ألف ليلة وليلة الجزء الثامن


ألف ليلة وليلة

الجزء الثامن





وفي الليلة العاشرة بعد السبعمائة


قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بدر باسم لما حكى للشيخ البقال بجميع حكايات الملكة لاب رآه أعلمه الشيخ أن الطيور التي على الشجر كلها شبان غرباء وسحرتهم وكذلك الطير الأسود كان من مماليكها وسحرته في صورة طائر اسود، وكلما اشتاقت إليه تسحر نفسها طيرة ليجامعها لأنها تحبه محبة عظيمة، ولما علمت أنك علمت بحالها أضمرت لك السوء ولا تصفو لك ولكن ما عليك بأس منها ما دمت أراعيك أنا فلا تخف فإني رجل مسلم واسمي عبد الله وما في زماني أسحر مني، ولكني لا أستعمل السحر إلا عند اضطراري إليه، وكثير ما أبطل سحر هذه الملعونة وأخلص الناس منها ولا أبالي بها لأنها ليس لها علي سبيل بل هي تخاف مني خوفاً شديداً، وكذلك كل من كان في المدينة ساحر مثلها على هذا الشكل يخافون مني وكلهم على دينها يعبدون النار دون الملك الجبار فإذا كان الغد تعال عندي واعلمني بما تعمله معك فإنها في هذه الليلة تسعى في هلاكك. وأنا أقول لك على ما تفعله معها حتى تتخلص من كيدها، ثم إن الملك بدر باسم ودع الشيخ ورجع إليها فوجدها جالسة في انتظاره فلما رأته قامت إليه وأجلسته ورحبت به وجاءت له بأكل وشرب فأكلا حتى اكتفيا ثم غسلا أيديهما ثم أمرت بإحضار الشراب فحضر وصارا يشربان إلى نصف الليل ثم مالت عليه بالأقداح وصارت تعاطيه حتى سكر وغاب عن حسه وعقله فلما رأته كذلك قالت له: بالله عليك وبحق معبودك إن سألتك عن شيء هل تخبرني عنه بالصدق وتجيبني إلى قولي? فقال لها: وهو في حالة السكر: نعم يا سيدتي. فقالت له: لما استيقظت من نومك ولم ترني وفتشت علي وجئتني في البستان ورأيت الطائر الأسود الذي وثب علي، فأنا أخبرك بحقيقة هذا الطائر إنه كان من مماليكي وكنت أحبه محبة عظيمة فتطلع يوماً لجارية من الجواري، فحصلت لي غيرة وسحرته في صورة طائر أسود وأما الجارية فإني قتلتها، وإني إلى اليوم لا أصبر عنه ساعة واحدة وكلما اشتقت إليه أسحر نفسي طيره وأروح إليه لينط علي ويتمكن مني كما رأيت أما أنت لأجل هذا مغتاظ مني مع أني وحق النار والنور والظل والحرور قد زدت فيك محبة وجعلتك نصيبي من الدنيا، فقال وهو سكران: إن الذي فهمته من غيظي بسبب ذلك صحيح، وليس لغيظي سبب غير ذلك فضمته وقبلته وأظهرت له المحبة ونامت ونام الآخر بجانبها فلما كان نصف الليل قامت من الفراش والملك بدر باسم منتبه، وهو يظهر أنه نائم وصار يسارق النظر وينظر ما تفعل، فوجدها قد أخرجت من كيس أحمر شيئاً أحمر وغرسته في وسط القصر فإذا هو صار نهارً يجري مثل البحر، وأخذت كبشة شعير بيدها وأبذرتها فوق التراب، وسقته من هذا الماء فصار زرعاً مسنبلاً فأخذته وطحنته دقيقاً ثم وضعته في موضع ورجعت نامت عند الملك بدر باسم إلى الصباح.
فلما أصبح الصباح قام الملك بدر باسم وغسل وجهه ثم استأذن من الملكة في الرواح إلى الشيخ فأذنت له، فذهب إلى الشيخ وأعلمه بما جرى منها وما عاين فلما سمع الشيخ كلامه ضحك، وقال: والله إن هذه الكافرة الساحرة قد مكرت بك ولكن لا تبال بها أبداً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية عشرة بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ قال لبدر باسم: إن الساحرة قد مكرت بك ولكن لا تبال بها أبداً، ثم أخرج له قدر رطل سويقاً وقال له: خذ هذا معك، واعلم أنها إذا رأته تقول لك: ما هذا وما تعمل به? فقل لها: زيادة الخير خيرين وكل منه فإذا أخرجت هي سويقها وقالت لك: كل من هذا السيوق فأرها أنك تأكل منه، وكل من هذا وإياك أن تأكل من سويقها شيئاً ولو حبة واحدة فإن أكلت منه ولو حبة واحدة فإن سحرها يتمكن منك فتسحرك وتقول لك اخرج من هذه الصورة البشرية فتخرج من صورتك إلى أي صورة أرادت وإذا لم تأكل منه، فإن سحرها يبطل ولا يضرك منه شيء فتخجل غاية الخجل، وتقول لك: إنما أنا أمزح معك وتقر لك بالمحبة والمودة وكل ذلك نفاق ومكر منها فأظهر لها أنت المحبة وقل لها: يا سيدتي ويا نور عيني كلي من هذا السويق وانظري لذته، فإذا أكلت منه ولو حبة واحدة فخذ في كفك ماء واضرب به وجهها وقل لها اخرجي من هذه الصورة البشرية إلى أي صورة أردت، ثم خليها وتعال حتى أدبر لك أمراً، ثم ودعه الملك بدر باسم وسار إلى أن طلع القصر ودخل عليها. فلما رأته قالت: أهلاً وسهلاً ومرحباً ثم قامت له وقبلته وقالت له: أبطأت علي يا سيدي فقال لها: كنت عند عمي، ورأى عندها سويقاً فقال لها وقد أطعمني عمي من هذا السويق فقالت: عندنا سويقاً أحسن منه، ثم إنها حطت سويقه في صحن وسويقها في صحن آخر وقالت له: كل من هذا فإنه أطيب من سويقك فأظهر لها أنه يأكل منه فلما علمت أنه أكل منه، أخذت في يدها ماء ورشته به وقالت له: اخرج من هذه الصورة يا علق يا لئيم وكن في صورة بغل أعور قبيح المنظر فلم يتغير، فلما رأته على حاله لم يتغير قامت له وقبلته بين عينيه، وقالت له: يا محبوبي إنما كنت أمزح معك فلا تتغير علي بسبب ذلك فقال لها: يا سيدتي ما تغيرت عليك أصلاً بل أعتقد أنك تحبينني فكلي من سويقي هذا فأخذت منه لقمة وأكلتها، فلما استقرت في بطنها اضطربت فأخذ الملك بدر باسم في كفه ماء ورشها به في وجهها، وقال لها: اخرجي من هذه الصورة البشرية إلى صورة بغلة زرزورية، فما نظرت نفسها إلا وهي في تلك الحالة فصارت دموعها تنحدر على خديها وصارت تمرغ خديها على رجليه فقام يلجمها فلم تقبل اللجام فتركها وذهب إلى الشيخ وأعلمه بما جرى فقام الشيخ وأخرج له لجاماً وقال: خذ هذا اللجام وألجمها به فأخذه وأتى عندها. فلما رأته تقدمت إليه وحط اللجام في فمها، وركبها وخرج من القصر وتوجه إلى الشيخ عبد الله فلما رآها قام لها وقال لها: أخزاك الله تعالى يا ملعونة ثم قال له الشيخ: يا ولدي ما بقي لك في هذه البلاد إقامة، فاركبها وسر بها إلى أي مكان شئت وإياك أن تسلم اللجام إلى أحد، فشكره الملك بدر باسم وودعه وسار ولم يزل سائراً ثلاثة أيام ثم أشرف على مدينة فلقيه شيخ مليح الشيبة فقال له: يا ولدي من أين أقبلت? قال: من مدينة هذه الساحرة، قال: أنت ضيفي في هذه الليلة، فأجابه، وسار معه في الطريق وإذا بامرأة عجوز فما نظرت البغلة حتى بكت وقالت: لا إله إلا الله إن هذه البغلة تشبه بغلة ابني التي ماتت وقلبي مشوش عليها فبالله عليك يا سيدي أن تبيعني إياها فقال لها: والله يا أمي ما أقدر أن أبيعها قالت له: بالله عليك لا ترد سؤالي، فإن ولدي إن لم أشتر هذه البغلة ميت لا محالة، ثم إنها أغلظت عليه في السؤال فقال: ما أبيعها إلا بألف دينار فعند ذلك أخرجت من حزامها ألف دينار، فلما نظر الملك بدر باسم إلى ذلك قال لها: يا أمي أنا أمزح معك وما أقدر أن أبيعها، فنظر إليه الشيخ وقال له: يا ولدي إن هذه البلاد ما يكذب فيها أحد وكل من يكذب في هذه البلاد قتلوه فنزل الملك بدر باسم من فوق البغلة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية عشرة بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك بدر باسم لما نزل من فوق البغلة وسلمها إلى المرأة العجوز، أخرجت اللجام من فمها وأخذت في يدها ماء ورشتها وقالت: يا بنتي اخرجي من هذه الصورة إلى الصورة التي كنت عليها فانقلبت في الحال وعادت إلى صورتها الأولى، وأقبلت كل واحدة منهما على الأخرى، وتعانقتا فعلم الملك بدر باسم إن هذه العجوز أمها وقد تمت الحيلة عليه فأراد أن يهرب وإذا بالعجوز صفرت فتمثل بين يديها عفريت كأنه الجبل العظيم، فخاف الملك بدر باسم ووقف فركتب العجوز على ظهره وأردفت بنتها خلفها وأخذت الملك بدر باسم قدامها، وطار بهم العفريت فما مضى عليهم غير ساعة حتى وصلوا إلى قصر الملكة لاب، فلما جلست على كرسي المملكة التفتت إلى الملك بدر باسم وقالت له: يا علق قد وصلت إلى هذا المكان ونلت ما تمنيت، وسوف أريك ما أعمل بك وبهذا الشيخ البقال فكم أحسنت له وهو يسوءني وأنت ما وصلت إلى مرادك إلا بواسطته ثم أخذت ماء ورشته به وقالت له: اخرج عن هذه الصورة التي أنت فيها إلى صورة طائر قبيح المنظر اقبح ما يكون من الطيور، فانقلب في الحال وصار طيراً قبيح المنظر فجعلته في قفص وقطعت عنه الأكل والشرب فنظرت إليه جارية فرحمته وصارت تطعمه وتسقيه بغير علم الملكة ثم إن الجارية وجدت سيدتها غافلة في يوم من الأيام فخرجت وتوجهت إلى الشيخ البقال وأعلمته بالحديث وقالت له: إن الملكة لاب عازمة على إهلاك ابن أخيك فشكرها الشيخ وقال لها: لابد أن آخذ المدينة منها وأجعلك ملكة عوضاً عنها. ثم صفر صفرة عظيمة فخرج عفريت له أربعة أجنحة فقال له: خذ هذه الجارية وامضر بها إلى مدينة جلنار البحرية، وأمهما فراشة فإنهما أسحر من يوجد على وجه الأرض، وقال للجارية: إذا وصلت إلى هناك فأخبريهما بأن الملك بدر باسم في أسر الملكة لاب فحملها العفريت وطار بها، فلم يكن إلا ساعة حتى نزل بها العفريت على قصر الملكة جلنار البحرية، فنزلت الجارية من فوق سطح القصر وقبلت الأرض بين يديها وأعلمتها بما جرى لولدها من أوله إلى آخره فقامت إليها جلنار وأكرمتها وشكرتها، ودقت البشائر في المدينة وأعلمت أهلها وأكابر دولتها بأن الملك بدر باسم قد وجد، ثم إن جلنار البحرية وأمها فراشة وأهاها صالحاً أحضروا جميع قبائل الجان وجنود البحر لأن ملوك الجان قد أطاعوهم بعد أسر الملك السمندل ثم إنهم طاروا في الهواء ونزلوا على مدينة الساحرة ونهبوا القصر وقتلوا من فيه، ونهبوا المدينة وقتلوا جميع ما كان فيها من الكفرة في طرفة عين، وقالت للجارية: أين ابني? فأخذت الجارية القفص وأتت به بين يديها وأشارت إلى الطائر الذي هو فيه وقالت: هذا هو ولدك فأخرجته الملكة جلنار من القفص، ثم أخذت بيدها ماء ورشته به وقالت له: اخرج من هذه الصورة التي كنت عليها فلم تتم كلامها حتى انتفض وصار بشراً كما كان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة عشرة بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بدر باسم لما رشت أمه عليه الماء صار بشراً كما كان، فلما رأته على صورته الأصلية قامت إليه واعتنقته فبكى بكاء شديداً، وكذلك خاله صالح وجدته فراشة وبنات عمه وصاروا يقبلون يديه ورجليه ثم إن جلنار أرسلت خلف الشيخ عبد الله وشكرته على فعله الجميل مع ابنها وزوجته بالجارية التي أرسلها إليها بأخبار ولدها ودخل بها ثم جعلته ملك تلك المدينة، وأحضرت ما بقي من أهل المدينة من المسلمين وبايعتهم للشيخ عبد الله وعاهدتهم وحلفتهم أن يكونوا في طاعته وخدمته فقالوا سمعاً وطاعة ثم إنهم وعدوا الشيخ عبد الله وساروا إلى مدينتهم فلما دخلوا قصرهم تلقهاهم أهل مدينتهم بالبشائر والفرح وزينوا المدينة ثلاثة أيام لشدة فرحهم بملكهم بدر باسم وفرحوا فرحاً شديداً ثم بعد ذلك قال الملك بدر باسم لأمه: يا أمي ما بقي إلا أن أتزوج ويجتمع شملنا ببعضنا أجمعين، ثم أرسلت في الحال من يأتيها بالملك السمندل فأحضروه بين يديها ثم أرسلت إلى بدر باسم فلما جاء بدر باسم أعلمته بمجيء السمندل فدخل عليه فلما رآه الملك السمندل مقبلاً قام له وسلم عليه ورحب به، ثم إن الملك بدر باسم خطب منه ابنته جوهرة فقال له: هي في خدمتك وجاريتك وبين يديك فعند ذلك أحضروا القضاة والشهود وكتبوا كتاب الملك بدر باسم ابن الملكة جلنار البحرية على الملكة جوهرة بنت الملك السمندل وأهل المدينة زينوها وأطلقوا البشائر وأطلقوا كل من في الحبوس، وكسى الملك الأرامل والأيتام وخلع على أرباب الدولة والأمراء والأكابر، ثم أقاموا الفرح العظيم وعملوا الولائم وأقاموا في الأفراح مساء وصباحاً مدة عشرة أيام وأدخلوها على الملك بدر باسم بتسع خلع ثم خلع الملك بدر باسم على الملك السمندل ورده إلى بلاده وأهله وأقاربه ولم يزالوا في ألذ عيش وأهنأ أيام يأكلون ويشربون وتنعمون إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وهذا آخر حكايتهم رحمة الله عليهم أجميعن.

حكاية سيف الملوك وبديعة الجمال

ومما يحكى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك من ملوك العجم اسمه محمد بن سبائك وكان يحكم بلاد خراسان وكان في كل عام يغزو بلاد الكفارفي الهند والسند والصين والبلاد التي وراء النهر وغير ذلك من العجم وغيرها وكان ملكاً عادلاً شجاعاً كريماً جواداً، وكان ذلك الملك يحب المنادمات والروايات والأشعار والأخبار والحكايات وأسمار وسير المتقدمين وكان كل من يحفظ حكاية غريبة ويحكيها له ينعم عليه، وقيل: إنه إذا أتاه رجل غريب بسمر غريب وتكلم بين يديه واستحسنه وأعجبه كلامه يخلع عليه خلعة سنية ويعطيه ألف دينار ويركبه فرساً مسرجاً ملجماً، ويكسوه من فوق إلى أسفل ويعطيه عطايا عظيمة فيأخذها الرجل وينصرف إلى حال سبيله، فاتفق أنه أتاه رجل كبير بسمر غريب فتحدث بين يديه فاستحسنه وأعجبه كلامه، فأمر له بجائزة سنية ومن جملتها ألف دينار خراسانية وفرس بعدة كاملة ثم بعد ذلك شاعت الأخبار عن هذا الملك العظيم في جميع البلدان فسمع به رجل يقال له التاجر حسن وكان كريماً جواداً عالماً شاعراً فاضلاً وكان عند ذلك الملك وزيراً حسوداً محضره سيء لا يحب الناس جميعاً لا غنياً ولا فقيراً، وكان كلما ورد على ذلك الملك أحداً أعطاه شيئاً يحسده ويقول إن هذا الأمر يفني المال ويخرب الديار، وإن الملك دأبه هذا الأمر ولم يكن ذلك الكلام إلا حسداً وبغضاً من ذلك الوزير، ثم إن الملك سمع بخبر التاجر فأرسل إليه وأحضره.
فلما حضر بين يديه قال له: يا تاجر حسن إن الوزير خالفني وعاد أبي من أجل المال الذي أعطيه للشعراء والندماء وأرباب الحكايات والأشعار وإني إريد منك أن تحكي لي حكاية مليحة وحديثاً غريباً بحيث لم أكن سمعت مثله قط فإن أعجبني حديثك أعطيتك بلاداً كبيرة بقلاعها وأجعلها زيادة على إقطاعك وأجعل مملكتي كلها بين يديك وأجعلك كبير وزرائي تجلس على يميني وتحكم في رعيتي، وإن لم تأتني بما قلت لك أخذت جميع ما في يدك وطردتك من بلادي فقال التاجر حسن سمعاً وطاعة لمولانا الملك لكن يطلب منك المملوك أن تصبر عليه سنة ثم أحدثك بحديث ما سمعت مثله في عمرك ولا سمع غيرك بمثله ولا بأحسن منه قط فقال الملك: قد أعطيتك مهلة سنة كاملة ثم دعا بخلعة سنية فألبسه إياها قال له: الزم بيتك ولا تركب ولا تروح ولا تجيء مدة سنة كاملة حتى تحضر بما طلبته منك، فإن جئت بذلك فلك الإنعام الخاص وأبشر بما وعدتك به وإن لم تجئ بذلك فلا أنت منا ولا نحن منك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة عشرة بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك محمد بن سبائك قال للتاجر حسن: إن جئتني بما طلبته منك فلك الإنعام الخاص وأبشر بما وعدتك به وإن لم تجيئني بذلك فلا أنت منا ولا نحن منك فقبل التاجر حسن الأرض بين يديه وخرج ثم اختار من مماليكه خمسة أشخاص كلهم يكتبون ويقرأون وهم فضلاء عقلاء أدباء من خواص مماليكه، وأعطى كل واحد خمسة آلاف دينار وقال لهم: أنا ما ربيتكم إلا لمثل هذا اليوم فأعينوني على قضاء غرض الملك وأنقذوني من يده فقالوا له: وما الذي تريد أن نفعل فأرواحنا فداؤك، قال لهم: أريد أن يسافر كل واحد منكم إلى إقليم وأن تستقصوا على العلماء والأدباء والفضلاء وأصحاب الحكايات الغريبة والأخبار العجيبة وابحثوا لي عن قصة سيف الملوك وائتوني بها وإذا لقيتموها عند أحد فرغبوه في ثمنها، ومهما طلب من الذهب والفضة فأعطوه غياه ولو طلب منكم ألف دينار فأعطوه المتيسر وعدوه بالباقي وائتوني بها. ومن وقع منكم بهذه القصة وأتاني بها فإني أعطيه الخلع السنية والنعم الوفية ولا يكون عندي أعز منه، ثم إن التاجر حسناً قال لواحد منهم: رح أنت إلى بلاد السند والهند وأعمالها واقاليمها، وقال للآخر: رح أنت إلى بلاد العجم والصين وأقاليمهما، وقال للآخر: رح أنت إلى بلاد الغرب واقطارها وأقاليمها وأعمالها وجميع أطرافها، وقال للآخر وهو الخامس: رح أنت إلى بلاد الشام ومصر وأعمالها وأقاليمها. ثم إن التاجر اختار لهم يوماً سعيداً وقال لهم: سافروا في هذا اليوم، واجتهدوا في تحصيل حاجتي ولا تتهاونوا ولو كان فيها بذل الأرواح فودعوه وساروا وكل واحد منهم ذهب إلى الجهة التي أمره بها فمنهم أربعة أنفس غابوا أربعة أشهر، وفشلوا فلم يجدوا شيئاً فضاق صدر التاجر حسن لما رجع إليه الأربعة مماليك وأخبروه أنهم فتشوا المدائن والبلاد والأقاليم على مطلوب سيدهم فلم يجدوا شيئاً منه وأما المملوك الخامس فإنه سافر إلى أن دخل بلاد الشام ووصل إلى مدينة دمشق فوجدها مدينة طيبة أمينة ذات أشجار وأنهار وأثمار وأطيار تسبح الله الواحد القهار الذي خلق الليل والنهار فأقام فيها أياماً وهو يسأل عن حاجة سيده فلم يجبه أحد، ثم إنه أراد أن يرحل منها ويسافر إلى غيرها، وإذا هو بشاب يجري ويتعثر في أذياله. فقال له المملوك: ما بالك تجري وأنت مكروب وإلى أين تقصد? فقال له: هنا شيخ فاضل كل يوم يجلس على كرسي في مثل هذا الوقت ويحدث حكايات وأخباراً واسماراً ملاحاً لم يسمع أحد مثلها وأنا أجري حتى أجد لي موضعاً قريباً منه وأخاف أني لا احصل لي موضعاً من كثرة الخلق، فقال له المملوك: خذني معك، فقال له الفتى: أسرع في مشيتك فغلق بابه واسرع في السير معه حتى وصل إلى الموضع الذي فيه الشيخ بين الناس، فرأى لذلك الشيخ صبيح الوجه وهو جالس على كرسي يحدث الناس فجلس قريباً منه وأصغى ليسمع حديثه فلما جاء وقت غروب الشمس فرغ الشيخ من الحديث وسمع الناس ما تحدث به وانفضوا من حوله فعند ذلك تقدم إليه المملوك وسلم عليه فرد عليه السلام وزاد في التحية والإكرام.
فقال له المملوك: إنك يا سيدي الشيخ رجل مليح محتشم وحديثك مليح وأريد أن أسألك عن شيء فقال له: اسأل عما تريد? فقال له المملوك: هل عندك قصة سمر سيف الملوك وبديعة الجمال? فقال له الشيخ ومن سمعت هذا الكلام ومن الذي أخبرك بذلك? فقال المملوك: أنا ما سمعت ذلك من أحد ولكن أنا من بلاد بعيدة وجئت قاصداً لهذه القصة، فمهما طلبت من ثمنها أعطيتك إن كانت عندك وتنعم وتتصدق علي بها وتجعلها من مكارم أخلاقك صدقة عن نفسك ولو أن روحي في يدي وبذلتها لك فيها لطاب خاطري بذلك، فقال له الشيخ: طب نفساً وقر عيناً وهي تحضر لك ولكن هذا سمر لا يتحدث به أحد على قارعة الطريق ولا أعطي هذه القصة لكل واحد، فقال له المملوك: بالله يا سيدي لا تبخل علي بها واطلب مني مهما أردت، فقال له الشيخ: إن كنت تريد هذه القصة، فأعطني مائة دينار وأنا أعطيك إياها ولكن بخمس شروط، فلما عرف أنها عند الشيخ وأنه سمح له بها فرح فرحاً شديداً وقال له: أعطيك مائة دينار ثمنها وعشرة جعالة وآخذها بالشروط التي تذكرها.
فقال له الشيخ: رح هات الذهب وخذ حاجتك فقام المملوك وقبل يدي الشيخ وراح إلى منزله فرحاً مسروراً، وأخذ في يده مائة دينار وعشرة ووضعها في كيس كان معه، فلما أصبح الصباح قام ولبس ثيابه وأخذ الدنانير وأتى بها إلى الشيخ فرآه جالساً على باب داره فسلم عليه فرد عليه السلام فأعطاه المائة دينار وعشرة، فأخذها منه الشيخ وقام ودخل داره وأدخل المملوك وأجلسه في مكان وقدم له دواة وقلماً وقرطاساً وقدم له كتاباً وقال له: اكتب الذي أنت طالبه من هذا الكتاب من قصة سمر سيف الملوك فجلس المملوك يكتب هذه القصة إلى أن فرغ من كتابتها ثم قرأها على الشيخ وصححها وبعد ذلك قال له: اعلم يا ولدي أن أول شرط أنك لا تقول هذه القصة على قارعة الطريق ولا عند النساء والجواري ولا عند العبيد والسفهاء ولا عند الصبيان وإنما تقرؤها عند الأمراء والملوك والوزراء وأهل المعرفة من المفسرين وغيرهم فقبل المملوك الشروط وقبل يد الشيخ وودعه وخرج من عنده.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة عشرة بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مملوك حسن لما نقل القصة من كتاب الشيخ الذي بالشام وأخبره بالشروط وودعه وخرج من عنده وسافر في يومه فرحاً مسروراً ولم يزل مجداً في السير من كثرة الفرح الذي حصل له بسبب تحصيله لقصة سمر سيف الملوك حتى وصل إلى بلاده ثم إن التاجر أخذ القصة وكتبها بخطه مفسرة وطلع إلى الملك، وقال له: أيها الملك السيعد إني جئت بسمر وحكايات مليحة نادرة لم يسمع مثلها أحد قط.
فلما سمع الملك كلام التاجر حسن أمر في وقته وساعته بأن يحضر كل أمير عاقل وكل عالم فاضل وكل فطن وأديب وشاعر ولبيب، وجلس التاجر حسن وقرأ هذه السيرة عند الملك، فلما سمعها الملك وكل من كان حاضراً تعجبوا جميعاً واستحسنوها، وكذلك استحسنها الذين كانوا حاضرين ونثروا عليه الذهب والفضة والجواهر، ثم أمر الملك للتاجر حسن بخلعة سنية من أفخر ملبوسه وأعطاه مدينة كبيرة بقلاعها وضياعها وجعله من أكابر وزرائه وأجلسه على يمينه ثم أمر الكتاب أن يكتبوا هذه القصة ويجعلوها في خزانته الخاصة وصار المللك كلما ضاق صدره يحضر التاجر حسن فيقرأها.
ومضمون هذه القصة أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان في مصر ملك يسمى عاصم بن صفوان وكان ملكاً سخياً جواداً صاحب هيبة ووقار وكانت له بلاد كثيرة وقلاع وحصون وجيوش وعساكر وكان له وزير يسمى فارس ابن صالح وكانوا جميعاً يعبدون الشمس والنار دون الملك الجبار الجليل القهار ثم إن هذا الملك صار شيخاً كبيراً قد أضعفه الكبر والسقم والهرم لأنه عاش مائة وثمانين سنة ولم يكن له ولد ذكر ولا أنثى وكان بسبب ذلك في هم وغم ليلاً نهاراً.
فاتفق أنه كان جالساً يوماً من الأيام على سرير ملكه والأمراء والوزراء والمقدمون وارباب الدولة في خدمته على جري عادتهم وعلى قدر منازلهم وكل من دخل عليه من الأمراء ومعه ولد وولدان يحسده الملك ويقول في نفسه: كل واحد مسرور فرحان بأولاده وأنا ما لي ولد وفي غد أموت وأترك ملكي وتختي وضياعي وخزائني وأموالي وتأخذها الغرباء وما يذكرني أحد قط ولا يبقى لي ذكر في الدنيا إن الملك عاصماً استغرق في بحر الفكر فلم يتكلم ولم يفتح فاه ولم يرفع رأسه وما زال يبكي ويصوت بصوت عال وينوح نوحاً زائداً ويتأوه والوزير صابر له ثم بعد ذلك قال الوزير: إن لم تقل لي ما سبب ذلك، وإلا قتلت نفسي بين يديك من ساعتي وأنت تنظر ولا أراك مهموماً، ثم إن الملك عاصماً رفع رأسه ومسح دموعه وقال: أيها الوزير الناصح خلني بهمي وغمي فالذي في قلبي من الأحزان يكفيني، فقال له الوزير: قل لي أيها الملك ما سبب هذا البكاء لعل الله يجعل لك الفرج على يدي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة عشرة بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما قال للملك عاصم: قل لي ما سبب هذا البكاء لعل الله يجعل لك الفرج على يدي، قال له الملك: يا وزير إن بكائي ما هو على مال ولا على خيل ولا على شي، ولكن أنا بقيت رجلاً كبيراً وصار عمري نحو مائة وثمانين سنة ولا رزقت ولداً ذكراً ولا أنثى فإذا مت يدفنوني ثم ينمحي رسمي وينقطع اسمي يأخذ الغرباء تختي وملكي ولا يذكرني أحد أبداً.
فقال الوزير: يا ملك الزمان أنا أكبر منك بمائة سنة ولا رزقت بولد قط ولم أزل ليلاً ونهاراً في هم وغم وكيف نفعل أنا وأنت، ولكن سمعت بخبر سليمان بن داود عليه السلام وأن له رباً عظيماً قادراً على كل شيء فينبغي أن أتوجه إليه بهدية وأقصده في أن يسأل ربه لعله يرزق كل واحد منا بولد، ثم إن الوزير تجهز للسفر وأخذ هدية فاخرة وتوجه بها إلى سليمان بن داود عليه السلام. هذا ما كان من أمر الوزير.
وأما ما كان من أمر سليمان بن داود عليه السلام فإن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه وقال: يا سليمان إن ملك مصر أرسل إليك وزيره الكبير بالهدايا والتحف وهي كذا وكذا فأرسل إليه وزيرك آصف بن برخيا لاستقباله بالإكرام والزاد في موضع الإقامات، فإذا حضر بين يديك فقل له: إن الملك أرسلك تطلب كذا وكذا، وإن حاجتك كذا وكذا ثم اعرض عليه الإيمان فحينئذ أمر سليمان وزيره آصف أن يأخذ معه جماعة من حاشيته للقائهم بالإكرام والزاد الفاخر في موضع الإقامات، فخرج آصف بعد أن جهز جميع اللوازم إلى لقياهم وسار حتى وصل إلى فارس وزير ملك مصر فاستقبله وسلم عليه وأكرمه هو ومن معه إكراماً زائداً وصار يقدم إليهم الزاد والعلوفات في موضع الإقامات وقال لهم: أهلاً وسهلاً ومرحباً بالضيوف القادمين فأبشروا بقضاء حاجتكم وطيبوا نفساً وقروا عيناً وانشرحوا صدوراص، فقال الوزير في نفسه: من أخبرهم بذلك? ثم إنه قال لآصف: إن سليمان بن داود عليه السلام هو الذي أخبرنا بهذا فقال الوزير فارس: ومن أخبر سيدنا سليمان? قال: أخبره رب السموات والأرض وإله الخلق أجمعين. فقال له الوزير فارس: ما هذا إلا إله عظيم فقال له آصف بن برخيا: وهل أنتم لا تعبدونه? فقالفارس وزير ملك مصر: نحن نعبد الشمس ونسجد لها، فقال له آصف: يا وزير فارس إن الشمس كوكب من جملة الكواكب المخلوقة لله سبحانه وتعالى وحاشى أن تكون رباً لأن الشمس تظهر أحياناً وتغيب أحياناً وربنا حاضر لا يغيب وهو على كل شيء قدير، ثم إنهم سافروا قليلاً حتى وصلوا إلى قرب تخت الملك سليمان بن داود عليه السلام فأمر سليمان بن داود عليه السلام جنوده من الإنس والجن وغيرهما أن يصطفوا في طريقهم صفوفاً، فوقفت وحوش البحر والفيلة والنمور والفهود جميعاً واصطفوا في الطريق صفين وكل جنس انحازت أنواعه وحدها وكذلك الجان كل منهم ظهر للعيون من غير خفاء على صورة هائلة مختلفة الأحوال، فوقفوا جميعاً صفين والطيور نشرت أجنحتها لتظلهم وصارت الطيور تناغي بعضها بسائر اللغات والألحان فلما وصل أهل مصر إليهم هابوا ولم يجسروا على المشي فقال لهم آصف: ادخلوا بينهم وامشوا ولا تخافوا منهم فإنهم رعايا سليمان ابن داود وما يضركم منهم أحد ثم إن آصف دخل بينهم فدخل وراءه الخلق أجمعون ومن جملتهم جماعة وزير ملك مصر وهم خائفون ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى المدينة فأنزلوهم في دار الضيافة وأكرموهم غاية الإكرام وأحضروا لهم الضيافات الفاخرة مدة ثلاثة أيام، ثم أحضروهم بين يدي سليمان بن داود نبي الله عليه السلام.
فلما دخلوا عليه أرادوا أن يقبلوا الأرض بين يديه فمنعهم من ذلك سليمان بن داود، وقال لا ينبغي أن يسجد إنسان على الأرض إلا لله عز وجل خالق السماوات والأرض وغيرهما ومن أراد منكم أن يقف فليقف، ولكن لا يقف أحد منكم في خدمتي فامتثلوا وجلس الوزير وبعض خدامه ووقف في خدمته بعض الأصاغر فلما استقر بهم الجلوس مدوا لهم الأسمطة فأكل العالم أجمعون من الطعام حتى اكتفوا، ثم إن سليمان أمر وزير مصر أن حاجته ستقضى وقال له: تكلم ولا تخف شيئاً مما جئت بسببه لأنك ما جئت إلا لقضاء حاجة وأنا أخبرك بها وهي كذا وكذا، وإن ملك مصر الذي أرسلك اسمه عاصم وقد صار شيخاً كبيراً هرماً ضعيفاً، ولم يرزقه الله تعالى بولد ذكر ولا أنثى فصار في الغم والهم والفكر ليلاً ونهاراً، حتى اتفق له أنه جلس على كرسي مملكته يوماً من الأيام ودخل عليه الوزراء وأكابر دولته، فرأى بعضهم له ولدان وبعضهم له ثلاثة أولاد، وهم يدخلون ومعهم أولادهم ويقفون في الخدمة فتذكر في نفسه، وقال من فرط حزنه: يا ترى من يأخذ مملكتي بعد موتي وهل يأخذها إلا رجل غريب? وأصير أنا كأني لم أكن فغرق في بحر الفكر بسبب هذا، ولم يزل متفكراً حزيناً حتى فاضت عيناه بالدموع فغطى وجهه بالمنديل وبكى بكاء شديداً ثم قام من فوق سريره وجلس على الأرض يبكي وينتحب ولو يعلم ما في قلبه إلا الله تعالى وهو جالس على الأرض.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة عشرة بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نبي الله سليمان بن داود عليه السلام لما أخبر الوزير فارساً بما حصل للملك من الحزن والبكاء، وما حصل بينه وبين وزيره فارس من أوله إلى آخره، قال بعد ذلك الوزير فارس: هل هذا الذي قلته لك يا وزير صحيح? فقال الوزير فارس: يا نبي الله إن الذي قلته حق وصدق ولكن يا نبي الله ما كنت أتحدث أنا والملك في هذه القضية ولم يكن عندنا أحد قط ولم يشعر بخبرنا أحد من الناس فمن أخبرك بهذه الأمور كلها? قال له: أخبرني ربي الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فحينئذ قال الوزير فارس: يا نبي الله ما هذا إلا رب كريم عظيم على كل شيء قدير ثم أسلم الوزير فارس هو ومن كان معه، فقال نبي الله سليمان للوزير: إن معك كذا وكذا من التحف والهدايا، قال الوزير: نعم فقال له سليمان: قد قبلت منك الجميع ولكني وهبتها لك فاسترح أنت ومن معك في المكان الذي نزلتم فيه حتى يزول عنكم تعب السفر، وفي غد إن شاء الله تقضي حاجتك على أتم ما يكون بمشيئة الله تعالى رب السماء والأرض وخالق الخلق أجمعين، ثم إن الوزير فارساً ذهب إلى موضعه وتوجه إلى السيد سليمان ثاني يوم، فقال له نبي الله سليمان: إذا وصلت إلى الملك عاصم بن صفوان واجتمعت أنت وإياه فاطلعنا فوق الشجرة الفلانية واقعدا ساكتين فإذا كان بين الصلاتين وقد برد حر القائلة فانزلا إلى أسفل الشجرة وانظرا هناك تجدا ثعبانين يخرجان، رأس أحدهما كراس القرود ورأس الآخر كرأس العفريت فإذا رأيتماهما فارمياهما بالنشاب واقتلاهما، ثم ارميا من جهة رؤوسهما قدر شبر واحد من جهة أذيالهما كذلك فتبقى لحومهما، فاطبخاهما وأتقنا طبخهما وأطعماهما زوجتيكما وناما معهما تلك الليلة فإنهما يحملان بإذن الله تعالى بأولاد ذكور.
ثم إن سليمان عليه السلام أحضر خاتماً وسيفاً وبقجة فيها قباآن مكللان بالجواهر وقال: ياوزير فارس: إذا كبر ولداكما وبلغا مبلغ الرجال فأعطوا كل واحد منهما قباء من هذين القباءين، ثم قال للوزير فارس: باسم الله تعالى قضيت حاجتك وما بقي لك إلا أن تسافر على بركة الله تعالى، فإن الملك تقدم لنبي الله سليمان بن داود عليه السلام وودعه وخرج من عنده بعد أن قبل يديه وسافر بقية يومه وهو فرحان بقضاء حاجته وجدفي السير ليلاً ونهاراً، ولم يزل مسافراً حتى وصل إلى قرب مصر فارسل بعض خدامه ليعلم الملك عاصماً بذلك.
فلما سمع الملك عاصم بقدومه وقضاء حاجته فرح فرحاً شديداً، هو وخواصه وأرباب مملكته وجميع جنوده وخصوصاً بسلامة الوزير فارس فلما تلاقى الملك والوزير ترجل الوزير وقبل الأرض بين يديه، وبشر الملك بقضاء حاجته أتم الوجوه وعرض عليه الإيمان بالإسلام، فأسلم الملك عاصم وقال للوزيرفارس رح بيتك واسترح أيضاً جمعة من الزمان داخل الحمام، وبعد ذلك تعال عندي حتى أخبرك بشيء نتدبر فيه، فقبل الأرض وانصرف هو وحاشيته وغلمانه وخدمه إلى داره واستراح ثمانية أيام. ثم بعد ذلك توجه إلى الملك وحدثه بجميع ما كان بينه وبين سليمان بن داود عليه السلام ثم إنه قال للملك: قم وحدك وتعال معي فقام هو والوزير وأخذا قوسين ونشابين وطلعا فوق الشجرة وقعدا ساكتين إلى أن مضى وقت القائلة ولم يزالا إلى قرب العصر ثم نزلا ونظرا فرأيا ثعبانين خرجا من أسفل تلك الشجرة فنظرهما الملك وأحبهما لأنهما أعجباه حين رأهما بالأطواق الذهب وقال: يا وزير إن هذين الثعبانين مطوقان بالذهب، والله إن هذا شيء عجيب خلنا نمسكهما ونجعلهما، قفص ونتفرج عليهما، فقال الوزير: هذان خلقهما الله لمنفعتهما فارم أنت واحد بنشابة وارم أنا واحد بنشابة، فرمى الاثنان عليهما النشاب فقتلاهما وقطعا من جهة رؤوسهما شبراً ومن جهة أذنابهما شبراً ورمياه ثم ذهبا بالباقي إلى بيت الملك وطلبا الطباخ وأعطياه ذلك اللحم، وقالا له: اطبخ هذا اللحم طبخاً مليحاً بالتقلية والأباريز واغرفه في زبدتين وهاتهما وتعال هنا في الوقت الفلاني والساعة الفلانية ولا تبطئ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة عشر بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك والوزير لما أعطيا الطباخ لحم الثعبانين وقالا له: اطبخه واغرفه في زبدتين وهاتهما هنا ولا تبطئ، فأخذ الطباخ اللحم وذهب به وطبخه وأتقن طبخه بتقلية عظيمة، ثم غرفه في زبدتين وأحضرهما بين يدي الملك والوزير فأخذ الملك زبدية والوزير زبدية وأطعماهما لزوجتيهما وباتا تلك الليلة معهما، فبإرادة الله سبحانه وتعالى وقدرته ومشيئته حملتا تلك الليلة، فمكث الملك بعد ذلك ثلاثة أشهر وهو متشوش الخاطر يقول في نفسه: يا ترى هذا الأمر صحيح ثم إن زوجته كانت جالسة يوماً من الأيام، فتحرك الولد في بطنها فعلمت أنها حامل فتوجعت وتغير لونها، وطلبت واحداً من الخدام الذين عندها وهو أكبرهم وقالت له: اذهب إلى الملك في أي موضع يكون وقل له: يا ملك الزمان أبشرك أن سيدتنا ظهر حملها والولد قد تحرك في بطنها فخرج الخادم سريعاً وهو فرحان فرأى الملك وحده ويده على خده وهو متفكر في ذلك، فأقبل عليه الخادم وقبل الأرض بين يديه وأخبره بحمل زوجته. فلما سمع الملك كلام الخادم نهض قائماً على قدميه ومن شدة فرحه قبل يد الخادم وراسه وخلع ما كان عليه وأعطاه إياه، وقال لمن كان حاضراً في مجلسه: من كان يحبني فلينعم عليه، فأعطوه من الأموال والجواهر واليواقيت والخيل والبغال والبساتين شيئاً لا يعد ولا يحصى. ثم إن الوزير دخل على الملك وقال: يا ملك الزمان أنا في هذه الساعة كنت قاعداً في البيت وحدي وأنا مشغول الخاطر متفكراً في شأن الحمل وأقول في نفسي: يا ترى هل هو حق أن خاتون تحبل أم لا? وإذا بالخادم دخل علي وبشرني بأن زوجتي خاتون حامل وأن الولد قد تحرك في بطنها وتغير لونها فمن فرحتي خلعت جميع ما كان علي من القماش وأعطيت الخادم إياه وأعطيته ألف دينار وجعلته كبير الخدام ثم إن الملك عاصماً قال: يا وزير إن الله تبارك وتعالى أنعم علينا بفضله وإحسانه وجوده وامتنانه بالدين القويم وأكرمنا بكرمه وفضله. وقد أخرجنا من الظلمات إلى النور وأريد أن أخرج على الناس وأفرحهم، فقال الوزير: افعل ما تريد، فقال: يا وزير انزل في هذا الوقت واخرج كل من كان في الحبس من أصحاب الجرائم ومن عليهم ديون وكل من وقع منه ذنب، بعد ذلك تجازيه بما يستحقه ونرفع عن الناس الخراج ثلاث سنوات، وانصب في دائرة هذه المدينة مطبخاً حول الحيطان، وأعطى الأمر للطباخين بأن يعلقوا عليه جميع أنواع القدور وأن يطبخوا سائر أنواع الطعام ويديموا الطبخ الليل والنهار وكل من كان في هذه المدينة، وما حولها من البلاد البعيدة والقريبة يأكلون ويشربون ويحملون إلى بيوتهم وأمرهم أن يفرحوا ويزينوا المدينة سبعة أيام، ولا يقفلوا حوانيتهم ليلاً ونهاراً.
فخرج الوزير من وقته وساعته وفعل ما أمره به الملك عاصم وزينوا المدينة والقلاع والأبراج أحسن الزينة ولبسوا أحسن ملبوس وصار الناس في أكل وشرب ولعب وانشراح إلى أن حصل الطلق لزوجة الملك بعد انقضاء أيامها فوضعت ولداً ذكراً كالقمر ليلة تمامه فسماه سيف الملوك. وكذلك زوجة الوزير وضعت ولداً كالمصباح فسماه ساعداً فلما بلغا رشدهما صار الملك عاصم كلما ينظرهما يفرح بهما الفرح الشديد فلما صار عمرهما عشرين سنة طلب الملك وزيره فارساً في خلوة، وقال له: يا وزير قد خطر ببالي أمر أريد أن أفعله ولكن أستشيرك فيه فقال له الوزير: مهما خطر ببالك افعله، فإن رأيك مبارك، فقال الملك عاصم: يا وزير أنا صرت رجلاً كبيراً شيخاً هرماً لأني طعنت في السن وأريد أن أقعد في زاوية لأعبد الله تعالى وأعطي ملكي وسلطتي لولدي سيف الملوك فإنه صار شاباً مليحاً كامل الفروسية والعقل والأدب والحشمة والرياسة فما تقول أيها الوزير في هذا الرأي? فقال الوزير: نعم الرأي الذي رأيته، وهو راي مبارك سعيد، فإذا فعلت أنت هذا فأنا الآخر أفعل مثلك ويكون ولدي ساعداً وزيراً له لأنه شاب مليح ذو معرفة ورأي ويصير الاثنان مع بعضهما ونحن ندبر شأنهما ولا نتهاون في أمرهما بل ندلهما على الطريق المستقيم، ثم قال الملك عاصم لوزيره: اكتب الكتب وأرسلها مع السعاة إلى جميع الأقاليم والبلاد والحصون والقلاع التي تحت أيدينا، وأمر أكابرها أن يكونوا في الشهر الفلاني حاضرين في ميدان الفيل، فخرج الوزير فارساً من وقته وساعته وكتب إلى جميع العمال وأصحاب القلاع، ومن كان تحت حكم الملك عاصم أن يحضروا جميعهم في الشهر الفلاني وأمر أن يحضروا كل من في المدينة من قاص ودان. ثم إن الملك عاصماً بعد مضي تلك المدة، أمر الفراشين أن يضربوا القباب في وسط الميدان وأن يزينوها بأفخر الزينة وأن ينصبوا التخت الكبير الذي لا يقعد عليه الملك إلا في الأعياد ففعلوا في الحال جميع ما أمرهم به ونصبوا التخت وخرجت النواب والحجاب والأمراء والوزراء وأصحاب الأقاليم والضياع إلى ذلك الميدان ودخلوا في خدمة الملك على جري عادتهم واستقروا كلهم في مراتبهم، فمنهم من قعد ومنهم من وقف إلى أن اجتمعت الناس جميعهم وأمر الملك أن يمدوا السماط، فمدوه وأكلوا وشربوا ودعوا للملك ثم امر الملك الحجاب أن ينادوا في الناس بعدم الذهاب فنادوا وقالوا في المناداة: لا يذهب منكم أحد حتى يسمع كلام الملك، ثم رفعوا الستور فقال الملك: من أحبني فليمكث حتى يسمع كلامي، فقعد الناس جميعهم مطمئني النفوس بعد أن كانوا خائفين، ثم قام الملك على قدميه وحلفهم أن لا يقوم أحد من مقامه وقال لهم: أيها الأمراء والوزراء وأرباب الدولة كبيركم وصغيركم ومن حضر من جميع الناس هل تعلمون أن هذه المملكة لي وراثة من آبائي وأجدادي? قالوا له: نعم أيها الملك كلنا نعلم ذلك فقال لهم: أنا وأنتم كنا كلنا نعبد الشمس والقمر ورزقنا الله تعالى الإيمان وأنقذنا من الظلمات إلى النور، وهدانا الله سبحانه وتعالى إلى دين الإسلام واعلموا أني الآن صرت رجلاً كبيراً شيخاً هرماً عاجزاً وأريد أن أجلس في زاوية أعبد الله فيها وأستغفره من الذنوب الماضية، وهذا ولدي سيف الملوك حاكم، وتعرفون انه شاب مليح فصيح خبير بالأمور عاقل فاضل عادل، فأريد في هذه الساعة أن أعطيه مملكتي وأجعله ملكاً عليكم عوضاً عني وأجلسه سلطاناً في مكاني وأتخلى أنا لعبادة الله تعالى في زاوية وابني سيف الملوك يتولى الحكم ويحكم بينكم، فأي شيء قلتم كلكم بأجمعكم? فقاموا كلهم وقبلوا الأرض بين يديه، وأجابوا بالسمع والطاعة وقالوا: يا ملكنا وحامينا لو أقمت علينا عبداً من عبيدك لأطعناه وامتثلنا أمرك فكيف بولدك سيف الملوك فقد قبلناه ورضيانه على العين والراس فقام الملك عاصم بن صفوان ونزل من فوق سريره، وأجلس ولده على التخت الكبير ورفع التاج فوق رأس ولده وشد وسطه بمنطقة الملك، وجلس الملك عاصم على كرسي مملكته بجانب ولده فقام الأمراء والوزراء وأكابر الدولة وجميع الناس وقبلوا الأرض بين يديه، وصاروا وقوفاً يقولون لبعضهم: هو حقيق بالملك وهو أولى به من الغير ونادوا بالأمان ودعوا له بالنصر والإقبال ونثر سيف الملوك الذهب والفضة على رؤوس الناس أجمعين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


