى هذا الرجل الفقير الذي دخل من الباب فنظر إليه فرآه رث الثياب وعليه خلق جلباب يساوي درهمين وفي وجهه اصفرار يعلوه غبار وهو مثل مقاطيع الحجاج ويئن أنين المريض المحتاج ويمشي بتهافتٍ ويميل في مشيه ذات اليمين وذات الشمال وقال: يا ولدي من هذا? قال له: هذا المعلم عبيد الجوهري زوج المرأة المحبوسة عندنا فقال له: أهذا الذي كنت تحدثني عنه? قال: نعم وقد عرفته معرفةً جيدةً وكان السبب في مجيئه أنه لما ودع قمر الزمان توجه إلى دكانه فجاءته دقة شغل فأخذها واشتغلها في بقية النهار.
وعند المساء قفل الدكان وذهب إلى البيت ووضع يده على الباب فانفتح فدخل فلم ير زوجته ولا الجارية، ورأى البيت في أسوا حالٍ. فلما رأى الدار خاليةً التفت يميناً وشمالاً ثم دار فيه مثل المجنون فلم يجد أحداً وفتح خزنته فلم يجد فيها شيئاً من ماله ولا من ذخائره فعند ذلك أفاق من سكرته وتنبه من غشيته وعرف أن زوجته هي التي كانت تنقلب عليه بالحيل حتى غدرت به فبكى على ما حصل له ولكنه كتم أمره حتى لا يشمت به أحدٌ من أعدائه ولا ينكدر أحدٌ من أحبابه وعلم أنه إذا باح بالسر لا يناله إلا الهتيكة والتعنيف من الناس وقال في نفسه: يا فلان اكتم ما حصل لك من الخبال والوبال وعليك بالعمل.
تم أنه قفل بيته وقصد الدكان ووكل بها صانعاً من صناعه وقال له: أن الغلام التاجر صاحبي عزم علي أن أروح معه إلى مصر بقصد الفرجة وحلف أنه ما يرحل حتى يأخذني معه بحريمي وأنت يا ولدي وكيلي في الدكان وأن سألكم عني الملك فقولوا له أنه توجه بحريمه إلى بيت الله الحرام ثم باع بعض مصالحه واشترى له جمالاً وبغالاً ومماليك واشترى له جاريةً وحطها في تختروان وخرج من البصرة بعد عشرة أيامٍ فودعه أحبابه وسافر والناس لا يظنون إلا أنه أخذ زوجته وتوجه إلى الحج وفرحت الناس وقد أنقذهم الله من حبسهم في المساجد والبيوت في كل يوم جمعةٍ وصار الناس يقولون: لا رده الله إلى البصرة مرةً أخرى حتى لا نحبس في المساجد والبيوت في كل يوم جمعةٍ لأن هذه الحصة أورثت أهل البصرة حسرة عظيمة وبعضهم يقول: أظنه لا يرجع من سفره بسبب دعاء أهل البصرة عليه وبعضهم يقول: أن رجع لا يرجع إلا منكس الحال وفرح أهل البصرة بسفره فرحاً عظيماً بعد أن كانوا في حسرةٍ عظيمةٍ حتى ارتاحت قططهم وكلابهم.
فلما أتى يوم الجمعة نادى المنادي في البلد على العادة بأنهم يدخلون إلى المساجد قبل صلاة الجمعة بساعتين أو يستخفون في البيوت وكذلك القطط والكلاب فضافت صدورهم فاجتمعوا جميعاً وتوجهوا إلى الديوان ووقفوا بين يدي الملك وقالوا له: يا ملك الزمان أن الجوهري أخذ حريمه وسافر إلى حج بيت الله الحرام وزال السبب الذي كنا نحبس لأجله فبأي سببٍ الآن? فقال الملك: كيف سافر هذا الخائن ولم يعلمني لكن إذا جاء من سفره لا يكون الأخير وروحوا إلى دكاكينكم وبيعوا واشتروا فقد ارتفعت عنكم هذه الحالة. هذا ما كان من أمر الملك وأهل البصرة.
وأما ما كان من أمر المعلم عبيد الجوهري فأنه سافر عشرة مراحلٍ فحل به ما حل بقمر الزمان قبل دخوله البصرة وطلعت عليه عرب بغداد فعروه وأخذوا ما كان معه وجعل نفسه ميتاً حتى خلص وبعد ذهاب العرب قام وهو عريان إلى أن دخل بلدٍ فحنن الله على أهل البلد الخير فستروا عورته بقطعٍ من الثياب الخلقة وصار يسأل ويتقوت من بلدٍ إلى بلدٍ حتى وصل إلى مصر المحروسة فأحرقه الجوع فدار يسأل في الأسواق فقال له رجل من أهل مصر: يا فقير عليك ببيت الفرح كل واشرب فأن هناك في هذا اليوم سماطٌ للفقراء والغرباء فقال له: لا أعرف طريق بيت الفرح فقال له: اتبعني وأنا أريه لك فتبعه إلى أن وصل إلى بيت الفرح فادخل ولا تخف فما على باب الفرح من حجابٍ.
فلما دخل رآه قمر الزمان فعرفه وأخبر به أباه ثم أن التاجر عبد الرحمن قال لولده: يا ولدي أتركه في هذه الساعة ربما يكون جائعاً فدعه يأكل حتى يشبع ويسكن روعه وبعد ذلك نطالبه فصبرا عليه حتى أكل واكتفى وغسل يديه وشرب القهوة والشربات السكر الممزوجة بالمسك والعنبر وأراد أن يخرج فأرسل خلفه والد قمر الزمان فقال له الرسول: تعالى يا غريب كلم التاجر عبد الرحمن قال: ما يكون هذا التاجر? فقال له الرسول: أنه صاحب الفرح فرجع وظن أنه يعطيه إحسانا فلما أقبل على التاجر رأى صاحبه قمر الزمان فغاب عن الوجود من الحياء منه وقام له قمر الزمان على الأقدام وأخذه بالأحضان وسلم عليه وتباكيا بكاءً شديداً ثم أجلسه بجانبه فقال له أبوه: يا عديم الذوق ما هذا شأن ملاقاة الأصحاب أرسله أولا إلى الحمام وأرسل إليه بدلةً تليق به وبعد ذلك أقعد معه وتحدث أنت وإياه فصاح على بعض الغلمان وأمرهم أن يدخلوه الحمام وأرسل إليه بدلة من خاص الملبوس تساوي ألف دينارٍ وأكثر من ذلك المبلغ وغسلوا جسده وألبسوه البدلة فصار كأنه شاه بندر التجار وكان الحاضرون سألوا قمر الزمان حين غيابه في الحمام وقالوا له: من هذا? أأأووو ومن أين تعرفه? فقال: هذا صاحبي وقد أنزلني في بيته وله علي إحسان لا يحصى فأنه أكرمني إكراماً زائداً وهو من أهل السعادة والسيادة وصنعته جوهري ليس له نظيرٌ وملك البصرة يحبه حباً كثيراً وله عنده مقامٌ عظيمٌ وكلامٌ نافذٌ وصار يبالغ لهم في مدحه ويقول: أنه عمل معي كذا وكذا وأنا صرت في حياءٍ منه ولا أدري ما أجازيه به في مقابلة ما صنعه من الإكرام ولم يزل ينفي عليه حتى عظم قدره عند الحاضرين وصار مهاباً في أعينهم فقالوا: نحن كلنا نقوم بواجبه وإكرامه من شأنك ولكن مرادنا أن نعرفه ما سبب مجيئه إلى مصر وما سبب خروجه من بلاده وما فعل الله به حتى صار في هذه الحالة? فقال لهم: يا ناس لا تتعجبوا أن ابن آدم تحت القضاء والقدر وما دام في هذه الدنيا لا يسلم من الآفات.
أعلموا أني أنا دخلت البصرة في أسوأ من هذا الحال وأشد من هذا النكال لأن هذا الرجل دخل في مصر مستور العورة بالخلقان وأما أنا فأني دخلت بلاده مكشوف العورة يدٌ من خلف ويدٌ قدام ولا نفعني إلا الله وهذا الرجل العزيز والسبب في ذلك أن العرب عروني وأخذوا جمالي وبغالي وأحمالي وقتلوا غلماني ورجالي ورقدت بين القتلى فظنوا أني ميتٌ فذهبوا وفاتوني وبعد ذلك قمت ومشيت عرياناً إلى أن دخلت البصرة فقابلني هذا الرجل وكساني وأنزلني في بيته وقواني بالمال وجميع ما أتيت به معي ليس إلا من الله ومن خيره فعندما سافرت أعطاني شيئاً كثيراً ورجعت إلى بلادي مجبور الخاطر وفارقته وهو في سيادةٍ فلعله حدث له بعد ذلك نكبةٌ من نكبات الزمان أوجبت له فراق الأهل والأوطان وجرى له في الطريق مثل ما جرى لي ولا عجب في ذلك ولكن ينبغي لي الآن أن أجازيه على ما صنع معي من كريم الفعال وأعمل بقول من قال. فبينما هم في هذا الكلام وأمثاله وإذا بالمعلم عبيد مقبلاً عليهم كأنه شاه بندر التجار فقام إليه الجميع وسلموا عليه وأجلسوه في الصدر، وقال له قمر الزمان: يا صاحبي نهارك سعيدٌ مباركٌ، لا تحك على شيءٍ جرى علي قبلك فأن كان العرب عروك ونهبوا منك مالك فأن المال فداء الأبدان فلا تغم نفسك فأني وصلت بلادك عرياناً وقد كسوتني وأكرمتني ولك علي الإحسان الكثير فأنا أجازيك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والسبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما قال للمعلم عبيد الجوهري أني وصلت بلادك عرياناً وقد كسوتني ولك علي الإحسان الكثير فأنا أجازيك وافعل معك كما فعلت معي بل أكثر من ذلك فطب نفساً وقر عيناً، وصار يطيب بخاطره ومنعه من الكلام لئلا يذكر زوجته وما فعلت معه، ولم يزل يعظه بمواعظٍ وأمثالٍ وأشعارٍ ونكتٍ وحكاياتٍ ويسليه فلحظ الجوهري ما أشار إليه قمر الزمان من الكتمان فكتم ما عنده وتسلى بما سمعه من الحكايات والنوادر.
ثم أن قمر الزمان ووالده التاجر عبد الرحمن أخذا الجوهري وذهبا به إلى قاعة الحريم واجتمعا به فقال له التاجر عبد الرحمن: نحن ما منعناك من الكلام إلا خوفاً من الفضيحة في حقك وحقنا ولكن نحن الآن في خلوةٍ فأفدني بما جرى بينك وبين زوجتك، فشرح له القضية من المبتدأ إلى المنتهى، فلما فرغ من قصته قال له: هل الذنب من زوجتك أو من ولدي? قال له: والله أن ولدك ما عنده ذنبٌ لأن الرجال لهم طمعٌ في النساء والنساء عليهن أن يمتنعن عن الرجال، فالعيب عند زوجتي التي خانتني وفعلت معي هذه الفعال.
فقام التاجر واجتمع بولده وقال له: يا ولدي أننا اختبرنا زوجته وعرفنا أنها خائنةٌ ومرادي الآن أن أختبره وأعرف هل هو صاحب عرضٍ ومروءةٍ أو هو ديوثٌ، فقال له: وكيف ذلك? فقال له: مرادي أن أحمله على الصلح مع زوجته فأن رضي بالصلح وسامحها فأني أضربه بالسيف فأقتله وبعد ذلك أقتلها هي وجاريتها لأنه لا ينفع في حياة الديوث والزانية وأن نفر منها فأني أزوجه شقيقتك وأعطيه أكثر من ماله التي تناولته منه.
ثم أنه عاد إليه وقال له: يا معلم أن معاشرة النساء تحتاج إلى طول البال ومن كان يهواهن فأنه يحتاج إلى سعة الصدر لأنهن يعربدن الرجال ويؤذينهن لعزتهن عليهن بالحسن والجمال فيستعظمن أنفسهن ويحتقرن الرجال ولا سيما إذا أبانت لهن المحبة من بعولتهن فيقابلنه بالتيه والدلال وكريه الفعال من جميع الجهات، فأن كان الرجل يغضب كلما رأى من زوجته ما يكره فلا يحصل بينه وبينها عشرةٌ ولا يوافقهن إلا من كان واسع البال كثير الاحتمال وأن لم يحتمل الرجل زوجته ويقابل إساءتها بالسماح فأنه لا يحصل له في عشرتها نجاح، وقد قيل في حقهن: لو كن في السماء لمالت إليهن أعناق الرجال ومن قدر وعفا كان أجره على الله.
وهذه المرأة زوجتك ورفيقتك وقد طالت عشرتها معك فينبغي أن يكون عندك لها السماح وهذا في العشرة من علامات النجاح، والنساء ناقصات عقلٍ ودينٍ وهي أن أساءت فأنها قد تابت وأن شاء الله لا تعود إلى فعل ما كانت تفعله أولاً، فالرأي عندي أنك تصطلح أنت وإياها وأنا أرد لك أكثر من مالك وأنت أقمت عندي فمرحباً بك وبها وليس لكما إلا ما يسركما وأن كنت تطلب التوجه إلى بلادك فأنا أعطيك ما يرضيك وها هو التختروان حاضرٌ فركب زوجتك وجاريتها فيه وسافر إلى بلادك والذي يجري بين الرجل وزوجته كثيرٌ فعليك بالتيسير ولا تسلك التعسير.
فقال الجوهري: يا سيدي وأين زوجتي فقال له ها هي في هذا القصر فاطلع إليها واسترض بها من شأني ولا تشوش عليها فان ولدي لما أتى بها وطلب زواجها منعته عنها ووضعتها في هذا القصر وقفلت عليها وقلت في نفسي ربما يجيء زوجها فأسلمها إليه لأنها جميلة الصورة والتي مثل هذه لا يمكن زوجها أن يفوتها والذي حسبته حصل والحمد لله تعالى على اجتماعك بزوجتك، وأما من جهة ابني فأني خطبت له وزوجته غيرها وهذه الولائم والضيافات من أجل فرحه، وفي هذه الليلة أدخله على زوجته وها هو مفتاح القصر الذي فيه زوجتك فخذه وافتح الباب وادخل على زوجتك وجاريتك وانبسط معها ويأتيكم الأكل والشرب ولا تنزل من عندها حتى تشبع منها، فقال جزاك الله عني كل خيرٍ: ثم تناول المفتاح وطلع فرحاً فظن التاجر أن هذا الكلام أعجبه وأنه رضي به فأخذ السيف وتبعه من وراءه بحيث لم يره ثم وقف ينظر ما يحصل بينه وبين زوجته. هذا ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن.
وأما ما كان من أمر الجوهري فأنه دخل على امرأته فرآها تبكي بكاءً شديداً بسبب أن قمر الزمان تزوج بغيرها ورأى الجارية تقول لها كم نصحتك يا سيدتي وقلت لك أن هذا الغلام لا ينالك منه خيرٌ فاتركي عشرته فما سمعت كلامي حتى نهبت جميع مال زوجك وأعطيته له وبعد ذلك فارقت مكانك وتعلقت في هواه وأتيت معه في هذه البلاد وبعد ذلك رماك من باله وتزوج بغيرك ثم جعل آخر تلفك به الحبس، فقالت لها اسكتي يا ملعونة فأنه وأن تزوج بغيري لا بد أن أخطر يوماً على باله، فأنا لا أسلوا مسامرته فلا بد أن يتذكر عشرتي وصحبتي ويسأل عني وأنا لا أرجع عن محبته ولا أحول عن هواه ولو مت في السجن فأنه حبيبي وطبيبي وعشمي منه أنه يرجع إلي ويعمل معي انبساطاً فلما سمعها زوجها تقول هذا الكلام دخل عليها وقال لها يا خائنة أن عشمك فيه مثل عشم إبليس في الجنة كل هذه العيوب فيك وأنا ما عندي خبرٌ ولو علمت أن فيك عيباً من هذه العيوب ما كنت قنيتك عندي ساعةً واحدةً ولكن حيث تيقنت فيك ذلك ينبغي أن أقتلك ولو قتلوني فيك يا خائنة ثم قبض عليها بيديه الاثنتين.
ثم اتكأ على زمارة حلقها وكسرها فصاحت الجارية وأسيدتاه فقال يا عاهرة العيب كله منك حيث كنت تعرفين أن فيها هذه الخصلة ولم تخبريني ثم قبض على الجارية وخنقها كل ذلك حصل والتاجر ممسكٌ السيف بيده وهو واقفٌ خلف الباب يسمع بأذنه ويرى بعينه ثم أن عبيد الجوهري لما خنقهما في قصر التاجر كثرت عليه الأوهام وخاف عاقبة الأمر وقال في نفسه أن التاجر إذا علم أني قتلتهما في قصره، لا بد أنه يقتلني ولكن اسأل الله أن يجعل قبض روحي على الإيمان وصار متحيراً في أمره ولم يدر ماذا يفعل.
فبينما هو كذلك وإذا بالتاجر عبد الرحمن دخل عليه وقال له لا بأس عليك أنك تستاهل السلامة وانظر هذا السيف الذي في يدي فأنا كنت مضمراً على أن أقتلك أن صالحتها ورضيت عليها وأقتل الجارية وحيث فعلت هذه الفعال فمرحباً بك، ثم مرحباً وما جزاؤك إلا أن أزوجك ابنتي أخت قمر الزمان ثم أنه أخذه ونزل به وأمر بإحضار الغاسلة وشاع الخبر أن قمر الزمان ابن التاجر عبد الرحمن جاء بجاريتين معه من البصرة فماتتا فصار الناس يعزونه ويقولون له تعيش رأسك وعوض الله عليك، ثم غسلوهما وكفنوهما ولم يعرف أحدٌ حقيقة الأمر هذا ما كان من أمر عبيد الجوهري وزوجته وجاريته.
وأما ما كان من أمر التاجر عبد الرحمن فأنه أحضر شيخ الإسلام وجميع الأكابر وقال له شيخ الإسلام اكتب كتاب بنتي كوكب الصباح على المعلم عبيد الجوهري ومهرها قد وصلني بالتمام والكمال فكتب الكتاب وسقاهم الشربات وجعلوا الفرح واحداً وزفوا بنت شيخ الإسلام زوجة قمر الزمان وأخته كوكب الصباح زوجة المعلم عبيد الجوهري في تختروان واحدٍ في ليلةٍ واحدةٍ وفي المساء زفوا قمر الزمان والمعلم عبيد سواءً وأدخلوا قمر الزمان على بنت شيخ الإسلام وأدخلوا المعلم عبيداً على بنت التاجر عبد الرحمن فلما دخل عليها رآها أحسن من زوجته وأجمل منها بألف طبقةٍ.
ثم أنه أزال بكارتها ولما أصبح دخل على التاجر عبد الرحمن وقال يا عم أني اشتقت إلى بلادي ولي فيها أملاكٌ وأرزاقٌ وكنت أقمت فيها صانعاً من صناعي وكيلاً عني وفي خاطري أن أسافر إلى بلادي لأبيع أملاكي وأرجع إليك فأن تأذن لي في التوجه إلى بلادي من أجل ذلك فقال له يا ولدي قد أذنت لك ولا لوم عليك في هذا الكلام فأن حب الوطن من الإيمان والذي ما له خير في بلاده ما له خير في بلاد الناس وربما أنك إذا سافرت بغير زوجتك ودخلت بلادك يطيب لك فيها القعود وتصير متحيراً بين رجوعك إلى زوجتك وقعودك في بلادك فالرأي الصواب أن تأخذ زوجتك معك وبعد ذلك أن شئت الرجوع إلينا فارجع أنت وزوجتك ومرحباً بك وبها لأننا ناس لا نعرف طلاقاً ولا تتزوج منا امرأةٌ مرتين ولا تهجر إنساناً بطراً فقال يا عم أخاف أن ابنتك لا ترضى بالسفر معي إلى بلادي فقال له يا ولدي: نحن ما عندنا نساء تخالف بعولتهن ولا نعرف امرأة تغضب على بعلها فقال له بارك الله فيكم وفي نسائكم.
ثم أنه دخل على زوجته وقال لها أنا مرادي السفر إلى بلادي فما تقولين قالت أن أبي يحكم علي ما دمت بكراً وحيث تزوجت فقد صار الحكم كله في يد بعلي وأنا لا أخالفه فقال لها بارك الله فيك وفي أبيك ورحم الله بطناً حملتك وظهراً ألقاك، ثم بعد ذلك قطع علائقه وأخذ في العلو فأعطاه عمه شيئاً كثيرا وودعا بعضهما ثم أخذ زوجته وسافر ولا يزال مسافراً حتى دخل البصرة فخرجت لملاقاته الأقارب والأصحاب وهم يظنون أنه كان في الحجاز وصار بعض الناس فرحاناً بقدومه وبعضهم مغموماً لرجوعه إلى البصرة وقال الناس لبعضهم أنه يضيق علينا في كل جمعةٍ بحسب العادة ويحبسنا في الجوامع والبيوت حتى يحبس قططنا وكلابنا هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر الملك فأنه لما علم بقدومه غضب عليه وأرسل إليه وأحضره بين يديه وعنفه وقال له كيف تسافر ولم تعلمني بسفرك فهل كنت عاجزاً عن شيءٍ أعطيه لك لتستعين به على الحج إلى بيت الله الحرام فقال له العفو يا سيدي والله ما حججت ولكن جرى لي كذا وكذا وأخبره بما جرى له مع زوجته ومع التاجر عبد الرحمن المصري، وكيف زوجه ابنته إلى أن قال له وقد جئت بها إلى البصرة فقال له والله لولا أني أخاف من الله تعالى لقتلتك وتزوجت بهذه البنت الأصلية من بعدك ولو كنت انفق عليها خزائن الأموال لأنها لا تصلح إلا للملوك ولكن جعلها الله من نصيبك وبارك الله لك فيها فاستعوض بها خيراً.
ثم أنه أنعم على الجوهري ونزل من عنده وقعد معها خمس سنواتٍ وبعد ذلك توفي إلى رحمة الله تعالى فخطبها الملك، فما رضيت وقالت أيها الملك أنا ما وجدت في طائفتي امرأةً تزوجت بعد بعلها فأنا لا أتزوج أحداً بعد بعلي فلا أتزوجك ولو كنت تقتلني فأرسل يقول لها هل تطلبين التوجه إلى بلادك فقالت إذا فعلت خيراً تجازى به فجمع لها جميع أموال الجوهري وزادها من عنده على قدر مقامه، ثم أرسل معها وزيراً من وزرائه مشهوراً بالخير والصلاح وأرسل معه خمسمائة فارسٍ فسار بها ذلك الوزير حتى أوصلها إلى أبيها وأقامت من غير زواجٍ حتى ماتت ومات الجميع وإذا كانت هذه المرأة ما رضيت أن تبدل زوجها بعد موته بسلطانٍ كيف تسوى بمن تبدله في حال حياته بغلامٍ مجهول الأصل والنسب وخصوصاً إذا كان ذلك في السفاح وعلى غير طريق سنة النكاح ومن ظن أن النساء كلهن سواءٌ فأن داء جنونه ليس له دواء فسبحان من له الملك والملكوت هو الحي الذي لا يموت.

حكاية عبد الله بن فاضل عامل البصرة مع أخويه

ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن الخليفة هارون الرشيد تفقد خراج البلاد يوماً من الأيام فرأى خراج جميع الأقطار والبلاد جاء إلى بيت المال إلا خراج البصرة فأنه لم يأت في ذلك العام فنصب ديواناً لهذا السبب وقال علي بالوزير فحضر بين يديه فقال له أن خراج جميع الأقطار جاء إلى بيت المال إلا خراج البصرة فأنه لم يأت منه شيءٌ فقال يا أمير المؤمنين لعل نائب البصرة حصل له أمر ألهاه عن إرسال الخراج فقال له أن مدة حضور الخراج عشرون يوماً فما عذره في هذه المدة حتى لم يرسل الخراج أو يرسل بإقامة العذر فقال له يا أمير المؤمنين أن شئت أرسلنا إليه رسولاً فقال أرسل له أبا اسحق الموصلي النديم فقال: سمعاً وطاعةً لله ولك يا أمير المؤمنين.
ثم أن الوزير جعفر نزل إلى داره وأحضر أبا اسحق الموصلي النديم وكتب له خطاً شريعاً، وقال له امض إلى عبد الله بن فاضل نائب مدينة البصرة وانظر ما الذي ألهاه عن إرسال الخراج ثم تسلم منه خراج البصرة بالتمام والكمال وائتني به سريعاً فأن الخليفة تفقد خراج الأقطار فوجده قد وصل إلا خراج البصرة وأن رأيت الخراج غير حاضرٍ واعتذر إليك بعذرٍ فهاته معك ليخبر الخليفة بالعذر من لسانه فأجاب بالسمع والطاعة وأخذ خمسة آلاف فارسٍ من عسكر الخليفة وسافر حتى وصل إلى مدينة البصرة فعلم بقدومه عبد الله بن فاضل فخرج بعسكره إليه ولاقاه ودخل به البصرة وطلع به قصره وبقية العسكر نزلوا في الخيام خارج البصرة وقد عين لهم ابن الفاضل جميع ما يحتاجون إليه ولما دخل أبو اسحق الديوان وجلس على الكرسي أجلس عبد الله بن فاضل بجانبه وجلس الأكابر حوله على قدر مراتبهم.
