ألف ليلة وليلة الجزء الرابع


ألف ليلة وليلة

الجزء الرابع





وفي الليلة الثالثة عشرة بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريت والعفريتة كشفا عن وجوه ثلاثين فكانا أشبه الناس ببعضهما فكأنهما توأمان أخوان منفردان وهما فتنة للمتقين كما قال لهما التاجر المبين:
أتحب لا تعشق مليحاً واحداً                تحتار فيه تدللاً وتـذلـلا
تحب الملاح جميعهم تلقاهم                إن صد هذا كان هذا مقبلا

وكان دهنش وميمونة ينظران إليهما فقال دهنش: إن معشوقتي أحسن، قالت له ميمونة: بل إنه أحسن، ويلك يا دهنش هل أنت اعمى اما تنظر إلى حسنه وجماله وقده واعتداله? فاسمع ما أقول، وإن كنت محباً صادقاً لمن تعشقها فقل فيها مثل ما أقول في محبوبي ثم إن ميمونة قبلت قمر الزمان قبلات عديدة وأنشدت هذه القصيدة:
مالي وللاحـى عـلـيك يعـنـف               كيف السلو وأنت غصـن أهـيف
لك مقلة كحلاء تنـفـث سـحـره             ما للهوى العذري عنها مـصـرف
تركية الألحاظ تفعـل بـالـحـشـا             ما ليس يفعله الصقيل المـرهـف
حملتني ثـقـل الـغـرام وإنـنـي              بالعجز عن حمل القميص لا ضعف
وجدي عليك كما علمت ولوعـتـي                  طبع وعشقي في هواك تـكـلـف
لو أن قلبي مثل قلـبـك لـم أبـت            والجسم مني مثل خصرك منحـف
ويلاه من قـمـر بـكـل مـلاحة              بين الأنام وكل حـسـن يوصـف
قال العواذل في الهوى من ذا الـذي                أنت الكثيب به فقلت لهم صـفـوا
يا قلبه القاسي تعـلـم عـطـفـه              من قده فعسى ترق وتـعـطـف
لك يا أمير في الـمـلاحة نـاظـر             يسطو علي وحاجـب لا ينـصـف
كذب الذي ظن المـلاحة كـلـهـا             في يوسف كم في جمالك يوسـف
الجن تخشـانـي إذا قـابـلـتـهـا              وأنا إذا ألقـاك قـلـبـي يرجـف
أتكلف الإعراض عـنـك مـهـابة            وإليك أصبو جهد مـا أتـكـلـف
والشعر أسود والجبين مشـعـشـع                  والطرف أحور والقوام مهفـهـف

فلما سمع دهنش شعر ميمونة في معشوقها طرب غاية الطرب وتعجب كل العجب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة عشرة بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنشاً قال: أنشدتيني فيمن تعشقينه هذا الشعر الرقيق مع أن بالك مشغول به ولكن أنا أبذل الجهد في إنشاد الشعر على قدر فكرتي ثم إن دهنشاً قام إلى معشوقته بدور وقبلها بين عينيها ونظر إلى العفرية ميمونة وإلى معشوقته بدور وجعل ينشد هذه القصيدة وهو بلا شعور:
أفوت معاهدهم بـشـط الـوادي             فبقيت مقتولاً بـوسـط الـوادي
وسكرت من خمر الغرام ورقصت                  عيني الدموع على غناء الحـادي
أسعى لأسعد بالوصال وحق لي           إن السعادة في بدور سـعـاد
لم أدر أي من الثلاثة أشتكـي              ولقد عددت فاصغ لـلأعـداد
من لحظها السياف أم من قدها            الرماح أم صدغهـا الـزراد
قالت وقد فتشت عنها كل مـن             لاقيته من حـاضـر وبـادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه            ترني فقلت لها وأين فـؤادي