وفي الليلة التاسعة عشرة بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عاصماً لما أجلس ولده سيف الملوك على التختودعا له كامل الناس بالنصر والإقبال نثر الذهب والفضة على رؤوس الناس أجمعين وخلع الخلع ووهب وأعطى، ثم بعد لحظة قام الوزير فارساً وقبل الأرض وقال: يا أمراء.. يا أرباب الدولة، هل تعرفون أني وزير ووزارتي قديمة قبل أن يتولى الملك عاصم بن صفوان، وهو الآن قد خلع نفسه من الملك وولى ولده عوضاً عنه? قالوا: نعم نعرف وزارتك أباً عن جد، فقال: والآن أخلع نفسي وأولي ولدي ساعداً هذا، فغنه عاقل فطن خبير فأي شيء تقولون بأجمعكم? فقالوا: لا يصلح وزيراً للملك سيف الملوك إلا ولدك ساعداً فإنهما يصلحان لبعضهما، فعند ذلك قام الوزراء قدامه أيضاً وقالت الحجاب والأمراء: إنه يستحق الوزارة، فعند ذلك قام الملك عاصم والوزير فارس وفتحا الخزائن وخلعا الخلع السنية على الملوك والأمراء وأكابر الدولة والناس أجمعين وأعطيا النفقة والأنعام وكتبا لهم المناشير الجديدة والمراسيم بعلامة سيف الملوك وعلامة الوزير ساعد بن الوزير فارس وأقام الناس في المدينة جمعة وبعدها كل منهم سافر إلى بلاده ومكانه، ثم إن الملك عاصماً أخذ ولده سيف الملوك وساعداً ولد الوزير ثم دخلوا وطلعوا القصر وأحضروا الخازندار، وأمروه بإحضار الخواتم والسيف والبقجة وقال الملك عاصم: يا أولادي تعالوا كل واحد منكم يختار من هذه الهدية شيئاً ويأخذه، فأول من مد يده سيف الملوك فأخذ البقجة والخاتم ومد ساعد يده فأخذ السيف والمهر وقبلا يد الملك وذهبا إلى منازلهما، فلما أخذ سيف الملوك البقجة لم يفتحه ولم ينظر ما فيها بل رماها فوق التخت الذي ينام عليه بالليل هو وساعد وزيره، وكان من عادتهما أن يناما مع بعضهما ثم إنهما فرشوا لهما فراش النوم ورقدا الاثنان مع بعضهما على فراشهما والشموع تضيء عليهما واستمرا إلى نصف الليل ثم انتبه سيف الملوك من نومه فرأى البقجة عند رأسه، فقال في نفسه: يا ترى أي شيء في هذه البقجة? التي أهداها لنا الملك من التحف فأخذها وأخذ الشمعة ونزل من فوق التخت وترك ساعداً نائماً ودخل الخزانة وفتح البقجة فرأى فيها قباء من شغل الجان ففتح القباء وفرده فوجد على البطانة التي من داخل في جهة ظهر القباء صورة بنت منقوشة بالذهب ولكن جمالها شيء عجيب.
فلما رأى هذه الصورة طار عقله من رأسه وصار مجنوناً بعشق تلك الصورة ووقع على الأرض مغشياً عليه وصار يبكي وينتحب ويلطم على وجهه، فلما رآه ساعداً على هذه الحالة قال: أنا وزيرك وأخوك وتربيت أنا وإياك وإن لم تبين لي أمورك وتطلعني على سرك فعلى من تخرج سرك وتطلع عليه? ولم يزل ساعداً يتضرع ويقبل الأرض ساعة زمانية وسيف الملوك لا يلتفت إليه ولا يكلمه كلمة واحدة بل يبكي، فلما رأى ساعداً حاله وأعياه أمره خرج من عنده وأخذ سيفاً ودخل الخزانة التي فيها سيف الملوك وحط ذبابة على صدر نفسه وقال لسيف الملوك: انتبه يا أخي، إن لم تقل لي أي شيء جرى لك قتلت روحي ولا أراك في هذه الحالة فعند ذلك رفع سيف المولك رأسه إلى وزيره ساعداً وقال له: يا أخي أنا استحيت أن أقول لك وأخبرك بالذي جرى لي. فقال له ساعداً: سألتك بالله رب الأرباب ومعتق الرقاب ومسبب الأسباب الواحد التواب الكريم الوهاب أن تقول لي ماذا جرى لك ولا تستحي مني، فأنا عبدك ووزيرك ومشريك في الأمور كلها، فقال سيف الملوك: تعال وانظر إلى هذه الصورة فلما رأى ساعد تلك الصورة تأمل فيها ساعة زمانية ورأى مكتوباً على رأس الصورة باللؤلؤ المنظوم: هذه الصورة، صورة بديعة الجمال بنت شماخ بن شاروخ ملك من ملوك الجان المؤمنين الذين هم نازلون في مدينة بابل وساكنون في بستان أرم بن عاد الأكبر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك سيف الملوك بن الملك عاصم والوزير ساعد بن الوزير فارس لما قرأا الكتابة التي على القباء ورأيا فيها صورة بديعة الجمال بنت شامخ بن شاروخ ملك بابل من ملوك الجان المؤمنين النازلين بمدينة بابل الساكنين في بستان ارم بن عاد الأبر قال الوزير ساعد للملك سيف: يا أخي أتعرف من صاحبة هذه الصورة من النساء حتى نفتش عليها فقال سيف الملوك: والله يا أخي ما أعرف صاحبة هذه الصورة، فقال ساعد: تعال اقرأ هذه الكتابة فتقدم سيف الملوك وقرأ الكتابة التي على التاج وعرف مضمونها فصرخ من صميم قلبه وقال: آه، آه، آه، فقال له ساعد: يا أخي إن كانت صاحبة هذه الصورة موجودة واسمها بديعة الجمال وهي في الدنيا، فأنا أسرع في طلبها من غير مهلة حتى تبلغ مرادك، فبالله يا أخي أن تترك البكاء لأجل أن تدخل أهل الدولة في خدمتك فإذا كان ضحوة النهار فاطلب التجار والفقراء والسواحين والمساكين، واسألهم عن صفات هذه المدينة لعل أحداً ببركة الله سبحانه وتعالى وعونه يدلنا عليها وعلى بستان ارم.
فلما أصبح الصباح قام سيف الملوك وطلع فوق التخت وهو معانق للقباء لأنه صار لا يقوم ولا يقعد ولا يأتيه نوم إلا وهو معه، فدخلت عليه الأمراء والوزراء والجنود وأرباب الدولة، فلما تم الديوان وانتظم الجمع، قال الملك سيف الملوك لوزيره ساعد: ابرز لهم وقل إن الملك حصل له تشويش والله ما بات البارحة إلا وهو ضعيف فبلغ الوزير ساعد وأخبر الناس بما قاله الملك سيف فلما سمع الملك عاصم ذلك لم يهن عليه ولده فعند ذلك دعا الحكماء والمنجمين ودخل بهم على ولده سيف الملوك فنظروا إليه ووصفوا له الشراب واستمر في موضعه مدة ثلاثة أشهر، فقال الملك عاصم للحكماء الحاضرين وهو مغتاظ عليهم: ويلكم يا كلاب هل عجزتم كلكم عن مداواة ولدي فإن لم تداووه في هذه الساعة أقتلكم جميعاً، فقال رئيسهم الكبير: يا ملك الزمان إننا نعلم أن هذا ولدك وأنت تلعم أننا لا نتساهل في مداواة الغريب فكيف بمداواة ولدك ولكن ولدك به مرض صعب إن شئت معرفته نذكره لك ونحدثك به، قال الملك عاصم: أي شيء ظهر لكم من مرض ولدي? فقال له الحكيم الكبير: يا ملك الزمان إن ولدك الآن عاشق ويحب من لا سبيل إلى وصاله، فاغتاظ الملك عليهم وقال لهم: من أين علمتم أن ولدي عاشق ومن أين جاء العشق لولدي? فقالوا له: اسأل أخاه ووزيره ساعداً فإنه هو الذي يعلم حاله فعند ذلك قام الملك عاصم ودخل في خزانة وحده ودعا بساعد وقال: اصدقني بحقيقة مرض أخيك فقال له: ما أعلم حقيقته فقال الملك للسياف: خذ ساعداً واربط عينيه واضرب رقبته، فخاف ساعد على نفسه وقال له: يا ملك الزمان أعطني الأمان فقال له: قل لي ولك الأمان فقال له ساعد: إن ولدك عاشق فقال له الملك: ومن معشوقته? فقال ساعد: بنت ملك من ملوك الجان فإنه رأى صورتها في قباء من البقجة التي أهداها إليكم سليمان نبي الله.
فعند ذلك قام الملك ودخل على ابنه سيف الملوك وقال له: يا ولدي أي شيء دهاك وما هذه الصورة التي عشقتها? ولأي شيء لم تخبرني? فقال سيف الملوك: يا أبت كنت أستحي منك وما كنت أقدر أن أذكر لك ذلك، ولا أقدر أن أظهر أحداً على شيء منه أبداً، والآن قد علمت بحالي فانظر كيف تعمل في مداواتي، فقال له أبوه: كيف تكون الحيلة لو كانت هذه من بنات الإنس كنا دبرنا حيلة في الوصول إليها، ولكن هذه من بنات ملوك الجن ومن يقدر عليها إلا إذا كان سليمان بن داود فإنه هو الذي يقدر على ذلك، ولكن يا ولدي قم في هذه الساعة واشتغل بالأكل والشرب واصرف الهم والغم عن قلبك، وأنا أجيء لك بمائة بنت من بنات الملوك وما لك ببنات الجان التي ليس لنا قدرة عليهم ولا هم من جنسنا، فقال له: أنا لا أتركها ولا أطلب غيرها، فقال له الملك: كيف يكون العمل يا ولدي? فقال له ابنه: أحضر لنا جمعي التجار والمسافرين والسواحين في البلاد لنسألهم عن ذلك لعل الله يدلنا على بستان أرم وعلى مدينة بابل، فأمر الملك عاصم أن يحضر كل تاجر في المدينة وكل غريب فيها وكل رئيس في البحر، فلما حضروا سألهم عن مدينة بابل وعن جزيرتها وعن بستان ارم فما أحد منهم عرف هذه الصفة ولا أخبر عنهابخبر وعند انفضاض المجلس قال واحد منهم: يا ملك الزمان إن كنت تريد أن تعرف فعليك ببلاد الصين فإنها مدينة كبيرة ولعل أحداً نمهم يدلك على مقصودك، ثم إن سيف الملوك قال: يا أبي جهز لي مركباً للسفر إلى بلاد الصين، فقال له أبوه: يا ولدي اجلس أنت على كرسي مملكتك واحكم في الرعية وأنا أسافر إلى بلاد الصين وأمضي إلى هذا الأمر بنفسي فقال سيف الملوك: يا أبي إن هذا الأمر يتعلق بي وما يقدر أحد أن يفتش عليه مثلث وأي شيء يجري إذا كنت تعطيني اذناً بالسفر فاسافر وأتغرب مدة من الزمان، فإن وجدت لها خبراً حصل المراد وإن لم أجد لها خبراً يكون في السفر انشراح صدري ونشاط خاطري ويهون أمري بسبب ذلك وإن عشت رجعت إليك سالماً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك قال لوالده الملك عاصم: جهز لي مركباً لأسافر فيها إلى بلاد الصين حتى أفتش على مقصودي فإن عشت رجعت إليك سالماً، فنظر الملك إلى ابن فلم ير له حيلة غير أنه يعمل له الذي يرضيه فأعطاه اذناً بالسفر وجهز له أربعين مركباً وعشرين ألف مملوك غير الاتباع وأعطاه أموالاً وخزائن وكل شيء يحتاج إليه من آلات الحرب وقال له: سافر يا ولدي في خير وعافية وسلامة وقد استودعتك من لا تضيع عنده الودائع فعند ذلك ودعه أبوه وأمه وشحنت المراكب بالماء والزاد والسلاح والعساكر ثم سافروا ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى مدينة الصين.
فلما سمع أهل الصين أنه وصل إليهم أربعون مركباً مشحوناً بالرجال والعدد والسلاح والذخائر اعتقدوا أنهم أعداء جاؤا إلى قتالهم وحصارهم فقفلوا أبواب المدينة وجهزوا المنجنيقات، فلما سمع الملك سيف الملوك ذلك أرسل إليهم مملوكين من مماليكه الخواص، وقال لهم: امضيا إلى ملك الصين وقولوا له إن هذا سيف الملوك بن الملك عاصم جاء إلى مدينتك ضيفاً ليتفرج في بلادك مدة من الزمان ولا يقاتل ولا يخاصم فإن قبلته ضيفاً ليتفرج في بلادك مدة من الزمان ولا يقاتل ولا يخاصم فإن قبلته نزل عندك وإن لم تقبله رجع ولا يشوش عليك ولا على أهل مدينتك، فلما وصل المملوكين إلى المدينة قالوا: نحن رسل الملك سيف الملوك ففتحوا لهم الباب وذهبوا بهم وأحضروهم عند ملكهم وكان اسمه قعفوشاه، وكان بينه وبين الملك عاصم قبل تاريخه معرفة، فلما سمع أن الملك القادم عليه سيف الملوك بن الملك عاصم خلع على الرسل وأمر بفتح الأبواب وجهز الضيافات وخرج بنفسه مع خواص دولته وجاء إلى سيف الملوك وتعانقا، وقال له: أهلاً وسهلاً ومرحباً بمن قدم علينا وأنا مملوكك ومملوك أبيك ومدينتي بين يديك، وكل ما تطلبه يحضر إليك وقدم له الضيوفات والزاد في مواضع الإقامات، وركب سيف الملوك وساعد وزيره ومعهم خواص دولته وبقية العساكر وساروا في ساحل البحر إلى أن دخلوا المدينة وضربت الكاسات ودقت البشائر وأقاموا فيها أربعين يوماً في ضيافات حسنة، ثم بعد ذلك قال له: يا ابن أخي كيف حالك هل أعجبتك بلادي? فقال له سيف الملوك: يا ملك أدام الله تعالى تشريفها بك أيها الملك قعفوشاه: ما جاء بك إلى حاجة طرأت لك، وأي شيء تريده من بلادي فأنا أقضيه لك، فقال له الملك سيف: يا ملك إن حديثي عجيب وهو أني عشقت صورة بديعة الجمال فبكى ملك الصين رحمة له وشفقة عليه وقال: ما تريد الآن يا سيف الملوك? فقال له: أريد منك أن تحضر لي جميع السواحين والمسافرين ومن له عادة بالأسفار حتى أسألهم عن صاحبة هذه الصورة لعل أحداً منهم يخبرني بها فأرسل الملك قعفوشاه إلى النواب والحجاب والأعوان وأمرهم أن يحضروا جميع من في البلاد من السواحين والمسافرين فأحضروهم وكانوا جماعة كثيرة فاجتمعوا عند الملك قعفوشاه، ثم سألهم الملك سيف الملوك عن مدينة بابل وعن بستان أرم فلم يرد عليه أحداً منهم جواباً فتحير الملك سيف الملوك في أمره ثم بعد ذلك قال واحد من رؤساء البحرية: ايها الملك إن أردت أن تعلم هذه المدينة وذاك البستان فعليك بالجزائر التي في بلاد الهند، فعند ذلك أمر سيف الملوك أن يحضروا المراكب ففعلوا ونقلوا فيها الماء والزاد وجميع ما يحتاجون إليه وركب سيف الملوك وساعد وزيره بعد أن ودعوا الملك قعفوشاه وسافروا في البحر مدة أربعة أشهر في ريح طيبة سالمين مطمئنين فاتفق أنه خرج عليهم ريح في يوم من الأيام وجاءهم الموج من كل مكان ونزلت عليهم الأمطار وتغير البحر من شدة الريح، ثم ضربت المراكب بعضها بعضاً من شدة الريح فانكسرت جميعها، وكذلك الزوارق الصغيرة وغرقوا جميعهم وبقي سيف الملوك مع جماعة من مماليكه في زورق صغير، ثم سكت الريح وسكن بقدرة الله تعالى وطلعت الشمس ففتح سيف الملوك عينيه، فلم ير شيئاً من المراكب ولم ير غير السماء والماء وهو ومن معه في الزورق الصغير فقال لمن معه من مماليكه: أين المرابك والزوارق الصغيرة وأين أخي ساعد? فقالوا له: يا ملك الزمان لم يبق مراكب ولا زوارق ولا من فيها فإنهم غرقوا كلهم وصاروا طعاماً للسمك، فصرخ سيف الملوك وقال كلامة لا يخجل قائلها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصار يلطم على وجهه وأراد أن يرمي نفسه في البحر، فمنعه المماليك وقالوا له: يا ملك أي شيء يفيدك هذا فأنت الذي فعلت بنفسك هذه الفعلا ولو سمعت كلام أبيك ما كان جرى عليك من هذا شيء ولكن كل هذا مكتوب من القدم بإرادة باري النسم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك لما أراد أن يرمي نفسه في البحر منعته المماليك وقالت له: أي شيء يفيد هذا، فأنت فعلت بنفسك هذه الفعال ولكن هذا شيء مكتوب بإرادة بارئ النسم حتى يستوفي العبد ما كتب الله تعالى عليه وقد قال المنجمون لأبيك عند والدتك: إن ابنك هذا تجري عليه الشدائد كلها وحينئذ ليس عليه إلا الصبر حتى يفجر الله عنا الكرب الذي نحن فيه فقال سيف الملوك: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا مفر من قضاء الله تعالى ولا مهرب.
ثم غرق في بحر الأفكار وجرت دموعه على خده كالمدرار، ونام ساعة من النهار، ثم استفاق وطلب شيئاً من الأكل فأكل حتى اكتفى ورفعوا الزاد من قدامه والزورق سائراً بهم، ولم يعلموا إلى أي جهة يتوجه بهم مع الأمواج والرياح ليلاً ونهاراً مدة مديدة من الزمان حتى فرغ منهم الزاد وذهبوا عن الرشاد وصاروا في أشد ما يكون من الجوع والعطش والقلق وإذا بجزيرة قد لاحت لهم على بعد فصارت الرياح تسوقهم إلى أن وصلوا إليها وأرسوا عليها وطلعوا من الزورق وتركوا فيه واحداً، ثم توجهوا إلى تلك الجزيرة فرأوا فيها فواكه كثيرة من سائر الألوان فأكلوا حتى اكتفوا، وإذا هم بشخص جالس على قطعة لباد سوداء فوق صخرة من الحجر، وحواليه الزنوج وهم جماعة كثيرة واقفون في خدمته. فجاء هؤلاء الزنوج وأخذوا سيف الملوك ومماليكه وأوقفوهم بين يدي ملكهم وقالوا: إنا لقينا هذه الطيور بين الأشجار وكان الملك جائعاً فأخذ من المماليك اثنين وذبحهما وأكلهما.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الزنوج لما أخذوا الملك سيف الملوك ومماليكه وأوقفوهم بين يدي ملكهم، وقالوا له: يا ملك إنا لقينا هذه الطيور بين الأشجار أخذ ملكهم مملوكين وذبحهما وأكلهما فلما رأى سيف الملوك هذا الأمر خاف على نفسه وبكى. فلما سمع الملك بكاءه وتعديده قال: إن هؤلاء الطيور مليحة الصوت والنغمة قد أعجبتني أصواتهم فاجعلوا كل واحد منهم في قفص فحطوا كل واحد منهم في قفص، وعلقوهم على راس الملك ليسمع أصواتهم ومماليكه في الأقفاص والزنوج يطعمونهم ويسقونهم، وهم ساعة يبكون وساعة يضحكون وساعة يتكلمون وساعة يسكتون كل هذا وملك الزنوج يتلذذ بأصواتهم ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان وكان للملك بنت متزوجة في جزيرة أخرى فسمعت أن أباها عنده طيور لها أصوات مليحة، فأرسلت جماعة إلى أبيها تطلب منه شيئاً من الطيور، فأرسل إليها أبوها سيف الملوك وثلاثة مماليك في أربعة أقفاص مع القاصد الذي جاء في طلبهم. فلما وصلوا إليها ونظرتهم أعجبوها، فأمرت أن يطلعهم في موقع فوق رأسها فصار سيف الملوك يتعجب مما جرى له ويتفكر ما كان فيه من العز وصار يبكي على نفسه والمماليك الثلاثة يبكون على أنفسهم، كل هذا وبنت الملك تعتقد أنهم يغنون وكانت عادة بنت الملك إذا وقع عندها أحد من بلاد مصر، أو من غيرها وأعجبها يصير له عندها منزلة عظيمة وكان بقضاء الله تعالى وقدره أنها لما رأت سيف الملوك أعجبها حسنه وجماله وقده واعتداله فأمرت بإكرامهم واتفق أن اختلت يوماً من الأيام بسيفي الملوك وطلبت منه أن يجامعها فأبى سيف الملوك ذلك وقال لها: يا سيدتي أنا رجل غريب وبحب الذي أهواه كئيب وما أرضى بغير وصاله فصارت بنت الملاك تلاطفه وتراوده فامتنع منها ولم تقدر أن تدنو منه ولا أن تصل إليه بحال من الأحوال، فلما أعياها أمره غضبت عليه وعلى مماليكه، وأمرتهم أن يخدموها وينقلوا الماء والحطب فمكثوا على هذه الحالة أربع سنوات، فأعيا الملك سيف ذلك الحال وأرسل يتشفع الملكة، عسى أن تعتقهم ويمضوا إلى حال سبيلهم ويستريحوا مما هم فيه، فأرسلت أحضرت سيف الملوك وقالت: إن وافقتني على غرضي أعتقك من الذي أنت فيه وتروح لبلادك سالماً غانماً وما زالت تتضرع إليه وتأخذ بخاطره فلم يجبها إلى مقصودها فأعرضت عنه مغضبة وسار سيف الملوك والمماليك عندها في الجزيرة على تلك الحالة وعرف أهلها أنهم طيور بنت الملك فلم يتجاسر أحد من اهل المدينة أن يضرهم بشيء وصار قلب بنت الملك مطمئناً عليهم، وتحققت أنهم ما بقي لهم خلاص من هذه الجزيرة فصاروا يغيبون عنها ليومين والثلاثة ويدورون في البرية ليجمعوا الحطب من جوانب الجزيرة ويأتوا به إلى مطبخ بنت الملك، فمكثوا على هذه الحالة خمس سنوات، فاتفق أن سيف الملوك قعد هو ومماليكه يوماً من الأيام على ساحل البحري يتحدثون فيما جرى فالتفت سيف الملوك فرأى نفسه فيهذا المكان هو ومماليكه فتذكر أمه وأباه وأخاه ساعداً وتذكر العز الذي كان فيه، فبكى وزاد في البكاء والنحيب وكذلك المماليك بكوا مثله.
ثم قال له المماليك: يا ملك الزمان إلى متى تبكي، والبكاء لا يفيد وهذا أمر مكتوب على جباهنا بتقدير الله عز وجل، وقد جرى القلم بما حكم وما ينفعنا إلا الصبر، لعل الله سبحانه وتعالى الذي ابتلانا بهذه الشدة يفرجها عنا فقال لهم سيف الملوك: يا اخواني كيف نعمل في خلاصنا من هذه الملعونة ولا أرى لنا خلاصاً إلا أن يخلصنا الله منها بفضله، ولكن خطر ببالي أننا نهرب ونستريح من هذا التعب، فقالوا له: يا ملك الزمان أين نروح من هذه الجزيرة وهي كلها غيلان يأكلون بني آدم وكل موضع توجهنا إليه وجدونا فيه فإما أن يأكلونا وإما أن يأسرونا ويردونا إلى موضعنا وتغضب علينا بنت الملك، فقال سيف الملوك: أنا أعمل لكم شيئاً لعل الله تعالى يساعدنا به على الخلاص ونخلص من هذه الجزيرة فقالوا له: كيف تعمل? فقال: نقطع من هذه الأخشاب الطوال ونفتل من قشرها حبالاً، ونربط بعضها في بعض ونجعلها فلكاً ونرميه في البحر ونملؤه من تلك الفاكهة، ونعمل له مجاذيف وننزل فيه لعل الله تعالى أن يجعل لنا فرجاً فإنه على كل شيء قدير، وعسى الله أن يرزقنا الريح الطيب الذي يرسلنا إلى بلاد الهند ونخلص من هذه الملعونة فقالوا له: هذا رأي حسن وفرحوا به فرحاً شديداً وقاموا في الوقت والساعة يقطعون الأخشاب لعمل الفلك ثم فتلوا الحبال لربط الأخشاب في بعضها واستمروا على ذلك مدة شهر وكل يوم في آخر النهار يأخذون شيئاً من الحطب، ويروحون به إلى مطبخ بنت الملك ويجعلون بقية لنهار لأشغالهم في صنع الفلك إلى أن أتموه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك ومماليكه لما قطعوا الأخشاب من الجزيرة وفتلوا الحبال وربطوا الفلك الذي عملوه، فلما فرغوا من عمله رموه في البحر وسقوه من الفواكه التي في الجزيرة من تلك الأشجار وتجهزوا في آخر يومهم ولم يعلموا أبداً بما فعلوا، ثم ركبوا في ذلك الفلك وساروا في البحر مدة أربعة أشهر، ولم يعلموا أين يذهب بهم وفرغ منهم الزاد وصاروا في أشد ما يكون من الجوع والعطش، وإذا بالبحر قد أرغى وأزبد وطلع منه أمواج عالية، فأقبل عليهم تمساح هائل ومد يده وخطف مملوكاً من المماليك وبلعه، فلما رأى سيف الملوك ذلك التمساح فعل بالمملوك ذلك الفعل بكى بكاء شديداً، وصار في الفلك هو والمملوك الباقي وحدهما وبعدا عن مكان التمساح وهما خائفان، ولم يزالا كذلك حتى ظهر لهما يوماً من الأيام جبل عظيم هائل عال شاهق في الهواء ففرحا به وظهر لهما بعد هذه الجزيرة فجدا في السير إليها وهما مستبشران بدخولهما الجزيرة.
فبينما هما على تلك الحالة، وإذا بالبحر هاج وعلت أمواجه وتغيرت حالاته، فرفع التمساح رأسه ومد يده فأخذ المملوك الذي بقي من مماليك سيف الملوك وبلعه، فصار سيف الملوك وحده حتى وصل إلى الجزيرة وصال يعالج إلى أن صعد فدق الجبل، ونظر فرأى غابة فدخل الغابة ومشى بين الأشجار وصار يأكل من الفواكه فرأى الأشجار وقد طلع فوقها ما يزيد عن عشرين قرداً راكباً كل واحد منهم أكبر من البغل، فلما رأى سيف الملوك هذه القرود حصل له خوف شيديد، ثم نزلت القرود واحتاطوا به من كل جانب وبعد ذلك ساروا أمامه وأشاروا إليه أن يتبعهم ومشوا، فمشى سيف الملوك خلفهم وما زالوا سائرين وهو تابعهم حتى أقبلوا على قلعة عالية البنيان مشيدة الأركان، فدخلوا تلك القلعة ودخل سيف الملوك وراءهم فرأى فيها من سائر التحف والجواهر والمعادن ما يكل عن وصفه اللسان، ورأى في تلك القلعة شاباً لا نبات بعارضه لكنه طويل زائد الطول.
فلما رأى سيف الملوك ذلك الشاب استأنس به، ولم يكن في تلك القلعة غير ذلك الشاب من البشر، ثم إن الشاب لما رأى سيف الملوك أعجبه غاية الإعجاب، فقال له: ما اسمك ومن أي البلاد أنت وكيف وصلت إلى هنا? فأخبرني بحديثك ولا تكتم شيئاً فقال له سيف الملوك: أنا والله ما وصلت إلى هنا بخاطري ولا كان هذا المكان مقصودي، وأنا ما أزال أسير من مكان إلى مكان آخر حتى أنال مطلوبي أو يكون سعيي إلى مكان فيه أجلي فأموت، ثم إن الشاب التفت إلى قرد وأشار إليه، فغاب القرد ساعة ثم أتى ومعه قرود مشددة الوسط بالفوط الحرير وقدموا السماط ووضعت عليه نحو مائة صحفة من الذهب والفضة وفيها من سائر الأطعمة وصارت القرود واقفة على عادة الأتباع بين يدي الملوك ثم أشار للحجاب بالقعود فقعدوا ووقف الذي عاته الخدم ثم أكلوا حتى اكتفوا، ثم رفعوا السماط وأتوا بطشوت وأباريق من الذهب فغسلوا أيديهم ثم جاؤوا بأواني الشراب نحو أربعين آنية فيها أنواع من الشراب فشربوا وتلذذوا وطربوا وطاب لهم وقتهم وجميع القرود يرقصون ويلعبون وقت اشتغال الآكلين بالأكل، فلما رأى سيف الملوك ذلك تعجب منهم ونسي ما جرى له من الشدائد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك لما رأى فعل القرود ورقصهم تعجب منهم ونسي ما جرى له من الغربة وشدائدها فلما كان الليل أوقدوا الشموع ووضعوها في الشمعدانات الذهبية والفضية، ثم أتوا بأواني النقل والفاكهة فأكلوا ولما جاء وقت النوم فرشوا لهم الفرش وناموا، فلما أصبح الصباح قام الشاب على عادته ونبه سيف الملوك وقال له: اخرج رأسك من الشباك وانظر إلى أي شيء هذا الواقف تحت الشباك فنظر فرأى قروداً قد ملأت الفلا الواسع والبرية كلها وما يعلم عدد القرود إلا الله تعالى فقال سيف الملوك هؤلاء قرود كثيرون قد ملأوا الفضاء ولأي شيء اجتمعوا في هذا الوقت فقال له الشاب: إن هذه عادتهم وجميع ما في الجزيرة قد أتى وبعضهم جاء من سفر يومين أو ثلاثة فإنهم يأتون في كل يوم سبت ويقفون هنا حتى أنتبه من منامي وأخرج رأسي من هذا الشباك فحين يبصرونني يقبلون الأرض بين يدي ثم ينصرفون إلى أشغالهم.وأخرج رأسه من الشباك حتى راوه فلما نظروه قبلوا الأرض بين يديه وانصرفوا ثم إن سيف الملوك قعد عند الشاب مدة شهر كامل وبعد ذلك ودعه وسافر فأمر الشاب نفراً من القرود نحو المائة قرد بالسفر معه، فسافروا في خدمة سيفالملوك مدة سبعة أيام حتى أوصلوه إلى آخر جزائرها ثم ودعوه ورجعوا إلى أماكنهم وسافر سيف الملوك وحده في الجبال والتلال والبراري والقفار مدة أربعة أشهر يوماً يجوع ويوماً يشبع ويوماً يأكل الحشائش، ويوماً يأكل من ثمر الأشجار وصار يتندم على ما فعل بنفسه وعلى خروجه من عند ذلك الشاب وأراد أن يرجع إليه على أثره فرأى شبحاً أسود يلوح على بعد فقال في نفسه: هل هذه هي بلدة سوداء أم كيف الحال ولكن لا ارجع حتى أنظر أي شيء هذا الشبح.
فلما قرب منه رآه قصراً عالي البنيان وكان الذي بناه يافج بن نوح عليه السلام وهو القصر الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز وبقوله وبئر معطلة وقصر مشيد. ثم إن سيف الملوك جلس على باب القصر وقال في نفسه: يا ترى ما شأن داخل هذا القصر ومن فيه من الملوك? فمن يخبرني بحقيقة الأمر وهل سكانه من الإنس أو من الجن? فقعد يتفكر ساعة زمانية ولم يجد أحداً بداخله ولا يخرج منه فقام يمشي وهو متوكل على الله تعالى حتى دخل القصر فوجد في طريقه سبعة دهاليز فلم ير أحد ونظر على يمينه ثلاثة أبواب وقدامه باب عليه ستارة مسبولة فتقدم إلى ذلك الباب ورفع الستارة بيده ومشى داخل الباب وإذا هو بإيوان كبير مفروش بالبسط الحرير وفي صدر ذلك الإيوان تخت من الذهب وعليه بنت جالسة وجهها مثل القمر، وعليها ملبوس الملوك وهي كالعروس في ليلة زفافها وتحت التخت اربعون سماطاً وعليها صحاف الذهب والفضة وكلها ملآنة بالأطعمة الفاخرة فلما رآها سيف الملوك أقبل عليها وسلم فردت عليه السلام وقالت له: هل أنت من الإنس أو من الجن? فقال: أنا من خيار الإنس وإني ملك ابن ملك فقالت له: وأي شيء تريد دونك وهذا الطعام وبعد ذلك حدثني بحديثك من أوله إلى آخره وكيف وصلت إلى هذا الموضع فجلس سيف الملوك على السماط، وكشف المكبة عن السفرة وكان جائعاً وأكل من تلك الصحاف حتى شبع، وغسل يديه وطلع على التخت وقعد عند البنت فقالت له: من أنت? وما اسمك? ومن أين جئت? ومن أوصك إلى هنا? فقال لها سيف الملوك: أما أنا فحديثي طويل، فقالت: قل لي: من أين وما سبب مجيئك إلى هنا وما مرادك? فقال لها: أخبريني أنت ما شأنك وما اسمك ومن جاء بك إلى هنا ولأي شيء أنت قاعدة في هذا المكان وحدك? فقالت البنت: أنا اسمي دولة خاتون بنت ملك الهند، وأبي ساكن في مدينة سرنديب ولبي بستان مليح كبير في بلاد الهند وأقطارها أحسن منه، فيه حوض كبير، فدخلت في ذلك البستان يوماً من الأيام مع جواري وتعريت أنا وجواري ونزلنا في ذلك الحوض وصرنا نلعب وننشرح فلم اشعر إلا وشيء مثل السحاب نزل علي وخطفني من بين الجواري وطار بي بين الأرض والسماء وهو يقول: دولة خاتون لاتخافي وكوني مطمئة القلب.
ثم طار بي مدة قليلة وبعد ذلك أنزلني في هذا القصر، ثم انقلب من وقته وساعته فإذا هو شاب مليح حسن الشباب نظيف الثياب، وقال لي: أتعرفينني? فقلت: لا يا سيدي، فقال: أنا ابن الملك الأزرق ملك الجان وأبي ساكن في قلعة القلزوم وتحت يده ستمائة ألف من الجن الطيارة والغواصين واتفق لي أني كنت عابراً في طريقي ومتوجهاً إلى حال سبيلي فرأيتك وعشقتك ونزلت عليك وخطفتك من بين الجواري وجئت بك إلى هذا القصر المشيد، وهو موضعي ومسكني، فلا أحد يصل إليه قط لا من الجن ولا من الإنس ومن الهند إلى هنا مسير مائة وعشرين سنة، فتحققي أنك لا تنظرين بلاد أبيك وأمك أبداً فاقعدي عندي في هذا المكان مطمئنة القلب والخاطر، وأنا أحضر بين يديك كل ما تطلبينه ثم بعد ذلك عانقني وقبلني.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن البنت قالت لسيف الملوك: ثم إن ابن الجان بعد أن أخبرني عانقني وقبلني وقال لي: اقعدي هنا ولا تخافي من شيء ثم تركني وغاب عني ساعة وبعد ذلك أتى ومعه هذا السماط والفرش والبسط، ولكن لم يجيء إلا في كل يوم ثلاثاء وعند مجيئه يأكل ويشرب معي ويعانقني ويقبلني وأنا بنت بكر على الحالة التي خلقني الله عليها، ولم يفعل بي شيئاً وأبي اسمه تاج الملوك ولم يعلم أني بخير ولم يقع لي على اثر وهذا حديثي فحدثني أنت بحديثك، فقال لها سيف الملوك: إن حديثي طويل وأخاف أن أحدثك به يطول الوقت علينا فيجيء العفريت، فقالت له: إنه لم يسافر من عندي إلا قبل دخولك بساعة، ولا يأتي إلا في يوم الثلاثاء فاقعد واطمئن وطيب خاطرك وحدثني بما جرى لك من الأول إلى الآخر، فقال سيف الملوك سمعاً وطاعة ثم ابتدأ بحديثه حتى أكمله من الأول إلى الآخر فلما وصل إلى آخر حكاية بديعة الجمال تغرغرت عيناه بالدموع الغزار، وقالت: ما هو ظني فيك يا بديعة الجمال آه من الزمان يا بديعة الجمال، ما تذكرينني وتقولين أين راحت أختي دولة خاتونن ثم إنها زادت في البكاء وصارت تتأسف حيث لم تذكرها بديعة الجمال فقال لها سيف الملوك: يا دولة خاتون إنك إنسية وهي جنية فمن أين تكون هذه أختك? فقالت له: إنها أختي من الرضاع وسبب ذلك أن أمي نزلت تتفرج في البستان فجاءها الطلق، فولدتني في البستان وكانت أم بديعة الجمال في البستان هي وأعوانها، فجاءها الطلق فنزلت في طرف البستان وولدت بديعة الجمال، وأرسلت بعض جواريها إلى أمي تطلب منها طعاماً وحوائج الولادة فبعثت إليها أمي ما طلبته وعزمت عليها فقامت وأخذت بديعة الجمال وأتت إلى أمي فأرضعت أمي بديعة الجمال، ثم أقامت أمها وهي معها عندنا في البستان مدة شهرين، وبعد ذلك سافرت إلى بلادها وأعطت أمي حاجة وقالت لها: إذا احتجت إلي أجيئك في وسط البستان وكانت تأتي بديعة الجمال مع أمها في كل عام، ويقيمان عندنا مدة من الزمان ثم يرجعان إلى بلادهما فلو كنت أنا عند أمي يا سيف الملوك ونظرتك عندنا في بلادنا ونحن مجتمع شملنا مثل العادة كنت أتحيل عليها بحيلة حتى أوصلك إلى مرادك ولكن أنا في هذا المكان ولا يعرفون خبري، فلو عرفوا خبري وعلموا أني هنا كانوا قادرين على خلاصي من هذا المكان ولكن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وأي شيء أعمل? فقال سيف الملوك: قومي وتعالي معي نهرب ونسير إلى حيث يريد الله تعالى فقالت له: لا نقدر على ذلك والله لو هربنا مسيرة سنة لجاء هذا الملعون في سرعة ويهلكنا فقال سيف الملوك: أنا أختفي في موضع وإذا جاز علي أضربه بالسيف فأقتله، فقالت له: ما تقدر أن تقتله إلا إن قتلت روحه، فقال لها سيف الملوك وروحه في أي مكان? فقالت: أنا سألته عنها مرات عديدة فلم يقر لي بمكانها، فاتفق أني ألححت عليه يوماً من الأيام، فاغتاظ مني وقال لي: كم تسألينني عن روحي ما سبب سؤالك عن روحي? فقلت له: يا حاتم أنا ما بقي لي أحد غيرك إلا الله وأنا مادمت بالحياة لم أزل معانقة لروحك وإن كنت أنا ما أحفظ لروحك وأحطها في وسط عيني فكيف تكون حياتي بعدك، وإذا عرفت روحك حفظتها مثل عيني اليمين فعند ذلك قال لي: حين ولدت أخبر المنجمون أن هلاك روحي يكون على يد أحد من أولاد الملوك الأنسية فأخذت روحي ووضعتها في حوصلة عصفور وحبست العصفور في حق ووضعت الحق في علبة ووضعت العلبة داخل سبع علب في سبع صناديق ووضعت الصناديق في طابق من رخام في جانب هذا البحر المحيط لأن هذا الجانب بعيد عن بلاد الإنس وما يقدر أحد من الإنس أن يصل إليه وها أنا قلت لك ولا تقولي لأحد على هذا فإنه سر بيني وبينك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن دولة خاتون لما أخبرت سيف الملوك بروح الجني الذي خطفها وبينت له ما قاله الجني إلى أن قال لها: وهذا سر بيننا قالت: فقلت له: ومن أحدثه به وما يأتيني أحد غيرك حتى أقول له ثم قلت له: والله إنك جعلت روحك في حصن عظيم لا يصل إليه أحد، فكيف يصل إلى ذلك أحد من الإنس حتى لو فرض المحال وقدر الله مثل ما قال المنجمون فكيف يكون أحد من الإنس يصل إلى هذا? فقال: ربما كان أحد منهم في اصبعه خاتم سليمان بن داود عليه السلام، ويأتي إلى هنا ويضع يده بهذا الخاتم على وجه الماء ثم يقلو: بحق هذه الأسماء أن تطلع روح فلان فيطلع التابوت فيكسره والصناديق كذلك والعلب وخيرج العصفور من الحق ويخنقه فأموت أنا، فقال سيف الملوك: هو أنا ابن الملك وهذا خاتم سليمان بن داود عليه السلام في اصبعي، فقومي بنا إلى شاطئ البحر حتى نبصر هل كلامه هذا كذب أم صدق، فعند ذلك قام الاثنان ومشيا إلى أن وصلا إلى البحر ووقفت دولة خاتون على جانب البحر ودخل سيف الملوك في الماء إلى وسطه وقال: بحق ما في هذا الخاتم من الأسماء والطلاسم وبحق سليمان عليه الصلاة والسلام أن تخرج روح فلان ابن الملك الأزرق الجني فعند ذلك هاج البحر وطلع التابوت فأخذه سيف الملوك وضربه على الحجر فكسره وكسر الصناديق والعلب وأخرج العصفور من الحق وتوجها إلى القصر وطلعا فوق التخت وإذا بغبرة هائلة وشيء عظيم طائر وهو يقول: ابقني يا ابن الملك ولا تقتلني واجعلني عتيقك وأنا أبلغك مقصودك.
فقالت له دولة خاتون: قد جاء الجني فاقتل العصفور لئلا يدخل هذا الملعون القصر ويأخذه منك ويقتلك ويقتلني بعدك، فعند ذلك خنق العصفور فمات فوقع الجني على الأرض كوم رماد أسود، فقالت له دولة خاتون: قد تخلصنا من يد هذا الملعون وكيف نعمل? فقال سيف الملوك: المستعان بالله تعالى الذي بلانا فإنه يدبرنا ويعيننا على خلاصنا مما نحن فيه، ثم قام سيف الملوك وقلع من أبواب القصر نحو عشرة أبواب، وكانت تلك الأبواب من الصندل والعود ومساميرها من الذهب والفضة ثم أخذا حبالاً كانت هناك من الحرير والابرسيم وربطا الأبواب بعضها في بعض وتعاون هو ودولة خاتون إلى أن وصلا بها إلى البحر ورمياها فيه بعد أن صارت فلكاً وربطوه على الشاطئ ثم رجعا إلى القصر وحملا الصحاف الذهب والفضة وكذلك الجواهر واليواقيت والمعادن النفيسة ونقلا جميع ما في القصر من الذي خف حمله وغلا ثمنه وحطاه في ذلك الفلك وركبا فيه متوكلين على الله تعالى الذي من توكل عليه كفاه ولا يخيبه وعملا لهما خشبتين على هيئة المجاذيف ثم حلا الحبال وتركا الفلك يجري بهما في البحر ولم يزالا سائرين على تلك الحالة مدة أربعة أشهر حتى فرغ منهما الزاد واشتد عليهما الكرب وضاقت أنفسهما، فطلبا من الله أن يرزقهما النجاة مما هما فيه وكان سيف الملوك في مدة سيرهم إذا نام يجعل دولة خاتون خلف ظهره فإذا انقلب كان السيف بينهما، فبينما هما على تلك الحالة ليلة من الليالي فاتفق أن سيف الملوك كان نائماً ودولة خاتون يقظانة وإذا بالفلك مال إلى طرف البر وجاء إلى الميناء وفي تلك الميناء مراكب فنظرت دولة خاتون المراكب وسمعت رجلاً يتحدث مع رئيس الرؤوساء وكبيرهم. فلما سمعت دولة خاتون صوت الرئيس علمت أن هذا البر ميناء مدينة من المدن وأنهما وصلا إلى العمار ففرحت فرحاً شديداً ونبهت سيف الملوك من النوم وقالت له: قم واسأل هذا الريس عن اسم هذه المدينة وعن هذا الميناء فقام سيف الملوك وهو فرحان وقال له: يا أخي ما اسم هذه المدينة? وما يقال لهذا الميناء وما اسم ملكها? فقال له الريس: يا صاقع الوجه يا بارد اللحية إذا كنت لا تعرف الميناء ولا هذه المدينة فكيف جئت إلى هنا? فقال سيف الملوك: أنا غريب وقد كنت في سفينة من سفن التجار فانكسرت وغرقت بجميع من فيها وطلعت على لوح فوصلت إلى هنا فسألتك والسؤال ما هو عيب فقال الريس: هذه مدينة عمارية وهذا الميناء يسمى ميناء كمين البحرين، فلما سمعت دولة خاتون هذا الكلام فرحت فرحاً شديداً وقالت: الحمد لله، فقال سيف الملوك: ما الخبر? فقالت: يا سيف الملوك أبشر بالفرج القريب فإن ملك هذه المدينة عمي أخو أبي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن دولة خاتون لما قالت لسيف الملوك أبشر بالفرج القريب فإن ملك هذه المدينة عمي أخو أبي واسمه عالي الملوك ثم قالت له: اسأله وقل له: هل سلطان هذه المدينة عالي الملوك طيب فسأله عن ذلك فقال له الريس وهو مغتاظ منه: ألست تقول عمري ما جئت إلى هنا وإنما أنا رجل غريب فمن عرفك باسم صاحب هذه المدينة? ففرحت دولة خاتون وعرفت الريس وكان اسمه معين الدين وهو من رؤوساء أبيها وإنما خرج ليفتش عليها حين فقدت فلم يجدها ولم يزل دائراً حتى وصل إلى مدينة عمها ثم قالت لسيف الملوك: قل له: يا ريس معين الدين تعال كلم سيدتك فناداه بما قالته له فلما سمع الريس كلام سيف الملوك اغتاظ غيظاً شديداً وقال له: يا كلب من أنت وكيف عرفتني? ثم قال لبعض البحرية ناولوني عصاً من الشوم حتى أروح إلى هذا النحس وأكسر رأسه فأخذ العصا وتوجه إلى سيف الملوك فرأى الفلك ورأى فيه شيئاً عجيباً بهيجاً فاندهش عقله، ثم تأمل وحقق النظر فرأى دولة خاتون وهي جالسة مثل فلقة القمر، فقال له الريس: ما الذي عندك? فقال له: عندي بنت تسمى دولة خاتون.
فلما سمع الريس هذا الكلام وقع مغشياً عليه حين سمع باسمها وعرف أنها سيدته وبنت ملكه، فلما أفاق ترك الفلك وما فيه وتوجه إلى المدينة وطلع قصر الملك فاستأذن عليه فدخل الحاجب إلى الملك وقال: إن الريس معين جاء إليك ليبشرك فأذن له بالدخول فدخل على الملك وقبل الأرض بين يديه وقال: يا ملك عندك البشارة فإن بنت أخيك دولة خاتون وصلت إلى المدينة طيبة بخير وهي في الفلك وصحبتها شاب مثل القمر ليلة تمامه.
فلما سمع الملك خبر بنت أخيه فرح وخلع على الريس خلعة سنية وأمر من ساعته أن يزينوا المدينة لسلامة بنت أخيه وأرسل إليها وأحضرها عنده هي وسيف الملوك وسلم عليهما وهنأهما بالسلامة ثم إنه أرسل إلى أخيه ليعلمه أن ابنته وجدت وهي عنده، ثم إنه لما وصل إليه الرسول تجهز واجتمعت العساكر وسافر تاج الملوك أبو دولة خاتون حتى وصل إلى أخيه عالي الملوك واجتمع ببنته دولة خاتون وفرحوا فرحاً شديداً وقعد تاج الملوك عند أخيه جمعة من الزمان ثم إنه أخذ بنته وكذلك سيف الملوك وسافروا حتى وصلوا إلى سراديب بلاد ابيها واجتمعت دولة خاتون بأمها وفرحوا بسلامتها واقاموا الأفراح وكان ذلك يوماً عظيماً لا يرى مثله، وأما الملك فإنه أكرم سيف الملوك وقال له: يا سيف الملوك إنك فعلت معي ومع ابنتي هذا الخير كله وأنا لا أقدر أن أكافئك عليه وما يكافئك إلا رب العالمين، ولكن أريد منك أن تقعد على التخت في موضعي وتحكم في بلاد الهند فإني قد وهبت ملكي وتختي وخزانتي وخدامي وجميع ذلك يكون هبة مني لك، فعند ذلك قام سيف الملوك وقبل الأرض بين يدي الملك وشكره وقال: يا ملك الزمان قبلت جميع ما وهبته لي وهو مردود مني إليك هدية أيضاً، وأنا يا ملك الزمان ما أريد مملكة ولا سلطنة وما أريد إلا أن الله تعالى يبلغني مقصودي.
فقال له الملك هذه خزائني بين يديك يا سيف الملوك مهما طلبته منها خذه ولا تشاورني فيه وجزاك عني خيراً، فقال سيف الملوك أعز الله الملك لا حظ في الملك ولا في المال حتى أبلغ مرادي ولكن غرضي الآن أن أتفرج في هذه المدينة وأنظر شوارعها وأسواقها، فأمر تاج الملوك أن يحضروا له فرساً من جياد الخيل فأحضروا له فرساً مسرجاً ملجماً من جياد الخيل فركبها وطلع إلى السوق وشق في شوارع المدينة فبينما هو ينظر يميناً وشمالاً إذ رأى شاباً ومعه قباء وهو ينادي عليه بخمسة عشر ديناراً، فتأمله فوجده يشبه أخاه ساعداً وفي نفس الأمر هو بعينه، إلا أنه تغير لونه وحاله من طول الغربة ومشقات السفر ولم يعرفه ثم قال لمن حوله هاتوا هذا الشاب لأستخبره فأتوا به إليه.
فقال خذوه وأوصلوه إلى القصر الذي أنا فيه وخلوه عندكم إلى أن أرجع من الفرجة، فظنوا أنه قال لهم خذوه وأوصلوه إلى السجن وقالوا لعل هذا مملوك من مماليكه هرب منه فأخذوه وأوصلوه إلى السجن وقيدوه وتركوه قاعداً، فرجع سيف الملوك من الفرجة وطلع القصر ونسي أخاه ساعداً ولم يذكره له أحد فصار ساعداً في السجن، ولما خرجوا بالأسرى إلى أشغال العمارات أخذوا ساعداً معهم وصار يشتغل مع الأسرى وكثر عليه الوسخ ومكث ساعداً على هذه الحالة مدة شهر وهو يتذكر في أحواله ويقول في نفسه ما سبب سجني وقد اشتغل سيف الملوك بما هو فيه من السرور وغيره فاتفق أن سيف الملوك جلس يوماً من الأيام وتذكر ساعداً فقال المماليك الذين كانوا معه أين المملوك الذي كان معكم في اليوم الفلاني فقالوا أما قلت لنا أوصلوه إلى السجن، فقال سيف الملوك أنا ما قلت لكم هذا الكلام وإنما قلت لكم أوصلوه إلى القصر الذي أنا فيه ثم إنها أرسل الحجاب إلى ساعد فأتوا به وهو مقيد ففكوه من قيده وأوقفوا بين يدي سيف الملوك فقال له يا شاب من أي بلاد أنت فقال له أنا من مصر واسمي ساعد بن الوزير فارس.
فلما سمع سيف الملوك كلامه نهض من فوق التخت وألقى نفسه عليه وتعلق برقبته ومن فرحه صار يبكي بكاء شديداً وقال يا أخي الحمد لله حيث عشت ورأيتك فأنا أخوك سيف الملوك بن الملك عاصم فلما سمع أخيه كلامه وعرفه تعانقا مع بعضهما وتباكيا، فتعجب الحاضرون منهما ثم أمر سيف الملوك أن يأخذوا ساعداً ويذهبوا به إلى الحمام، وعند خروجه من الحمام ألبسوه ثياباً فاخرة وأتوا به إلى مجلس سيف الملوك فأجلسه معه على التخت ولما علم ذلك تاج الملوك فرح فرحاً شديداً باجتماع سيف الملوك وأخيه ساعد وحضر وجلس الثلاثة يتحدثون فيما جرى لهم من الأول إلى الآخر، ثم إن ساعداً قال يا أخي يا سيف الملوك لما غرقت المركب وغرقت المماليك طلعت أنا وجماعة من المماليك على لوح خشب وسار بنا في البحر مدة شهر كامل ثم بعد ذلك رمانا الريح بقدرة الله تعالى على جزيرة فطلعنا ونحن جياع فدخلنا بين الأشجار وأكلنا من الفواكه واشتغلنا بالأكل، فلم نشعر إلا وقد خرج علينا أقوام مثل العفاريت، فوثبوا علينا وركبوا فوق أكتافنا وكانوا نحو المائتين فقلنا لبعضنا ما يكفي هؤلاء أن يركبونا حتى يأكلونا أيضاً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولكن نحن نقوي عليهم السكر، ثم نقتلهم ونستريح منهم ونخلص من أيديهم، فنبهناهم وصرنا نملأ لهم تلك الجماجم ونسقيهم فيقولون هذا مر فقلنا لهم لأي شيء تقولون هو مر، وكل من قد قال ذلك إن لم يشرب منه عشر مارت فإنه يموت من يومه فخافوا من الموت وقالوا لنا اسقونا تمام العشر مرات، فلما شربوا العشر مرات سكروا وزاد عليهم السكر وهمدت قوتهم فجررناهم من أيديهم، ثم إننا جمعنا من حطب تلك الكروم شيئاً كثيراً وجعلنا حولهم وفوقهم وأوقدنا النار في الحطب ووقفنا من بعيد ننظر ما يكون منهم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ساعداً قال لما أوقدت النار في الحطب أنا ومن معي من المماليك وصارت الغيلان في وسطها، وقفنا من بعيد لننظر ما يكون منهم ثم قدمنا إليهم بعد أن خمدت النار فرأيناهم صاروا كوم رماد فحمدنا الله تعالى الذي خلصنا منهم وخرجنا من تلك الجزيرة وطلبنا ساحل البحر، ثم افترقنا عن بعضنا فأما أنا واثنان من المماليك فمشينا حتى وصلنا إلى غابة كثيرة الأشجار فاشتغلنا بالأكل، وإذا بشخص طويل القامة طويل اللحية طويل الأذنين بعينين كأنهما مشعلان وقدامه غنم كثيرة يرعاها وعنده جماعة أخرى في كيفيته.
فلما رآنا استبشر وفرح ورحب بنا وقال أهلاً وسهلاً، تعالوا عندي حتى أذبح لكم شاة من هذه الأغنام وأشويها وأطعمكم فقلنا له وأين موضعك فقال قريب ن هذا الجبل، فاذهبوا إلى هذه الجهة حتى تروا مغرة فادخلوا فإن فيها ضيوفاً كثيرين مثلكم، فروحوا واقعدوا حتى نجهز لكم الضيافة فاعتقدنا أن كلامه حق فسرنا إلى تلك الجهة ودخلنا تلك المغارة، فرأينا الضيوف التي فيها كلهم عمياناً، فحين دخلنا عليهم قال واحد منهم أنا مريض وقا الآخر أنا ضعيف، فقلنا لهم أي شيء هذا القول الذي تقولونه? وما سبب ضعفكم ومرضكم فقالوا لنا من أنتم فقلنا لهم نحن ضيوف، قالوا لنا ما الذي أوقعكم في يد هذا الملعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا غول يأكل بني آدم وقد أعمانا ويريد أن يأكلنا، فقلنا لهم كيف أعماكم هذا الغول فقالوا لنا: في هذا الوقت يعميكم مثلنا، فقلنا لهم وكيف يعمينا فقالوا لنا إنه يأتيكما بأقداح من اللبن ويقول لكم: أنتم تعبتم من السفر فخذوا هذا اللبن واشربوا فحين تشربوا منه تصيروا مثلنا، فقلت في نفسي ما بقي لنا خلاص إلا بحيلة فحفرت حفرة في الأرض وجلست عليها، ثم بعد ساعة دخل الملعون الغول علينا ومعه أقداح من اللبن، فناولني قدحاً وناول من معي كل واحد قدحاً وقال لنا أنتم جئتم من البر عطاشاً فخذوا هذا اللبن واشربوا منه حتى أشوي لكم اللحم، فأما أنا فأخذت القدح وقربته من فمي ودلقته في الحفرة وصحت آه قد راحت عيني وعميت وأمسكت عيني بيدي وصرت أبكي وأصيح وهو يضحك ويقول لا تخف وأما الاثنان رففقاي فإنهما شربا اللبن فعميا فقام الملعون من وقته وساعته وهو يسعى خلفي، فقلت للعميان الذين عنده: كيف العمل مع هذا الملعون? فقال واحد منهم يا ساعد انهض واصعد إلى هذه الطاقة تجد فيها سيفاً صقيلاً فخذه وتعال عندي حتى أقول لك كيف تعمل فصعدت إلى الطاقة وأخذت السيف، وأتيت عند ذلك الرجل فقال خذه واضربه في وسطه فإنه يموت في الحال، فقمت وجريت خلفه وقد تعب من الجري فجاء إلى العميان ليقتلهم، فجئت إليه وضربته بالسيف في وسطه فصار نصفين، فصاح علي وقال لي يا رجل حيث أردت قتلي فاضربني ضربة ثانة فهممت أن أضربه ضربة ثانية، فقال الذي دلني على السيف لا تضربه ضربة ثانية فإنه لا يموت بل يعيش ويهلكنا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثلاثون بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ساعداً قال لما ضربت الغول بالسيف قال لي يا رجل حيث ضربتني وأردت قتلي فاضربني ضربة ثانية، فهممت أن اضربه، فقال لي الذي دلني على السيف لا تضربه ضربة ثانية، فإنه لا يموت بل يعيش ويهلكنا فامتثلت أمر ذلك الرجل ولم أضربه، فمات الملعون فقال لي الرجل، قم افتح المغارة ودعنا نخرج منها لعل الله يساعدنا ونستريح من هذا الموضع فقلت له ما بقي علينا ضرر، ثم إننا تزودنا من الجزيرة بشيء من الفواكه التي فيها، ثم نزلنا المركب وسار بنا في ريح طيبة مدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك سارت علينا ريح وازداد ظلام الجو، فما كان غير ساعة واحدة حتى جذبت الريح المركب في جبل فانكسر وتمزقت ألواحه فقد الله العظيم أني تعلقت بلوح منه فركبته فسار بي يومين، وقد أتت بي ريح طيبة فسرت فوق اللوح أقذف برجلي ساعة زمانية حتى أوصلني الله تعالى إلى البر بالسلامة فطلعت إلى هذه المدينة وقد صرت غريباً فريداً وحيداً لا أدري ما أصنع وقد أضرني الجوع وحصل لي الجهد الأكبر، فأتيت إلى سوق المدينة وقد تواريت وقلعت القباء وقلت في نفسي أبيعه وآكل بثمنه حتى يقضي الله ما هو قاض ثم إني يا أخي أخذت القباء في يدي والناس ينظرونه ويتزايدون في ثمنه حتى أتيت أنت ونظرتني وأمرت بي إلى القصر فأخذني الغلمان وسجنوني ثم إنك تذكرتني بعد هذه المدة فأحضرتني عندك وقد أخبرتك بما جرى لي والحمد لله على الاجتماع.
فلما سمع سيف الملوك، وتاج الملوك أبي دولة خاتون حديث الوزير ساعد تعجبا من ذلك عجباً شديداً وقد أعد تاج الملوك أبو دولة خاتون مكاناً مليحاً لسيف الملوك وأخيه وصارت دولة خاتون تأتي لسيف الملوك وتتحدث معه وتشكره على إحسانه فقال الوزير ساعد: أيتها الملكة المراد منك المساعدة على بلوغ غرضه، فقالت نعم أسعى في مراده حتى يبلغ مراده إن شاء الله تعالى ثم التفت إلى سيف الملوك وقالت له طب نفساً وقر عيناً. هذا ما كان من أمر سيف الملوك ووزيره ساعد.
وأما ما كان من أمر الملكة بديعة الجمال، فإنها وصلت إليها الأخبار برجوع أختها دولة خاتون إلى أبيها ومملكتها فقالت لابد من زيارتها والسلام عليها في زينة بهية وحلي وحلل فتوجهت إليها، فلما قربت من مكانها قابلتها الملكة دولة خاتون وسلمت عليها، وعانقتها وقبلتها بين عينيها وهنتها الملكة بديعة الجمال باسلامة ثم جلستا تتحدثان، فقالت بديعة الجمال لدولة خاتون أي شيء جرى لك في الغربة، فقالت دولة خاتون يا أختي لا تسأليني جرى لي من الأمور يا ما تقاسي الخلائق من الشدائد فقالت لها بديعة الجمال وكيف ذلك? قالت: يا أختي إني كنت في القصر المشيد وقد احتوى على فيه ابن الملك الأزرق ثم حدثنا ببقية الحديث من أوله إلى آخره وحديث سيف الملوك وما جرى له في القصر وما قاسى من الشدائد والأهوال حتى وصل إلى القصر المشيد وكيف قتل ابن الملك الأزرق، وكيف قلع الأبواب وجعلها فلكاً لها مجاذف وكيف دخل إلى ههنا فتعجبت بديعة الجمال ثم قالت: والله يا أختي إن هذا من أغرب الغرائب فقالت دولة خاتون: أريد أن أخبرك بأصل حكايته لكن يمنعني الحياء من ذلك فقالت لها بديعة الجمال: ما سبب الحياء وأنت أختي ورفيقتي وبيني وبينك شيء كثير، وأنا أعرف أنك ما تطلبين إلا الخير فمن أي شيء تستحين مني فأخبريني بما عندك ولا تستحي مني ولا تخفي عني شيئاً من ذلك، فقالت لها دولة خاتون: إن صورتك في القباء الذي ارسله أبوك إلى سليمان بن داود عليه السلام، فلم يفتحه ولم ينظر ما فيه بل أرسله إلى الملك عاصم بن صفوان ملك مصر في جملة الهدايا والتحف التي أرسلها إليه والملك عاصم أعطاه لولده سيف الملوك قبل أن يفتحه، فلما أخذه سيف الملوك فتحه وأراد أن يلبسه رأى فيه صورتك فعشقها وخرج في طلبك وقاسى هذه الشدائد كلها من أجلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن دولة خاتون أخبرت بديعة الجمال بأصل محبة سيف الملوك لها وعشقه إياها، وإن سببها القباء الذي فيه صورتها وحين عاين الصورة خرج من ملكه هائماً وغاب عن أهله من أجلها وقالت لها: إنه قاسى من الأهوال ما قاساه من أجلك، فقالت بديعة الجمال وقد احمر وجهها وخجلت من دولة خاتون: إن هذا شيء لا يكون أبداً، فإن الإنس لا يتفقون مع الجان فصارت دولة خاتون تصف لها سيف الملوك وحسن صورته وسيرته وفروسيته ولم تزل تثني عليه وتذكر لها حتى قالت: يا أختي لأجل الله تعالى ولأجلي تحدثي معه ولو كلمة واحدة، فقالت بديعة الجمال: إن هذا الكلام الذي تقولينه لا أسمعه ولا أطيعك فيه وكأنها لم تسمع منها شيئاً ولم يقع في قلبها شيء من محبة سيف الملوك وحسن صورته وسيرته وفروسيته ثم إن دولة خاتون صارت تتضرع لها وتقبل رجليها وتقول: يا بديعة الجمال بحق اللبن الذي رضعناه أنا وأنت وبحق النقش الذي على خاتم سليمان عليه السلام أن تسمعي كلامي هذا فإني تكفلت له في القصر المشيد بأني أريه وجهك فبالله عليك أن تريه صورتك مرة واحدة لأجل خاطري وأنت الأخرى تنظرينه وصارت تبكي لها وتتضرع إليها وتقبل يديها ورجليها حتى رضيت وقالت: لأجلك أريه وجهي مرة واحدة، فعند ذلك طاب قلب دولة خاتون وقبلت يديها ورجليها وخرجت وجاءت إلى القصر الأكبر الذي في البستان وأمرت الجواري أن يفرشنه وينصبن فيه تختاً من الذهب، ويجعلن أواني الشراب مصفوفة، ثم إن دولة خاتون قامت ودخلت على سيف الملوك وساعد وزيره وهما جلسان في مكانيهما وبشرت سيف الملوك ببلوغ اربه وحصول مراده وقالت له: توجه إلى البستان أنت وأخوك وادخلا القصر واختفيا عن أعين الناس بحيث لا ينظركما أحد ممن في القصر حتى أجيء أنا وبديعة الجمال.
فقام سيف الملوك وساعد وتوجها إلى المكان الذي دلتهما عليه دولة خاتون فلما دخلاه رأيا تختاً من الذهب منصوباً وعليه الوسائد وهناك الطعام والشراب فجلسا ساعة من الزمان، ثم إن سيف الملوك تذكر معشوقته فضاق صدره وهاج عليه الشوق والغرام، فقام ومشى حتى خرج من دهليز القصر فتبعه أخوه ساعد فقال له: يا أخي اقعد أنت مكانك ولا تتبعني حتى أجيء إليك، فقعد ساعد ونزل سيف الملوك ودخل البستان وهو سكران من خمر الغرام وحيران من فرط العشق والهيام وقد هزه الشوق وغلب عليه الوجد.
ثم اجتمع سيف الملوك وساعد أخوه وصارا يتفرجان في البستان ويأكلان من الفواكه. هذا ما كان من امر ساعد وسيف الملوك، وأما ما كان من أمر دولة خاتون فإنها لما أتت هي وبديعة الجمال إلى القصر دخلتا فيه بعد أن أتحفته الخدام بأنواع الزينة وفعلوا فيه جميع ما أمرتهم به دولة خاتون وقد أعدوا لبديع الجمال تختاً من الذهب لتجلس عليه، فلما رأت بديعة الجمال ذلك التخت جلست عليه وكان بجانبها طاقة تشرف على البستان وقدا أتت الخدام بأنواع الطعام الفاخرة فأكلت بديعة الجمال هي ودولة خاتون وصارت دولة خاتون تلقمها حتى اكتفت ثم دعت بأنواع الحلويات فأحضرتها الخدام وأكلتا منها بحسب الكفاية وغسلتا أيديهما، ثم إنها هيأت الشراب وآلات المدام وصفت الأباريق والكاسات وصارت دولة خاتون تملأ وتسقي بديعة الجمال ثم تملأ الكأس وتشرب هي ثم إن بديعة الجمال نظرت من الطاقة التي بجانبها إلى ذلك البستان ورأت ما فيه من الأثمار والأغصان، فلاحت منها التفاتة إلى جهة سيف الملوك ينشد الأشعار وهو يذري الدموع الغزار، فلما نظرته نظرة أعقبتها تلك النظرة ألف حسرة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بديعة الجمال لما رأت سيف الملوك وهو دائر في البستان نظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة فالتفتت إلى دولة خاتون وقد لعب الخمر بأعطافها وقالت لها يا أختي من هذا الشاب الذي أراه في البستان وهو حائر ولهان كئيب فقالت لها دولة خاتون هل تأذنين في حضوره عندنا حتى نراه قالت لها إن أمكنك أن تحضريه فاحضريه فعند ذلك نادته دولة خاتون وقالت له يا ابن الملك اصعد إلينا واقدم بحسنك وجمالك علينا فعرف سيف الملوك صوت دولة خاتون فصعد إلى القصر، فلما وقع نظره على بديعة الجمال خر مغشياً عليه، فرشت عليه دولة خاتون قليلاً من ماء الورد فأفاق من غشيته ثم نهض وقبل الأرض قدام بديعة الجمال فبهتت من حسنه وجماله وقالت دولة خاتون: اعلمي أيتها الملكة أن هذا سيف الملوك الذي كانت نجاتي بقدرة الله على يديه وهو الذي جرى عليه كامل المشقات من أجلك وقصدي أن تشمليه بنظرك، فقامت بديعة الجمال وقد ضحكت وقالت من بقي بالعهود حتى بقي بها هذا الشاب لأن الانس ليس لهم مودة فقال سيف الملوك أيتها الملكة إن عدم الوفاء لا يكون عندي أبداً وما كل الخلق سواء.
فقالت له بديعة الجمال يا ابن الملك إني أخاف أن أقبل عليك بالكلية فلا أجد منك ألفة ولا محبة فإن الانس ربما كان خيرهم قليلاً وغدرهم جليلاً واعلم أن السيد سليمان بن داود عليهما السلام أخذ بلقيس بالمحبة، فلما رأى غيرها أحسن منها أعرض عنها فقال لها سيف الملوك يا عيني ويا روحي ما خلق الله كل الانس سواء وأنا إن شاء الله أفي بالعهد وأموت تحت أقدامك وسوف تبصرين ما أفعل موافقاً لما أقول والله على ما أقول وكيل، فقالت له بديعة الجمال اقعد واطمئن واحلف لي على قدر دينك ونتعاهد على أننا لا نخون بعضنا ومن خان صاحبه ينتقم الله تعالى منه فلما سمع سيف الملوك منها ذلك الكلام قعد ووضع كل منهما يده في يد صاحبه وتحالفا أن كلاً منهما لا يختار على احبه أحد من الانس ولا من الجن ثم إنهما تعانقا ساعة زمانية وتباكيا من شدة فرحهما.
وبعد أن تحالفت بديعة الجمال هي وسيف الملوك قام سيف الملوك يمشي وقامت بديعة الجمال تمشي أيضاً ومعها جاريتها حالمة شيئاً من الأكل وقنينة ملآنة خمراً ثم قعدت بديعة الجمال ووضعت الجارية بين يديها الأكل والمدام فلم تمكثها غير ساعة إلا وسيف الملوك قد أقبل فلاقته بالسلام وتعانقا وقعدا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بديعة الجمال لما أحضرت الطعام والشراب وجاء سيف الملوك فلاقته بالسلامة ثم قعدا يأكلان ويشربان مدة ساعة، فقالت بديعة الجمال يا ابن الملك إذا دخلت بستان ارم ترى خيمة كبيرة منصوبة وهي من أطلس أحمر وبطانتها من حرير أخضر فادخل الخيمة وقو قلبك فإنك ترى عجوزاً جالسة على تخت من الذهب الأحمر مرصع بالدر والجواهر فإذا دخلت فسلم عليها بأدب واحتشام وانظر إلى جهة التخت تجد تحته نعالاً منسوجة بقضبان الذهب مزركشة بالمعادن فخذ تلك النعل وقبلها وضعها على رأسك، ثم حطها تحت إبطك اليمين وقف قدام العجوز وأنت ساكت مطرق الرأس فإذا سألتك وقالت لك من أين جئت، وكيف وصلت إلى هنا ومن عرفك هذا المكان? ومن شأن أي شيء أخذت هذه النعال فاسكت أنت حتى تدخل جاريتي هذه، وتتحدث معها وتستعطفها عليك وتسترضي خاطرها بالكلام، لعل الله تعالى يعطف قلبها عليك وتجيبك ما تريد، ثم إنها نادت الجارية وكان اسمها مرجانة وقالت لها بحق محبتي أن تقضي هذه الحاجة في هذا اليوم ولا تتهاوني في قضيتها في هذا اليوم فأنت حرة لوجه الله تعالى، ولك الإكرام ولا يكون عندي أعز منك ولا أظهر سري إلا عليك، فقالت يا سيدتي ونور عيني قولي لي ما حاجتك حتى أقضيها لك على رأسي وعيني، فقالت لها أن تجعلي هذا الأنسي على أكتافك وتوصليه إلى بستان ارم عند جدتي أم أبي، وتوصليه إلى خيمتها وتحتفظي عليه، وإذا دخلت الخيمة أنت وإياه ورأيته أخذ النعال وخدمها وقالت له من أين أنت ومن أي طريق أتيت ومن أوصلك إلى هذا المكان، ومن أي شيء أخذت هذه النعال وأي شيء حاجتك حتى أقضيها لك، فعند ذلك ادخلي بسرعة وسلمي عليها وقولي لها، يا سيدتي أنا التي جئت به هنا وهو ابن ملك مصر وهو الذي راح إلى القصر المشيد وقتل ابن الملك الأزرق وخلص الملكة دولة خاتون وأوصلها إلى أبيها سالمة، وقد أوصلته إليك لأجل أن يخبرك ويبشرك بسلامتها فتنعمي عليه، ثم بعد ذلك قولي لها بالله عليك يا سيدتي أما هذا الشاب مليح يا سيدتي فتقول نعم فعند ذلك قولي لها يا سيدتي إ،ه كامل العرض والمروءة والشجاعة وهو صاحب مصر وملكها، وقد حوى سائر الخصال الحميدة فإذا قالت لك أي شيء حاجته فقولي لها سيدتي تسلم عليك، وتقول لك إلى متى هي قاعدة في البيت عازبة بلا زواج فقد طالت عليها المدة فما مرادكم بعدم زواجها ولأي شيء ما تزوجينها في حياتك وحياة أمها مثل البنات فإذا قالت لك وكيف نعمل في زواجها فإن كانت هي تعرف أحداً ووقع في خاطرها أحد تخبرنا عنه، ونحن نعمل لها على مرادها على غاية ما يمكن.
فعند ذلك قولي لها يا سيدتي إن ابنتك تقول لك إنكم كنتم تريدون تزويجي بسليمان عليه السلام وصورتم له صورتي في القباء، فلم يكن له نصيب في وقد أرسله إلى ملك مصر فأعطاه لولده فرأى صورتي منقوشة فيه، فعشقني وترك ملك أبيه وأمه وأعرض عن الدنيا وما فيها، وخرج هاجعاً في الدنيا على وجهه وقاسى أكبر الشدائد والأهوال من أجلي.
ثم إن الجارية حملت سيف الملوك وقالت له غمض عينيك ففعل، فطارت به إلى الجو ثم بعد ساعة قالت يا ابن الملك افتح عينيك ففتح فنظر البستان وهو بستان ارم، فقالت له مرجانة ادخل يا سيف الملوك هذه الخيمة فذكر الله ودخل ومد عينيه بالنظر في البستان فرأى العجوز قاعدة على التخت وفي خدمتها الجواري فقرب منها بأدب واحتشام وأخذ النعال وقبلها وفعل ما وصفته له بديعة الجمال، فقالت له العجوز من أنت ومن أين جئت ومن أين أقبلت ومن أي البلاد أنت ومن جاء بك إلى هذا المكان ولأي شيء أخذت هذه النعال وقبلتها ومتى قلت لي حاجة ولم أقضها لك، فعند ذلك دخلت الجارية مرجانة وسلمت عليها بأدب واحتشام، ثم تحدثت جارية بديعة الجمال الذي قالته لها، فلما سمعت العجوز هذا الكلام صرخت عليها واغتاظت منها وقالت من أين يحصل بين الإنس والجن اتفاق.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما سمعت الكلام من الجارية اغتاظت وقالت من أين للانس مع الجن اتفاق، فقال سيف الملوك أنا أتفق معها وأكون غلامها وأموت على حبها وأحفظ عهدها ولا أنظر غيرها وسوف تنظرين صدقي وعدم كذبي وحسن مروءتي معها إن شاء الله تعالى، ثم إن العجوز تفكرت ساعة زمانية وهي مطرقة رأسها، ثم رفعت رأسها وقالت أيها الشاب هل تحفظ العهد والميثاق فقال لها نعم وحق من رفع السماء وبسط الأرض على الماء إني أحفظ العهد فعند ذلك قالت العجوز أنا أقضي لك حاجتك إن شاء الله تعالى ولكن رح في هذه الساعة إلى البستان وتفرج فيه وكل من الفواكه التي لا نظير لها ولا في الدنيا مثلها، حتى أبعث إلى ولدي شهيال فيحضر وأتحدث معه في شأن ذلك وأزوجك بنته بديعة الجمال، فطب نفساً فإنها تكون زوجة لك يا سيف الملوك، فلما سمع منها ذلك الكلام شكرها وقبل يديها ورجليها وخرج من عندها متوجهاً إلى البستان، وأما العجوز فإنها التفتت إلى تلك الجارية وقالت لها اطلعي فتمشي على ولدي شهيال وانظريه في أي الأقطار والأماكن وأحضريه عندي فراحت الجارية وفتشت على الملك شهيال فاجتمعت به وأحضرت عند أمه هذا ما كان من أمرها.
وأما ما كان من أمر سيف الملوك فإنه صار يتفرج في البستان، وإذا بخمسة من الجن وهم من قوم الملك الأزرق قد نظروه، فقالوا من أين هذا ومن جاء به إلى هذا المكان ولعله الذي قتل ابن الملك الأزرق، ثم قالوا لبعضهم إننا نحتال عليه بحيلة ونسأله ونستخبر منه، ثم صاروا يتمشون قليلاً قليلاً إلى أن وصلوا إلى سيف الملوك في طرف البستان، وقعدوا عنده وقالوا له أيها الشاب المليح ما قصرت في قتل ابن الملك الأزرق وخلاص دولة خاتون منه فإنه كلب غدار قد مكر بها ولولا أن قيضك لها ما خلصت أبداً وكيف قتلته فنظر إليهم سف الملوك وقال لهم قد قتلته بهذا الخاتم الذي في إصبعي فثبت عندهم أنه هو الذي قتله فقبض اثنان على يديه واثنان على رجليه والآخر على فمه حتى لا يصيح فيسمعه قوم الملك شهيال فينقذونه من أيديهم، ثم إنهم حملوه وطاروا به، ولم يزالوا طائرين حتى نزلوا عند ملكهم وأوقفوه بين يديه وقالوا يا ملك الزمان قد جئناك بقاتل ولدك، فقال وأين هو قالوا هذا فقال له الملك الأزرق هل قتلت ولدي وحشاشة كبدي ونور بصري بغير حق وبغير ذنب فعله معك فقال له سيف الملوك نعم أنا قتلته ولكن لظلمه وعدوانه لأنه كان يأخذ أولاد الملوك ويذهب بهم إلى بئر المعطلة والقصر المشيد ويفرق بينهم وبين أهليهم ويفسق فيهم، وقتلته بهذا الخاتم الذي في إصبعي وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فثبت عند الملك الأزرق أن هذا هو قاتل ولده بلاشك، فعند ذلك دعا وزيره وقال له هذا قاتل ولدي ولا محالة من غير شك فماذا تشير في أمره فهل أقتله اقبح قتلة وأعذبه أصعب عذاب أو كيف أعمل فقال الوزير الأكبر اقطع منه عضواً، وقال آخر اضربه كل يوم ضرباً شديداً، وقال آخر اقطعوا وسطه، وقال آخر اقطعوا أصابعه جميعاً واحرقوها بالنار، وقال آخر اصلبوه، وصار كل واحد منهم يتكلم بحسب رأيه، وكان عبد الملك الأزرق أمير كبي له خبرة بالأمور ومعرفة بأحوال الدهور فقال له يا ملك الزمان إني أقول لك كلاماً والرأي لك في سماع ما أشير به عليك وكان هو مشير مملكته ورئيس دولته وكان الملك يسمع كلامه ويعمل برأيه ولا يخالفه في شيء فقام على قدميه وقبل الأرض بين يديه وقال له يا ملك الزمان إذا أشرت عليك برأي في شأن هذا الأمر هل تتبعه وتعطيني الأمان فقال له الملك بين رأيك وعليك الأمان.
فقال يا ملك إن أنت قتلت هذا ولم تقبل نصحي ولم تعقل كلامي فإن قتله في هذا الوقت غير صواب لأنه تحت يدك وفي حماك وأسيرك ومتى طلبته وجدته وتفعل به ما تريد، فاصبر يا ملك الزمان فإن هذا قد دخل بستان ارم وتزوج بديعة الجمال بنت الملك شهيال وصار منهم واحد وجماعتك قبضوا عليه وأتوا به إليك وما أخفى حلاه منهم ولا منك، فإذا قتلته فإن الملك شهيال يطلب ثأره منك ويعاديك ويأتيك بالعسكر من أجل بنته ولا مقدرة لك على عسكره وليس لك به طاقة فسمع منه ذلك وأمر بسجنه هذا ما جرى لسيف الملوك.
وأما ما كان من أمر جدة بديعة الجمال فإنها لما اجتمعت بولدها شهيال أرسلت الجارية تفتش على سيف الملوك فلم تجده، فرجعت إلى سيدتها وقالت ما وجدته في البستان فأرسلت إلى عمال البستان وسألتهم عن سيف الملوك، فقالوا نحن رأيناه قاعداً تحت شجرة، وإذا بخمسة أشخاص من جماعة الملك الأزرق نزلوا عنده وتحدثوا معه ثم إنهم حملوه وسدوا فمه وطاروا به وراحوا، فلما سمعت دجدة بديعة الجمال ذلك الكلام لم يهن عليها واغتاظت غيظاً شديداً وقامت على أقدامها وقالت لابنها الملك شهيال كيف تكون ملكاً وتجيء جماعة الملك الأزرق إلى بستاننا ويأخذون ضيفنا ويروحون به سالمين وأنت بالحياة وصارت تحرضه وتقول لا ينبغي أن يتعدى علينا أحد في حياتك، فقال لها يا أمي إن هذا الانسي قتل ابن الملك الأزرق وهو جني فرماه الله في يده فكيف أذهب إليه وأعاديه من أجل الانسي فقالت له أمه اذهب إليه واطلب منه ضيفنا فإن كان بالحياة وسلمه إليك فخذه وتعال، وإن كان قتله فأمسك الملك بالحياة وأولاده وحريمه وكل من يلوذ به من أتباعه وائتني بهم بالحياة حتى أذبحهم بيدي وأخرب دياره، وإن لم تفعل ما أمرتك به لا أجعلك من حل من لبني والتربية التي ربيتها لك تكون حراماً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت لابنها شهيال اذهب إلى الملك الأزرق وانظر سيف الملوك فإن كان باقياً بالحياة فهاته وتعال وإن كان قتله فأمسكه هو وأولاده وحريمه وكل من يلوذ به، وائتني بهم بالحياة حتى أذبحهم بيدي وأخرب ملكه، وإن لم تذهب إليه وتفعل ما أمرتك به فلا أجعلك في حل من لبني وتكون تربيتك حراماً، فعند ذلك قام الملك شهيال وأمر عسكره بالخروج، وتوجه إليه كرامة لأمه ورعاية لخاطرها وخواطر أحبابها ولأجل شيء كان مقدراً في الأزل، ثم إن شهيال سافر بعسكره ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى الملك الأزرق، وتلاقى العسكران فانكسر الملك الأزرق هو وعسكره وأمسكوا أولاده كباراً وصغاراً وأرباب دولته وأكابرها وربطوهم وأحضروهم بين يدي الملك شهيال، فقال له يا أزرق أين سيف الملوك الأنسي الذي هو ضيفي.
فقال له المكل الأزرق يا شهيال أنت جني وأنا جني وهل لأجل انسي قتل ولدي تفعل هذه الفعال وهو قاتل ولدي وحشاشة كبدي وكيف عملت هذه الأعمال كلها وأهرقت دم كذا وكذا ألف جني فقال له خل عنك هذا الكلام فإن كان هو بالحياة فأحضره، وأنا أعتقك وأعتق كل من قبضت عليه من أولادك وإن كنت قتلته فأنا أذبحك أنت وأولادك، فقال له الملك الأزرق يا ملك هل هذا أعز عليك من ولدي، فقال له الملك شهيال وإن ولدك ظالم لكونه يخطف أودلا الناس وبنات الملوك، ويضعهم في القصر المشيد والبئر المعطلة ويفسق فيهم، فقال له الملك الأزرق إنه عندي ولكن أصلح بيننا وبينه فأصلح بينهم وخلع عليهم وكتب بين الملك الأزرق وبين سيف الملوك حجة من جهة قتال ولده وتسلمه شهيال وضيفهم ضيافة مليحة، وأقام الملك الأزرق عنده هو وعسكره ثلاثة أيام، ثم أخذ سيف الملوك وأتى إلى أمه ففرحت به فرحاً شديداً وتعجب شهيال من حسن سيف الملوك وكماله وجماله وحكى له سيف الملوك حكايته من أولها إلى آخرها وما وقع له مع بديعة الجمال ثم إن الملك شهيال قال يا أمي حيث رضيت أنت وهي بذلك فسمعاً وطاعة لكما أمر فيه رضاك فخذيه وروحي به إلى سردنيب واعملي هناك فرحاً عظيماً، فإنه شاب مليح قاسى الأهوال من أجلها، ثم إنها سافرت هي وجواريها إلى أن وصلن إلى سردنيب ودخلن البستان الذي رأته دولة خاتون ونظرته بديعة الجمال بعد أن مضين إلى الخيمة واجتمعن وحدثتهن العجوز بما جرى من الملك الأزرق وكيف كان أشرف على الموت في سجن الملك الأزرق وليس في الإعادة إفادة، ثم إن الملك سيف الملوك قال له يا ملك العفو أنا أطلب منك حاجة وأخاف أن تردني عنها خائباً.
فقال له تاج الملوك لو طلبت روحي ما منعتها عنك لما فعلت من الجميل فقال سيف الملوك أريد أن تزوج دولة خاتون بأخي ساعد حتى نصير كلنا غلمانك فقال تاج الملوك سمعاً وطاعة ثم إنه جمع أكابر دولته ثاني وعقد عقد ابنته خاتون على ساعد ولما خلصوا من كتب الكتاب نثروا الذهب والفضة وأمر أن يزينوا المدينة، ثم أقاموا الفرح ودخل سيف الملوك على بديعة الجمال ودخل ساعد على دولة خاتون في ليلة واحدة ولم يزل سيف الملوك يختل ببديعة الجمال أربعين يوماً فقالت له في بعض الأيام يا ابن الملك هل في قلبك حسرة على شيء، فقال سيف الملوك حاشى لله قد قضيت حاجتي وما بقي في قلبي حسرة أبداً ولكن قصدي الاجتماع بأبي وأمي بأرض مصر وانظر هل هما طيبين أم لا فأمرت جماعة من خدمها أن يوصلوه هو وساعد إلى أرض مصر، فوصلوها واجتمع سيف الملوك بأبيه وأمه وكذلك ساعد وقعدا عندهم جمعة ثم إن كلاً منهما ودع أباه وأمه وسارا إلى مدينة سردنيب وصارا كلما اشتاقا إلى أهلهما يروحان ويرجعان وعاش سيف الملوك هو وبديعة الجمال في أطيب عيش وأهنأه وكذا ساعد مع دولة خاتون إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات فسبحان الحي الذي لا يموت وقد خلق الخلق وقضى عليهم بالموت وهو أولا بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء.