ثم بعد السلام قال له ابن فاضل يا سيدي هل لقدومك علينا من سببٍ قال نعم إنما جئت لطلب الخراج فأن الخليفة سأل عنه ومدة وروده قد مضت فقال يا سيدي يا ليتك ما تعبت ولا تحملت مشقة السفر فأن الخراج حاضرٌ بالتمام والكمال وقد كنت عازماً أن أرسله في غدٍ ولكن حيث أتيت فأنا أسلمه إليك بعد ضيافتك ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أحضر الخراج بين يديك ولكن وجب علينا الآن أننا نقدم إليك هديةً من بعض خيرك وخير أمير المؤمنين فقال لا بأس بذلك، ثم أنه فض الديوان ودخل به قصراً في داره ليس له نظيرٌ ثم قدم له ولأصحابه سفرة الطعام فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ثم رفعت المائدة وغسلت الأيادي وجاءت القهوة والشربات وقعدوا في المنادمة إلى ثلث الليل، ثم فرشوا له سريراً من العاج مرصعاً بالذهب الوهاج فنام عليه ونام نائب البصرة على سريرٍ آخر بجانبه فغلب السهر على ابن اسحق رسول أمير المؤمنين وصار يفكر في بحور الشعر والنظام لأنه من خواص ندماء الخليفة وكان له باعٌ عظيمٌ في الأشعار ولطائف الأخبار ولم يزل سهراناً في إنشاد الشعر إلى نصف الليل فبينما هو كذلك وإذا بعبد الله بن فاضل قام وشد حزامه وفتح دولاباً وأخذ منه سوطاً وأخذ شمعةً مضيئةً وخرج من باب القصر وهو يظن أن أبا اسحق نائم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله بن فاضل لما خرج من باب القصر وهو يظن أن أبا اسحق النديم نائماً فلما خرج تعجب أبو اسحق وقال في نفسه إلى أين يذهب عبد الله ابن فاضل بهذا السوط فلعل مراده أن يعذب أحداً ولكن لا بد لي من أن أتبعه وانظر ما يصنع في هذه الليلة ثم أن أبا اسحق قام وخرج وراءه قليلاً قليلاً بحيث أنه لم يره فرأى عبد الله فتح خزانةً وأخرج منها مائدةً فيها أربعة أصحن من الطعام وخبزاً وقلةً فيها ماءٍ ثم أنه حمل المائدة والقلة ومشى فتبعه أبو اسحق مستخفياً إلى أن دخل قاعة فوقف أبو اسحق خلف باب القاعة من داخل وصار ينظر من خلال ذلك الباب فرأى هذه القاعة واسعةً ومفروشةً فرشاً فاخراً وفي وسط القاعة سريرٌ من العاج مصفحٌ بالذهب الوهاج وذلك السرير مربوطٌ فيه كلبان في سلسلتين من الذهب ثم أنه رأى عبد الله حط المائدة على جانبٍ في مكانٍ وشمر عن أياديه وفك الكلب الأول فصار يتلوى في يده ويضع وجهه في الأرض كأنه يقبل بين يديه ويعوي عواءً خفيفاً بصوتٍ ضعيفٍ ثم أنه كتفه ورماه في الأرض وسحب السوط ونزل به عليه وضربه ضرباً وجيعاً من غير شفقةٍ وهو يتلوى بين يديه ولا يجد له خلاصاً ولم يزل يضربه بذلك السوط حتى قطع الأنين وغاب عن الوجود ثم أنه أخذه وربطه في مكانه وبعد ذلك أخذ الكلب الثاني وفعل به كما فعل بالأول ثم أنه أخرج محرمةً وصار يمسح لهما دموعهما ويأخذ بخاطرهما ويقول لا تؤاخذني والله ما هذا بخاطري ولا يسهل علي ولعل الله يجعل لكما من هذا الضيق فرجاً ومخرجاً ويدعوا لهما وحصل كل هذا وأبو اسحق النديم واقفٌ يسمع بأذنه ويرى بعينه وقد تعجب من هذه الحالة ثم أنه قدم لهما سفرة الطعام وصار يلقمهما بيده حتى شبعا ومسح لهما أفواههما وحمل القلة وسقاهما وبعد ذلك حمل المائدة والقلة والشمعة وأراد أن يخرج فسبقه أبو اسحق وجاء إلى سريره ونام ولم يعرف أنه تبعه وأطلع عليه ثم أن عبد الله وضع السفرة والقلة في الخزانة ودخل القاعة وفتح الدولاب ووضع السوط في محله وقلع حوائجه ونام هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر أبي اسحق فأنه بات بقية تلك الليلة يفكر في شأن هذا الأمر ولم يأته نومٌ من كثرة العجب وصار يقول في نفسه يا ترى ما سبب هذه القضية ولم يزل يتعجب إلى الصباح ثم قاموا وصلوا الصبح ووضع لهم الفطور فأكلوا وشربوا القهوة وطلعوا إلى الديوان واشتغل أبو اسحق بهذه النكتة طول النهار ولكنه كتمها ولم يسأل عبد الله عنها وثاني ليلة فعل بالكلبتين كذلك فضربهما ثم صالحهما وأطعمهما وسقاهما وتبعه أبو اسحق فرآه فعل بهما كأول ليلةٍ وكذلك ثالث ليلةٍ.
ثم أنه أحضر الخراج إلى أبي اسحق النديم في رابع يومٍ فأخذه وسافر، ولم يزل مسافراً حتى وصل إلى مدينة بغداد وسلم الخراج إلى الخليفة ثم أن الخليفة سأله عن سبب تأخير الخراج فقال له يا أمير المؤمنين رأيت عامل البصرة قد جهز الخراج وأراد إرساله ولو تأخرت يوماً لقابلني في الطريق ولكن رأيت من عبد الله بن فاضل عجباً عمري ما رأيت مثله يا أمير المؤمنين فقال الخليفة وما هو يا أبا اسحق قال رأيت ما هو كذا وكذا وأخبره بما فعله مع الكلبين وقال رأيته ثلاث ليالٍ متوالياتٍ وهو يعمل هذا العمل فيضرب الكلبين وبعد ذلك يصالحهما ويأخذ بخاطرهما ويعطعمهما ويسقيهما وأنا أتفرج عليه بحيث لا يراني فقال له الخليفة فهل سألته عن السبب فقال له وحياة رأسك يا أمير المؤمنين فقال الخليفة يا أبا اسحق أمرتك أن ترجع إلى البصرة وتأتيني بعبد الله بن فاضل وبالكلبين.
فقال يا أمير المؤمنين دعني من هذا فأن عبد الله بن فاضل أكرمني إكراماً زائداً وقد أطلعت على هذه الحالة اتفاقاً من غير قصد فأخبرتك بها فكيف أرجع إليه وأجيء به فأن رجعت إليه لا ألقى لي وجه حياءٍ منه فاللائق إرسال غيري إليه بخط يدك فيأتيك به وبالكلبين فقال له أن أرسلت له غيرك ربما ينكر هذا الأمر ويقول ما عندي كلابٌ وأما إذا أرسلتك أنت وقلت له أني رأيتك بعيني فأنه لا يقدر على إنكار ذلك، فلا بد من ذهابك إليه وأتيانك به وبالكلبين وإلا فلا بد من قتلك.
فقال له أبو اسحق سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين وحسبنا الله ونعم الوكيل وصدق من قال آفة الإنسان من اللسان فأنا الجاني على نفسي حيث أخبرتك ولكن اكتب خطاً شريفاً وأنا ذاهب إليه وآتيك به فكتب له خطاً شريفاً وتوجه به إلى البصرة فلما دخل على عامل البصرة قال له كفانا الله سبب رجوعك يا أبا اسحق فما لي أراك رجعت سريعاً لعل الخراج ناقصٌ فلم يقبله الخليفة فقال يا أمير عبد الله ليس رجوعي من أجل نقص الخراج فأنه كاملٌ وقبله الخليفة ولكن أرجو منك عدم المؤاخذة فأني أخطأت في حقك وهذا الذي وقع مني مقدرٌ من الله تعالى، فقال له وما وقع منك يا أبا اسحق أخبرني فأنك حبيبي وأنا لا أؤاخذك فقال له اعلم أني لما كنت عندك أتبعتك ثلاث ليالٍ متوالياتٍ وأنت تقوم كل ليلةٍ في منتصف الليل وتعذب الكلاب وترجع فتعجبت من ذلك واستحيت أن أسألك عنه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبو اسحق قال لعبد الله لما رأيت عذابك للكلبين استحيت أن أسألك عنه وقد أخبرت الخليفة خبرك اتفاقاً من غير قصدٍ فألزمني بالرجوع إليك وهذا خط يده ولو كنت أعلم أن الأمر يحوج إلى ذلك ما كنت أخبرته ولكن جرى القدر بذلك وصار يعتذر إليه فقال له حيث أخبرته فأنا أصدق خبرك عنده لئلا يظن بك الكذب فأنك حبيبي ولو أخبره غيرك كنت أنكرت ذلك وكذبته فها أنا أروح معك، وآخذ الكلبين معي ولو كان في ذلك تلف نفسي وانقضاء أجلي فقال له الله يسترك كما سترت وجهي عند الخليفة، ثم أنه أخذ هديةً تليق بالخليفة وأخذ الكلبين في جنازير من الذهب وحمل كل كلبٍ على جملٍ وسافروا إلى أن وصلوا إلى بغداد ودخلوا على الخليفة فقبل الأرض بين يديه فأذن له بالجلوس وأحضر الكلبين بين يديه فقال الخليفة ما هذان الكلبان يا أمير عبد الله فصار الكلبان يقبلان الأرض بين يديه ويحركان أذنابهما ويبكيان كأنهما يشكوان له.
فتعجب الخليفة من ذلك وقال له أخبرني بخبر هذين الكلبين وما سبب ضربك لهما وإكرامهما بعد الضرب. فقال له: يا خليفة ما هذان كلبان وإنما هما رجلان شابان ذو حسنٍ وجمالٍ وقدٍ واعتدالٍ وهما أخواي وولدا أمي وأبي فقال الخليفة وكيف كانا آدميين وصارا كلبين، قال أن أذنت لي يا أمير المؤمنين أخبرك بحقيقة الخبر، فقال أخبرني وإياك الكذب فأنه صفة أهل النفاق وعليك بالصدق فأنه سفينة النجاة وشيعة الصالحين فقال له أعلم يا خليفة الله أني إذا أخبرتك بخبرهما يكونان هما الشاهدان علي فأن كذبت يكذباني وأن صدقت يصدقاني.
فقال له هذان من الكلاب لا يقدران على نطقٍ ولا جوابٍ فيكف يشهدان لك أو عليك، فقال لهما يا أخواي إذا أنا تكلمت كلاماً كذباً فارفعا رؤوسكما وحملقا أعينكما وإذا تكلمت صدقاً فنكسا رؤوسكما وغمضا أعينكما، ثم أنه قال أعلم يا خليفة الله أنا نحن ثلاثة أخوة أمنا واحدةٌ وأبونا واحد وكان اسم أبينا فاضل وما سمي بهذا الاسم إلا لكون أمه وضعت ولدين توأمين في بطنٍ واحدٍ فمات أحدهما لوقته وساعته وفضل الثاني فسماه أبوه فاضلا ثم رباه وأحسن تربيته إلى أن كبر فزوجه أمنا ومات فوضعت أخي هذا أولاً فسماه منصوراً وحملت ثاني مرةٍ ووضعت أخي هذا فسماه ناصراً وحملت ثالث مرةٍ ووضعتني فسماني عبد الله وربانا حتى كبرنا وبلغنا مبلغ الرجال فمات وخلف لنا بيتاً ودكاناً ملآنهً قماشاً ملوناً من سائر أنواع القماش الهندي والرومي والخراساني وغير ذلك وخلف لنا ستين ألف دينارٍ.
فلما مات أبونا غسلناه وعملنا له مشهداً عظيماً ودفناه وذهب لرحمة مولاه وعملنا له عتاقةً وعتمات وتصدقنا عليه إلى تمام الأربعين يوماً، ثم أني بعد ذلك جمعت التجار وأشراف الناس وعملت لهم يوماً عظيماً، وبعد أن أكلوا قلت لهم: يا تجار أن الدنيا فانيةٌ والآخرة باقيةٌ وسبحان الدائم بعد فناء خلقه، هل تعلمون لأي شيءٍ جمعتكم في هذا اليوم المبارك عندي? قالوا سبحان علام الغيوب، فقلت لهم أن أبي مات عن جملةٍ من المال وأنا خائفٌ أن يكون عليه تبعةٌ لأحد من دينٍ أو رهنٍ أو غير ذلك ومرادي تخليص ذمة أبي من حقوق الناس فمن كان له عليه شيءٌ فليقل أن لي عليه كذا وكذا وأنا أورده لأجل براءة ذمة أبي.
فقال لي التجار: يا عبد الله أن الدنيا لا تغني عن الآخرة ولسنا أصحاب باطل وكل منا يعرف الحلال والحرام ونخاف من الله تعالى ونتجنب أكل مال اليتيم ونعلم أن أباك رحمة الله عليه كان دائماً يبقى ماله عند الناس ولا يخلي في ذمته شيئاً إلى أحد ونحن كنا دائماً نسمعه وهو يقول أنا أخاف من متاع الناس ودائماً كان يقول في دعائه: ألهي أنت ثقتي ورجائي فلا تمتني وأنا مديونٌ، وكان من جملة طباعه أنه إذا كان لأحدٍ عليه شيءٌ فأنه يدفعه إليه من غير مطاليةٍ وإذا كان له على أحد شيء فأنه لا يطالبه ويقول له على مهلك، وأن كان فقيراً يسامحه ويبري ذمته وأن لم يكن فقيراً ومات يقول سامحه الله مما لي عنده، ونحن كلنا نشهد أنه ليس لأحدٍ عنده شيءٌ، فقلت: بارك الله فيكم.
ثم أني التفت إلى أخوتي وقلت لهما: يا أخوتي أن أبانا ليس عليه لأحدٍ شيءٍ وقد أبقى لنا هذا المال والقماش والبيت والدكان ونحن ثلاثة أشقاءٍ كل واحد منا يستحق ثلث هذا الشيء فهل نتفق على عدم القسمة ويستمر مالنا مشتركا بيننا ونأكل ونشرب سواءً أو نقتسم القماش والأموال ويأخذ كل واحد منا حصته فأبيا إلا القسمة، ثم التفت إلى الكلبين وقال لهما: هل جرى ذلك يا أخوتي? فنكسا رؤوسهما وغمضا عيونهما كأنهما قالا نعم، ثم أنه قال: فأحضرت قساماً من طرف القاضي يا أمير المؤمنين فقسم بيننا المال والقماش وجميع ما تركه لنا أبونا وجعلوا البيت والدكان من قسمي في نظير بعض ما استحقه من الأموال ورضينا بذلك وصار البيت والدكان في قسمي وهما نالا قسمهما مالاً وقماشاً، ثم أني فتحت دكاناً ووضعت فيه القماش واشتريت بجانب من المال الذي نلته زيادةً على البيت والدكان قماشاً حتى ملأت الدكان وقعدت أبيع واشتري.
وأما شقيقي فأنهما اشتريا قماشاً واكتريا مركباً وسافرا في البحر إلى بلاد الناس فقلت الله يساعدهم وأنا رزقي يأتيني وليس للراحة قيمةٌ ودمت على ذلك مدة سنةٍ كاملةٍ ففتح الله علي وصرت اكسب مكاسب كثيرةً حتى صار عندي مثل الذي تركه لنا أبونا.
فاتفق لي يوماً من الأيام أنني كنت جالساً في الدكان وعلي فروتان أحدهما سمورأت والثانية سنجاب لأن ذلك الوقت كان في فصل الشتاء في أوان اشتداد البرد، فبينما أنا كذلك وإذا بشقيقي قد أقبلا وعلى بدن كل منهما قميص من غير زيادة وشفاههما ينتفضان من البرد، فلما رأيتهما عسر علي ذلك وحزنت عليهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله بن فاضل لما قال للخليفة فلما رأيتهما ينتفضان عسر علي ذلك وطار عقلي من رأسي فقمت إليهما واعتنقتهما وبكيت على حالهما وألقيت على واحد منهما الفروة والسمور وعلى الثاني الفروة والسنجاب وجئت بهما إلى الحمام وأرسلت إلى كل واحد منهما في الحمام بدلة تاجر ألفي وبعد ما اغتسلا لبس كل واحد بدلته ثم أخذتهما إلى البيت فرأيتهما في غاية الجوع فوضعت لهما سفرة الأطعمة فأكلا وأكلت معهما ولاطفتهما وطيبت بخاطرهما.
ثم التفت إلى الكلبين وقال لهما: هل جرى ذلك يا أخوتي، فنكسا رأسيهما وعضا عيونهما ثم أنه قال يا خليفة الله، ثم أني سألتهما وقلت لهما ما الذي جرى لكما فقال: سافرنا في البحر ووصلنا مدينةً تسمى الكوفة وصرنا نبيع قطعة القماش التي ثمنها علينا نصف دينارٍ بعشرة دنانيرٍ والتي بدينارٍ بعشرين ديناراً واكتسبنا مكاسب عظيمةً واشترينا من قماش العجم شقة الحرير بعشرة دنانيرٍ وهي تساوي في البصرة أربعين ديناراً، وذهبنا لمدينة تسمى الكرخ فبعنا واشترينا وكسبنا مكاسب كثيرة وصار عندنا أموالاً كثيرةً، وجعلا يذكران لي أحوال البلاد والمكاسب، فقلت لهما حيث رأيتهما هذا الفرج والخير فمالي أراكما رجعتما عريانين، فتنهدا وقالا: ما حل بنا إلا عينٌ صائبةٌ والسفر ما له أمان، فلما جمعنا تلك الأموال والخيرات وسقنا متاعنا في مركب وسافرنا في البحر بقصد التوجه إلى مدينة البصرة وقد سافرنا ثلاثة أيامٍ، وفي اليوم الرابع رأينا البحر قام وقعد وأرغى وأزيد وتحرك وهاج وتلاطم بالأمواج وصار الموج يقدح الشرر كلهيب النار وهاجت علينا الأرياح والتطم بنا المركب في سن جبل فانكسر وغرقنا وراح جميع ما كان معنا في البحر وصرنا نخبط على وجه الماء يوماً وليلةٍ فأرسل الله لنا مركباً آخر فأنقذ الركاب وأنقذنا وسافرنا من بلاد إلى بلاد ونحن نسأل ونتقوت مما نحصله بالسؤال وقاسينا الكرب العظيم وصرنا نبيع من حوائجنا ونتقوت لغاية قربنا من البصرة حتى شربنا ألف حسرةٍ ولو كنا سلمنا بما كان معنا كنا أتينا بأموالٍ تضاهي أموال الملك ولكن هذا مقدرٌ من الله علينا.
فقلت لهما: يا أخوتي لا تحزنا فأن المال فداء الأبدان والسلامة غنيمةٌ وحيث كتبكم الله من السالمين فهذه غاية المنى وما الفقر والغنى إلا كطيف خيالٍ.
ثم قلت: يا أخوتي نحن نقدر أن أبانا قد مات في هذا اليوم وأورثنا هذا المال الذي عندي وقد طابت نفسي على أن نقسمه بيننا بالسوية، ثم أحضرت قساماً من طرف القاضي وأحضرت له جميع مالي فقسمه بيننا وأخذ كلٌ منا ثلث المال، فقلت لهما يا أخوتي بارك الله للإنسان في رزقه إذا كان في بلده فكل واحد منكما يفتح له دكاناً ويقعد فيه لتعاطي الأسباب والذي له شيءٌ في الغيب لا بد أن يحصله.
ثم سعيت لكل واحدٍ منهما في فتح دكانٍ وملأته له بالبضائع وقلت لهما بيعا واشتريا واحفظا أموالكما ولا تصرفا منها شيئاً وجميع ما يلزم لكما من أكلٍ وشربٍ وغيرهما يكون من عندي، ثم قمت بإكرامهما وصارا يبيعان ويشتريان في النهار وعند المساء يبيتان في بيتي ولم أدعهما يصرفان شيئاً من أموالهما، وكلما جلست معهما للحديث يمدحان الغربة ويذكران محاسنها ويصفان ما حصل لهما فيها من المكاسب ويغرياني على أن أوافقهما على التغريب في بلاد الناس، ثم قال للكلبين هل جرى ذلك يا أخوتي فنكسا رؤوسهما وأغمضا أعينهما تصديقاً له. ثم قال: يا خليفة الله فما زالا يرغباني ويذكران لي كثرة الربح والمكاسب في الغربة ويأمراني بالسفر معهما حتى قلت لهما لا بد أن أسافر معكما من أجل خاطركما، ثم أني عقدت الشراكة بيني وبينهما وحملنا قماشاً من سائر الأصناف النفيسة واكترينا مركباً وشحناه بالبضائع من أنواع المتاجر وأنزلنا في ذلك المركب جميع ما نحتاج إليه ثم سافرنا من مدينة البصرة في البحر العجاج المتلاطم بالأمواج الذي الداخل فيه مفقودٌ والخارج منه مولودٌ، وما زلنا مسافرين حتى طلعنا إلى مدينةٍ من المدائن فبعنا واشترينا وظهر لنا كثرة المكسب، ثم رحنا منها إلى غيرها، ولم نزل نرحل من بلدٍ إلى بلدٍ ومن مدينةٍ إلى مدينةٍ ونحن نبيع ونشتري ونربح حتى صار عندنا مالٌ جسيمٌ وربحٌ عظيمٌ.
ثم أننا وصلنا إلى جبل فألقى الريس المرساة وقال لنا: يا ركاب اطلعوا إلى البر تنجوا من هذا اليوم وفتشوا فيه لعلكم تجدون ماءً، فخرج كل من في المراكب وذهبت، أنا بجملتهم وصرنا نفتش على الماء وتوجه كلٌ منا في جهةٍ وصعدت أنا إلى أعلى الجبل، فبينما أنا سائرٌ إذا رأيت حيةً بيضاء تسعى هاربةً ووراءها ثعبانٌ أسود يسعى وراءها وهو مشوه الخلقة هائل المنظر، ثم أن الثعبان لحقها وضايقها ومسكها من رأسها ولف ذيله على ذيلها فصاحت فعرفت أنه مفترٍ عليها فأخذتني الشفقة عليها وتناولت حجراً من الصوان قدر خمسة أرطالٍ وضربت به الثعبان فجاء على رأسه فدقه، فلم أشعر إلا والحية انقلبت وصارت بنتاً شابةً ذات حسنٍ وجمالٍ وكمالٍ وقدٍ واعتدالٍ كأنها البدر المنير.
فأقبلت علي وقبلت يدي ثم قالت لي استرني الله يسترك ستراً من العار في الدنيا وسترٌ من النار في الآخرة يوم الموقف العظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ، ثم قالت: يا إنسي أنت سترت عرضي وصار لك الجميل ووجب الجزاء لك.
ثم أشارت بيدها إلى الأرض فانشقت ونزلت فيها ثم انطبقت عليها الأرض فعرفت أنها من الجن. وأما الثعبان فأن النار أتت عليه وأحرقته وصار رماداً فتعجبت من ذلك، ثم أني رجعت إلى أخواتي وأخبرتهم بما رأيت وبتنا تلك الليلة، وعند الصباح قلع الريس الخطاف ونشر القلوع وطوى الأطراف ثم سافر حتى غاب البر عنا.
ولم نزل مسافرين مدة عشرين يوماً ولم نر براً ولا طيراً وفرغ ماؤنا فقال الريس: يا ناس أن الماء الحلوة قد فرغت منا فقلنا نطلع البر لعلنا نجد ماء، فقال: أني تهت عن الطريق ولا أعرف طريقاً يؤدينا إلى جهة البر، فحصل لنا غمٌ شديدٌ وبكينا ودعونا الله تعالى أن يهدينا إلى الطريق، ثم بتنا تلك الليلة في أسوا حال.
فلما أصبح الصباح وأشرق بنوره ولاح رأينا جبلاً عالياً، فلما رأينا ذلك الجبل فرحنا واستبشرنا به، ثم أننا وصلنا إلى ذلك الجبل فقال الريس: يا ناس أطلعوا البر حتى نفتش على ماءٍ فطلعنا كلنا نفتش على ماءٍ فلم نر فيه ماءً فحصل لنا مشقةٌ بسبب قلة وجود الماء، ثم أني صعدت إلى أعلى الجبل فرأيت وراءه دائرةً واسعةً مسافة سير ساعةٍ وأكثر فناديت أصحابي فأقبلوا علي فلما أتوا قلت لهم: انظروا إلى هذه الدائرة التي وراء هذا الجبل فأني أرى فيها مدينةً عالية البنيان مشيدة الأركان ذات أسوارٍ وبروجٍ وروابي ومروجٍ وهي من غير شكٍ لا تخلو من الماء والخيرات فسيروا بنا نمضي إلى هذه المدينة ونجيء منها بالماء والخيرات، ونشتري ما يلزم من الزاد واللحم والفاكهة ونرجع.
فقالوا: نخاف أن يكون أهل المدينة كفارٌ مشركين أعداء الدين فيقبضوا علينا ونكون أسرى بين أيديهم أو يقتلونا ونكون قد تسببنا في قتل أنفسنا في التهلكة والمغرور غير مشكورٍ لأنه على خطرٍ من الأهواء، فنحن لا نضحي بأنفسنا.
فقلت لهم: يا ناس لا حكم لي عليكم ولكن آخذ أخوي وأتوجه إلى هذه المدينة، فقالا لي أخواي: نحن نخاف من هذا الأمر ولا نروح معك فقلت: أما أنا فقد عزمت على الذهاب إلى هذه المدينة وتوكلت على الله ورضيت بما قدره الله، فانتظراني حتى أذهب إليها وأرجع إليكما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والسبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله قال فانتظراني حتى اذهب إليها وأرجع إليكما، ثم تركتهما ومشيت حتى وصلت إلى باب المدينة فرأيتها مدينةً عجيبة البناء غريبة الهندسة أسوارها عاليةٌ وأبراجها محصنةٌ وقصورها شاهقةٌ وأبوابها من الحديد الصيني وهي مزخرفةٌ منقوشةٌ تدهش العقول، فلما دخلت الباب رأيت دكةً من الحجر ورأيت رجلاً قاعداً بها وفي ذراعه سلسلةٌ من النحاس الأصفر وفي تلك السلسلة أربعة عشر مفتاحا، فعرفت أن ذلك الرجل هو بواب المدينة والمدينة لها أربعة عشر باباً.
ثم أني دنوت منه وقلت له: السلام عليكم، فلم يرد علي السلام، فسلمت عليه ثانياً وثالثاً فلم يرد علي الجواب فوضعت يدي على كتفه وقلت له: يا هذا لأي شيء لا ترد علي السلام? هل أنت نائمٌ أو أصمٌ أو غير مسلمٍ حتى تمنع رد السلام? فلم يجبني ولم يتحرك، فتأملت فيه فرأيته حجراً. فقلت أن هذا شيء عجيب، هذا الحجر مصور بصورة ابن آدم ولم ينقص عنه غير النطق. ثم تركته ودخلت المدينة فرأيت رجلاً واقفاً في الطريق فدنوت منه وتأملته فرأيته حجرٌ، قابلت امرأةً عجوزاً على رأسها عقدة ثياب مهيأة للغسيل فدنوت منها وتأملتها فرأيتها من الحجر والعقدة الثياب التي على رأسها من الحجر: ثم أني دخلت السوق فرأيت زياتاً ميزانه منصوبٌ وقدامه أصناف البضائع من الجبن وغيره كل ذلك من الحجر، ثم أني رأيت سائر المتسببين جالسين في الدكاكين وبعض الناس واقفٌ وبعضهم جالسٌ، ورأيت نساءً وصبياناً وكل ذلك من الحجر.
ثم وصلت سوق التجار فرأيت كل تاجر جالساً في دكانه والدكان مملوءةً بأنواع البضائع وكل ذلك من الحجر ولكن الأقمشة كنسيج العنكبوت، فصرت أتفرج عليها وصرت كلما مسكت ثوباً من القماش يصير بين يدي هباءً منثوراً، ورأيت صناديق ففتحت واحدٌ منهم فوجدت فيه ذهباً في أكياس، فأمسكت الأكياس فذابت في يدي والذهب لا يزال على حاله فحملت منه ما لا أطيقه وصرت أقول في نفسي: لو حضر أخواي معي لأخذا من الذهب كفايتهما وتمتعا بهذه الجواهر التي لا أصحاب لها. وبعد ذلك أتيت دكاناً ثانياً فرأيت فيه أكثر من ذلك ولكن ما بقيت أقدر أن أحمل أكثر مما حملت.