فلما فرغ من شعره قالت العفريتة: أحسنت يا دهنش ولكن أي هذين الاثنين أحسن? فقال لها: محبوبتي بدور أحسن من محبوبك، فقالت له: كذبت يا ملعون بل معشوقي أحسن من معشوقتك ثم إنهما لم يزالا يعارضان بعضهما في الكلام حتى صرخت ميمونة على دهنش وأرادت أن تبطش به فذل لها ورفق في كلامه وقال لها: لا يصعب عليك الحق فابطلي قولك وقولي فإن كلانا يشهد لمعشوقه أنه أحسن فنعرض عن كلام كل واحد منا ونطلب من يفصل الحكم بيننا بالإنصاف ونعتمد على قوله.
فقالت له ميمونة: وهو كذلك، ثم ضربت الأرض برجلها فطلع لها من الأرض عفريت أعور أجرب وعيناه مشقوقتان في وجهه بالطول وفي رأسه سبعة قرون وله أرب ذوائب من الشعر مسترسلة إلى الأرض ويداه مثل يدي القطرب له أظفار كأظفار الأسد ورجلان كرجلي الفيل وجوافر كحوافر الحمار فلما طلع ذلك العفريت ورأى ميمونة قبل الأرض بين يديها وتكتف وقال لها: ما حاجتك يا سيدتي يا بنت الملك? فقالت له: يا قشقش إني أريد أن تحكم بيني وبين هذا الملعون دهنش ثم إنها أخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فعندها نظر العفريت قشقش إلى وجه ذلك الصبي ووجه تلك الصبية فرآهما متعانقين وهما نائمان ومعصم كل منهما تحت عنق الأخر وهما في الحسن والجمال متشابهان وفي الملاحة متساويان فنظر وتعجب المارد قشقش من حسنهما وجمالهما والتفت إلى ميمونة ودهنش بعد أن أطال إلى الصبي والصبية الإلتفات وأنشد هذه الأبيات:
زر من تحب ودع مقالة حـاسـد           ليس الحسود على الهوى بمساعد
لم يخلق الرحمن أحسن منـظـراً           من عاشقين على فـراش واحـد
متعانقين عليهما حلـل الـرضـا             متوسدين بمعصـم وبـسـاعـد
وإذا صفا لك من زمانـك واحـد            فهو المراد وعش بذاك الواحـد
وإذا تألفت القلوب على الـهـوى           فالناس تضرب في حـديد بـارد
يا من يلوم على الهوى أهل الهوى                 هل يستطاع صلاح قلب فاسـد
يا رب يا رحمن تحسن ختمـنـا             قبل الممات ولـو بـيوم واحـد

ثم إن العفريت قشقش التفت إلى ميمونة وإلى دهنش وقال لهما: والله ما فيهما أحد أحسن من الآخر ولا دون الآخر بل هما أشبه الناس ببعضهما في الحسن والجمال والبهجة والكمال، ولا يفرق بينهما إلا بالتذكير والتأنيث وعندي حكم أخر وهو أن ننبه كل واحد منهما من غير علم الأخر، وكل من التهب على رفيقه فهو دونه في الحسن والجمال، فقالت ميمونة: نعم هذا الرأي الذي قلته فأنا رضيته وقال دهنش وأنا رضيته، فعند ذلك انقلب دهنش في صورة برغوث ولدغ قمر الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة عشرة بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دهنشاً لدغ قمر الزمان في رقبته في موضع ناعم فمد قمر الزمان يده على رقبته وهرش موضع اللدغة من شدة ما أحرقته فتحرك بجنبه فوجد شيئاً قائماً بجنبه ونفسه أذكى من المسك وجسمه ألين من من الزبد فتعجب قمر الزمان من ذلك غاية العجب ثم قام من وقته قاعداً ونظر إلى ذلك الشخص الراقد بجانبه فوجده صبية كالدرة السنية أو القبة المبنية بقامة ألفية خماسية القدر بارزة النهد موردة الخد كما قال فيها بعض واصفيها:
بدت قمراً وعادت غصن بان               وفاحت عنبراً ورنت غزالا
كأن الحزن مشغوف بقلبـي                 فساعة هجرها يجد الوصالا