حكاية حسن الصائغ البصري

ومما يحكى أيضاً أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجل تاجر من التجار مقيم بأرض البصرة وكان ذلك التاجر له ولدان ذكران وكان عنده مال كثير فقدر الله السميع العليم أن التاجر توفي إلى رحمة الله تعالى وترك تلك الأموال فأخذ ولداه في تجهيزه ودفنه. وبعد ذلك اقتسما الأموال بينهما بالسوية وأخذ كل واحد منهما قسمة وفتحا لهما دكاكين أحدهما نحاس والثاني صائغ فبينما الصائغ جالس في دكانه يوماً من الأيام إذا برجل أعجمي ماشي في السوق بين الناس إلى أن مر على دكان الولد الصائغ فنظر إلى صنعته وتأملها بمعرفته فأعجبته وكان اسم الصائغ حسناً فهز الأعجمي رأسه وقال والله إنك صائغ مليح وصار ينظر إلى صناعته وهو ينظر إلى كتاب عتيق كان بيده والناس مشغولين بحسنه وجماله واعتداله، فلما كان وقت العصر خلت الدكاكين من الناس، فعند ذلك أقبل الرجل الأعجمي عليه وقال له يا ولدي أنت شاب مليح وأنا ما لي ولد وقد عرفت صنعة ما في الدنيا أحسن منها وقد سألني خلق كثير من الناس في شأن تعليمها فما رضيت أن أعلمها أحداً منهم، ولكن قد سمحت نفسي أعلمك إياها وأجعلك ولدي واجلع بينك وبين الفقر حجاباً وتستريح من هذه الصنعة والتعب في المطرقة والفحم والنار فقال له حسن يا سيدي ومتى تعلمني، فقال له في غد آتيك وأصنع لك من النحاس ذهباً خالصاً بحضرتك ففرح حسن وودع الأعجمي وسار إلى والدته فدخل وسلم عليها وأكل معها وهو مدهوش بلا وعي ولا عقل فقالت أمه ما بالك يا ولدي إحذر أن تسمع كلام الناس خصوصاً الأعاجم فلا تطاوعهم في شيء فإن هؤلاء غشاشون يعلمون صنعة الكيمياء وينصبون على الناس ويأخذون أموالهم ويأكلونها بالباطل.
فقال لها يا أمي نحن ناس فقراء وما عندنا شيء يطمع فيه حتى ينصب علينا وقد جاءني رجل أعجمي لكنه شيخ صالح عليه أثر الصلاح وقد حننه الله علي فسكتت أمه على غيظ وصار ولدها مشغول القلب ولم يأخذه نوم في تلك الليلة من شدة فرحه بقول الأعجمي له فلما أصبح الصباح وأخذ المفاتيح وفتح الدكان، وإذا بالأعجمي أقبل عليه فقام وأراد حسن أن يقبل يديه فامتنع ولم يرض بذلك وقال يا حسن عمر البودقة وركب الكير، ففعل ما أمره به الأعجمي وأوقد الفحم فقال له الأعجمي يا ولدي هل عندك نحاس قال عندي طبق مكسور فأمره أن يتكيء عليه بالكاز ويقطعه قطعاً صغاراً ففعل كما قال له وقطعه قطعاً صغاراً ورماه في البودقة ونفخ عليه بالكير حتى صار ماء فمد الأعجمي يده إلى عمامته وأخرج منها ورقة ملفوفة وفتحها وذر منها شيئاً في البودقة مقدار نصف درهم وذلك الشيء يشبه الكحل الأصفر وأمر حسناً أن ينفخ عليه بالكير ففعل مثل ما أمره حتى صار سبيكة ذهب، فلما نظر حسن إلى ذلك اندهش وتحير عقله من الفرح الذي حصل له وأخذ السبيكة وقبلها وأخذ المبرد وحكها فرآها ذهباً خالصاً من عال العال فطار عقله واندهش من شدة الفرح، ثم انحنى على يد الأعجمي ليقبلها فقال له: خذ هذه السبيكة وانزل بها إلى السوق وبعها واقبض ثمنها سريعاً ولا تتكلم فنزل حسن وأعطى السبيكة إلى الدلال فأخذها منه وحكها فوجدها ذهباً خالصاً ففتحوا بابها بعشرة آلاف درهم وقد تزايد فيها التجار فباعها بخمسة عشر ألف درهم وقبض ثمنها ومضى إلى البيت وحكى لأمه جميع ما فعل وقال إني قد تعلمت هذه الصنعة، فضحكت عليه وقالت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً الصائغ لما حكى لأمه ما فعل الأعجمي وقال لها إني قد تعلمت هذه الصنعة قالت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وسكتت على غيظ منها ثم إن حسناً أخذ من جهته هاوناً وذهب به إلى الأعجمي وهو قاعد في الدكان ووضعه بين يديه فقال له يا ولدي ما تريد أن تصنع بهذا الهون قال ندخله في النار ونفعله سبائك ذهب، فضحك الأعجمي وقال يا ولدي هل أنت مجنون حتى تنزل السوق بسبيكتين في يوم واحد ما تعلم أن الناس ينكرون علينا وتروح علينا، ولكن يا ولدي إذا علمتك هذه الصنعة لا تعملها في السنة إلا مرة واحدة فهي تكفيك من السنة إلى السنة قال صدقت يا سيدي ثم إنه قعد في الدكان وركب في البودقة ورمى الفحم على النار فقال له الأعجمي يا ولدي ماذا تريد قال علمني هذه الصنعة، فضحك الأعجمي وقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أنت يا ابني قليل العقل ما تصلح لهذه الصنعة قط هل أحد في عمره يتعلم هذه الصنعة على قارعة الطريق أو في الأسواق فإن اشتغلنا بها في هذا المكان يقول الناس علينا إن هؤلاء يصنعون الكيمياء فتسمع بنا الحكام وتروح أرواحنا فإذا أردت يا ولدي أن تتعلم هذه فاذهب معي إلى بيتي، فقام حسن وأغلق الدكان وتوجه مع الأعجمي فبينما هو في الطريق غذ تذكر قول أمه وحسب في نفسه ألف حساب فوقف وأطرق برأسه إلى الأرض ساعة زمانية فالتفت الأعجمي فرآه واقفاً فضحك وقال هل أنت مجنون كيف أضمر لك في قلبي الخير وأنت تحسب أني أضرك وقال له الأعجمي إن كنت خائفاً من ذهابك معي إلى بيتي فأنا أروح معك إلى بيتك وأعلمك هناك فقال له حسن نعم فقال له امش قدامي فسار حسن قدامه وسار الأعجمي خلفه إلى أن وصل الأعجمي إلى منزله فدخل حسن إلى داره فوجد والدته فأعلمها بحضور الأعجمي معه وهو واقف على الباب ففرشت لهما البيت ورتبته.
فلما فرغت من أمرها راحت ثم إن حسناً أذن للأعجمي أن يدخل فدخل ثم إن حسناً أخذ في يده طبقاً وذهب به إلى السوق ليجيء فيه بشيء يأكله فخرج وجاء بأكل وأحضره بين يديه وقال له كل يا سيدي لأجل أن يصير بيننا خبز وملح والله تعالى ينتقم ممن يخون الخبز والملح.
فقال له صدقت يا ولدي ثم تبسم وقال له يا ولدي من يعرف قدر الخبز والملح ثم تقدم الأعجمي وأكل مع حسن حتى اكتفيا، ثم قال له الأعجمي يا ولدي يا حسن هات لنا شيئاً من الحلوى فمضى حسن إلى السوق وأحضر عشر قباب الحلوى وفرح حسن بكلام الأعجمي، فلما قدم خيراً يا ولدي مثلك من يصاحبه الناس ويظهرونه على أسرارهم ويعلمونه ما ينفعه ثم قال الأعجمي يا حسن أحضر العدة، فلما سمع هذا الحديث إلا وخرج مثل المهر إذا انطلق من الربيع حتى أتى إلى الدكان وأخذ العدة ورجع ووضعها بين يديه فأخرج الأعجمي قرطاساً من الورق وقال يا حسن وحق الخبز والملح لولا أنت أعز من ولدي ما أطلعتك على هذه الصنعة وما بقي شيء من الإكسير إلا في هذا القرطاس، ولكن تأمل حين أركب العقاقير وأضعها قدامك واعلم يا ولدي يا حسن أنك تضع على كل عشرة أرطال نحاساً نصف درهم من هذا الذي في الورقة فتصير العشرة أرطال ذهباً خالصاً إبريزاً ثم قال يا ولدي يا حسن إن في هذه الورقة ثلاثة أوراق بالوزن المصري وبعد أن يفرغ ما في هذه الورقة اعمل لك غيره فأخذ حسن الورقة فرأى شيئاً أصفر أنعم من الأول فقال يا سيدي ما اسم هذا وأين يوجد وفي أي شيء يعمل فضحك الأعجمي من طمع حسن وقال له عن أي شيء تسأل وأنت ساكت، وأخرج طاسة من البيت واخرج طاسة من البيت اقطعها وألقاها في البودقة ورمى عليها قليل من الذي في الورقة فصارت سبيكة من الذهب الخالص.
فلما رأى حسن ذلك فرح فرحاً شديداً وصار متحيراً في عقله مشغولاً بتلك السبيكة فأخرج صرة من رأسه بسرعة وقطعها ووضعها في قطعة من الحلوى وقال له يا حسن أنت بقيت ولدي وصرت عندي أعز من روحي ومالي وعندي بنت أزوجك بها فقال حسن أنا غلامك ومهما فعلته معي كان عند الله تعالى فقا الأعجمي يا ولدي طول بالك وصبر نفسك يحصل لك الخير ثم ناوله القطعة الحلوى فأخذها وقبل يده ووضعها في فمه وهو لا يعلم ما قدر له في الغيب ثم بلع قطعة الحلوى فسبقت رأسه ورجليه وغاب عن الدنيا فلما رآه الأعجمي وقد حل به البلاء فرح فرحاً شديداً وقام على أقدام وقال وقعت يا علق يا كلب العرب لي أعوام كثيرة أفتش عليك حتى حصلتك يا حسن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً الصائغ لما أكل قطعة الحلوى التي أعطاها له الأعجمي ووقع منها على الأرض مغشياً عليه، فرح الأعجمي وقال له لي أعوام كثيرة وأنا أفتش عليك حتى حصلتك، ثم إن الأعجمي شد وسطه وكتف حسناً وربط رجليه على يديه، وأخذ صندوقاً وأخرج منه الحوائج التي كانت فيه ووضع حسناً فيه وقفله عليه وفرغ صندوقاً آخر وحط فيه جميع المال الذي عند حسن والسبائك الذهب التي عملها أولاً وثانياً وقفله ثم خرج يجري إلى السوق وأحضر حمالاً حمل الصندوق، وتقدم إلى المركب الراسي وكان ذلك المركب مهيأ للأعجمي وريسه منتظر، فلما نظره بحريته أتوا إليه وحملوا الصندوقين ووضعوهما في المركب وصرخ الأعجمي على الريس وعلى جميع البحرية وقال لهم قوموا قد انقضت الحاجة وبلغنا المراد، فصرخ الريس على البحرية قال لهم: أقلعوا المراسي وحلوا القلوع، وصار المركب بريح طيبة هذا ما كان من أمر الأعجمي.
وأما ما كان من أمر أم حسن فإنها انتظرته إلى العشاء، فلم تسمع له صوتاً ولا خبراً فجاءت إلى البيت فرأته مفتوحاً ولم تر فيه أحداً، ولم تجد الصناديق ولا المال، فعرفت أن ولدها قد فقد ونفذ فيه القضاء فلطمت على وجهها وشقت أثوابها وصاحت وولولت وصارت تقول واولداه واثمرة فؤاداه.
ثم إنها صارت تبكي وتنوح إلى الصباح فدخل عليها الجيران وسألوها عن ولدها فأخبرتهم بما جرى له مع العجمي واعتقدت أنها لن تجده بعد ذلك.
ثم قالت نعم يا ولدي إن الدار قفرة والمزار بعيد ثم إن الجيران ودعوها بعد أن دعوا لها بالصبر وجمع الشمل قريباً، ولم تزل أم حسن تبكي أثناء الليل وأطراف النهار، وبنت في وسط البيت قبراً وكتبت عليه اسم حسن وتاريخ فقده وكانت لا تفارق ذلك القبر ولم يزل ذلك دأبها من حين فارقها ولدها، هذا ما كان من أمرها.
وأما ما كان من أمر ولدها حسن مع الأعجمي، فإن الأعجمي كان مجوسياً وكان يبغض المسلمين كثيراً وكلما قدر على أحد من المسلمين يهلكه وهو خبيث لئيم كيماوي كما قال فيه الشاعر:
هو الكلب وابن الكلب والكلب جده                  ولا خير في كلب تناسل من كلب

وكان اسم ذلك الملعون بهرام المجوسي، وكان له في كل سنة واحد من المسلمين يأخذه ويذبحه على مطلب، فلما تمت حيلته على حسن الصائغ وسار به من أول النهار إلى الليل رسى المركب على بر إلى الصباح، فلما طلعت الشمس وسار المركب أمر الأعجمي عبيده وغلمانه أن يحضروا له الصندوق الذي فيه حسن فأحضروه له ففتحه وأخرجه منه ونشقه بالخل ونفخ في أنفه ذرراً فعطس وتقايا بالبنج وفتح عينيه ونظر يميناً وشمالاً، فوجد نفسه في وسط البحر والمركب سائراً والأعجمي قاعداً عنده، فعلم أنها حيلة عملت عليه قد عملها الملعون المجوسي وأنه وقع في الأمر الذي كانت فيه أمه تحذره فقال كلمة لا يخجل قائلها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم الطف بي في قضائك وصبرني على بلائك يا رب العالمين، ثم التفت إلى الأعجمي وكلمه بكلام رقيق وقال له يا والدي ما هذه الفعال وأين الخبز والملح واليمين التي حلفتها لي فنظر إليه وقال له يا كلب هل مثلي يعرف خبزاً وملحاً وأنا قد قتلت ألف صبي إلا صبيا وأنت تمام الألف، وصاح عليه فسكت وعلم أن سهم القضاء نفذ فيه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً لما رأى نفسه وقع مع الأعجمي الملعون كلمه بكلام رقيق فلم يفده بل صاح عليه فسكت وعلم أن سهم القضاء نفذ فيه فعند ذلك أمر الملعون بحل أكتافه، ثم سقوه قليلاً من الماء والمجوسي يضحك ويقول وحق النار والنور والظل والحرور، وما كنت أظن أنك تقع في شبكتي، ولكن النار قوتني عليك وأعانتني على قبضك حتى أقضي حاجتي وأرجع وأجعلك قرباناً لها حتى ترضى عني فقال حسن قد خنت الخبز والملح فرفع المجوسي يده وضربه ضربة فوقع وعض الأرض بأسنانه، وغشي عليه وجرت دموعه على خده ثم أمر المجوسي أن يوقدوا له ناراً، فقال له حسن ما تصنع بها فقال له هذه النار صاحبة النور والشرور وهي التي أعبدها فإن كنت تعبدها مثلي فأنا أعطيك نصف مالي وأزوجك بنتي، فصاح حسن عليه وقال يا ويلك إنما أنت مجوسي كافر تعبد النار دون الملك الجبار خالق الليل والنهار وما هذه إلا وصية في الأديان.
فعند ذلك غضب المجوسي وقال: أما توافقني يا كلب العرب وتدخل في ديني فلم يوافقه حسن على ذلك، فقام المجوسي الملعون وسجد للنار وأمر غلمانه أن يرموا حسناً على وجهه فرموه، وصار المجوسي يضربه بسوط مضفور من جلد حتى شرح جوانبه وهو يستغيث فلا يغاث ويستجير فلا يجيره أحد فرفع طرفه إلى الملك القهار وتوسل إليه بالنبي المختار وقد قل منه الاصطبار وجرت دموعه على خديه كالأمطار.
ثم إن المجوسي أمر العبيد أن يقعدوا وأمر أن يأتوا إليه بشيء من المأكول والمشروب فأحضروه فلم يرض أن يأكل ولا يشرب وصار المجوسي يعذبه ليلاً ونهاراً مسافة الطريق وهو صابر يتضرع إلى الله عز وجل، وقد قسى قلب المجوسي عليه، ولم يزالوا سائرين في البحر مدة ثلاثة أشهر، وحسن معهم في العذاب فلما كملت الثلاثة أشهر أرسل الله تعالى على المركب ريحاً فاسود البحر وهاج بالمركب من كثرة الريح فقال الريس والبحرية هذا والله كله ذنب هذا الصبي الذي له ثلاثة أشهر في العقوبة مع هذا المجوسي وهذا ما يحل من الله تعالى ثم إنهم قاوموا المجوسي وقتلوا غلمانه وكل من كان معه فلما رآهم المجوسي قتلوا الغلمان أيقن بالهلاك، وخاف على نفسه وحل من أكتافه وقلعه ما كان عليه من الثياب الرثة وألبسه غيرها وصالحه، ووعده أن يعلمه الصنعة ويرده إلى بلده وقال يا ولدي لا تؤاخذني بما فعلت، فقال له حسن كيف بقيت أركن إليك فقال له يا ولدي لولا الذنب ما كانت المغفرة وأنا ما فعلت معك هذه الأفعال إلا لأجل أن أنظر صبرك وأنت تعلم أن الأمر كله بيد الله ففرحت البحرية والريس بخلاصه، فدعا لهم حسن وحمد الله تعالى وشكره فسكتت الرياح وانكشفت الظلمة وطاب اليح والسفر، ثم إن حسناً قال للمجوسي يا أعجمي إلى أين تتوجه قال يا ولدي أتوجه إلى جبل السحاب الذي فيه الإكسير الذي نعمله كيمياء، وحلف المجوسي بالنار والنور أنه ما بقي لحسن عنده ما يخيفه فطاب قلب حسن وفرح بكلام المجوسي، وصار يأكل معه ويشرب وينام ويلبسه من ملبوسه، ولم يزالوا مسافرين مدة ثلاثة أشهر أخرى.
وبعد ذلك رسى المركب على بر طويل كله حصى أبيض وأصفر وأزرق وأسود وغير ذلك من جميع الألوان، فلما رسى نهض الأعجمي قائماً وقال يا حسن قوم اطلع فإننا قد وصلنا إلى مطلوبنا ومرادنا فقام حسن وطلع مع الأعجمي وأوصى المجوسي الريس على مصالحه ثم مشى حسن مع المجوسي إلى أن بعدا عن المركب وغابا عن الأعين ثم قعد المجوسي وأخرج من جيبه طبلاً نحاسياً وزخمة من حرير منقوشة بالذهب وعليها طلاسم وضرب الطبل، فلما فرغ ظهرت غبرة من ظهر البرية، فتعجب حسن من فعله وخاف منه وندم على طلوعه معه وتغير لونه فنظر إليه المجوسي وقال له ما لك يا ولدي وحق النار والنور، ما بقي عليك خوف مني ولولا أن حاجتي ما تقضى إلا على اسمك ما كنت أطلعك من المركب فأبشر كل خير، وهذه الغبرة غبرة شيء نركبه فيعيننا على قطع هذه البرية ويسهل علينا مشقتها فما كان إلا قليل حتى انكشفت الغبرة عن ثلاث نجائب، فركب الأعجمي واحدة وركب حسن واحدة وحملا زادهما على الثالثة وسارا سبعة أيام، ثم انتهيا إلى أرض واسعة فلما نزلا في تلك الأرض نظرا إلى قبة معقودة على أربعة أعمدة من الذهب الأحمر، فنزلا من فوق النجائب ودخلا تحت القبة وأكلا وشربا واستراحا فلاحت التفاتة من حسن فرأى شيئاً عالياً فقال له حسن ما هذا يا عم فقال له المجوسي هذا قصر، فقال له حسن أما نقوم ندخل لنستريح فيه وتنفرج عليه فذهب المجوسي وقال له لا تذكر لي هذا القصر فإن فيه عدوي ووقعت لي معه حكاية ليس هذا وقت إخبارك بها، ثم دق الطبل فأقبلت النجائب فركبا وسارا سبعة أيام فلما كان اليوم الثامن قال المجوسي يا حسن ما الذي تنظره فقال حسن أنظر سحاباً وغماماً بين المشرق والمغرب.
فقال له المجوسي ما هذا سحاب ولا غمام وإنما هو جبل شاهق ينقسم عليه السحاب وليس هناك سحاب يكون فوقه من فرط علوه وعظم ارتفاعه وهذا الجبل هو المقصود لي وفوقه حاجتنا ولأجل هذا جئت بك معي وحاجتي تقضى على يديك، فعند ذلك يئس حسن من الحياة ثم قال المجوسي بحق معبودك وبحق ما تعتقده من دينك أي شيء الحاجة التي جئت بي من أجلها فقال له إن صنعة الكيمياء لا تصلح إلا بحشيش ينبت في المحل الذي يمر به السحاب وينقطع عليه وهو هذا الجبل والحشيش فوقه، فإذا حصلنا الحشيش أريك أي شيء هذه الصنعة فقال له حسن من خوفه نعم يا سيدي وقد يئس من الحياة وبكى لفراق أمه وأهله ووطنه وندم على مخالفته أمه، ولم يزالا سائرين إلى أن وصلا إلى ذلك الجبل ووقفا تحته فنظر حسن فوق ذلك الجبل قصراً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المجوسي وحسن لما وصلا إلى الجبل وقفا تحته فنظر حسن فوق الجبل قصراً فقال للمجوسي ما هذا القصر فقال المجوسي هذا مسكن الجان والغيلان والشياطين ثم إن المجوسي نزل من فوق نجيبه وأمره بالنزول وقام إليه وقبل رأسه وقال لا تؤاخذني بما فعلته معك فأنا أحفظك عند طلوعك القصر وينبغي أنك لا تخونني في شيء من الذي تحضره منه وأكون أنا وأنت فيه سواء، فقال السمع الطاعة ثم إن الأعجمي فتح جراباً وأخرج منه طاحوناً وأخرج منه أيضاً مقداراً من القمح وطحنه على ذلك الطاحون وعجن منه ثلاثة أقراص، وأوقد النار وخبز الأقراص ثم أخرج منه أيضاً الطبل النحاس والزخمة المنقوشة ودق الطبل فحضرت النجائب فاختار منها نجيباً وذبحه وسلخ جلده ثم التفت إلى حسن وقال له اسمع يا ولدي يا حسن ما أوصيك به قال له نعم قال ادخل في هذا وأخيط عليك وأطرحك على الأرض فتأتي طيور الرخ فتحملك وتطير بك إلى أعلى الجبل وخذ هذه السكين معك فإذا فرغت من طيرانها وعرفت أنها حطتك فوق الجبل فشق بها الجلد واخرج فإن الطير يخاف منك ويطير عنك وطل لي من فوق الجبل وكلمني حتى أخبرك بالذي تعمله، ثم هيأ له الثلاثة أقراص وركوة فيها ماء وحطها معه في الجلد بعد ذلك خيطه عليه ثم بعد عنه فجاء طير الرخ وحمله وطار به إلى أعلى الجبل ووضعه هناك، فلما عرف حسن أن الرخ وضعه على الجبل شق الجلد وخرج منه وكلم المجوسي.
فلما سمع المجوسي كلامه فرح ورقص من شدة الفرح وقال له امض إلى ورائك ومهما رأيته فأعلمني به فمضى حسن فرأى رمماً كثيرة وعندهم حطب كثير فأخبره بجميع ما رآه، فقال له هذا هو المقصود والمطلوب فخذ من الحطب ست حزم وارمها إلي فإنها هي التي نعملها كيمياء، فرمى له الست حزم، فلما رأى المجوسي تلك الحزم قد وصلت عنده قال لحسن يا علق قد انقضت الحاجة التي أردتها منك وإن شئت قدم على هذا الجبل أو ألق نفسك على الأرض حتى تهلك ثم مضى المجوسي.
فقال حسن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد مكر بي هذا الكلب الملعون ثم إنه وقف على قدميه والتفت يميناً وشمالاً، ثم مضى فوق الجبل وأيقن في نفسه بالموت وصار يتمشى حتى وصل إلى الطرف الآخر من الجبل فرأى بجنب الجبل بحراً أزرقاً متلاطم قد أزبد وكل موجة منه كالجبل العظيم فقعد وقرأ ما تيسر من القرآن وسأل الله تعالى أن يهون عليه إما الموت وإما الخلاص من هذه الشدائد، ثم صلى على نفسه صلاة الجنازة ورمى نفسه في البحر، فحملته الأمواج على سلامة الله تعالى إلى أن طلع من البحر سالماً بقدرة الله تعالى ففرح وحمد الله تعالى وشكره ثم قام يمشي ويفتش على شيء يأكله، فبينما هو كذلك وإذا هو بالمكان الذي كان فيه هو وبهرام المجوسي، ثم مشى ساعة فإذا هو بقصر عظيم شاهق في الهواء فدخله فإذا هو القصر الذي كان سأل عنه المجوسي وقال له إن هذا القصر فيه عدوي فقال حسن والله لابد من دخولي هذا القصر لعل الفرج يحصل لي، فلما رأى بابه مفتوحاً دخل من الباب، فرأى مصطبة من الدهليز وعلى المصطبة بنتان كالقمران بين أيديهما رقعة شطرنج وهما يلعبان فرفعت واحدة منهما رأسها إليه وصاحت من فرحتها وقالت والله إن هذا آدمي وأظنه الذي جاء به بهرام المجوسي في هذه السنة، فلما سمع حسن كلامهما رمى نفسه بين أيديهما وبكى بكاء شديداً وقال يا سيدتي هو أنا ذلك المسكين.
فقالت البنت الصغرى لأختها الكبرى اشهدي علي يا أختي أن هذا أخي في عهد الله وميثاقه، وإني أموت لموته وأحيا لحياته وأفرح لفرحه وأحزن لحزنه ثم قامت له وعانقته وقبلته وأخذذته من يده ودخلت به القصر وأختها معها وقلعته ما كان عليه من الثياب الرثة وأتت له ببدلة من ملابس الملوك وألبسته إياها وهيأت له الطعام من سائر الألوان وقدمته له، وقعدت هي وأختها وأكلتا معه وقالتا له حدثنا بحديثك مع الكلب الفاجر الساحر من حين وقعت في يده إلى حين خلصت منه ونحن نحدثك بما جرى لنا معه من أول الأمر إلى آخره حتى تصير على حذر إذا رأيته فلما سمع حسن منهما هذا الكلام ورأى الإقبال منهما عليه اطمأنت نفسه ورجع له عقله وصار يحدثهما بما جرى له معه من الأول إلى الآخر فقالتا له: هل سألته عن هذا القصر قال نعم سألته فقال لي لا أحب سيرته فإن هذا القصر للشياطين والأبالسة فغضبت البنتان غضباً شديداً وقالتا هل جعلنا هذا الكافر شياطين وأبالسة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن البنتان قالتا جعلنا المجوسي شياطين وأبالسة، فقال لهما حسن نعم فقالت الصغيرة أخت حسن والله لأقتلنه أقبح قتلة ولأعدمنه نسيم الدنيا فقال حسن وكيف تصلين إليه وتقتليه قالت هو في بستان يسمى المشيد ولابد من قتله قريباً، فقالت لها أختها صدق حسن وكل ما قاله عن هذا الكلب صحيح ولكن حدثيه بحديثه كلنا حتى يبقى في ذهنه فقالت البنت الصغيرة اعلم يا أخي أننا من بنات ملك من ملوك الجان العظام الشأن وله جنود وأعوان وخدم من المردة ورزقه الله تعالى بسبع بنات من امرأة واحدة ولحقه من الحماقة والغيرة وعزة النفس ما لا يزيد عليه حتى إنه لم يزوجنا لأحد من الرجال، ثم إنه أحضر وزرائه وأصحابه وقال لهم هل أنتم تعرفون لي مكاناً لا يطرقه طارق لا من الإنس ولا من الجن ويكون كثير الأشجار والأثمار والأنهار فقالوا له ما الذي تصنع به يا ملك الزمان فقال أريد أن أجعل فيه بناتي السبعة.
فقالوا له يصلح لهن قصر جبل السحاب الذي كان أنشأه عفريت من الجن المردة الذين تمردوا على عهد سلميان عليه السلام، فلما هلك لم يسكنه أحد بعده لا من الجن ولا من الإنس لأنه منقطع لا يصل إليه أحد وحوله الأشجار والأثمار والأنهار وحوله ماء أحلى من الشهد وأبرد من الثلاج ما شرب منه أحد به برص أو جذام أو غيرهما إلا عوفي من وقته وساعته، فلما سمع والدنا بذلك أرسلنا إلى هذا القصر وأرسل معنا العساكر والجنود وجمع لنا ما نحتاج إليه وكان إذا أراد الركوب يضرب الطبل فيحضر له جميع الجنود فيختار ما يركبه منهم وينصرف الباقون، فإذا أراد والدنا نحضر عنده أمر أتباعه من السحرة بإحضارنا فيأتوننا ويأخذوننا بين يديه حتى يأتنس بنا ونقضي أغراضنا منه، ثم يرجعوننا إلى مكاننا ونحن لنا خمس أخوات ذهبن يتصيدن في هذه الفلاة فإن فيها من الوحوش ما لا يعد ولا يحصى وكل اثنين منا عليهما نوبة في القعود لتسوية الطعام فجاءت النوبة علينا أنا وأختي هذه، فقعدن لنسوي لهن الطعام وكنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا شخصاً آدمياً يؤانسنا فالحمد لله الذي أوصلك إلينا، فطب نفساً وقر عيناً ما عليك بأس، ففرح حسن وقال الحمد لله الذي هدانا إلى طريق الخلاص وحنن علينا القلوب، ثم قامت وأخذته من يده وأدخلته مقصورة وأخرجت منها من القماش والفرش ما لا يقدر عليه أحد من المخلوقات، ثم بعد ساعة حضر أخواتهما من الصيد والقنص، فأخبرتاهن بحديث حسن ففرحن به ودخلن عليه في المقصورة وسلمن عليه وهنينه بالسلامة ثم أقام عندهن في أطيب عيش وسرور وصار يخرج معهن إلى الصيد والقنص ويذبح الصيد واستأنس حسن بهن ولم يزل معهن على هذه الحالة حتى صح جسده وبرأ من الذي كان به وقوي جسمه وغلظ وسمن بسبب ما هو فيه من الكرامة وقعوده عندهن في ذلك الموضع وهو يتفرج ويتفسح معهن في القصر المزخرف في البساتين والأزهار وهن يأخذن بخاطره ويؤانسنه بالكلام، وقد زالت عنه الوحشة وزادت البنات به فرحاً وسروراً وكذلك هو فرح بهن أكثر مما فرحن به، ثم أخته الصغيرة حدثت أختها بحديث بهرام المجوسي، وأنه جعلهن شياطين وأبالسة وغيلان فحلفن لها أنه لابد من قتله فلما كان العام الثاني حضر الملعون ومعه شاب مليح مسلم كأنه القمر وهو مقيد بقيد ومعذب غاية العذاب فنزل به تحت القصر الذي دخل فيه حسن على البنات وكان حسن جالساً على النهر تحت الأشجار فلما رآه حسن خفق قلبه وتغير لونه وضرب بكفيه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً الصائغ لما رأى المجوسي خفق قلبه وتغير لونه وضرب بكفيه، وقال بالله يا أخواتي أعينوني على قتل هذا الملعون فها هو حضر وصار في قبضتكن ومعه شاب مسلم أسير من أولاد الناس الأكابر وهو يعذبه بأنواع العذاب الأليم، وقصدي أن أقتله وأشفي فؤادي منه وأريح هذا الشاب من عذابه وأكسب الثواب ويرجع الشاب المسلم إلى وطنه فيجتمع شمله مع إخوانه وأهله وأحبابه ويكون ذلك صدقة عنكن وتفزن بالأجر من الله تعالى، فقالت له البنات السمع والطاعة لله ولك يا حسن ثم إنهن ضربنا لهن لثامات ولبسن أدوات آلات الحرب، وتقلدن بالسيوف وأحضرن لحسن جواداً من أحسن الخيل وهيأنه بعدة كاملة، وسلحنه سلاحاً مليحاً، ثم ساروا جميعاً فوجدوا المجوسي قد ذبح جملاً وسلخه وهو يعاقب الشاب ويقول له ادخل هذا الجلد، فجاء حسن من خلفه والمجوسي ما عنده علم به وصاح عليه فأذهله وخبله، ثم تقدم إليه وقال له أمسك يدك يا ملعون يا عدو الله وعدو المسلمين، يا كلب يا غدار يا عابد النار يا سالك طريق الفجار أتعبد النار والنور وتقسم بالظل والحر، فالتفت المجوسي فرأى حسناً فقال له يا ولدي كيف تخلصت ومن أنزلك إلى الأرض فقال له حسن خلصني الله الذي جعل قبض روحك على يد أعدائك كما عذبتني طول الطريق يا كافر يا زنديق قد وقعت في الضيق وزغت عن الطرق فلا أم تنفعك ولا أخ ولا صديق ولا عهد وثيق أنك قلت من يخون العيش والملح ينتقم الله منه وأنت خنت الخبز والملح فأوقعك الله في قبضتي وصار خلاصك مني بعيداً، فقال له المجوسي والله يا ولدي أنت أعز من روحي ومن نور عيني فتقدم إليه حسن وعجل عليه بضربة على عاتقه فخرج السيف يلمع من علائقه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار ثم إن حسناً أخذ الجراب الذي كان معه وفتحه وأخرج الطبل منه والزخمة وضرب بها على الطبل فجاءت النجائب مثل البرق إلى حسن فحل الشاب من وثاقه وأركبه نجيباً وحمل له الباقي زاداً وماء وقال له توجه إلى مقصدك فتوجه بعد أن خلصه الله من الضيق على يد حسن.
ثم إن البنات لما رأين حسناً ضرب رقبة المجوسي فرحن فرحاً شديداً ودرن حوله وتعجبن من شجاعته ومن شدة بأسه وشكرنه على ما فعل، وهنأنه بالسلامة وقلن له يا حسن لقد فعلت فعلاً شفيت به الغليل وأرضيت به الجليل وسار هو والبنات إلى القصر، وأقام معهن وهو في أكل وشرب ولعب وضحك وطابت له الإقامة عندهن ونسي أمه.
فبينما هو معهن في ألذ عيش إذ طلعت عليهم غبرة عظيمة من صدر البرية أظلم لها الجو، فقالت له البنات قم يا حسن وادخل مقصورتك واختف وإن شئت فادخل البستان وتوارى بين الشجر والكروم فما عليك بأس، ثم إنه قام ودخل واختفى في مقصورته وأغلقها عليه من داخل القصر، وبعد ساعة انكشف الغبار وبان من تحته عسكر جرار مثل البحر العجاج مقبلاً من عند الملك أبي البنات فلما وصل العسكر أنزلتهم أحسن منزل وضيفتهم ثلاثة أيام وبعد ذلك سألهم البنات عن حالهم وعن خبرهم، فقالوا إننا جئنا من عند الملك في طلبكن فقلن لهم وما يريد الملك منا، قالوا إن بعض الملوك يعمل فرحاً ويردي أن تحضرن ذلك الفرح ليتفرجن فقالت لهم البنات: وكم نغيب عن موضعنا فقالوا مدة الرواح والمجيء وإقامة شهرين، فقامت البنات ودخلن القصر على حسن وأعلمنه بالحال، وقلن له إن هذا الموضع موضعك وبيتك وبيتنا بيتك فطب نفساً وقر عيناً ولا تخف ولا تحزن، فإنه لا أحد يقدر أن يجيء إلينا في هذا المكان فكن مطمئن القلب منشرح الخاطر حتى نحضر إليك وهذه مفاتيح مقاصيرنا معك، ولكن يا أخانا نسأل لك بحق الأخوة أنك لا تفتح هذا الباب فإنه ليس لك بفتحه حاجة ثم إنهن ودعنه وانصرفن في صحبة العساكر وقعد حسن في القصر وحده وفرغ صبره وزاد كربه واستوحش وحزن لفراقهن حزناً عظيماً وضاق عليه القصر مع اتساعه فلما رأى نفسه وحيداً منفرداً تذكرهن.
وقالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً بعد ذهاب البنات من عنده قعد في القصر وحده فضاق صدره من فراقهن ثم إنه صار يذهب وحده إلى الصيد في البراري فيأتي به ويذبحه ويأكل وحده فزادت به الوحشة والقلق من انفراده فقام ودار في القصر وفتش جميع جهاته، وفتح مقاصير البنات فرأى فيها من الأموال ما يذهب عقول الناظرين وهو لا يلتذ بشيء من ذلك بسبب غيبتهن والتهبت في قلبه النار من الباب الذي أوصته أخته بعدم فتحه وأمرته أنه لا يقربه ولا يفتحه أبداً، فقال في نفسه ما أوصتني أختي بعدم فتح هذا الباب إلا لكونه فيه شيء تريد أن لا يطلع عليه أحد، والله إني لا أقوم وأفتحه وأنظر ما فيه ولو كان فيه المنية فأخذ المفتاح وفتحه فمل ير فيه شيئاً من المال، ولكنه رأى سلماً في صدر المكان معقود بحجر من جذع يماني فرقي على ذلك السلم وصعد إلى أن وصل إلى سطح القصر، فقال في نفسه هذا الذي منعتني أختي عنه ودار فوقه فاشرف على مكان تحت القصر مملوء بالمزارع والبساتين والأشجار والأزهار والوحوش والطيور، وهي تغرد وتسبح الله الواحد القهار وصار يتأمل في تلك المتنزهات فرأى بحراً عجاجاً متلاطماً بالأمواج، ولم يزل دائراً حول ذلك القصر يميناً وشمالاً حتى انتهى إلى القصر على أربعة أعمدة فرأى فيه مقعداً منقوشاً بسائر الأحجار كالياقوت والزمرد والبخلش وأصناف الجواهر وهو مبني طوبة من فضة وطوبة من ذهب وطوبة من ياقوت وطوبة من زمرد أخضر وفي تلك القصر بحيرة ملآنة بالماء وعليها مكعب من الصندل وعواميد، وهو مشبك بقضبان الذهب الأحمر والزمرد الأخضر مزركش بأنواع الجواهر واللؤلؤ الذي كل حبة منه قدر بيضة الحمامة وعلى جانب البحيرة تخت من العود الند مرصع بالدر والجوهر مشبك بالذهب الأحمر وفيه من سائر الفصوص الملونة والمعادن النفيسة، وهي في الترصيع يقبل بعضها بعضاً وحوله الأطيار تغرد بلغات مختلفة، وتسبح الله تعالى بحسن أصواتها واختلاف لغاتها وهذا القصر لم يملك مثله كسرى ولا قيصر، فاندهش حسن لما رأى ذلك وجلس فيه ينظر ما حوله.
فبينما هو جالس فيه وهو متعجب من حسن صنعته ومن بهجة ما حواه من الدر والياقوت وما فيه من سائر الصناعات، ومتعجب من تلك المزارع والأطيار التي تسبح الله الواحد القهار ويتأمل في آثار من قدرة الله تعالى على عمارة هذا القصر العظيم فإنه عظيم الشأن وإذا هو بعشر طيور قد أقبلوا من جهة البر وهم يقصدون ذلك القصر وتلك البحيرة فعرف حسن أنهم يقصدون تلك البحيرة ليشربوا من مائها فاستتر منهم خوفاً أن ينظروه فيفروا منه ثم إنهم نزلوا على شجرة عظيمة مليحة وأداروا حولها، فنظر منهم طيراً عظيماً مليحاً وهو أحسن ما فيهم والبقية محتاطون به وهم في خدمته فتعجب حسن من ذلك وصار ذلك الطير ينقر التسعة بمنقاره ويتعاظم عليهم، وهم يهربون منه وحسن واقف عليهم من بعيد ثم إنهم جلسوا على السرير وشق كل طير منهم جلده بمخالبه وخرج منه فغدا هو ثوب من ريش وقد خرج من الثياب عشر بنات أبكار يفضحن بحسنهن بهجة الأقمار فلما تعرين من ثيابهن نزلن كلهن في البحيرة واغتسلن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات لما نزلن كلهن في البحيرة واغتسلن وصرن يلعبن ويتمازحن، وصارت الطيرة الفائقة عليهن ترميهن وتغطسهن فيهربن منها ولا يقدرن أن يمددنا أيديهن إليها، فلما نظرها حسن غاب عن صوابه وانسلب عقله وعرف أن البنات ما نهينه عن فتح هذا الباب، إلا لهذا السبب فشغف حسن بها حباً لما رأى حسنها وجمالها وقدها واعتدالها وهي في لعب ومزاج ومراشة بالماء، وحسن واقف ينظر إليهن ويتحسر حيث لم يكن معهن وقد حار عقله من حسن الجارية الكبيرة، وتعلق قلبه بمحبتها ووقع في شرك هواها والعين ناظرة وفي القلب نار محرقة والنفس أمارة بالسوء فبكى حسن شوقاً لحسنها وجمالها وانطلقت في قلبه النيران من أجلها، وزاد به لهيب لا يطفأ شرره وغرام لا يخفى أثره.
ثم بعد ذلك طلعت البنات من تلك البحيرة، وحسن واقف ينظر إليهن وهن لا ينظرنه وهو يتعجب من حسنهن وجمالهن، ولطف معانيهن وظرف شمائلهن فحانت منه التفاتة، فنظر حسن إلى الجارية الكبيرة وهي عريانة فبان له ما بين فخذيها وهو قبة عظيمة مدورة بأربعة اركان كأنه طاسة من فضة أو بلور.
فلما خرجن من الماء لبست كل واحدة ثيابها وحليها وأما الجارية الكبيرة فإنها لبست حلة خضراء ففاقت بجمالها ملاح الآفاق وزهت ببهجة وجهها على بدور الإشراق وفاقت على الغصون بحسن التثني وأذهلت العقول بوهم التمني.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً لما رأى البنات قد خرجن من البحيرة والكبيرة فيهن أخذت عقله بحسنها وجمالها، ثم إن البنات لما لبسن ثيابهن جلسن يتحدثن ويتضاحكن وحسن واقف ينظر إليهن. وهو غريق في بحر عشقه وتائه في وادي فكره، وهو يقول في نفسه والله ما أتعلق بإحداهن ثم إنه صار ينظر في محاسن هذه الجارية، وكانت أجمل ما خلق الله في وقتها وقد فاقت بحسنها جميع البشر لها فم كأنه خاتم سليمان وشعر أسود من الليل الصدود على الكئيب الولهان وغرة كهلال رمضان، وعيون تحاكي عيون الغزلان وأنف أقني كثير اللمعان وخدان كأنهما شقائق النعمان وشفتان كأنهما مرجان وأسنان كأنهما لؤلؤ منظوم في قلائد العقبان، وعنق كسبيكة فضة فوق قامة كغصن البان، وبطن طيات وأركان يبتهل فيها العاشق الولهان وسرة تسع أوقية مسك طيب الأردان، وأفخاذ غلاظ سمان كأنهما عواميد رخام، أو مخدتان محشوتان من ريش النعام وبينهما شيء كأنه أعظم العقبان وأرنب مقطوش الآذان وله سطوح وأركان هذه الصبية فاقت بحسنها وقدها على غصون البان وعلى قضيب الخيزران وهي كاملة.
ثم إن البنات لم يزلن في ضحك ولعب وهو واقف على قدميه ينظر إليهن ونسي الأكل والشرب إلى أن قرب العصر، فقالت الصبية لصواحبها يا بنات الملوك إن الوقت أمسى علينا وبلادنا بعيدة، ونحن قد سئمنا من المقام هنا فقمن لنروح محلنا فقامت كل واحدة منهن ولبست ثوبها الريش فلما اندرجن في ثيابهن صرن طيوراً كما كن أولاً وطرن كلهن سوية وتلك الصبية في وسطهن فيئس حن منهن وأراد أن يقوم وينزل فلم يقدر أن يقوم وصار دمعه يجري على خده، ثم إن حسن مشى قليلاً وهو لا يهتدي إلى الطريق حتى نزل إلى أسفل القصر ولم يزل يزحف إلى أن وصل إلى باب المخدع فدخل وأغلقه عليه واضطجع عليلاً لا يأكل ولا يشرب وهو غريق في بحر أفكاره فبكى وناح على نفسه إلى الصباح.
فلما طلعت الشمس فتح باب المخدع وطلع إلى المكان الذي كان فيه أولاً وجلس في مكان مقبال إلى أن أقبل الليل، فلم يحضر أحد من الطيور وهو جالس في انتظارهم فبكى بكاء شديداً حتى غشي عليه ووقع على الأرض مطروحاً فلما أفاق من غشيته زحف ونزل إلى أسفل القصر وقد أقبل الليل فضاقت عليه الدنيا باسرها وما زال يبكي وينوح على نفسه طول الليلة إلى أن أتى الصباح وطلعت الشمس على الروابي والبطاح، وهو لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يقر له قرار وفي نهاره حيران وفي ليله سهران مدهوش سكران من الفكر الذي هو فيه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً الصائغ لما زاد عشقه وهو في القصر وحده ولم يجد من يؤانسه، فبينما هو في شدة ولهه وإذا بغبرة قد طلعت من البر فقام يجري إلى أسفل واختفى وعرف أن أصحاب القصر أتوا فلم يكن غير ساعة، إلا والعسكر قد نزلوا وداروا بالقصر ونزلت السبع بنات ودخلن القصر فنزعن سلاحهن وما كان عليهن من آلات الحرب وأم البنت الصغيرة أخته فإنها لم تنزع ما عليها من آلة الحرب، بل جاءت إلى مقصورة حسن فلم تراه ففتشت عليه فوجدته في مخدع من المخادع وهو ضعيف نحيل قد كل جسمه ورق عظمه واصفر لونه وغابت عيناه في وجهه من قلة الأكل والشرب ومن كثرة الدموع بسبب تعلقه بالصبية وعشقه لها، فلما رأته أخته الجنية على هذه الحالة اندهشت، وغاب عنها عقلها فسألته عن حاله وما هو فيه وأي شيء اصابه وقالت له أخبرني يا أخي حتى أتحيل
محب إذا ما بان عنه حبيبه                 فليس له إلا الكآبة والضر
فباطنه سقم وظاهره جوى                 وأوله ذكر وآخره فكـر