ثم أني ذهبت إلى سوقٍ ثالث ثم منه إلى سوقٍ رابعٍ وهكذا ولا زلت أشاهد مخلوقاتٍ مختلفةٍ وكلها من الحجارة حتى أن الكلاب والقطط كانت من الحجارة، ثم وصلت إلى سوق الصاغة فرأيت فيه رجالاً جالسين في الدكاكين والبضائع عندهم بعضها في أيديهم وبعضها في أقفاص، فلما رأيت ذلك يا أمير المؤمنين رميت ما كان معي من الذهب وحملت من المصاغ ما أطيق حمله، وانتقلت من سوق الصاغة إلى سوق الجواهر فرأيت الجوهرية جالسين في دكاكينهم وقدام كل واحد منهم قفصٌ ملآنٌ بأنواع المعادن كالياقوت والألماس والبلخش وغير ذلك من سائر الأصناف وأصحاب الدكاكين أحجارٌ فرميت ما كان معي من المصاغ وحملت من الجواهر ما لا أطيق حمله وبقيت أتندم حيث لم يكن أخواي معي حتى يحملا من تلك الجواهر ما أرادا. ثم أني خرجت من سوق الجواهر فمررت على بابٍ كبيرٍ مزخرف مزين بأحسن زينة ومن داخل الباب دكك وجالس على تلك الدكك خدمٌ وجندٌ وأعوانٌ وعساكرٌ وحكامٌ وهم لابسون أفخر الملابس وكلهم أحجار فلمست واحد منهم فتناثرت ملابسه على بدنه مثل نسيج العنكبوت، ثم أني مشيت في ذلك الباب فرأيت سراية ليس لها نظير في بنائها وأحكام صنعتها ورأيت في تلك السراية ديواناً مشحوناً من الذهب وبالأكابر والوزراء والأعيان والأمراء وهم جالسون على كراسي وكلهم أحجار، ثم أني رأيت كرسياً حمراء مرصعةً بالدر والجواهر وقد جلس فوقها آدمي عليه أفخر الملابس وعلى رأسه تاج كسروي مكلل بنفس الجواهر التي لها شعاعٌ مثل شعاع النهار، فلما وصلت إليه رأيته من الحجر.
ثم أني توجهت من ذلك الديوان إلى باب الحريم ودخلت فيه فرأيت فيه ديواناً من النساء ورأيت في ذلك الديوان كرسياً من الذهب الأحمر مرصعة بالدر والجواهر وقد جلست فوقها امرأةٌ وعلى رأسها تاجٌ مكللٌ بنفيس الجواهر وحولها نساء مثل الأقمار جالساتٍ على كراسي ولابسات أفخر الملابس الملونة بسائر الألوان وواقف هناك طواشيةٌ أيديهم على صدورهم كأنهم واقفون من أجل الخدمة وذلك الديوان يدهش عقول الناظرين مما فيه من الزخرفة وغريب النقش وعظيم الفرش ومعلقٌ فيه أبهج التعاليق من البلور الصافي، وفي كل قدرة من البلور جوهرة يتيمة لا يفي بثمنها مال، فرميت ما معي يا أمير المؤمنين وصرت آخذ من هذه الجواهر وحملت منها على قدر ما أطيق وبقيت متحيراً فيما أحمله وفيما أتركه لأني رأيت ذلك المكان كأنه كنز من كنوز المدن، ثم أني رأيت باباً صغيراً مفتوحاً وفي داخله سلالم فدخلت حتى وصلت إلى باب القصر فرأيت ستارة من الحرير مصفحة بشرائط من الذهب ومصفوف فيها اللؤلؤ والمرجان والياقوت وقطع الزمرد والجواهر فيه تضيء كضوء النجوم والصوت خارج من تلك الستارة فدنوت من الستارة ورفعتها فظهر لي باب قصرٍ مزخرفٍ يحير الأفكار فدخلت من ذلك الباب فرأيت قصراً كأنه كنزٌ على وجه الدنيا ومن داخله بنتٌ كأنها الشمس الضاحية في وسط السماء الصافية وهي لابسة أفخر الملابس ومتحلية بأنفس ما يكون من الجواهر من أنها بديعة الحسن والجمال بقدٍ واعتدالٍ وكمالٍ وخصرٍ نحيلٍ وردفٍ ثقيلٍ وريقٍ يشفي العليل وأجفان ذات اعتدال كأنها المرادة.
ثم أنه قال يا أمير المؤمنين لما رأيت تلك البنت شغفت بها حباً وتقدمت إليها فرأيتها جالسةً على مرتبةٍ عاليةٍ وهي تتلو كتاب الله عز وجل حفظاً عن ظهر قلبٍ وصوتها كأنه صرير أبواب الجنان إذا فتحها رضوان والكلام خارجٌ من بين شفتيها يتناثر كالجواهر ووجهها ببديع المحاسن زاه وزاهر.
فلما سمعت نغماتها في تلاوة القرآن العظيم وقد قرأ قلبي من فاتك لحاظها سلام قولا من رب رحيم، تلجلجت في الكلام ولم أحسن السلام واندهش مني العقل والنظر.
ثم تجلدت على هول الغرام وقلت لها: السلام عليك أيتها السيدة المصونة والجوهرة المكنونة آدام الله قوائم سعدك ورفع دعائم مجدك، فقالت وعليك السلام والتحية والإكرام يا عبد الله يا ابن فاضل أهلاً وسهلاً ومرحباً بك يا حبيبي وقرة عيني. فقلت لها: يا سيدتي من أين علمت اسمي ومن تكوني أنت وما شأن أهل هذه المدينة حتى صاروا أحجار فمرادي أن تخبريني بحقيقة الأمر فأني تعجبت من هذه المدينة ومن أهلها ومن كونها لم يوجد فيها أحد إلا أنت فبالله عليك أن تخبريني بحقيقة ذلك على وجه الصدق فقالت لي: اجلس يا عبد الله وأنا أن شاء الله تعالى أحدثك وأخبرك بحقيقة أمري وبحقيقة أمر هذه المدينة وأهلها على التفصيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فجلست إلى جانبها فقالت لي: أعلم يا عبد الله يرحمك الله أنني بنت ملك هذه المدينة ووالدي هو الذي رأيته جالساً في الديوان على الكرسي العالي والذي حوله أكابر دولته وأعيان مملكته. وكان أبي ذا بطش شديد ويحكم على ألف ألف ومائة ألف وعشرين ألف جندي وعدة أمراء دولته أربعة وعشرون ألفا كلهم حكام وأصحاب مناصب وتحت طاعته من المدن ألف مدينةٍ غير المدن والضياع والحصون والقلاع والقرى وامراء العربان الذين تحت يده ألف أمير، كل أمير يحكم على عشرين ألف فارسٍ وعنده من الأموال والذخائر والمعادن والجواهر لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة السبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بنت ملك مدينة الأحجار قالت: يا عبد الله أن أبي كان عنده من الأموال والذخائر ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، وكان يقهر الملوك ويبيده الأبطال والشجعان في الحرب وحومة الميدان وتخشاه الجبابرة وتخضع له الأكاسرة ومع ذلك كان كافراً مشركاً بالله يعبد الصنم دون مولاه وجميع عساكره كفارٌ يعبدون الأصنام دون الملك العلام.
فاتفق أنه كان يوماً من الأيام جالساً على كرسي مملكته وحوله أكابر دولته فلم يشعر إلا وقد دخل عليه شخص فأضاء الديوان من نور وجهه فنظر إليه أبي فرآه لابساً حلة خضراء وهو طويل القامة وأياديه نازلةٌ إلى تحت ركبتيه وعليه هيبةٌ ووقارٌ والنور يلوح من وجهه فقال لأبي يا باغي يا مفتري إلى متى وأنت مغرور بعبادة الأصنام وتترك عبادة الملك العلام، قل أشهد أن لا إله إلا الله أن محمداً عبده ورسوله وأسلم أنت وقوعك ودع عنك عبادة الأصنام فأنها لا تنفع ولا تشفع ولا يعبد بحق إلا الله رافع السموات بغير عماد وباسط الأرضين رحمة للعباد فقال من أنت أيها الرجل الجاحد لعبادة الأصنام حتى تتكلم بهذا الكلام? أما تخشى أن تغضب عليك الأصنام? فقال له أن الأصنام حجار لا يضرني غضبها ولا ينفعني رضاها فأحضر لي صنمك الذي أنت تعبده وأمر كل واحدٍ من قومك يحضر صنمه فإذا حضر جميع أصنامكم فادعوهم ليغضبوا علي وأنا أدعوا ربي أن يغضب عليكم وتنظرون غضب الخالق من غضب المخلوق فأن أصنامكم قد صنعتموها أنتم وتلبست بها الشياطين وهم الذين يكلمونكم من داخل بطون الأصنام فأصنامكم مصنوعةٌ وإلهي صانع ولا يعجزه شيءٌ فأن ظهر لكم الحق فأتبعوه وأن ظهر لكم الباطل فاتركوه فقالوا له ائتنا ببرهان ربك حتى نراه، فقال ائتوني ببراهين أربابكم فأمر الملك كل من كان يعبد ربا من الأصنام أن يأتي به فأحضر جميع العساكر أصنامهم في الديوان هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمري فأني كنت جالسةً في داخل ستارةٍ تشرف على ديوان أبي وكان أألي صنمٌ من زمردة خضراء جسمه قدر جسم ابن آدم فطلبه أبي فأرسلته إليه في الديوان فوضعوه في جانب صنم أبي وكان صنم أبي من الياقوت وصنم الوزير من جوهر الألماس.
وأما أكابر العساكر والرعية فبعض أصنامهم من البلخش وبعضها من العنبر وبعضها من المرجان وبعضها من العود القماري وبعضها من الآبنوس وبعضها من الفضة وبعضها من الذهب وكل واحدٍ منهم له صنمٌ على قدر ما تسمح به نفسه وأما رعاع العساكر والرعية فبضع أصنامهم من الصوان وبعضها من الخشب وبعضها من الفخار وبعضها من الطين وكل الأصنام مختلفة الألوان ما بين أصفر وأحمر وأخضر وأسود وأبيض. ثم قال ذلك الشخص لأبي ادع صنمك وهؤلاء الأصنام تغضب علي، فصفوا تلك الأصنام ديواناً وجعلوا صنم أبي على كرسي من الذهب وصنمي إلى جانبه في الصدر ثم رتبوا الأصنام كل منها في مرتبة صاحبه الذي يعبده وقام أبي وسجد لصنمه وقال له: يا إلهي أنت الرب الكريم وليس في الأصنام أكبر منك وأنت تعلم أن هذا الشخص أتاني طاعناً في ربوبتك مستهزئاً بك ويزعم أن له إلها أقوى منك ويأمرني بترك عبادتك ونعبد ألهه فاغضب عليه يا إلهي. وصار يطلب من الصنم والصنم لا يرد عليه جواباً ولا يخاطبه بخطاب. فقال يا إلهي ما هذه عادتك لأنك كنت تكلمني إذا كلمتك فما لي أراك ساكتاً لا تتكلم هل أنت غافلٌ أو نائمٌ فانتبه وانصرني وكلمني.
ثم هزه فلم يتكلم ولم يتحرك من مكانه فقال ذلك الشخص لأبي ما لي أرى صنمك لا يتكلم? قال له: أظن أنه غافلٌ أو نائمٌ، فقال له عدو يا الله كيف تعبد إلهاً لا ينطق وليس له قدرةٌ على شيءٍ ولا تعبد إلهي الذي هو قريبٌ مجيبٌ وحاضرٌ لا يغيب ولا يغفل ولا ينام ولا تدركه الأوهام يرى ولا يرى وهو على كل شيءٍ قديرٍ وإلهك عاجزٌ لا يقدر على دفع الضرر عن نفسه وقد كان ملتبساً به شيطان رجيمٌ يضلك ويغويك وقد ذهب الآن شيطانه فأعبد الله وأشهد أنه لا أله إلا هو ولا معبود سواه وأنه لا يستحق العبادة غيره ولا خير إلا خيره وأما إلهك هذا فأنه لا يقدر على دفع الشر عن نفسه فكيف يقدر على دفعه عنك فانظر بعينك عجزه.
ثم تقدم وصار يصكه على رقبته حتى وقع على الأرض فغضب الملك وقال للحاضرين أن هذا الجاحد قد صك إلهي فاقتلوه فأرادوا القيام ليضربوه فلم يقدر واحد منهم أن يقوم من مكانه فعرض عليهم الإسلام فلم يسلموا فقال أريكم غضب ربي فقالوا أرنا فبسط يديه وقال إلهي وسيدي أنت ثقتي ورجائي فاستجب دعائي على هؤلاء القوم الفجار الذين يأكلون خيرك ويعبدون غيرك يا حق يا جبار يا خالق الليل والنهار أسألك أن تقلب هؤلاء القوم أحجاراً فأنك قادرٌ ولا يعجزك شيءٌ وأنت أعلى كل شيءٍ قديرٍ فمسخ الله أهل هذه المدينة أحجاراً وأما أنا فأني حين رأيت برهانه أسلمت وجهي لله فسلمت مما أصابهم ثم أن ذلك الشخص دنا مني وقال لي سبقت لك من الله السعادة ولله في ذلك إرادةٌ وصار يعلمني وأخذت عليه العهد والميثاق وكان عمري سبع سنين في ذلك الوقت وفي هذا الوقت صار عمري ثلاثين عاماً ثم أني قلت له يا سيدي جميع ما في هذه المدينة وجميع أهلها صاروا أحجاراً بدعوتك الصالحة وقد نجوت أنا حين أسلمت على يديك فأنت شيخي فأخبرني باسمك ومدني بمددك وتصرف لي في شيء أقتات منه فقال لي اسمي أبو العباس الخضر ثم غرس لي شجرةً من الرمان بيده فكبرت وأورقت وأزهرت وأثمرت مائة واحدة في الحال فقال كلي مما رزقك الله تعالى وأعبديه حق عبادته.
ثم علمني شروط الإسلام وشروط الصلاة وطريق العبادة وعلمني تلاوة القرآن وصار لي ثلاثة وعشرون عاماً وأنا أعبد الله في هذا المكان وفي كل يومٍ تطرح لي هذه الشجرة رمانةٌ فأكلها وأقتات بها من وقتٍ إلى وقتٍ والخضر عليه السلام يأتني كل جمعةٍ وهذا الذي عرفني باسمك وبشرني بأنك سوف تأتيني في هذا المكان وقد قال لي إذا أتاك فأكرميه وأطيعي أمره ولا تخالفيه وكوني له أهلاً ويكون لك بعلاً واذهبي معه حيث شاء فلما رأيتك عرفتك وهذا هو خبر هذه المدينة وأهلها والسلام ثم أنها أرتني شجرة الرمان وفيها رمانة أكلت نصفها فما رأيت أحلى ولا أذكى ولا أطعم من تلك الرمانة ثم قلت لها لعلك رضيت بما أمرك به شيخك الخضر عليه السلام أن تكوني لي أهلاً وأكون لك بعلاً وتذهبي معي إلى بلادي وأمكث بك في مدينة البصرة فقالت نعم أن شاء الله تعالى فأني سميعةٌ لقولك مطيعةٌ لأمرك من غير خلافٍ ثم أني أخذت عليها العهد الوثيق وأدخلتني إلى خزانة أبيها وأخذنا منها على قدر ما استطعنا جملةً وخرجنا من تلك المدينة ومشينا حتى وصلنا إلى أخواي فرأيتهما يفتشان علي فقالا لي أين كنت فأنك أبطأت علينا وقلبنا مشغولٌ عليك وأما رئيس المركب فأنه قال لي يا تاجر عبد الله أن الربح طاب لنا من مدةٍ وأنت عوقتنا عن السفر فقلت له لا ضرر في ذلك ولعل التأخير خيرٌ لأن غيابي لم يكن فيه غير الإصلاح، وقد حصل لي فيه بلوغ الآمال.
ثم قلت لهم انظروا ما حصل لي في هذه الغيبة وفرجتهم على ما معي من الذخائر وأخبرتهم بما رأيت في مدينة الحجر وقلت لهم لو كنتم أطعتموني ورحتم معي كان تحصل لكم من هذا شيءٌ كثيرٌ فقالوا له والله لو رحنا ما كنا نسترجي أن ندخل على ملك المدينة فقلت لأخواي لا بأس عليكما فالذي معي يكفينا جميعاً وهذا نصيبنا، ثم أني قسمت ما معي أقساماً على قد الجميع وأعطيت لأخواي والريس فأخذت مثل واحدٍ منهم وأعطيت ما تيسر للخدامين والنوتيه ففرحوا ودعوا لي ورضوا بما أعطيته لهم إلا أخواي فأنها تغيرت أحوالهما ولاحت عيونهما فلحظت أن الطمع تمكن منهما فقلت لهما يا أخواي أظن أن الذي أعطيته لكما لم يقنعكما ولكن أنا أخوكما وأنتما أخواي ولا فرق بيني وبينكما ومالي ومالكما شيءٌ واحدٌ وإذا مت لا يرثني غيركما وصرت آخذ بخاطرهما ثم أنزلت البنت في الغليون وأدخلتها في الخزنة وأرسلت لها شيئاً تأكله وقعدت أتحدث أنا وأخواي فقالا لي يا أخانا ما مرادك أن تفعل بهذه البنت البديعة الجمال، فقلت لهما مرادي أن أكتب كتابي عليها إذا دخلت البصرة وأعمل فرحاً عظيماً وأدخل بها هناك فقال أحدهما يا أخي أعلم أن هذه الصبية بديعة الحسن والجمال وقد وقعت محبتها في قلبي فمرادي أن تعطيها لي فأتزوج بها أنا وقال الثاني وأنا الآخر كذلك فأعطها لي لأتزوج بها فقلت لهما يا أخواي أنها قد أخذت علي عهداً وميثاقاً أني أتزوج بها فإذا أعطيتها واحدٌ منكما أكون ناقضاً للعهد الذي بيني وبينها وربما يحصل لها كسر خاطرٍ لأنها ما أتت معي إلا على شرطٍ أني أتزوج بها فكيف أزوجها لغيري وأما من جهة أنكما تحبانها فأنا أحبها أكثر منكما، وأنا وجدتها وكوني أعطيها لواحدٍ منكما هذا شيءٌ لا يكون أبداً ولكن إذا دخلنا مدينة البصرة بالسلامة، انظر لكما بنتين من خيار بنات البصرة وأخطبهما لكما وأدفع المهر من مالي وأجعل الفرح واحداً وندخل نحن الثلاثة في ليلةٍ واحدةٍ وأعرضا عن هذه البنت فأنها من نصيبي فسكتا وقد ظننت أنهما رضيا بما قلت لهما.
ثم أننا سافرنا متوجهين إلى أرض البصرة وصرت أرسل إليها ما تأكل وما تشرب وهي لا تخرج من خزنة المركب وأنا أنام بين أخواي على ظهر الغليون ولم نزل مسافرين على هذه الحالة مدة أربعين يوماً حتى بانت لنا مدينة البصرة ففرحنا بإقبالنا عليها وأنا راكنٌ إلى أخواي ومطمئنٌ بهما ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى فنمت تلك الليلة.
فبينما أنا مستغرقٌ في النوم لم أشعر إلا وأنا محمولٌ بين يدي أخواي هذين واحدٌ قابض على سيقاني والآخر من يدي لكونهما اتفقا على تغريقي في البحر من شأن تلك البنت فلما رأيت روحي محمولاً بين أيديهما قلت يا أخواي لأي شيء تفعلان معي هذه الفعال فقالا يا قليل الأدب كيف تبيع خاطرنا ببنت فنحن نرميك في البحر من أجل ذلك ثم رموني فيه ثم أنه التفت إلى الكلبين وقال أحقٌ ما قلته يا أخواي أم لا. فنكسا رؤوسهما وصارا يعويان كأنهما يصدقان قوله فتعجب الخليفة من ذلك ثم قال يا أمير المؤمنين فلما رموني في البحر وصلت إلى القرار ثم نفضني الماء على وجه البحر فما شعرت إلا وطائرٌ كبيرٌ قدر الآدمي نزل علي وخطفني وطار بي في الجو الأعلى ففتحت عيني فرأيت روحي في قصر مشيد الأركان عالي البنيان منقوش بالنقوشات الفاخرة وفيه تعاليق الجواهر من سائر الأشكال والألوان، وفيه جوارٍ واقفاتٍ واضعاتٍ الأيادي على الصدور وإذا بامرأةٍ جالسةٍ بينهن على كرسي من الذهب الأحمر مرصعٍ بالدر والجوهر وعليها ملابس لا يقدر الإنسان أن يفتح عينه فيها من شدة ضياء الجواهر، وعليها حزامٌ من الجواهر لا يفي بثمنه مال وعلى رأسها تاجٌ ثلاث دوراتٍ يحير العقول والأفكار ويخطف القلوب والأبصار ثم أن الطير الذي خطفني انتفض فصار صبيةً كأنها الشمس المضيئة فأمعنت النظر فيها فإذا هي التي كانت في الجبل بصفة حيةٍ وكان الثعبان يقاتلها ولف ذيله على ذيلها وأنا حين رأيت الثعبان قهرها وغلب عليها قتلته بالحجر.
فقالت لها المرأة التي هي جالسةٌ على الكرسي لأي شيءٍ جئت هنا بهذا الإنسي فقالت لها يا أمي أن هذا هو الذي كان سبباً في ستر عرضي بين بنات الجان فقالت لي هل تعرف من أنا? قلت لا، قالت: أنا التي كنت في الجبل الفلاني وكان الثعبان الأسود يقاتلني ويريد هتك عرضي وأنت قتلته فقلت إنما رأيت مع الثعبان حيةً بيضاء، فقالت أنا التي كنت حية بيضاء ولكن أنا بنت الملك الأحمر ملك الجان واسمي سعيدة وهذه الجالسة هي أمي واسمها مباركة زوجة الملك الأحمر والثعبان الذي كان يقاتلني ويريد هتك عرضي هو وزير الملك الأسود واسمه درفيل وهو قبيح الخلقة واتفق أنه لما رآني عشقني ثم أنه خطبني من أبي فأرسل إليه أبي يقول له وما مقدارك يا قطاعة الوزراء حتى تتزوج بنات الملوك فاغتاظ من ذلك وحلف يميناً أنه لا بد أن يفضح عرضي كيداً في أبي وصار يقفوا أثري، ويتبعني أينما رحت ومراده أن يفضح عرضي وقد وقع بينه وبين أبي حروبٌ عظيمةٌ ومشقاتٍ جسيمةٍ ولم يقدر عليه أبي لكونه جباراً مكاراً، ثم أن أبي كلما ضايقه وأراد أن يظفر به يهرب منه وقد عجز أبي وصرت أنا في كل يومٍ انقلب أشكالاً وألواناً وكلما انقلبت في صفةٍ ينقلب هو في صفةٍ ضدها وكلما هربت إلى أرض يشم رائحتي يلحقني في تلك الأرض حتى قاسيت منه مشقةً عظيمةً، ثم انقلبت في صفة حية وذهبت إلى ذلك الجبل فانقلب هو في صفة ثعبان وتبعني فيه فرقعت في يده وعالجني وعالجته حتى اتبعني وركب علي وكان مراده يفعل بي ما مراده ويشتهيه فأتيت أنت وضربته بالحجر فقتلته وأنا انقلبت بنتاً وأريتك روحي وقلت لك علي جميلٌ لا يضيع إلا مع أولاد الزنا فلما رأيت أخويك فعلا بك هذه المكيدة، ورمياك في البحر بادرت إليك وخلصتك من الهلاك ووجب لك الإكرام من أمي وأبي ثم أنها قالت يا أمي أكرميه في نظير ما ستر عرضي.
فقالت مرحباً بك يا إنسي فأنك فعلت معنا جميلاً وتستحق عليه الإكرام وأمرت لي ببدلٍ كتوريةٍ تساوي جملةً من المال وأعطتني جملةً من الجواهر والمعادن، ثم أنها قالت خذوه وأدخلوه على الملك في الديوان فرأيته جالساً على كرسي وبين يديه المردة والأعوان فلما رأيته زاغ بصري مما رأيته عليه من الجواهر فلما رآني قام على الأقدام وقامت العساكر إجلالاً له ثم حياني ورحب بي وأكرمني غاية الإكرام وأعطاني مما عنده من الخيرات وبعد ذلك قال لبعض أتباعه خذوه إلى بنتي توصله إلى المكان الذي جاءت به منه فأخذوني وذهبوا بي إلى سعيدة ابنته فحملتني ثم طارت بي وبما معي من الخيرات هذا ما كان من أمري وأمر سعيدة وأما ما كان من أمر ريس الغليون فأنه أفاق على الخبطة حين رموني في البحر فقال ما الذي وقع في البحر فبكى أخواي وصار يخبطان على صدورهما ويقولان يا ضيعة أخينا فأنه أراد أن يزيل ضرورة في الغليون فوقع في البحر ثم أنهما وضعا أيديهما على مالي ووقع بينهما الإختلاف من جهة البنت وصار كل واحد منهما يقول ما يأخذها غيري واستمرا على الخصام مع بعضهما ولم يتذكروا أخاهما ولا غرقه وزال حزنهما عليه، فبينما هما في هذا الحالة وإذا بسعيدة نزلت في وسط الغليون.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله بن فاضل قال فبينما هما في هذه الحالة وإذا بسعيدة نزلت بي في وسط الغليون فرآني أخواي فعانقاني وفرحا بي وصارا يقولان يا أخانا كيف حالك فيما جرى لك أن قلبنا مشغولٌ عليك فقالت سعيدة أن كان قلبكما عليه أو كنتما تحبانه ما كنتما رميتماه في البحر وهو نائمٌ ولم اختارا لكما موتةً تموتانها وقبضت عليهما وأرادت قتلهما فصاحا وقالا في عرضك يا أخانا فصرت أتداخل عليها وأقول لها أنا واقع في عرضك لا تقتلي أخواي وهي تقول لا بد من قتلهما لأنهما خائنان فما زلت ألاطفها حتى قالت من شأن خاطرك لا أقتلهما ولكن أسحرهما.
ثم أخرجت طاسةً وحطت فيها ماءً من ماء البحر وتكلمت عليها بكلامٍ لا يفهم وقالت أخرجا من الصورة البشرية إلى الصورة الكلبية ثم رشتهما بالماء فانقلبا كلبين كما تراهما يا خليفة الله ثم التفت إليهما وقال أحقاً ما قلته يا أخواي فنكسا رؤوسهما كأنهما يقولان له صدقت ثم قال يا أمير المؤمنين وبعد أن سحرتهما كلبين قالت لمن كان من الغليون أعلموا أن عبد الله ابن فاضل هذا صار أخي وأنا أشق عليه كل يومٍ مرةٍ أو مرتين وكل من خالفه منكم أو خالف أمره وآذاه باليد أو باللسان فأني أفعل به ما فعلت بهذين الخائنين وأسحره كلباً حتى ينقضي عمره وهو في صورة الكلب ولا يجد له خلاصاً فقال لها الجميع يا سيدتي نحن كلنا عبيده وخدمه ولا نخالفه ثم أنها قالت لي إذا دخلت البصرة فتفقد جميع مالك فأن كان نقص منه شيءٍ فأعلمني وأنا أجيء لك به من أي شخصٍ كان ومن أي مكان كان ومن كان آخذه أسحره كلباً ثم بعد أن نخزن أموالك ضع في رقبة كل من هذين الخائنين غلا وأربطهما في ساق السرير وأجعلهما في سجنٍ وحدهما وكل ليلةٍ في نصف الليل أنزل إليهما وأضرب كل واحدٍ منهما علقة حتي يغيب عن الوجود وأن مضت ليلةٌ ولم تضربهما فأني أجيء لك وأضربك علقةً وبعد ذلك اضربهما فقلت لهما سمعاً وطاعةً ثم أنها قالت لي اربطهما في الحبال حتى تدخل البصرة فوضعت في رقبة كل واحدٍ منهما حبلاً، ثم ربطتهما في الصاري وتوجهت هي إلى حال سبيلها وفي ثاني يومٍ دخلت البصرة وطلع التجار لمقابلتي وسلموا علي ولم يسأل أحدٌ عن أخواي وإنما صاروا ينظرون إلى الكلاب ويقولون لي يا فلان ماذا تصنع بهذين الكلبين اللذين جئت بهما معك فأقول لهم أني ربيتهما في هذه السفرة وجئت بهما معي فيضحكون عليهما ولم يعرفوا أنهما أخواي.