فلما رأى قمر الزمان السيدة بدور بنت الملك الغيور، وشاهد حسنها وجمالها وهي نائمة طوله ووجد فوق بدنها قميصاً بندقياً وهي بلا شروال وعليها كوفية من ذهب مرصعة بالجواهر وفي عنقها قلادة من الفصوص المثمنة لا يقدر عليها أحد من الملوك فصار مدهوش العقل من ذلك، ثم إنه حين شاهد حسنها تحركت فيه الحرارة الغريزية وألقى الله عليه شهوة الجماع وقال في نفسه: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ثم قلبها بيده ثاني مرة وفتح طوق قميصها فبان له بطنها ونظر إلى نهودها فازداد فيها محبة ورغبة فصار ينبهها وهي لا تنتبه، لأن دهنشاً ثقل نومها فصار قمر الزمان يهزها ويحركها ويقول: يا حبيبتي استيقظي وانظري من أنا فأنا قمر الزمان، فلم تستيقظ ولم تحرك رأسها، فعند ذلك تفكر في أمرها ساعة زمانية، وال في نفسه: إن صدق حذري فهذه الصبية هي التي يريد والدي زواجي بها، ومضى لي ثلاث سنين وأنا أمتنع من ذلك فإن شاء الله إذا جاء الصبح أقول لأبي: زوجني بها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة عشرة بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان قال في نفسه: إن شاء الله إذا جاء الصبح أقول لأبي: زوجني بها ولا أترك نصف النهار يفوت حتى أفوز بوصلها وأتملى بحسنها وجمالها، ثم إن قمر الزمان مال إلى بدور ليقبلها فارتعدت ميمونة الجنية وخجلت، ثم إن قمر الزمان لما أراد أن يقبله في فمها استحى من الله، ولفت وجهه وقال في نفسه: أنا أصبر لئلا يكون والدي لما غضب علي وحبسني في هذا الموضع جاء لي بهذه العروسة وأمرها بالنوم جنبي ليمتحني بها، وأوصاها أني إذا نبهتها لا تستيقظ وقال لها أي شيء فعل بك قمر الزمان فاعلميني به وربما يكون والدي مستخفياً في مكان ما بحيث يطلع علي وأنا لا أنظره فينظر جميع ما أفعله بهذه الصبية وإذا أصبح يوبخني ويقول لي: كيف تقول لي مالي أرب في الزواج وأنت قبلت تلك الصبية وعانقتها، فأنا أكف نفسي عنها الليلة لئلا ينكشف أمري مع والدي فأنا لا ألمس الصبية من تلك الساعة ولا ألتفت لها غير أني آخذ لي منها شيئاً يكون أمارة عندي وتذكرة لها حتى يبقى بيني وبينها إشارة، ثم إن قمر الزمان رفع جريدة كفاح العمال الإشتراكي الصبية وأخذ خاتمها من خنصرها وهو يساوي حملة من المال لأن فصه من نفيس الجواهر ونقوش دائرته هذه الأبيات:
لا تحسبوا أني نسيت عهـودكـم           مهما أطلتم في الزمان صدودكم
يا سادتي جودوا علي تعطـفـاً              فعسى أقبل ثغركم وخـدودكـم
والله إني لست أبرح عـنـكـم               ولو أعديتم في الغرام حدودكـم

ثم إن قمر الزمان نزع ذلك الخاتم من خنصر الملكة بدور ولبسه في خنصره وأدار ظهره إليها وقام ففرحت ميمونة الجنية لما رأت ذلك وقالت لدهنش وقشقش: هل رأيتما محبوبي قمر الزمان وما فعله من العفة عن هذه الصبية? فهذا من كمال محاسنه فانظروا كيف رأى هذه الصبية وحسنها وجمالها ولم يعانقها ولم يلمس بيده عليها بل أدار ظهره إليها ونام فقالا لها: قد رأينا ما صنع من الكمال فعند ذلك انقلبت ميمونة وجعلت نفسها برغوثاً ودخلت ثياب بدور محبوبة دهنش ومشت على ساقها وطلعت على فخذها ومشت تحت سرتها مقدار أربعة قراريط ولدغتها ففتحت عينيها واستوت قاعدة فرأت شاباً نائماً بجانبها وهو يغط في نومه وله خدود كشقائق النعمان ولواحظ تخجل الحور الحسان وفم كأنه خاتم سليمان وريقه حلو المذاق وأنفع من الترياق كما قال فيه بعض واصفيه:
سلا خاطري عـن زينـب ونـوار           بوردة خـد فـوق آس عـــذار
واصبحت بالظبى المقرمط مغرمـاً                  ولا أرى لي في عشق ذات سـوار
أنيسي في النادي وفي خلوتي معـاً                 خلاف أنيسي فـي قـرارة داري
فيا لائمي في هجر هـنـد وزينـب          وقد لاح عذري كالمصباح المساري
أتـرضـى بـأن أمـسـي أسـيرة              محصـنة أو مـن وراء جـداري