فلما سمعت منه أخته ذلك، تعجبت من فصاحته ومن بلاغة قوله ومن حسن لفظه ومجاوبته لها بالشعر، فقالت له يا أخي متى وقعت في هذا الأمر الذي أنت فيه ومتى حصل لك فإني أراك تتكلم بالأشعار وترخي بالدموع الغزار فبالله عليك يا أخي وحرمة الحب الذي بيني وبينك أن تخبرني بحالك وتطلعني على سرك ولا تخف مني شيئاً مما جرى لك في غيابنا فإنه قد ضاق صدري وتكدر عيشي بسببك فتنهد وأرخى الدموع مثل المطر وقال أخاف يا أختي إذا أخبرتك لا تساعديني على مطلوبي، وتتركيني أموت كمداً بغصتي فقالت لا والله يا أخي ما أتخلى عنك ولو كانت روحي فحدثها بما جرى له وما عاينه حين فتح الباب، وأخبرها أن سبب الضرر والبلاء عشق الصبية التي رآها وإن له عشرة أيام ولم يستطعم بطعام ولا شراب، ثم إنه بكى بكاء شديداً.
فبكت أخته لبكائه ورقت لحاله ورحمت غربته ثم قالت له يا أخي طب نفساً وقر عيناً فأنا أخاطر بنفسي معك وابذل روحي في رضاك وأدبر لك حيلة ولو كان فيها ذهاب نفائسي ونفسي حتى أقضي غرضك إن شاء الله تعالى ولكن أوصيك يا أخي بكتمان السر عن أخواتي فلا تظهر حالك على واحدة منهن لئلا تروح روحك وإن سألتك عن فتح الباب فقل لهن ما فتحته أبداً ولكن أنا مشغول القلب من أجل غيابكن عني ووحشتي إليكن وقعودي في القصر وحدي فقال لها نعم هذا هو الصواب ثم إنه قبل رأسها وطاب خاطره وانشرح صدره، وكان خائفاً من أخته بسبب فتح الباب فردت إليه روحه بعد أن كان مشرفاً على الهلاك من شدة الخوف، ثم إنه طلب من أخته شيئاً يأكله فقامت وخرجت من عنده ثم دخلت على أخواتها وهي حزينة باكية عليه فسألنها عن حالها فأخبرتهن أن خاطرها مشغول على أخيها وأنه مريض وله عشرة أيام ما نزل في بطنه زاد أبداً، فسألنها عن سبب مرضه.
فقالت لهن سببه غيابنا لأننا أوحشناه فإن هذه الأيام التي غبنا عنه كانت عليه أطول من ألف عام، وهو معذور لأنه غريب ووحيد ونحن تركناه وحده وليس عنده من يؤانسه ولا من يطيب خاطره وهو شاب صغير على كل حال وربما تذكر أهله وأمه وهي امرأة كبيرة فظن أنها تبكي عليه أثناء الليل وأطراف النهار ولم تزل حزينة عليه وكنا نسليه بصحبتنا له.
فلما سمع أخواتها كلامها بكين من شدة التأسف عليه وقلنا لها والله إنه معذور، ثم خرجن إلى العسكر وصرفنهم ودخلن على حسن فسلمن عليه، ورأينه قد تغيرت محاسنه واصفر لونه وانتحل جسمه، فبكين شفقة عليه وقعدن عنده وآنسنه وطيبن قلبه بالحديث، وحكين له جميع ما رأين من العجائب والغرائب وما جرى للعريس مع العروسة ثم إن البنات أقمن عنده مدة شهر كامل وهن يؤانسنه ويلاطفنه وهو كل يوم يزداد مرضاً على مرضه، وكلما راينه على هذه الحالة يبكين عليه بكاء شديداً وأكثرهن بكاء البنت الصغيرة ثم بعد الشهر اشتاقت البنات إلى الركوب للصيد والقنص فعزمن على ذلك وسألن أختهن الصغيرة أن تركب معهن.
فقالت لهن والله يا أخواتي ما أقدر أن أخرج معكن وأخي على هذه الحالة حتى يتعافى ويزول عنه ما هو فيه من الضرر بل أجلس عنده لأعلله فلما سمعت كلامها شكرنها على مروءتها وقلن لها كل ما تفعلينه مع هذا الغريب تؤجرين عليه، ثم تركنها عنده في القصر وركبن وأخذن معهن زاد عشرين يوماً.
ثم قالت بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات لما ركبن ورحن إلى الصيد والقنص تركن أختهن الصغيرة قاعدة عند حسن، فلما بعدن عن القصر وعرفت أختهن أنهن قطعن مسافة بعيدة أقبلت على أخيها وقالت له يا أخي قم ارني هذا الموضع الذي رأيت فيه البنات.
فقال باسم الله على الرأس وفرح بقولها وايقن ببلوغ مقصوده ثم إنه أراد أن يقوم معها ويريها المكان فلم يقدر على المشي فحملته في حضنها وجاءت إلى القصر فوقه أراها الموضع الذي رأى فيه البنات وأراها المقعد وبركة الماء.






فقالت له أخته صف لي يا أخي حالهن كيف جئن فوصف لها ما رأى منهن وخصوصاً البنت التي تعلق بها فلما سمعت وصفها عرفتها فاصفر وجهها وتغير حالها فقال لها يا أختي قد اصفر وجهك وتغيرت حالتك، فقالت له يا أخي اعلم أن هذه الصبية بنت ملك من ملوك الجان العظام الشأن قد ملك أبوها انساً وجاناً وسحرة وكهاناً وأرهاطاً وأعواناً وأقاليماً وبلداناً كثيرة وأموالاً عظاماً، وأبونا نائب من جملة نوابه فلا يقدر عليه أحد من كثرة عساكره واتساع مملكته وكثرة ماله.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أخته قالت له: وأبونا نائب من جملة نوابه فلا يقدر عليه من كثرة عساكره واتساع مملكته وكثرة ماله وقد جعل لأولاده البنات اللواتي رأيتهن مسيرة سنة كاملة طولاً وعرضاً وقد زاد على ذلك القطر نهر عظيم محيط به فلا يقدر أحد أن يصل إلى ذلك المكان لا من الانس ولا من الجان وله من البنات الضاربات بالسيوف الطاعنات بالرماح خمسة وعشرون ألفاً واحدة منهن إذا ركبت جوادها ولبست آلة حربها تقاوم ألف فارس من الشجعان وله سبع نبات فيهن من الشجاعة والفروسية ما في أخواتهن، وأزيد وقد ولى على هذا القطر الذي عرفتك به ابنته الكبرى وهي أكبر أخواتها وفيها من الشجاعة والفروسية والخداع والمكر والسحر ما تغلب به اهل مملكتها وأما البنات اللاتي معها فهن أربا دولتها وأعوانها وخواصها من ملكها وهذه الجلود الريش التي يطرن بها إنما هي صنعة سحرة الجان وإذا أردت أن تملك هذه الصبية وتتزوج بها فاقعد هنا وانتظرها لأنهن يحضرن على رأس كل شهر إلى هذا المكان فإذا رأيتهن قد حضرن فاختف وإياك أن تظهر فتروح أرواحنا جميعاً فاعرف الذي أقوله لك واحفظه في ذهنك واقعد في مكان يكون قريباً منهن بحيث إنك تراهن ولا يرونك فإذا قلعن ثيابهن فألق نظرك على الثوب الريش الذي هو للكبيرة التي في مرادك وخذه ولا تأخذ شيئاً غيره فإنه هو الذي يوصلها إلى بلادها فإنك إذا ملكته ملكتها وإياك أن تخدعك وتقول يا من سرق ثوبي رده علي وها أنا عندك وبين يديك وفي حوزتك فإنك إن أعطيتها إياه قتلتك وتخرب علينا القصور وتقتل إيانا فاعرف حالك كيف تكون فإذا رأى أخواتها أن ثوبها قد سرق طرن وتركنها قاعدة وحدها فادخل عليها وامسكها من شعرها واجذبها فإذا جذبتها إليك فقد ملكتا وصارت في حوزتك فاحتفظ بعد هذا على الثوب الريش فإنه ما دام عندك فهو قبضتك وأسرك لأنها لا تقدر أن تطير إلى بلادها إلا به فإذا أخذتها فاحملها وانزل بها إلى مقصورتك ولا تبين لها أنك أخذت الثوب.
فلما سمع حسن كلام أخته اطمأن قلبه وسكن روعه وزال ما به من الألم ثم انتصب قائماً على قدميه وقبل رأس أخته وبعد ذلك قاما ونزلا من فوق القصر هو وأخته وناما ليلتهما وهو يعالج نفسه إلى أن أصبح الصباح فلما طلعت الشمس قام وفتح الباب وطلع إلى فوق ولم يزل قاعداً إلى العشاء فطلعت له أخته بشيء من الأكل والشرب وغير ثيابه ونام ولم تزل معه على هذه الحالة في كل يوم إلى أن هل الشهر فلما رأى الهلال صار يرتقبهن فبينما هو كذلك وإذا بهن قد أقبلن عليه مثل البرق فلما رآهن اختفى في مكان بحيث يراهن ولا يرينه فنزلت الطيور وقعدت كل طيرة منهن في مكان وقلعن ثيابهن وكذلك البنت التي يحبها وكان ذلك في مكان قريب من حسن ثم نزلت البحيرة مع أخواتها.
فعند ذلك قام حسن ومشى قليلاً وهو مختف وستر الله عليه فأخذ الثوب ولم تنظره واحدة منهن بل كن يلعبن مع بعضهن فلما فرغن طلعن ولبسن كل واحدة منهن ثوبها الريش وجاءت محبوبته لتلبس ثوبها فلم تجده فصاحت ولطمت على وجهها وشقت ثيابها فأقبلت أخواتها وسالنها عن حالها فأخبرتهن أن ثوبها الريش قد فقد فبكين وصرخن ولطمن على وجوههن وحين أمسى عليهن الليل لم يقدرن أن يقعدن عندها فتركنها فوق القصر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً لما أخذ ثوب البنت طلبته فلم تجده وطار أخواتها وتركنها وحدها فلما رآهن حسن طرن وغبن عنها أصغى إليها فسمعها تقول: يا من أخذ ثوبي وأعراني سألتك أن ترده علي وتستر عورتي فلا أذاقك الله حسرتي فلما سمع حسن هذا الكلام منها سلب عقله في عشقها وازدادت محبته لها ولم يطق أن يصبر عنها فقام من مكانه وصار يجري حتى هجم عليها وأمسكها ثم جذبها إليه ونزل بها إلى أسفل القصر وأدخلها مقصورته ورمى عليها عباءته وهي تبكي وتعض على يديها فأغلق عليها الباب وراح لأخته وأعلمها أنه حصلها وظفر بها ونزل بها إلى مقصورته وقال لها: إنها الآن قاعدة تبكي وتعض على يديها.
فلما سمعت أخته كلامه قامت وتوجهت إلى المقصورة ودخلت عليها فرأتها تبكي وهي حزينة فقبلت الأرض بين يديها ثم سلمت عليها فقالت لها الصبية: يا بنت الملك أهكذا تفعل الناس مثلكم هذه الفعال الرديئة مع بنات الملوك وأنت تعرفين أن أبي ملك عظيم وأن جميع ملوك الجان تفزع منه وتخاف من سطوته وعنده من السحرة والحكماء والكهان والشياطين والمردة ما لا طاقة لأحد عليه وتحت يده خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وكيف يصلح لكم يا بنات الملوك أن تأوين رجال الإنس عندكم وتطلعنهن على أحوالنا وأحوالكن وإلا فمن أين يصل هذا الرجل إلينا.
فقالت لها أخت حسن: يا بنت الملك إن هذا الإنسي كامل المروءة وليس قصده أمراً قبيحاً وربما هو يحبك وما خلقت النساء إلا للرجال ولولا أنه يحبك ما مرض لأجلك وكادت روحه أن تزهق في هواك وحكت لها جميع ما أخبرها به حسن من عشقه لها وكيف عملت البنات في طيرانهن واغتسالهن وأنه لم يعجبه من جميعهن غيرها لأنهن كلهن جوار لها وأنها كانت تغطسهن في البحيرة وليس واحدة منهن تقدر أن تمد يدها إليها.
فلما سمعت كلامها يئست من الخلاص فعند ذلك قامت أخت حسن وخرجت من عندها وأحضرت لها بدلة فاخرة فألبستها إياها وأحضرت لها شيئاً من الأكل والشرب فأكلت هي وإياها وطيبت قلبها وسكنت روعها ولم تزل تلاطفها بلين ورفق وتقول لها: ارحمي من نظرك فأصبح قتيلاً في هواك ولم تزل تلاطفها وترضيها وتحسن لها القول والعبارة وهي تبكي إلى أن طلع الفجر فطابت نفسها وأمسكت عن بكائها لما علمت أنها وقعت ولا يمكن خلاصها وقالت لأخت حسن: يا بنت الملك بهذا حكم الله على ناصيتي من غربتي وانقطاعي عن بلدي وأهلي وأخواتي فصبر جميل على ما قضاه ربي ثم أن أخت حسن أخلت لها مقصورة في القصر لم يكن هناك أحسن منها ولم تزل عندها تسليها وتطيب خاطرها حتى رضيت وانشرح صدرها وضحكت وزال ما عندها من الكدر وضيق الصدر من فراق الأهل والأوطان وفراق أخواتها وأبويها وملكها.
ثم أن أخت حسن خرجت إليه وقالت له: قم ادخل عليها في مقصورتها وقبل يديها ورجليها فدخل وفعل ذلك ثم قبلها بين عينيها وقال لها: يا سيدة الملاح وحياة الأرواح ونزهة الناظرين كوني مطمئنة القلب أنا ما أخذتك إلا لأجل أن أكون عبدك إلى يوم القيامة وأختي هذه جاريتك وأنا يا سيدتي ما قصدي إلا أن أتزوجك بسنة الله ورسوله وأسا فر إلى بلادي وأكون أنا وأنت في مدينة بغداد وأشتري لك الجواري والعبيد ولي والدة من خيار النساء تكون في خدمتك وليس هناك بلاد أحسن من بلادنا وكل ما فيها أحسن مما في غيره من سائر البلاد وأهلها وناسها ناس طيبون بوجوه صباح.
فبينما هو يخاطبها ويؤانسها وهي لا تخاطبه بحرف واحد وإذا بدق يدق باب القصر فخرج حسن ينظر من بالباب فإذا هن البنات قد حضرن من الصيد والقنص ففرح بهن وتلقاهن وحياهن فدعون له بالسلامة والعافية ودعا هو الآخر ثم نزلن عن خيولهن ودخلن القصر ودخلت كل واحدة منهن مقصورتها ونزعت ما كان عليها من الثياب الرثة ولبست قماشاً مليحاً وقد اصطدن شيئاً كثيراً من الغزلان وبقر الوحوش والأرانب والسباع والضباع وغير ذلك وقدمن منه شيئاً إلى الذبح وتركن الباقي عندهن في القصر وحسن واقف بينهن مشدود الوسط يذبح لهن وهن يلعبن وينشرحن وقد فرحن بذلك فرحاً شديداً.
فلما فرغن من الذبح قعدن يعملن شيئاً ليتغدوا به فتقدم حسن إلى البنت الكبيرة وقبل رأسها وصار يقبل رأسهن واحدة بعد الأخرى فقلن له: لقد أكثرت التنزل إلينا يا أخانا وعجبنا من فرط توددك إلينا وأنت رجل آدمي ونحن من الجن فدمعت عيونه وبكى بكاءً شديداً فقلت: ما الخبر وما يبكيك قد كدرت عيشنا ببكائك في هذا اليوم كأنك اشتقت إلى والدتك والى بلادك فإن كان الأمر كذلك فنأخذك ونسافر بك إلى وطنك وأحبابك. فقال لهن: والله ما مرادي فراقكن فقلن له: وحينئذ من شوش عليك منا حتى تكدرت? فخجل أن يقول ما شوش علي إلا عشق الصبية خيفة أن ينكرن عليه فسكت ولم يعلمهن بشيء من حاله فقامت أخته وقالت لهن: اصطاد طيرة من الهواء ويريد منكن أن تعنه على تأهيلها فالتفتن إليه كلهن وقلن له: نحن كلنا بين يديك ومهما طلبته فعلناه لكن قص علينا خبرك ولا تكتم عنا شيئاً من حالك فقال لأخته: قص خبري عليهن فإني استحي منهن ولا أقدر أن أقابلهن بهذا الكلام. فقالت: بينما هو جالس يوماً من الأيام وإذا بعشر طيور إناث أقبلن عليه قاصدات القصر ولم يزلن سائرات حتى جلسن على البحيرة التي فوقها المنظرة فنظر إلى الطيرة التي هي أحسنهن وهي تنقرهن وما فيهن واحدة تقدر أن تمد يدها إليها، ثم جعلن لمخالبهن في أطواقهن فشققن الثياب الريش وخرجن منها وصارت كل واحدة منهن صبية مثل البدر ليلة تمامه، ثم خلعن ما عليهن وحسن واقف ينظر إليهن ونزلن الماء وصرن يلعبن والصبية الكبرى تغطسهن وليس منهن واحدة تقدر أن تمد يدها إليها وهي أحسنهن وجهاً وأعدلهن قداً وأنظفهن لباساً، ولم يزلن على هذه الحالة إلى أن قرب العصر ثم طلعن من البحيرة ولبسن ثيابهن ودخلن في القماش الريش والتففن فيه وطرن فاشتعل فؤاده واشتعل قلبه بالنار من أجل الطيرة الكبيرة وندم لكونه لم يسرق قماشها الريش فمرض وأقام فوق القصر ينظرها فامتنع من الأكل والشرب والنوم. ولم يزل كذلك حتى لاح الهلال فبينما هو قاعد وإذا بهن قد أقبلن على عادتهن فقلعن ثيابهن ونزلن البحيرة فسرق ثوب الكبيرة، فلما عرف أنها لا تقدر أن تطير إلا به أخذه وأخفاه خيفة أن يطلعن عليه فيقتلنه، ثم صبر حتى طرن فقام وقبض عليها ونزل بها من فوق القصر فقال لها أخواتها: وأين هي? قالت لهن: هي عنده في المخدع الفلاني فقلن: صفيها لنا يا أختي فقالت: هي أحسن من البدر ليلة تمامه ووجهها أضوأ من الشمس وريقها أحلى من الشراب وقدها أرشق من القضيب ذات طرف أحور ووجه أقمر وجبين أزهر وصدر كأنه جوهر ونهدين كأنهما رمانتان وخدين كأنهما تفاحتان، وبطن مطوي الأعكان وسرة كأنها حق عاج بالمسك ملآن وفخذين كأنهما من المرمر عامودان تأخذ القلوب بظرف كحيل ورقة خصر نحيل وردف ثقيل وكلام يشفي العليل، مليحة القوام حسنة الإبتسام كأنها بدر التمام.
فلما سمعت البنات هذه الأوصاف التفتن إلى حسن وقلن له: أرنا إياها فقام معهن وهو ولهان إلى أن أتى بهن إلى المخدع الذي فيه بنت الملك وفتحه ودخل وهن خلفه، فلما رأينها وعاين جمالها قبلن الأرض بين يديها وتعجبن من حسن صورتها وظرف معانيها وسلمن عليها وقلن لها: والله يا بنت الملك الأعظم إن هذا شيء عظيم ولو سمعت بوصف هذا الإنسي عند النساء لكنت تتعجبين منه طول دهرك وهو متعلق بك غاية التعلق إلا أنه يا بنت الملك لم يطلب فاحشة وما طلبك إلا في الحلال، ولو علمنا أن البنات تستغني عن الرجال لكنا منعناه عن مطلوبه مع أنه لم يرسل إليك رسولاً بل أتى إليك بنفسه وأخبرنا أنه أحرق الثوب الريش وإلا كنا أخذناه منه.
ثم أن واحدة من البنات اتفقت هي وإياها وتوكلت في العقد وعقدت عقدها على حسن وصافحها ووضع يده في يدها وزوجنها له بإذنها وعملن في فرحها ما يصلح لبنات الملوك وأدخلنه عليها فقام حسن وفتح الباب وكشف الحجاب وفض ختمها وتزايدت محبته فيها وتعاظم وجده شغفاً بها وحيث حصل مطلوبه هنأ نفسه وأنشد هذه الأبيات:
قوامك فتانٌ وطرفـك أحـورٌ                ووجهك من ماء الملاحة يقطر
تصورت في عيني أجل تصور             فنصفك ياقوت وثلثك جوهـر
وخمسك من مسك وسدسك عنبر                   وأنت شبيه الدر بل أنت أزهر
وما ولدت حواء مثلـك واحـداً             ولا في جنان الخلد مثلك آخـر
فإن شئت تعذيبي فمن سنن الـهـوى               وإن شئت أن تعفي فأنت مـخـير
فيا زينة الدنيا ويا غـاية الـمـنـى                    فمن ذا الذي عن حسنٍ وجهك يصبر

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً لما دخل على بنت الملك وأزال بكارتها والتذ بها لذة عظيمة وزادت محبته لها ووجده بها فأنشد فيها الأبيات المذكورة وكانت البنات واقفات على الباب فلما سمعن الشعر قلن لها يا بنت الملك اسمعي قول هذا الإنسي وكيف تلوميننا وقد أنشد الشعر في هواك فلما سمعت ذلك انبسطت وانشرحت وفرحت.
ثم إن حسناً أقام معها أربعين يوماً في حظٍ وسرورٍ ولذةٍ وحبور والبنات يجددن له كل يوم فرحاً ونعمة وهدايا وتحفا وهو بينهن في سرورٍ وانشراحٍ وطاب لبنت الملك القعود بينهن ونسيت أهلها، ثم بعد الأربعين يوماً كان حسن نائماً فرأى والدته حزينة عليه وقد رق عظمها وانتحل جسمها واصفر لونها وتغير وكان هو في حالة حسنة.
فلما رأته على هذه الحالة قالت له: يا ولدي يا حسن كيف تعيش في الدنيا منعماً وتنساني فانظر حالي بعدك وأنا ما أنساك ولا لساني يترك ذكرك حتى أموت وقد عملت لك قبراً عندي في الدار حتى لا أنساك أبداً، أترى أعيش يا ولدي وأنظرك عندي ويعود شملنا مجتمعاً كما كان، فانتبه حسن من نومه وهو يبكي وينوح ودموعه تجري على خديه مثل المطر وصار حزيناً كئيباً لا ترتفع دموعه ولم يجئه نوم ولا يقر له قرار ولم يبق عنده اصطبار، فلما أصبح دخلن عليه البنات وصبحن عليه وانشرحن معه على عادتهن فلم يلتفت إليهن فسألن زوجته عن حاله فقالت لهن: ما أدري فقلن لها: اسأليه عن حاله فتقدمت إليه وقالت له: ما الخبر يا سيدي? فتنهد وتضجر وأخبرها بما رآه في منامه ثم أنشد هذين البيتين:
قد بقين موسوسين حيارى                نطلب القرب ما إليه سبيل
فدواهي الهوى تزيد علينـا                 ومقام الهوى علينا ثقـيل

فأخبرتهن زوجته بما قاله لها، فلما سمعت البنات الشعر رفقن لحاله وقلن له: تفضل باسم الله ما نقدر أن نمنعك من زيارتها بل نساعدك على زيارتها بكل ما نقدر عليه ولكن ينبغي أن تزورنا ولا تنقطع عنا ولو في كل سنة مرة واحدة، فقال لهن سمعاً وطاعةً فقامت البنات من وقتهن وعملن له الزاد وجهزن له العروسة بالحلي والحلل وكل شيء غال يعجز عنه الوصف وهيأن له تحفاً تعجز عن حصرها الأقلام.
ثم إنهن ضربن الطبل فجاءت النجائب إليهن من كل مكانٍ فاخترن منها ما يحمل جميع ما جهزته وأركبن الجارية وحسناً وحملن إليها خمسة وعشرين تختاً من الذهب وخمسين من الفضة، ثم سرن معهما ثلاثة أيام فقطعن فيها مسافة ثلاثة أشهر، ثم إنهن ودعنها وأردن الرجوع عنهما، هذا ما كان منهن. وأما ما كان من أمر حسن فإنه سار طول الليل والنهار يقطع مع زوجته البراري والقفار والأودية والأوعار في الهوا جر والأسحار وكتب الله تعالى لهما السلامة فسلما ووصلا إلى مدينة البصرة، ولم يزالا سائرين حتى أناخا على باب نجائبهما، ثم صرف النجائب وتقدم إلى الباب ليفتحه فسمع والدته وهي تبكي بصوت رقيق من كبد ذاق عذاب الحريق وهي تنشد هذه الأبيات:
وكيف يذوق النوم من عدم الكرى                  ويسهـر لـيلاً والأنـام رقـود
وقد كان ذا مـال وأهـل عـزة              فأضحى غريب الدار وهو وحيد
له جمر بـين الـضـلـوع وأنة               وشوق شديد ما عـلـيه مـزيد
تولى عليه الوجد والوجد حاكـم           ينوح بما يلقـاه وهـو جـلـيد
وحالته في الحب تخـبـر أنـه               حزين كئيب والدموع شـهـود

فبكى حسن لما سمع والدته تبكي وتندب، ثم طرق الباب طرقة مزعجة فقالت أمه: من بالباب? فقال لها: افتحي ففتحت الباب ونظرت إليه، فلما عرفته خرت مغشياً عليها، فما زال يلاطفها إلى أن فاقت فعانقها وعانقته وقبلته، ثم نقل حوائجه ومتاعه إلى داخل الدار والجارية تنظر إلى حسن وأمه، ثم إن أم حسن لما اطمئن قلبها وجمع الله شملها بولدها أنشدت هذه الأبيات:
رق الزمان لحالتـي                ورثى لطول تحرقي
وأنالني ما أشتـهـي                وأزال مما أتـقـي
فلأصفحن عما جنـى               من الذنوب السبـق
حتى جنايتـه بـمـا                  فعل المشيب بمفرقي

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح

وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن والدة حسن قعدت وإياه يتحدثان وصارت تقول له: كيف حالك يا ولدي مع الأعجمي? فقال لها: يا أمي ما كان أعجمياً بل كان مجوسياً يعبد النار دون الملك الجبار، ثم أنه أخبرها بما فعل به من أنه سافر به وحطه في جلد الجمل وخيطه عليه وحملته الطيور وحطته فوق الجبل، وأخبرها بما رآه فوق الجبل من الخلائق الميتين الذين كان يحتال عليهم المجوسي ويتركهم فوق الجبل بعد أن يقضوا حاجته وكيف رمى روحه في البحر من فوق الجبل وسلمه الله تعالى وأوصله إلى قصر البنات ومؤاخات البنت له وقعوده عند البنات وكيف أوصل الله المجوسي إلى المكان الذي هو فيه وقتله إياه، وأخبرها بعشق الصبية وكيف اصطادها وبقصتها كلها إلى أن جمع الله شملهما ببعضهما فلما سمعت أمه حكايته تعجبت وحمدت الله تعالى على عافيته وسلامته، ثم قامت إلى تلك الحمول فنظرتها وسألته عنها فأخبرها بما فيها ففرحت فرحاً عظيماً، ثم تقدمت إلى الجارية تحدثها وتؤانسها فلما وقعت عينها عليها اندهش عقلها من ملاحتها وفرحت وتعجبت من حسنها وجمالها وقدها واعتدالها ثم قالت: يا ولدي الحمد لله على السلامة وعلى رجوعك بالسلامة ثم إن أمه قعدت جنب الصبية وآنستها وطيبت خاطرها ثم نزلت في بكرة النهار إلى السوق فاشترت عشر بدلاتٍ من أفخر ما في المدينة من الثياب وأحضرت لها الفرش العظيم وألبست الصبية وجملتها بكل شيء مليح، ثم أقبلت على ولدها وقالت: يا ولدي نحن بهذا المال لا نقدر أن نعيش في هذه المدينة وأنت تعرف أننا ناس فقراء والناس يتهموننا بعمل الكيمياء، فقم بنا نسافر إلى مدينة بغداد دار السلام لنقيم في حرم الخليفة وتقعد أنت في دكان فتبيع وتشتري وتتقي الله عز وجل فيفتح عليك بهذا المال.
فلما سمع حسن كلامها استصوبه وقام من وقته وخرج من عندها وباع البيت وأحضر النجائب وحمل عليها جميع أمواله وأمتعته وأمه وزوجته وسار ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى الدجلة فاكترى مركباً لبغداد ونقل فيه جميع ماله وحوائجه ووالدته وزوجته وكل ما كان عنده، ثم ركب المركب فسار بهم في ريح طيبة مدة عشرة أيام حتى أشرفوا على مدينة بغداد، فلما أشرفوا عليها ودخل بهم المركب المدينة طلع من وقته وساعته إلى المدينة واكترى مخزناً في الخانات، ثم نقل حوائجه من المركب إليه وطلع وأقام ليلة في الخان فلما أصبح غير ما عليه من الثياب. فلما رآه الدلال سأله عن حاجته وعما يريد فقال: أريد دار تكون مليحة واسعة فعرض عليه الدور التي عنده فأعجبته دار كانت لبعض الوزراء فاشتراها منه بمائة ألف دينار من الذهب وأعطاه الثمن، ثم عاد إلى الخان الذي نزل فيه ونقل جميع ماله وحوائجه إلى الدار، ثم خرج إلى السوق وأخذ ما تحتاج إليه الدار من آنية وفرش وغير ذلك واشترى خدماً ومن جملتها عبداً صغيراً للدار وأقام مطمئناً مع زوجته في ألذ عيش وسرور مدة ثلاث سنين وقد رزق بغلامين سمى أحدهما ناصراً والآخر منصوراً.
وبعد هذه المدة تذكر أخواته البنات وتذكر إحسانهن إليه وكيف ساعدنه على مقصوده فاشتاق إليهن وخرج إلى أسواق المدينة فاشترى منها شيئاً من حلي وقماش نفيس ونقل وأشياء نادرة وغير موجودة عندهم، فسألته أمه عن سبب شراء تلك التحف فقال لها: إني عزمت على أن أسافر إلى أخواتي اللاتي فعلن معي كل جميل ورزقي الذي أنا أنعم فيه من خيرهن وإحسانهن، فإني أريد أن أسافر إليهن وأنظرهن وأعود قريباً إن شاء الله تعالى. فقالت له: يا ولدي لا تغب عني، فقال لها: اعلمي يا أمي كيف تكونين مع زوجتي وهذا ثوبها الريش مدفون في الأرض فاحرصي عليه لئلا تقع عليه فتأخذه وتطير هي وأولادها ويروحون وأبقى لا أقع لهم على خبر فأموت كمداً من أجلهم، واعلمي يا أمي أني أحذرك من أن تذكري لها واعلمي أنها بنت ملك الجان وما في ملوك الجان أكبر من أبيها ولا أكثر منه جنوداً ولا مالاً، واعلمي أنها سيدة قومها وأعز ما عند أبيها، فهي عزيزة النفس جداً فاخدميها أنت بنفسك ولا تمكنيها من أن تخرج من الباب أو تطل من الطاقة أو من حائط فإني أخاف عليها من الهواء إذا هب وإذا جرى عليها أمر من أمور الدنيا فأنا أقتل روحي من أجلها.
فقالت أمه: أعوذ بالله من مخالفتك يا ولدي هل أنا مجنونة أن توصيني بهذه الوصية وأخالفك فيها، سافر يا ولدي وطب نفساً وسوف تحضر في خير وتنظرها إن شاء الله تعالى بخير وتخبرك بما جرى لها مني ولكن يا ولدي لا تقعد غير مسافة الطريق.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً لما أراد السفر إلى البنات وصى أمه على زوجته على حسب ما ذكرنا وكانت زوجته بالأمر المقدر تسمع كلامه وهما لا يعرفان ذلك ثم إن حسناً قام وخرج إلى خارج المدينة ودق الطبل فحضرت له النجائب فحمل عشرين من تحف العراق وودع والدته وزوجته وأولاده وكان عمر واحد من ولديه سنة والآخر سنتين ثم انه رجع إلى والدته وأوصاها ثانية ثم انه ركب إلى أخواته ولم يزل مسافراً ليلاً ونهاراً في أودية وجبال وسهول وأوعار مدة عشرة أيام وفي اليوم الحادي عشر وصل إلى القصر ودخل على أخواته ومعه الذي أحضره إليهن فلما رأينه فرحن به وهنينه بالسلامة وأما أخته فأنها زينت القصر ظاهره وباطنه ثم إنهن أخذن الهدايا وأنزلنه في مقصورة مثل العادة وسألنه عن والدته وزوجته فأخبرهن أنها ولدت منه ولدين ثم أن أخته الصغيرة لما رأته طيباً بخير فرحت فرحاً شديداً وأنشدت هذا البيت:
واسأل الريح عنكم كلما خـطـر            وغيركم في فؤادي قط ما خطرا

ثم أنه أقام عندهن في الضيافة والكرامة مدة ثلاثة أشهر وهو في فرح وسرور وغبطة وحبور وصيد وقنص، هذا ما كان من حديثه. وأما ما كان من حديث أمه وزوجته فإنه لما سافر حسن أقامت زوجته يوماً وثانياً مع أمه وقالت لها في اليوم الثالث: سبحان الله هل أقعد معه ثلاث سنين ما أدخل الحمام وبكت فرقت أمه لحالها وقالت لها: يا ابنتي نحن غرباء وزوجك ما هو في البلد فلو كان حاضراً كان يقوم بخدمتك أما أنا فلا أعرف أحداً ولكن يا بنتي اسخن لك الماء واغسل رأسك في حمام البيت.
فقالت لها: يا سيدتي لو قلت هذا القول لبعض الجواري كانت طلبت البيع في السوق وما كنت تقعد عندكم ولكن يا سيدتي إن الرجال معذورون فإن عندهم غيرة وعقولهم تقول لهم إن المرأة إذا خرجت من بيتها ربما تعمل فاحشة والنساء يا سيدتي ما كلهن سواء وأنت تعرفين أن المرأة إذا كان لها غرض في شيء ما يغلبها أحد ولا يقدر أن يحرص عليها ولا يصونها ولا يمنعها من الحمام ولا غيره ولا من أن تعمل كل ما تختاره ثم إنها بكت ودعت على نفسها وصارت تعدد على نفسها وغربتها فرقت لحالها أم زوجها وعلمت أن كل ما قالته لابد منه فقامت وهيأت حوائج الحمام التي يحتاجان إليها، وأخذتها وراحت إلى الحمام.
فلما دخلتا الحمام قلعت ثيابها فصار النساء جميعاً ينظرن ويسبحن الله عز وجل ويتأمل فيما خلق من الصورة البهية وصار كل من جاز من النساء على الحمام يدخل ويتفرج عليها وشاع في البلد ذكرها وازدحم النساء عليها وصار الحمام لا ينشق من كثرة النساء اللاتي فيه فاتفق بسبب ذلك الأمر العجيب أنه حضر إلى الحمام في ذلك اليوم جارية من جواري أمير المؤمنين هارون الرشيد ويقول لها تحفة العوادة فرأت النساء في زحمة والحمام لا ينشق من كثرة النساء والبنات فسألت عن الخبر فأخبرتها بالصبية فجاءت عندها ونظرت إليها وتأملت فيها فتحير عقلها من حسنها وجمالها وسبحت الله جل جلاله على ما خلق من الصور الملاح ولم تدخل ولم تغتسل وإنما صارت قاعدة وباهتة في الصبية إلى أن فرغت الصبية من الغسل وخرجت لبست ثيابها فزادت حسناً على حسنها.
فلما خرجت من الحرارة قعدت على البساط والمساند وصارت النساء ناظرات إليها فالتفتت إليهن وخرجت فقامت تحفة العوادة جارية الخليفة، وخرجت معها حتى عرفت بيتها وودعتها ورجعت إلى قصر الخليفة وما زالت سائرة حتى وصلت بين أيادي السيدة زبيدة وقبلت الأرض بين يديها فقالت السيدة زبيدة يا تحفة ما سبب إبطائك في الحمام فقالت يا سيدتي رأيت أعجوبة ما رأيت مثلها في الرجال ولا في النساء وهي التي شغلتني وأدهشت عقلي وحيرتني حتى أنني ما غسلت رأسي فقالت وما هي يا تحفة.
قالت يا سيدتي رأيت جارية في الحمام ومعها ولدان صغيران كأنهما قمران ما رأى أحد مثلها لا قبلها ولا بعدها في الدنيا بأسرها وحق نعمتك يا سيدتي إن عرفت بها أمير المؤمنين قتل زوجها وأخذها منه لأنه لا يوجد مثلها واحدة من النساء وقد سألت عن زوجها فقيل بأنه رجل تاجر اسمه حسن البصري وتبعتها عند خروجها من الحمام إلى أن دخلت بيتها فرأيته بيت الوزير الذي له بابان باب من جهة البحر وباب من جهة البر وأنا أخاف يا سيدتي أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف الشرع ويقتل زوجها ويتزوج بها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جارية أمير المؤمنين لما رأت زوجة حسن البصري ووصفت حسنها للسيدة زبيدة وقالت يا سيدتي أني أخاف أن يسمع أمير المؤمنين فيخالف الشرع ويقتل زوجها ويتزوج بها فقالت السيدة زبيدة ويلك يا تحفة هل بلغت هذه الجارية من الحسن والجمال أن أمير المؤمنين يبيع دينه بدنياه ويخالف الشرع لأجلها والله لا بد لي من النظر إلى هذه الصبية فإن لم تكن كما ذكرت أمرت بضرب عنقك يا فاجرة إن في سراية أمير المؤمنين ثلثماية وستين جارية بعدد أيام السنة ما فيهن واحدة بالصفات التي تذكرينها فقالت يا سيدتي لا والله ولا في بغداد بأسرها مثلها بل ولا في العجم ولا في العرب ولا في خلق الله عز وجل مثلها.
فعند ذلك دعت السيدة زبيدة بمسرور فحضر وقبل الأرض بين يديها فقالت له يا مسرور اذهب إلى دار الوزير التي ببابين باب على البحر وباب على البر وائت بالصبية التي هناك هي وأولادها والعجوز التي عندها بسرعة ولا تبطئ فقال مسرور السمع والطاعة فخرج من بين يديها حتى وصل إلى باب الدار فطرق الباب فخرجت له العجوز أم حسن وقالت من بالباب فقال لها مسرور خادم أمير المؤمنين ففتحت الباب ودخل فسلم عليها وسلمت عليه وسألته عن حاجته فقال لها إن السيدة زبيدة بنت القاسم زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد السادس من بني العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم تدعوك إليها وزوجة ابنك وأولادك فأن النساء أخبرنها عنها وعن حسنها.
فقالت أم حسن: يا مسرور نحن ناس غرباء وزوج البنت ولدي ما هو في البلد ولم يأمرني بالخروج أنا ولا هي لأحد من خلق الله تعالى وأنا أخاف أن يجري أمر ويحضر ولدي فيقتل روحه فمن إحسانك يا مسرور أن تكلفنا ما لا نطيق، فقال مسرور: يا سيدتي لو علمت أن في هذا خوف عليكم ما كلفتكم الرواح وإنما مراد السيدة زبيدة أن تنظرها وترجع فلا تخالفي تندمي وكما آخذكما أردكما إلى هنا سالمين إن شاء الله تعالى، فما قدرت أم حسن أن تخالفه فدخلت وهيأت الصبية وأخرجتها هي وأولادها وساروا خلف مسرور وهو قدامهم إلى قصر الخليفة فطلع بهم حتى أوقفهم قدام السيدة زبيدة فقبلوا الأرض بين يديها ودعوا لها والصبية مستورة الوجه.
فقالت لها السيدة: أما تكشفين عن وجهك لأنظره فقبلت الصبية الأرض بين يديها وأسفرت عن وجه يخجل البدر في أفق السماء، فلما نظرتها شخصت إليها وسرحت فيها النظر وأضاء القصر من نور وجهها.
واندهشت زبيدة من حسنها، وكذلك كل من في القصر وصار كل من رآها مجنوناً لا يقدر أن يكلم أحداً ثم إن السيدة زبيدة قامت وأوقفت الصبية وضمتها إلى صدرها وأجلستها معها على السرير وأمرت أن يزينوا القصر ثم أمرت بأن يحضر لها بدلة من أفخر الملبوس وعقداً من أنفس الجواهر وألبست الصبية إياهما، وقالت لها يا سيدة الملاح أنك عجبتيني وملأت عيني، أي شيء عندك من الذخائر.
فقالت لها الصبية يا سيدتي لي ثوب ريش لو لبسته بين يديك لرأيت أحسن ما تتعجبين منه ويتحدث بحسنة كل من يراه جيلاً بعد جيل فقالت وأين ثوبك هذا قالت هو عند أم زوجي فاطلبيه لي منها فقالت السيدة زبيدة يا أمي بحياتي عندك أن تنزلي وتأتي لها بثوبها الريش حتى تفرجنا على الذي تفعله وخذيه ثانياً فقالت العجوز: يا سيدتي هذه كذابة هل رأينا أحداً من النساء له ثوب من الريش فهذا لا يكون إلا للطيور فقالت الصبية للسيدة: زبيدة وحياتك يا سيدتي لي عندها ثوب ريش، وهو في صندوق مدفون في الخزانة التي في الدار.
فقلعت السيدة زبيدة من عنقها عقد جوهر يساوي خزائن كسرى وقيصر وقالت لها يا أمي خذي هذا العقد وناولتها إياه وقالت لها: بحياتي أن تنزلي وتأتي بذلك الثوب لنتفرج عليه وخذيه بعد ذلك فحلفت لها أنها ما رأت هذا الثوب ولا تعرف له طريقاً فصرخت السيدة زبيدة على العجوز وأخذت منها المفتاح ونادت مسروراً فقالت له: خذ هذا المفتاح واذهب إلى الدار وافتحها، وادخل الخزانة التي بابها كذا وكذا، وفي وسطها صندوقاً فأخرجه واكسره وهات الثوب الريش الذي فيه وأحضره بين يدي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة زبيدة لما أخذت المفتاح من أم حسن وأعطته لمسرور وقالت له: خذ هذا المفتاح وافتح الخزانة الفلانية وأخرج منها الصندوق واكسره، وأخرج منه الثوب الريش الذي فيه وأحضره بين يدي فقال: سمعاً وطاعةً، ثم أنه تناول المفتاح من يد السيدة زبيدة وسار فقامت العجوز أم حسن وهي باكية العين، ندمانة على مطاوعة الجارية ورواحها الحمام معها ولم تكن الصبية طلبت الحمام إلا مكيدة، ثم إن العجوز دخلت هي ومسرور وفتحت باب الخزانة فدخل وأخرج الصندوق وأخرج منه القميص الريش ولفه معه في فوطة وأتى به إلى السيدة زبيدة، فأخذته وقبلته وتعجبت من حسن صناعته ثم ناولته لها وقالت لها: هل هذا ثوبك الريش.
قالت: نعم يا سيدتي ومدت الصبية يدها إليه وأخذته منها وهي فرحة ثم إن الصبية تفقدته فرأته صحيحاً كما كان عليه ولم يقع منه ريشة ففرحت به وقامت من جنب السيدة زبيدة وأخذت القميص وفتحته وأخذت أولادها في حضنها واندرجت فيه وصارت طيرة بقدرة الله عز وجل فتعجبت السيدة زبيدة من ذلك وكذلك كل من حضر وصار الجميع يتعجبون من فعلها ثم إن الصبية تمايلت وتمشت ورقصت ولعبت وقد شخص لها الحاضرون وتعجبوا من فعلها ثم قالت لهم بلسان يا سادتي هل هذا مليح.
فقال لها الحاضرون نعم يا سيدتي الملاح كل ما فعلته مليح ثم قالت: وهذا الذي أعمله أحسن منه يا سيدتي وفتحت أجنحتها وطارت بأولادها وصارت فوق القبة ووقفت على سطح القاعة فنظروا إليها بالأحداق وقالوا لها: والله هذه صنعة غريبة مليحة ما رأيناها قط ثم إن الصبية لما أرادت أن تطير إلى بلادها تذكرت حسناً وقالت اسمعوا يا سادتي وأنشدت هذه الأبيات:
يا من خلا عن ذي الـديار وسـار                    نحو الحبائب مـسـرعـاً فـرارا
أظن أني فـي نـعـيم بـينـكـم                والعيش منكـم لـم يكـن أكـدارا
لما أسرت وصرت في شرك الهوى                جعل الهوى سجني وشط مـزارا
لما اختفى ثوبـي تـيقـن أنـنـي             لم ادع فيه الـواحـد الـقـهـارا
قد صار يوصي أمه بـحـفـاظـه            في مخدع وعداً عـلـي وجـارا
فسمعت ما قالوه ثم حـفـظـتـه             ورجـوت خـيراً زائداً مـدرارا
فرواحي الحـمـام كـان وسـيلة             حتى غدت في العقـول حـيارى
وتعجبت عرس الرشيد لبهجتي            إذ شاهدتنـي يمـنة ويسـارا
ناديت يا امرأة الخليفة إن لـي              ثوباً من الريش العلي فخـارا
لو كان فوقي تنظرين عجائبـاً              تمحوا العنا وتـبـدد الأكـدارا
فاستفسرت عرس الخليفة أين ذا                   فأجبت في دار الذي قـد دار
فانقض مسرور وأحضره لهـا             وإذا به قـد أشـرق الأنـوارا
فأخذته من كفه وفـتـحـتـه                 ورأيت منه الجـيب والأزرارا
فدخلت فيه ثم أولادي مـعـي               وفردت أجنحتي وطرت فرارا
يا أم زوجي أخبـريه إذا أنـي               إن حب وصلي فليفـارق دارا

فلما فرغت من شعرها قالت لها السيدة زبيدة أما تنزلين عندنا حتى نتملى بحسنك يا سيدة الملاح فسبحان من أعطاك الفصاحة والصباحة قالت هيهات أن يرجع ما فات ثم قالت لأم الحزين المسكين: والله يا سيدتي يا أم حسن إنك توحشيني فإذا جاء ولدك وطالت عليه أيام الفراق واشتهى القرب والتلاق وهزته أرياح المحبة والأشواق فليجئني إلى جزائر واق الواق، ثم طارت هي وأولادها وطلبت بلادها فلما رأت أم حسن ذلك بكت ولطمت وجهها حتى غشي عليها.
فلما أفاقت قالت لها السيدة زبيدة يا سيدتي الحاجة ما كنت أعرف أن هذا يجري ولو كنت أخبرتيني به ما كنت أتعرض لك وما عرفت أنها من الجن الطيارة إلا في هذا الوقت ولو عرفت أنها على هذه الصفة ما كنت مكنتها من لبس الثوب ولا كنت أخليها تأخذ أولادها ولكن يا سيدتي اجعليني في حلٍ فقالت العجوز وما وجدت في يدها حيلةٌ أنت في حل، ثم خرجت من قصر الخلافة ولم تزل سائرة حتى دخلت بيتها وصارت تلطم على وجهها حتى غشي عليها فلما أفاقت من غشيتها استوحشت إلى الصبية والى أولادها والى رؤية ولدها ثم قامت وحفرت في البيت ثلاثة قبورٍ وأقبلت عليها بالبكاء آناء الليل وأطراف النهار وحين طالت غيبة ولدها وزاد بها القلق والشوق والحزن أنشدت هذه الأبيات:
خيالك بين طابقة الـجـفـون                 وذكرك في الخوافق والسكون
وحبك قد جرى في العظم منى             كجري الماء في ثمر الغصون
ويوم لا أراك يضيق صـدري              وتعذرني العواذل في شجوني
أيا من قد تملـكـنـي هـواه                  وزاد على محبته جـنـونـي
خف الرحمن في وكن رحيمـاً              هواك أذاقني ريب المـنـون

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أم حسن صارت تبكي آناء الليل وأطراف النهار لفراق ولدها وزوجته وأولادها هذا ما كان من أمرها وأما ما كان من أمر ولدها حسن فإنه لما وصل إلى البنات، حلفن عليه أن يقيم عندهن ثلاثة أشهرٍ ثم بعد ذلك جهزن له المال وهيأن له عشرة أحمالٍ خمسة من الذهب وخمسة من الفضة وهيأن له من الزاد حملاً واحداً وسفرنه وخرجن معه فحلف عليهن أن يرجعن فأقبلن على عناقه من أجل التوديع، فتقدمت إليه البنت الصغيرة وعانقته وبكت حتى غشي عليها وأنشدت هذين البيتين:
متى تنطفي نار الفراق بقربكـم            ويقضي بكم ربي ونبقى كما كنا
لقد راعني يوم الفراق وضر بي                    وقد زادني التوديع يا سادتي هنا
ثم تقدمت البنت الثانية وعانقته وأنشدت هذين البيتين:
وداعك مثل وداع الحياة                    وفقدك يشبه فقد النـديم
وبعدك نارٌ كوت مهجتي                    وقربك فيه جنات النعيم
ثم تقدمت البنت الثالثة وعانقته وأنشدت هذين البيتين:
ما تركنا الوداع يوم افترقـنـا               عن ملال ولا لوجه قـبـيح
أنت روحي على الحقيقة قطعاً             كيف أختار أن أودع روحـي
ثم تقدمت البنت الرابعة وعانقته وأنشدت هذين البيتين:
هو ذلك الدرر الذي أودعـتـه              في مسمعي أجريته من مدمعي
لم يبكني إلا حـديث فـراقـه                 لما أسر بـه إلـى دمـوعـي
ثم تقدمت البنت الخامسة وعانقته وأنشدت هذين البيتين:
لا ترحلن فما لي عنكـم جـلـدٌ               حتى أطيق به توديع مرتـحـل
ولا من الصبر ما ألقى الفراق به                    ولا من الدمع ما أذري على طلل
ثم تقدمت البنت السادسة وعانقته وأنشدت هذين البيتين:
قد قلت مذ سار السباق بهم                والشوق ينهب مهجتي نهبا
لو كان لي ملك أصول به                   لأخذت كل سفينة غصبـا
ثم تقدمت البنت السابعة وعانقته وأنشدت هذين البيتين:
إذا رأيت الوداع فاصبر           ولا يهولنك الـبـعـاد
وانتظر العود عن قريبٍ                    فإن قلب الوداع غادرا
ثم إن حسناً ودعهن وبكى إلى أن غشي عليه بسبب فراقهم وأنشد هذه الأبيات:
ولقد جرت يوم الفراق سوافـحـي                   درراً نظمت عقودها من أدمعـي
وحدا بهم حادي الركاب فلـم أجـد                   جلداً ولا صبراً ولا قلبي مـعـي
ودعتهم ثم انثـنـيت بـحـسـرة              وتركت أنس معاهـدي والأربـع
فرجعت لا أدري الطريق ولم تطب                  نفسي أني أراك بـمـرجـعـي
يا صاحبي أنصت لأخبار الـهـوى                   حاشى لقلبك أن أقـول ولا يعـي
يا نفس منذ فارقتهن فـفـارقـي            طيب الحياة وفي البقاء لا تطمعي