ثم أني وضعتهما في خزانة والتهيت تلك الليلة في توزيع الأحمال التي فيها القماش والمعادن وكان عندي التجار لأجل السلام فأشتغلت ولم أضربهما ولم أربطهما بالسلاسل ولم أعمل معهما ضرراً.
ثم نمت فما أشعر إلا وسعيدة بنت الملك الأحمر قالت لي: أما قلت لك ضع في رقابهما السلاسل وأضرب كل واحدٍ منهما علقةً ثم أنها قبضت علي وأخرجت السوط وضربتني علقةً حتى غبت عن الوجود وبعد ذلك ذهبت إلى المكان الذي فيه أخواي وضربت كل واحدٍ منهما بالسوط حتى أشرفا على الموت وقالت كل ليلةٍ أضرب كل واحدٍ منهما علقةً مثل هذه العلقة وأن مضت ليلةٌ ولم تضربهما فأني أضربك فقلت يا سيدتي في غدٍ أحط السلاسل في رقابهما والليلة الآتية أضربهما ولا أرفع الضرب عنهما ليلةً واحدةً فأكدت علي في الوصية بضربهما فلما أصبح الصباح لم يهن علي أن أضع السلاسل في رقابهما فذهبت إلى صائغٍ وأمرته أن يعمل لهما غلين من الذهب فعملهما وجئت بهما ووضعتهما في رقابهما وربطهما كما أمرتني وفي ثاني ليلةٍ ضربتهما قهراً عني وكانت هذه الحركة في مدة خلافة المهدي الثالث من بني العباس، وقد اصطحبت معه بإرسال الهدايا فقلدني ولايةً وجعلني نائباً في البصرة ودمت على هذه الحالة مدةً من الزمان.
ثم أني قلت في نفسي لعل غيظها قد برد فرتكتهما ليلة من غير ضربٍ فأتتني وضربتني علقةً لم أنس حرارتها بقية عمري فمن ذلك الوقت لم أقطع عنهما الضرب مدة خلافة المهدي ولما توفي المهدي توليت أنت بعده وأرسلت إلي تقرير الاستمرار على مدينة البصرة وقد مضى لي اثنا عشر عاماً وأنا في كل ليلةٍ أضربهما قهراً عني وبعدما أضربهما آخذ بخاطرهما وأعتذر إليهما وأطعمهما وأسقيهما وهما محبوسان ولم يعلم بهما أحدٌ من خلق الله تعالى حتى أرسلت إليَّ أبا اسحق النديم من أجل الخراج فأطلع على سري ورجع إليك فأخبرك فأرسلته ثانياً تطلبني وطلبتهما فأجبت بالسمع والطاعة وأتيت بهما بين يديك ولما سألتنيأني عن حقيقة الأمر أخبرتك بالقصة وهذه حكايتي.
فعند ذلك تعجب الخليفة هارون الرشيد من حال هذين الكلبين ثم قال وهل أنت على هذه الحالة سامحت أخويك مما صدر منهما في حقك وعفوت عنهما أم لا فقال يا سيدي سامحهما الله وأبرأ ذمتهما في الدنيا والآخرة وأنا محتاجٌ لكونهما يسامحاني لأنه مضى لي اثنا عشر عاماً وأنا أضربهما في كل ليلةٍ علقةً فقال الخليفة يا عبد الله أن شاء الله تعالى أنا أسعى في خلاصهما ورجوعهما آدميين كما كانا أولاً وأصلح بينكم وتعيشون بقية أعماركم أخوةً متحابين، وكما أنك سامحتهما يسامحانك فخذهما وأنزل إلى منزلك وفي هذه الليلة لا تضربهما وفي غدٍ ما يكون إلا الخير.
فقال له يا سيدي وحياة رأسك أن تركتهما ليلةً واحدة من غير ضرب تأتيني سعيدة وتضربني وأنا ما لي جسدٌ يتحمل ضرباً فقال لا تخف فأنا أعطيك خط يدي فإذا أتتك فأعطها الورقة فإذا قرأتها عفت عنك كان الفضل لها وأن لم تطع أمري كان أمرك إلى الله ودعها تضربك علقةً وقدر أنك نسيتهما من الضرب وضربتك بهذا السبب وإذا حصل ذلك وخالفتني فأن كنت أنا أمير المؤمنين فأني أعمل خلاصي معها، ثم أن الخليفة كتب لها ورقة مقدار إصبعين وبعدما كتبها ختمها وقال يا عبد الله إذا أتتك سعيدة فقل لها أن الخليفة ملك الأنس أمرني بعدم ضربهما وكتب لي هذه الورقة وهو يقرئك السلام وأعطها المرسوم ولا تخش بأساً.
ثم أخذ عليه العهد والميثاق أنه لا يضربهما فأخذهما وراح بهما إلى منزله وقال في نفسه يا ترى ما الذي يصنعه الخليفة في حق بنت سلطان الجن إذا كانت تخالفه وتضربني في هذه الليلة ولكن أنا صابرٌ على ضربي علقةً وأريح أخواي في هذه الليلة ولو كان يحصل لي من أجلهما العذاب، ثم أنه تفكر في نفسه وقال له عقله لولا أن الخليفة مستندٌ إلى سندٍ عظيم ما كان يمنعك عن ضربهما.
ثم أنه دخل منزله ونزع الأغلال من رقاب أخويه وقال توكلت على الله وصار يأخذ بخاطرهما ويقول لهما لا بأسٌ عليكما فأن الخليفة الخامس من بني العباس قد تكفل بخلاصكما وأنا قد عفوت عنكما وأن شاء الله تعالى يكون الأوان قد آن وتخلصان في هذه الليلة المباركة فأبشرا بالهناء والسرور، فلما سمعا هذا الكلام صار يعويان مثل عواء الكلاب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله بن فاضل قال لأخويه أبشرا بالهناء والسرور فلما سمعا هذا الكلام صارا يعويان مثل عواء الكلاب ويمرغان خدودهما على أقدامه كأنهما يدعوان له ويتواضعان بين يديه فحزن عليها وصار يملس بيده على ظهورهما إلى أن جاء وقت العشاء فلما وضعوا السفرة قال لهما أجلسا فجلسا يأكلان معه على السفرة فصارت أعوانه باهتين يتعجبون من أكله مع الكلاب ويقولون هل هو مجنون أو مختل العقل كيف يأكل نائب مدينة البصرة مع الكلاب وهو أكبر من وزيرٍ أما يعلم أن الكلب نجسٌ وصاروا ينظرون إلى الكلبين وهما يأكلان معه أكل الحشمة ولا يعلمون أنهما أخواه وما وزالوا يتفرجون على عبد الله والكلبين حتى فرغوا من الأكل.
ثم أن عبد الله غسل يديه فمد الكلبان أيديهما وصارا يغسلان وكل من كان واقفاً صار يضحك عيهما ويتعجب ويقولون لبعضهم عمرنا ما رأينا الكلاب تأكل وتغسل أيديهما بعد أكل الطعام ثم أنهما جلسا على المراتب بجنب عبد الله بن فاضل ولم يقدر أحدٌ أن يسأله عن ذلك واستمر الأمر هكذا إلى نصف الليل ثم صرف الخدم وناموا ونام كل كلبٍ على سريرٍ وصار الخدام يقولون لبعضهم أنه نام ونام معه الكلبان وبعضهم يقول حيث أكل مع الكلاب على السفرة فلا بأس إذا ناما معه وما هذا إلا حال المجانين.
ثم أنهم لم يأكلوا مما بقي في السفرة من الطعام شيئاً وقالوا كيف نأكل فضلة الكلاب ثم أخذوا السفرة بما فيها وروموها وقالوا أنها نجسةً هذا ما كان من أمرهم وأما ما كان من أمر عبد الله بن فاضل فأنه لم يشعر إلا والأرض قد انشقت وطلعت سعيدة وقالت يا عبد الله لأي شيءٍ مما ضربتهما في هذه الليلة ولأي شيءٍ نزلت الأغلال من أعناقهما هل فعلت ذلك عناداً لي أو استخفافاً بأمري ولكن أنا الآن أضربك وأسحرك كلباً مثلهما فقال لها يا سيدتي أقسمت عليك بالنقش الذي على خاتم سليمان بن داود عليهما السلام أن تحملي علي حتى أخبرك بالسبب ومهما أردتيه بي فأفعليه فقالت له أخبرني فقال لها أما سبب عدم ضربهما فأن ملك الأنس الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد أمرني أن لا أضربهما في هذه الليلة وقد أخذ علي مواثيق وعهود على ذلك وهو يقرئك السلام وأعطاني مرسوماً بخط يده وأمرني أن أعطيك إياه فامتثلت مرةً وأطعته وطاعة أمير المؤمنين واجبة وها هو المرسوم فخذيه واقرئيه وبعد ذلك افعلي مرادك.
فقالت هاته فناولتها المرسوم ففتحته وقرأته وقرأت مكتوباً بسم الله الرحمن الرحيم من ملك الأنس هارون الرشيد إلى بنت الملك الأحمر سعيدة أما بعد فأن هذا الرجل قد سامح أخويه وأسقط حقه عنهما وقد حكمت عليهما بالصلح وإذا وقع الصلح ارتفع العقاب فأن اعترضتمونا في أحكامنا اعترضناكم في أحكامكم وخرقنا قانونكم وأن امتثلتم أمرنا ونفذتم أحكامنا فأننا ننفذ أحكامكم وقد حكمت عليك بعدم التعرض لهما فأن كنت تؤمنين بالله ورسوله فعليك بطاعة ولي الأمر وأن عفوت عنهما فأنا أجازيك بما يقدرني عليه ربي وعلامة الطاعة ترفعي سحرك عن هذين الرجلين حتى يقبلاني علي خالصين وأن لم تخلصيهما فأنا أخلصهما قهراً عنك بعون الله تعالى.
فلما قرأت ذلك الكتاب قالت يا عبد الله لا أفعل شيئاً حتى أذهب إلى أبي وأعرض عليه مرسوم ملك الأنس وأرجع إليك بالجواب بسرعةٍ ثم أشارت بيدها إلى الأرض فانشقت ونزلت فيها فلما ذهبت صار قلب عبد الله فرحاً وقال أعز الله أمير المؤمنين ثم أن سعيدة دخلت على أبيها وأخبرته بالخبر وعرضت عليه مرسوم أمير المؤمنين فقبله ووضعه على رأسه ثم قرأه وفهم ما فيه وقال يا بنتي أن أمر ملك الأنس علينا ماضٍ وحكمه فينا نافذٌ ولا نقدر أن نخالفه فأمضي إلى الرجلين وخلصيهما في هذه الساعة وقولي لهما أنتما في شفاعة ملك الأنس فأنه أن غضب علينا أهلكنا عن آخرنا فلا تحملينا ما لا نطيق فقالت له يا أبت إذا غضب علينا ملك الأنس ماذا يصنع بنا فقال لها يا بنتي أنه يقدر علينا من وجوه الأول لله من البشر فهو مفضلٌ علينا والثاني أنه خليفة الله والثالث أنه مصرٌ على ركعتي الفجر فلو اجتمعت عليه طوائف الجن من السبع أرضين لا يقدرون أن يصنعوا به مكروهاً فأن غضب علينا يصلي ركعتي الفجر ويصيح علينا صيحةً واحدةً فنجتمع بين يديه طائعين ونصير كالغنم بين يدي الجزار أن شاء فأمرنا بالرحيل من أوطاننا إلى أرضٍ موحشةٍ لا نستطيع المكث فيها وأن شاء هلاكنا أمر بهلاك نفسنا فيهلك بعضنا بعضاً فنحن لا نقدر على مخالفة أمره فأن خالفنا أمره أحرقنا جميعاً وليس لنا مفرٌ من بين يديه وكذلك كل عبدٍ داوم على ركعتي الفجر فأن حكمه نافذٌ فينا فلا تتسببي في هلاكنا من أجل رجلين بل أمضي وخلصيهما قبل أن يحيق بنا غضب أمير المؤمنين فرجعت إلى عبد الله بن فاضل وأخبرته بما قال أبوها وقالت له قبل لنا أيادي أمير المؤمنين وأطلب لنا رضاه ثم أنها أخرجت الطاسة ووضعت فيها الماء وعزمت عليها وتكلمت بكلماتٍ لا تفهم ثم رشتهما بالماء وقالت أخرجا من الصورة الكلبية إلى الصورة البشرية فعادا بشرين كما كانا وأنفك عنهما السحر وقالا أشهد أن لا أله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ثم وقعاً على يد أخيهما وعلى رجليه يقبلانهما ويطلبان منه السماح، فقال لهما سامحاني أنتما ثم أنهما تابا توبةً نصوحاً وقالا قد غرنا إبليس اللعين وأغوانا السمع وربنا جزانا بما نستحقه والعفو من شيم الكرام وصارا يستعطافان أخاهما ويبكيانا ويتندمان على ما وقع منهما ثم أنه قال لهما ما فعلتما بزوجتي التي جئت بها من مدينة الحجر فقالوا لما أغوانا الشيطان ورميناك في البحر وقع الخلاف بيننا وصار كل واحدٍ منا يقول أنا أتزوج بها.
فلما سمعت كلامنا ورأت اختلافنا وعرفت أننا رميناك في البحر طلعت من الخزانة وقالت لا تختصما من أجلي فأني لست لواحد منكما أن زوجي راح البرح وأنا أتبعه ثم أنها رمت نفسها في البحر وماتت فقال أنها ماتت شهيدة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم أنه بكى عليها بكاءً شديداً وقال لهما لا يصح منكما أن تفعلا معي هذه الفعال وتعدا ما بي لزوجتي فقالا أننا أخطانا وربنا جازانا على ما فعلنا وهذا شيء قدره الله علينا قبل أن يخلقنا فقبل عذرهما ثم أن سعيدة قالت أيفعلان معك هذه الفعال وأنت تعفو عنهما فقال يا أختي من قدر وعفا كان أجره على الله، فقالت خذ حذرك منهما فأنهم خائفين، ثم ودعته وانصرفت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله لما حذرته سعيدة من أخويه ودعته وانصرفت إلى حال سبيلها فبات عبد الله بقية تلك الليلة هو وأخواه على أكلٍ وشربٍ وبسطٍ وانشرح صدرهما.
فلما أصبح الصباح أدخلهما الحمام وعند خروجهما من الحمام ألبس كل واحدٍ منهما بدلةً تساوي جملةً من المال ثم أنه طلب سفرة طعام فقدموها بين يديه فأكل هو وأخواه، فلما نظرهما الخدام وعرفوا أنهما أخواه سلموا عليهما وقالوا للأمير عبد الله: يا مولانا هناك الله باجتماعك على أخويك العزيزين وأين كانا في هذه المدة? فقال لهم: هما اللذان رأيتوهما في صورة كلبين والحمد لله الذي خلصهما من السجن والعذاب الأليم ثم أنه أخذهما وتوجه إلى ديوان الخليفة هارون الرشيد ودخل بهما عليه وقبل الأرض بين يديه ودعا له بدوام العز والنعم وإزالة البؤس والنقم، فقال له: مرحباً بك يا أمير المؤمنين أعز الله قدرك أني لما أخذت أخواي وذهبت بهما إلى منزلي اطمأنيت عليهما بسببك حيث تكفلت بخلاصهما وقلت في نفسي أن الملوك لا يعجزون عن أمرٍ يجتهدون فيه أن العناية تساعدهم ثم نزعت الأغلال من رقابهما وتوكلت على الله وأكلت أنا وإياهما على السفرة، فلما رآني أتباعي آكل معهما وهما في صورة كلبين استخفوا عقلي وقالوا لبعضهم لعله مجنونٌ كيف يأكل نائب البصرة مع الكلاب وهو أكبر من الوزير ورموا بما فضل من السفرة وقالوا لا نأكل ما بقي من الكلاب وصاروا يسفهون رأيي وأنا أسمع كلامهم ولا أرد عليهم جواباً لعدم معرفتهم أنهما أخواي ثم عرفتهم.
وعندما جاء وقت النوم طلبت النوم فلم أشعر إلا والأرض قد انشقت وخرجت سعيدة بنت الملك الأحمر وهي غضبانةٌ علي وعيناها مثل النار، ثم أخبر الخليفة بجميع ما وقع منها ومن أبيها وكيف أخرجتهما من الصورة الكلبية إلى الصورة البشرية، ثم قال: وها هما بين يديك يا أمير المؤمنين، فالتفت الخليفة فرآهما شابين كالقمرين فقال الخليفة: جزاك الله عني خيراً يا عبد الله حيث أعلمتني بفائدةٍ ما كنت أعلمها أن شاء الله لا أترك صلاة هاتين الركعتين قبل طلوع الفجر ما دمت حيا.
ثم أنه عنف شقيقا عبد الله بن فاضل على ما سلف منهما في حقه فاعتذرا قدام الخليفة، فقال لهم: تصافحوا وسامحوا بعضكم، وعفا الله عما سلف ثم التفت إلى عبد الله وقال: يا عبد الله أجعل أخويك معينين لك وتوصل بهما وأوصاهما بطاعة أخيهما. ثم أنعم عليهم وأمرهم بالارتحال إلى مدينة البصرة بعد أن عطاهم أنعاما جزيلا فنزلوا من ديوان الخليفة مجبورين وفرح الخليفة بهذه الفائدة التي استفادها من هذه الحركة وهي المداومة على صلاة ركعتي الفجر، وقال: صدق من قال: مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد. هذا ما كان من أمرهم مع الخليفة.
وأما ما كان من أمر عبد الله بن فاضل فأنه سافر من مدينة بغداد ومعه أخواه بالإعزاز والإكرام وعلو المقام إلى أن دخلوا مدينة البصرة فخرج الأكابر والأعيان لملاقاتهم وزينوا لهم المدينة وأدخلوهم بموكبٍ ليس له نظيرٌ وصار الناس يدعون له وهو ينثر الذهب والفضة وصار جميع الناس صائحين بالدعاء له ولم يلتفت أحدٌ إلى أخويه، فدخلت الغيرة والحسد في قلوبهما ومع ذلك كان عبد الله يداريهما مداراة العين الرمداء كلما داراهما لا يزدادان إلا بغضاً له وحسداً فيه.
ثم أنه أعطى كل واحدٍ منهما سريةً ليس لها نظيرٌ وجعلهما بخدمٍ وحشمٍ وجواري وعبيدٍ سودٍ وبيضٍ من كل نوعٍ أربعين وأعطى كل واحدٍ منهما خمسين جواداً من الخيل الجياد وصار لهما جماعةٌ وأتباعٌ، ثم أنه عين لهما خراجٌ ورتب لهما رواتب وجعلهما معينين له وقال لهما: أنا وأنتما سواءٌ ولا فرق بيني وبينكما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله رتب لأخويه الرواتب وجعلهما معينين له وقال لهما أنا وأنتما سواءٌ ولا فرق بيني وبينكما فالحكم بعد الله والخليفة لي ولكما فاحكما في البصرة في غيابي وحضوري وحكمكما نافذ ولكن عليكما بتقوى الله في الأحكام وإياكما والظلم فأنه أن دام دمر وعليكما بالعدل فأنه أن دام عمر، ولا تظلما العباد فيدعو عليكما وخبركما يصل إلى الخليفة فتحصل فضيحةٌ في حقي وحقكما فلا تتعرضا لظلم أحدٍ والذي تطمعان فيه من أموال الناس خذاه من مالي زيادةً على ما تحتاجان إليه ولا يخفى عليكما ما ورد في الظلم في حكم الآيات.
ثم أنه صار يعظ أخويه ويأمرهما بالعدل وينهاهما عن الظلم حتى ظن أنهما أحباه بسبب بذل النصيحة لهما ثم أنه ركن إليهما وبالغ في إكرامهما ومع إكرامه لهما ما ازدادا إلا حسداً له وبغضاً فيه.
وأما أخويه ناصراً ومنصوراً فأنهما اجتمعا مع بعضهما فقال ناصرٌ لمنصورٍ: يا أخي إلى متى ونحن تحت طاعة أخينا عبد الله وهو في هذه السيادة والإمارة وبعدما كان تاجراً صار أميراً وبعدما كان صغيراً صار كبيراً ونحن لم نكبر ولم يبق لنا قدرٌ ولا قيمةٌ وها هو ضحك علينا وعملنا معينين له ما معنى ذلك? أليس أننا نخدمه ومن تحت طاعته وما دام طيباً لا ترتفع درجتنا ولا يبقى لنا شأنٌ فلا يتم غرضنا إلا إن قتلناه وأخذنا أمواله ولا يمكن أخذ هذه الأموال إلا بعد هلاكه فإذا قتلناه نسود ونأخذ جميع ما في خزائنه من الجواهر والمعادن والذخائر وبعد ذلك نقسمها فيما بيننا ثم نهيء هديةً للخليفة ونطلب منه منصب الكوفة وأنت تكون نائب البصرة وأنا أكون نائب الكوفة أو أنك تكون نائب الكوفة وأنا أكون نائب البصرة ويبقى لكل واحدٍ منا صولةٌ وشأنٌ ولكن لا يتم لنا ذلك إلا إذا أهلكناه.
فقال منصور: أنك صادقٌ فيما قلت ولكن ماذا نصنع معه حتى نقتله? فقال: نعمل ضيافةً عند أحدنا ونعزمه إليها ونخدمه غاية الخدمة ثم نسأمره بالكلام ونحكي له حكاياتٍ ونكاتٍ ونوادرٍ إلى أن يذوب قلبه من السهر ثم نفرش له حتى يرقد فإذا رقد نبرك عليه وهو نائمٌ فنخنقه ونرميه في البحر ونصيح قائلين: أن أخته الجنية أتته وهو قاعدٌ يتحدث بيننا وقالت له: يا قطاعة الأنس ما مقدارك حتى تشكوني إلى أمير المؤمنين أتظن أننا نخاف منه فكما أنه ملكٌ نحن ملوكٌ وأن لم يلزم أدبه في حقنا قتلناه أقبح قتلةٍ، ولكن بقيت أنا أقتلك حتى ننظر ما يخرج من يد أمير المؤمنين.
ثم خطفته وشقت الأرض ونزلت به، فلما رأينا ذلك غشي علينا ثم استفقنا ولم ندر ما حصل له، وبعد ذلك نرسل إلى الخليفة ونعلمه فأنه يولينا مكانه وبعد مدةٍ نرسل إلى الخليفة هديةً سنيةً ونطلب منه حكم الكوفة وواحدٌ منا يقيم في البصرة والأخر يقيم في الكوفة وتطيب لنا البلاد ونقهر العباد ونبلغ المراد، فقال: نعم ما أشرت يا أخي.
فلما اتفقا على قتل أخيهما صنع ناصر ضيافةً وقال لأخيه عبد الله: يا أخي أعلم أني أخوك ومرادي أنك تجبر بخاطري أنت وأخي منصور وتأكلا ضيافتي في بيتي حتى أفتخر بك. ويقال: أن الأمير عبد الله أكل ضيافة أخيه ناصر لأجل أن يحصل له بذلك جبر خاطرٍ، فقال له عبد الله: لا بأس يا أخي ولا فرق بيني وبينك وبيتك بيتي ولكن حيث عزمتني فما يأبى الضيافة إلا اللئيم.
ثم التفت إلى أخيه منصور وقال له: أتذهب معي إلى بيت أخيك ناصرٌ وتأكل ضيافته وتجبر بخاطره? فقال له: يا أخي وحياة رأسك ما أروح معك حتى تحلف لي أنك بعدما تخرج من بيت أخي ناصر تدخل بيتي وتأكل ضيافتي فهل ناصرٌ أخوك وأنا لست أخاك فكما جبرت بخاطره تجبر بخاطري فقال: لا بأس بذلك حباً وكرامةً فمتى خرجت من دار أخيك ادخل دارك وكما هو أخي أنت أخي.
ثم أن ناصراً قبل يده أخيه عبد الله ونزل من الديوان وعمل الضيافة وفي ثاني يومٍ ركب عبد الله وأخذ معه جملةً من العسكر وأخاه منصور وتوجه إلى دار أخيه ناصر وجلس هو وجماعته وأخوه قدم لهم السماط ورحب بهم، فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا وارتفعت السفرة وغسلت الأيادي وأقاموا ذلك اليوم على أكلٍ وشربٍ وبسطٍ ولعبٍ إلى الليل.
فلما تعشوا وصلوا المغرب والعشاء جلسوا على منادمة وصار منصورٌ يحكي حكايته وناصرٌ يحكي وعبد الله يسمع، أخوكانوا في قصرٍ وحدهم وبقية العسكر في مكانٍ آخر، ولم يزالوا في نكتٍ وحكاياتٍ ونوادرٍ وأخبارٍ حتى ذاب قلب أخيهم عبد الله من السهر وغلب عليه النوم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله لما طال عليه السهر وأراد النوم فرشوا له الفراش ثم قلع ثيابه ونام وناما بجانبه على فرشٍ آخرٍ وصبرا عليه حتى استغرق في النوم، فلما عرفا أنه استغرق في النوم قاما وبركا عليه فأفاق فرآهما باركين على صدره فقال لهما: ما هذا يا أخواي? فقالا له: ما نحن أخواك ولا نعرفك يا قليل الأدب وقد صار موتك أحسن من حياتك، وحطا أيديهما في رقبته وخنقاه فغاب عن الدنيا ولم يبق فيه حركةً فظنا أنه مات وكان القصر على البحر فرموه في البحر.
فلما وقع في البخر سخر الله له درفيلاً كان معتاداً على مجيئه تحت ذلك القصر لأن المطبخ كان فيه طاقةً تشرف على البحر وكانوا كلما ذبحوا الذبائح يرمون تعاليقها في البحر من تلك الطاقة فيأتي ذلك الدرفيل ويلتقطها من على وجه الماء فأعتاد على ذلك المكان، وكانوا في ذلك اليوم قد رموا أسقاطاً كثيرةً بسبب الضيافة فأكل ذلك الدرفيل زيادةً عن كل يومٍ حصلت له فلما سمع الخبطة في البحر أتى مسرعاً فرآه ابن آدم فهداه الهادي وحمله على ظهره وشق به في وسط البحر ولم يزل سابحاً به حتى وصل إلى البر من الجهة الثانية وألقاه على البر وكان ذلك المكان الذي أطلعه فيه على قارعة الطريق فمرت به قافلةٌ فرأوه مرمياً على جانب البحر فقالوا: هنا غريقٌ ألقاه البحر على الشاطئ.