ثم إن الملكة بدور لما رأت قمر الزمان أخذها الهيام والوجد والغرام وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة عشرة بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور قالت في نفسها: وافضيحتاه إن هذا شاب غريب لا أعرفه ما باله راقد بجانبي في فراش واحد? ثم نظرت إليه بعينيها وحققت النظر فيه وفي ظرفه ودلاله وحسنه وجماله ثم قالت: وحق الله أنه شاب مليح مثل القمر إلا أن كبدي تكاد أن تتمزق وجداً عليه وشغفاً بحسنه وجماله، فيا لفضيحتي منه والله لو علمت إن هذا الشاب هو الذي خطبني من أبي ما رددته بل كنت أتزوجه وأتملى بجماله، ثم إن الملكة بدور تطلعت من وقتها وساعتها في وجه قمر الزمان وقالت له: يا سيدي وحبيب قلبي ونور عيني انتبه من منامك وتمتع بحسني وجمالي، ثم حركته بيدها فأرخت عليه ميمونة الجنية النوم وثقلت رأسه بجناحها فلم يستيقظ قمر الزمان فهزته الملكة بدور بيديها وقالت له: بحياتي عليك أن تطيعني وانتبه من منامك وانظر النرجس والخضرة وتمتع ببطني والسرة وهارشني وناغشني من هذا الوقت إلى بكرة، قم يا سيدي واتكئ على المخدة ولا تنم، فلم يجبها قمر الزمان بجواب ولم يرد عليها خطاباً بل غط في النوم.
فقالت الملكة بدور: ما لك تائهاً بحسنك وجمالك وظرفك ودلالك فكما أنت مليح أنا الأخرى مليحة فما هذا الذي تفعله? هل هم علموك الصد عني أو أبي الشيخ النحس منعك من أنتكلمني في هذه الليلة? ففتح قمر الزمان عينيه فازدادت فيه محبة وألقى الله محبته في قلبها ونظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة فخفق فؤادها وتقلقلت أحشاؤها واضطربت جوارحها وقالت لقمر الزمان: يا سيدي كلمني يا حبيبي يا معشوقي رد علي الجواب وقل لي: ما اسمك فإنك سلبت عقلي، كل ذلك وقمر الزمان مستغرق في النوم ولم يرد عليها بكلمة. فتأوهت الملكة بدور وقالت: ما لك معجباً بنفسك? ثم هزته وقبلت يده فرأت خاتمها في إصبعه الخنصر فشهقت وأتبعتها بغنجة وقالت: أوه.. أوه والله أنت حبيبي وتحبني ولكن كأنك تعرض عني دلالاً مع أنك جئتني وأنا نائمة وما أعرف كيف عملت أنت معي ولكني ما أنا قالعة خاتمي من خنصرك ثم فتحت جيب قميصه ومالته عليه وقبلت رقبته وفتشت على شيء تأخذه منه فلم تجد معه شيئاً ورأته بغير سروال فمدت يدها من تحت ذيل قميصه وجست سيقانه فزلقت يدها من نعومة جسمه وسقطت على عضوه فانصدع قلبها وارتجف فؤادها إلا أن شهوة النساء أقوى من شهوة الرجال وخجلت وخجلت ثم نزعت خاتمه من إصبعه ووضعته في إصبعها موضعاً عن خاتمها وقبلته في ثغره وقبلت كفه ولم تترك فيه موضعاً إلا قبلته وبعد ذلك أخذته في حضنها وعانقته ووضعت إحدى يديها تحت رقبته والأخرى من تحت إبطه ونامت بجانبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة عشرة بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الملكة بدور نامت بجانب قمر الزمان وجرى ما جرى فلما رأت ذلك ميمونة فرحت غاية الفرح وقالت لدهنش: هل رأيت يا ملعون كيف فعلت معشوقتك من الوله بمعشوقي? وكيف فعل معشوقي من التيه والدلال فلا شك أن معشوقي أحسن من معشوقتك ولكن عفوت عنك، ثم كتبت له ورقة والتفتت إلى قشقش وقالت له: ادخل معه واحمل معشوقته وساعده على وصالها إلى مكانها لأن الليل مضى وفاتني مطلوبي، فتقدم دهنش وقشقش إلى الملكة بدور وخلا تحتها وحملاها وطارا بها وأوصلاها إلى مكانها واعاداها إلى فراشهاو اختلت ميمونة النظر إلى قمر الزمان وهو نائم حتى لم يبق من الليل إلا القليل ثم توجهت إلى حال سبيلها.