ثم أنه جد في المسير ليلاً ونهاراً حتى وصل إلى بغداد دار السلام وحرم الخلافة العباسية ولم يدر بالذي جرى بعد سفره فدخل الدار على والدته وسلم عليها فرآها قد انتحل جسمها ورق عظمها من كثرة النواح والسهر والبكاء والعويل حتى صارت مثل الخلال ولم تقدر أن ترد الكلام فصرف النجائب وتقدم إليها فلما رآها على تلك الحالة قام في الدار، وفتش على زوجته وعلى أولادها فلم يجد لهم أثراً ثم إنه نظر في الخزانة فوجدها مفتوحة والصندوق مفتوحاً ولم يجد فيه الثوب، فعند ذلك عرف أنها تمكنت من الثوب الريش وأخذته وطارت وأخذت أولادها معها فرجع إلى أمه فرآها قد أفاقت من غشيتها فسألها عن زوجته وعن أولادها فبكت وقالت: يا ولدي عظم الله أجرك فيهم وهذه قبورهم الثلاثة، فلما سمع كلام أمه صرخ صرخة عظيمة وخر مغشياً عليه واستمر كذلك من أول النهار إلى الظهر فازدادت أمه غماً على غمها وقد يئست من حياته فلما أفاق بكي، ولطم على وجهه وشق ثيابه وصار دائراً في الدار متحيراً ثم أنشد هذين البيتين:
شكا ألم الفراق الناس قبلـي                وروع بالنوى حي ومـيت
وأما مثل ما ضمت ضلوعي               فأني لا سمعـت ولا رأيت

فلما فرغ من شعره أخذ سيفه وسله وجاء إلى أمه وقال لها، إن لم تعلميني بحقيقة الحال ضربت عنقك وقتلت روحي فقالت له: يا ولدي لا تفعل ذلك وأنا أخبرك، ثم قالت له أغمد سيفك واقعد حتى أحدثك بالذي جرى، فلما أغمد سيفه وجلس إلى جانبها أعادت عليه القصة من أولها إلى آخرها وقالت له: يا ولدي لولا أني رأيتها بكت على طلب الحمام، وخفت منك أن تجيء وتشكو إليك فتغضب على ما كنت ذهبت بها إليه، ولولا أن السيدة زبيدة غضبت علي أخذت مني المفتاح قهراً ما كنت أخرجت الثوب ولو كنت أموت ويا ولدي أنت تعرف أن يد الخلافة لا تطاولها يد، فلما أحضروا لها الثوب أخذته وقبلته وكانت تظن أنه فقد منه شيء ففرحت وأخذت أولادها وشدتهم في وسطها ولبست الثوب الريش بعد ما قلعت لها الست زبيدة كل ما عليها إكراماً لها ولجمالها فلما لبست الثوب الريش انتفضت وصارت طيرة ومشت في القصر وهم ينظرون إليها ويتعجبون من حسنها وجمالها ثم طارت وصارت فوق القصر وبعد ذلك نظرت إلي وقالت لي إذا جاء ولدك وطالت عليه ليالي الفراق واشتهى القرب مني والتلاق وهزته رياح المحبة والأشواق فليفارق وطنه ويذهب إلى جزائر واق الواق، هذا ما كان من حديثهما في غيبتك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً لما سمع كلام أمه حين حكت له جميع ما فعلت زوجته وقت ما طارت صرخ صرخة عظيمة ووقع مغشياً عليه ولم يزل كذلك إلى آخر النهار فلما أفاق لطم على وجهه وصار يتقلب على الأرض مثل الحية فقعدت أمه تبكي عند رأسه إلى نصف الليل فلما أفاق من غشيته بكى بكاء عظيماً، وأنشد هذه الأبيات:
قفوا وانظروا حال الذي تهجرونه                  لعلكم بعد الجفاء ترحـمـونـه
فان تنظروه تنكروه لسـقـمـه              كأنكم واللـه لا تـعـرفـونـه
وما هو إلا ميت في هـواكـم               يعد من الأمـوات إلا أنـينـه
ولا تحسبوا أن التـفـرق هـين              يعز على المشتاق والموت دونه

فلما فرغ من شعره قام وجعل يدور في البيت وينوح ويبكي وينتحب مدة خمسة أيام لم يذق فيها طعاماً ولا شراباً فقامت إليه أمه وحلفته وأقسمت عليه أن يسكت من البكاء فما قبل كلامها وما زال يبكي وينتحب وأمه تسليه وهولا يسمع منها شيئاً وما زال حسن على هذه الحالة يبكي إلى الصباح ثم غفلت عيناه فرأى زوجته حزينة وهي تبكي فقام من نومه وهو يصرخ وأنشد هذين البيتين:
خيالك عندي لـيس يبـرح سـاعة                    جعلت له في القلب أشرف موضع
ولو رجاء الوصل ما عشت لحـظة                 ولولا خيال الطيف لم أتـهـجـع

فلما أصبح زاد نحيبه وبكاؤه ولم يزل باكي العين حزين القلب ساهر الليل قليل الأكل واستمر على هذه الحالة مدة شهر كامل فلما مضى ذلك الشهر خطر بباله أنه يسافر إلى أخواته لأجل أن يساعدنه على قصده من حصولها فأحضر النجائب ثم حمل خمسين هجينة من تحف العراق وركب واحدة منها ثم أوصى والدته على البيت وأودع جميع حوائجه إلا قليلاً أبقاه في الدار وسار متوجهاً إلى أخواته لعله أن يجد عندهن مساعدة على اجتماع زوجته ولم يزل سائراً حتى وصل إلى قصر البنات في جبل السحاب فلما دخل عليهن قدم إليهن الهدايا ففرحن بها وهنينه بالسلامة وقلن له يا أخانا ما سبب مجيئك بسرعة وما لك غير شهرين فبكى وأنشد هذه الأبيات:
أرى النفس في فكر لفقد حبيبها           فلا تتهنى بالحياة وطـيبـهـا
سقامي داء ليس يعرف طيبـه             وهل يبرئ الأسقام غير طيبها
فيا مانعي طيب المنام تركتنـي             اسائل عنك الريح عند هبوبها
قريبة عهد من حبيبي وقد حوى                    محاسن تدعو مقلتي لحبيبهـا
فيا أيها الشخص والملم بأرضه           عسى نفحة تحيا القلوب بطيبها
فلما فرغ من شعره صرخ صرخة عظيمة وخر مغشياً عليه وقعدت البنات حوله يبكين عليه حتى أفاق من غشيته فلما أفاق أنشد هذين البيتين:
عسى وأمل الدهر يلوي عنـانـه           ويأتيني بحبيبي والزمان غـيور
ويسعدني دهري فتنقضي حوائجي                 وتحصل من بعد الأمور أمـور
فلما فرغ من شعره بكى حتى غشي عليه فلما أفاق من غشيته أنشد هذه الأبيات:
أفي العشق والتبريح دنتم كمادنـا                   وهل ودنا منكم كما ودكم مـنـا
ألا قاتل الله الـهـوى مـا أمـره              فيا ليت شعري ما يريد الهوى منا
وجوهكم الحسنى وإن شطت النوى                تمثل في أبصارنا أينـمـا كـنـا
فقلبي مشغول بتذكـار حـبـكـم             ويطربني صوت الحمام إذا غنى
ألا يا حـمـامـاً يدعـو ألـيفـه                لقد زدتني شوقاً وأصحبتني حزنا
تركت جفوني لا تمل من البـكـا            على سادة غابوا برؤيتهم عـنـا
أحن إليهـم كـل وقـت سـاعةٍ               وأشتاق في الليل إليهم إذا جـنـا

فلما سمعت كلامه أخته خرجت إليه فرأته راقداً مغشياً عليه فصرخت ولطمت فسمعها أخواتها فخرجن إليها فرأين حسناً راقداً مغشياً عليه فاحتطن به وبكين عليه ولم يخف عليهن حين رأينه ما حل به من الوجد والهيام والشوق والغرام فسألنه عن حاله فبكى وأخبرهن بما جرى في غيابه حيث طارت زوجته وأخذت أولادها معها فحزن عليها وسألنه عن الذي قالت عندما راحت قال يا أخواتي إنها قالت لوالدتي قولي لولدك إذ جاء وطالت عليه ليالي الفراق واشتهى القرب مني وهزته أرياح المحبة والأشواق فليجئ إلى جزائر واق الواق. فلما سمعن كلامه تغامزن وتذاكرن وصارت كل واحدة تنظر إلى أختها وحسن ينظر إليهن ثم أطرقن رؤوسهن إلى الأرض ساعة وبعد ذلك رفعنها وقلن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قلن له امدد يدك إلى السماء فان وصلت إلى السماء تصل إلى زوجتك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن البنات لما قلن لحسن امدد يدك إلى السماء فإذا وصلت إليها تصل إلى زوجتك وأولادك جرت دموعه على خديه مثل المطر حتى بلت ثيابه وأنشد هذه الأبيات:
قد هيجتني الخدود الحمـر والـحـدق               وفارق الصبر لـمـا أقـبـل الأرق
بيض نواعم أضنت بالجفـا جـسـدي                لم يبق منه لا يصار الـورى رمـق
جور يميس كغزلان النقـا سـفـرت                  عن بهجة لو رآها الأولياء عـلـقـوا
يمشين مثل نسيم الأرض في سـحـر               يعشقهن عـراء الـهـم والـقـلـق
علقت منـهـم آمـالـي بـغـانـية              قلبي لها بلظى الـنـيران يحـتـرق
خدود نـاعـمة الأطـراف مــائسة                    في وجهها الصبح وفي شعرها الغسق
قد هيجتني وكم في الحب من نـطـق               قد هيجته جفون البـيض والـحـدق
فلما فرغ من شعره بكى وبكت البنات لبكائه وأخذتهن الشفقة والغيرة عليه وصرن به يصبرنه ويقمن له بجميع الضمل فأقبلت عليه أخته وقالت له يا أخي طب نفساً وقر عيناً واصبر تبلغ مرادك فمن صبر نال ما تمنى والصبر مفتاح الفرج فقد قال الشاعر:
دع المقادير تجري في أعنتها              ولا تبيتن إلا خالي الـبـال
ما بين غمضة عين وانتباهتها             يغير الله من حال إلى حال
ثم قالت له قو قلبك وشدد عزمك فان ابن عشرة لا يموت وهو في التاسعة والبكاء والحزن يمرض ويسقم واقعد عندنا تستريح وأنا أتحيل لك في الوصول إلى زوجتك وأولادك إن شاء الله تعالى وبكى بكاءً شديداً وأنشد هذين البيتين:
لئن عوفيت من مرض بجسمي            فما عوفيت بمرض بقلـبـي
وليس دواء أمراض التصابـي             سوى وصل الحبيب مع المحب

ثم جلس إلى جانب أخته وصارت تحدثه وتسليه عن الذي كان سبباً في رواحها فأخبرها عن سبب ذلك فقالت له والله يا أخي إني أردت أن أقول لك أحرق الثوب الريش فإنساني الشيطان ذلك وصارت تحدثه وتلاطفه فلما طال عليه الأمر زاد به القلق وأنشد هذه الأبيات:
تمكن من قلبي حبيب ألـفـتـه               وليس لما قد قدر الله مـدفـع
من العرب قد حاز الملاحة كلها            غزال ولكن في فؤادي يرتـع
لئن عز صبري في هواه وحيلتي                   بكيت على أن البكا ليس ينفـع
مليح له سبع وسـبـع كـأنـه                هلالٌ له خمس وخمس وأربـع

فلما نظرت أخته إلى ما فيه من الوجد والهيام وتباريح الهوى والغرام قامت إلى أخواتها وهي باكية العين حزينة القلب وبكت بين أيديهن ورمت نفسها عليهن وقبلت أقدامهن وسألتهن مساعدة أخيها على قضاء حاجته واجتماعه بأولاده وزوجته وعاهدتهن على أن يدبرن أمراً يوصله إلى جزائر واق الواق وما زالت تبكي بين يدي أخواتها حتى أبكتهن وقلن لها طيبي قلبك بأننا مجتهدات في اجتماعه بأهله إن شاء الله تعالى ثم إنه قام عندهن سنة كاملة وعينه لم تمسك عن الدموع وكان لأخواتها عم أخو والدهن شقيقه وكان اسمه عبد القدوس وكان يحب البنت الكبيرة محبة كثيرة وكان في كل سنة يزورها مرة واحدة ويقضي حوائجها وكانت البنات قد حدثته بحديث حسن وما وقع له مع المجوس وكيف قدر على قتله ففرح عمهن بذلك ودفع للبنت الكبيرة صرة فيها بخور وقال لها يا بنت أخي إذا أهمك أمراً ونالك مكروه أو عرضت لك حاجة فألق هذا البخور في النار واذكريني فأنا أحضر لك بسرعة وأقضي حاجتك وكان هذا الكلام في أول يوم من السنة.
فقالت البنت لبعض أخواتها إن السنة قد مضت بتمامها وعمي لم يحضر قومي اقدحي الزناد وائتني بعلبة البخور فقامت وهي فرحانة وأحضرت علبة البخور وفتحتها وأخذت منها شيء يسير وناولته لأختها فأخذته ورمته في النار وذكرت عمها فما فرغ البخور وإلا غبرة قد ظهرت من صدر الوادي ثم بعد ساعة انكشف الغبار فبان من تحته شيخ راكب على فيل وهو يصيح من تحته فلما نظرته البنات صار يشير إليهن بيديه ورجليه ثم بعد ساعة وصل إليهن فنزل عن الفيل ودخل عليهن فعانقنه وقبلن يديه وسلمن عليه ثم إنه جلس وصارت البنات يتحدثن معه ويسألنه عن غيابه.
فقال إني كنت في هذا الوقت جالساً أنا وزوجة عمكن فشممت البخور فحضرت إليكن على هذا الفيل فما تريدين يا بنت أخي? فقالت يا عم إننا اشتقنا إليك وقد مضت السنة وما عادتك أن تغيب عنا أكثر من سنة فقال لهن إني مشغولاً وكنت عزمت على أن أحضر إليكن غداً فشكرنه ودعون له وقعدن يتحدثن معه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن البنات قعدن يتحدثن مع عمهن قالت البنت الكبيرة يا عمي إننا كنا حدثناك بحديث حسن البصري الذي جاء به بهرام المجوسي وكيف قتله وحدثناك بالصبية بنت الملك الأكبر التي أخذها وما قاس من الأمور الصعاب والأهوال وكيف اصطاد بنت الملك وتزوج بها وكيف سافر إلى بلاده قال نعم فما حدث له بعد هذا قالت له إنها غدرت به وقد رزق منها بولدين فأخذتهما وسافرت بهما إلى بلادها وهو غائب وقالت لأمه إذا حضر ولدك وطالت عليه ليالي الفراق وأراد مني القرب والتلاقي به وهزته رياح المحبة والاشتياق فليجئني إلى جزائر واق الواق، فحرك رأسه وعض على إصبعه ثم أطرق رأسه إلى الأرض وصار ينكث في الأرض بإصبعه ثم التفت يميناً وشمالاً وحرك رأسه وحسن ينظره وهو متوار عنه.
فقالت البنات لعمهن رد علينا الجواب فقد تفتت منا الأكباد فهز رأسه إليهن وقال لهن يا بناتي لقد أتعب هذا الرجل نفسه ورمى روحه في هول عظيم وخطر جسيم فإنه لا يقدر أن يقبل على جزائر واق الواق فعند ذلك نادت البنات حسناً فخرج إليهن وتقدم الشيخ عبد القدوس وقبل يده وسلم عليه ففرح به وأجلسه بجانبه فقالت البنات لعمهن يا عم بين لأخينا حقيقة ما قلته فقال له يا ولدي اترك عنك هذا العذاب الشديد فإنك لا تقدر أن تصل إلى جزائر واق الواق ولو معك الجن الطيارة والنجوم السيارة لأن بينك وبين الجزائر سبع أودية وسبع بحار وسبع جبال عظام وكيف أن تصل إلى هذا المكان ومن يصلك إليه بالله عليك أن ترجع من قريب ولا تتعب نفسك.
فلما سمع حسن كلام الشيخ عبد القدوس بكى حتى غشي عليه وقعدت البنات حوله يبكين لبكائه وأما البنت الصغيرة فإنها شقت ثيابها ولطمت على وجهها حتى غشي عليها فلما رآهم الشيخ عبد القدوس على هذه الحالة من الهم والوجد والحزن رق لهم وأخذته الرأفة عليهم فقال اسكتوا ثم قال لحسن طيب قلبك وأبشر بقضاء حاجتك إن شاء الله تعالى ثم قال يا ولدي قم وشد حيلك واتبعني فقام حسن على حيله بعد أن ودع البنات وتبعه وقد فرح بقضاء حاجته ثم إن الشيخ عبد القدوس استدعى الفيل فحضر فركبه وأردف حسناً خلفه وسار به مدة ثلاثة أيام بلياليها مثل البرق الخاطف حتى وصل جبل عظيم أزرق وفي ذلك الجبل مغارة عليها باب من الحديد الصيني.
فأخذ الشيخ بيد حسن وأنزله ثم نزل الشيخ وأطلق الفيل ثم تقدم إلى باب المغارة وطرقه فانفتح الباب وخرج إليه عبد أسود أحرود كأنه عفريت وبيده اليمنى سيف والأخرى ترس من بولاد فلما نظر الشيخ عبد القدوس رمى السيف والترس من يده وتقدم إلى الشيخ عبد القدوس وقبل يده ثم أخذ الشيخ بيد حسن ودخل هو وإياه وقفل العبد الباب خلفهما فرأى حسن المغارة كبيرة واسعة جداً أولها دهليز معقود ولم يزالوا سائرين مقدار ميل ثم انتهى بهم السير إلى فلاة عظيمة وتوجهوا إلى ركن فيه بابان عظيمان مسبوكان من النحاس الأصفر ففتح الشيخ عبد القدوس باباً منهما ودخل ورده وقال لحسن اقعد على هذا الباب واحذر أن تفتحه وتدخل حتى أدخل وأرجع إليك عاجلاً.
فلما دخل الشيخ غاب مدة ساعة فلكية ثم خرج ومعه حصان ملجم إن سار طار وإن طار لم يلحقه غبار فقدمه الشيخ لحسن وقال له اركب، ثم إن الشيخ فتح الباب الثاني فبان منه برية واسعة فركب حسن الحصان وخرج الاثنان من الباب وسار في تلك البرية، فقال الشيخ لحسن: يا ولدي خذ هذا الكتاب وسر على الحصان إلى الموضع الذي يوصلك إليه فإذا نظرته وقف على مغارة مثل هذه فانزل عن ظهره وأجعل عنانه في قربوس السرج وأطلقه فإنه يدخل المغارة فلا تدخل معه وقف على باب المغارة مدة خمسة أيام ولا تضجر فإنه في اليوم السادس يخرج إليك شيخ أسود عليه لباس أسود وذقنه طويلة نازلة إلى سرته، فإذا رأيته فقبل يديه وامسك ذيله واجعله على رأسك وابك بين يديه حتى يرحمك فإنه يسألك عن حاجتك فإذا قال لك ما حاجتك فادفع إليه هذا الكتاب فإنه يأخذه منك ولا يكلمك ويدخل ويخليك فقف مكانك خمسة أيام أخرى ولا تضجر، وفي اليوم السادس انتظره فإنه يخرج إليك فإن خرج إليك بنفسه فأعلم أن حاجتك تقضى وإن خرج إليك أحد من غلمانه فأعلم أن الذي خرج إليك يريد قتلك والسلام، وأعلم يا ولدي أن كل من خاطر بنفسه أهلك نفسه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ عبد القدوس لما أعطى حسناً الكتاب أعلمه بما يحصل وقال له إن كل من خاطر بنفسه أهلك نفسه، فان كنت تخاف على نفسك فلا تلقي بها إلى الهلاك وإن كنت لا تخاف فدونك وما تريد فقد بينت لك الأمور، وإن شئت الرواح لصواحبك فهذا الفيل حاضر فانه يسير بك إلى بنات أخي وهن يوصلنك إلى بلادك ويرددنك إلى وطنك ويرزقك الله خيراً من البنت التي تعلقت بها.
فقال حسن للشيخ: وكيف تطيب لي الحياة من غير أن أبلغ مرادي، والله إني لا أرجع أبداً حتى أبلغ مرادي من حبيبتي أو تدركني منيتي، ثم بكى وأنشد هذه الأبيات:
على فقد حبي مع تزايد صبـوتـي                   وقفت أنـادي بـانـكـسـار وذلة
وقبلت تراب الربع شوقـاً لأجـلـه                    ولم يجدني إلا تـزايد حـسـرتـي
رعى الله من باتوا وفي القلب ذكرهم               فوصلت آلامي وفارقـت لـذتـي
يقولون لي صبراً وقد رحـلـوا بـه                  وقد أضرموا يوم الترحل زفرتـي
وما راعنـي إلا الـوداع وقـولـه            إذا غبت فاذكرني ولا تنسى صحبتي
لمن ألتجي من أرتجي بعد فقـدهـم                  وكانوا رجائي في رخائي وشدتـي
فوا حسرتي لما رجعـت مـودعـاً                    وسرت عداي المبغضون برجعتـي
فوا أسفا هذا الذي كـنـت حـاذراً                    ويا لوعتي زيدي لهيباً بمهـجـتـي
فإن غاب أحبابي فلا أعيش بعدهـم                 وإن رجعوا يا فرحتي ومسـرتـي
فوالله لم ينفض دمعي من الـبـكـا                   على فقدهم بل عبرة بعـد عـبـرة

فلما سمع الشيخ عبد القدوس إنشاده وكلامه علم أنه لا يرجع عن مراده وأن الكلام لا يؤثر فيه وتيقن أنه لا بد أن يخاطر بنفسه ولو تلفت مهجته فقال: اعلم يا ولدي أن جزائر واق الواق سبع جزائر فيها عسكر عظيم وذلك العسكر كله بنات أبكار وسكان الجزائر الجوانية شياطين ومردة وسحرة وأرهاط مختلفة وكل من دخل أرضهم لا يرجع وما حصل إليهم أحد قط ورجع، فبالله عليك أن ترجع إلى أهلك من قريب وأعلم أن البنت التي قصدتها بنت ملك هذه الجزائر كلها وكيف تقدر أن تصل إليها، فاسمع مني يا ولدي ولعل الله يعوضك خيراً منها.
فقال: والله يا سيدي لو قطعت في هواها إرباً إرباً ما ازددت إلا حباً وطرباً ولا بد من رؤية زوجتي وأولادي والدخول في جزائر واق الواق وإن شاء الله ما أرجع إلا بها وبأولادي، فقال له الشيخ عبد القدوس حينئذ: لا بد لك من السفر? فقال نعم وإنما أريد منك الدعاء بالإسعاف والإعانة لعل الله يجمع شملي بزوجتي وأولادي عن قريب، ثم بكى من عظم شوقه وأنشد هذه الأبيات:
أنتم مرادي وأنتم أحسن البشـر           أحلكم في محل السمع والبصر
ملكتم القلب مني وهو منزلكـم             وبعد سادتي أصبحت في كدر
فلا تظنوا انتقالي عن محبتكـم             فحبكم صير المسكين في حذر
غبتم فغاب سروري بعد غيبتـكـم                   وأصبح الصفو عندي غاية الكدر
تركتموني أراعي النجم مـن ألـمٍ                    أبكي بدمع يحاكي هاطل المطر
يا ليل طلت على من بات في قلق                   من شدة الوجد يرعى طلعة القمر
إن جزت يا ريح حياً فيه قد نزلوا                   بلغ سلامي لهم فالعمر في قصر
وقل لهم بعض ما لاقيت من ألـم                    إن الأحبة لا يدرن عن خـبـري

فلما فرغ حسن من شعره بكى بكاءً شديداً حتى غشي عليه فلما أفاق قال له الشيخ عبد القدوس يا ولدي إن لك والدة فلا تذقها ألم فقدك فقال حسن للشيخ والله يا سيدي ما بقيت أرجع إلا بزوجتي أو تدركني منيتي ثم بكى وناح وأنشد هذه الأبيات:
وحتى الهوى ما غير البعد عهدكم                  وما أنا بمن للـعـهـود يخـون
وعندي من الأشواق ما لو شرحته                 إلى الناس قالوا قد عراه جنـون
فوجدٌ وحزنٌ وانتـحـاب لـوعةٍ             ومن حاله هذا فـكـيف يكـون

فلما فرغ من شعره علم الشيخ أنه لا يرجع عما هو فيه ولو ذهبت روحه فناوله الكتاب ودعا له وأوصاه بالذي يفعله وقال له قد أكدت لك في الكتاب على أبي الريش ابن بلقيس بنت معين فهو شيخي ومعلمي وجميع الإنس والجن يخضعون له ويخافون منه ثم قال له توجه على بركة الله تعالى فتوجه وقد أرخى عنان الحصان فطار به أسرع من البرق ولم يزل حسن مسرعاً بالحصان مدة عشرة أيام حتى نظر أمامه شبحاً عظيماً أسود من الليل قد سد ما بين المشرق والمغرب فلما قرب حسن منه صهل الحصان تحته فاجتمعت خيول كثيرة مثل المطر لا يحصى لها عدد ولا يعرف لها مدد وصارت تتمسح في الحصان فخاف حسن وفزع.
ولم يزل حسن سائراً والخيول حوله إلى أن وصل إلى المغارة التي وصفها له الشيخ عبد القدوس فوقف الحصان على بابها فنزل حسن من فوقه ووضع عنانه في سرجه فدخل الحصان المغارة ووقف حسن على الباب كما أمره الشيخ عبد القدوس وصار متفكراً في عاقبة أمره كيف يكون حيران ولهان لا يعلم الذي يجري له.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً لما نزل من فوق ظهر الحصان وقف على باب المغارة متفكراً في عاقبة أمره كيف يكون لا يعلم الذي يجري له ولم يزل واقفاً على باب المغارة خمسة أيام بلياليها وهو سهران حزنان حيران متفكراً حيث فارق الأهل والأوطان والأصحاب والخلان باكي العين حزين القلب ثم إنه تذكر والدته وتفكر فيما يجري له وفي فراق زوجته وأولاده فيما أساد فأنشد هذه الأبيات:
لديكم دواء القلب والقـلـب ذائبٌ           ومن سفح أجفاني دموع سواكب
فراق وحزن واشتـياق وغـربة            وبعد عن الأوطان والشوق غالب
وما أنا إلا عاشـق ذو صـبـابة             ببعد الذي يهدى دهته المصـائب
فإن كان عشقي قد رماني بنكـبة                    فأي كريم لم تصبـه الـنـوائب

فما فرغ حسن من شعره إلا والشيخ أبو الريش قد خرج له وهو أسود وعليه لباس أسود فلما نظر حسن عرفه بالصفات التي أخبره بها الشيخ عبد القدوس فرمى نفسه عليه ومرغ خديه على قدميه وأمسك ذيله وحطه على رأسه وبكى قدامه فقال الشيخ أبو الريش ما حاجتك يا ولدي فمد يديه بالكتاب وناوله للشيخ أبي الريش فأخذه منه ودخل المغارة لم يرد عليه جواباً فقعد حسن في موضعه على الباب مثل ما قاله الشيخ عبد القدوس وهو يبكي وما زال قاعداً مكانه مدة خمسة أيام وقد ازداد به القلق واشتد به الخوف ولازمه الأرق فصار يبكي ويتضجر من ألم البعاد وكثرة السهاد، ثم أنشد هذه الأبيات:
سبحان جبار السـمـا               أن المحب لفي عنـا
من لم يذق طعم الهوى           لم يدر ما جهد البـلا
لو كنت أحبس عبرتي             لوجدت أنهار الدمـا
كم من صديق قد قسا             قلباً وأولع بالشـقـا
فإذا تعطف لامـنـي                 فأقول ما بي من بكا
لكن ذهبـت لأرتـدي                فأصابني عين الردى
بكت الوحوش لوحشتي                    وكذلك سكان الهـوى

ولم يزل حسن يبكي إلى أن لاح الفجر وإذا بالشيخ أبو الريش قد خرج إليه وهو لابس لباساً أبيض وأومأ إليه بيده أن يدخل فدخل حسن فأخذه الشيخ من يده ودخل به المغارة ففرح وأيقن أن حاجته قد قضيت ولم يزل الشيخ سائراً وحسن معه مقدار نصف نهار ثم وصلا إلى باب مقنطر عليه باب من البولاد ففتح الباب ودخل هو وحسن في دهليز معقود بحجارة من الجزع المنقوش بالذهب ولم يزالا سائرين حتى وصل إلى قاعة كبيرة مرخمة واسعة في وسطها بستان فيه من سائر الأشجار والأزهار والأثمار والأطيار على الأشجار تناغي وتسبح الملك القهار وفي القاعة أربعة لواوين يقابل بعضها بعضاً وفي كل ليوان مجلس فيه فسقية وعلى كل ركن من أركان كل فسقيه صورة سبع من الذهب وفي كل مجلس كرسي وعليه شخص جالس وبين يديه كتب كثيرة جداً وبين أيديهم مجاهر من ذهب فيها آثار وبخور وكل شيخ منهم بين يديه طلبته يقرؤون عليه الكتب.
فلما دخلا عليهم قاموا إليهما وعظموهما فأقبل عليهم وأشار لهم أن يصرفوا الحاضرين فصرفهم وقام أربعة مشايخ وجلسوا بين يدي الشيخ أبو الريش وسألوه عن حال حسن فعند ذلك أشار الشيخ أبو الريش إلى حسن وقال له حدث الجماعة بحديثك وبجميع ما جرى لك من أول الأمر إلى آخره فعند ذلك بكى حسن بكاءً شديداً بحديثه.
فلما فرغ حسن من حديثه صاحت المشايخ كلهم وقالوا هل هذا هو الذي أطلعه المجوسي إلى جبل السحاب والنسور وهو في جلد الجمل فقال لهم حسن نعم فأقبلوا على الشيخ أبي الريش وقالوا له يا شيخنا إن بهرام نحيل في طلوعه على الجبل وكيف نزل وما الذي وراء فوق الجبل من العجائب فقال الشيخ أبو الريش يا حسن حدثهم كيف نزلت وأخبرهم بالذي رأيته من العجائب فأعاد لهم ما جرى له من أوله إلى آخره وكيف ظفر به وقتله وكيف غدرت به زوجته وأخذت أولاده وطارت وبجميع ما قاساه من الأهوال والشدائد فتعجب الحاضرون مما جرى له أقبلوا على الشيخ أبي الريش وقالوا له يا شيخ الشيوخ والله إن هذا الشاب مسكين فعساك أن تساعده على خلاص زوجته وأولاده.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً لما حكى للمشايخ قصته قالوا للشيخ أبي الريش هذا الشاب مسكين فعساك أن تساعده على خلاص زوجته وأولاده فقال لهم الشيخ أبو الريش يا أخواتي إن هذا أمر عظيم خطر وما رأيت أحداً يكره الحياة غير هذا الشاب وأنتم تعرفون أن جزائر واق الواق صعبة الوصول ما وصل إليها أحد إلا خاطر بنفسه وتعرفون قوتهم وأعوانهم وأنا حالف أني ما أدوس لهم أرضاً ولا أتعرض لهم في شيء وكيف يصل هذا إلى بنت الملك الأكبر ومن يقدر أن يوصله إليها أو يساعده على هذا الأمر.
فقالوا يا شيخ الشيوخ إن هذا الرجل أتلفه الغرام وقد خاطر بنفسه، وحضر إليك بكتاب أخيك الشيخ عبد القدوس فحينئذ يجب عليك مساعدته فقام حسن وقبل قدم أبي الريش ورفع ذيله ووضعه على رأسه وبكى وقال له سألتك بالله أن تجمع بيني وبين أولادي وزوجتي ولو كان في ذلك ذهاب روحي ومهجتي فبكى الحاضرون لبكائه وقالوا للشيخ أبي الريش اغتنم أجر هذا المسكين وافعل معه جميل لأجل أخيك الشيخ عبد القدوس فقال إن هذا الشاب مسكين ما يعرف الذي هو قادم عليه، ولكن نساعده على قدر الطاقة.
ففرح حسن لما سمع كلامه وقبل يديه وقبل أيادي الحاضرين واحداً بعد واحداً وسألهم المساعدة فعند ذلك أخذ أبو الريش ورقة ودواة وكتب كتاباً وختمه وأعطاه لحسن ودفع له خريطة من الآدم فيها بخور وآلات من نار من زناد وغيره وقال له احتفظ على هذه الخريطة ومتى وقعت في شدة فبخر بقليل منه واذكرني فإني أحضر عندك وأخلصك منها ثم أمر بعض الحاضرين أن يحضر له عفريتاً من الجن الطيارة في ذلك الوقت فحضر.
فقال له الشيخ ما اسمك قال عبدك دهنش ابن فقطش فقال له أبو الريش: ادن مني فدنا منه فوضع الشيخ أبو الريش فاه على أذن العفريت وقال له: كلاماً فحرك العفريت رأسه ثم قال الشيخ لحسن: يا ولدي قم اركب على كتف هذا العفريت دهنش الطيار، فإذا رفعك إلى السماء، وسمعت تسبيح الملائكة في الجو فلا تسبح فتهلك أنت وهو فقال حسن لا أتكلم أبداً ثم قال له الشيخ يا حسن إذا سار بك فإنه يضعك ثاني يوم في وقت السحر على أرض بيضاء نقية مثل الكافور، فإذا وضعك هناك فامشي عشرة أيام وحدك حتى تصل إلى باب المدينة، فإذا وصلت إليها فادخل واسأل على ملكها، فإذا اجتمعت به فسلم عليه وقبل يده وأعطه هذا الكتاب، ومهما أشار إليك فافهمه.
فقال حسن سمعاً وطاعةً وقام مع العفريت وقام المشايخ ودعوا له ووصوا العفريت عليه فلما حمله العفريت على عاتقه ارتفع به إلى عنان السماء ومشى به يوماً وليلة حتى سمع تسبيح الملائكة في السماء، فلما كان الصبح وضعه في أرض بيضاء مثل الكافور وتركه وانصرف فلما أدرك حسن أنه على الأرض ولم يكن عنده أحد، سار في الليل والنهار مدة عشرة أيام إلى أن وصل إلى باب المدينة فدخل وسأل عن الملك فدلوه عليه وقالوا إن اسمه الملك حسون ملك أرض الكافور، وعنده من العسكر والجنود ما يملأ الأرض في طولها والعرض فاستأذن حسن فأذن له فلما دخل عليه وجده ملكاً عظيماً، فقبل الأرض بين يديه.
فقال له الملك ما حاجتك فقبل حسن الكتاب وناوله إياه فأخذه وقرأه ثم حرك رأسه ساعة، ثم قال لبعض خواصه: خذ هذا الشاب وأنزله في دار الضيافة، فأخذه وسار حتى أنزله هناك، فأقام بها مدة ثلاثة أيام في أكل وشرب وليس عنده إلا الخادم الذي معه فصار ذلك الخادم يحدثه ويؤانسه ويسأله عن خبره وكيف وصل إلى هذه الديار، فأخبره بجميع ما حصل له وكل ما هو فيه. وفي اليوم الرابع أخذه الغلام وأحضره بين يدي الملك فقال له يا حسن أنت قد حضرت عندي تريد أن تدخل جزائر واق الواق كما ذكر لنا شيخ الشيوخ يا ولدي أنا أرسلك في هذه الأيام إلا أن في طريقك مهالك كثيرة وبراري معطشة كثيرة المخاوف ولكن اصبر ولا يكون إلا خيراً فلا بد أن أتحيل وأوصلك إلى ما تريد إن شاء الله تعالى.
واعلم يا ولدي أن هنا عسكراً من الديلم يريدون الدخول في جزائر واق الواق مهيئين بالسلاح والخيل والعدد وما قدروا على الدخول ولكن يا ولدي لأجل شيخ الشيوخ أبي الريش أبي بلقيس بن معن ما أقدر أن أردك إليه إلا مقضي الحاجة، وعن قريب تأتي إلينا مراكب من جزائر واق الواق وما بقي لها إلا القليل فإذا حضرت واحدة منها أنزلتك فيها وأوصي البحرية عليك ليحفظوك ويرسلوك إلى جزائر واق الواق، وكل من سألك عن حالك وخبرك فقل له أنا صهر الملك حسون صاحب الكفور، وإذا رست المركب على جزائر واق الواق وقال لك الريس اطلع البر فاطلع ترى دكاً كثيرة في جميع جهات البر فاختر لك دكة واقعد تحتها ولا تتحرك.
فإذا جاء الليل ورأيت عسكر النساء قد أحاط بالبضائع، فمد يدك وامسك صاحبة هذه الدكة التي أنت تحتها واستجر بها، واعلم يا ولدي إذا جارتك قضيت حاجتك فتصل إلى زوجتك وأولادك وإن لم تجرك فاحزن على نفسك وأيأس من الحياة وتيقن هلاك نفسك، واعلم يا ولدي أنك مخاطر بنفسك ولا أقدر لك على شيء غير هذا والسلام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً لما قال له الملك حسون هذا الكلام وأوصاه بالذي ذكرناه وقال له أنا لا أقدر لك على شيء غير هذا قال بعد ذلك واعلم أنه لولا عناية رب السماء ما وصلت إلى هنا. فلما سمع حسن كلام الملك حسون بكى حتى غشي عليه فلما أفاق أنشد هذين البيتين:
لا بد من مـدة مـحـتـومة                   فإذا انقضت أيامـهـا مـت
لو صارعتني الأسد في غاباتها            لقهرتها مـا دام لـي وقـت

فلما فرغ حسن من شعره قبل الأرض بين يدي الملك وقال له أيها الملك العظيم وكم بقي من الأيام حتى تأتي المراكب قال مدة شهر ويمكثون هنا لبيع ما فيها مدة شهرين، ثم يرجعون إلى بلادهم فلا تنتظر سفرك فيها إلا بعد ستة أشهر كاملة ثم إن الملك أمر حسن أن يذهب إلى دار الضيافة وأمر أن يحمل إليه كل ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وملبوس من الذي يناسب الملوك فأقام في دار الضيافة شهراً، وبعد الشهر حضرت المراكب، فخرج الملك والتجار وأخذ حسناً معه إلى المراكب، فرأى مركب فيها خلق كثير مثل الحصى ما يعلم عددهم إلا الذي خلقهم وتلك المركب في وسط البحر، ولها زوارق صغار تنقل ما فيها من البضائع إلى البر فأقام حسن عندهم حتى نزع أهلها البضائع منها إلى البر وباعوا واشتروا، وما بقي للسفر إلا ثلاثة أيام فأحضر حسناً بين يديه وجهز له ما يحتاج إليه وأنعم عليه إنعاماً عظيماً ثم بعد ذلك استدعى رئيس المركب وقال له خذ هذا الشاب معك في المركب ولا تعلم به أحداً وأوصله إلى جزائر واق الواق واتركه هناك ولا تأت به.
فقال الريس سمعاً وطاعةً ثم إن الملك أوصى حسناً وقال له لا تعلم أحداً من الذين معك في المركب بشيء من حالك ولا تطلع أحداً على قصتك فتهلك قال سمعاً وطاعةً ثم ودعه بعد أن دعا له بطول البقاء والدوام والنصر على جميع الحساد والأعداء وشكره الملك على ذلك ودعا له بالسلامة وقضاء حاجته ثم سلمه للريس فأخذه وحطه في صندوق وأنزله في قارب، ولم يطلعه في المركب إلا والناس مشغولون في نقل البضائع، وبعد ذلك سافرت المركب ولم تزل مسافرة مدة عشرة أيام.
فلما كان اليوم الحادي عشر وصلوا إلى البر فطلعه الريس من المركب فلما طلع من المركب إلى البر ورأى فيه دكاً لا يعلم عددها إلا الله، فمشى حتى وصل إلى دكة ليس لها نظير واختفى تحتها فلما أقبل الليل، جاء خلق كثير من النساء مثل الجراد المنشور وهن ماشيات على أقدامهن وسيوفهن مشهورة في أيديهن ولكنهن غائصات في الزرد فلما رأت النساء البضائع اشتغلن بها ثم بعد ذلك جلسن لأجل الاستراحة فجلست واحدة منهن على الدكة التي تحتها حسن فأخذ حسن طرف ذيلها وحطه فوق رأسه، ورمى نفسه عليها وصار يقبل يديها وقدميها وهو يبكي.
فقالت له يا هذا قم واقفاً قبل أن يراك أحد فيقتلك، فعند ذلك خرج حسن من تحت الدكة ونهض قائماً على قدميه وقبل يديها وقال لها يا سيدتي أنا في جيرتك، ثم بكى وقال لها: ارحمي من فارق أهله وزوجته وأولاده وبادر إلى الاجتماع بهم وخاطر بروحه ومهجته، فارحميني وأيقني أنك تؤجرين على ذلك بالجنة، وإن لم تقبليني فأسألك بالله العظيم الستار أن تستري علي.
فصار التجار شاخصين له وهو يكلمها، فلما سمعت كلامه ونظرت تضرعه رحمته ورق قلبها إليه وعلمت أنه ما خاطر بنفسه وجاء إلى هذا المكان إلا لأمر عظيم، فعند ذلك قالت لحسن: يا ولدي طب نفساً وقر عيناً وطيب قلبك وخاطرك وارجع إلى مكانك واختف تحت الدكة كما كنت أولاً إلى الليلة الآتية والله يفعل ما يريد، ثم ودعته ودخل حسن تحت الدكة كما كان ثم إن العساكر بتن يوقدون الشموع الممزوجة بالعود الند والعنبر الخام إلى الصباح.
فلما طلع النهار رجعت المراكب إلى البر واشتغل التجار بنقل البضائع والأمتعة إلى أن أقبل الليل وحسن مختف تحت الدكة باكي العين حزين القلب ولم يعلم بالذي قدر له في الغيب، فبينما هو كذلك إذ أقبلت عليه المرأة التاجرة التي كان استجار بها وناولته زردية وسيفاً وحياصاً مذهباً ورمحاً ثم انصرفت عنه خوفاً من العسكر، فلما رأى ذلك علم أن التاجرة ما أحضرت له هذه العدة إلا ليلبسها، فقام حسن ولبس الزردية وشد الحياصة على وسطه وتقلد بالسيف تحت إبطه وأخذ الرمح بيده وجلس على تلك الدكة ولسانه لم يغفل عن ذكر الله تعالى بل يطلب منه الستر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً لما أخذ السلاح الذي أعطته إياه الصبية التي استجار بها وقالت له اجلس تحت الدكة ولا تخل أحد يفهم حالك وتقلد به ثم جلس فوق الدكة ولسانه لم يغفل عن ذكر الله تعالى وصار يطلب من الله الستر، فبينما هو جالس إذ أقبلت المشاعل والفوانيس والشموع وأقبلت عساكر النساء واختلط بالعسكر وصار كواحدة منهن، فلما قرب طلوع الفجر توجهت العساكر وحسن معهن حتى وصلن إلى خيامهن ودخلت كل واحدة خيمتها فدخل حسن خيمة واحدة منهن وإذا هي خيمة صاحبته التي كان استجار بها، فلما دخلت خيمتها ألقت سلاحها وقلعت الزردية والنقاب وألقى حسن سلاحه فنظر إلى صاحبتها فوجدها زرقاء العينين كبيرة الأنف وهي داهية من الدواهي أقبح ما يكون في الخلق بوجه أجدر وحاجب أمعط وأسنان مكسرة وخدود معجرة وشعر شائب وفم بالريالة سائل وهي كما قال في مثلها الشاعر:
لها في زوايا الوجه تسع مصائب                   فواحدة منهن تبدي جهـنـمـا
بوجه بشـيع ثـم ذات قـبـيحة              كصورة خنزير تراه مرمرمـا

وهي بذات معطاء كحية رقطاء، فلما نظرت العجوز إلى حسن تعجبت وقالت: كيف وصل هذا إلى هذه الدار وفي أي المراكب حضر وكيف سلم وصارت تسأله عن حاله وتتعجب من وصوله، فعند ذلك وقع حسن على قدميها ومرغ وجهه على رجليها وبكى حتى غشي عليه، فلما أفاق أنشد هذه الأبيات:
متى الأيام تسمـح بـالـتـلاقـي              وتجمع شملنا بـعـد الـفـراق
وأحظى بالذي أرضـاه مـنـهـم             عتاباً ينقـضـي والـود بـاقـي
لو أن النيل يجري مثـل دمـعـي            لما خلى على الدنـيا شـراقـي
وفاض على الحجاز وأرض مصر                  كذلك الشام مع أرض الـعـراق
وذاك لأجل صـدك يا حـبـيبـي              ترفق بي وواعد بـالـتـلاقـي

فلما فرغ من شعره أخذ ذيل العجوز ووضعه فوق رأسه وصار يبكي ويستجير بها، فلما رأت العجوز احتراقه ولوعته وتوجعه وكربته حن قلبها إليه وأجارته وقالت له: لا تخف أبدا، ثم سألته عن حاله فحكى لها جميع ما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، فتعجبت العجوز من حكايته وقالت له: طيب قلبك وطيب خاطرك ما بقي عليك خوف وقد وصلت إلى مطلوبك وقضاء حاجتك إن شاء الله تعالى، ففرح حسن بذلك فرحاً شديداً، ثم إن العجوز أرسلت إلى قواد العسكر أن يحضروا وكان ذلك آخر يوم من الشهر، فلما حضروا بين يديها قالت لهم: اخرجوا ونادوا في جميع العسكر أن يخرجوا في غد بكرة النهار ولا يتخلف أحد منهم فإن تخلف أحد راحت روحه فقالوا سمعاً وطاعةً، ثم خرجوا ونادوا في جميع العسكر بالرحيل في غد بكرة النهار ثم عادوا وأخبروها بذلك فعلم حسن أنها رئيسة العسكر وصاحبة الرأي فيه وهي المقدمة عليه.
ثم إن حسناً لم يقلع السلاح من فوق بدنه في ذلك النهار وكان اسم تلك العجوز التي هو عندها شواهي وتكنى بأم الدواهي، فما فرغت العجوز من أمرها ونهيها ألا وقد طلع الفجر فخرج العسكر من أماكنه ولم تخرج العجوز معهم، فلما سار العسكر وخلت منه الأماكن قالت شواهي لحسن ادن مني يا ولدي فدنا منها ووقف بين يديها فأقبلت عليه وقالت له: ما السبب في مخاطرتك بنفسك ودخولك إلى هذه البلاد وكيف رضيت نفسك بالهلاك فأخبرني بالصحيح عن جميع شأنك ولا تخبئ عني منه شيئاً ولا تخف فإنك قد صرت في عهدي وقد أجرتك ورحمتك ورثيت لحالك فإن أخبرتني بالصدق أعنتك على قضاء حاجتك ولو كان فيها رواح الأرواح وهلاك الأشباح وحيث وصلت إلي ما بقي عليك بأس ولا أخلي أحداً يصل إليك بسوء أبداً من كل ما في جزائر واق الواق.
فحكى لها قصته من أولها إلى آخرها وعرفها بشأن زوجته وبالطيور وكيف اصطادها من بين العشرة وكيف تزوج بها ثم أقام معها حتى رزق منها بولدين وكيف أخذت أولادها وطارت حين عرفت طريق الثوب الريش ولم يخف من حديثه شيئاً من أوله إلى يومه الذي هو فيه فلما سمعت العجوز كلامه حركت رأسها وقالت سبحان الله الذي سلمك وأوصلك إلى هنا، وأوقعك عندي ولو كنت وقعت عند غيري كانت روحك راحت ولم تقض لك حاجة ولكن صدق نيتك ومحبتك وفرط شوقك إلى زوجتك وأولادك هو الذي أوصلك إلى حصول بغيتك ولولا أنك لها محب وبها ولهان ما كنت خاطرت بنفسك هذه المخاطرة والحمد لله على السلامة وحينئذ يجب علينا أن نقضي لك حاجتك ونساعدك على مطلوبك حتى تنال بغيتك عن قريب إن شاء الله تعالى ولكن اعلم يا ولدي أن زوجتك في الجزيرة السابعة من جزائر واق الواق ومسافة ما بيننا وبينها سبعة أشهر ليلاً ونهاراً فإننا نسير من هنا حتى نصل إلى أرض يقال لها أرض الطيور ومن شدة صياح الطيور وخفقان أجنحتها لا يسمع بعضنا كلام بعض.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت لحسن إن زوجتك في الجزيرة السابعة من جزائر واق الواق، ومسافة ما بيننا وبينها سنة كاملة للراكب المجد في السير، وعلى شاطئ هذا النهر جبل آخر يسمى جبل واق وهذا الاسم علم على شجرة أغصانها تشبه رؤوس بني آدم فإذا طلعت الشمس عليها تصيح تلك الرؤوس جميعاً وتقول في صياحها واق واق سبحان الخلاق، فإذا سمعنا صياحها نعلم أن الشمس قد طلعت، وكذلك إذا غربت الشمس تصيح تلك الرؤوس وتقول في صياحها واق واق سبحان الملك الخلاق فنعلم أن الشمس غربت، ولا يقدر أحد من الرجال أن يقيم عندنا ولا يصل إلينا ولا يطأ أرضنا وبيننا ويبن الملكة التي تحكم على هذه الأرض مسافة شهر من هذا البر وجميع الرعية التي في ذلك البر تحت يد تلك الملكة وتحت يدها أيضاً قبائل الجان المردة والشياطين وتحت يدها من السحرة ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم.
فإن كنت تخاف أرسلت معك من يوصلك إلى الساحل وأجيء بالذي يحملك معه في مركب ويوصلك إلى بلادك، وإن كان يطيب على قلبك الإقامة معنا فلا أمنعك وأنت عندي في عيني حتى تقضي حاجتك إن شاء الله تعالى فقال حسن: يا سيدتي ما بقيت أفارقك حتى اجتمع بزوجتي أو تذهب روحي. فقالت له: هذا أمر يسير فطيب قلبك وسوف تصل إلى مطلوبك إن شاء الله تعالى، ولا بد أن أطلع الملكة عليك حتى تكون مساعدة لك على بلوغ قصدك، فدعا لها حسن وقبل يديها ورأسها وشكرها على فعلها وفرط مروءتها وسار معها وهو متفكر في عاقبة أمره وأهوال غربته فصار يبكي وينتحب وجعل ينشد هذه الأبيات:
من كان الحب هـب نـسـيم                  فتراني من فرط وجدي أهـيم
إن ليل الوصال صبح مضـيء             ونهار الفـراق لـيل بـهـيم
ووداع الحبيب صعـب شـديد               وفراق الأنيس خطب جسـيم
لست أشكـو جـفـاه إلا إلـيه                 لم يكن في الورى صديق حميم
وسلوى عنكم محـال فـإنـي                ليس يسلي قلبي عذول ذمـيم
يا وحيد الجمال عشقـي وحـيد             يا عديم المثال قلـبـي عـديم
كل من يدعي المحـبة فـيكـم               ويهاب الملام فهـو مـلـوم

ثم إن العجوز أمرت بدق طبل الرحيل وسار العسكر وسار حسن صحبة العجوز وهو غرقان في بحر الأفكار يتضجر وينشد الأشعار والعجوز تصبره وتسليه وهو لا يفيق ولا يعي لما تقول إليه ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى جزيرة من الجزائر السبعة وهي جزيرة الطيور فلما دخلوها ظن حسن أن الدنيا قد انقلبت من شدة الصياح وأوجعته رأسه وطاش عقله وعمي بصره وانسدت أذناه وخاف خوفاً شديداً وأيقن بالموت وقال في نفسه إذا كانت هذه أرض الطيور فكيف أرض الوحوش? فلما رأته العجوز المسماة بشواهي على هذه الحالة ضحكت عليه وقالت يا ولدي إذا كان هذا حالك من أول جزيرة فكيف بك إذا وصلت إلى بقية الجزائر، فسأل الله وتضرع إليه وطلب منه أن يعينه على ما بلاه وأن يبلغه مناه ولم يزالوا سائرين حتى قطعوا أرض الطيور وخرجوا منها ودخلوا في أرض الجان.
فلما رآها حسن خاف وندم على دخوله فيها معهم ثم استعان بالله تعالى وسار معهم، فعند ذلك خلصوا من أرض الجان ووصلوا إلى النهر فنزلوا تحت جبل عظيم شاهق ونصبوا خيامهم على شاطئ النهر ووضعت العجوز لحسن دكة من المرمر مرصعة بالدرر والجواهر وسبائك الذهب الأحمر في جنب النهر فجلس عليها وتقدمت العساكر فعرضتهم عليه ثم بعد ذلك نصبوا خيامهم حوله واستراحوا ساعة ثم أكلوا وشربوا وناموا مطمئنين لأنهم وصلوا إلى بلادهم وكان حسن واضعاً على وجهه لثاماً بحيث لا يظهر منه غير عينه وإذا بجماعة من البنات مشين إلى قرب النهر ثم قلعن ثيابهن ونزلن في النهر فصار حسن ينظر إليهن وهن يغتسلن فصرن يلعبن وينشرحن ولا يعلمن أنه ناظر إليهن لأنهن ظنن أنه من بنات الملوك.
فاشتد على حسن وتره حيث كان ينظر إليهن وهن مجردات من ثيابهن، وقد رأى ما بين أفخاذهن أنواع مختلفة ما بين ناعم ومقبقب وسمين مربرب وغليظ المشافر وكامل وبسيط ووافر ووجوههن كالأقمار وشعورهن كليل على نهار لأنهن من بنات الملوك ثم إن العجوز نصبت له سريراً وأجلسته فوقه، فلما خلصن طلعن من النهر وهن متجردات كالقمر ليلة البدر وقد اجتمع جميع العسكر قدام حسن لأن العجوز أمرت أن ينادي في جميع العسكر أن يجتمعن قدام خيمته ويتجردن من ثيابهن وينزلن في النهر ويغتسلن فيه لعل زوجته أن تكون فيهن فيعرفها وصارت العجوز تسأله عنهن طائفة بعد طائفة فيقول ما هي في هؤلاء يا سيدتي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز كانت تسأل حسن عن البنات طائفة بعد طائفة لعله يعرف زوجته بينهن وكلما سألته عن طائفة يقول ما هي في هؤلاء يا سيدتي ثم بعد ذلك تقدمت جارية في آخر الناس وفي خدمتها ثلاثون خادمة كلهن نهداً بكار فنزعن عنهن ثيابهن ونزلن معها في النهر فصارت تتدلل عليهن وترميهن في البحر وتغطسهن ولم تزل معهن على هذا الحال ساعةً زمانيةً ثم طلعن من النهر وقعدن فقدمن إليها مناشف من حريرٍ مزركشة بالذهب فأخذتها وتنشفت بها ثم قدموا إليها ثياباً وحللاً وحلياً من عمل الجن فأخذتها ولبستها وقامت تخطر بين العسكر هي وجواريها فلما رآها حسن طار قلبه وقال هذه أشبه الناس بالطيرة التي رأيتها في البحيرة، في قصر أخواتي البنات وكانت تتدلل على أتباعها مثلها.
فقالت العجوز: يا حسن هذه زوجتك? فقال: لا وحياتك يا سيدتي ما هذه زوجتي ولا مثل قدها واعتدالها وحسنها وجمالها. فقالت: صفها لي وعرفني بجميع أوصافها حتى تكون في ذهني فإني أعرف كل بنت في جزيرة واق الواق لأني نقيبة عسكر البنات والحاكمة عليهن وإن وصفتها لي عرفتها وتحيلت لك في أخذها. فقال لها حسن: إن زوجتي صاحبة وجه مليح وقد رجيح أسيلة الخد قائمة النهد دعجاء العينين ضخمة الساقين بيضاء الأسنان حلوة اللسان ظريفة الشمائل كأنها غصن مائل بديعة الصفة حمراء الشفة بعيون كحال وشفايف رقاق على خدها الأيمن شامة، وعلى بطنها من تحت سرتها علامة ووجهها منير كالقمر مستدير وخصرها نحيل وردفها ثقيل وريقها يشفي العليل كأنه الكوثر أو السلسبيل.
فقالت العجوز: زدني في أوصافها بياناً زادك الله تعالى فيها افتتاناً، فقال لها حسن إن زوجتي ذات وجه جميل وعنق طويل وطرف كحيل وخدود كالشقائق وفم كخاتم عقيق وثغر لامع البريق يغني عن الكأس والإبريق في هيكل اللطافة وبين فخذيها تخت الخلافة ما مثل حومة بين المشاعر كما قال في حقه الشاعر:
اسم الذي حيرني حروفه مشتهره                  أربعة في خمسةٍ وستةٍ في عشرة
ثم بكى حسن وغنى بهذا الموال:
وجدي بكم وجد هندي ضيع القـصـعة             أو وجد ساعي وفي رجله اليمين قصعه
أو وجد مضني عليل بجروح متسـعـه             أو وجد من حرر السبعة على العشرين
ولعنة الله على من يتبع الـتـسـعـه