واجتمع عليه جماعةٌ من تلك القافلة يتفرجون عليه، وكان شيخ القافلة رجلاً من أهل الخير وعارفاً بجميع العلوم وخبيراً بعلم الطب وصاحب فرأسةٍ صادقةٍ فقال لهم: يا ناس ما الخبر? فقالوا: هذا غريقٌ ميتٌ، فأقبل عليه وتأمله وقال: يا ناس هذا الشاب فيه الروح وأنه من خيار أولاد الناس الأكابر وتربية العز والنعم وفيه الرجاء أن شاء الله تعالى.
ثم أنه أخذه وألبسه بدلةً وأدفأه وصار يعالجه ويلاطفه مدة ثلاث مراحل حتى أفاق ولكن حصلت له خضة فغلب عليه الضعف وصار شيخ القافلة يعالجه بأعشابٍ يعرفها، ولم يزالوا مسافرين مدة ثلاثين يوماً حتى بعدوا عن البصرة بهذه المسافة وهو يعالج فيه، ثم وصلوا مدينةً يقال لها مدينة عوج وهي في بلاد العجم فنزلوا في خانٍ وفرشوا له ورقد فبات تلك الليلة يئن وقد أفاق الناس من أنينه، فلما أصبح الصباح أتى بواب الخان إلى شيخ القافلة وقال له: ما شأن هذا الضعيف الذي عندك فأنه أقلقنا? فقال: هذا رأيته في الطريق على جانب البحر غريقاً فعالجته وعجزت ولم يشف، فقال له: أعرضه على الشيخة راجحة، فقال: ومن تكون الشيخة راجحة? فقال: عندنا بنتٌ بكرٌ شيخةٌ وهي عذراء جميلة اسمها الشيخة راجحة كل من به داءٌ يذهبون به إليها فيبيت عندها ليلةً واحدةً فيصبح معافى كأنه لم يكن فيه شيءٌ يضره.
فقال له شيخ القافلة: دلني عليها، فقال له: أحمل مريضك، فحمله ومشى بواب الخان قدامه إلى أن وصل إلى زرايةٍ فرأى ناسٌ داخلين بالنذر وناس خارجين فرحانين فدخل بواب الخان حتى وصل إلى الستارة وقال: دستور يا شيخة راجحة خذي هذا المريض أدخليه من داخل هذه الستارة، فقالت له: ادخل فدخل ونظر إليها فرأى زوجته التي جاء بها من مدينة الحجر، فعرفها وعرفته وسلمت عليه فقال لها: من أتى بي إلى هذا المكان? فقالت له: لما رأيت أخويك رمياك في البحر وتخاصما علي رميت نفسي في البحر فتناولني شيخي الخضر أبو العباس وأتى بي إلى هذه الزاوية وأعطاني الأذن بشفاء المرضى ونادى في المدينة: كل من كان له داءٌ فعليه بالشيخة راجحة وقال لي: أقيمي في هذا المكان حتى يؤون الأوان ويأتي إليك زوجك، فصار كل مريض يأتي أكبسه فيصبح شافيا وشاع ذكري بين العالم وأقبل الناس علي بالنذور وعندي من الخير كثير وأنا في عزٍ وإكرامٍ وجميع أهل هذه البلاد يطلبون مني الدعاء.
ثم أنها كبست الرجل المريض فشفي بقدرة الله تعالى وكان الخضر عليه الصلاة والسلام يحضر عندها في كل ليلةِ جمعةِ وكانت تلك الليلة التي اجتمع فيها ليلة الجمعة، فلما جن الليل جلست هي وإياه بعدما تعشيا من أفخر المأكول ثم قعدا ينتظران حضور الخضر، فبينما هما جالسان وإذا به قد أقبل عليهما فحملهما من الزاوية ووضعهما في قصر عبد الله بن فاضل بالبصرة ثم تركهما وذهب.
فلما أصبح الصباح تأمل عبد الله في القصر فرآه قصره فعرفه وسمع الناس في ضجةٍ فنظر من الشباك فرأى شقيقيه مصلوبين كل واحدٍ منهما على خشبةٍ والسبب في ذلك أنهما لما رمياه في البحر ندما وأصبحا يبكيان ويقولان: أن أخانا خطفته الجنية، ثم هيئا هديا وأرسلاها إلى الخليفة وأعلماه بهذا الخبر وطلبا منه منصب البصرة فأرسل وأحضرهما عنده وسألهما فأعلماه كما ذكرنا فاشتد غضب الخليفة، فلما جن الليل صلى ركعتين قبل الفجر على عادته وصاح على طوائف الجن فحضروا بين يديه طائعين فسألهم عن عبد الله فحلفوا له أنه لم يتعرض له أحداً منهم وقالوا له: ما عندنا علمٌ به، فأتت سعيدة بنت الملك الأحمر وأعلمت الخليفة بقصته فصرفهم، وفي ثاني يوم رمى ناصراً ومنصوراً تحت الضرب فأقرا على بعضهما فغضب عليهما الخليفة وقال: خذوهما إلى البصرة واصلبوهما قدام قصر عبد الله، هذا ما كان من أمرهما.
وأما ما كان من أمر عبد الله فأنه أمر بدفن شقيقيه ثم ركب وتوجه إلى بغداد وأفاد الخليفة بحكايته وما فعل معه أخواه من الأول إلى النهاية فتعجب الخليفة من ذلك وأحضر الكاتب والشهود وكتب كتابه على البنت التي جاء بها من مدينة الحجر وأقام معها في البصرة إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحي الذي لا يموت.


حكاية معروف أل إسكافي

ومما يحكى أيها الملك السعيد أنه كان في مدينة مصر المحروسة رجل إسكافي يرقع الزرابين القديمة وكان اسمه معزة وكان له زوجةً اسمها فاطمة ولقبها العرة، وما لقبوها بذلك إلا لأنها كانت فاجرةً شرانيةً قليلة الحياء كثيرة الفتن وكانت حاكمةً على زوجها وفي كل يومٍ تسبه وتلعنه ألف مرة، وكان يخشى شرها ويخاف من أذاها لأنه كان رجلاً عاقلاً يستحي على عرضه ولكنه كان فقير الحال فإذا اشتغل بكثيرٍ صرفه عليها وإذا اشتغل بقليلٍ انتقمت من بدنه من تلك الليلة وأعدمته العافية وتجعل ليلته مثل صحيفتها.
ومن جملة ما اتفق لهذا الرجل مع زوجته أنها قالت له ذات يومٍ: يا معروف أريد منك من هذه الليلة أن تجيء لي معك بكنافةٍ عليها عسل نحلٍ فقال لها: الله تعالى يسهل لي حقها وأنا أجيء بها لك في هذه الليلة، والله ليس معي دراهمٌ في هذا اليوم ولكن ربنا يسهل، فقالت له: أنا ما أعرف هذا الكلام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن معروفاً الإسكافي قال لزوجته: الله يسهله بكلفها وأنا أجيء بها في هذه الليلة والله ليس معي دراهمٌ في هذا اليوم لكن ربنا يسهل فقالت له: ما أعرف هذا الكلام إن سهل أو لم يسهل لا تجئني إلا بالكنافة التي بعسل نحلٍ وأن جئت من غير كنافةٍ جعلت ليلتك مثل بختك حين تزوجتني ووقعت في يدي، فقال لها: الله كريمٌ ثم خرج ذلك الرجل والغم يتناثر من بدنه فصلى الصبح وفتح الدكان وقال: أسألك يا رب أن ترزقني بحق هذه الكنافة وتكفيني شر هذه الفاجرة في هذه الليلة وقعد في الدكان إلى نصف النهار فلم يأته شغلٌ فاشتد خوفه من زوجته فقام وقفل الدكان وصار متحيراً في أمره من شأن الكنافة مع أنه لم يكن معه من حق الخبز شيءٌ ثم أنه مر على دكان الكنفاني ووقف باهتاً وغرغرت عيناه بالدموع فلحظ عليه الكنفاني وقال: يا معلم معروف ما لك تبكي? فأخبرني بما أصابك? فأخبره بقصته وقال له: أن زوجتي جبارةٌ وطلبت مني كنافةً وقد قعدت في الدكان حتى مضى نصف النهار فلم يجئني ولا ثمن الخبز وأنا خائفٌ منها فضحك الكنفاني وقال: لا بأس عليك كم رطلاً تريد? فقال له: خمسة أرطالٍ وقال له: السمن عندي ولكن ما عندي عسل نحلٍ وإنما عندي عسل قصبٍ أحسن من عسل النحل، وماذا يضر إذا كانت بعسل قصب? فاستحى منه لكونه يصبر عليه بثمنها فقال له: هاتها بعسل قصبٍ فقلى له الكنافة بالسمن وغرقها بعسل قصب فصارت تهدى للملوك.
ثم أنه قال له: أتحتاج عيشاً وجبناً? قال: نعم فأخذ له بأربعة أنصافٍ عيشاً وبنصفٍ جبناً والكنافة بعشرة أنصاف وقال له: اعلم يا معروف أنه قد صار عندك خمسة عشر نصفاً رح إلى زوجتك واعمل حظاً وخذ هذا النصف حق الحمام وعليك مهل يومٍ أو يومان أو ثلاثة حتى يرزقك الله ولا تضيق على زوجتك فأنا أصبر عليك متى يأتي عندك دراهم فاضلةٌ عن مصروفك فأخذ الكنافة والعيش والجبن وانصرف داعياً له وراح إلى البيت مجبور الخاطر وهو يقول: سبحانك يا ربي ما أكرمك ثم أنه دخل على زوجته فقالت له: هل جئت بالكنافة قال: نعم، ثم وضعها قدامها فنظرت إليها فرأتها بعسل قصبٍ فقالت له: أما قلت لك هاتها بعسل نحل تعمل على خلاف مرادي، وتعملها بعسل قصبٍ فاعتذر إليها وقال لها: أنا ما اشتريتها إلا مؤجلاً ثمنها فقالت له: هذا كلامٌ باطلٌ أنا ما آكل الكنافة إلا بعسل نحلٍ وغضبت عليه وضربته بها في وجهه، وقالت له: قم يا معرص هات لي غيرها، ولكمته في صدغه فقلعت سنةً من أسنانه ونزل الدم على صدره، ومن شدة الغيظ ضربها ضربةً واحدةً لطيفةً على رأسها فقبضت على لحيته وصارت تصيح وتقول: يا مسلمين فدخل الجيران وخلصوا لحيته من يدها فأموا عليها اللوم وعيبوها وقالوا: نحن كلنا نأكل الكنافة التي بعسل القصب ما هذا التجبر على هذا الرجل الفقير أن هذا عيبٌ عليك وما زالوا يلاطفونها حتى أصلحوا بينها وبينه ولكنها بعد ذهاب الناس حلفت ما تأكل من الكنافة شيئاً فأحرقه الجوع، فقال في نفسه هي حلفت ما تأكل فأنا آكل ثم أكل.
فلما رأته يأكل صارت تقول له: أن شاء الله يكون أكلها سماً يهري بدن البعيد فقال لها: ما هو بكلامك وصار يأكل ويضحك ويقول: أنت حلفت ما تأكلين من هذه فالله كريم، فأن شاء الله في ليلة الغد أجيء لك بكنافةٍ تكون بعسل نحلٍ وتأكلينها وحدك وصار يأخذ بخاطرها وهي تدعوا عليه ولم تزل تسبه وتشتمه إلى الصبح، فلما أصبح الصباح شمرت عن ساعدها لضربه فقال لها: أمهليني وأنا أجيء إليك بغيرها.
ثم خرج إلى المسجد وصلى وتوجه إلى الدكان وفتحها وجلس فلم يستقر به الجلوس حتى جاءه اثنان من طرف القاضي وقالا له: قم كلم القاضي فأن امرأتك شكتك إليه وصفتها كذا وكذا فعرفها وقال: الله تعالى ينكد عليها ثم قام ومشى معهما إلى أن دخل على القاضي فرأى زوجته رابطةً ذراعها وبرقعها ملوثٌ بالدم وهي واقفةٌ تبكي وتمسح دموعها فقال له القاضي: يا رجل ألم تخف من الله كيف تضرب هذه الحرمة وتكسر ذراعها وتقلع سنها وتفعل بها هذه الفعال? فقال له: أن كنت ضربتها أو قلعت سنها فأحكم في بما تختار وإنما القصة كذا وكذا والجيران أصلحوا بيني وبينها وأخبره بالقصة من الأول إلى الأخر وكان ذلك القاضي من أهل الخير فأخرج له ربع دينارٍ وقال له: يا رجل خذ هذا وأعمل لها به كنافة بعسل نحل واصطلح أنت وإياها، فقال له: أعطه لها فأخذته وأصلح بينهما وقال: يا حرمة أطيعي زوجك وأنت يا رجل ترفق بها وخرجا مصطلحين على يد القاضي وذهبت المرأة من طريق وزوجها من طريقٍ آخرٍ إلى دكانه وجلس وإذا بالرسل أتوا له وقالوا: هات خدمتنا فقال لهم: أن القاضي لم يأخذ مني شيئاً بل أعطاني ربع دينار فقالوا: لا علاقة لنا بكون القاضي أعطاك أو أخذ منك فأن لم تعطنا خدمتنا أخذناها قهرا عنك وصاروا يجرونه في السوق فباع عدته وأعطاهم نصف دينارٍ، ورجعوا عنه ووضع يده على خده وقعد حزينا حيث لم يكن عنده عدة يشتغل بها.
فبينما هو قاعدٌ وإذا برجلين قبيحي المنظر أقبلا عليه وقالا له: قم يا رجل كلم القاضي فأن زوجتك شكتك إليه فقال لهما: قد أصلح بيني وبينهما فقالا له: نحن من عند قاض آخر فأن زوجتك اشتكتك إلى قاضينا، فقام معهما وهو يحسب عليها فلما رآها قال لها: ما اصطلحنا يا بنت الحلال فقالت: ما بقي بيني وبينك صلح فتقدم وحكى للقاضي حكايته وقال: أن القاضي فلانا أصلح بيننا في هذه الساعة فقال لها القاضي: يا عاهرة حيث اصطلحتما لماذا جئت تشتكين إلي? قالت: أنه ضربني بعد ذلك فقال لهما القاضي: اصطلحا ولا تعد إلى ضربها وهي لا تعود إلى مخالفتك وتوجه إلى الدكان وفتحها وقعد فيها وهو مثل السكران من الهم الذي أصابه فبينما هو قاعدٌ وإذا برجلٍ أقبل عليه وقال له: يا معروف قم واستخف فأن زوجتك اشتكتك إلى الباب العالي ونازلٌ عليك أبو طبق فقام وقفل الدكان وهرب في وجهة باب النصر وكن قد بقي معه خمسة أنصاف فضة من حق القوالب والعدة، فاشتري بأربعة أنصافٍ عيشاً وبنصفٍ جبناً وهرب منها وكان ذلك في فصل الشتاء وقت العصر فلما خرج بين الكيمان نزل عليه المطر مثل أفواه القرب فابتلت ثيابه فدخل العادلية فرأى موضعاً خرباً فيه حاصلٌ مهجورٌ من غير بابٍ فدخل يستكن فيه من المطر وحوائجه مبتلةٌ بالماء فنزلت الدموع من أجفانه وصار يتضجر مما به ويقول: أين أهرب من هذه العاهرة أسألك يا رب أن تقيض لي من يوصلني إلى بلادٍ بعيدةٍ لا تعرف طريقي فيها.
فبينما هو جالس يبكي وإذا بالحائط قد انشقت وخرج منها شخصٌ طويل القامة رؤيته تقشعر منها الأأبدان، وقال له: يا رجل ما لك أقلقتني في هذا الليل أنا ساكنٌ في هذا المكان منذ مائتي عامٍ فما رأيت أحداً دخل هذا المكان وعمل مثل ما عملت أنت أخبرني بمقصودك وأنا أقضي حاجتك فأن قلبي أخذته الشفقة عليك فقال له: من أنت وما تكون? فقال له: أنا عامر هذا المكان فأخبره بجميع ما جرى له مع زوجته فقال له: أتريد أن أوصلك إلى بلادٍ لا تعرف لك زوجتك فيها طريقاً? قال: نعم قال له: أركب فوق ظهري فركب وحمله وطار به من بعد العشاء إلى طلوع الفجر وأنزله على رأس جبلٍ عالٍ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن معروفاً الإسكافي لما حمله المارد وطار به وأنزله على جبلٍ عالٍ وقال: يا انسي انحدر من فوق هذا الجبل ترى عتبة مدينة فأدخلها فأن زوجتك لا تعرف لك طريقاً ولا يمكنها أن تصل إليك ثم تركه وذهب فصار معروف باهتاً متحيراً في نفسه إلى أن طلعت الشمس فقال في نفسه: أقوم وأنزل من أعلى هذا الجبل إلى المدينة فأن قعودي هنا ليس فيه فائدةٌ فنزل إلى أسفل الجبل فرأى مدينةً بأسوارٍ عاليةٍ وقصورٍ مشيدةٍ وأبنيةٍ مزخرفةٍ وهي نزهةٌ للناظرين فدخل من باب المدينة فرآها تشرح القلب الحزين فلما مشى في السوق صار أهل المدينة ينظرون إليه ويتفرجون عليه واجتمعوا عليه وصاروا يتعجبون من ملبسه لأن ملبسه لا يشبه ملابسهم فقال له رجلٌ من أهل المدينة: أنت غريبٌ? قال: نعم قال له: من أي مدينةٍ? قال: من مدينة مصر السعيدة قال: ألك زمان مفارقها? قال له: البارحة العصر فضحك عليه وقال: يا ناس تعالوا انظروا هذا الرجل واسمعوا ما يقول: فقالوا: ما يقول? قال: أنه يزعم أنه من مصر وخرج منها البارحة العصر فضحكوا كلهم واجتمع عليه الناس وقالوا: يا رجل أأنت مجنون حتى تقول هذا الكلام? كيف تزعم أنك فارقت مصر بالأمس في وقت العصر وأصبحت هنا والحال أن بين مدينتنا وبين مصر مسافة سنةٍ كاملةٍ فقال لهم: ما مجنونٌ إلا أنتم وأما أنا فأني صادقٌ في قولي وهذا عيش مصر لم يزل معي طرياً وأراهم العيش فصاروا يتفرجون عليه ويتعجبون منه لأنه لا يشبه عيش بلادهم، وكثرت الخلائق عليه وصاروا يقولون لبعضهم: هذا عيش مصر تفرجوا عليه وصارت له شهرةٌ في تلك المدينة ومنهم ناسٌ يصدقون وناس يكذبون ويهزأون به.
فبينما هم في تلك الحالة وإذا بتاجرٍ أقبل عليهم وهو راكبٌ بغلةُ وخلفه عبدان ففرق الناس وقال: يا ناس أما تستحون وأنتم ملتمون على هذا الرجل الغريب وتسخرون منه وتضحكون عليه? ما علاقتكم به? ولم يزل يسبهم حتى طردهم منه ولم يقدر أحدٌ أن يرد عليه جواباً وقال له: تعال يا أخي ما عليك بأسٌ من هؤلاء الناس أنهم لا حياء عندهم ثم أخذه وسار به، إلى أن أدخله داراً واسعةً مزخرفةً وأجلسه في مقعد ملوكي وأمر العبيد ففتحوا له صندوقاً وأخرجوا له بدلة تاجرٍ ألفي وألبسه إياها وكان معروف وجيهاً فصار كأنه شاه بندر التجار ثم أن ذلك التاجر طلب السفرة فوضعوا قدامهما سفرة فيها جميع الأطعمة الفاخرة من سائر الألوان فأكلا وشربا وبعد ذلك قال له: يا أخي ما اسمك? قال: اسمي معروف وصنعتي إسكافي أرقع الزرابين القديمة قال له: من أي البلاد أنت? قال: من مصر قال: من أي الحارات? قال له: هل أنت تعرف مصر? قال له: أنا من أولادها فقال له: أنا من الدرب الأحمر قال: من تعرف من الدرب الأحمر? وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرجل سأل معروف الإسكافي وقال له: من الدرب الأحمر قال له: فلاناً وفلاناً وعد له ناساً كثيرين قال له: هل تعرف الشيخ أحمد العطار? قال: هو جاري الحيط في الحيط قال له: هل هو طيبٌ? قال: نعم. قال: كم له من الأولاد? قال: ثلاثةٌ: مصطفى ومحمد وعلي قال له: ما فعل الله بأولاده? قال: أما مصطفى فأنه طيبٌ وهو عالمٌ مدرسٌ وأما محمد فأنه عطارٌ وقد فتح له دكانا بجنب دكان أبيه بعد أن تزوج وولدت زوجته ولداً اسمه حسن قال: بشرك الله بالخير.
قال: وأما علي فأنه كان رفيقي ونحن صغار وكنت دائماً ألعب أنا وإياه وبقينا نروح بصفة أولاد النصارى وندخل الكنيسة ونسرق كتب النصارى ونبيعها ونشتري بثمنها نفقة، فاتفق في بعض المرات أن النصارى رأونا وأمسكونا بكتاب فاشتكونا إلى أهلنا وقالوا لأبيه: إذا لم تمنع ولدك من آذانا شكوناك إلى الملك فأخذ بخاطرهم وضربه علقة فلهذا السبب هرب من ذلك الوقت ولم يعرف له طريقاً وهو غائبٌ له عشرون سنةً ولم يخبر عنه أحدٌ بخبر فقال له: هو أنا علي ابن الشيخ أحمد العطار وأنت رفيقي يا معروف، وسلما على بعضهما وبعد السلام قال: يا معروف أخبرني بسبب مجيئك من مصر إلى هذه المدينة فأخبره بخبر زوجته فاطمة العرة وما فعلت معه وقال له: أنه لما اشتد علي أذاها هربت منها في جهة باب النصر ونزل علي المطر فدخلت في حاصل خراب في العادلية وقعدت أبكي فخرج لي عامر المكان وهو عفريتٌ من الجن وسألني فأخبرته بحالي فأركبني على ظهره وطار بي طول الليل بين السماء والأرض ثم حطني على الجبل وأخبرني بالمدينة فنزلت من الجبل ودخلت المدينة والتم علي الناس وسألوني فقلت لهم أني طلعت البارحة من مصر فلم يصدقوني فجئت أنت ومنعت عني الناس وجئت بي إلى هذا الدار، وهذا سبب خروجي من مصر وأنت ما سبب مجيئك هنا? قال له: غلب علي الطيش وعمري سبع سنين فمن ذلك الوقت وأنا دائر من بلدٍ إلى بلدٍ ومن مدينةٍ إلى مدينةٍ حتى دخلت هذه المدينة واسمها اختيان الختن فرأيت أهلها ناساً كراماً وعندهم الشفقة ورأيتهم يأتمنون الفقير ويداينونه وكل ما قاله يصدقونه فقلت لهم: أنا تاجر وقد سبقت الحملة ومرادي مكان أنزل فيه حملتي فصدقوني وأخلوا لي مكاناً.
ثم أني قلت لهم: هل فيكم من يداينني ألف دينارٍ حتى تجيء حملتي أرد له ما آخذه منه فأني محتاجٌ إلى بعض مصالح قبل دخول الحملة فأعطوني ما أردت وتوجهت إلى سوق التجار فرأيت شيئاً من البضاعة فاشتريته وفي ثاني يوم بعته فربحت فيه خمسين ديناراً واشتريت غيره وصرت أعاشر الناس وأكرمهم فأحبوني وصرت أبيع واشتري فكثر مالي وأعلم يا أخي أن صاحب المثل يقول: الدنيا فشر وحيلة والبلاد التي لا يعرفك فيها أحدٌ مهما شئت فافعل فيها وأنت إذا قلت لكل من سألك أنا صنعتي إسكافي وفقير وهربت من زوجتي والبارحة طلعت من مصر فلا يصدقونك وتصير عندهم مسخرةً مدة أقامتك في هذه المدينة وأن قلت: حملني عفريت نفروا منك ولا يقرب منك أحدٌ ويقولون: هذا رجلٌ معفرتٌ وكل من يقرب منه يحصل له ضربٌ وتبقى هذه الإشاعة قبيحةٌ في حقي وحقك لكونهم يعرفون أني من مصر.
قال: وكيف أصنع? قال: أنا أعلمك كيف تصنع أن شاء الله تعالى أعطيك في الغد ألف دينارٍ وبغلةً تركبها وعبداً يمشي قدامك حتى يوصلك إلى باب سوق التجار فأدخل عليهم وأكون أنا قاعداً بين التجار فمتى رأيتك أقوم لك وأسلم عليك وأقبل يدك وأعظم قدرك، وكلما سألتك عن صنع من القماش وقلت لك: هل جئت معك بشيء من الصنف الفلاني فقل: كثيرٌ، وأن سألوني عنك أشكرك وأعظمك في أعينهم ثم أني أقول لهم: خذوا له حاصلاً ودكاناً وأصفك بكثرة المال والكرم وإذا أتاك سائلٌ فأعطه ما تيسر فيثقون بكلامي ويعتقدون عظمتك وكرمك ويحبونك وبعد ذلك أعزمك وأعزم جميع التجار من شأنك وأجمع بينك وبينهم، حتى يعرفك جميعهم وتعرفهم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر علياً قال لمعروفٍ: أعزمك وأعزم جميع التجار من شأنك وأجمع بينك وبينهم حتى يعرفك جميعهم وتعرفهم لأجل أن تبيع وتشتري وتأخذ وتعطي معهم فما تمضي عليك مدةً حتى تصير صاحب مالٍ فلما أصبح الصباح أعطاه ألف دينارٍ وألبسه بدلةً وأركبه بغلةً وأعطاه عبداً وقال: أجأبرأ الله ذمتك من الجميع لأنك رفيقي، فواجبٌ علي إكرامك ولا تحمل هماً ودع عنك سيرة زوجتك ولا تذكرها لأحدٍ فقال له: جزاك الله خيرا.
ثم أنه ركب البغلة ومشى قدامه العبد إلى أن أوصله إلى باب سوق التجار وكانوا جميعاً قاعدين والتاجر كان قاعداً بينهم فلما رآه قام ورمى روحه عليه وقال له: نهارك مبارك يا تاجر معروف فسلموا عليه وصار يشير لهم بتعظيمه فعظم في أعينهم ثم أنزله من فوق ظهر البغلة وسلموا عليه وصار يختلي بواحدٍ بعد واحدٍ منهم ويشكره عنده فقالوا له: هل هذا تاجرٌ? فقال لهم: نعم بل هو أكبر التجار ولا يوجد واحدٌ أكثر مالاً منه، لأن أمواله وأموال أبيه وأجداده مشهورةٌ عند تجار مصر وله شركاءٌ في الهند والسند واليمن وهو في الكرم على قدرٍ عظيمٍ فأعرفوا قدره وارفعوا مقامه واخدموه واعلموا أن مجيئة إلى هذه المدينة ليس من أجل التجارة وما مقصده إلا الفرجة على بلاد الناس لأنه محتاجٌ إلى التغريب من أجل الربح والمكاسب، لأن عنده أموالاً لا تأكلها النيران وأنا من بعض خدمه، ولم يزل يشكره حتى جعلوه فوق رؤوسهم وصاروا يخبرون بعضهم بصفاته ثم اجتمعوا عنده وصاروا يهادونه بالفطورات والشربات حتى شاه بندر التجار أتى له وسلم عليه وصار يقول له التاجر علي بحضرة التجار: يا سيدي لعلك جئت معك بشيء من القماش الفلاني فيقول له: كثير وكان في ذلك اليوم فرجة على أصناف القماش المثمنة وعرفه أسامي الأقمشة الغالي والرخيص فقال له تاجرٌ من التجار: يا سيدي هل جئت معك بجوخٍ أصفرٍ? قال: كثيرٌ قال: وأحمر دم غزال، قال: كثيرٌ وصار كلما سأله عن شيءٍ يقول له: كثيرٌ.