أطرقت العجوز برأسها إلى الأرض ساعة من الزمان ثم رفعت رأسها إلى حسن وقالت: سبحان الله العظيم الشأن إني بليت بك يا حسن فيا ليتني ما كنت عرفتك لأن المرأة التي وصفتها لي على أنها زوجتك فإني قد عرفتها بصفتها وهي بنت الملك الأكبر الكبيره، التي تحكم على جزائر واق الواق بأسرها فافتح عينك ودبر أمرك وإن كنت نائماً فانتبه فإنه لا يمكنك الوصول إليها أبداً وإن وصلت إليها لا تقدر على تحصيلها، لأن بينك وبينها مثل ما بين السماء والأرض، فارجع يا ولدي من قريب، ولا ترم نفسك في الهلاك وترميني معك فإني أظن أنه ليس لك فيها نصيب وارجع من حيث أتيت لئلا تروح أرواحنا وخافت على نفسها وعليه.
فلما سمع حسن كلام العجوز بكى بكاءً شديداً حتى غشي عليه فما زالت العجوز ترش على وجهه الماء حتى أفاق من غشيته، وصار يبكي حتى بل ثيابه بالدموع من عظم ما لحقه من الهم والغم من كلام العجوز، وقد يئس من الحياة ثم قال للعجوز: يا سيدتي وكيف أرجع بعد أن وصلت إلى هنا وما كنت أظن في نفسي أنك تعجزين عن تحصيل غرضي خصوصاً، وأنت نقيبة عسكر للبنات والحاكمة عليهن، قالت: بالله يا ولدي أن تختار لك بنتاً من هؤلاء البنات وأنا أعطيك إياها عوضاً عن زوجتك لئلا تقع في يد الملوك فلا يبقى لي في خلاصك حيلة فبالله عليك أن تسمع مني وتختار لك واحدة من هؤلاء البنات غير تلك البنت وترجع إلى بلادك من قريب سالماً ولا تجرعني غصتك والله لقد رميت نفسك في بلاء عظيم وخطر جسيم، لا يقدر أحد أن يخلصك منه فعند ذلك أطرق حسن رأسه وبكى بكاءً شديداً، وأنشد هذه الأبيات:
فقلت لعذالي لا تعـذلـونـي                  لغير الدمع ما خلقت جفوني
مدامع مقلتي طفحت ففاضت               على خدي وأحبابي جفونـي
دعوني في الهوى قدر جسمي            لأني في الهوى أهوى جنوني
ويا أحباب قد زاد اشتـياقـي                إليكم مالكم لا ترحـمـونـي
جفوتم بعد ميثاقي وعـهـدي               وخنتم صحبتي وتركتمونـي
ويوم البين لما قد رحلتم سقيت            من الصدود شـراب هـون
فيا قلبي عليهم ذاب غـرامـاً                وجودي بالمدامع يا عيونـي

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز لما قالت لحسن بالله عليك يا ولدي أن تسمع كلامي، وتختار لك واحدة من هؤلاء البنات غير زوجتك وترجع إلى بلادك من قريب سالماً، فأطرق رأسه وبكي بكاءً شديداً، فأنشد الأبيات المذكورة فلما فرغ من شعره بكي حتى غشي عليه فما زالت العجوز ترش على وجهه الماء حتى أفاق من غشيته ثم أقبلت عليه وقالت له يا سيدي ارجع إلى بلادك فإني متى سافرت بك إلى المدينة راحت روحك وروحي لأن الملكة إذا علمت بذلك تلومني على دخولي بك إلى بلادها وجزائرها التي لم يصلها أحد من بني آدم، وتقتلني حيث حملتك معي، وأطلعتك على هؤلاء الأبكار التي رأيتهن في البحر مع أنه لم يمسهن فحل ولم يقربهن بعل، فحلف حسن أنه ما نظر إليهن نظرة سوء قط فقالت له: يا ولدي ارجع إلى بلادك وأنا أعطيك من المال والذخائر والتحف ما تستغني به عن جميع النساء فاسمع كلامي وارجع من قريب ولا تخاطر بنفسك فقد نصحتك، فلما سمع كلامها بكى ومرغ خديه على أقدامها وقال: يا سيدتي ومولاتي وقرة عيني كيف أرجع بعدما وصلت إلى هذا المكان ولم أنظر من أريد وقد قربت من دار الحبيب وترجيت اللقاء عن قريب لعله أن يكون لي في الاجتماع نصيب ثم أنشد هذه الأبيات:
يا ملوك الجمال رفقاً بـأسـري              لجفون تملكت ملك كـسـرى
قد غلبتم روائح المسك طـيبـاً              وبهرتم محاسن الـورد زهـرا
ونسيم النعيم حـيث حـلـلـتـم                فالصبا من هناك تعبق نـشـرا
عاذلي كف عن ملامي ونصحي           إنما جئت بالنصـيحة نـكـرا
ما على صبوتي من العذل واللوم                   إذا لم تحـط بـذلـك خـبـرا
أسرتني العيون وهي مـراض              ورمتني في الحب عنفاً وقهرا
أنثرا الدمع حين أنظم شـعـري             هاك مني الحديث نظماً وشعرا
حمرة الخد قـد أذابـت فـؤادي             فتلظت مني الجوارح جـمـرا
خبراني متى تركـت حـديثـي               فبأي الحـديث أشـرح صـدرا
طول عمري أهوى الحسان ولكن                   يحدث الله بـعـد ذلـك أمـرا

فلما فرغ حسن من شعره رقت له العجوز ورحمته وأقبلت عليه وطيبت خاطره وقالت له طب نفساً وقر عيناً واخل فكرك من الهم والله لأخطرن معك بروحي حتى تبلغ مقصودك أو تدركني منيتي فطاب قلب حسن وانشرح صدره وجلس يتحدث مع العجوز إلى آخر النهار فلما أقبل الليل تفرقت البنات كلهن فمنهن من دخلت قصرها في البلد ومنهن من باتت في الخيام ثم إن العجوز أخذت حسناً معها ودخلت به إلى البلد فأخلت له مكاناً وحده لئلا يطلع عليه أحد فيعلم الملكة فتقتله وتقتل من أتى به ثم صارت تخدمه بنفسها وتخوفه من سطوة الملك الأكبر أبا زوجته وهو يبكي بين يديها ويقول يا سيدتي قد اخترت الموت لنفسي وكرهت الدنيا إن لم أجتمع بزوجتي وأولادي فأنا أخاطر بروحي إما أن أبلغ مرادي وإما أن أموت.
فصارت العجوز تتفكر في كيفية وصوله واجتماعه بزوجته وكيف تكون الحيلة في أمر هذا المسكين الذي رمى روحه في الهلاك ولم ينزجر عن قصده بخوف ولا غيره وقد سلا جسمه وصاحب المثل يقول العاشق لا يسمع كلام خلى وكانت تلك البنت ملكة الجزيرة التي هم نازلون فيها وكان اسمها نور الهدى وكان لهذه الملكة سبع أخوات بنات أبكار مقيمات عند أبيهن الملك الأكبر الذي هو حاكم على السبع جزائر وأقطار واق الواق وكانت تخت ذلك الملك في المدينة التي هي أكبر مدن ذلك البر وكانت بنته الكبيرة وهي نور الهدى هي الحاكمة على تلك المدينة التي فيها حسن وعلى سائر أقطارها ثم إن العجوز لما رأت حسناً محترقاً على الاجتماع بزوجته وأولاده قامت وتوجهت إلى قصر الملكة نور الهدى فدخلت عليها وقبلت الأرض بين يديها وكان للعجوز فضل عليها لأنها ربت بنات الملك جميعهن ولها على الجميع سلطنة وهي مكرمة عندهم عزيزة عند الملك.
فلما دخلت العجوز على الملكة نور الهدى قامت لها وعانقتها وأجلستها جنبها وسألتها عن سفرتها فقالت لها والله يا سيدتي إنها كانت سفرة مباركة وقد استصحبت لك معي هدية سأحضرها بين يديك ثم قالت لها يا ابنتي يا ملكة العصر والزمان إني أتيت معي بشيء عجيب وأريد أن أطلعك عليه لأجل أن تساعديني على قضاء حاجته فقالت لها وما هو فأخبرتها بحكاية حسن من أولها إلى آخرها وهي ترتعد كالقصبة في مهب الريح العاصف حتى وقعت بين يدي الملك وقالت لها يا سيدتي قد استجار بي شخص على الساحل كان مختفياً تحت الدكة فأجرته وأتيت به معي بين عسكر البنات وهو حامل السلاح بحيث لا يعرفه أحد وأدخلته البلد وقد خوفته من سطوتك وعرفته ببأسك وقوتك وكلما أخوفه يبكي وينشد الأشعار ويقول لا بد لي من رؤية زوجتي وأولادي أو أموت ولا أرجع إلى بلادي من غيرهم وقد خاطر بنفسه وجاء إلى جزائر واق الواق ولم أر عمري آدمياً أقوى قلباً منه ولا أشد بأساً منه لأن الهوى قد تمكن منه غاية التمكن وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز لما حكت للملكة نور الهدى حكاية حسن قالت لها وما رأيت أقوى قلباً منه لأن الهوى قد تمكن منه غاية التمكن، فلما سمعت الملكة كلامها وفهمت قصة حسن غضبت غضباً شديداً وأطرقت برأسها إلى الأرض ساعة ثم رفعت رأسها ونظرت إلى العجوز وقالت لها يا عجوز النحس هل بلغ من خبثك أنك تحملين الذكور وتأتين بهم معك إلى جزائر واق الواق وتدخلين بهم علي ولا تخافي من سطوتي وحق رأس الملك لولا ما لك علي من التربية لقتلتك أنت وإياه في هذه الساعة أقبح قتلة حتى يعتبر المسافرون بك يا ملعونة لئلا يفعل أحد مثل ما فعلت من هذه الفعلة العظيمة التي لا يقدر أحد عليها ولكن اخرجي واحضريه في هذه الساعة حتى أنظره.
فخرجت العجوز من بين يديها وهي مدهوشة لا تدري أين تذهب وتقول كل هذه المصيبة ساقها الله لي من هذه الملكة على يد حسن ومضت إلى أن دخلت على حسن فقالت له قم كلم الملكة يا من آخر عمره قد دنا فقام معها ولسانه لا يفتر عن ذكر الله تعالى ويقول اللهم الطف بي في قضائك وخلصني من بلائك فسارت حتى أوقفته بين يدي الملكة نور الهدى وأوصته العجوز في الطريق بما يتكلم به معها فلما تمثل بين يدي نور الهدى رآها ضاربة لثاماً فقبل الأرض بين يديها وسلم عليها وأنشد هذين البيتين:
أدام الله عزك في سرورٍ                    وخولك الإله بما حبـاك
وزادك ربنا عزاً ومجداً           وأيدك القدير على عداك

فلما فرغ من شعره أشارت الملكة إلى العجوز أن تخاطبه قدامها لتسمع فجاوبته فقالت العجوز إن الملكة ترد عليك السلام وتقول لك ما اسمك ومن أي البلاد أتيت وما اسم زوجتك وأولادك الذين جئت من أجلهم وما اسم بلادك فقال لها وقد ثبت جنانه وساعدته المقادير يا ملكة العصر والأوان ووحيدة الدهر والزمان أما أنا فاسمي حسن الكثير الحزن وبلدي البصرة وأما زوجتي فلا أعرف لها اسماً وأما أولادي فواحد اسمه ناصر والآخر منصور فلما سمعت الملكة كلامه وحديثه قالت فمن أين أخذت أولادها فقال لها يا ملكة من مدينة بغداد من قصر الخلافة فقالت وهل قالت لكم شيئاً عندما طارت? قال: إنها قالت لوالدتي إذا جاء ولدك وطالت عليه أيام الفراق واشتهى القرب مني والتلاقي وهزته رياح المحبة والاشتياق فليجئني إلى جزائر واق الواق فحركت الملكة نور الهدى رأسها ثم قالت له: لو كانت ما تريدك ما قالت لأمك هذا الكلام وتشتهي قربك ما كانت أعلمتك بمكانها ولا طلبتك إلى بلادها فقال حسن: يا سيدة الملوك والحاكمة على كل ملك وصعلوك إن الذي جرى أخبرتك به ولا أخفيت منه شيئاً وأنا أستجير بالله وبك أن لا تظلميني فارحميني وأريحي أجري وثوابي وساعديني على الاجتماع بزوجتي وأولادي وردي لهفتي وقري عيني بأولادي وأسعفيني برؤيتهم ثم بكى وحن واشتكى وأنشد هذين البيتين:
لأشكرنك مـا نـاحـت مـطـوقة              جهدي وإن كنت لا أقضي الذي وجبا
فما تقلبت في نـعـمـاء سـابـغة             إلا وجدتك فيها الأصل والسـبـبـا

فأطرقت الملكة نور الهدى رأسها إلى الأرض وحركتها زماناً طويلاً ثم رفعتها وقالت له: قد رحمتك ورثيت لك وقد عزمت على أن أعرض عليك كل بنت في المدينة وفي بلاد جزيرتي فإن عرفت زوجتك سلمتها إليك وإن لم تعرفها قتلتك وصلبتك على باب دار العجوز فقال لها حسن: قبلت تلك منك يا ملكة الزمان ثم أنشد هذه الأبيات:
أقمتم غرامي في الهوى وقعدتم                    وأسهرتم جفني القريح ونمتـم
وعاهدتموني أنكم لن تماطلـوا             فلما أخذتم بالقـياد غـدرتـم
عشقتكم طفلاً ولم أدر الهـوى             فلا تقتلوني إنني متـظـلـم
أما تتقون الله في قتل عاشـقٍ              يبيت يراعي النجم والناس نوم
فبالله يا قومي إذا مت فاكتبـوا             على لوح قبري إن هذا متـيم
لعل فتى مثلي أضر به الهوى             إذا ما رأى قبري علي يسلـم

فلما فرغ من شعره قال: رضيت بالشرط الذي اشترطيه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فعند ذلك أمرت الملكة نور الهدى أن لا تبقى بنت في المدينة إلا وتطلع القصر وتمر أمامه، ثم إن الملكة أمرت العجوز شواهي أن تنزل بنفسها إلى المدينة وتحضر كل بنت في المدينة إلى الملكة في قصرها، وصارت الملكة تدخل البنات على حسن مائة بعد مائة حتى لم يبق في المدينة بنت إلا وعرضتها على حسن فلم ير زوجته فيهن، فسألته الملكة وقالت له: هل رأيتها في أولئك? فقال لها: وحياتك يا ملكة ما هي بينهن، فاشتد غضب الملكة عليه وقالت للعجوز: ادخلي وأخرجي كل من في القصر واعرضيه عليه.
فلما عرضت عليه كل من في القصر ولم ير زوجته فيهن قال للملكة: وحياة رأسك يا ملكة ما هي فيهن، فغضبت وصرخت على من حولها وقالت: خذوه واسحبوه على وجهه فوق الأرض واضربوا عنقه لئلا يخطر بنفسه أحد بعده ويطلع على حالنا ويجوز علينا في بلادنا ويطأ أرضنا وجزائرنا، فسحبوه على وجهه ورفعوا ذيله وغمضوا عينيه ووقفوا بالسيوف على رأسه ينتظرون الإذن، فعند ذلك تقدمت شواهي إلى الملكة وقبلت الأرض بين يديها وأمسكت ذيلها ورفعته فوق رأسها وقالت لها: يا ملكة لا تعجلي عليه خصوصاً وأنت تعرفين أن هذا المسكين غريب قد خاطر بنفسه وقاسى أموراً ما قاساها أحد قبله ونجاه الله تعالى عز وجل من الموت لطول عمره. لقد سمع بعدلك فدخل بلادك وحماك فإن قتلتيه تنشر الأخبار عنك مع المسافرين بأنك تبغضين الأغراب وتقتلينهم وهو على كل حال تحت قهرك ومقتول سيفك إن لم تظهر زوجته في بلدك وأي وقت تشتهين حضوره فأنا قادرة على رده إليك، وأيضاً فأنا ما أجرته إلا طمعاً في كرمك بسبب ما لي عليك من التربية حتى ضمنت له أنك توصليه إلى بغيته لعلي بعدلك وشفقتك ولولا أني أعلم منك هذا ما كنت أدخلته بلدك وقلت في نفسي إن الملكة تتفرج عليه وعلى ما يقول من الأشعار والكلام المليح الفصيح الذي يشبه الدر المظلوم، وهذا قد دخل بلادنا وأكل زادنا فوجب إكرامه علينا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة نور الهدى لما أمرت غلمانها بأخذ حسن وضرب عنقه صارت العجوز تتعطف بخاطرها وتقول لها إنه دخل بلادنا وأكل من زادنا فوجب علينا إكرامه، خصوصاً وقد وعدته بالاجتماع بك وأنت تعرفين أن الفراق صعب وتعرفين أن الفراق قتال خصوصاً فراق الأولاد وما بقي علينا من النساء واحدة إلا أنت فأريه وجهك فتبسمت الملكة وقالت: من أين له أن يكون زوجي وخلف مني أولاد حتى أريه وجهي، ثم أمرت بحضوره فأدخلوه عليها وأوقفوه بين يديها فكشفت عن وجهها، فلما رآها حسن صرخ صرخة عظيمة وخر مغشياً عليه فلم تزل العجوز تلاطفه حتى أفاق من غشيته وأنشد هذه الأبيات:
يا نسيماً هب من أرض العراق            في زوايا أرض من قـال واق
بلغ الأحبـاب عـنـي أنـنـي                  مت من طعم الهوى مر المذاق
يا أهيل الحب منوا واعطـفـوا              ذاب قلبي من تباريح الفـراق

فلما فرغ من شعره قام ونظر الملكة وصاح صيحة عظيمة كاد منها القصر أن يسقط على من فيه، ثم وقع مغشياً عليه، فما زالت العجوز تلاطفه حتى أفاق وسألته عن حاله فقال: إن هذه الملكة إما زوجتي وإما أشبه الناس بزوجتي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز لما سألته عن حاله قال لها: إن هذه الملكة إما زوجتي وإما أشبه الناس بزوجتي: فقالت الملكة للعجوز: ويلك يا داية إن هذا الغريب مجنون أو مختل لأنه ينظر إلى وجهي ويحملق إلي، فقالت لها العجوز: يا ملكة إن هذا معذور فلا تؤاخذيه فإنه قيل في المثل: مريض الهوى ما له دواء وهو والمجنون سواء، ثم إن حسناً بكى بكاءً شديداً وأنشد هذين البيتين:
أرى آثارهم فأذوب شـوقـاً                 وأسكب في مواطنهم دموعي
وأسأل من بفرقتهم بـلانـي                 يمن علي منهم بالـرجـوع

ثم إن حسناً قال للملكة: والله ما أنت زوجتي ولكنك أشبه الناس بها فضحكت الملكة نور الهدى حتى استلقت على قفاها ومالت على جنبها ثم قالت: يا حبيبي تمهل على روحك وميزني وجاوبني عن الذي أسألك عنه ودع عنك الجنون والحيرة والذهول فإنه قد قرب لك الفرج، فقال حسن: يا سيدة الملوك وملجأ كل غني وصعلوك إني حين نظرتك جننت لأنك إما تكونين زوجتي وإما أشبه الناس بزوجتي فاسأليني الآن عما تريدين.
فقالت: أي شيء في زوجتك يشبهني? فقال جميع ما فيك من الحسن والجمال والظرف والدلال كاعتدال قوامك وعذوبة كلامك وحمرة خدودك وبروز نهودك وغير ذلك مما يشبهها. ثم إن الملكة التفتت إلى شواهي أم الدواهي وقالت لها: يا أمي أرجعيه إلى موضعه الذي كان فيه عندك واخدميه أنت بنفسك حتى أتفحص عن أمره، فإن كان هذا الرجل صاحب مروءة بحيث أنه يحفظ الصحبة والود وجب علينا مساعدته على قضاء حاجته خصوصاً وقد نزل أرضنا وأكل طعامنا مع ما تحمله من مشقات الأسفار ومكابدة أهوال الأخطار، ولكن إذا أوصلتيه إلى بنتك فأوصي عليه أتباعك وارجعي إلي بسرعة وإن شاء الله لا يكون إلا خيراً.
فعند ذلك خرجت العجوز وأخذت حسناً ومضت به إلى منزلها وأمرت جواريها وخدمها وحشمها بخدمته وأمرتهم أن يحضروا له جميع ما يحتاج إليه وأن لا يقصروا في حقه، ثم عادت إلى الملكة بسرعة فأمرتها أن تحمل سلاحها وتأخذ معها ألف فارس من الشجعان فامتثلت العجوز شواهي أمرها ولبست درعها وأحضرت الألف فارس، ولما وقفت بين يديها وأخبرتها بإحضار الألف فارس أمرتها أن تسير إلى مدينة الملك الأكبر أبيها وتنزل عند بنته منار السنا أختها وتقول لها البسي ولديك الدرعين اللذين عملتيهما لهما وأرسليهما إلى خالتهما فإنها مشتاقة إليهما.
وقالت لها: أوصيك يا أمي بكتمان أمر حسن، فإذا أخذتيهما منها فقولي لها: إن أختك تستدعيك إلى زيارتها فإذا أعطتك ولديها وخرجت بهما قاصدة الزيارة بهما سريعاً وخليها تحضر على مهلها وتعالي من طريق غير الطريق التي تجيء هي منها ويكون سفرك ليلاً ونهاراً، واحذري أن يطلع على هذا الأمر أحد أبداً، ثم إني أحلف بجميع الأقسام إن طلعت أختي زوجته وظهر أن ولديها هما ولداه فلن أمنعه من أخذها ولا من السفر معه بأولادها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة قالت: إني أحلف بالله وأقسم بجميع الأقسام أنها إن طلعت أختي زوجته لا أمنعه من أخذها بل أساعده على أخذها وعلى سفرها معه إلى بلاده فوثقت العجوز بكلامها، ولم تعلم بما أضمرته في نفسها وقد أضمرت العاهرة في نفسها أنها إن لم تكن زوجته ولا أولادها يشبهونه تقتله، ثم إن الملكة قالت للعجوز: يا أمي إن صدق حزري تكون زوجته أختي منار السنا والله أعلم فإن هذه الصفات صفاتها وجميع الأوصاف التي ذكرها من الجمال البارع والحسن البارع لا يوجد في أحد غير أخوتي خصوصاً الصغيرة ثم إن العجوز قبلت يدها ورجعت إلى حسن وأعلمته بما قالته الملكة فطار عقله من الفرح وقام إلى العجوز وقبل رأسها فقالت له: يا ولدي لا تقبل رأسي وقبلني في فمي، واجعل هذه القبلة حلاوة السلامة وطب نفساً وقر عيناً ولا يكن صدرك إلا منشرحاً ولا تستكره أن تقبلني في فمي فإني أنا السبب في اجتماعك بها فطيب قلبك وخاطرك، ولا تكن إلا منشرح الصدر قرير العين مطمئن النفس ثم ودعته وانصرفت فأنشد حسن هذين البيتين:
لي في محبتكم شـهـود أربـع              وشهود كـل قـضـية اثـنـان
خفقان قلبي واضطراب جوارحي                   ونحول جسمي وانعقاد لسـانـي
ثم أنشد أيضاً هذين البيتين:
شيئان لو بكت الدماء عليهمـا             عيناي حتى تؤذنا بذهـابـي
لم يقضيا المعشار من حقيهما             شرخ الشباب وفرقة الأحباب

ثم إن العجوز حملت سلاحها، وأخذت معها ألف فارس حاملين السلاح وتوجهت إلى تلك الجزيرة التي فيها أخت الملكة وسارت إلى أن وصلت إلى أخت الملكة وكان بين مدينة نور الهدى وبين مدينة أختها ثلاثة أيام، فلما وصلت شواهي إلى المدينة وطلعت إلى أخت الملكة منار السنا سلمت عليها وبلغتها السلام من أختها نور الهدى، وأخبرتها باشتياقها إليها وإلى أولادها وعرفتها أن الملكة نور الهدى تعتب عليها بسبب عدم زيارتها إياها فقالت لها الملكة منار السنا إن الحق على أختي وأنا مقصرة بعدم زيارتي لها ولكن أزورها الآن ثم أمرت بإخراج خيامها إلى خارج المدينة وأخذت لأختها معها ما يصلح لها من الهدايا والتحف، ثم إن الملك أباها نظر من شباك القصر فرأى الخيام منصوبة فسأل عن ذلك فقالوا له: إن الملكة منار السنا نصبت خيامها بتلك الطريق لأنها تريد زيارة أختها نور الهدى، فلما سمع الملك بذلك جهز لها عسكراً يوصلها إلى أختها وأخرج من خزائنه من الأموال ومن المأكل والمشرب ومن التحف والجواهر ما يعجز عنه الوصف، وكانت بنات الملك السبعة أشقاء من أب واحد وأم واحدة إلا الصغيرة، وكان اسم الكبيرة نور الهدى والثانية نجم الصباح والثالثة شمس الضحى والرابعة شجرة الدر والخامسة قوت القلوب والسادسة شرف البنات والسابعة منار السنا وهي الصغيرة فيهن وهي زوجة حسن وكانت أختهن من أبيهن فقط، ثم إن العجوز تقدمت وقبلت الأرض بين يدي منار السنا فقالت لها منار السنا: هل لك حاجة يا أمي? فقالت لها: إن الملكة نور الهدى أختك تأمرك أن تغير لولديك وتلبسيهما الدرعين الذين فصلتيهما لهما وأن ترسليهما معي إليها فآخذهما وأسبقك بهما وأكون المبشرة بقدومك عليها، فلما سمعت منار السنا كلام العجوز أطرقت رأسها إلى الأرض وتغير لونها ولم تزل مطرقة زماناً طويلاً ثم حركت رأسها ورفعته إلى العجوز وقالت لها: يا أمي قد ارتجف فؤادي وخفق قلبي عندما ذكرت أولادي فإنهم من حين ولادتهم لم ينظر أحداً وجوههم من الجن والبشر ولا أنثى ولا ذكر وأنا أغار عليهم من النسيم إذا سرى فقالت العجوز: أي شيء هذا الكلام يا سيدتي أتخافين عليهم من أختك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز لما قالت للسيدة منار السنا أي شيء هذا الكلام يا سيدتي أتخافين عليهم من أختك سلامة عقلك، وإن خالفت الملكة في هذا الأمر، لا يمكنك المخالفة فإنها تعتب عليك، ولكن يا سيدتي أولادك صغار وأنت معذورة في الخوف عليهم والمحب مولع بسوء الظن ولكن يا بنتي أنت تعلمين شفقتي ومحبتي لك ولأولادك وقد ربيتكم قبلهم وأنا أتسلمهم وآخذهم وأفرش لهم حدي وافتح قلبي وأجعلهم في داخله ولا أحتاج إلى الوصية عليهم في هذا الأمر فطيبي نفساً وقري عيناً وارسليهم لها وأكثر ما أسبقك به يوماً واحداً ويومان، ولم تزل تلح عليها حتى لان جانبها وخافت من غيظ أختها، ولم تدر ما هو مخبوء لها في عالم الغيب، فسمحت بإرسالهم مع العجوز ثم أنها دعت بهم وأدخلتهم الحمام وهيأتهم وغيرت لهم وألبستهم الدرعين وسلمتهم للعجوز.
فسارت بهم مثل الطير على غير الطريق التي تسير فيها أمهم، مثل ما أوصتها الملكة نور الهدى، ولم تزل تجد في السير وهي خائفة عليهم إلى أن وصلت بهم إلى مدينة الملكة نور الهدى خالتهم، فعدت بهم البحر، ودخلت المدينة وتوجهت بهم إلى الملكة نور الهدى خالتهم، فلما رأتهم فرحت بهم وعانقتهم وضمتهم إلى صدرها وأجلست واحداً على فخذها الأيمن والثاني على فخذها الأيسر ثم التفتت إلى العجوز وقالت لها: احضري الآن حسنا فأنا قد أعطيته ذمامي وأجرته من حسامي وقد تحصن بداري ونزل في جواري بعد أن قاسى الأهوال والشدائد وتعدى أسباب الموت التي همها متزايد مع أنه إلى الآن لم يسلم من شرب كأسه وقطع أنفاسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والستين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، إن الملكة نور الهدى لما أمرت العجوز بإحضار حسن قالت لها: إنه قاسى الأهوال والشدائد وتعدى أسباب الموت التي همها متزايد مع أنه إلى الآن لم يسلم من شرب كأسه وقطع أنفاسه وأنا أقسم بخالق السماء وبانيها وساطح الأرض وداحيها وخالق الخلق ومحصيها إن لم يكونوا أولاده لأقتلنه وأنا الذي أضرب عنقه بيدي ثم أنها صرخت على العجوز فوقعت من الخوف وأغرت عليها الحاجب وعشرين مملوكاً وقالت لهم: امضوا مع هذه العجوز وائتوني بالصبي الذي عندها في بيتها بسرعة.
فخرجت العجوز مع الحاجب والمماليك، وقد اصفر لونها، وارتعدت فرائصها ثم سارت إلى منزلها ودخلت على حسن فلما دخلت عليه قام إليها وقبل يديها وسلم عليها فلم تسلم عليه وقالت له: قم كلم الملكة أما قلت لك ارجع إلى بلادك ونهيتك عن هذا كله فما سمعت قولي وقلت لك أعطيك شيئاً لا يقدر عليه أحد وارجع إلى بلادك من قريب فما أطعتني ولا سمعت مني بل خالفتني واخترت الهلاك لي ولك، فدونك وما اخترت فإن الموت قريب، قم كلم هذه الفاجرة العاهرة الظالمة الغاشمة فقام حسن وهو مكسور الخاطر حزين القلب خائف ويقول يا سلام سلم اللهم الطف بي فيما قدرته علي من بلائك واسترني يا أرحم الراحمين وقد يئس من الحياة وتوجه مع العشرين مملوكاً والحاجب والعجوز، فدخلوا على الملكة بحسن فوجد ولديه ناصراً ومنصوراً جالسين في حجرها وهي تلاعبهما وتؤانسهما، فلما وقع نظره عليهما عرفهما وصرخ صرخة عظيمة ووقع على الأرض مغشياً عليه لشدة الفرح بولديه. فلما أفاق عرف ولديه وعرفاه فحركتهما المحبة الغريزية فتخلصا من حجر الملكة ووقفا عند حسن وانطقهما الله عز وجل بقولهما: يا أبانا، فبكت العجوز والحاضرون رحمة لهما وشفقة عليهما وقالوا: الحمد لله الذي جمع شملكما بأبيكما، فلما أفاق حسن من غشيته عانق أولاده ثم بكى حتى غشي عليه، فلما أفاق من غشيته أنشد هذه الأبيات:
وحقكم إن قلبي لـم يعـلـق جـلـداً                    على الفراق ولو كان الوصـال ردى
يقول لي طيفكـم إن الـلـقـاء غـداً                    وهل أعيش على رغم الـعـداة غـدا
وحقكم سادتي مـن يوم فـرقـتـكـم                  ما لذ لي طيب عيش بـعـدكـم أبـدا
وإن قضى الله نحبي في محـبـتـكـم                 أموت في حبكم من أعظم الـشـهـدا
وظبية في زوايا القلب مـرتـعـهـا                   وشخصها كالكرى عن مقلتـي شـردا
وإن أنكرت في مجال الشرع سفك دمي            فإنه فـوق خـديهـا لـقـد شـهـدا

فلما تحققت الملكة أن الصغار أولاد حسن وأن أختها السيدة منار السنا زوجته التي جاء في طلبها غضبت غضباً شديداً ما عليه من مزيد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة نور الهدى لما تحققت إن الصغار أولاد حسن وإن أختها منار السنا زوجته التي جاء في طلبها غضبت عليها غضباً شديداً ما عليه من مزيد وصرخت في وجه حسن فغشي عليه فلما أفاق من غشيته أنشد هذه الأبيات:
بعدتم وأنتم أقرب الناس في الحشا                 وغبتم وأنتم في الفؤاد حضـور
فو الله ما مال الفؤاد لغـيركـم              وإني على جور الزمان صبور
تمر الليالي في هواكم وتنقضـي           وفي القلب مني زفرة وسعـير
وكنت فتى لا أرتضي البعد ساعة                   فكيف وقد مرت علي شهـور
أغار إذا ذهبت عليكم نـسـيمة             وإني على الغيد الملاح غـيور

فلما فرغ حسن من شعره خر مغشيا عليه، فلما أفاق رآهم قد أخرجوه مسحوبا على وجهه فقام يمشي ويتعثر في أذياله، وهو لا يصدق بالنجاة مما قاساه منها فعز على العجوز شواهي ولم تقدر أن تخاطب الملكة في شأنه من قوة غضبها، فلما خرج حسن من القصر صار متحيراً لا يعرف أين يروح ولا يجيء ولا أين يذهب وضاقت عليه الأرض بما رحبت ولم يجد من يحدثه ويؤانسه ولا من يسليه ولا يستشيره ولا من يقصده ويلجأ إليه فأيقن بالهلاك لأنه لا يقدر على السفر ولا يعرف من يسافر معه ولا يعرف الطريق ولا يقدر أن يجوز على وادي الجان وأرض الوحوش وجزائر الطيور فيئس من الحياة ثم بكى على نفسه حتى غشي عليه فلما أفاق تفكر أولاده وزوجته وقدومها على أختها وتفكر فيما يجري لها مع الملكة أختها ثم ندم على حضوره في هذه الديار وعلى كونه لم يسمع كلام أحد فأنشد هذه الأبيات:
دعوا مقلتي تبكي على فقد من أهـوى             فقد عز سلواني وزادت بي البـلـوى
وكأس صروف البين صرفاً شربتـهـا               فمن ذا على فقد الأحـبة قـد يقـوى
بسطتهم بساط العتب بينـي وبـينـكـم               ألا يا بساط العتب عني متى تـطـوى
سهرت ونمتم إذ زعـمـتـم بـأنـنـي                  سلوت هواكم إذ سلوت عن السـلـوى
إلا أن قلبـي مـولـعٌ بـوصـالـكـم            وأنتم أطبائي حـفـظـتـم مـن الأدوا
ألم تنظروا ما حل بي مـن صـدودكـم               ذللت لمن يسوى ومن لم يكـن يسـوى
كتمـت هـواكـم والـغـرام يذيعـه            وقلبي بنيران الـهـوى أبـداً يكـوى
فرقوا لحالي وارحـمـونـي لأنـنـي                   حافظت على الميثاق في السر والنجوى
فيا هل ترى الأيام تجمـعـنـي بـكـم                  فأنتم مني قلبي وروحي لكـم تـهـوى
فؤادي جريح بالـفـراق فـلـيتـكـم                    تفيدوننا عن حـبـكـم خـبـراً يروى

ثم أنه لما فرغ من شعره، ولم يزل ذاهباً إلى أن خرج إلى ظاهر المدينة فوجد النهر فسار على جانبه وهو لا يعلم أين يتوجه، هذا ما كان من أمر حسن. وأما ما كان من أمر زوجته منار السنا فإنها أرادت الرحيل في اليوم الثاني الذي رحلت فيه العجوز فبينما هي عازمة على الرحيل إذ دخل عليهما حاجب الملك أبيها وقبل الأرض بين يديها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح

وفي الليلة الواحدة والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن منار السنا بينما هي عازمة على الرحيل إذ دخل عليها حاجب الملك أبيها وقبل الأرض بين يديها وقال لها: يا ملكة إن أباك الملك الأكبر يسلم عليك ويدعوك إليه فنهضت متوجهة مع الحاجب إلى أبيها تنظر حاجته فلما رآها أبوها أجلسها إلى جانبه فوق السرير وقال لها: يا ابنتي اعلمي إني رأيت في هذه الليلة رؤيا وأنا خائفٌ عليك منها وخائفٌ أن يصل لك من سفرك هذا همٌ طويل فقالت له: لأي شيء يا أبتي? وأي شيء رأيت في المنام? قال: رأيت كأني دخلت كنزاً فرأيت فيه أموالاً عظيمة وجواهر ويواقيت كثيرة وكأنه لم يعجبني من ذلك الكنز ولا من تلك الجواهر جميعها إلا سبع حباتٍ وهي أحسن ما فيه فاخترت من السبع جواهر واحدة وهي أصغرها وأحسنها وأعظمها نورا وكأني أخذتها في كفي لما أعجبني حسنها وخرجت بها من الكنز فلما خرجت من بابه فتحت يدي وأنا فرحان وقبلت الجوهرة وإذا بطائر غريب قد أقبل من بلاد بعيدة ليس من طيور بلادنا قد انقض علي من السماء وخطف الجوهرة من يدي ورجع بها إلى المكان الذي أتيت بها منه فلحقني الهم والحزن والضيق وفزعت فزعاً عظيماً أيقظني من المنام فانتبهت وأنا حزين متأسف على تلك الجوهرة فلما انتبهت من النوم دعوت بالمعبرين والمفسرين وقصصت عليهم منامي فقالوا إن ذلك سبع بنات تفقد الصغيرة منهن وتؤخذ منك قهراً بغير رضاك وأنت يا ابنتي أصغر بناتي وأعزهن عندي وأكرههن علي وها أنت مسافرة إلى أختك ولا أعلم ما يجري عليك منها فلا تروحي وأرجعي إلى قصرك.
فلما سمعت منار السنا كلام أبيها خفق قلبها وخافت على أولادها وأطرقت برأسها إلى الأرض ساعة ثم رفعته إلى أبيها وقالت له: يا أيها الملك إن الملكة نور الهدى قد هيأت لي ضيافة وهي في انتظار قدومي عليها ساعة بعد ساعة ولها أربع سنين ما رأتني وإن قعدت عن زيارتها تغضب علي ومعظم قعودي عندها شهر زمان وأحضر عندك من هذا الذي يطرق بلادنا ويصل إلى جزائر واق الواق ومن يقدر أن يصل إلى الأرض البيضاء والجبل الأسود ويصل إلى جزيرة الكافور وقلعة الطيور وكيف يقطع وادي الطيور ثم وادي الوحوش ثم وادي الجان ثم يدخل جزائرنا ولو دخل إليها غريب لغرق في بحار الهلكات فطب نفساً وقر عيناً من شأن سفري فإنه لا قدرة لأحد على أن يدوس أرضنا ولم تزل تستعطفه حتى أنعم عليها بالأذن في المسير.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنها لم تزل تستعطفه حتى أنعم عليها بالأذن في المسير ثم أنه أمر ألف فارس أن يسافروا معها ليوصلوها إلى النهر ثم يقيموا مكانهم حتى تصل إلى مدينة أختها وتدخل قصرها، وأمرهم أن يقيموا عندها حتى يأخذوها ويحضروها إلى أبيها وأوصاها أبوها أن تقعد عند أختها يومين ثم تعود بسرعة، فقالت سمعاً وطاعةً ثم أنها نهضت وخرجت وخرج معها أبوها وودعها وقد أثر كلام أبيها في قلبها فخافت على أولادها ولا ينفع التحصن بالحذر من هجوم القدر فجدت في المسير ثلاثة أيام بلياليها حتى وصلت إلى النهر وضربت خيامها على ساحله ثم عدت النهر ومعها بعض غلمانها وحاشيتها ووزرائها ولما وصلت إلى مدينة الملكة نور الهدى طلعت القصر ودخلت عليها فرأت أولادها يبكون عندها ويصيحون: يا بابا فجرت الدموع من عينيها وبكت ثم ضمت أولادها إلى صدرها وقالت لهم: هل رأيتم أباكم فلا كانت الساعة التي فارقته ولو عرفت أنه في دار الدنيا لكنت وصلتكم إليه ثم ناحت على نفسها وعلى زوجها وعلى بكاء أولادها، وأنشدت هذه الأبيات:
أأحبابنا إني على البعد والجفا              أحن إليكم حيث كنتم وأعطف
وطرفي إلى أوطانكم متلفـت               وقلبي على أيامكم متلهـف
وكم ليلةٍ بتنا على غـير ريبةٍ               محبين يهنينا الوفا والتلطـف

فلما رأتها قد ضمت أولادها وقالت: أنا التي فعلت بنفسي وبأولادي هكذا وأخرجت بيتي فلم تسلم عليها أختها نور الهدى بل قالت لها: يا عاهرة من أين لك هذه الأولاد? هل تزوجت بغير علم أبيك أو زنيت فإن كنت زنيت وجب تنكيلك وإن كنت تزوجت من غير علمنا فلأي شيء فارقت زوجك وأخذت أولادك وفرقت بينهم وبين أبيهم وجئت بلادنا? وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة نور الهدى قالت لأختها منار السنا: وإن كنت تزوجت من غير علمنا فلأي شيء فارقت زوجك وأخذت أولادك وفرقت بينهم وبين أبيهم وجئت بلادنا وقد أخفيت أولادك عنا? أتظنين أننا لا ندري بذلك والله تعالى علام الغيوب قد أظهر لنا أمرك وكشف حالك وبين عوراتك ثم بعد ذلك أمرت أعوانها أن يمسكوا فقبضوا عليها فكتفتها وقيدتها بالقيود الحديد وضربتها ضرباً وجيعاً حتى شرحت جسدها وصلبتها من شعرها ووضعتها في السجن وكتبت كتاباً إلى الملك الأكبر أبيها تخبره بخبرها وتقول له: إنه ظهر بلادنا رجل من الإنس وأختي منار السنا تدعي أنها تزوجته في الحلال وجاءت منه بولدين وقد أخفتهما عنا وعنك ولم تظهر عن نفسها شيئاً إلى أن أتانا ذلك الرجل الذي من الأنس وهو يسمى حسناً وأخبرنا أنه تزوج بها وقعدت عنده مدة طويلة من الزمان، ثم أخذت أولادها وأتت من غير علمه وأخبرت والدته عند مجيئها وقالت لها: قولي لولدك إذا حصل له اشتياق أن يجيئني إلى جزائر واق الواقي فقبضنا على ذلك الرجل عندنا وأرسلت إليها العجوز شواه تحضرها عندي هي وأولادها فجهزت نفسها وحضرت وقد كنت أمرت العجوز أن تحضر لي أولادها فتسبق بهم إلي قبل حضورها فجاءت العجوز بأولادها فأرسلت إلي الرجل الذي أدعى أنها زوجته فلما دخل علي ورأى الأولاد عرفهم فتحققت أن الأولاد أولاده وأنها زوجته وعلمت أن كلام الرجل صحيح وليس عنده عيب ورأيت أن القبح والعيب عند أختي فخفت من هتك عرضنا عند أهل جزائرنا فأدخلت على هذه الفاجرة الخائنة غضبت عليها وضربتها ضرباً وجيعاً وسلبتها من شعرها وقد أعلمتك بخبرها والأمر أمرك فالذي تأمرنا به نفعله وأنت تعلم أن هذا الأمر فيه هتيكة لنا وعيب في حقنا وحقك وربما تسمع أهل الجزيرة بذلك فنصير بينهم مثلاً فينبغي لنا جواباً سريعاً. ثم أعطت المكتوب للرسول فسار به إلى الملك، فلما قرأه الملك الأعظم اغتاظ غيظاً شديداً على ابنته منار السنا وكتب إلى ابنته نور الهدى مكتوباً يقول لها فيه: أنا فوضت أمرها إليك وحكمت في دمها فإن كان الأمر كما ذكرت فأقتليها ولا تشاوريني في أمرها فلما وصل إليها كتاب أبيها وقرأته أرسلت إلى منار السنا وأحضرتها بين يديها وهي غريقة في دمها مكتفة بشعرها مقيدة بقيدٍ ثقيلٍ من حديد وعليها اللباس الشعر ثم أوقفوها بين يدي الملكة فوقفت حقيرة ذليلة فلما رأت نفسها في هذه المذلة العظيمة والهوان الشديد تفكرت ما كانت فيه من العز وبكت بكاءً شديداً وأنشدت هذين البيتين:
يا رب إن العدا يسعون في تلفي           ويزعمون بأني لست بالنـاحـي
وقد رجوتك في أبطال ما صنعوا                    يا رب أنت ملاذ الخائف الراجي
ثم بكت بكاءً شديداً حتى وقعت مغشياً عليها، فلما أفاقت أنشدت هذين البيتين:
ألف الحوادث مهجتي وألفتها              بعد التنافر والكريم ألـوف
ليس الهموم علي صنفاً واحداً             عندي بحمد الله من ألـوف
ثم أنشدت هذين البيتين:
ولرب نازلة يضيق لها الفتى               درعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها             فرجت وكنت أظنها لا تفرج

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة نور الهدى لما أمرت بإحضار أختها الملكة منار السنا أوقفوها بين يديها وهي مكتفة، فأنشدت الأشعار السابقة ثم أن أختها أحضرت لها سلماً من خشب ومدتها عليه، وأمرت أن يربطوها على ظهرها فوق السلم ومدت سواعدها وربطتها في الحبال ثم كتف رأسها ولفت شعرها على السلم الخشب، وقد انتزعت الشفقة عليها من قلبها فلما رأت منار السنا نفسها في هذه الحالة من الذل والهوان صاحت وبكت فلم يغثها أحد فقالت لها أ يا أختي كيف قسا قلبك علي فلا ترحميني ولا ترحمي الأطفال الصغار? فلما سمعت هذا الكلام ازدادت قسوتها وشتمتها وقالت لها: يا عاشقة يا عاهرة لا رحم الله من يرحمك كيف أشفق عليك يا خائنة: فقالت لها منار السنا وهي مشبوحة: احتسبت عليك برب السماء فيما تنسبينني به وأنا بريئة منه والله ما زنيت وإنما تزوجته في الحلال، وربي يعلم هل قولي صحيح أم لا وقلبي قد غضب عليك من شدة قسوة قلبك علي، فكيف ترميني بالزنا من غير علم ولكن ربي يخلصني منك وأن كان الذي قذفتيني به من الزنا حقا فسيعاقبني الله عليه، فتفكرت أختها في نفسها حين سمعت كلامها وقالت لها: كيف تخاطبينني بهذا الكلام، ثم قامت لها وضربتها حتى غشي عليها فرشوا على وجهها الماء حتى أفاقت وقد تغيرت محاسنها من شدة الضرب ومن قوة الرباط ومن فرط ما حصل لها من الإهانة ثم أنشدت هذا البيت:
وإذا جنيت وأتيت شـيئاً مـنـكـراً           أنا تائبٌ عما مضى وإليكم مستغفرا
فلما سمعت شعرها نور الهدى غضبت غضباً شديداً وقالت لها: أتتكلمين يا عاهرة قدامي بالشعر وتستعذرين من الذي فعلتيه من الكبائر وكان مرادي أن ترجعي لزوجك حتى أشاهد فجورك وقوة عينك لأنك تفتخرين الذي وقع منك من الفجور والفحش والكبائر، ثم أنها أمرت الغلمان أن يحضروا لها الجريد فاحضروه وشمرت عن ساعديها ونزلت عليها بالضرب من رأسها إلى قدميها ثم دعت بسوط مضفور ولو ضربت به الفيل لهرول مسرعا فنزلت بذلك السوط على ظهرها وبطنها وجميع أعضائها حتى غشي عليها.
فلما رأت العجوز شواهي ذلك من الملكة خرجت هاربة من بين يديها وهي تبكي وتدعو عليها فصاحت على الخدم وقالت لهم: أئتوني بها فتجاروا عليها ومسكوها وأحضروها على وجهها وأخرجوها فسحبوها وأخرجوها من بين يديها، هذا ما كان من أمر هؤلاء.
وأما ما كان من أمر حسن فإنه قام متجلداً ومشى في شاطئ النهر واستقبل البرية وهو حيران مهموم وقد يئس من الحياة، وصار مدهوشاً لا يعرف الليل من النهار، ولشدة ما أصابه وما زال يمشي إلى أن قرب من شجرة فوجد عليها ورقة معلقة فتناولها حسن بيده ونظرها فإذا مكتوب فيها هذه الأبيات:
دبرت أمرك عنـدهـا               كنت الجنين ببطن أمك
وعليك قد حننـتـهـا                حتى لقد جادت بضمك
أنا لـكـافـوك الـذي                 يأتي بهمك أو بغمـك
فاضرع إلينا ناهـضـاً              نأخذ بكفك في مهمك

فلما فرغ من قراءة الورقة أيقن بالنجاة من الشدة والظفر بجمع الشمل ثم مشى خطوتين فوجد نفسه وحيداً في موضع قفر خطر لا يجد فيه أحدا يستأنس به، فطار قلبه من الوحدة والخوف وارتعدت فرائصه من هذا المكان المخوف.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً لما قرأ الورقة أيقن بالنجاة من الشدة وتحقق الظفر بجمع الشمل ثم قام ومشى خطوتين فوجد نفسه وحيداً في موضع خطر وما عنده أحد يؤانسه فبكى بكاءً شديداً. وأنشد الأشعار التي ذكرناها، ثم مشى على جانب النهر خطوتين فوجد ولدين صغيرين من أولاد السحرة والكهان وبين أيديهما قضيب من النحاس منقوش بالطلاسم وبجانب القضيب طاقية من الآدم بثلاثة تروك منقوش عليها بالبولاد أسماء وخواتم القضيب والطاقية مرميان على الأرض والولدان يختصمان ويتضاربان عليهما حتى سال الدم بينهما، وهذا يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا وآخر يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا فدخل حسن بينهما وخلصهما من بعضهما وقال لهما: ما سبب هذه المخاصمة? فقالا له: يا عم أحكم بيننا فإن الله تعالى ساقك إلينا بالحق فقال لهما: قصا علي حكايتكما وأنا أحكم بينكما، فقالا له: نحن الاثنان أخوان شقيقان وكان أبونا من السحرة الكبار وكان مقيماً في مغارة في هذا الجبل ثم مات وخلف لنا هذه الطاقية وهذا القضيب وأخي يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا وأنا أقول: ما يأخذه إلا أنا، فاحكم بيننا وخلصنا من بعضنا، فلما سمع حسن كلامهما قال لهما: ما الفرق بين القضيب والطاقية وما مقدارهما فإن القضيب بحسب الظاهر يساوي ستة جدد، والطاقية تساوي ثلاثة جدد فقالا له: أنت ما تعرف فضلهما فقال لهما: أي شيء فضلهما فقالا له في كل منهما سر عجيب، وهو أن القضيب يساوي خراج جزائر واق الواق بأقطارها والطاقية كذلك، فقال لهما حسن: يا ولدي بالله اكشفا لي عن سرهما فقالا له: يا عم أن سرهما عظيم لن أبانا عاش مائة وخمساً وثلاثين سنة يعالج تدبيرهما حتى أحكمهما غاية الأحكام وركب فيهما السر المكنون واستخدمهما الاستخدامات الغريبة ونقشهما على مثل الفلك الدائر وحل بهما جميع الطلاسم، وعندما فرغ من تدبيرهما أدركه الموت الذي لا بد لكل أحد منه، فأما الطاقية فإن سرها أن كل من وضعها على رأسه اختفى عن أعين الناس جميعاً فلا ينظره أحد ما دامت على رأسه، وأما القضيب فإن سره أن كل من ملكه يحكم على سبع طوائف من الجن والجميع يخدمون ذلك القضيب فكلهم تحت أمره وحكمه وكل من ملكه وصار في يده إذا ضرب به الأرض خضعت له ملوكها وتكون جميع الجن في خدمته.
فلما سمع حسن هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض ساعة ثم قال في نفسه: والله أنني لمنصور بهذا القضيب وبهذه الطاقية أن شاء الله تعالى فإني أحق بهما منهما، ففي هذه الساعة أتحيل على أخذهما منهما لاستعين بهما على خلاصي وخلاص زوجتي وأولادي من هذه الملكة الظالمة ونسافر من هذا المكان المظلم الذي ما لأحد من الإنس خلاص منه ولا مفر، ولعل الله ما ساقني لهذين الغلامين إلا لاستخلاص منهما القضيب والطاقية.
ثم رفع رأسه إلى الغلامين وقال لهما: إن شئتما فصل القضية فأنا امتحنكما فمن غلب رفيقه يأخذ القضيب ومن عجز يأخذ الطاقية، فإن امتحنتكما وميزت بينكما عرفت ما يستحقه كل منكما، فقالا له: يا عم وكلناك في امتحاننا وأحكم بيننا بما تختار، فقال لهما حسن: هل تسمعان مني وترجعا إلى قولي، فقالا له: نعم، فقال لهما حسن: أنا آخذ حجراً وأرميه فمن سبق منكم إليه وأخذه قبل رفيقه يأخذ القضيب ومن تأخر ولم يلحقه يأخذ الطاقية فقالا: قبلنا منك هذا الكلام ورضينا به.
ثم أن حسناً أخذ حجراً ورماه بعزمه فغاب عن العيون فتسارع الغلمان نحوه، فلما بعد أخذ حسن الطاقية ولبسها وأخذ القضيب في يده وانتقل من موضعه لينظر صحة قولهما في شأن سر أبيهما فسبق الولد الصغير إلى الحجر وأخذه ورجع به إلى المكان الذي فيه حسن فلم ير له أثر، فصاح على أخيه وقال له: أين الرجل الحاكم بيننا? فقال: لا أراه ولم أعرف هل طلع إلى السماء أو نزل إلى الأرض السفلى، ثم أنهما فتشا عليه فلم ينظراه وحسن واقف في مكانه، فشتما بعضهما وقالا: قد راح القضيب والطاقية لا لي ولا لك وكان أبونا قال لنا هذا الكلام بعينه ولسنا نسينا ما أخبرنا به، ثم أنهما رجعا على أعقابهما ودخل حسن المدينة وهو لابس الطاقية وفي يده القضيب فلم يره أحد من الناس، ثم دخل القصر وطلع إلى الموضع الذي فيه شواهي ذات الدواهي فدخل عليها وهو لابس الطاقية فلم تره، ومشى حتى اقترب من رف كان فوق رأسها وعليه زجاج وصيني فحركه بيده فوقع الذي فوقه على الأرض فصاحت شواهي ذات الدواهي ولطمت على وجهها، ثم قامت وأرجعت الذي وقع إلى مكانه وقالت في نفسها: والله ما أظن إلا أن الملكة نور الهدى أرسلت إلي شيطاناً فعمل معي هذه العملة فأنا اسأل الله أن يخلصني منها ويسلمني من غضبها فيا رب إذا كان هذا فعلها القبيح من الضرب والصلب مع أختها وهي عزيزة عند أبيها، فكيف يكون فعلها مع الغريب مثلي إذا غضبت عليه? وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز شواهي ذات الدواهي لما قالت: إذا كانت الملكة نور الهدى تفعل هذه الفعال مع أختها فكيف يكون حال الغريب معها إذا غضبت عليه? ثم قالت: أقسمت عليك أيها الشيطان بالحنان المنان العظيم الشأن القوي السلطان خالق الأنس والجان وبالنقش الذي على خاتم سليمان بن داود عليه السلام أن تكلمني وتجيبني، فأجابها حسن الولهان الهائم الحيران، ثم قلع الطاقية من فوق رأسه فظهر للعجوز وعرفته واختلت به وقالت له: أي شيء حصل لك في عقلك حتى عبرت إلى هنا? رح اختف فإن هذه الفاجرة صنعت بزوجتك ما صنعت من العذاب وهي أختها فكيف إذا وقعت بك? ثم حكت له جميع ما وقع لزوجته وما هي فيه من الضيق والعقوبة والعذاب، وكذلك ما وقع لها من العذاب ثم قالت أن الملكة ندمت حيث أطلقتك، وقد أرسلت إليك من يحضرك لها وتعطيه من الذهب قنطاراً وتجعله في رتبتي عندها وحلفت أن رجعوك قتلتك وتقتل زوجتك وأولادك، ثم أن العجوز بكت وأظهرت لحسن ما فعلته الملكة بها فبكى حسن وقال لها: يا سيدتي كيف الخلاص من هذه الديار ومن هذه الملكة الظالمة وما الحيلة التي توصلني إلى أن أخلص زوجتي وأولادي ثم أرجع بهم إلى بلادي فقالت له العجوز ويلك انج بنفسك فقال لا بد من خلاصها وخلاص أولادي منها قهراً عنها فقالت له العجوز وكيف تخلصهم قهراً عنها رح وأختف يا ولدي حتى يأذن الله تعالى ثم أن حسناً أراها القضيب النحاس والطاقية.
فلما رأتهما العجوز فرحت بهما فرحاً شديداً وقالت له سبحان من يحيي العظام وهي رميم والله ما كنت أنت وزوجتك إلا من الهالكين والآن يا ولدي قد نجوت أنت وزوجتك وأولادك لأني أعرف القضيب وأعرف صاحبه فإنه كان شيخي الذي علمني السحر وكان ساحراً عظيماً مكث مائة وخمساً وثلاثين سنة حتى كان أتقن هذا القضيب وهذه الطاقية فلما انتهى من إتقانهما أدركه الموت الذي لا بد منه وسمعته يقول لولديه يا ولدي هذان ما هما من نصيبكما وإنما يأتي شخص غريب الديار يأخذهما منكما قهراً ولا تعرفان كيف يأخذهما: فقالا يا أبانا عرفنا كيف يصل إلى أخذهما فقال لا أعرف ذلك، فكيف وصلت يا ولدي لأخذهما من الولدين، فحكى لها كيف أخذهما من الولدين.
فلما حكى لها فرحت بذلك وقالت له: يا ولدي كما ملكت زوجتك وأولادك أسمع مني ما أقول لك عليه أنا ما بقي لي عند هذه الفاجرة إقامة بعدما تجاسرت علي ونكلتني وأنا راحلة من عندها إلى مغارة السحرة لأقيم عندهم وأعيش معهم إلى أن أموت وأنت يا ولدي البس الطاقية وخذ القضيب في يدك وأدخل على زوجتك وأولادك في المكان الذي هم فيه وأضرب الأرض بالقضيب وقل يا خدام هذه الأسماء تطلع إليك خدامه فإن طلع لك أحد من رؤوس القبائل فأمره بما تريد وتختار ثم أنه ودعها وخرج ولبس الطاقية وأخذ القضيب معه ودخل المكان الذي فيه زوجته فرآها في حالة العدم مصلوبة على السلم وشعرها مربوط فيه وهي باكية العين حزينة القلب في أسوأ حال لا تدري طريقة لخلاصها وأولادها تحت السلم يلعبون وهي تنظرهم وتبكي عليهم وعلى نفسها بسبب ما جرى لها مما أصابها، وهي تقاسي من العذاب والضرب المؤلم أشد النكال، فلما رآها في أسوأ الحالات سمعها تنشد هذه الأبيات:
لم يبق إلا نفـسٌ هـافـت           ومقلة إنسانـهـا بـاهـت
ومغرمٌ تضـرم أحـشـاؤه                    بالنـار إلا أنـه سـاكـت
يرثي له الشامات مما رأى                 يا ويح من يرثي له الشامت