فعند ذلك قال: يا تاجر علي أن ابن بلدك لو أراد أن يحمل ألف حمل من القماشات المثمنة يحملها فقال له يحملها من حاصلٍ من جملة حواصله ولا ينقص منه شيءٌ، فبينما هما قاعدون وإذا برجلٍ سائلٍ دارٍ على التجار فمنهم من أعطاه نصف فضة ومنهم من أعطاه جديد وغالبهم لم يعطه شيئاً حتى وصل إلى معروف فكبش له كبشة ذهبٍ وأعطاه إياها فدعا له وذهب فتعجب التجار منه وقالوا: أن هذه عطايا ملوكٍ فأنه أعطى السائل ذهباً من غير عددٍ ولولا أنه من أصحاب النعم الجزيلة وعنده شيءٌ كثيرٌ ما كان أعطى السائل كبشة ذهبٍ وبعد حصةٍ أتته امرأة فقيرةٌ فكبش وأعطاها وذهبت تدعو له وحكت للفقراء فأقبلوا عليه وصار كل من أتى له يكبش له ويعطيه حتى أنفق الألف دينارٍ وبعد ذلك ضرب كفاً على كف وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل فقال له شاه بندر التجار: ما لك يا تاجر معروف? قال: كأن أهل هذه المدينة فقراءٌ ومساكينٌ ولو كنت أعرف أنهم كذلك كنت جئت معي في الخراج بجانب من المال وأحسن به إلى الفقراء، وأنا خائفٌ أن تطول غربتي ومن طبعي أني لا أرد السائل وما بقي معي ذهباً فإذا أتاني فقيرٌ ماذا أقول له? قال له: الله يرزقك، قال: ما هي عادتي وقد ركبني الهم بهذا السبب وكان مرادي ألف دينارٍ أتصدق بها حتى تجيء حملتي. فقال: لا بأس وأرسل بعض أتباعه فجاء له بألف دينارٍ فأعطاه إياها فصار يعطي كل من مر به من الفقراء حتى أذن الظهر فدخلوا الجامع وصلوا الظهر والذي بقي معه من الألف دينارٍ نثره على رؤوس المصلين فانتبه له الناس ثم أنه مال على تاجر آخر وأخذ منه ألف دينار وفرقها فما قفلوا باب السوق حتى أخذ خمسة آلاف دينارٍ وفرقها وكل من أخذ منه شيئاً يقول له: حتى تجيء الحملة وعند المساء عزموه التجار وعزم معه التجار جميعاً وأجلسوه في الصدر وصار لا يتكلم إلا بالقماشات والجواهر وكلما ذكروا له شيئاً يقول: عندي منه كثيرٌ وثاني يومٍ توجه إلى السوق وصار يميل على التجار ويأخذ منهم النقود ويفرقها على الفقراء ولم يزل على هذه الحالة مدة عشرين يوماً حتى أخذ من الناس ستين ألف ولم تأته حملةً ولا كبةً حاميةً فضجت الناس على أموالهم وقالوا: ما أتت حملة التاجر معروف وإلى متى وهو يأخذ أموال الناس ويعطيها للفقراء?.
فقال واحدٌ منهم: الرأي أن نتكلم مع ابن بلديته التاجر علي فأتوه وقالوا له: يا تاجر علي أن حملة التاجر معروف لم تأت فقال لهم: اصبروا فأنها لا بد أن تأتي عن قريبٍ، ثم أنه اختلى به وقال له: يا معروف ما هذي الفعال? هل أنا قلت لك قمر الخبز أو أحرقه? أن التجار ضجوا على أموالهم وأخبروني أنه صار عليك ستون ألف دينار أخذتها وفرقتها على الفقراء، ومن أين تسدد دين الناس وأنت لا تبيع ولا تشتري? فقال له: أي شيء يجري وما مقدار الستين ألف دينارٍ، لما تجيء الحملة أعطيهم أن شاؤوا قماشاً وأن شاؤوا ذهباً وفضةً فقال له التاجر علي: الله أكبر وهل أنت لك حملة? وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن التاجر علي قال: الله أكبر وهل أنت لك حملةٌ? قال: كثير قال له: الله عليك وعلى سماجتك، أهل أنا علمتك هذا الكلام حتى تقوله لي فأنا أخبر الناس بك قال: رح بلا كثرة كلامٍ هل أنا فقيرٌ? أن حملتي فيها شيءٌ فإذا جاءت يأخذون متاعهم المثل مثلين أنا غير محتاجٍ إليهم فعند ذلك اغتاظ التاجر علي وقال له: يا قليل الأدب لا بد أن أريك كيف تكذب علي ولا تستحي? فقال له: الذي يخرج من يدك أفعله ويصبرون حتى تجيء حملتي ويأخذون متاعهم بزيادة فتركه ومضى وقال في نفسه: أنا شكرته سابقاً وأن دعمته الآن صرت كاذباً وأخل في قول من قال: من شكر وذم كذب مرتين وصار متحيراً في أمره، ثم أن التجار أتوه وقالوا: يا تاجر علي هل كلمته? قال لهم: يا ناس أنا استحي منه ولي عنده ألف دينارٍ ولم أقدر أن أكلمه عليها وأنتم لما أعطيتموه ما شاورتموني وليس لكم علي كلامٌ فطالبوه منكم له وأن لم يعطكم فاشكوه إلى ملك المدينة وقولوا له: أنه نصاب نصب علينا فأن الملك يخلصكم منه، فتوجهوا للملك وأخبروه بما وقع وقالوا: يا ملك الزمان أننا تحيرنا في أمرنا مع هذا التاجر الذي كرمه زائدٌ فأنه يفعل كذا وكذا وكل شيءٍ أخذه يفرقه على الفقراء بالكمشة فلو كان مقلا ما كانت تسمح نفسه أن يكبش الذهب ويعطيه للفقراء ولو كان من أصحاب النعم كان صدقه ظهر لنا بمجيء حملته ونحن لا نرى له حملةً مع أنه يدعي أن له حملةً وقد سبقها وكلما ذكرنا له صنفا من أصناف القماش يقول: عندي منه كثير وقد مضت مدةً ولم يبن عن حملته خبرٌ وقد صار لنا عنده ستون ألف دينارٍ وكل ذلك فرقه على الفقراء وصاروا يشكرونه ويمدحون كرمه.
وكان ذلك الملك طماعاً أطمع من الشعب فلما سمع بكرمه وسخائه غلب عليه الطمع وقال لوزيره: لو لم يكن هذا التاجر عنده أموالٌ كثيرةٌ ما كان يقع منه هذا الكلام كله ولا بد أن تأتي حملته ويجتمع هؤلاء التجار عنده ويفرق عليهم أموالاً كثيرةً فأنا أحق منهم بهذا المال فمرادي أن أعاشره وأتودد إليه حتى تأتي حملته والذي يأخذه منه هؤلاء التجار آخذه أنا وأزوجه ابنتي وأضم ماله إلى مالي فقال له الوزير: يا ملك الزمان ما أظنه إلا نصاباً، والنصاب قد أخرب بيت الطماع.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد التسعمائة

وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما قال للملك: ما أظنه إلا نصاباً والنصاب قد أخرب بيت الطماع قال له الملك: يا وزير أنا أمتحنه وأعرف هل هو نصابٌ أو صادقٌ فأنا أبعث إليه وأحضره عندي وإذا جلس أكرمه وأعطيه الجوهرة فأن عرفها أو عرف ثمنها يكون صاحب خيرٍ ونعمٍ وأن لم يعرفها فهو نصاب محدث فاقتله أقبح قتلةٍ.
ثم أن الملك أرسل إليه وأحضره فلما دخل عليه سلم عليه فرد عليه السلام وأجلسه إلى جانبه وقال له: هل أنت التاجر معروف? قال: نعم قال له: أن التجار يزعمون أن لهم عندك ستين ألف دينارٍ فهل ما يقولونه حق? قال: نعم قال له: لم تعطهم أموالهم? قال: يصبرون حتى تجيء حملتي وأعطيهم المثل مثلين وأن أرادوا ذهباً أعطيهم وأن أرادوا فضةً أعطيهم وأن أرادوا بضاعةً أعطيهم والذي له ألفٌ أعطيه ألفين في نظير ما استر به وجهي مع الفقراء عندي شيئاً كثيراً ثم أن الملك قال: يا تاجر خذ هذه وانظر ما جنسها وما قيمتها وأعطاه جوهرةً قدر البندقية كان الملك اشتراها بألف دينارٍ ولم يكن عنده غيرها وكان مستعزاً بها فأخذها معروف بيده وفرك عليها بالإبهام والشاهد فكسرها لأن الجوهرة رقيقةٌ لا تتحمل فقال له الملك: لأي شيء كسرت الجوهرة? فضحك وقال: يا ملك الزمان ما هذه جوهرةٌ هذه قطعة معدن تساوي ألف دينار كيف تقول عليها أنها جوهرة? إن الجوهرة يكون ثمنها سبعين ألف دينارٍ وإنما يقال على هذه قطعة معدن والجوهرة ما لم تكن قدر الجوزة لا قيمة لها عندي ولا أعتني بها كيف تكون ملكاً وتقول على هذه جوهرةٌ وهي قطعة معدنٍ قيمتها ألف دينارٍ? ولكن أنتم معذورون لكونكم فقراء وليس عندكم ذخائر لها قيمتها فقال له الملك: يا تاجر هل عندك جواهرٌ من الذي تخبرني به? قال: كثيرٌ فغلب الطمع على الملك فقال له: هل تعطيني جواهر صحاحاً? قال له: حتى تجيء الحملة أعطيك كثيراً ومهما طلبته فعندي منه كثيرٌ وأعطيك من غير ثمن، فخرج الملك وقال للتجار: اذهبوا إلى حال سبيلكم واصبروا عليه حتى تجيء الحملة ثم تعالوا خذوا مالكم مني وراحوا. هذا ما كان من أمر معروف والتجار.
وأما ما كان من أمر الملك فأنه أقبل على الوزير وقال له: لاطف التاجر معروفاً وخذ وأعط معه في الكلام وأذكر له ابنتي حتى يتزوج بها ونغتنم هذه الخيرات التي عنده فقال الوزير: يا ملك الزمان أن حال هذا الرجل لم يعجبني وأظن أنه نصابٌ وكذابٌ فأترك هذا الكلام لئلا تضيع ابنتك بلا شيء وكان الوزير سابقاً سبق على الملك أن يزوجه البنت وأراد زواجها له فلما بلغها ذلك لم ترض ثم أن الملك قال له: يا خائن أنت لا تريد لي خير لكونك خطبت بنتي سابقاً ولم ترض أن تتزوج بك فصرت الآن تقطع طريق زواجها ومرادك أن بنتي تبور حتى تأخذها أنت فأسمع مني هذه الكلمة ليس لك علاقة بهذا الكلام كيف يكون نصاباً أو كذاباً مع أنه عرف ثمن الجوهرة مثل ما اشتريتها به وكسرها لكونها لم تعجبه وعنده جواهر كثيرةً فمتى دخل على ابنتي يراها جميلة فتأخذ عقله ويحبها ويعطيها جواهر وذخائر وأنت مرادك أن تحرم ابنتي وتحرمني من هذه الخيرات، فسكت الوزير وخاف من غضب الملك عليه وقال في نفسه: أغر الكلام على البقر ثم ميل على التاجر معروف، وقال له: أن حضرة الملك أحبك وله بنت ذات حسن وجمال يريد أن يزوجها لك فما تقول? فقال: لا بأس ولكن يصبر حتى تجيء حملتي فأن مهر بنات الملوك واسعٌ ومقامهن أن لا يمهرن إلا بمهر يناسب حالهن وفي هذه الساعة ما عندي مال فليصبر علي حتى تجيء حملتي فالخير عندي كثير ولا بد أن ادفع صداقها خمسة آلاف كيسٍ وأحتاج إلى ألف كيسٍ أفرقها على الفقراء والمساكين ليلة الدخلة وألف كيسٍ أعطيها للذين يمشون في الزفة وألف كيسٍ أعمل بها الأطعمة للعساكر وغيرهم وأحتاج إلى مائة جوهرة فأعطيها للملكة صبيحة العرس ومائة جوهرة أفرقها على الجواري والخدم فأعطي كل واحدةٍ جوهرةً تعظيماً لمقام العروسة وأحتاج إلى أن أكسوا ألف عريانٍ من الفقراء ولا بد من صدقاتٍ وهذا شيء لا يمكن إلا إذا جاءت الحملة فأن عندي شيئاً كثيراً وإذا جاءت الحملة لا أبالي بهذا المصروف كله.
فراح الوزير وأخبر الملك بما قاله فقال الملك: حيث كان مراده ذلك كيف تقول عنه أنه نصابٌ كذابٌ? قال الوزير: ولم أزل أقول ذلك ففزع فيه الملك ووبخه وقال له: وحياة رأسي أن لم تترك هذا الكلام لقتلتك فأرجع إليه وهاته عندي وأنا مني له أصطفي فذهب إليه الوزير وقال له: تعال كلم الملك فقال سمعاً وطاعةً ثم جاء إليه فقال له الملك: لا تعتذر بهذه الأعذار فأن خزنتي ملآنةً فخذ المفاتيح عندك وانفق جميع ما تحتاج إليه وأعط ما تشاء واكس الفقراء وافعل ما تريد وما عليك من البنت والجواري وإذا جاءت حملتك فأعمل مع زوجتك ما تشاء من الإكرام ونحن نصبر عليك بصداقها حتى تجيء الحملة وليس بيني وبينك فرقٌ أبداً ثم أمر شيخ الإسلام أن يكتب الكتاب فكتب كتاب البنت على التاجر معروف وشرع في عمل الفرح وأمر بزينة البلد ودقت الطبول ومدت الأطعمة من سائر الألوان وأقبلت أرباب الملاعب وصار التاجر معروف يجلس على كرسي في مقعدٍ وتأتي قدامه أرباب الملاعب والشطار والجنك وأرباب الحركات الغريبة والملاهي العجيبة وصار يأمر الخازندار ويقول له: هات الذهب والفضة فيأتيه بالذهب والفضة وصار يدور على المتفرجين ويعطي كل من لعب بالكبشة ويحسن للفقراء والمساكين ويكسوا العريانين وصار فرحاً عجاجاً وما بقي الخازندار يلحق أن يجيء بالأموال من الخزنة وكاد قلب الوزير أن ينفقع من الغيظ ولم يقدر أن يتكلم وصار التاجر علي يتعجب من بذل هذه الأموال ويقول للتاجر معروف: الله والرجال على صدغك أما كفاك أن أضعت مال التجار حتى تضيع مال الملك? فقال التاجر معروف: لا علاقة لك وإذا جاءت الحملة أعوض ذلك على الملك بأضعافه وصار يبذر الأموال ويقول في نفسه: كبةٌ حاميةٌ الذي يجري علي يجري والمقدر ما منه مفر.
ولم يزل الفرح مدة أربعين يوماً وفي ليلة الحادي والأربعين عملوا الزفة للعروسة ومشى قدامها جميع الأمراء والعساكر ولما دخلوا بها صار ينثر الذهب على رؤوس الخلائق وعملوا لها زفةً عظيمةً وصرف أموالاً لها مقدر عظيم وأدخلوه على الملكة فقعد على المرتبة العالية وأرخوا الستائر وقفلوا الأبواب وخرجوا وتركوه عند العروسة فخبط يداً على يدٍ وقعد حزيناً مدةً وهو يضرب كفاً على كفٍ ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقالت له الملكة: يا سيدي سلامتك ما لك مغموماً? فقال: كيف لا أكون مغموماً وأبوك قد شوش علي وعمل معي عملةً مثل حرق الزرع الأخضر قالت: وما عمل معك أبي قل لي? قال: أدخلني عليك قبل أن تأتي حملتي وكان مرادي أقل ما يكون مائة جوهرةٍ أفرقها على جواريك لكل واحدةٍ منهن جوهرةٌ تفرح بها وتقول: أن سيدي أعطاني جوهرة في ليلة دخلته على سيدتي وهذه الخصلة كانت تعظيماً لمقامٍ وزيادةٍ في شرفك فأني لا أقصر في بذل الجواهر لأن عندي منها كثيراً فقالت: لا تهتم بذلك ولا تغم نفسك بهذا السبب أما أنا فما عليك مني إلا أني أصبر عليك حتى تجيء الحملة وأما الجواري فما عليك منهن قم أقلع ثيابك وأعمل انبساطا ومتى جاءت الحملة فأننا نتحصل على تلك الجواهر وغيرها.
فقام وقلع ما كان عليه من الثياب وجلس على الفراش وطلب النغاش ووقع الهراش وحط يده على ركبتها فجلست هي في حجرةٍ وألقمته شفتها في فمه وصارت هذه الساعة تنسي الإنسان أبوه وأمه فحضنها وضمها إليه وعصرها في حضنه وضمها إلى صدره ومص شفتيها حتى سأل العسل من فمها ووضع يده تحت إبطها الشمال فحنت أعضاؤه وأعضاءها للوصال ولكزها بين النهدين فراحت يده بين الفخدين وتحزم بالساقين ومارس العملين ونادى يا أبا اللثامين وحط الدخير وأشعل الفتيل وحرر على بيت الإبرة وأشعل النار فخسف البرج من الأربعة أركان وحصلت النكتة التي لا يسأل عنها إنسان وزعقت الزعقة التي لا بد منها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بنت الملك لما زعقت الزعقة التي لا بد منها أزال التاجر معروف بكارتها وصارت تلك الليلة لا تعد من الأعمار لاشتمالها على وصل الملاح من عناقٍ وهراشٍ ومصٍ ورضعٍ إلى الصباح، ثم دخل الحمام ولبس بدلةً من ملابس الملوك وطلع من الحمام ودخل ديوان الملك فقام له من فيه على الأقدام وقابلوه بإعزازٍ وإكرامٍ وهنأوه وباركوا له وجلس بجانب الملك وقال: أين الخازندار? فقالوا: ها هو حاضر بين يديك فقال: هات الخلع وألبس جميع الوزراء والأمراء وأرباب المناصب فجاء له بجميع ما طلب وجلس يعطي كل من أتى له ويهب لكل إنسانٍ على قدر مقامه، واستمر على هذه الحالة مدة عشرين يوماً ولم يظهر له حملةً ولا غيرها.
ثم أن الخازندار تضايق منه غاية الضيق ودخل على الملك في غياب معروفٍ وكان الملك جالساً هو والوزير لا غير وقبل الأرض بين يديه وقال: يا ملك الزمان أنا أعلمك شيءٌ ربما تلومني على عدم الأخبار به: أعلم أن الخزنة فرغت ولم يبق فيها شيء من المال إلا القليل وبعد عشرة أيامٍ نقفلها على الفارغ.
فقال الملك: يا وزير أن حملة نسيبي تأخرت ولم يبن عنها علمٌ، فضحك الوزير وقال له: الله يلطف بك يا ملك الزمان ما أنت إلا مغفلٌ عن فعل هذا النصاب الكذاب، وحياة رأسك أنه لا حملةً له ولا كبةً تريحنا منه وإنما هو ما زال ينصب عليك حتى أتلف أموالك وتزوج بنتك بلا شيء، وإلى متى وأنت غافل عن هذا الكذاب? فقال له الملك: يا وزير كيف العمل حتى نعرف حقيقة حاله? فقال له: يا ملك الزمان لا يطلع على سر الرجل إلا زوجته فأرسل إلي بنتك لتأتي خلف الستارة حتى أسألها عن حقيقة حاله، فقال: لا بأس بذلك، وحياة رأسك أن ثبت أنه نصابٌ كذابٌ لأقتلنه اشأم قتلة.
ثم أنه أخذ الوزير ودخل إلى قاعة الجلوس وأرسل إلى ابنته فأتت وراء الستارة وكان ذلك في غياب زوجها، فلما أتت قالت: يا أبي ماذا تريد? قال: كلمي الوزير، قالت: أيها الوزير ما بالك? قال: يا سيدي أعلمي أن زوجك أتلف مال أبيك وقد تزوج بك بلا مهرٍ وهو لم يزل يعدنا ويخلف الميعاد ولم يبن لحملته علم بالجملة نريد أن تخبرينا عنه، فقالت: أن كلامه كثير وهو في كل وقتٍ يجيء ويعدني بالجواهر والحلي والذخائر والقماشات المثمنة ولم أر شيئاً فقال: يا سيدتي هل تقدرين في هذه الليلة أن تأخذي وتعطي معه في الكلام وتقولي له: أفيدني بالصحيح ولا تخف من شيءٍ فأنك صرت زوجي ولا أفرط فيك بحقيقة الأمر وأنا أدبر لك تدبيراً ترتاح به، ثم قربي وبعدي له في الكلام وأريه المحبة وقرريه ثم بعد ذلك أفيدينا بحقيقة أمره، فقالت: يا أبت أنا أعرف كيف أختبره.
ثم أنها دخلت، وبعد العشاء حضر عليها زوجها معروف على جري عادته فقامت له وتناولته من تحت إبطه وخادعته خداعاً زائداً وناهيك بمخادعة النساء إذا كان لهن عند الرجال حاجةٌ يردن قضاءها، وما زالت تخادعه وتلاطفه بكلامٍ أحلى من العسل حتى سرقت عقله. فلما رأته مال إليها بكليته قالت له: يا حبيبي، يا قرة عيني ويا ثمرة فؤادي لا أوحشني الله منك ولا فرق الزمان بيني وبينك فأن محبتك سكنت فؤادي ونار غرامك أحرقت كبدي وليس فيك تفريطٌ أبداً، ولكن مرادي أن تخبرني بالصحيح لأن حبل الكذب غير نافعةٍ ولا تنطلي في كل الأوقات وإلى متى وأنت تنصب وتكذب على أبي وأنا خائفةٌ أن يفتضح أمرك عنده قبل أن تدبر له حيلةً فيبطش بك فأفدني بالصحيح وما بك إلا ما يسرك ومتى أعلمتني بحقيقة الأمر لا تخشى من شيء يضرك فكم تدعي أنك تاجرٌ وصاحب أموالٍ ولك حملةٌ وقد مضت لك مدةً طويلةً وأنت تقول حملتي، حملتي ولم يبن عن حملتك علمٌ ويلوح على وجهك الهم بهذا السبب، فأن كان كلامك ليس له صحةٌ فقل لي وأنا أدبر لك تدبيراً تخلص به أن شاء الله.
فقال لها: يا سيدتي سأخبرك بالصحيح ومهما أردت فافعلي، فقالت له: قل وعليك بالصدق فأن الصدق سفينة النجاة وإياك والكذب فأنه يفضح صاحبه، ولله در من قال: علـيك بـالـصـدق ولـو أنـه  أحرقك الصدق بنـار الـوعـيد
وأبغ رضا الله فأغبـى الـورى  من أسخط المولى وأرضى العبيد 
فقال: يا سيدتي أعلمي أني لست تاجراً ولا لي حملةً ولا حاميةً وإنما كنت في بلادي رجلاً إسكافياً ولي زوجة اسمها فاطمة العره وجرى لي معها كذا وكذا وأخبرها بالحكاية من أولها إلى نهايتها، فضحكت وقالت: أنك ماهرٌ في صناعة الكذب والنصب، فقال لها: يا سيدتي الله تعالى يبقيك لستر العيوب وفك الكروب فقالت: أعلم أنك نصبت على أبي وغررته بكثرة فشرك حتى زوجني بك من طمعه ثم أتلفت ماله والوزير منكر ذلك عليك، وكم مرة يتكلم فيك عند أبي ويقول له: أنه نصابٌ كذابٌ ولكن أبي لم يطعه فيما يقول.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زوجة معروف قالت له: أن الوزير تكلم فيك عند أبي ويقول له أنه نصاب كذاب وأبي لم يطعه بسبب أنه كان خطبني لأن يكون لي بعلاً وأكون له أهلاً، ثم أن المدة طالت وقد تضايق أبي وقال لي: قرريه قد قررتك وانكشف المغطى وأبي مصرٌ لك على الضرر بهذا السبب ولكنك صرت زوجي وأنا لا أفرط فيك فأن أعلمت أبي بهذا الخبر ثبت عنده أنك نصابٌ وكذابٌ وقد نصبت على بنات الملوك وذهبت بأموالهم فذنبك عنده لا يغفر ويقتلك بلا محالةٍ ويشيع بين الناس أني تزوجت برجلٍ نصابٍ كذابٍ وتكون فضيحةٌ في حقي، وإذا قتلك أبي ربما يحتاج أن يزوجني إلى آخر وهذا شيءٍ لا أقبله ولو مت.
ولكن قم الآن وألبس بدلةً مملوكٍ وأحمل معك خمسين ألف دينارٍ من مالي وأركب على جوادٍ وسافر إلى بلاد يكون حكم أبي لا ينفذ فيها وأعمل تاجراً هناك وأكتب لي كتاباً وأرسله مع ساعٍ يأتيني به لأعلم في أي البلاد أنت حتى أرسل لك كل ما طالته يدي، فأن مات أبي أرسلت إليك فتجيء بإعزازٍ وإكرامٍ وإذا مت أنت أو أنا إلى رحمة الله تعالى فالقيامة تجمعنا وهذا هو الصواب، وما دمت طيبةً وأنت طيبٌ لا أقطع عنك المراسلة ولا أموال، قم قبل أن يطلع النهار عليك وينزل بك الدمار.
فقال لها: يا سيدتي أنا في عرضك أن تودعيني بوصالك فقالت: لا بأس، ثم واصلها وأغتسل ولبس بدلة مملوكٍ وأمر السياس أن يشدوا له جواد من الخيل فشدوا له جواداً ثم ودعها وخرج من المدينة في آخر الليل فصار كل من رآه يظن أنه مملوكٌ من مماليك السلطان مسافرٌ في قضاء حاجةٍ.
فلما أصبح الصباح جاء أبوها هو والوزير إلى قاعة الجلوس وأرسل إليها فأتت وراء الستارة فقال لها: يا بنيتي ما تقولين? قالت: أقول: سود الله وجه وزيرك فأنه كان مراده أن يسود وجهي من زوجي، قال: وكيف ذلك? قالت: أنه دخل علي أمس قبل أن أذكر له هذا الكلام وإذا بفرج الطواشي جاء إلي وبيده كتابٌ وقال: أن عشرة مماليك واقفون تحت شباك القصر وأعطوني هذا الكتاب وقالوا لي: قبل لنا أيادي سيدي معروف وأعطه هذا الكتاب فأننا من مماليكه الذين مع الحملة وقد بلغنا أنه تزوج بنت الملك فأتينا إليه لنخبره بما حل بنا في الطريق.
فأخذت الكتاب وقرأته فرأيت فيه: من المماليك الخمسمائة إلى حضرة سيدنا التاجر معروف، وبعد، فالذي نعلمك به أنك بعدما تركتنا خرج العرب علينا وحاربونا وهم قدر ألفين من الفرسان ونحن خمسمائة مملوك ووقع بيننا وبين العرب حربٌ عظيمٌ ومنعونا عن الطريق ومضى لنا ثلاثون يوماً ونحن نحاربهم وهذا سبب تأخيرنا عنك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والتسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بنت الملك قالت لأبيها أن زوجي جاءه مكتوبٌ من أتباعه مضمونه: أن العرب منعونا عن الطريق وهذا سبب تأخيرنا عنك وقد أخذوا منا مائتي حمل وقتلوا منا خمسين مملوكاً فما بلغه الخبر قال: خيبهم الله كيف يتحاربون لأجل مائتي حمل بضاعة وما مقدار مائتي حمل فما كان ينبغي لهم أن يتأخروا من أجل ذلك فأن قيمة المائتي حمل سبعة آلاف دينارٍ ولكن ينبغي أن أروح إليهم وأستعجلهم والذي أخذه العرب لا تنقص به الحملة ولا يؤثر عندي شيئاً وأقدر أني تصدقت به عليهم ثم نزل من عندي ضاحكاً ولم يغتم على ما ضاع من ماله ولا على قتل مماليكه ولم نزل نظرت من شباك القصر فرأيت العشرة مماليك الذين أتوا له بالكتاب كأنهم الأقمار كل واحدٍ منهم لابس بدلة تساوي ألف دينارٍ وليس عند أبي مملوك يشبه واحداً منهم.
ثم توجه مع المماليك الذين جاؤوا له بالمكتوب ليجيء بحملته والحمد لله الذي منعني أن أذكر له شيئاً من هذا الكلام الذي أمرتني به فأنه كان يستهزئ بي وبك وربما كان يراني بعين النقص ويبغضني ولكن العيب كله من وزيرك الذي يتكلم في حق زوجي كلاماً لا يليق به، فقال الملك: يا بنتي أن مال زوجك كثير ولا يفكر في ذلك ومن يوم دخل بلادنا وهو يتصدق على الفقراء وأن شاء الله عن قريبٍ يأتي بالحملة ويحصل لنا منه خيرٌ كثيرٌ وصار يأخذ بخاطرها ويوبخ الوزير وانطلت عليه الخيانة، هذا ما كان من أمر الملك.
وأما ما كان من أمر التاجر معروف فأنه ركب الجواد وسار في البر الأقفر وهو متحير لا يدري إلى أي البلاد يروح وصار من ألم الفراق ينوح وقاسى الوجد واللوعات.
فلما فرغ من كلامه بكى بكاءً شديداً وقد انسدت الطرقات في وجهه وأختار الممات على الحياة ثم أنه مشى كالسكران من شدة حيرته ولم يزل سائراً إلى وقت الظهر حتى أقبل على بلدةٍ صغيرةٍ فرأى رجلاً حراثاً قريباً منه يحرث على ثورين وكان قد اشتد به الجوع فقصد الحراث وقال له: السلام عليكم فرد عليه السلام وقال: مرحباً بك يا سيدي هل أنت من مماليك السلطان? قال: نعم قال: انزل عندي للضيافة فعرف أنه من الأجاويد فقال له: يا أخي ما أنا ناظرٌ عندك شيئاً حتى تطعمني إياه فكيف تعزم علي? فقال الحراث: يا سيدي الخير موجودٌ أنزل أنت وها هي البلدة قريبةٌ وأنا ذاهب وآتي لك بغداءٍ وعليق لحصانك قال: حيث كانت البلدة قريبةٌ فأنا أصل إليها في مقدار ما تصل أنت إليها واشتري مرادي من السوق وآكل فقال له: يا سيدي أن البلدة صغيرةً وليس فيها سوق ولا بيع ولا شراء سألتك بالله أن تنزل عندي وتجبر بخاطري وأنا ذاهب إليها وأرجع إليك بسرعةٍ فنزل ثم أن الفلاح تركه وراح البلد ليجيء له بالغداء فقعد معروف ينتظره ثم قال في نفسه: أنا شغلنا هذا الرجل المسكين عن شغله ولكن أنا أقوم وأحرث عوضاً عنه حتى يأتي في نظير عوقته عن شغله ثم أخذ المحراث وساق الثيران فحرث قليلاً وعثر المحراث في شيءٍ فوقعت البهائم فساقها فلم تقدر على المشي فنظر إلى المحراث فرآه مشبوكاً في حلقةٍ من الذهب فكشف عنها التراب فوجد تلك الحلقة في وسط حجرٍ من المرمر قدر قاعدة الطاحون فعالج فيه حتى قلعه من مكانه فبان من تحته طبق بسلالم أفنزل في تلك السلالم فرأى مكاناً مثل الحمام بأربعة لواوين الليوان الأول ملآن من الأرض إلى السقف بالذهب والليوان الثاني ملآن زمرداً ولؤلؤاً ومرجاناً من الأرض إلى السقف والليوان الثالث ملآن ياقوتاً وبلخشاً وفيروزاً والليوان الرابع ملآن بالماس ونفيس المعادن من سائر أصناف الجواهر وفي صدر ذلك المكان صندوقاً من البلور الصافي ملآن بالجواهر اليتيمة التي كل جوهرةٍ منها قدر الجوزة وفوق ذلك الصندوق علبةً صغيرةً قدر الليمونة وهي من الذهب.
فلما رأى ذلك تعجب وفرح فرحاً شديداً وقال: يا هل ترى أي شيءٍ في هذه العلبة ثم أنه فتحها فرأى فيها خاتماً من الذهب مكتوباً عليه أسماء وطلاسم مثل دبيب النمل فدعك الخاتم وإذا بقائلٍ يقول: لبيك لبيك يا سيدي فأطلب تعط هل تريد أن تعمر بلداً وتخرب مدينةً أو تقتل ملكاً أو تحفر نهراً أو نحو ذلك فمهما طلبته فأنه قد صار بأذن الملك الجبار خالق الليل والنهار، فقال له: يا مخلوق ربي من أنت ومن تكون? قال: أنا خادم هذا الخاتم القائم بخدمة مالكه فمهما طلبه من الأغراض قضيته له ولا عذرٌ لي فيه يأمرني به فأني سلطانٌ على أعوانٍ من الجان وعدة عسكري اثنتان وسبعون قبيلةً كل قبيلةٍ عدتها اثنتان وسبعون ألفاً وكل واحدٍ من الألف يحكم ألف ماردٍ وكل ماردٍ يحكم على ألف عونٍ ولك عون يحكم على ألف شيطان وكل شيطان يحكم على ألف جني وكلهم من تحت طاعتي ولا يقدرون على مخالفتي وأنا مرصوداً لهذا الخاتم لا أقدر على مخالفة من ملكه وه أنت من ملكته وصرت أنا خادمك فأطلب ما شئت فأني سميعٌ لقولك مطيعٌ لأمرك وإذا احتجت إلي في أي وقتٍ في البر والبحر فادعك الخاتم تجدني عندك وإياك أن تدعكه ماريتن متواليتين فتحرقني بنار الأسماء وتعدمني وتندم علي بعد ذلك وقد عرفتك بحالي والسلام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد التسعمائة
  
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن خادم هذا الخاتم لما أخبر معروفاً بأحواله قال معروف: ما اسمك? قال: اسمي أبو السعادات فقال له: يا أبا السعادات ما هذا المكان ومن أرصد في هذه العلبة? قال له: يا سيدي هذا المكان كنزٌ يقال له كنز شداد بن عاد الذي عمر أرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وأنا كنت خادمه في حياته وهذا خاتمه وقد وضعه في كنزه ولكنه نصيبك، فقال له معروف: هل تقدر أن تخرج ما في هذا الكنز على وجه الأرض? قال: نعم أسهل ما يكون قال: أخرج جميع ما فيه ولا تبق منه شيئاً فأشار بيده إلى الأرض فانشقت ثم نزل وغاب مدةً لطيفةً وإذا بغلمانٍ صغارٍ زرافٍ بوجوهٍ حسانٍ قد خرجوا وهم حاملون مشناتٍ من الذهب وتلك المشنات ممتلئةً ذهباً وفرغوها، ثم راحوا وجاؤوا بغيرها وما زالوا ينقلون من الذهب والجواهر فلم تمض ساعةً حتى قالوا: ما بقي في الكنز شيءٌ ثم طلع له أبو السعادات وقال له: يا سيدي قد رأيت أن جميع ما في الكنز قد نقلناه فقال له: ما هذه الأولاد الحسان? قال: هؤلاء أولادي لأن هذه الشغلة لا تستحق أن أجمع لها الأعوان وأولادي قضوا حاجتك وتشرفوا بخدمتك فاطلب ما تريد غير هذا قال له: هل تقدر أن تجيء لي ببغالٍ وصناديقٍ وتحط هذه الأموال في الصناديق وتحمل الصناديق على البغال? قال: هذا أسهل ما يكون.
ثم أنه زعق زعقةً عظيمةً فحضر أولاده بين يديه وكانوا ثمانمائة فقال لهم: لينقلب بعضكم في صورة البغال وبعضكم في صورة المماليك الحسان الذين أقل من فيهم لا يوجد مثله عند ملك الملوك وبعضكم في صورة المكارية وبعضكم في صورة الخدامين ففعلوا كما أمرهم ثم صاح على الأعوان فحضروا بين يديه فأمرهم أن ينقلب بعضهم في صورة الخيل المسرجة بسروج الذهب المرصع بالجواهر.
فلما رأى معروف ذلك قال: أين الصناديق فأحضروها بين يديه، قال: عبوا الذهب والمعادن كل صنفٍ وحده فعبوها وحملوها على ثلثمائة بغلٍ، فقال معروف: يا أبا السعادات هل تقدر أن تجيء لي بأحمالٍ من نفيس القماش? قال: أتريد قماشاً مصرياً أو شامياً أو عجمياً أو هندياً? قال: هات لي من قماش كل بلدةٍ مائة حملٍ على مائة بغلٍ قال: يا سيدي أعطني مهلةً حتى أرتب أعواني بذلك أو آمر كل طائفةٍ أن تروح إلى بلدٍ لتجيء بمائة حملٍ من قماشها وينقلب الأعوان في صورة البغال ويأتون حاملين البضائع قال: ما قدر زمن المهلة? قال: مدة سواد الليل فلا يطلع النهار إلا وعندك جميع ما تريد قال: أمهلك هذه المدة ثم أمرهم أن ينصبوا له خيمةً فنصبوها وجلس وجاؤوا له بسماطٍ وقال له أبو السعادات: يا سيدي، اجلس في الخيمة وهؤلاء أولادي بين يديك يحرسونك ولا تخشى من شيء وأنا ذاهب أجمع أعواني وأرسلهم ليقضوا حاجتك.
ثم ذهب أبو السعادت إلى حال سبيله وجلس معروف في الخيمة والسماط قدامه وأولاد أبي السعادات بين يديه في صورة المماليك والخدم والحشم، فبينما هو جالسٌ على تلك الحالة وإذا بالرجل الفلاح قد أقبل وهو حاملٌ قصعة عدسٍ كبيرةٍ ومخلاةٍ ممتلئةٍ شعيراً فرأى الخيمة منصوبة والمماليك واقفةٌ وأيديهم على صدورهم فظن أنه السلطان أتى ونزل في ذلك المكان فوقف باهتا وقال في نفسه: يا ليتني كنت ذبحت فرختين وحمرتهما بالسمن البقري من شأن السلطان.
وأراد أن يرجع ليذبح فرختين يضيف بهما السلطان فرآه معروف فزعق عليه وقال للمماليك: أحضروه فحملوه هو وقصعة العدس وأثوابهما قدامه، فقال له: ما هذا? قال: هذا غذاؤك وعليق حصانك فلا تؤاخذني فأني ما كنت أظن أن السلطان يأتي إلى هذا المكان ولو علمت بذلك كنت ذبحت له فرختين وضيفته ضيافةً مليحةً، فقال له معروف: أن السلطان لم يجيء وإنما أنا نسيبه وكنت مغبوناً منه وقد أرسل إلى مماليكه فصالحوني وأنا الآن أريد أن أرجع إلى المدينة وأنت قد عملت لي هذه الضيافة على غير معرفةٍ وضيافتك مقبولة ولو كانت عدساً فأنا ما آكل إلا من ضيافتك.
ثم أمره بوضع القصعة في وسط السماط وأكل منها حتى أكتفي، وأما الفلاح فأنه ملآ بطنه من تلك الألوان الطيبة، ثم أن معروفاً غسل يديه وأذن للمماليك في أكل فنزلوا على بقية السماط وأكلوا، ولما فرغت القصعة ملآها ذهبا وقال له:   
أوصلها إلى منزلك وتعال عندي في المدينة وأنا أكرمك فتناول القصعة ملآنةً ذهباً وساق الثيران وذهب إلى بلده وهو يظن أنه نسيب الملك.
وبات معروفاً تلك الليلة في أنسٍ وصفاءٍ وجاؤوا له ببناتٍ من عرائس الكنوز فدقوا آلات الطرب ورقصوا قدامه وقضى ليلته وكانت تعد من الأعمار.
فلما أصبح الصباح لم يشعرا إلا والغبار قد علا وطار وانكشف عن بغالٍ حاملةٍ أحمالاً وهي سبعمائة بغلٍ حاملةً أقمشةً وحولها غلمانٌ مكاريةٌ وعكامةٌ وضويةٌ وأبو السعادات راكبٌ على بغلةٍ وهو في صورة مقدم الحملة وقدامه تختروان له أربع عساكر من الذهب الوهاج مرصعةً بالجواهر.
فلما وصل إلى الخيمة نزل من فوق ظهر البغلة وقبل الأرض وقال: يا سيدي أن الحاجة قضيت بالتمام والكمال وهذا التختروان فيه بدلةً كنوزيةً لا مثيل لها من ملابس الملوك فألبسها وأركب في التختروان وأأمرنا بما تريد.
فقال له أبو السعادات: مرادي أن أكتب لك كتاباً تروح به إلى مدينة خيتان أختن وتدخل على عمي الملك ولا تدخل عليه إلا في صورة ساعٍ أنيسٍ، فقال له سمعاً وطاعةً.
فكتب كتاباً وختمه فتناوله أبو السعادات وذهب به حتى وصل إلى الملك فرآه يقول: يا وزيري أن قلبي على نسيبي وأخاف أن يقتله العرب، يا ليتني كنت أعرف أين ذهب حتى كنت أتبعه بالعسكر ويا ليته كان قد أعلمني بذلك قبل الذهاب.
فقال له الوزير: الله تعالى يلطف بك على هذه الغفلة التي أنت فيها، وحياة رأسك أن الرجل عرف أننا انتبهنا له فخاف من الفضيحة وهرب وما هو إلا كذابٌ نصابٌ، وإذا بالساعي داخلٌ، فقبل الأرض بين يدي الملك ودعا له بدوام العز والنعم والبقاء، فقال له الملك: من أنت وما حاجتك? فقال له: أنا ساعٍ أرسلني إليك نسيبك وهو مقبل بالحملة وقد أرسل معي كتاباً وها هو، فأخذه وقرأه فرأى فيه: وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أخذ الكتاب وقرأه وفهم رموزه ومعناه فرأى فيه: من بعد مزيد السلام على عمنا الملك العزيز فأني جئت بالحملة فأطلع وقابلني بالعسكر فقال الملك: سود الله وجهك يا وزير كم تقدح في عرض نسيبي وتجعله كذاباً نصاباً وقد أتى بالحملة فما أنت إلا خائنٌ.
فأطرق الوزير رأسه على الأرض حياءً وخجلاً وقال: يا ملك الزمان أنا ما قلت هذا الكلام إلا لطول غياب الحملة وكنت خائفاً على ضياع المال الذي صرفه فقال له الملك: يا خائن أي شيءٍ أموالي حيثما أتت الحملة فأنه يعطيني عوضا عنها شيئاً كثيراً.
ثم أمر الملك بزينة المدينة وذهب إلى ابنته وقال لها: لك البشارة أن زوجك عن قريبٍ يجيء بحملته وقد أرسل مكتوباً بذلك وها أنا طالعٌ لملاقاته.
فتعجبت البنت من هذه الحالة وقالت في نفسها: إن هذا شيءٌ عجيبٌ هل كان يهزأ بي ويتمسخر علي أو كان يختبرني حين أفادني بأنه فقيرٌ? ولكن الحمد لله حيث لم يقع في حقة تقصيراً.
هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر التاجر المصري فأنه لما رأى الزينة سأل عن سبب ذلك فقالوا له: أن التاجر معروف نسيب الملك قد أتت حملته فقال: الله أكبر ما هذه الداهية أنه قد أتاني هارباً من زوجته وكان فقيراً فمن أين جاءت له حملة? ولكن لعل بنت الملك دبرت له حيلةً خوفاً من الفضيحة والملوك لا يعجزون عن شيء، فالله تعالى يستره ولا يفضحه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن التاجر علياً لما سأل عن الزينة أخبروه بحقيقة الحال فدعا له وقال: الله يستره ولا يفضحه وسائر التجار فرحوا وانسروا لأجل أخذ أموالهم، ثم أن الملك أمر بجمع العسكر وطلع وكان أبو السعادات قد رجع إلى معروفٍ وأعلمه بأنه بلغ الرسالة فقال له معروف: حملوا، فحملوا ولبس البدلة الكنوزية وركب التختروان وصار أعظم وأهيب من الملك بألف مرةٍ ومشى إلى نصف الطريق وإذا بالملك قابله بالعسكر، فلما وصل إليه رآه لابساً تلك البدلة وراكباً في التختروان، حياه بالسلام وجميع أكابر الدولة سلموا عليه وبأن معروفاً صادق ولا كذب عنده ودخل المدينة بموكبٍ يفقع مرارة الأسد وسعى إليه التجار وقبلوا الأرض بين يديه.
ثم أن التاجر علياً قال له: قد عملت هذه العملة وطلعت يا شيخ النصابين ولكن يستاهل فالله تعالى يزيدك من فضله، فضحك معروف، ولما دخل السرايا قعد على الكرسي وقال: ادخلوا حمال الذهب في خزانة عمي الملك وهاتوا أحمال الأقمشة فقدموها وصار يفتحونها حملاً بعد حملٍ ويخرجون ما فيها حتى فتحوا السبعمائة حمل فنقى أطيبها وقال: أدخلوه للملكة لتعرفه على جواريها وخذوا هذا الصندوق والجواهر وأدخلوه لها لتفرقه على الجواري والخدم وصار يعطي التجار الذين لهم عليه دينٌ من الأقمشة في نظير ديونهم والذي له ألف يعطيه قماشاً يساوي ألفين أو أكثر، وبعد ذلك صار يفرق على الفقراء والمساكين والملك ينظر بعينيه ولا يقدر أن يعترض عليه، ولم يزل يعطي ويهب حتى فرق السبعمائة حمل، ثم التفت إلى العسكر وجعل يفرق عليهم معادن وزمردا ويواقيت ولؤلؤاً ومرجاناً وصار لا يعطي الجواهر إلا بالكبشة من غير عددٍ.
فقال له الملك: يا ولدي يكفي هذا العطاء لأنه لم يبق من الحملة إلا القليل فقال له: عندي كثيرٌ وأشتهر صدقه وما بقي يقدر أن يكذبه وصار لا يبالي بالعطاء لأن الخادم يحضر له مهما طلب، ثم أن الخازندار أتى للملك وقال له: يا ملك أن الخزينة امتلأت وصارت لا تسع بقية الأحمال وما بقي من الذهب والمعادن أين نضعه? فأشار له إلى مكانٍ آخر: ولما رأت زوجته هذه الحالة ازداد فرحها وصارت متعجبةً وتقول في نفسها: يا هل ترى من أين جاء له كل هذا الخير? وكذلك التجار فرحوا بما أعطاهم ودعوا له: وأما التاجر علي فأنه صار متعجباً ويقول في نفسه: يا ترى كيف نصب وكذب حتى ملك هذه الخزائن كلها فأنها لو كانت من عند بنت الملك ما كان يفرقها على الفقراء.
هذا ما كان من أمره. وأما ما كان من أمر الملك فأنه تعجب غاية العجب مما رأى من معروف ومن كرمه وسخائه ببذل المال ثم بعد ذلك دخل على زوجته فقابلته وهي مبتسمةٌ ضاحكةٌ فرحانةٌ وقبلت يده وقالت: هل كنت تتمسخر علي أو كنت تجربني بقولك أنا فقيرٌ وهاربٌ من زوجتي? والحمد لله حيث لم يقع مني في حقك تقصيرٌ وأنت يا حبيبي وما عندي أعز منك سواءٌ كنت غنياً أو فقيراً وأريد أن تخبرني ما قصدت بهذا الكلام? قال: أردت تجريبك حتى أنظر هل محبتك خالصةٌ أو على شأن المال وطمع الدنيا فظهر لي أن محبتك خالصةٌ وحيث أنك صادقةٌ في المحبة فمرحباً بك وقد عرفت قيمتك ثم أنه اختلى في مكان وحده ودعك الخاتم فحضر له أبو السعادات وقال له: لبيك فأطلب ما تريد قال: أريد منك بدلةً كنوزية لزوجتي وحلياً كنوزياً مشتملاً على عقد فيه أربعون جوهرةً يتيمةً قال: سمعاً وطاعةً، ثم أحضر له ما أمره به فحمل البدلة والحلي بعد أن صرف الخادم ثم دخل على زوجته ووضعهما بين يديها وقال لها: خذي وألبسي فمرحباً بك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والتسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن التاجر معروف قال لزوجته: مرحباً بك، فلما نظرت إلى ذلك طار عقلها من فرحتها ورأت من جملة الحلي خلخالين من الذهب مرصعين بالجواهر صنعة الكهنة وأساور وحلقاً وحزاماً لا يتقدم بثمنها أموال فلبست البدلة والحلي ثم قالت: يا سيدي مرادي أن أدخرها للمواسم والأعياد قال: ألبسيها دائماً فأن عندي غيرها كثيراً فلما لبستها ونظرانها الجواري فرحن وقبلن يديه فتركهن واختلى بنفسه ثم دعك الخاتم فحضر له الخادم، فقال له: هات لي مائة بدلةٍ بمصاغها فقال سمعاً وطاعةً ثم أحضر البدلات وكل بدلةٍ مصاغها في قلبها وأخذها وزعق على الجواري فأتين إليه فأعطى كل واحدةٍ منهن بدلةً فلبسن البدلات وصرن مثل الحور العين وصارت الملكة بينهن مثل القمر بين النجوم.
ثم أن بعض الجواري أخبر الملك بذلك فدخل على ابنته فرآها هي وجواريها فتعجب من ذلك غاية العجب ثم خرج وأحضر وزيره وقال له:   
يا وزير أيه حصل كذا وكذا فما تقول في هذا الأمر? قال: يا ملك الزمان إن هذه الحالة لا تقع من التجارة لأن التاجر تقعد عنده القطع الكتان سنين ولا يبيعها إلا بمكسب فمن أين للتجار قوم كرمٌ مثل هذا الكرم? ومن أين لهم أن يحوزوا مثل هذه الأموال والجواهر التي لا يوجد منها عند الملوك إلا قليل فكيف يوجد عند التجار منها أجمل? فهذا لا بد له من سبب ولكن إن طاوعتني أبين لك حقيقة الأمر فقال له: أطاوعك يا وزير فقال له: اجتمع عليه ووادده وتحدث معه وقل له: يا نسيبي في خاطري أن أروح أنا وأنت والوزير من غير زيادة بستاناً لأجل النزهة فإذا خرجنا إلى البستان نحط سفرة المدام وأغصب عليه واسقه ومتى شرب المدام ضاع عقله وغاب رشده فنسأله عن حقيقة أمره فأنه يخبرنا بأسراره والمدام فضاح.
ومتى أخبرنا بحقيقة الأمر فأننا نطلع على حاله ونفعل به ما نحب ونختار منك، فقال له الملك: صدقت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والتسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما دبر للملك هذا التدبير قال له: صدقت وباتا متفقين على هذا الأمر.
فلما أصبح الصباح خرج الملك إلى المقعد وجلس وإذا بالخدامين والسياس دخلوا عليه مكروبين فقال لهم: ما الذي أصابكم? قالوا: يا ملك الزمان أن السياس غروا الخيل وعلقوا عليها وعلى البغال وفتشنا الإصطبلات فما رأينا خيلاً ولا بغالاً ودخلنا محل المماليك فلم نر فيه أحدٌ ولم نعرف كيف هربوا فتعجب الملك من ذلك لأنه ظن أن الأعوان كانوا خيلاً وبغالاً ومماليك ولم يعلم أنهم كانوا أعوان خادم الرصد فقال لهم: يا ملاعين ألف دابة وخمسمائة مملوك وغيرهم من الخدام كيف هربوا ولم تشعروا بهم? فقالوا: ما عرفنا كيف جرى لنا حتى هربوا فقالوا: انصرفوا حتى يخرج سيدكم من الحريم وأخبروه بذلك. وقد خرجوا من قدام الملك وجلسوا متحيرين.
فبينما هم جالسون على تلك الحالة وإذا بمعروف قد خرج من الحريم فرآهم مغتمين فقال لهم: ما الخبر? فأخبروه بما حصل فقال: وما قيمتهم حتى تغتموا عليهم? امضوا إلى حال سبيلكم وقعد يضحك ولم يغتظ ولم يغتم من هذا الأمر.
فنظر الملك في وجه الوزير وقال له: أي شيءٍ هذا الرجل الذي ليس للمال عنده قيمة فلا بد لذلك من سبب ثم أنهم تحدثوا ساعةٌ وقال الملك: يا نسيبي خاطري أروح أنا وأنت والوزير بستاناً لأجل النزهة فما تقول? قال: لا بأس ثم أنهم ذهبوا وتوجهوا إلى بستان فيه من كل فاكهةٍ زوجان، أنهاره دافقةٌ وأشجاره باسقةٌ وأطياره ناطقةٌ ودخلوا في قصرٍ يزيل عن القلوب الحزن وجلسوا يتحدثون والوزير يحكي غريب الحكايات ويأتي بالنكت المضحكات والألفاظ المطربات ومعروف مصغٍ إلى الحديث حتى طلع الغداء وحطوا سفرة الطعام وباطية المدام وبعد أن أكلوا وغسلوا أيديهم ملأ الوزير الكأس وأعطاه للملك فشربه وملأ الثاني وقال لمعروف: هاك كأس الشرب الذي تخضع لهيبته أعناق ذوي الألباب فقال معروف: ما لهذا يا وزير? قال الوزير: هذه البكر الشمطاء والعانس العذراء ومهدية السرور إلى السرائر وما زال يرغبه في الشراب ويذكر له محاسنه ما استطاب وينشده ما ورد فيه من الأشعار ولطائف حتى مال إلى ارتشاف ثغر القدح ولم يبق غيرها مقترح.