ثم أن حسنا لما رآها بما هي من العذاب والذل والهوان بكى حتى غشى عليه فلما أفاق ورأى أولاده وهم يلعبون وقد غشي على أمهم من كثرة التألم كشف الطاقية عن رأسه فصاحوا يا أبانا فغطى رأسه، واستفاقت أمهم على صياحهم فلم تنظر زوجها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زوجة حسن لما أفاقت من غشيتها على صياح أولادها وهما يقولان: يا أبانا، وقد التفتت يميناً وشمالاً لترى سبب صياح أولادها وندائهم لأبيهم فلم تر أحداً تعجبت من ذكر أولادها لأبيهم في هذا المكان، هذا ما كان من أمرهم وأما ما كان من أمر حسن لما رآها هكذا بكى حتى غشي عليه وخرت دموعه على خديه مثل المطر ودنا من الأولاد وكشف الطاقية فلما راوه عرفوه وصاحوا بقولهم يا أبانا فبكت أمهم حين سمعتهم يذكرون أباهم وقالت: لا حيلة في قدرة الله وقالت في نفسها يا للعجب ما سبب ذكرهم لأبيهم في هذا الوقت وندائهم له فلم يطق حسن الصبر حتى كشف الطاقية عن رأسه فنظرته زوجته، فلما عرفته زعقت زعقة أزعجت جميع من في القصر ثم قالت له: كيف وصلت إلى هنا? هل من السماء نزلت أو من الأرض طلعت ثم تغرغرت عيونها بالدموع فبكى حسن.
فقالت له يا رجل ما هذا وقت بكاء ولا وقت عتاب قد نفذ الفضاء وعمي البصر وجرى القلم بما حكم الله في القدم فبالله عليك من أي مكان جئت اذهب وأختفي لئلا بنظرك أحد فتعلم أختي بذلك فتذبحني وتذبحك فقال لها: حسن يا سيدتي سيدة كل ملكة أنا خاطرت بروحي وجئت إلى هنا فأما أن أموت وأما أن أخلصك من الذي أنت فيه وأسافر أنا وأنت وأولادي إلى بلادي على رغم أنف هذه الفاجرة أختك، فلما سمعت كلامه تبسمت وضحكت وصارت تحرك رأسها فترة طويلة وقالت له: هيهات يا روحي أن يخلصني مما أنا فيه إلا الله تعالى ففز بنفسك وأرحل ولا ترم روحك في الهلاك فما حل بي هذا إلا لكوني عاصيتك وخالفت أمرك وخرجت من غير إذنك فبالله عليك يا رجل لا تؤاخذني بذنبي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زوجة حسن اعتذرت إليه وقالت له لا تؤاخذني بذنبي وأعلم أن المرأة ما تعرف قيمة الرجل حتى تفارقه، وأنا أذنبت وأخطأت ولكن استغفر الله العظيم مما وقع مني وأن جمع الله شملنا لا أعصي لك أمراً بعد ذلك أبداً فقال لها حسن وقد أوجعه قلبه عليها: أنت ما أخطأت وما أخطأ إلا أنا لأني سافرت وخليتك عند من لا يعرف قدرك ولا يعرف لك قيمة ولا مقدار وأعلمي يا حبيبة قلبي وثمرة فؤادي ونور عيني أن الله سبحانه وتعالى قدرني على تخليصك، فهل تحبين أن أوصلك إلى دار أبيك وتستوفي عنده ما قدر الله عليك أو تسافرين إلى بلادنا عن قريب حيث حصل لك الفرج. فقالت له: ومن يقدر على تخليصي إلا رب السماء فرح إلى بلادك وخل عنك الطمع فإنك لا تعرف أخطار هذه الديار وأن لم تطعني سوف تنظر ثم أنها أنشدت هذه الأبيات: 
علي وعندي ما تريد من الـرضـا                   فما لك غضباناً علي ومعـرضـا
وما قد جرى حاشى الذي كان بيننا                 من الود أن ينسى قديماً وينقـضـا
وما برح الواشي لنا متـجـنـبـاً             فلما رأى الأعراض منا تعرضـا
فأني بحسن الظن منـك لـواثـق            وأن جهل الواشي وقال وحرصـا
فنكتم سراً بـينـنـا ونـصـونـه              ولو كان سيف العذل باللوم منتضى
أظل نهاري كـلـه مـتـشـوقـاً               لعل بشيراً منك يبقى بـالـرضـا

ثم بكت هي وأولادها، فسمع الجواري بكاءهم فدخلن عليهم فوجدت الملكة منار السنا تبكي هي وأولادها ولم ينظرن حسنا عندهم فبكى الجواري رحمة لهم ودعون على الملكة نور الهدى فصبر حسن إلى أن أقبل الليل وذهب الحراس الموكلون بها إلى مراقدهم، ثم بعد ذلك قام وشد وسطه وجاء إلى زوجته وحلها وقبل رأسها وضمها إلى صدره وقبلها بين عينيها وقال لها: ما أطول شوقنا إلى ديارنا واجتماع شملنا هناك فهل اجتماعنا هذا في المنام أو في اليقظة ثم أنه حمل ولده الكبير وحملت هي الولد الصغير وخرجا من القصر وأسبل الله عليهما الستر وسارا فلما وصلا إلى خارج القصر وقفا عند الباب الذي يقفل على سراية الملكة فلما صار هناك رأياه مقفولا فقال حسن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أنا الله وأنا إليه راجعون ثم أنهما يئسا من الخلاص.
فقال حسن يا مفرج الكروب ودق يد على يد وقال: كل شيء حسبته ونظرت في عاقبته إلا هذا فإنه إذا طلع علينا النهار يأخذوننا وكيف تكون الحيلة في هذا الأمر فقالت زوجته: والله ما لنا فرج إلا أن نقتل أرواحنا ونستريح من هذا التعب العظيم ولا نصبح نقاسي العذاب الأليم فبينما هما في الكلام وإذا بقائل يقول من خارج الباب والله ما أفتح لك يا سيدتي منار السنا وزوجك حسن إلا أن تطاوعاني فيما أقوله لكما فلما سمعا هذا الكلام منه سكتا وأراد الرجوع إلى المكان الذي كانا فيه وإذا بقائل يقول ما لكما سكتا ولم ترد على الجواب فعرفا صاحب القول وهي العجوز شواهي ذات الدواهي.
فقالا لها: بما تأمرينا به نعمله ولكن افتحي الباب فإن هذا الوقت ما هو وقت كلام فقالت لهما: والله ما أفتح لكما حتى تحلفا لي أنكما تأخذاني معكما ولا تتركاني عند هذه العاهرة ومهما أصابكما أصابني وأن سلمتما سلمت وأن عطبتما عطبت فإن هذه الفاجرة المساحقة تحتكرني وفي كل ساعة تنكلني من أجلكما وأنت يا ابنتي تعرفين مقداري. فلما عرفاها اطمأنا لها وحلفا لها بما تثق ففتحت لهما الباب وخرجا فلما خرج وجداها راكبة على زير رومي من فخار أحمر وفي حلق الزير حبل من ليف وهو يتقلب من تحتها ويجري جري المهر النجدي.
فتقدمت قدامهما وقالت لهما اتبعاني ولا تفزعا من شيء فإني أحفظ أربعين بابا من السحر، أقل باب منها أجعل به هذه المدينة بحراً عجاجاً متلاطما بالأمواج وأسحر كل بنت فيها فتصير سمكة، وكل ذلك أعمله قبل الصبح ولكني كنت لا أقدر أن أفعل شيئاً من ذلك الشر خوفاً من الملك أبيها ورعاية لأخوتها لأنهم مستعزون بكثرة الأعوان والأرهاط والخدم ولكن سوف أريكما عجائب سحري فسيروا بنا على بركة الله تعالى وعونه فعند ذلك فرح حسن هو وزوجته وأيقنا بالخلاص.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً وزوجته والعجوز شواهي لما طلعوا من القصر وأيقنوا بالخلاص خرجوا إلى ظاهر المدينة، فأخذ حسن القضيب بيده وضرب به الأرض وقوي جنانه وقال يا خدام هذه الأسماء احضروا إلي وأطلعوني على إخوانكم وإذا بالأرض قد انشقت وخرج منها عشر عفاريت كل عفريت منهم رجلاً في تخوم الأرض ورأسه في السحاب فقلبوا الأرض بين يدي حسن ثلاث مرات، وقالوا كلهم بلسان واحد لبيك يا سيدنا والحاكم علينا بأي شيء تأمرنا فنحن لأمرك سامعون ومطيعون أن شئت نيبس لك البحار وننقل لك الجبال من أماكنها.
ففرح حسن بكلامهم وبسرعة جوابهم وشجع قلبه وقوى جنانه وعزمه وقال لهم من أنتم وما أسمكم ولمن تنسبون من القبائل ومن أي طائفة أنتم ومن أي قبيلة ومن أي رهط فقبلوا الأرض ثانيا وقالوا بلسان واحد: نحن سبع ملوك كل ملك منا يحكم على سبع قبائل من الجن والشياطين والمردة والأرهاط والأعوان الطيارة والغواصة وسكان الجبل والبراري والقفار وعمار البحار فأمرنا بما تريد فنحن لك خدام وعبيد ولك من ملك هذا القضيب ملك رقابنا جميعاً ونصير تحت طاعته.
فلما سمع حسن كلامهم فرح فرحاً عظيماً وكذلك زوجته والعجوز فعند ذلك قال حسن للجان: أريد منكم أن تطلعوني على أرهاطكم وجنودكم وأعوانهم فقالوا: يا سيدنا إذا أطلعناك على رهطنا نخاف عليك وعلى من معك لأنهم جنود كثيرة مختلفة الصور والخلق والألوان والوجوه والأبدان فمنا روسي بلا أبدان ومنا أبدان بلا روسي ومنا من هو على صفة السباع، ولكن أن شئت ذلك فلا بد لنا من أن نعرض عليك أولا من هو على صفة الوحوش ولكن يا سيدي ما تريد منا في هذا الوقت.
فقال لهم حسن: أريد منكم أن تحملوني أنا وزوجتي وهذه المرأة الصالحة في هذه الساعة إلى مدينة بغداد فلما سمعوا كلامه أطرقوا برؤوسهم فقال لهم حسن لم لا تجيبوني فقالوا بلسان واحد أيها السيد الحاكم علينا أننا من عهد السيد سليمان بن داود عليهما السلام وكان حلفنا أننا لا نحمل أحد من بني آدم على ظهورنا فنحن من ذلك الوقت ما حملنا أحد من بني آدم على أكتافنا ولا على ظهورنا ولكن في هذه الساعة نشد لك من خيول الجن ما يبلغك مرادك أنت ومن معك فقال لهم حسن وكم بيننا وبين بغداد فقالوا له مسافة سبع سنين للفارس المجد? فتعجب حسن من ذلك وقال لهم كيف جئت أنا إلى هنا فيما دون السنة فقالوا له أنت قد حنن الله عليك قلوب عباده الصالحين ولولا ذلك ما كنت تصل هذه الديار والبلاد ولا تراها بعينك أبدا لأن الشيخ عبد القدوس الذي أركبك الفيل وأركبك الجواد الميمون قطع بك في الثلاثة أيام ثلاث سنين للفارس المجد في السير وأما الشيخ أبو الريش الذي أعطاك لدهنش فإنه قطع بك في اليوم والليلة مسافة ثلاث سنين وهذا من بركة الله العظيم لأن الشيخ أبو الريش من ذرية آصف بن برخيا وهو يحفظ اسم الله الأعظم ومن بغداد إلى قصر البنات سنة فهذه هي السبع سنين.
فلما سمع حسن كلامه تعجب تعجباً عظيماً وقال سبحانه الله مهون العسير وجابر الكسير ومقرب البعيد ومذل كل جبار عنيد الذي هون على كل أمر وأوصلني إلى هذه الديار وسخر لي هؤلاء العالم وجمع شملي بزوجتي وأولادي فما أدري هل أنا نائم أو يقظان وهل أنا صاح أم سكران، ثم التفت إليهم وقال لهم إذا أركبتموني خيولكم في كم يوم توصلنا إلى بغداد فقالوا: تصل بك فيما دون السنة بعد أن تقاسي الأمور الصعاب والشدائد والأهوال وتقطع أودية معطشة وقفاراً موحشة وبراري ومهالك كثيرة، ولا نأمن عليك يا سيدي من أهل هذه الجزائر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجان قالوا لحسن لا نأمن عليك يا سيدي من أهل هذه الجزائر ولا من شر الملك الأكبر ولا من هذه السحرة والكهنة فربما يقهرونا ويأخذوكم منا ونبتلي بهم وكل من بلغه الخبر بعد ذلك يقول لنا أنتم الظالمون كيف قدمتم على الملك الأكبر وحملتم أيضا ابنته معكم ولو كنت معنا وحدك لهان علينا الأمر ولكن الذي أوصلك إلى هذه الجزائر قادر أن يوصلك إلى بلادك ويجمع شملك بأمك قريبا غير بعيد فاعزم وتوكل على الله ولا تخف فنحن بين يديك حتى نوصلك إلى بلادك فشكرهم حسن على ذلك وقال لهم جزاكم الله خيرا ثم قال لهم عجلوا بالخيل.
فقالوا سمعاً وطاعةً ثم دقوا الأرض بأرجلهم فغابوا فيها ساعة ثم حضروا وإذا بهم قد طلعوا ومعهم ثلاثة أفراس مسرجة ملجمة وفي مقدم كل سرج خرج في إحدى عينيه ركوة ملآنة ماء والعين الأخرى ملآنة زادا ثم قدموا الخيل فركب حسن جواده وأخذ ولدا قدامه وركبت زوجته الجواد الثاني وأخذت ولد قدامها ثم نزلت العجوز من فوق الزير وركبت الجواد الثالث وساروا ولم يزالوا سائرين طوال الليل حتى أصبح الصباح فخرجوا عن الطريق وقصدوا الجبل وألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله وساروا النهار كله تحت الجبل.
فبينما هم سائرون وإذ نظر حسن إلى جبل قدامه مثل العمود وهو طويل كالدخان المتصاعد إلى السماء فقرأ شيئاً من القرآن وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فصار ذلك السواد يظهر كلما تقربوا منه فلما دنوا منه وجدوه عفريتا رأسه كالقبة العظيمة وأنيابه كالكلاليب ومنخراه كالإبريق وأذناه كالأدراق وفمه كالمغارة وأسنانه كعواميد الحجارة ويداه كالمداري ورجلاه كالصواري ورأسه في السحاب وقدمه في تخوم الأرض تحت التراب.
فلما نظر حسن إلى العفريت انحنى وقبل الأرض بين يديه فقال له: يا حسن لا تخف مني أنا رئيس عمار ذلك الأرض، وهذه أول جزيرة من جزائر واق الواق وأنا مسلم موحد بالله وسمعت بكم وعرفت قدومكم ولما أطلعت على حالكم اشتهيت أن أرحل من بلاد السحرة إلى أرض غيرها تكون خالية من السكان بعيدة عن الأنس والجان أعيش فيها منفردا وحدي وأعبد الله حتى يدركني أجلي فأردت أن أرافقكم وأكون دليلكم حتى تخرجوا من هذه الجزائر وأنا ما أظهر إلا بالليل فطيبوا قلوبكم من جهتي فإنني مسلم مثل ما أنتم مسلمون.
فلما سمع حسن كلام العفريت فرح فرحاً شديداً وأيقن بالنجاة ثم التفت إليه وقال له جزاك الله خيراً فسر معنا على بركة الله فسار العفريت قدامهم وساروا يتحدثون ويلعبون وقد طابت قلوبهم وانشرحت صدورهم وصار حسن يحكي لزوجته جميع ما قاساه ولم يزالوا سائرين طول الليل وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنهم لم يزالوا سائرين طول الليل إلى الصباح والخيل تسير كالبرق الخاطف فلما طلع النهار مد كل واحد يده في خرجه وأخرج منه شيئاً وأكله وأخرج ماء وشربه ثم جدوا السير ولم يزالوا سائرين والعفريت أمامهم وقد عرج بهم عن الطريق إلى طريق أخرى غير مسلوكة على شاطئ البحر وما زالوا يقطعون الأودية والقفار مدة شهر كامل وفي اليوم الحادي والثلاثين طلعت عليهم غبرة سدت الأقطار وأظلم منها النهار فلما نظرها حسن لحقه الاصفرار وقد سمعوا ضجات مزعجة فالتفتت العجوز إلى حسن وقالت يا ولدي هذه عساكر واق الواق قد لحقونا وفي هذه الساعة يأخذوننا قبضا باليد.
فقال لها حسن ما أصنع يا أمي فقالت له أضرب الأرض بالقضيب ففعل فطلع إليه السبعة ملوك وسلموا عليه وقبلوا الأرض بين يديه وقالوا له لا تخف ولا تحزن ففرح حسن بكلامهم وقال أحسنتم يا سادة الجن والعفاريت هذا وقتكم فقالوا له أطلع أنت وزوجتك وأولادك ومن معك فوق الجبل وخلونا نحن وإياهم لأننا نعرف أنكم على الحق وهم على الباطل وينصرنا الله عليه فنزل حسن هو وزوجته وأولاده والعجوز عن ظهور الخيل وطلعوا على طرف الجبل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنا صعد هو وزوجته وأولاده والعجوز على طرف الجبل بعد أن صرفوا الخيل ثم بعد ذلك أقبلت الملكة نور الهدى بعساكر ميمنة وميسرة ودارت عليهم النقباء وصفوهم جملة وقد التقى العسكران وتصادم الجمعان والتهبت النيران وأقدمت الشجعان وفر الجبان ورمت الجن من أفواهها لهيب الشرر إلى أن أقبل الليل بالإعتكار فافترق الجمعان وانفصل الفريقان ولما نزلوا عن خيولهم واستقروا على الأرض أشعلوا النيران وطلع السبعة ملوك إلى حسن وقبلوا الأرض بين يديه فأقبل عليهم وشكرهم ودعا لهم بالنصر وسألهم عن حالهم مع عسكر الملكة نور الهدى.
فقالوا له أنهم لا يثبتون معنا غير أيام فنحن كنا اليوم ظافرين بهم وقد قبضنا منهم مقدار ألفين وقتلنا منهم خلقاً كثيراً لا يحصى عددهم فطب نفساً وانشرح صدراً ثم أنهم ودعوه ونزلوا إلى عسكرهم يحرسونه وما زالوا يشعلون النيران إلى أن طلع الصباح وأضاء بنوره ولاح فركبت الفرسان الخيل القراح وتضاربوا بمرهقات الصفاح وتطاعنوا بسمر الرماح وباتوا على ظهور الخيل وهم يلتطمون التطام البحار واستعر بينهم في الحرب لهيب النار ولم يزالوا في نضال وسباق حتى انهزمت عساكر واق الواق وانكسرت شوكتهم وانحطت همتهم وزلت أقدامهم وأينما هربوا فالهزيمة قدامهم فولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وقتل أكثرهم وأسرت الملكة نور الهدى هي وكبار مملكتها وخواصها.
فلما أصبح الصباح حضر الملوك السبعة بين يدي حسن ونصبوا له سريراً من المرمر مصفحاً بالدر والجوهر فجلس فوقه ونصبوا عنده سريراً آخر للسيدة منار السنا زوجته وذلك السرير من العاج المصفح بالذهب الوهاج ونصبوا سريراً آخر للعجوز شواهي ذات الدواهي ثم أنهم قدموا الأساري بين يدي حسن ومن جملتهم الملكة نور الهدى وهي مكتفة اليدين مقيدة الرجلين فلما رأتها العجوز قالت لها ما جزاؤك يا فاجرة يا ظالمة إلا أن يجوع كلبتان ويربطا معك في أذناب الخيل ويساقان إلى البحر حتى يتمزق جلدك وبعد ذلك يقطع من لحمك وتطعمين منه كيف فعلت بأختك هذه الفعال يا فاجرة مع إنها تزوجت في الحلال بسنة الله ورسوله لأنه لا رهبانية في الإسلام والزواج من سنن المرسلين عليهم السلام وما خلقت النساء إلا للرجال.
فعند ذلك أمر حسن بقتل الأساري جميعهم فصاحت العجوز وقالت اقتلوهم ولا تبقوا منهم أحداً فلما رأت الملكة منار السنا أختها في هذه الحالة وهي مقيدة مأسورة بكت عليها وقالت لها: يا أختي من هذا الذي أسرنا في بلادنا وغلبنا فقالت لها هذا أمر عظيم أن هذا الرجل الذي اسمه حسن قد ملكنا وحكمه الله فينا وفي سائر ملكنا وتغلب علينا وعلى ملوك الجن فقالت لها أختها ما نصره الله عليكم ولا قهرهم ولا أسركم إلا بهذه الطاقية والقضيب.
فتحققت أختها ذلك وعرفت أنه خلصها بهذا السبب ثم أن السيدة منار السنا حكت لأختها جميع ما جرى لها مع زوجها حسن وجميع ما جرى له وما قاساه من أجلها وقالت لها يا أختي من كانت هذه الفعال فعالة وهذه القوة قوته وقد أيده الله تعالى بشدة الناس حتى دخل بلادنا وأخذك وأسرك وهزم عسكرك وقهر أباك الملك الأكبر الذي يحكم على ملوك الجن يجب أن لا يفرط حقه فقالت لها أختها والله يا أختي لقد صدقت فيما أخبرتيني به من العجائب التي قاساها هذا الرجل وهل كل هذا من أجلك يا أختي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة منار السنا لما أخبرت أختها بأوصاف حسن قالت لها والله أن هذا الرجل ما يفرط فيه خصوصاً بسبب مروأته وهل كل هذا من أجلك فقالت نعم ثم أنهم باتوا يتحدثون إلى الصباح فلما طلعت الشمس أرادوا الرجل فودع بعضهم بعضاً وودعت منار السنا والعجوز بعدما أصلحت بينها وبين أختها نور الهدى فبعد ذلك ضرب حسن الأرض بالقضيب فطلع له خدامه وسلموا عليه وقالوا له الحمد لله على هدو سرك فأمرنا بما تريد حتى نعمله في أسرع من لمح البصر.
فشكرهم على قولهم وقال لهم جزاكم الله خيراً ثم أنه قال لهم شدوا لنا جوادين من أحسن الخيل ففعلوا ما أمرهم به في الوقت وقدموا له جوادين مسرجين فركب حسن جواداً منهما وأخذ ولده الكبير قدامه وركبت زوجته الجواد وأخذت ولدها الصغير قدامها وركبت الملكة نور الهدى هي والعجوز وتوجه الجميع إلى بلادهم فسار حسن هو وزوجته يميناً وسارت الملكة نور الهدى هي والعجوز شمالاً ولم يزل حسن سائراً هو وزوجته وأولاده مدة شهر كامل وبعد الشهر أشرفوا على المدينة فوجدوا حولها أثماراً وأنهاراً.
فلما وصلوا إلى تلك الأشجار نزلوا عن ظهور الخيل وأراد الراحة، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هم بخيول كثيرة قد أقبلت عليهم فلما رآهم حسن قام على رجليه وتلقاهم وإذا هم الملك حسون صاحب أرض الكافور وقلعة الطيور فعند ذلك تقدم حسن إلى الملك وقبل يديه وسلم عليه، ولما رآه الملك ترجل عن ظهر جواده وجلس هو وحسن على الفرش تحت الأشجار بعد أن سلم على حسن وهنأه بالسلامة وفرح به فرحاً شديداً وقال له يا حسن أخبرني بما جرى لك من أوله إلى آخره فأخبره حسن بجميع ذلك، فتعجب منه الملك حسون وقال: يا ولدي ما وصل أحد إلى جزائر واق الواق ورجع منها أبداً إلا أنت فأمرك عجيب ولكن الحمد لله على السلامة.
ثم بعد ذلك قام الملك وركب وأمر حسناً أن يركب ويسير معه ففعل، ولم يزالوا سائرين إلى أن أتوا إلى المدينة فدخل دار الملك فنزل الملك حسون ونزل حسن هو وزوجته وأولاده في دار الضيافة وأقاموا عنده ثلاثة أيام في أكل وشرب ولعب وطرب، ثم بعد ذلك استأذن حسن الملك حسون في السفر إلى بلاده فأذن له فركب هو وزوجته وأولاده وركب الملك معهم وساروا عشرة أيامٍ.






فلما أراد الملك الرجوع ودع حسناً وسار حسن هو وزوجته وأولاده ولم يزالوا سائرين مدة شهر كامل، فلما كان بعد الشهر أشرفوا على مغارة كبيرة أرضها من النحاس الأصفر فقال حسن لزوجته وأولاده انظري هذه المغارة هل تعرفينها قالت نعم قال إن فيها شيخاً يسمى أبي الريش وله فضل علي كبير لأنه هو الذي كان سبب في المعرفة بيني وبين الملك حسون وصار يحدث زوجته يخبر أبي الريش وإذا بالشيخ أبي الريش خارج من المغارة.
فلما رآه حسن نزل عن جواده وقبل يديه فسلم عليه الشيخ أبو الريش وهنأه بالسلامة وفرح به وأخذه ودخل به المغارة وجلس وإياه وصار يحدث الشيخ أبا الريش بما جرى له في جزائر واق الواق فتعجب الشيخ أبو الريش غاية العجب وقال: يا حسن كيف خلصت زوجتك وأولادك فحكى له حكاية القضيب والطاقية.
فلما سمع الشيخ أبو الريش تلك الحكاية تعجب وقال: يا حسن يا ولدي لولا هذا القضيب وهذه الطاقية ما كنت خلصت زوجتك وأولادك، فقال له حسن نعم يا سيدي.
وبينما هما في الكلام وإذا بطارق يطرق باب المغارة فخرج الشيخ أبو الريش وفتح الباب فوجد الشيخ عبد القدوس قد أتى وهو راكب فوق الفيل فتقدم الشيخ أبو الريش وسلم عليه وأعتنقه وفرح به فرحاً عظيماً وهنأه بالسلامة، وبعد ذلك قال الشيخ أبو الريش لحسن أحك للشيخ عبد القدوس جميع ما جرى لك يا حسن فشرع حسن يحكي للشيخ جميع ما جرى له من أوله إلى آخره إلى أن وصل إلى حكاية القضيب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسناً شرع يحكي للشيخ عبد القدوس والشيخ أبي الريش وهم في المغارة يتحدثون جميع ما جرى له من أوله إلى آخره إلى أن وصل إلى حكاية القضيب والطاقية فقال الشيخ عبد القدوس لحسن: يا ولدي أما أنت فقد خلصت زوجتك وأولادك ولم يبق لك حاجة بهم، وأما نحن فإننا كنا السبب في وصولك إلى جزائر واق الواق وقد عملت معك الجميل لأجل بنات أخي وأنا أسألك من فضلك وإحسانك أن تعطيني القضيب وتعطي الشيخ أبا الريش الطاقية.
فلما سمع حسن كلام الشيخ عبد القدوس أطرق رأسه إلى الأرض واستحى أن يقول ما أعطيهما لكما، ثم قال في نفسه: إن هذين الشيخين فعلا معي جميلاً عظيماً وهما اللذان كانا السبب في وصولي إلى جزائر واق الواق ولولاهما ما وصلت إلى هذه الأماكن ولا خلصت زوجتي وأولادي ولا حصلت على هذا القضيب وهذه الطاقية، ثم رفع رأسه وقال نعم أعطيهما لكما ولكن يا سادتي أني أخاف من الملك الأكبر والد زوجتي أن يأتيني بعساكر إلى بلادنا فيقاتلونني ولا أقدر على دفعهم إلا بالقضيب والطاقية.
فقال الشيخ عبد القدوس لحسن: يا ولدي لا تخف فنحن لك جواسيس في هذا الموضع وكل من أتى إليك من عند والد زوجتك ندفعه عنك ولا تخف من شيء، فطب نفساً وقر عيناً وانشرح صدراً ما عليك بأس، فلما سمع حسن كلام الشيخ أخذه الحياء وأعطى الطاقية للشيخ أبي الريش وقال للشيخ عبد القدوس أصحبني إلى بلادي وأنا أعطيك القضيب، ففرح الشيخان بذلك فرحاً شديداً وجهزا لحسن من الأموال والذخائر ما يعجز عنه الوصف ثم أقام عندهما ثلاثة أيام.
وبعد ذلك طلب السفر فتجهز الشيخ عبد القدوس للسفر معه فركب حسن دابة وأركب زوجته دابة فصفر الشيخ عبد القدوس وإذا بفيل عظيم قد أقبل يهرول بيديه ورجليه من صدر البرية فأخذه الشيخ عبد القدوس وركبه وسار هو وحسن وزوجته وأولاده، وأما الشيخ عبد الريش فإنه دخل المغارة وما زال حسن وزوجته وأولاده والشيخ عبد القدوس سائرين يقطعون الأرض بالطول والعرض والشيخ عبد القدوس يدلهم على الطريق السهلة والمنافذ القريبة حتى قربوا من الديار وفرح حسن بقربه من ديار والدته ورجوع زوجته وأولاده إليه، وحين وصل حسن إلى تلك الديار بعد هذه الأهوال الصعبة حمد الله تعالى على ذلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسن حمد الله تعالى على نجاته من تلك الأهوال الصعبة وشكره على نعمته وفضله ونظروا إذا هم قد لاحت لهم القبة الخضراء والفسقية والقصر الأخضر ولاح لهم جبل السحاب من بعيد فقال الشيخ عبد القدوس يا حسن أبشر بالخير فأنت الليلة ضيف عند بنات أخي ففرح حسن بذلك فرحاً شديداً وكذلك زوجته ثم نزلوا عند القبة واستراحوا وأكلوا وشربوا ثم ركبوا وساروا حتى قربوا من القصر فلما أشرفوا عليه خرجت لهم بنات أخ الشيخ عبد القدوس وتلقيتهم وسلمن عليهم وعلى عمهم وسلم عليهم عمهم وقال لهم يا بنات أخي ها أنا قد قضيت حاجة أخيكم حسن وساعدته على خلاص زوجته وأولاده.
فتقدمن إليه البنات وعانقنه وفرحن به وهنينه بالسلامة والعافية وجمع الشمل بزوجته وأولاده وكان عندهن يوم عيد ثم تقدمت أخت حسن الصغيرة وعانقته وبكت بكاءً شديداً وكذلك حسن بكى معها على طول الوحشة ثم شكت له ما تجده من ألم الفراق وتعب سرها وما قاسته من فراقه، وأنشدت هذين البيتين:
وما نظرت من بعد بعدك مقلتـي           إلى أحد إلا وشخـصـك مـائل
وما غمضت إلا رأيتك في الكرى                    كأنك بين الجفن والعـين نـازل

فلما فرغت من شعرها فرحت فرحاً شديداً فقال لها حسن يا أختي أنا ما أشكر أحد في هذا الأمر إلا أنت من دون سائر الأخوات فالله تعالى يكون لك بالعون والعناية، ثم أنه حدثها بجميع ما جرى له في سفره من أوله إلى آخره وما قاساه وما اتفق له مع أخت زوجته، وكيف خلص زوجته وأولاده وحدثها بما رآه من العجائب والأهوال الصعاب حتى أن أختها كانت أرادت أن تذبحه وتذبحها وتذبح أولادها وما سلمهم منها إلا الله تعالى، ثم حكى لها حكاية القضيب والطاقية وإن الشيخ أبا الريش والشيخ عبد القدوس طلباهما منه وأنه ما أعطاهما لهما إلا من شأنها فشكرته على ذلك ودعت له بطول البقاء.
فقال والله ما أنسى كل ما فعلتيه معي من الخير من أول الأمر إلى آخره فالتفتت أخته إلى زوجته منار السنا وعانقتها وضمت أولادها إلى صدرها ثم قالت لها: يا بنت الملك الأكبر أما في قلبك رحمة حتى فرقت بينه وبين أولاده وأحرقت قلبه عليهم فهل كنت تريدين بهذا الفعل أن تموتيه فسكتت وقالت: بهذا حكم الله سبحانه وتعالى ومن خادع الناس خدعه الله ثم أنه أقام عندهم عشرة أيام في أكل وشرب وفرح وسرور، ثم بعد العشرة أيام تجهز حسن للسفر فقامت أخته وجهزت له من المال والتحف ما يعجز عنه الوصف ثم ضمته إلى صدرها لأجل الوداع وعانقته وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخت حسن لما ضمته إلى صدرها ثم أن حسناً أعطى الشيخ عبد القدوس القضيب، ففرح به فرحاً شديداً وشكر حسن على ذلك وبعد أن أخذه منه ركب ورجع إلى محله ثم ركب حسن هو وزوجته وأولاده من قصر البنات، فخرجوا معه يودعونه وبعد ذلك رجعوا ثم توجه حسن إلى بلاده فسار في البر الأقفر مدة شهرين وعشرة أيام حتى وصل إلى مدينة بغداد دار السلام فجاء إلى داره من باب السر الذي يفتح إلى جهة الصحراء والبرية وطرق الباب وكانت والدته من طول غيبته قد هجرت المنام ولزمت الحزن والبكاء والعويل حتى مرضت وصارت لا تأكل طعاماً ولا تلتذ بمنام بل تبكي في الليل والنهار ولا تفتر عن ذكر ولدها وقد يئست من رجوعه إليها فلما وقف على باب وسمعها تبكي وتنشد هذه الأبيات:
بالله يا سادتي طيبوا مريضـكـم            فجسمه ناحل والقلب مكسـور
فإن سمحتم بوصل منكم كرمـاً            فالصب من نعم الأحباب مغمور
لا بأس من قربكم فالله مقـتـدر             فبينما العسر إذ دارت مياسـير

فلما فرغت من شعرها سمعت ولدها حسن ينادي على الباب يا أماه أن الأيام قد سمحت بجمع الشمل، فلما سمعت كلامه عرفته فجاءت إلى الباب وهي ما بين مصدقة ومكذبة، فلما فتحت الباب رأت ولدها واقفاً هو وزوجته وأولاده معه فصاحت من شدة الفرح ووقعت في الأرض مغشياً عليها فما زال حسن يلاطفها حتى أفاقت وعانقته، ثم بكت وبعد ذلك نادت غلمانه وعبيده وأمرتهم أن يدخلوا جميع ما معه في الدار فأدخلوا الأحمال في الدار ثم دخلت زوجته وأولاده فقامت لها أمه وعانقتها وقبلت رأسها وقبلت قدميها وقالت لها: يا بنت الملك الأكبر أن كنت أخطأت في حقك فها أنا استغفر الله العظيم ثم التفتت إلى ابنها وقالت له: يا ولدي ما سبب هذه الغيبة الطويلة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أم حسناً لما قالت له ما هذه الغيبة فأخبرها بجميع ما جرى له من أوله إلى آخره، فلما سمعت كلامه صرخت صرخة عظيمة، ووقعت في الأرض مغشياً عليها من ذكر ما جرى لولدها فلم يزل يلاطفها حتى أفاقت وقالت له يا ولدي والله لقد فرطت في القضيب والطاقية فلو كنت احتفظت عليهما وأبقيتهما لكنت ملكت الأرض بطولها والعرض ولكن الحمد لله يا ولدي على سلامتك أنت وزوجتك وأولادك وباتوا في أهنا ليلة وأطيبها.
فلما أصبح الصباح غير ما عليه من الثياب ولبس بدلة من أحسن القماش ثم خرج إلى السوق وصار يشتري العبيد والجواري والقماش والشيء النفيس من الحلي والحلل والفراش ومن الأواني المثمنة التي لا يوجد مثلها إلا عند الملوك، ثم اشترى الدور والبساتين والعقارات وغير ذلك وأقام هو وأولاده وزوجته ووالدته في أكل وشرب ولذة ولم يزالوا في أرغد عيش وأهناه حتى أتاهم هازم اللذات ومفراق الجماعات فسبحان ذي الملك والملكوت وهو الحي الباقي الذي لا يموت.

حكاية مسرور التاجر مع معشوقته زين المواصف

ومما يحكى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجل تاجر اسمه مسرور وكان ذلك الرجل من أحسن أهل زمانه كثير المال مرفه الحال ولكنه كان يحب النزهة في الرياض والبساتين ويتلهى بهوى النساء الملاح فاتفق إنه كان نائماً في ليلة من الليالي فرأى في نومه أنه في روضة من أحسن الرياض وفيها أربع طيور من جملتهما حمامة بيضاء مثل الفضة المجلية فأعجبته تلك الحمامة وصار في قلبه منها وجد عظيم وبعد ذلك رأى أنه نزل عليه طائر عظيم خطف تلك الحمامة من يده فعظم ذلك عليه، ثم بعد ذلك انتبه من نومه فلم يجد الحمامة فصار يعالج أشواقه إلى الصباح فقال في نفسه لا بد أن أروح اليوم إلى من يفسر لي هذه المنام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور التاجر لما انتبه من نومه صار يعالج أشواقه إلى الصباح وقال لا بد أن أروح اليوم إلى من يفسر لي هذا المنام، فقام يمشي إلى أن بعد عن منزله فلم يجد من يفسر له هذا المنام، ثم بعد ذلك طلب الرجوع إلى منزله فبينما هو في الطريق إذا خطر بباله أن يمر على دار من دور التجار وكانت تلك الدار لبعض الأغنياء فلما وصل إليها وإذا به يسمع بها صوت أنين من كبد حزين وهو ينشد هذه الأبيات:
نسيم الصبا هبت لنا من رسومها                   معطرة يشفي العليل شميمهـا
وقفت بأطـلال دوارس سـائلاً              وليس يجيب الدمع إلا رميمها
فقلت نسيم الريح بالله خـبـري             هل الدار هذي قد يعود نعيمها
وأحظى بظبي مال بي لين قده             وأجفانه الوسنا ضناني سقيمها

فلما سمع مسرور ذلك الصوت نظر في داخل البيت فرأى روضة من أحسن الرياض في باطنها ستر من ديباج أحمر مكلل بالدر والجوهر وعليه من وراء الستر أربع جوار بينهن صبية دون الخماسية وفوق الرباعية كأنها البدر المنير والقمر المستدير بعينين كحيلتين وحاجبين مقرنين وفم كأنه خاتم سليمان وشفتين وأسنان كالدر والمرجان وهي تسلب العقول بحسنها وجمالها وقدها واعتدالها فلما رآها مسرور دخل الدار وبالغ في الدخول حتى وصل إلى الستر فرفعت رأسها إليه ونظرته فعند ذلك سلم عليها فردت عليه السلام بعذوبة الكلام.
فلما نظرها وتأملها طاش عقله وذهب قلبه ونظر إلى الروضة وكانت من الياسمين المنثور والبنفسج والورد والنارنج وجميع ما يكون فيها من المشموم وقد توشحت جميع الأشجار بالأثمار وفي تلك الروضة طيور من قمري وحمام وبلبل ويمام وكل طير يغرد بصوته والصبية تتمايل في حسنها وجمالها وقدها واعتدالها يفتتن بها كل من رآها ثم قالت أيها الرجل ما الذي أقدمك على دار غير دارك وعلى جوار غير جوارك من غير إجازة أصحابها فقال لها: يا سيدتي رأيت هذه الروضة فأعجبني حسن اخضرارها وفيح أزهارها وترنم أطيارها فدخلتها لأتفرج فيها ساعة من الزمان وأروح إلى حال سبيلي فقالت له حباً وكرامة. فلما سمع مسرور التاجر كلامها ونظر إلى ظرفها ورشاقة قدها تحير من حسنها وجمالها ومن لطافة الروضة والطير فطار عقله من ذلك وصار متحيراً في أمره وأنشد هذه الأبيات:
قمري تبدي في بديع محاسـن             بين الربا والرواح والريحـان
والآس والنسرين ثم بنفـسـج              فاحت روائحه من الأغصـان
يا روضة كملت بحسن صفاتها            وحوت جميع الزهر والأفنان
فالبدر يجلي تحت ظل غصونها            والطير تنشد أطيب الألحـان
قمريها وهزارها ويمـامـهـا                وكذا البلابل هيجت أشجانـي
وقف الغرام بمهجتي متحـيراً              في حسنها كتحير السـكـران
فلما سمعت زين المواصف شعر مسرور نظرت إليه نظرة أعقبتها ألف حسرة وسلبت بها عقله ولبه وأجابته عن شعره بهذه الأبيات:
لا ترتجى وصل التي علقتهـا               وأقطع مطامعك التي أماتهـا
وذر الذي ترجوه أنك لم تطق              صد التي في الغانيات عشقتها
تجنى على العشاق الحاظي ولم            تعظم على مقالة قد قلتـهـا

فلما سمع مسرور كلامها تجلد وكتم أمرها في سره وتنكر وقال في نفسه ما للبلية إلا الصبر ثم داموا على ذلك إلى أن هجم الليل فأمرت بحضور المائدة فحضرت بين أيديهما وفيها من سائر الألوان من السماني وأفراخ الحمام ولحوم الضأن فأكلا حتى اكتفيا ثم أمرت برفع الموائد فرفعت وحضرت آلات الغسل فغسلا أيديهما ثم أمرت بوضع الشمعدانات فوضعت وجعل فيها شمع الكافور ثم بعد ذلك قالت زين المواصف والله أن صدري ضيق في هذه الليلة لأني محمومة فقال لها مسرور شرح الله صدرك وكشف غمك فقالت يا مسرور أنا معودة بلعب الشطرنج فهل تعرف فيه شيئاً? قال أنا عارف به. فقدمته بين أيديهما وإذا هو من الآبنوس مقطع بالعاج له رقعة مرقوقة بالذهب الوهاج وحجارته من درٍ وياقوت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنها لما أمرت بإحضار الشطرنج أحضروه بين أيديهما فلما رآه مسرور حار فكره فالتفتت إليه زين المواصف وقالت له: هل تريد الحمر أم البيض? فقال: يا سيدة الملاح وزين الصباح خذي أنت الحمر لأنهم ملاح ولمثلك أملح ودعي لي الحجارة البيض. فقالت: رضيت بذلك. فأخذت الحمر وصفتها مقابل البيض ومدت يديها إلى القطع تنقل في الميدان فنظر إلى أناملها، فرآها كأنها من عجين، فاندهش مسرور من حسن أناملها ولطف شمائلها فالتفتت إليه وقالت: يا مسرور لا تندهش وأصبر وأثبت فقال لها يا ذات الحسن الذي فضح الأقمار إذا نظرك المحب كيف يكون له اصطبار.
فبينما هو كذلك وإذا هي تقول له: الشاه مات فغلبته عند ذلك وعلمت زين المواصف أنه بحبها مجنون فقالت له يا مسرور لا ألعب معك إلا برهن معلوم وقدر مفهوم. فقال لها: سمعاً وطاعةً. فقالت له أحلف لي وأحلف لك أن كلا منا لا يغدر صاحبه. فحلفا معاً على ذلك فقالت له: يا مسرور إن غلبتك أخذت منك عشرة دنانير، وأن غلبتني فأعمل معي ما تريد فظن أنه يغلبها. فقال لها: يا سيدتي لا تخشي في يمينك فإني أراك أقوى مني في اللعب.
فقالت له: رضيت بذلك وصار يلعبان ويتسابقان بالبيادق، وألحقهم بالإفراز وصفتهم وقرتهم بالرخاخ وسمحت النفس بتقديم الأفراس، وكان على رأس زين المواصف وشاح من الديباج الأزرق فرفعته عن رأسها وشمرت عن معصم كأنه عمود من نور ومرت بكفها على القطع الحمر وقالت له خذ حذرك فاندهش مسرور وطار عقله وذهب لبه ونظر إلى رشاقتها ومعانيها فاحتار وأخذه الأنبهار فمد يده إلى البيض فراحت إلى الحمر، فقالت: يا مسرور أين عقلك الحمر لي والبيض لك، فقال لها: إن من ينظر إليك يشرد عقله.
فلما نظرت زين المواصف إلى حاله أخذت منه البيض وأعطته الحمر فلعب بها فغلبته ولم يزل يلعب معها وهي تغلبه ويدفع لها في كل مرة عشرة دنانير، فلما عرفت زين المواصف أنه مشغول بهواها قالت له: يا مسرور ما بقيت تنال مرادك إلا إذا كنت تغلبني كما هو شرطك ولا بقيت ألعب معك في كل مرة إلا بمائة دينار. فقال لها حباً وكرامة، فصارت تلاعبه وتغلبه وتكرر ذلك وهو في كل مرة يدفع لها المائة دينار، وداما إلى الصباح وهو لم يغلبها أبدا فنهض قائماً على أقدامه فقالت له ما الذي تريد يا مسرور قال لها: أمضي إلى منزلي وآتي بمالي لعلي أنل منك آمالي، فقالت له: أفعل ما تريد مما بدا لك فمضى إلى منزله وأتاها بالمال جميعه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور لما مضى إلى منزله وأتى لها بالمال جميعه صار يلعب معها وهي تغلبه ولم يقدر أن يغلبها دوراً واحداً ولم يزالا كذلك ثلاثة أيامٍ حتى أخذت منه جميع ماله فلما نفد ماله قالت له: يا مسرور ما الذي تريد? قال ألاعبك على دكان العطارة قالت له كم يساوي تلك الدكان? قال خمسمائة دينار فنلعب بها خمسة أشواط فغلبته، ثم لعب معها بها على الجواري والعقارات والبساتين والعمارات فأخذت منه ذلك كله وجميع ما يملكه، وبعد ذلك التفتت إليه وقالت له: هل بقي معك شيء من المال تلعب به.
فقال لها: وحق من أوقعني معك في شرك المحبة ما بقيت يدي تملك شيء من المال وغيره لا قليلاً ولا كثيراً. فقالت له: كل شيء يكون أوله رضاً لا يكون آخره ندامة، فإن كنت ندمت فخذ مالك واذهب عنا إلى حال سبيلك وأنا أجعلك في حل من قبلي قال مسرور وحق من قضى علينا بهذه الأمور لو أردت أخذ روحي لكانت قليلة في رضاك، فما عشق قلبي أحداً سواك فقالت: يا مسرور حينئذ اذهب وأحضر القاضي والشهود واكتب لي جميع الأملاك والعقارات.
فقال: حباً وكرامة ثم نهض قائماً في الوقت والساعة وأتى بالقاضي والشهود وأحضرهم عندها، فلما رآها القاضي طار عقله وذهب لبه وتبلبل خاطره من حسن أناملها وقال: يا سيدتي لا أكتب الحجة إلا بشروط أن تشتر العقارات والجواري والأملاك وتصير كلها تحت تصرفك وفي حيازتك. فقالت: قد اتفقنا على ذلك، فاكتب لي حجة بأن ملك مسرور وجواريه وما تملكه يده ينقل إلى ملك زين المواصف بثمن جملته كذا وكذا فكتب القاضي ووضع الشهود خطوطهم على ذلك، وأخذت الحجة زين المواصف.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما أخذت الحجة من القاضي مشتملة على أن جميع ما كان ملكاً لمسرور صار ملكاً لها قالت له: يا مسرور اذهب إلى حال سبيلك فالتفتت جاريتها هبوب وقالت له أنشد شيئاً من الأشعار، فأنشد في شأن لعب الشطرنج هذه الأبيات:
أشكر الزمان وما قد حل بي وجرى                واشتكي الخسر والشطرنج والنظرا
في حب جـاريةٍ غـيداء نـاعـمةٍ            ما مثلها في الورى أنثى ولا ذكـرا
قد فرقت لي سهاماً من لواحظـهـا                  وقدمت لي جيوشاً تغلب البـشـرا
حمراً وبيضاً وفرسانـاً مـصـادمةٍ                   فبادرتني وقالت لي خـذ الـحـذرا
وأهملتني إذا مـرت أنـامـلـهـا              في جنح ليلٍ بهيمٍ يشبه الـشـعـرا
لم أستطع لخلاص البيض أنقلـهـا                   والوجد صير مني الدمع منهـمـرا
بيادق ورخـوخ مـع فـــرازنة              كرت فأدبر جيش البيض منكسـرا
خيرتـنـي بـين الـعـسـكـرين                فاخترت تلك الجيوش البيض مقتمرا
وقلت لهم هذه الجيوش البيض تصلـح             لي هم المراد وأما أنت فالـحـمـرا
ولاعبتني على رهـنٍ رضـيت بـه                   ولم أكن عن رضاها أبلغ الـوطـرا
يا لهف قلبي ويا شوقي ويا حـزنـي                على وصال فتاة تشبـه الـقـمـرا
ما القلب في حرقٍ كـلا ولا أسـف                   على عقاري ولكن يألف الـنـظـرا
وصرت حيران مبهوتاً علـى وجـل                 أعاتب الدهر فيما تـم لـي وجـرى
قالت فما لك مبهوتاً فقـلـت لـهـا           هل شارب الخمر يصحو عندما سكرا
أنسية سلبت عقلـي بـقـامـتـهـا            أن لان منها فؤاد يشبه الـحـجـرا
أطبعت نفسي وقلت اليوم أملـكـهـا                  على الرهان ولا خوفـاً ولا حـذرا
لا زال يطمع قلبي في تواصـلـهـا                   حتى بقيت على الحالين مفـتـقـرا
هل يرجع الصب عن عشقٍ أضر به                ولو غدا في بحار الوجد مـنـحـدرا
فأصبح العـبـد لا مـال بـقـلـبـه             أسير شوقي ووجد ما قضى وطـرا

فلما سمعت زين المواصف هذه الأبيات تعجبت من فصاحة لسانه وقالت له: يا مسرور دع عنك هذا الجنون وارجع إلى عقلك وأمض إلى حال سبيلك فقد أفنيت مالك وعقارك في لعب الشطرنج ولم تحصل غرضك وليس لك جهة من الجهات توصلك إليه، فالتفتت مسرور إلى زين المواصف وقال لها يا سيدتي اطلبي أي شيءٍ ولك كل ما تطلبينه فإني أجيء به إليك وأحضره بين يديك. فقالت: يا مسرور ما بقي معك شيء من المال فقال لها: يا منتهى الآمال إذا لم يكن عندي شيء من المال تساعدني الرجال فقالت له: هل الذي يعطي يصير مستطيعاً? فقال لها: إن لي أقارب وأصحاباً ومهما طلبته يعطوني إياه.
فقالت له أريد منك أربع نوافج من المسك الأذفر وأربع أواق من الغالية وأربعة أرطال من العنبر وأربعة آلاف دينار وأربع مائة حلة من الديباج الملوكي المزركش فإن كنت يا مسرور تأتي بذلك الأمر أبحث لك الوصال. فقال: هذا علي هين يا مخجلة الأقمار، ثم أن مسرور أخرج من عندها ليأتيها بالذي طلبته منه، فأرسلت خلفه هبوب الجارية حتى تنظر قدره عند الناس الذي ذكرهم لها، فبينما هو يمشي في شوارع المدينة إذ لاحت منه التفاتة فرأى هبوب على بعد فوقف إلى أن لحقته.
فقال لها: يا هبوب إلى أين أنت ذاهبة? فقالت له أن سيدتي أرسلتني خلفك من أجل كذا وكذا. وأخبرته بما قالته لها زين المواصف من أوله إلى آخره. فقال لها: والله يا هبوب أن يدي لا تملك شيئاً من المال. قالت له: فلأي شيء وعدتها? فقال: كم من وعد لا يفي به صاحبه والمطل بالحب لا بد منه. فلما سمعت هبوب ذلك منه قالت له يا مسرور طب نفساً وقر عيناً والله لأكونن سبباً في اتصالك بها ثم أنها تركته ومشت وما زالت ماشية إلى أن وصلت إلى سيدتها فبكت بكاءً شديداً وقالت لها: يا سيدتي والله أنه رجل كبير المقدار ومحترم عند الناس.
فقالت لها سيدتها: لا حيلة في قضاء الله تعالى أن هذا الرجل ما وجد عندنا قلباً رحيماً لأننا أخذنا ماله ولم يجد عندنا مودة ولا شفقة في الوصال وأن وصلنه إلى مراده أخاف أن يشيع الأمر فقالت لها هبوب: يا سيدتي ما سهل علينا حاله وأخذ ماله ولكن ما عندك إلا أنا وجاريتك سكوب فمن يقدر أن يتكلم منا فيك ونحن جواريك فعند ذلك أطرقت برأسها إلى الأرض فقال لها الجواري يا سيدتي الرأي عندنا أن ترسلي خلفه وتنعمي عليه ولا تدعيه يسأل أحداً من اللئام فما أمر السؤال فقبلت كلام الجواري ودعت بدواةٍ وقرطاساً وكتبت هذه الأبيات:
دنا الوصل يا مسرور فأبشر بلا مطل              إذا أسود جنح الليل فاتأت بالفـعـل
ولا تسأل الأنذال في المال يا فـتـى                 فقد كنت في سكرٍ وقد رد لي عقلي
فما لك مردودٌ عـلـيك جـمـيعـه            وزدتك يا مسرور من فوقه وصلـي
لأنـك ذو صـبـرٍ وفـيك حـلاوةً             على جور محبوبٍ جفاك بلا عـدل
فبادر لتحظى بالمنى ولـك الـهـنـا                   ولا تعط أهمالاً فيدري بنا أهـلـي
هلم إلينا مسرعـاً غـير مـبـطـئ            وكل من ثمار الوصل في غيبة البعل
ثم أنها طوت الكتاب وأعطته لجاريتها هبوب ومضت إلى مسرور فوجدته يبكي وينشد قول الشاعر: 
وهب على قلبي نسيم من الـجـوى                  ففتت الأكباد من فـرط لـوعـتـي
لقد زاد وجـدي بـعـد أحـبـتـي              وفاضت جفوني في تزايد عبـرتـي
وعندي من الأوهام مـا أن أبـح بـه                 لصنم الحصى والصخر لانت بسرعة
ألا ليت شعري هل أرى ما يسرنـي                 وأحظى بما أرجوه من نيل بغـيتـي
وتطوى ليالي الصد من بعد نشرهـا                وأبرأ مما دخل القلب حلت صبوتـي

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والتسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسروراً لما زاد به الهيام صار ينشد الأشعار وهو في غاية الشوق فبينما هو يترنم بتلك الأبيات ويرددها إذ سمعته هبوب فطرقت عليه الباب فقام وفتح لها فدخلت وناولته الكتاب فأخذه وقرأه وقال لها يا هبوب ما وراءك من أخبار سيدتك? فقالت له يا سيدي أن في هذا الكتاب ما يغني عن رد الجواب وأنت من ذي الألباب ففرح مسرور فرحاً شديداً وأنشد هذين البيتين:
ورد الكتاب فسرنا مضمـونة               وردت أني في الفؤاد أصونه
وازدادت شوقاً عندما قبلتـه               فكأنما در الهوى مكنـونـه

ثم أنه كتب كتاباً لها وأعطاه لهبوب فأخذته وأتت به إلى زين المواصف فلما وصلت إليها به صارت تشرح لها محاسنه وتذكر أوصافه وكرمه وصارت مساعدة له على جمع شمله فقالت لها زين المواصف: يا هبوب أنه أبطأ عن الوصول إلينا فقالت لها هبوب: إنه سيأتي سريعاً فلم تستتم كلامها وإذا به قد أقبل وطرق الباب ففتحت له وأخذته وأجلسته عند سيدتها زين المواصف فسلمت عليه ورجعت به وأجلسته إلى جانبها ثم قالت لجاريتها هبوب: هات له بدلة من أحسن ما يكون فقامت هبوب وأتت ببدلةٍ مذهبةٍ فأخذتها وأفرغتها عليه وأفرغت على سيدتها بدلة أيضاً من أفخر الملابس ووضعت على رأسها سبيكة من اللؤلؤ الرطب وربطت على السبيكة عصابة من الديباج مكللة بالدر والجوهر واليواقيت وأرخت من تحت العصبة سالفتين ووضعت في كل سالفة ياقوتة حمراء مرقومة بالذهب الوهاج وأرخت شعرها كأنه الليل الداج وتبخرت بالعود وتعطرت بالمسك والعنبر فقالت لها جاريتها هبوب: الله يحفظك من العين فصارت تمشي وتتبختر في خطواتها وتنعطف فأنشدت الجارية من بديع شعرها هذه الأبيات:
خجلت غصون البان من خطواتها                  وسطت على العشاق من لحظاتها
قمر تبدي في غياهب شعـرهـا             كالشمس تشرق في دجى وفراتها
طوبى لمن باتت تتيه بحسـنـهـا           ويموت فيها حالفاً بـحـياتـهـا

فشكرتها زين المواصف، ثم أنها أقبلت على مسرور وهي كالبدر المشهور فلما رآها مسرور نهض قائماً على قدميه وقال: إن صدق قلبي فما هي إنسية وإنما هي من عرائس الجنة، ثم أنها دعت بالمائدة فحضرت ثم أنهم أكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ورفعت سفرة الطعام وقدموا سفرة المدام ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس وملأ الكأس مسرور وقال: يا من أنا عبدها وهي سيدتي فقالت: يا مسرور كل من تمسك بدينه وأكل خبزنا وملحنا وجب حقه علينا فخل عنك هذه الأمور وأنا أرد عليك أملاكك وجميع ما أخذنا منك، فقال: يا سيدتي أنت في حل مما تذكرينه وأن كنت غدرت في اليمين الذي بيني وبينك فأنا أروح وأصير مسلماً، فقالت جاريتها هبوب: يا سيدتي أنت صغيرة السن وتعرفين كثيراً وأنا استشفع عندك بالله العظيم، فإن لم تطيعيني وتجبري خاطري لا أنام عندك في الدار، فقالت لها: يا هبوب لا يكون إلا ما تريدينه، قومي جددي لنا مجلساً فنهضت الجارية هبوب وجددت مجلساً وزينته وعطرته بأحسن العطر كما تحب وتختار وجهزت الطعام وأحضرت المدام ودار بينهم الكأس والطاس طابت لهم الأنفاس، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد السبعمائة

وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما أمرت جاريتها هبوب بتجديد مجلس الأنس قامت وجددت الطعام والمدام ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس فقالت زين المواصف: يا مسرور قد آن أوان اللقاء والتداني فإن كنت لحبنا تعاني فأنشيء لنا شعر بديع المعاني، فأنشد مسرور هذه القصيدة:
أسرت وفي قلبي لهيبٌ تضرما            بحبل وصالٍ في الفراق تصرما
وحب فتاةٍ كان قـلـبـي حـبـهـا              وقد سلبت عقلي بخـدٍ تـنـعـمـا
لها الحاجب المقرون والطرف أحور                وثغرٍ يحاكي البرق حين تبـسـمـا
لها من سنين العمر عشـر وأربـع                  ودمعي حكى في حب هاتيك عندما
فعانيهـا مـا بـين نـهـرٍ وروضةٍ           بوجه يفوق البدر في أفق السـمـا
وقفت لها شبـه الأسـير مـهـابةً           وقلت سلام الله يا ساكن الحـمـى
فردت سلامي عـنـد ذلـك رغـبة           بلطف حديث مثل در تـنـظـمـا
وحين رأت قولي لديها تحـقـقـت                    مرامي وصار القلب منها مصممـا
وقالت أما هـذا الـكـلام جـهـالة            فقلت لها كفي عن الصب ألـومـا
فإن تقبليني اليوم فالخـطـب هـين                   فمثلك معشوقاً ومثلـى مـتـيمـا
فلما رأت مني المرام تـبـسـمـت           وقالت ورب خالق الأرض والسمـا
يهودية أقسـى الـنـهـود ديتـهـا           وما أنت إلا للنصـارى مـلازمـا
فكيف ترى وصلي ولست بملـتـي                   فإن تبع هذا الفعل تصبـح نـادمـا
وتلعب بالدينين هل حل في الهـوى                 ويصبح مثلي بالمـلام مـكـلـمـا
وتهوى به الأديان في كـل وجـهةٍ                  وتبقى على ديني ودينك محـرمـا
وتحلف بالإنجيل قـولاً مـحـقـقـاً            لتحفظ سري في هواك وتكـتـمـا
وأحلف بالـتـوراة إيمـان صـادقٍ                    بأني على العهد الذي قد تـقـدمـا
حلفت على ديني وشرعي ومذهبـي                وحلفتها مثلي يمينـاً مـعـظـمـا
وقلت لها ما الاسم يا غاية المـنـى                  فقالت أنا زين المواصف في الحما
فناديت يا زين المواصـف أنـنـي                    بحبك مشغوف الـفـؤاد مـتـيمـا
وعاينت من تحت اللثام جمـالـهـا                    فصرت كئيب القلب والحال مغرما
فما زلت تحت الستر أخضع شاكـياً                 كثير غرام في الفؤاد تـحـكـمـا
فلما رأت حالي وفـرط تـولـهـي            أمالت لي وجهاً ضاحكاً متبسـمـا
وهبت لنا ريح الـوصـال وعـرت                    نوافج عطر المسك جيداً ومعصمـا
وقد عبقت منها الأماكـن كـلـهـا           وقبلت من فيها رحيقاً ومبـسـمـا
ومالت كغصن البان تحـت غـلائل                   وحللت وصلا كان قبل مـحـرمـا
وبتنا بجمع الشمل والشمل جـامـع                 بضم ولثم وارتشاف من الـلـمـى
وما زينة الدنيا سوى مـن تـحـبـه                  يكون قريباً منك كي تتـحـكـمـا
فلما تجلى الصبح قامـت وودعـت                  بوجه جميل فائق قمـر الـسـمـا
وقد أنشدت عند الوداع ودمـعـهـا                  على الخد منثوراً وبعضها منظمـا
فلم أنس عهد الله ما عشت في الورى             وحسن الليالي واليمين المعـظـمـا

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسروراً لما أنشد القصيدة المذكورة وسمعتها زين المواصف أطربت وقالت له: يا مسرور ما أحسن معانيك ولا عاش من يعاديك، ثم دخلت المقصورة ودعت بمسرور فدخل عندها واحتضنها وعانقها وقبلها وبلغ منها ما ظن أنه محال وفرح بما نال من طيب الوصال، فعند ذلك قالت زين المواصف له: يا مسرور أن مالك حرام علينا حلال لك لأننا قد صرنا أحباباً، ثم أنها ردت إليه كل ما أخذته من الأموال وقالت له: يا مسرور هل لك من روضة نأتي إليها ونتفرج عليها? قال: نعم لي روضة ليس لها نظير.
ثم مضى إلى منزله وأمر جواريه أن يصنعن طعاماً فاخراً وأن يهيئن مجلساً حسناً وصحبة عظيمة، ثم أنه دعاها إلى منزله فحضرت هي وجواريها فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس وخلا كل حبيب بحبيبه فقالت: يا مسرور خطر ببالي شعر رقيق أريد أن أقوله على العود فقال لها: قوليه، فأخذت العود بيدها وأصلحت شأنه وحركت أوتاره وحسنت النغمات وأنشدت تقول هذه الأبيات:
قد مال بي طربٌ من الأوتـار               وصفا الصبوح لنا لدى الأسحار
والحب يكشف عن فؤادٍ متـيم              فبدا الهوى بهتك الأسـتـار
مع خمرة رقت بحسن صفاتها             كالشمس تجلى في يد الأقمار
في ليلةٍ جاءت لنا بسرورهـا               تمحو بصفو شائب الأكـدار
فلما فرغت من شعرها قالت: يا مسرور أنشدنا شيئاً من أشعارك ومتعنا بفواكه أثمارك فأنشد هذين البيتين:
طربنا على بـدرٍ يدير مـدامةً               ونغمة عود في رياض مقامنا
وغنت قماريها ومالت غصونها           سخيراً وفي أنحائها غاية المنى
فلما فرغ من شعره قالت له زين المواصف: أنشد لنا شعر فيما رقع لنا أن كنت مشغولاً بحبنا، فقال حباً وكرامة وأنشد هذه القصيدة:
قف واستمع ما جرى لي                   في حب هذا الغزالـي
ريم رمانـي بـنـبـل                 ولحظه قـد غـزالـي
فتنت عـشـقـاً وأنـي               في الحب ضاق احتيالي
هويت ذات دلالٍ                    محجوبة بالـنـصـال
أبصرتها وسـط روضٍ            وقدهـا ذو اعـتـدال
سلمت قالـت سـلامـاً               لما صنعت لمـقـالـي
سألت ما الاسم قـالـت             اسمي وفاق جمـالـي
سميت زين المواصـف            فقلت رقي لـحـالـي
فإن عـنـدي غـرامـاً                هيهات صب مثـالـي
قالت فإن كنت تـهـوى             وطامعاً في وصـالـي
أريد مـالاً جـــزيلاً                  يفـوق كـل نــوال
أريد مـنـك ثـيابــاً                  من الحرير الغـوالـي
وربع قنطـار مـسـكٍ               برسم لـيل وصـالـي
ولـؤلـؤ وعـقـيقــاً                  من النفيس الـغـالـي
وفـضة ونـضـــار                  من الحلي الحـوالـي
أظهرت صبراً جمـيلاً              على عظيم اشتغـالـي
فأنعمت لـي بـوصـلٍ               فيا لـه مـن وصـال
أن لامني الغير فـيهـا              أقـول يا لـلـرجـال
لهـا شـعـور طـوالٍ                والوزن وزن اللـيالـي
وخـدهـا فــيه وردٌ                 مثل اللظى في اشتعال
وجفنـهـا فـيه سـيفٌ               ولحظها كالمـنـبـال
وثغرهـا فـيه خـمـرٌ                وريقـهـا كـالـزلال
كأنـه عــقـــد درٍ                   حوى نظـام الـلآلـي
وجيدهـا جـيد ظـبـي               ملـيحة فـي كـمـال
وصـدرهـا كـرخـامٍ                 ونهدهـا كـالـقـلال
وبطنـهـا فـيه طـي                 معطر بـالـغـوالـي
وتـحـت ذلـك شـيءٌ               له انتـهـت آمـالـي
مربـوب وسـمـــينٌ                مكلـثـم يا مـوالـي
كأنـه تـخـت مـلـكٍ                  عليك أعرض حـالـي
بين العمودين تـلـقـى              مصاطباً بـتـعـالـي
لكـنـه فـيه وصـفٌ                 يدهي عقول الـرجـال
له شـفـاه كـبـــارٍ                   ونفـرةٌ كـالـبـغـال
يبدو بـحـمـرة عـينٍ               ومشفرٌ كـالـجـمـال
إذا أتـــيت إلـــيه                   بهمةٍ فـي الـفـعـال
تلقاه حـر الـمـلاقـي                بقـوةٍ واحـتـفــال
يرد كـل شـجـــاعٍ                  محلول عزمٍ القـتـال
وتـارة تـلــقـــاه                    بلحـيةٍ فـي مـطـال
ينبـيك عـنـه مـلـيح                ذو بـهـجةٍ وجـمـال
كمثل زين المـواصـف             مليحةٌ في الـكـمـال
أتـيت لـيلاً إلـيهــا                  ونلت شـيئاً حـلالـي
ولـيلةً بـت مـعـهـا                 فاقت جميع اللـيالـي
لما أتى الصبح قـامـت             ووجهها كـالـهـلال
تهز مـنـهـا قـوامـاً                 هز الرماح الغـوالـي
وودعتـنـي وقـالـت                متى تعود الـلـيالـي
فقلت يا نـور عـينـي               إذا أردت تـعـالــي

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والتسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور لما انتهى من إنشاده القصيدة طربت زين المواصف طرباً عظيماً وحصل لها غاية الإنشراح وقالت: يا مسرور قد دنا الصباح ولم يبق إلا الرواح خوفاً من الإفتضاح فقال: حباً وكرامة ثم نهض على قدميه وأتى بها إلى أن أوصلها إلى منزلها ومضى إلى محله وبات يفكر في محاسنها. فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح هيأ لها هديةً فاخرةً وأتى بها إليها وجلس عندها وأقام على ذلك مدة أياماً وهما في أرغد عيش وأهنأه.
ثم أنه ورد عليها في بعض الأيام كتاب من عند زوجها مضمونه أنه يصل إليها عن قريب فقالت في نفسها لا سلمه الله ولا حياه لأنه إن وصل إلينا تكدر علينا عيشنا، يا ليتني كنت يئست منه، فلما أتى إليها مسرور جلس يتحدث معها على العادة فقالت له: يا مسرور قد ورد علينا كتاباً من عند زوجي مضمونه أنه يصل إلينا من سفره عن قريبٍ فكيف يكون العمل وما لأحدٍ منا عن صاحبه صبر? فقال لها: لست أدري ما يكون بل أنت أخبر وأدرى بأخلاق زوجك ولا سيما أنت من أعقل النساء صاحبة الحيل التي تحتال بشيءٍ تعجز عن مثله الرجال، فقالت: إنه رجلٌ صعبٌ وله غيرةٌ على أهل بيته ولكن إذا قدم من سفره وسمعت بقدومه فأقدم عليه وسلم واجلس إلى جانبه وقل له: يا أخي أنا رجلٌ عطارٌ واشتر منه شيئاً من أنواع العطارة وتردد عليه مراراً وأطل معه الكلام، ومهما أمرك به فلا تخالفه فيه فلعل ما احتال به يكون مصادفا، فقال لها: سمعاً وطاعةً وخرج مسرور من عندها، وقد اشتعلت في قلبه نار المحبة، فلما وصل زوجها إلى الدار فرحت بوصوله ورحبت به وسلمت عليه فنظر في وجهها فرأى فيه لون الاصفرار، وكانت غسلت وجهها بالزعفران وعملت فيه بعض حيل النساء فسأل عن حالها فذكرت له أنها مريضة من وقت ما سافرت هي والجواري وقالت له: إن قلوبنا مشغولةٌ عليك لطول غيابك وصارت تشكو إليه مشقة الفراق وتبكي بدمعٍ مهراق وتقول له: لو كان معك رفيق ما أحمل قلبي هذا الهم كله فبالله عليك يا سيدي ما بقيت تسافر إلا برفيقٍ ولا تقطع عني أخبارك لأجل أن أكون مطمئنة القلب والخاطر عليك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والتسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما قالت لزوجها لا تسافر إلا برفيق ولا تقطع عني أخبارك لأجل أن أكون مطمئنة القلب والخاطر عليك قال لها: حباً وكرامة والله أن أمرك رشيدٌ ورأيك سديدٌ، وحياتك على قلبي ما يكون إلا ما تريدينه ثم أنه خرج بشيء من بضاعته إلى دكانه وفتحها وجلس يبيع في السوق فبينما هو في دكانه وإذا بمسرور أقبل وسلم عليه وجلس إلى جانبه وصار يحييه ومكث يتحدث معه ساعةً ثم أخرج كيساً وحله وأخرج منه ذهباً ودفعه إلى زوج زين المواصف وقال له: أعطني بهذه الدنانير شيءٌ من أنواع العطارة لأبيعه في دكاني، فقال له سمعاً وطاعةً ثم أعطاه الذي طلبه وصار مسرور يتردد عليه أياماً فالتفت إليه زوج زين المواصف وقال له: أنا مرادي رجلٌ أشاركه في المتجر فقال له مسرور أنا الأخر مرادي رجل أشاركه في المتجر لأن أبي كان تاجراً في اليمن وخلف مالاً عظيماً وأنا خائفٌ على ذهابه، فالتفت إليه زوج زين المواصف وقال له: هل لك أن تكون رفيقاً لي وصاحباً وصديقاً في السفر والحضر وأعلمك البيع والشراء والأخذ والعطاء? فقال له مسرور: حباً وكرامة ثم أنه أخذه وأتى به إلى منزله وأجلسه في الدهليز ودخل إلى زوجته زين المواصف وقال لها: أني رافقت رفيقاً ودعوته إلى الضيافة فجهزي لنا ضيافةً حسنةً ففرحت زين المواصف وعرفت أنه مسرور حين تم تدبير حياتها.
فلما حضر مسرور في دار زوج زين المواصف قال لها: اخرجي إليه ورحبي به وقولي له: آنستنا فغضبت زين المواصف وقالت: تحضرني قدام رجلٍ غريب أجنبي أعوذ بالله ولو قطعتني قطعاً ما أحضر قدامه فقال لها زوجها: لأي شيءٍ تستحين منه وهو نصراني ونحن يهود ونصير أصحاباً فقالت: أنا ما أشتهي أن أحضر قدام الرجل الأجنبي الذي ما نظرته عيني قط ولا أعرفه، فظن زوجها أنها صادقةٌ في قولها ولم يزل يعالجها حتى قامت وتلفلفت وأخذت الطعام وخرجت إلى مسرور ورحبت به فأطرق رأسه إلى الأرض كأنه مستحٍ، فنظر إلى إطراقه وقال: لا شك إن هذا زاهدٌ فأكلوا كفايتهم، ثم رفعوا الطعام وقدموا المدام فجلست زين المواصف قبال مسرور وصارت تنظره وينظرها إلى أن مضى النهار، فانصرف مسرور إلى منزله والتهبت في قلبه النار وأما زوج زين المواصف فإنه صار مفتكر في لطف صاحبه وفي حسنه.
فلما أقبل الليل قدمت إليه زوجته طعاماً ليتعشى كعادته، وكان عنده في الدار طيراً هزاراً إذا جلس يأكل يأتي ذلك الطير ويأكل معه ويرفرف على رأسه وكان ذلك يطير قد ألف مسروراً، فصار يرفرف عليه كلما جلس على الطعام فحين غاب مسرور وحضر صاحبه لم يعرفه ولم يقرب منه فصار مفتكراً في أمر ذلك الطير وفي بعده عنه وأما زين المواصف فإنها لم تنم بل صار قلبها مشغولاً بمسرور واستمر ذلك الأمر إلى ثاني ليلةٍ وثالث ليلةٍ ففهم اليهودي أمرها ونقد عليها وهي مشغولة البال فأنكر عليها، وفي رابع ليلةٍ انتبه من منامه نصف الليل فسمع زوجته تلهج في منامها بذكر مسرور وهي نائمةٌ في حضنه فأنكر ذلك عليها وكتم أمره، فلما أصبح الصباح ذهب إلى دكانه وجلس فيها فبينما هو جالسٌ وإذا بمسرور قد أقبل وسلم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحباً يا أخي ثم قال: إني مشتاقٌ إليك وجلس يتحدث معه ساعةً زمانيةً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور جلس مع اليهودي ساعةً ثم قال له اليهودي: قم يا أخي إلى منزلي حتى نعقد المؤاخاة فقال مسرور: حباً وكرامة، فلما وصل إلى المنزل تقدم اليهودي وأخبر زوجته بقدوم مسرور وأنه يريد أن يتجر هو وإياه ويؤاخيه وقال لها: هيئي لنا مجلساً حسناً ولا بد أنك تحضرين معنا وتنظرين المؤاخاة فقالت له: بالله عليك لا تحضرني قدام هذا الرجل الغريب فما لي غرض أحضر قدامه فسكت عنها وأمر الجواري أن يقدمن الطعام والشراب، ثم إنه استدعى بالطير الهزار فنزل في حجر مسرور ولم يعرف صاحبه.
فعند ذلك قال له: يا سيدي ما اسمك? قال: مسرور والحال أن زوجته طول الليل تلهج في منامها بهذا الاسم ثم رفع رأسه فنظرها وهي تشير إليه وتغمزه بحاجبها فعرف أن الليلة قد تمت إليه فقال: يا سيدي أمهلني حتى أجيء بأولاد عمي يحضروه المؤاخاة فقال له مسرور: أفعل ما بدا لك فقام زوج زين المواصف وخرج من المجلس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد السبعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زوج زين المواصف قال لمسرور: أمهلني حتى أجيء بأولاد عمي ليحضروا وأعقد المؤاخاة بيني وبينك ثم مشى وجاء من وراء المجلس ووقف وكان هناك طاقةٌ تشرف عليهما فجاء إليها وصار ينظرهما منها وهما لايذكرانه وإذا بزين المواصف قالت لجاريتها هبوب: أين راح سيدك? قالت: خارج الدار فقالت لها: أغلقي الباب ومكنيه بالحديد ولا تفتحي له حتى يدق الباب بعد أن تخبريني، قالت الجارية: وهو كذلك، كل ذلك وزجها يعاين حالهم ثم أن زين المواصف أخذت الكأس وطيبته بماء الورد وسحيق المسك وجاءت إلى مسرور فقام لها وتلقاه وقال لها: والله أن ريقك أحلى من الشراب وصارت تسقيه ويسقيها وبعد ذلك رشته بماء الورد من فوقه إلى قدمه حتى فاحت رائحته في المجلس، كل ذلك وزوجها ينظر إليهما ويتعجب من شدة الحب الذي بينهما، وقد امتلأ قلبه غيظاً مما قد رآه ولحقه الغضب وغار غيرةً عظيمةً فأتى إلى الباب فوجده مغلقاً فطرقه طرقاً قوياً من شدة غيظه، فقالت الجارية: يا سيدتي قد جاء سيدي فقالت: افتحي له الباب فلا رده الله بسلامةٍ فمضت هبوب إلى الباب وفتحته فقال لها: مالك تغلقين الباب? قالت: هكذا في غيابك لم يزل مغلقاً ولا يفتح ليلاً ولانهاراً فقال: أحسنت فإنه يعجبني ذلك ثم دخل على مسرور وهو يضحك ولكنه كتم أمره وقال له: يا مسرور دعنا من المؤاخاة في هذا اليوم فقال سمعاً وطاعةً أفعل ما تريد فعند ذلك مضى مسرور إلى منزله، وصار زوج زين المواصف مفتكراً في أمره لا يدري ما يصنع وصار خاطره في غاية التكدير فقال في نفسه حتى الهزار أنكرني والجواري أغلقت الأبواب في وجهي وولين إلى غيري، ثم أنه صار من شدة قهره يردد إنشاد هذه الأبيات:
لقد عاش مسرور زماناً منعـمـاً            بلـذة أيامٍ وعـيشٍ تـصـرمـا
تعاندنـي الأيام فـيمـن أحـبـه               وقلبي بنيران يزيد تـضـرمـا
صفا لك دهرٌ بالمليحة قد مضـى                    ولا زلت في ذاك الجمال مهيما
لقد عاينت عيني حسن جمالـهـا           فأصبح قلبي في هواها متـيمـا
لقد طالما أرشفتني مع الـرضـا            بعذبٍ ثناياها رحيقاً على ظـمـا
فما لك يا طير الهزار تركتـنـي             وصرت لغيري في الغرام مسلما
وقد أبصرت عيني أموراً عجـيبةً                   تنبه أجفانـي إذا كـن نـومـا
رأيت حبيبي قد أضاع مـودتـي            وطير هزاري لم يكن لي محوما
وحق إله العـالـمـين الـذي إذا              أراد قضاءً في الخليفة أبـرمـا
لأفعل ما يستوجب الظالـم الـذي           بجهل دنا من وصلها وتقـدمـا

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور لما أنشد الأبيات المذكورة وسمعت زين المواصف شعره ارتعدت فرائصها واصفر لونها وقالت لجاريتها: هل سمعت هذا الشعر? فقالت الجارية: ما سمعته في عمري صحيحٌ صار يبيع في كل ما تملكه يده وقال في نفسه: إن لم أغربها عن أوطانها لم يرجعا عما هما فيه أبداً، فلما باع جميع أملاكه كتب كتاباً مزوراً ثم قرأه عليها وادعى أن هذا الكتاب جاء من عند أولاد عمه، يتضمن طلب زيارته لهم هو وزوجته فقالت: وكم نقيم عندهم? قال: اثني عشر يوماً فأجابته إلى ذلك وقالت له: هل آخذ معي بعض الجواري? قال: خذي منهن هبوب وسكوب ودعي هنا خطوب، ثم هيأ لهن هودجاً مليحاً، وعزم على الرحيل بهن فأرسلت زين المواصف إلى مسرور أن فات الميعاد الذي بيننا، ولم نأت فأعلم أنه قد عمل علينا حيلةً ودبر لنا مكيدةً وأبعدنا عن بعضنا فلا تنس العهود والمواثيق التي بيننا فإني أخاف من حيله ومكره ثم إن زوجها جهز حاله للسفر وأما زين المواصف فإنها صارت تبكي وتنتحب ولا يقر لها قرار في ليل ولا نهار، فلما رأى زوجها ذلك لم ينكر عليها.
فلما رأت زين المواصف أن زوجها لا بد له من السفر لمت قماشها ومتاعها وأودعت جميع ذلك عند أختها وأخبرتها بما جرى لها وودعتها وخرجت من عندها وهي تبكي ثم رجعت إلى بيتها فرأت زوجها قد أحضر الجمال وصار يضع عليها الأحمال وهيأ لزين المواصف أحسن الجمال فلما رأت زين المواصف أنه لا بد من فراقها لمسرور، تحيرت فاتفق أن زوجها خرج لبعض أشغاله فخرجت إلى الباب الأول وكتبت عليه هذه الأبيات.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما رأت زوجها أحضر لها الجمال وعلمت بالسفر تحيرت فاتفق أن زوجها خرج لبعض أشغاله فخرجت إلى الباب الأول وكتبت هذه الأبيات:
ألا يا حمام الدار بـلـغ سـلامـنـا            من الصب للمحبوب عند فراقـنـا
وبـلـغـه أنـي لا أزال حــزينةً               وندماً على ما كان من طيب وقتنـا
كما أن حـبـي لا يزال مـتـيمـاً              حزيناً على ما قد مضى من سرورنا
قضينا زماناً بالمـسـرة والـهـنـا            وفزنا بوصل ليلـنـا ونـهـارنـا
فلم نستفق إلا والصـبـح صـائحـاً                   علينا غراب البين ينعي فـراقـنـا
رحلنا وخلينـا الـديار بـلا قـعـاً              فيا ليتنا لم نخل تلك المـسـاكـنـا
أتت الباب الثاني وكتبت عليه هذه الأبيات:
أيا واصلاً للبـاب بـالـلـه انـظـرا            جمال نصيبي في الدياجي وأخـبـرا
بأني أبكـي أن تـذكـرت وصـلـه            ولا ينفعه الدمع الـذي بـالـبـكـا
جرى فإن لم تجد صبراً على ما أصابنا             فضع فوق رأسك من ترابٍ وغبـرا
وسافر إلى شرق البلاد وغـربـهـا                  وعش صابراً فاللـه لـلأمـر قـدرا
ثم أتت إلى الباب الثالث وبكت بكاءً شديداً وكتبت عليه هذه الأبيات:
رويدك يا مسـرور أن زرت دارهـا                  فمر على الأبواب واقرأ سطورهـا
ولا تنس عهد الود أن كنت صـادقـاً                فكم طعمت حلو الليالـي ومـرهـا
فبالله يا مسرور لا تنـس قـربـهـا                   فقد تركت فيك الهنـا وسـرورهـا
إلا فابك أيام الـوصـال وطـيبـهـا           وأنت متى ما جئت أرخت ستورهـا
فسافر قصيبات الـبـلاد لأجـلـنـا            وخض بحارها واستقص عنا برورها
لقد ذهبت عنا لـيالـي وصـالـنـا            وفرط ظلام الهجر أطفـأ نـورهـا
رعي الله أياماً مضت مـا أسـرهـا                   بروضٍ الأماني إذا قطفنا زهورهـا
فهلا استمرت مثل ما كنت أرتـجـي                 أبى اللـه إلا وردهـا وصـدروهـا
فهل ترجع الأيام تجمع شـمـلـنـا                    وأوفى إذا وافت لربـي نـذورهـا
وكن عالماً أن الأمور بـكـف مـن                    يخط على لوح الجبين سطـورهـا

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما كتبت على الباب الثالث الأبيات المذكورة حضرت بين يدي زوجها فحملها على الهودج الذي صنعه لها فلما صارت على ظهر البعير أنشدت هذه الأبيات:
عليك سلام الله يا مـنـزلاً خـلا              وقد طالما زدنا هناك تـجـمـلا
فليت زماني في ذراك تصرمـت            لباليه حتى في الصبـابة أقـتـلا
جزعت على بعدي وشوقي لموطنٍ                 شغفت به ولم أدر ما قد تحصـلا
فيا ليت شعري هل أرى فيه عودةً                  تروق كما راقت لنـا فـيه أولا

فقال لها زوجها: يا زين المواصف لا تحزني على فراق منزلك فإنك ستعودين إليه عما قريب وصار يطيب خاطرها ويلاطفها ثم ساروا حتى خرجوا إلى ظاهر البلد واستقبلوا الطريق وعلمت بأن الفراق قد تحقق فعظم ذلك عليها كل هذا ومسرور قاعد في منزله متفكرٌ في أمره وأمر محبوبته فأحس قلبه بالفراق فنهض قائماً على قدميه من وقته وساعته وسار حتى جاء إلى منزلها فرأى الباب مقفولاً ورأى الأبيات التي كتبتها زين المواصف، فقرأ ما على الباب الأول فلما قرأه وقع على الأرض مغشياً عليه ثم أفاق من غشيته وفتح الباب الأول ودخل إلى الباب الثاني فرأى ما كتبته وكذلك الباب الثالث فلما قرأ على جميع هذه الكتابة زاد به الغرام والشوق والهيام، فخرج في أثرها يسرع في خطاه حتى لحق بالركب فرآها في آخرها وزوجها في أوله لأجل حوائجه فلما رآها تعلق بالهودج باكياً حزيناً من ألم الفراق وأنشد هذه الأبيات:
ليت شعري بأي ذنب رمينـا                بسهامٍ الصدود طول السنينـا
يا منى القلب جئت للدار يوماً              عندما زدت في هواك شجونا
فرأيت الديار قفـراً بـبـاب                   فشكوت النوى وزدت أنينـا
وسألت الجدار عن كل قصدي             أين راحوا وصار قلبي رهينا
قال ساروا عن المنازل حتـى              صيروا الوجد في الفؤاد كمينا
كتبت لي على الجدار سطوراً              فعل أهل الوفى من العالمينا

فلما سمعت زين المواصف هذا الشعر، علمت أنه مسرور.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما سمعت منه هذا الشعر علمت أنه مسرور فبكت هي وجواريها ثم قالت له: يا مسرور سألتك بالله أن ترجع عنا لئلا يراك ويراني، فلما سمع مسرور ذلك غشي عليه فلما أفاق ودعا بعضهما وأنشد هذه الأبيات:
نادى الرحيل سحيراً في الدجى الهادى             قبل الصباح وهبت نسمة الـبـادي
شدوا المطايا وجدوا في ترحـلـهـم                 وأسرع الركب لما زمزم الـحـادي
وعطروا أرضهم في كـل نـاحـيةٍ                    وعجلوا سيرهم فـي ذلـك الـوادي
تملكوا مهجتي عشقاً وقـد رحـلـوا                 وغادروني على آثـارهـم غـادي
يا جيرة مقصدي أن لا أفـارقـهـم                   حتى بللت الثرى من دمعي الغـادي
يا ويح قلبي بعد البعد ما صـنـعـت                  يد الفراق على رغمي بـأكـبـادي
وما زال مسرور ملازماً للركب وهو يبكي وينتحب وهي تستعطفه في أن يرجع قبل الصباح خشيةً من الإفتضاح فتقدم إلى الهودج وودعها ثاني مرة وغشي عليه ساعةً زمانيةً فلما أفاق وجدهم سائرين فعند ذلك رجع مسرور إلى دار زين المواصف وهو في غاية الإشتياق فرآها خالية من الأضاب موحشةً من الأحباب فبكى حتى بل الثياب وغشي عليه وكادت أن تخرج روحه من جسده وقد غشي عليه ساعةً من الزمان، فلما أفاق قام وتوجه إلى منزله وصار متحيراً من أجل ذلك باكي العين، ولم يزل على هذا الحال مدة عشرة أيامٍ، هذا ما كان من أمر مسرور.
وأما ما كان من أمر زين المواصف فإنها عرفت أن الحيلة قد تمت عليها فأن زوجها مازال سائراً بها مدة عشرة أيامٍ ثم أنزلها في بعض المدن فكتبت زين المواصف كتاباً لمسرور وناولته لجاريتها هبوب، وقالت لها: أرسلي هذا الكتاب إلى مسرور ليعرف كيف تمت الحيلة علينا وكيف غدر بنا اليهودي فأخذت الجارية منها الكتاب وأرسلته إلى مسرور فلما وصل إليه عظم عليه هذا الخطاب فبكى حتى بل التراب وكتب كتاباً وأرسله إلى زين المواصف وختمه بهذين البيتين:
كيف الطريق إلى أبواب سلوان            وكيف يسلوا الذي في حر نيران
ما كان أطيب أوقاتاً لهم سلفـت            فليت منها لدينا بعـض أحـيان

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرور كتب الكتاب وأرسله إلى زين المواصف فلما وصل إليها أخذته وقرأته وأعطته لجاريتها هبوب وقالت لها: اكتمي خبره فعلم زوجها أنهما يتراسلان فأخذ زين المواصف وجواريها وسافر بهن مسافة عشرين يوماً. ثم نزل بهن في بعض المدن هذا ما كان من أمر زين المواصف.
وأما ما كان من أمر مسرور فإنه صار لا يهنأ له نوم ولا يقر له قرار ولم يكن له اصطبار ولم يزل كذلك إذ هجعت عيناه في بعض الليالي فرأى في منامه أن زين المواصف قد جاءت إليه في الروضة وصارت تعانقه فانتبه من نومه فلم يرها فطار عقله وذهل لبه وهملت عيناه بالدموع وقد أصبح قلبه في غاية الولوع فأنشد هذه الأبيات:
سلامٌ على من زار في النوم طيفها                 فهيج أشـواقـي وزاد هـيامـي
وقد قمت من ذاك المنام مولـعـاً           برؤية طيف زارني بمـنـامـي
فهل تصدق الأحلام فيمن أحـبـه                    وتشفي غليلي في الهوى وسقامي
فطوراً تعاطيني وطوراً تهملنـي           وطوراً تواسيني بطيب كـلامـي
ولما انقضى في المنام عتـابـنـاً            وصارت عيوني بالدموع دوامـي
رضبت رضاباً من لماها كـأنـه             رحيقٌ أرى رياه مسـك خـتـام
عجبت لما قد كان في النوم بيننـا                   وقد نلت منها منيتـي ومـرادي
وقد قمت من ذاك المنام ولم أجـد                   من الطيف إلا لوعتي وغرامـي
فأصبحت كالمجنون حين رأيتـهـا                   وأمسيت سكرانـاً بـغـير مـدام

فبكى مسرور بكاءً شديداً لما سمع هذا الكلام وفهم الشعر والنظام وكانت أختها تعرف ما هما عليه من العشق والغرام والوجد والهيام فقالت له: بالله عليك يا مسرور كف عن هذا المنزل لئلا يشعر أحد فيظن أنك تأتي من أجلي لأنك رحلت أختي وتريد أن ترحلني أنا الأخرى وأنت تعرف لولا أنت ما خلت الدار من سكانها فتسل عنها واتركها فقد مضى ما مضى.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخت زين المواصف قالت لها: قلت سأمضي فلما سمع مسرور ذلك من أختها بكى بكاءً شديداً وقال لها: يا نسيم لو قدرت أن أطير شوقاً إليها فكيف أتسلى عنها? فقالت: ما لك حيلةً إلا الصبر فقال لها: سألتك بالله أن تكتبي لها كل ما عندك وتردي لنا جواباً ليطيب خاطري وتنطفئ النار التي في ضمائري فقالت حباً وكرامةً ثم أعطني دواةً وقرطاساً وصار مسرور يصف لها شدة شوقه وما يكابده من ألم الفراق ويقول: إن هذا الشوق عن لسان الهائم الحزين المفارق المسكين الذي لا يقر له قرار في ليل ولا في نهار بل يبكي بدموعٍ غزار قد قرحت الدموع أجفانه، وأضرمت في كبده أحزانه وطال تأسفه وكثر تلهفه مثل طير نقد ألفه وعجل تلفه فيا أسفي من مفارقتك ويا لهفي على معاشرتك لقد ضر جسمي النحول ودمعي صار في خمول وضاقت علي الجبال والسهول فأمسيت من فرط وجدي أقول:
وجدي على تلك المنازل باقي              زادت إلى سكانها أشـواقـي
وبعثت نحوكم حديث صبابتـي             وبكأس حبكم سقاني الساقـي
وعلى رحيلكم وبعـد دياركـم               جرت الجفون بدمعة المهراق
يا حادي الأظعان عرج بالحمى             فالقلب منـي زائد الإحـراق
واقرأ سلامي للحبيب وقل لـه              ما أن له غير اللمى من راقي
أودى الزمان به فشتت شملـه             ورمى حشاشته بسهم فـراق
بلغ لهم وجدي وشدة لوعتـي             من بعد فرقتهم وما أنا لاقـي
قسماً بحبكـم يمـينـاً أنـنـي                  أوفي لكم بالعهد والمـيثـاق
ما ملت قطٌ ولا سلوت هواكم              كيف السلو لعاشق مشـتـاق
فغلبكم مني السـلام تـحـية                  ممزوجةً بالمسك في الأوراق

فتعجبت أختها نسيم من فصاحة لسانه وحسن معانيه ورقة أشعاره فرقت له وختمت الكتاب بالمسك الأذفر وبخرته بالند والعنبر وأوصلته إلى بعض التجار وقالت له: لا تسلم هذا إلا لأختي أو جاريتها هبوب فقال حباً وكرامة فلما وصل الكتاب إلى زين المواصف عرفت أنه من إملاء مسرور وعرفت نفسه فيه بلطف معانيه فقبلته ووضعته على عينيها وأجرت الدموع من جفنيها ولم تزل تبكي حتى غشي عليها فلما أفاقت دعت بدواةٍ وقرطاسٍ وكتبت له الجواب ووصفت شوقها وغرامها ووجدها وما هي فيه من الحنين إلى الأحباب وشكت حالها إليه وما نالها من الوجد عليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما كتبت جواب الكتاب لمسرور وقالت له: إن هذا كتاب إلى سيدي ومالك رقي ومولاي وصاحب سري ونجواني أما بعد فقد أقلقني السهر وزاد بي الفكر وما لي على بعدك مصطبر يا من حسنه يفوق الشمس والقمر فالشوق أقلقني والوجد أهلكني وكيف لا أكون كذلك وأنا مع الهالكين فيا بهجة الدنيا وزينة الأحياء هل لمن انقطعت أنفاسه أن يطيب كأسه لا هو مع الأحياء ولا مع الأموات، ثم أنشدت هذه الأبيات:
كتابك يا مسرور قد هيج البـلـوى                   فو الله مالي عنك صبر ولا سلوى
ولما قرأت الخط حنت جوارحـي                    ومن ماء دمعي دائماً لم أزل أروى
ولو كنت طيراً طرت في جنح ليلةٍ                  فلم أدر طعم المن بعدك والسلـوى
حرامٌ علي العيش من بعد بعـدكـم                   فإني على حر التفـرق لا أقـوى

ثم قربت الكتاب بسحيق المسك والعنبر وختمته وأرسلته مع بعض التجار وقالت له: لا تسلمه إلا لأختي نسيم فلما وصل إلى أختها نسيم أوصلته إلى مسرور فقبله ووضعه على يمينه وبكى حتى غشي عليه.
هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر زوج زين المواصف فإنه لما علم بالمراسلات بينهما صار يرحل بها وبجاريتها من محل إلى محل فقالت له زين المواصف: سبحان الله إلى أين تسير بنا وتبعدنا عن الأوطان? قال: إلى أن أقطع بكم سنة حتى لا يصل إليكن مراسلات من مسرور انظري كيف أخذتن جميع مالي وأعطيته لمسرور فكل شيء ضاع إلى أخذه منكن وانظري هل يتمكن مسرور ويقدر على خلاصكن من يدي ثم أنه مضى إلى الحداد وصنع لهن ثلاثة قيود من الحديد وأتى بها إليهن ونزع ما كان عليهن من الثياب الحرير وألبسهن ثياباً من الشعر وصار يبخرهن بالكبريت ثم جاء إليهن بالحداد وقال له: ضع هذه القيود في أرجل أولئك الجواري فأول ما قدم زين المواصف فلما رآها الحداد غاب عن صوابه وعض على أنامله وطار عقله من رأسه وزاد غرامه وقال لليهودي: ما ذنب أولئك الجواري? فقال: إنهن جواري وسرقن مالي وهربن مني فقال له الحداد: خيب الله ظنك والله لو كانت هذه الجارية عند قاضي القضاة وأذنبت كل يوم ألف ذنبٍ لا يؤاخذها وأيضاً لا يظهر عليها علامة السرقة ولا يقدر على وضع الحديد في رجليها ثم سأله أن لا يقيدها وصار يستشفع عنده في عدم تقييدها فلما نظرت الحداد وهو يستشفع لها عنده قالت لليهودي: سألتك بالله إلا تخرجني قدام هذا الرجل الغريب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف قالت لليهودي سألتك بالله ألا تخرجني قدام هذا الرجل الغريب فقال لها: وكيف خرجت قدام مسرور? فلم ترد جواباً ثم قبل شفاعة الحداد ووضع في رجليها قيداً صغيراً وقيد الجواري بالقيود الثقيلة وكان لزين المواصف جسمٌ ناعمٌ لا يتحمل الخشونة فلم تزل لابسةً ثياب الشعر هي وجواريها ليلاً ونهاراً إلى أن انتحلت أجسامهن وتغير ألوانهن وأما الحداد فإنه وقع في قلبه لزين المواصف عشقٌ عظيمٌ فسار إلى منزله وهو بأشد الحسرات وجعل ينشد هذه الأبيات:
شلت يمينك يا قين بـمـا وثـقـت            تلك القيود على الأقدام والعصـب
قيدت أقـدام مـولاةٍ مـنـعــمةٍ               أنيسةٍ خلقت من أعجب العـجـب
لو كنت تنصف ما كانت خلاخلهـا                   من الحديد وقد كانت من الذهـب
ولو رأى حسنها قاضي القضاة رثى               لها وأجلسها تياً أعلـى الـرتـب

وكان قاضي القضاة ماراً على دار الحداد وهو يترنم بإنشاد هذه الأبيات فأرسل إليه فلما حضر قال: يا حداد من هذه التي تلهج بذكرها وقلبك مشغول بحبها? فنهض الحداد قائماً على قدميه بين يدي القاضي وقبل يده وقال: أدام الله أيام مولانا القاضي وفسح في عمره. إنها جارية صفتها كذا وكذا وصار يصف له الجارية وما هي فيه من الحسن والجمال والقد والاعتدال والظرف والكمال وأنها بوجهٍ جميلٍ وخصرٍ نحيلٍ وردفٍ ثقيلٍ ثم أخبره بما هي فيه من الذل والحبس والقيود وقلة الزاد فقال القاضي: يا حداد دلها علينا وأوصلها إلينا حتى نأخذ لها حقها لأن هذه الجارية صارت معلقةً برقبتك وأن كنت لا تدلها علينا فإن الله يجازيك يوم القيامة فقال الحداد: سمعاً وطاعةً ثم توجه من وقته وساعته إلى ديار زين المواصف فوجد الباب مغلوقاً وسمع كلاماً رخيماً من كبدٍ حزينٍ لأن زين المواصف كانت في ذلك الوقت تنشد هذه الأبيات:
قد كنت في وطني والشمل مجتمعٌ                  والحب يملأ لي بالصفو أقـداحـا
دارت علينا بما تهواه مـن طـربٍ                   فليس تشكو أمسـاه وأصـبـاحـا
لقد قضينا زماناً كان ينـعـشـنـا             كأساً وعوداً وقانونـاً وأفـراحـا
ففرق الدهر والتصريف ألفـتـنـا           والحب ولى ووقت الصفو قد راحا
قلبت عنا غراب البين مـنـزجـرٍ            وليت فجر وصالي في الهوى لاحا
فلما سمع الحداد هذا الشعر والنظام بكى بدمعٍ كدمع الغمام ثم طرق الباب عليهن فقلن: من بالباب? فقال لهن: أنا الحداد ثم أخبرهن بما قاله القاضي وأنه يريد حضورهن لديه وإقامة الدعوى بين يديه حتى يخلص لهن حقهن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحداد لما أخبر زين المواصف كلام القاضي وأنه يريد حضورهن لديه وإقامة الدعوى بين يديه ويقتص لهن من غريمهن حتى يخلص لهن حقهن قالت للحداد: كيف نروح إليه والباب مغلوقٌ علينا والقيود في أرجلنا والمفاتيح مع اليهودي? قال لهن الحداد: أنا أعمل للأقفال مفاتيح وأفتح بها الباب والقيود قالت: فمن يعرفنا بيت القاضي? فقال الحداد: أنا أصفه لكن فقالت زين المواصف: وكيف نمضي عند القاضي ونحن لابساتٍ ثياب الشعر المبخرة بالكبريت? فقال الحداد: إن القاضي لا يعيبكن وأنتن في هذه الحالة ثم نهض الحداد من وقته وساعته وصنع مفاتيح أقفالٍ ثم فتح الباب وفتح القيود وحلها من أرجلهن وأخرجهن ودلهن على بيت القاضي.
ثم أن جاريتها هبوب نزعت ما كان على سيدتها من الثياب الشعر وذهبت بها إلى الحمام وغسلتها وألبستها ثياب الحرير فرجع لونها إليها ومن تمام السعادة أن زوجها كان في وليمةٍ عند بعض التجار فتزينت زين المواصف بأحسن زينةٍ ومضت إلى بيت القاضي فلما نظر لها القاضي وقف قائماً على قدميه فسلمت عليه بعذوبة كلامٍ وحلاوة ألفاظٍ ورشقته في ضمن ذلك بسهام الإلحاظ وقالت له: أدام الله مولانا القاضي ثم أخبرته بأمر الحداد وما فعل معها من فعل الأجواد وبما صنع بها زوجها من العذاب الذي يدهش الألباب وأخبرته أنه قد زاد بهن الهلاك ولم يجدن لهن من فكاك، فقال القاضي: يا جارية ما اسمك? قالت: اسمي زين المواصف وجاريتي هذه اسمها هبوب فقال لها القاضي: إن اسمك وافق مسماه وطابق لفظه معناه. فتبسمت ولفت وجهها فقال لها القاضي: زين المواصف ألك بعل أم لا? قالت: ما لي بعل قال: وما دينك? قالت: ديني الإسلام وملة خير الأنام فقال لها: أقسمي بالشريعة ذات الآيات والعبر أنك على ملة خير البشر، فأقسمت له وتشهدت فقال لها القاضي: كيف انقضى شبابك مع هذا اليهودي? فقالت له: أعلم أيها القاضي أدام الله أيامك بالتراضي وبلغك آمالك وختم بالصالحات أعمالك أن أبي خلف لي بعد وفاته خمسة عشر ألف دينارٍ وجعلها بين يدي هذا اليهودي يتجر فيها والكسب بيننا وبينه ورأس المال ثابتٌ بالبينة الشريعة فعندما مات أبي طمع اليهودي في وطلبني من أمي ليتزوج بي فقالت له أمي: كيف أخرجها من دينها وجعلها يهودية فو الله لأعرفن الدولة بك فخاف ذلك اليهودي من كلامها وأخذ المال وقرب إلى مدينة عدن وعند ما سمعنا به أنه في مدينة عدن جئنا في طلبه فلما اجتمعنا عليه في تلك المدينة ذكر لنا أنه يتاجر في البضائع ويشتري بضاعةً بعد بضاعةٍ فصدقناه ولم يزل يخادعنا حتى حبسنا وقيدنا وعذبنا أشد العذاب ونحن غرباء وما لنا معين إلا الله تعالى ومولانا القاضي، فلما سمع القاضي هذه الحكاية قال لجاريتها هبوب: هل هذه سيدتك وأنتن غرباء وليس لها بعل? قالت نعم قال: زوجني به وأنا يلزمني العتق والصيام والحج والصدقة إن لم أخلص لكن حقكن من هذا الكلب بعد أن أجازيه بما فعل فقالت هبوب: لك السمع والطاعة فقال القاضي: روحي طيبي قلبك وقلب سيدتك وفي غد إن شاء الله تعالى أرسل إلى هذا الكافر وأخلص لكن حقكن منه وتنظرين العجب في عذابه فدعت الجارية وانصرفت من عنده وخلته في كربٍ وهيامٍ وشوقٍ وغرامٍ، وبعد أن انصرفت من عنده هي وسيدتها سألتا عن دار القاضي الثاني فدلوهما عليه فلما حضرتا لديه أعلمتاه بذلك وكذلك الثالث والرابع حتى رفعت أمرها إلى القضاة الأربعة وكل واحد يسألها أن تتزوج به فتقول له: نعم ولم يعرف بعضهم خبر بعضٍ فصار كل واحدٍ يطمع فيها ولم يعلم اليهودي بشيءٍ من ذلك لأنه كان في دار الوليمة، فلما أصبح الصباح نهضت جاريتها وأفرغت عليها حلةً من أفخر الملابس ودخلت بها على القضاة الأربعة في مجلس الحكم، فلما رأت القضاة حاضرين أسفرت عن وجهها ورفعت قناعها وسلمت عليهم فردوا عليها السلام وعرفها كل واحد منهم وكان بعضهم يكتب فوقع القلم من يده وبعضهم كان يتحدث فتلجلج لسانه وبعضهم كان يحسب فغلط في حسابه فعند ذلك قالوا لها: يا ظريفة الخصال وبديعة الجمال لا يكن قلبك إلا طيباً فلا بد من أن نخلص لك حقك ونبلغك مرادك فدعت له ثم ودعتهم وانصرفت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القضاة قالوا لزين المواصف: يا ظريفة الخصال وبديعة الجمال لا يكن قلبك إلا طيباً بقضاء غرضك وبلوغ مرادك، فدع لهم ثم ودعتهم وانصرفت، هذا كله واليهودي مقيمٌ عند أصحابه في الوليمة وليس له علمٌ بذلك، وصارت زين المواصف تدعو ولاة الأحكام وأرباب الأقلام لينصروها على هذا الكافر الموئاب ويخلصوها من أليم العذاب.
ثم أنها كتبت كتاباً يتضمن جميع ما عمله معها اليهودي من الأول إلى الأخر وسطرت فيه الأشعار ثم طوت الكتاب وناولته لجاريتها هبوب وقالت لها: احفظي هذا الكتاب في جيبك حتى نرسله إلى مسرور، فبينما هي كذلك وإذا باليهودي قد دخل عليهما فرآهما فرحانتين فقال: ما لي أراكما فرحانتين هل أتاكما كتاب من عند صديقكما مسرور? فقالت له زين المواصف: نحن ما لنا عليك إلا سبحانه وتعالى فإنه هو الذي يخلصنا من جورك وإن لم تردنا إلى بلادنا وأوطاننا فنحن في غد نترافع وإياك إلى حاكم هذه المدينة وقاضيها، فقال اليهودي: ومن خلص القيود من أرجلكما ولكن لا بد أن أضع كل واحدةٍ منكن قيداً قدر عشرة أرطالٍ وأطوف بكن حول المدينة، فقالت له هبوب، جميع ما نويته لنا تقع فيه أن شاء الله كما أبعدتنا عن أوطاننا، وفي غد نقف وإياك قدام حاكم المدينة، واستمروا على ذلك حتى الصباح.
ثم نهض اليهودي وأتى إلى الحداد ليصنع قيوداً لهن فعند ذلك قامت زين المواصف هي وجواريها وأتت إلى دار الحكم ودخلتها فرأت القضاة فسلمت عليهم فرد عليها كل القضاة السلام، ثم قال قاضي القضاة لمن حوله: إن الجارية زهراوية وكل من رآها أحبها وخضع لحسنها وجمالها، ثم أن القاضي أرسل معها من الرسل أربعةً وكانوا أشرفاً وقال: لهم أحضروا غريمها في أسوأ حال. هذا ما كان من أمرها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العاشرة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القاضي أرسل مع زين المواصف أربعةً وقال لهم أحضروا غريمها في أسوأ حال. هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر اليهودي فأنهن لما صنع لهن القيود عاد إلى المنزل فلم يجدهن فيه فاحتار في أمره، فبينما هو كذلك وإذا بالرسل قد تعلقوا به وضربوه ضرباً شديداً وجروه سحباً على وجهه حتى أتوا به إلى القاضي فلما رآه القاضي صرخ في وجه وقال: يا عدو الله هل وصل أمرك من أنك فعلت ما فعلت وأبعدت هؤلاء عن أوطانهن وسرقت ما لهن وتريد أن تجعلهن يهوداً فكيف تريد تكفير المسلمين? فقال اليهودي: يا مولاي إن هذه زوجتي، فلما سمع القضاة منه هذا الكلام صاحوا كلهم وقالوا: ارموا هذا الكلب على الأرض وأنزلوا على وجهه بنعالكم واضربوه ضرباً وجيعاً فإن ذنبه لا يغتفر، فنزعوا عنه ثيابه الحريرية وألبسوه ثياباً من الشعر وألقوه على الأرض ونتفوا لحيته وضربوه ضرباً وجيعاً على وجهه بالنعال ثم أركبوه على حماره وجعلوا وجهه على كفله وأمسكوه ذيل الحمار في يده وطافوا به حول البلد حتى جرسوه في سائر البلد، ثم عادوا به إلى القاضي وهو في ذلٍ عظيمٍ فحكم عليه القضاة الأربعة بأن تقطع يداه ورجلاه وبعد ذلك يصلب.
فاندهش المعلون من هذا القول وغاب عقله وقال: يا سادتي القضاة ما تريدون مني? فقالوا له: قل أن هذه الجارية ما هي زوجتي وأن المال مالها وأنا تعديت عليها وشتتها عن أوطانها، فأقر بذلك وكتبوا بإقراره حجةً وأخذوا منه المال ودفعوه إلى زين المواصف وأعطوها الحجة وخرجت فصار كل من رأى حسنها وجمالها متحيراً في عقله وظن كل واحد من القضاة أنه يؤول أمرها إليه.
فلما وصلت إلى منزلها جهزت أمرها من جميع ما تحتاج إليه وصبرت إلى أن دخل الليل فأخذت ما خف حمله وغلا ثمنه وسارت هي وجواريها في ظلام الليل ولم تزل سائرة مسافة ثلاثة أيامٍ بلياليها. هذا ما كان من أمر زين المواصف، وأما ما كان من أمر القضاة فأنهم بعد ذهابها أمروا بحبس اليهودي زوجها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية عشرة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القضاة أمروا بحبس اليهودي زوج زين المواصف، فلما أصبح الصباح صار القضاة والشهود ينتظرون أن تحضر عندهم زين المواصف فلم تحضر عند أحد منهم، ثم أن القاضي الذي ذهبت إليه أولا قال: أنا أريد اليوم أن أتفرج على خارج المدينة لأني لي حاجة هناك ثم ركب بغلته وأخذ غلمانه وصار يطوف أزقة المدينة طولاً وعرضاً ويفتش على زين المواصف فلم يقع لها على خبر، فبينما هو كذلك إذ وجد باقي القضاة دائرين وكل واحدٍ منهم يظن أنه ليس بينها وبين غيره معياد فسألهم ما سبب ركوبهم ودورانهم في أزقة المدينة فأخبروه بشأنهم فرأى حالهم كحاله وسؤالهم كسؤاله فصار الجميع يفتشون عليها فلم يقعوا لها على خبر فانصرف كل واحدٍ منهم إلى منزله مريضاً ورقدوا على فراش الضنى ثم أن قاضي القضاة تذكر الحداد فأرسل إليه فلما حضر بين يديه قال له: يا حداد هل تعرف شيئاً من خبر التي دللتها علينا فو الله إن لم تطلعني عليها ضربتك بالسياط، فلما سمع الحداد كلام القاضي أنشد هذه الأبيات:
أن التي ملكتني في الهوى ملكـت                   مجامع الحسن حتى لم تدع حسنـاً
رنت غزالاً وفاحت عنبراً وبـدت                    شمساً وماجت غديراً وأنثنت غصناً

ثم أن الحداد قال: والله يا مولاي من حين انصرفت من الحضرة الشريفة ما نظرتها عيني أبداً وقد ملكت لبي وعقلي وصار فيها حديثي وشغلي وقد مضيت إلى منزلها فلم أجدها ولم أر أحداً يخبرني عن شأنها فكأنها غطست في قرار الماء أو عرج بها إلى السماء. فلما سمع القاضي كلامه شهق شهقةً كادت روحه أن تخرج منه ثم قال: والله ما كان لنا حاجة برؤيتها فانصرف الحداد ووقع القاضي على فراشه وصار من أجلها في ضنى وكذا الشهود وباقي القضاة الأربعة وصارت الحكماء تتردد عليهم وما بهم من مرض يحتاج إلى طبيب ثم أن وجهاء الناس دخلوا على القاضي الأول فسلموا عليه واستخبروه عن حاله فتنهد وباح بما في ضميره وبكى بكاءً شديداً ثم أنه شهق شهقةً ففارقت روحه جسده فلما رأوا ذلك غسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه وكتبوا على قبره هذه الأبيات:
كملت صفات العاشقين لمن غدا           في القبر مقتول الحبيب وصده
قد كان هذا للبـرية قـاضـياً                 ويراعه سجن الحسام بغمـده
فقضى عليه الحب لم نر قبلـه              مولى تذلل في الأنام لعـبـده

ثم أنهم ترحموا عليه وانصرفوا إلى القاضي الثاني ومعهم الطبيب فلم يجدوا به ضرراً ولا ما يحتاج إلى طبيب فسألوه عن حاله وشغل باله فعرفهم بقضيته فلاموه وعنفوه على تلك الحالة ثم أنه شهق شهقةً فارقت روحه جسده فجهزوه ودفنوه وترحموا عليه ثم توجهوا إلى القاضي الثالث فوجدوا الجميع مرضى بحبها ووجدوا الشهود أيضاً مرضى بحبها فإن كل من رآها مات بحبها وأن لم يمت يكابد لوعة الغرام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


ألف ليلة وليلة الجزء التاسع