وما زال يملأ له وهو يشرب ويستلذ ويطرب حتى غاب عن صوابه ولم يميز خطأه من صوابه، فلما علم أن السكر بلغ به الغاية وتجاوز النهاية قال له: يا تاجر معروف والله إني متعجبٌ من أين وصلت إليك هذه الجوهرة التي لا يوجد مثلها عند الملوك الأكاسرة إلا وعمرنا ما رأينا تاجراً حاز أموالاً كثيرة مثلك ولا أكرم منك، فإن فعالك أفعال ملوك وليست أفعال تجار، فبالله عليك أن تخبرني حتى أعرف قدرك ومقامك. وصار يمارسه ويخادعه وهو غائب العقل.
فقال له معروف: أنا لم أكن تاجراً ولا من أولاد الملوك. وأخبره بحكايته من أولها إلى آخرها. فقال له: بالله عليك يا سيدي معروف أن تفرجني على هذا الخاتم حتى ننظر كيف صنعته فقلع الخاتم وهو في حال سكره وقال خذوا تفرجوا عليه. فأخذه الوزير وقلبه وقال: هل إذا دعكته يحضر الخادم? قال: نعم ادعكه يحضر لك وتفرج عليه فدعكه وإذا بقائلٍ يقول: لبيك يا سيدي اطلب تعط هل تخرب مدينة أو تعمر مدينة أو تقتل ملكاً فمهما طلبته فأني أفعله لك من غير خلاف. فأشار الوزير إلى معروف وقال للخادم احمل هذا الخادم ثم أرمه في أوحش الأراضي الخراب حتى لا يجد فيها ما يأكل ولا ماء يشرب فيهلك من الجوع كمداً ولا يدر به أحداً. فخطفه الخادم وطار به بين السماء والأرض.
فلما رأى معروف ذلك أيقن بالهلاك وسوء الإرتباك فبكى وقال: يا أبا السعادات إلى أين أنت رائح بي? فقال له: أنا رائح أرميك في الربع الخراب يا قليل الأدب من يملك رصداً مثل هذا ويعطيه للناس يتفرجون عليه لكن تستاهل ما حل بك ولولا أني أخاف الله لرميتك من مسافة ألف قامة فلا تصل إلى الأرض حتى تمزقك الرياح. فسكت وصار لا يخاطبه حتى وصل به إلى الربع الخراب ورماه هناك ورجع وخلاه في الأرض الموحشة. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر الوزير فأنه لما ملك الخاتم قال للملك: كيف رأيت، أما قلت لك إن هذا كذابٌ نصابٌ ما كنت تصدقني، فقال له: الحق معك يا وزير الله يعطيك العافية هات الخاتم حتى أتفرج عليه. فالتفت الوزير بالغضب وبصق في وجهه وقال له: يا قليل العقل كيف أعطيه لك وأبقى خدامك بعد أن صرت سيدك، ولكن أنا ما بقيت أبقيك، ثم دعك الخاتم فحضر الخادم فقال له: احمل هذا القليل الأدب وارمه في المكان الذي رميت فيه نسيبه النصاب. فحمله وطار به فقال له الملك يا مخلوق ربي أي شيءٍ ذنبي? فقال له الخادم: لا أدري وإنما أمرني سيدي بذلك وأنا لا أقدر أن أخالف من ملك الخاتم هذا الرصد ولم يزل طائراً به حتى رماه في المكان الذي فيه معروف ثم رجع وتركه هناك. فسمع معروفاً يبكي فأتى له وأخبره بحاله وقعدا يبكيان على ما أصابهما ولم يجدا أكلاً ولا شرباً هذا ما كان من أمرهما.
وأما ما كان من أمر الوزير فأنه بعدما شتت معروفاً والملك قام وخرج من البستان وأرسل إلى جميع العسكر وعمل ديواناً وأخبرهم بما فعل مع معروف والملك وأخبرهم بقصة الخاتم وقال لهم: إن لم تجعلوني سلطاناً عليكم أمرت خادم الخاتم أن يحملكم جميعاً ويرميكم في الربع الخراب فتموتوا جوعاً وعطشاً. فقالوا له لا تفعل معنا ضرراً فأننا قد رضينا بك سلطاناً علينا ولا نعصي لك أمراً. ثم أنهم اتفقوا على سلطنته عليهم قهراً عنهم وخلع عليهم الخلع وصار يطلب من أبي السعادات كل ما أراده فيحضر بين يديه في الحال ثم أنه جلس على الكرسي وأطاعه العسكر وأرسل إلى بنت الملك يقول لها حضري روحك فأني داخلٌ عليك في هذه الليلة لأني مشتاقٌ إليك فبكت وصعب عليها أبوها وزوجها ثم أنها أرسلت تقول أمهلني حتى تنقضي العدة ثم اكتب كتابي وادخل علي في الحلال فأرسل يقول لها: أنا لا أعرف عدة ولا طول مدة ولا أحتاج إلى كتاب ولا أعرف حلالاً من حرام ولا بد من دخولي عليك في هذه الليلة فأرسلت تقول له مرحباً بك ولا بأس بذلك وكان ذلك مكر منها فلما رجع له الجواب فرح وانشرح صدره لأنه كان مغرماً بحبها ثم أمر بوضع الأطعمة بين جميع الناس وقال كلوا هذا الطعام فإنه وليمة الفرح فأني أريد الدخول على الملكة في هذه الليلة فقال شيخ الإسلام لا يحل لك الدخول عليها حتى تنقضي عدتها وتكتب كتابك عليها فقال له: أنا لا أعرف عدةٌ ولا مدةٌ فلا تكثر علي كلاماً، فسكت شيخ الإسلام وخاف من شره وقال للعسكر: إن هذا كافرٌ لا دينٌ له ولا مذهب.
فلما جاء المساء دخل عليها فرأها لابسةً آخر ما عندها من الثياب وهي ضاحكة وقالت له ليلة مباركة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بنت الملك قابلت الوزير وقالت له مرحباً بك ولو كنت قتلت أبي وزوجي لكان أحسن عندي فقال لها لا بد أن أقتلهما فأجلسته وصارت تمازحه حتى تظفر بالخاتم وتبدل فرحه بالنكد على ما ناصبته وما فعلت معه هذه الفعال.
فلما رأى الملاطفة والإبتسام هاج عليه الغرام وطلب منها الوصال فلما دنا منها تباعدت عنه وبكت وقالت يا سيدي أما ترى الرجل الناظر إلينا بالله عليك أن تسترني عن عينه فكيف تواصلني وهو ينظر إلينا فاغتاظ وقال: أين الرجل قالت ها هو في فص الخاتم يطلع رأسه وينظر إلينا فظن أن خادم الخاتم ينظر إليهما فضحك وقال لا تخافي إن هذا خادم وهو تحت طاعتي قالت أنا أخاف من العفاريت فاقلعه وارمه بعيداً عني فقلعه ووضعه على المخدة ودنا منها فرفسته برجلها في قلبه فانقلب على قفاه مغشياً عليه وزعقت على أتباعها فأتوها بسرعةٍ فقالت امسكوه فقبض عليه أربعون جارية وعجلت بأخذها الخاتم من فوق المخدة ودعكته وإذا بأبي السعادات أقبل يقول لبيك يا سيدتي فقالت احمل هذا الكافر وضعه في السجن وثقل قيوده فأخذه وسجنه في سجن الغضب ورجع وقال لها: لقد سجنته، فقالت له: أين أبي وزوجي قال رميتهما في الربع الخراب، قالت: أمرتك أن تأتيني بهما في هذه الساعة، فقال: سمعاً وطاعةً ثم طار من أمامها ولم يزل طائراً إلى أن وصل إلى الربع الخراب ونزل عليهما فرآهما قاعدين يبكيان ويشكوان لبعضهما فقال لهما لا تخافا قد أتاكما الفرج وأخبرهما بما فعل الوزير وقال لهما أني قد سجنته بيدي طاعةً لها ثم أمرتني بإرجاعكما، ففرحا بخبره ثم حملهما وطار بهما فما كان غير ساعة حتى دخل بهما على بنت الملك فقامت وسلمت على أبيها وزوجها وأجلستهما وقدمت لهما الطعام والحلوى وباتا بقية الليلة.
وفي ثاني يوم ألبست أباها بدلةً فاخرةً وألبست زوجها بدلةً فاخرةً وقالت يا أبت أقعد أنت على كرسيك ملكاً على ما كنت عليه أولاً واجعل زوجي وزير ميمنة عندك وأخبر عسكرك بما جرى وهات الوزير من السجن واقتله ثم احرقه فأنه كافرٌ وأراد أن يدخل علي سفاحاً من غير نكاح وشهد على نفسه أنه كافر وليس له دين يتدين به واستوص بنسيبك الذي جعلته وزير ميمنة عندك فقال سمعاً وطاعةً يا بنتي ولكن أعطيني الخاتم أو أعطيه لزوجك فقالت أنه لا يصلح لك ولا له وإنما الخاتم يكون عندي وربما أحميه أكثر منكما ومهما أردتما فاطلباه مني وأنا أطلب لكما من خادم هذا الخاتم ولا تخشيا بأساً ما دمت أنا طيبة وبعد موتي فشأنكما والخاتم فقال أبوها هذا هو الرأي الصواب يا بنتي.
ثم أخذ نسيبه وطلع إلى الديوان وكان العسكر قد باتوا في كربٍ عظيمٍ بسبب بنت الملك وما فعل معها الوزير من أنه دخل عليها سفاحاً من غير نكاح وأساء الملك ونسيبه وخافوا أن تنتهك شريعة الإسلام لأنه ظهر لهم أنه كافرٌ، ثم اجتمعوا في الديوان وصاروا يعنفون شيخ الإسلام ويقولون له لماذا لم تمنعه من الدخول على الملكة سفاحاً? فقال لهم: يا ناس أن الرجل كافرٌ وصار ملكاً للخاتم وأنا وأنتم لا يخرج من أيدينا في حقة شيء فالله تعالى يجازيه بفعله فاسكتوا أنتم لئلا يقتلكم. فبينما العساكر مجتمعون يتحدثون في هذا الكلام وإذ بالملك دخل عليهم في الديوان ومعه نسيبه معروف.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العساكر من شدة غيظهم جلسوا في الديوان يتحدثون بشأن الوزير وما فعل بالملك ونسيبه وبنته وإذا بالملك قدم إليهم في الديوان ومعه نسيبه معروف، فلما رآته العساكر فرحوا بقدومه وقاموا له على الأقدام وقبلوا الأرض بين يديه، ثم جلس على الكرسي وأفادهم بالقصة فزالت عنهم الغصة وأمر بزينة المدينة وأحضر الوزير من الحبس فلما مر العساكر صاروا يلعنونه ويوبخونه حتى وصل إلى الملك فلما تمثل بين يديه أمر بقتله أشنع قتلة ثم حرقوه وراح إلى سقر في أسوا الحالات.
ثم أن الملك جعل معروفاً وزير ميمنة عنده وطابت لهم الأوقات وصفت لهم المسرات واستمروا على ذلك خمس سنوات، وفي السنة السادسة مات الملك فجعلت بنت الملك زوجها سلطاناً مكان أبيها ولم تعطه الخاتم، وكانت في هذه المدة حملت منه ووضعت غلاماً بديع الجمال بارع الحسن والكمال ولم يزل في حجر الدادات حتى بلغ من العمر خمس سنوات فمرضت أمه مرض الموت فأحضرت معروفاً وقالت له أنا مريضة، قال لها: سلامتك يا حبيبة قلبي، قالت له ربما أموت فلا تحتاج إلى أن أوصيك على ولدك إنما أوصيك بحفظ الخاتم خوفاً عليك وعلى هذا الغلام، فقال: ما على من يحفظه بأس، فقلعت الخاتم وأعطته له، وفي ثاني يومٍ توفيت إلى رحمة الله تعالى وأقام معروف ملكاً وصار يتعاطى الأحكام.
فاتفق له في بعض الأيام أنه نفض المنديل فانفضت العساكر من قدامه إلى أماكنهم ووصل هو إلى قاعة الجلوس وجلس فيها إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بالإعتكار فجاء إليه أرباب منادمته من الأكابر على عادتهم وسهروا عنده من أجل البسط والإنشرح إلى نصف الليل، ثم طلبوا الإجازة بالإنصراف فأذن لهم، وبعد ذلك جاءت إليه جاريةٌ كانت مقيدة بخدمة فراشه ففرشت له المرتبة وقلعته البدلة وألبسته بدلة النوم واضطجع فصارت تكبس قدميه حتى غلب عليه النوم فذهبت من عنده وراحت إلى مرقدها ونامت، هذا ما كان من أمرها.
وأما ما كان من أمر الملك معروف فأنه بينما كان نائماً لم يشعر إلا وشيءٍ بجانبه في الفراش فانتبه مرعوباً وقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم فتح عينيه فرأى بجانبه امرأة قبيحة المنظر فقال لها من أنت? قالت لا تخف أنا زوجتك فاطمة العرة، فنظر في وجهها فعرفها بمسخة صورتها وطول أنيابها وقال: من أين وصلت علي ومن جاء بك إلى هذه البلاد فقالت له: في أي بلاد أنت في هذه الساعة قال: في مدينة خيتان أختن وأنت متى فارقت مصر? قالت: في هذه الساعة: قال: وكيف ذلك? قالت: لما تشاجرت معك وأغواني الشيطان على ضررك واشتكيتك إلى الحكام ففتشوا عليك فما وجدوك وسأل القضاة عنك فما رأوك بعد أن مضى يومان لحقتني الندامة وعلمت أن العيب عندي وصار الندم لا ينفعني وقعدت مدة أيامٍ وأنا أبكي على فراقك وقل ما في يدي واحتجت إلى السؤال، فصرت أسأل كل مغبونٍ وممقوتٍ ومن حين فارقتني وأنا آكل من ذل السؤال وصرت في أسوأ الأحوال وكل ليلةٍ أقعد أبكي على فراقك وعلى ما قاسيت بعد غيابك من الذل والهوان والتعاسة والخسران، وصارت تحدثه بما جرى لها وهو باهت فيها إلى أن قالت: وفي الأمس درت طول النهار أسأل فلم يعطني أحد شيئاً وصرت كلما أقبل على أحد واسأله كسرة يشتمني ولا يعطيني شيئاً، فلما أقبل الليل بت من غير عشاء فأحرقني الجوع وصعب علي ما قاسيت، وقعدت أبكي وإذا بشخصٍ تصور قدامي وقال لي: يا امرأة لأي شيءٍ تبكين? فقلت: أنه كان لي زوجٌ يصرف علي ويقضي أغراضي وقد فقد مني ولم أعرف أين راح وقد قاسيت الغلب من بعده فقال: ما اسم زوجك? قلت: اسمه معروف قال: أنا أعرفه اعلمي أن زوجك الآن سلطاناً على مدينة وإن شئت أن أوصلك إليه أفعل ذلك فقلت له: أنا في عرضك أن توصلني إليه فحملني وطار بي بين السماء والأرض حتى أوصلني إلى هذا القصر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الألف

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن فاطمة العرة قالت لمعروف: أن ذلك المارد أتى بي إلى هذا القصر وقال لي: ادخلي في هذه الحجرة تري زوجك نائماً على السرير فدخلت فرأيتك في هذه السيادة وأنا ما كان أملي أنك تفوتني وأنا رفيقتك والحمد لله الذي جمعني عليك فقال لها: هل أنا فتك أو أنت التي فتنيني وأنت تشكيني من قاضٍ إلى قاضٍ، وختمت ذلك بشكايتي إلى الباب العالي حتى نزلت على أبا طبق من القلعة فهربت قهراً عني وصار يحكي لها على ما جرى له إلى أن صار سلطاناً وتزوج بنت الملك، وأخبرها بأنها ماتت وخلف منها ولداً وصار عمره سبع سنين.
فقالت: والذي جرى مقدر من الله تعالى وقد تبت وأنا في عرضك أنك لا تفوتني ودعني آكل عندك العيش على سبيل الصدقة ولم تزل تتواضع له حتى رق قلبه لها وقال: توبي عن الشر واقعدي عندي وليس لك إلا ما يسرك فأن عملت شيئاً من الشر أقتلك ولا أخاف من أحدٍ فلا يخطر ببالك أنك تشكيني إلى الباب العالي وينزل لي أبا طبق من القلعة فأني صرت سلطاناً والناس تخاف مني وأنا لا أخاف إلا من الله تعالى فإن معي خاتم استخدام متى دعكته يظهر لي خادم الخاتم واسمه أبو السعادات ومهما طلبته منه يأتيني به فإن كنت تريدين الذهاب إلى بلدك أعطيك ما يكفيك طول عمرك وأرسلك إلى مكانك بسرعة وأن كنت تريدين القعود عندي فإني أخلي لك قصراً وأفرشه لك من خاص الحرير وأجعل لك عشرين جاريةً تخدمك وأرتب لك المآكل الطيبة والملابس وتصيرين ملكة وتقيمين في نعيمٍ زائدٍ حتى تموتي أو أموت أنا فما تقولين في هذا الكلام? قالت: أنا أريد الإقامة عندك ثم قبلت يده وتابت عن الشر فرد لها قصراً وحدها وأنعم عليها بجوارٍ وطواشيةٍ وصارت ملكة ثم أن الولد صار يروح عندها وعند أبيه فكرهت الولد لكونه ليس ابنها فلما رأى الولد منها عين الغضب والكراهية نفر منها وكرهها ثم أن معروفاً اشتغل بحب الجواري الحسان ولم يفكر في زوجته فاطمة العرة لأنها صارت عجوزاً شمطاء بصورةٍ شوهاء وسحنة معطاء أقبح من الحية الرقطاء خصوصاً وقد أساءته إساءة لا مزيد عليها وصاحب المثل يقول: الإساءة تقطع أصل المطلوب وتزرع البغضاء في أرض القلوب.
ثم أن معروفاً لم يأوها الخصلة الحميدة فيها وإنما عمل معها هذا الإكرام ابتغاء مرضاة الله تعالى، ثم أن دنيازاد قالت لأختها شهرزاد: ما أطيب هذه الألفاظ التي هي أشد أخذاً للقلوب من سواحر الإلحاظ وما أحسن هذه النكت الغريبة والنوادر العجيبة فقالت شهرزاد: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة المقبلة إن عشت وأبقاني الملك. فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح أصبح الملك منشرح الصدر ومنتظراً لبقية الحكاية، وقال في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها ثم خرج إلى محل حكمه وطلع الوزير على عادته بالكفن تحت إبطه فمكث الملك في الحكم بين الناس طول نهاره وبعد ذلك ذهب إلى حريمه ودخل على زوجته شهرزاد بنت الوزير على جري عادته.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة بعد الألف

ذهب الملك إلى حريمه ودخل على زوجته شهرزاد بنت الوزير فقالت لها أختها دنيازاد: تممي لنا حكاية معروف.
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك معروفاً صار لا يعتني بزوجته من أجل النكاح وإنما كان يطعمها احتساباً لوجه الله تعالى فلما رأته ممتنعاً عن وصالها ومشتغلاً بغيرها بغضته وغلبت عليها الغيرة ووسوس لها إبليس أنها تأخذ الخاتم منه وتقتله وتعمل ملكة مكانه ثم أنها خرجت ذات ليلة من الليالي ومضت من قصرها متوجهةً إلى القصر الذي فيه زوجها الملك معروف واتفق بالأمر المقدر والقضاء المسطر أن معروفاً كان راقداً مع محظية من محاظيه ذات حسنٍ وجمالٍ وقدٍ واعتدالٍ ومن حسن تقواه كان يقلع الخاتم من إصبعه إذا أراد أن يجامع احتراماً للأسماء الشريفة التي هي مكتوباً عليها فلا يلبسه إلا على طهارة وكانت زوجته فاطمة العرة لم تخرج موضعها إلا بعد أن أحاطت علماً بأنه إذا جامع يقلع الخاتم ويجعله على المخدة حتى يطهر وكان من عادته أنه متى جامع يأمر المحظية أن تذهب من عنده خوفاً على الخاتم وإذا دخل الحمام يقفل باب القصر، حتى يرجع من الحمام ويأخذ الخاتم ويلبسه وبعد ذلك كل من دخل القصر لا حرج عليه وكانت تعرف هذا الأمر كله فخرجت بالليل لأجل أن تدخل عليه في القصر وهو مستغرقٌ في النوم وتسرق هذا الخاتم بحيث لا يراها.
فلما خرجت كان ابن الملك في هذه الساعة قد دخل بيت الراحة ليقضي حاجة من غير نور فقعد في الظلام على ملاقي بيت الراحة وترك الباب مفتوحاً عليه فلما خرجت من قصرها رآها مجتهدة في المشي إلى جهة قصر أبيه فقال في نفسه:   
يا هل ترى لأي شيءٍ خرجت هذه الكاهنة من قصرها في جنح الظلام وأراها متوجهةٍ إلى قصر أبي فهذا الأمر لا بد له من سبب ثم أنه خرج وراءها وتبع أثرها من حيث لا تراه وكان له سيف قصير من الجوهر وكان لا يخرج إلى ديوان أبيه إلا متقلداً بذلك السيف لكونه مستعزاً به فإذا رآه أبوه يضحك عليه ويقول: ما شاء الله إن سيفك عظيمٌ يا ولدي ولكن ما نزلت به حرباً ولا قطعت به رأساً فيقول له: لا بد أن أقطع به عنقاً يكون مستحقاً للقطع فيضحك من كلامه.
ولما مشى وراء زوجة أبيه سحب السيف من غلافه، وتبعها حتى دخلت قصر أبيه فوقف لها على باب القصر، وصار ينظر إليها فرآها وهي تفتش وتقول: أين وضع الخاتم ففهم أنها دائرةٌ على الخاتم فلم يزل صابراً عليها حتى لقيته فقالت: ها هو والتقطته وأرادت أن تخرج فاختفى خلف الباب فلما خرجت من الباب نظرت إلى الخاتم وقلبته في يدها وأرادت أن تدعكه فرفع يده بالسيف وضربها على عنقها فزعقت زعقةً واحدةً ثم وقعت مقتولة فانتبه معروف فرأى زوجته مرميةٌ ودمها سائل وابنه شاهراً سيفه في يده.
فقال له: ما هذا يا ولدي? قال: يا أبي كم مرة وأنت تقول لي: إن سيفك عظيمٌ ولكنك ما نزلت به حرباً ولا قطعت به رأساً وأنا أقول لك: لا بد أن أقطع به عنقاً مستحقاً للقطع وأعلمه بخبرها ثم أنه فتش على الخاتم فلم يره ولم يزل يفتش في أعضائها حتى رأى يدها منطبقة عليه فتناوله ثم قال له: أنت ولدي بلا شك أراحك الله في الدنيا والآخرة كما أرحتني من هذه الخبيثة.
ثم أن الملك معروفاً زعق على أتباعه فأتوه مسرعين فأعلمهم بما فعلت زوجته فاطمة العرة وأمرهم أن يأخذوها ويحطوها في مكانٍ إلى الصباح ففعلوا كما أمرهم ثم وكل بها جماعة من الخدام فغسلوها وكفنوها وعملوا لها مشهداً ودفنوها وما كان مجيئها من مصر إلا لترابها.
ثم أن الملك معروفاً أرسل بطلب الرجل الحراث الذي كان ضيفه وهو هاربٌ فلما حضر جعله وزير ميمنته وصاحب مشورته، ثم علم أن له بنتاً بديعة الحسن والجمال كريمة الخصال شريفة النسب رفيعة الحسب فتزوج بها وبعد مدة من الزمان زوج ابنه وأقاموا مدةً في أرغد عيش وصفت لهم الأوقات وطابت لهم المسرات إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب الديار العامرات ومينم البنين والبنات.
فسبحان الحي الذي لا يموت وبيده مقاليد الملك والملكوت.
وكانت شهرزاد في هذه المدة قد أنجبت من الملك ثلاثة ذكور، فلما فرغت من هذه الحكاية قامت على قدميها وقبلت الأرض بين يدي الملك وقالت له: يا ملك الزمان وفريد العصر والأوان أني جاريتك ولي ألف ليلة وليلة وأنا أحدثك بحديث السابقين ومواعظ المتقدمين فهل لي في جنابك من طمعاً حتى أتمنى عليك أمنية? فقال لها الملك: تمني يا شهرزاد، فصاحت على الدادات والطواشية وقالت لهم: هاتوا أولادي فجاؤوا لها بهم مسرعين وهم ثلاثة أولاد ذكور واحدٌ منهم يمشي وواحدٌ يحبي وواحدٌ يرضع، فلما جاؤوا بهم وضعتهم قدام الملك وقبلت الأرض وقالت: يا ملك الزمان أن هؤلاء أولادك وقد تمنيت عليك أن تعتقني من القتل إكراماً لهؤلاء الأطفال فأنك أن قتلتني يصير هؤلاء الأطفال من غير أم ولا يجدون من يحسن تربيتهم من النساء.
فعند ذلك بكى الملك وضم أولاده إلى صدره وقال: يا شهرزاد والله أني قد عفوت عنك من قبل مجيء هؤلاء الأولاد لكوني رأيتك عفيفة نقية وحرة نقية، بارك الله فيك وفي أبيك وأمك وأصلك وفرعك، وأشهد الله أني قد عفوت عنك من كل شيءٍ يضرك. فقبلت يديه وقدميه وفرحت فرحاً زائداً وقالت: أطال الله عمرك وزادك هيبة ووقاراً.
وشاع السرور في سرايا الملك حتى انتشر في المدينة وكانت ليلة لا تعد من الأعمار ولونها أبيض من وجه النهار، وأصبح الملك مسروراً وبالخير مغموراً فأرسل إلى جميع العسكر فحضروا وخلع على وزيره أبي شهرزاد خلعةً سنيةً جليلةً وقال له: سترك الله حيث زوجتني ابنتك الكريمة التي كانت سبباً لتوبتي عن قتل بنات الناس وقد رأيتها حرة نقية عفيفة ذكية ورزقني الله منها ثلاثة ذكور والحمد لله على هذه النعمة الجزيلة.
ثم خلع على كافة الوزراء والأمراء وأرباب الدولة الخلع السنية وأمر بزينة المدينة ثلاثين يوماً ولم يكلف أحداً من أهل المدينة شيئاً من ماله بل جعل جميع الكلفة والمصاريف من خزانة الملك فزينوا المدينة زينة عظيمة لم يسبق مثلها ودقت الطبول وزمرت الزمور ولعب سائر أرباب الملاعب وأجزل لهم الملك العطايا والمواهب وتصدق على الفقراء والمساكين وعم بإكرامه سائر رعيته وأهل مملكته وأقام هو ودولته في نعمة وسرور ولذة وحبور حتى أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان من لا يفنيه تداول الأوقات ولا يعتريه شيءٌ من التغيرات ولا يشغله حال عن حال وتفرد بصفات الكمال والصلاة والسلام على إمام حضرته وخيرته من خليقته سيدنا محمد سيد الأنام ونضرع به إليه في حسن الختام.


قام بإعداد وتنسيق هذا الكتاب



بتاريخ :
‏12/‏05/‏2013