فلما انشق الفجر انتبه قمر الزمان من منامه والتفت يميناً وشمالاً فلم يجد الصبية عنده فقال في نفسه: ما هذا الأمر كأن أبي يرغبني في الزواج بالصبية التي كانت عندي ثم أخذها سراً لأجل أن تزداد رغبتي في الزواج ثم صرخ على الخادم الذي هو نائم على الباب وقال له: ويلك يا مامون قم فقام الخادم وهو طائش العقل من النوم ثم قدم له الطشت والإبريق فقام قمر الزمان ودخل المستراح وقضى حاجته وخرج وتوضأ وصلى الصبح وجلس يسبح الله ثم نظر إلى الخادم فوجده واقفاً في خدمته بين يديه فقال له: ويلك يا صواب، من جاء هنا وأخذ الصبية من جنبي وانا نائم? فقال الخادم: يا سيدي أي شيء للصبية? فقال قمر الزمان: الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة، فانزعج الخادم من كلام قمر الزمان وقال له: لم يكن عندك صبية ولا غيرها ومن أين دخلت الصبية وأنا نائم وراء الباب وهو مقفول? والله يا سيدي ما دخل عليك لا ذكر ولا أنثى، فقال له قمر الزمان: تكذب يا عبد النحس وهل وصل من قدرك أنت الأخر أنك تخادعني، ولا تخبرني أين راحت هذه الصبية التي كانت نائمة عندي غي هذه الليلة ولم تخبرني بالذي أخذها من عندي? فقال الطواشي وقد انزعج منه: والله يا سيدي ما رأيت صبية ولا صبياً، فغضب قمر الزمان من كلام الخادم وقال له: إنهم علموك الخداع يا ملعون فتعالى عندي، فتقدم الخادم إلى قمر الزمان فأخذ بأطواقه وضرب به الأرض فضرط ثم برك عليه قمر الزمان ورفسه برجله وخنقه حتى غشي عليه ثم بعد ذلك ربطه في سلبة البئر وأدلاه فيه إلى أن وصل إلى الماء وأرخاه وكانت تلك الأيام برد وشتاء قاطع فغطس الخادم في الماء ثم نشله قمر الزمان وأرخاه، وما زال يغطس ذلك الخادم في الماء وينشله منه والخادم يستغيث ويصرخ ويصيح وقمر الزمان يقول له: والله يا ملعون ما أطلعك من هذه البئر حتى تخبرني بخبر هذه الجارية وقضيتها ومن الذي أخذها وأنا نائم? وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة عشرة بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم قال لقمر الزمان: أنقذني من البئر يا سيدي وأنا أخبرك بالصحيح، فجذبه من البئر وأطلعه وهو غائب عن الوجود من شدة ما قاساه من الغرق والبرد والضرب والعذاب وصار يرتعد مثل القصبة في الريح العاصف واشتبكت أسنانه في بعضها وابتلت ثيابه بالماء فلما رأى الخادم نفسه على وجه الأرض قال له: دعني يا سيدي أروح وأقلع ثيابي وأعصرها وأنشرها في الشمس وألبس غيرها، ثم أحضر إليك سريعاً وأخبرك بأمر تلك الصبية وأحكي لك حكايتها. فقال قمر الزمان: والله يا عبد النحس لولا أنك عاينت الموت ما أقررت بالحق فاخرج لقضاء أغراضك وعد إلي بسرعة واحك لي حكاية الصبية وقصتها، فعند ذلك خرج الخادم وهو لا يصدق بالنجاة ولم يزل يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان أبي قمر الزمان فوجد الوزير بجانبه وهما يتحدثان في أمر قمر الزمان فسمع الملك يقول للوزير: لإني ما نمت في هذه الليلة من اشتغال قلبي بولدي قمر الزمان وأخشى أن يجري له شيء في هذا الربج العتيق وما كان في سجنه شيء من المصلحة، فقال له الوزير: لا تخف عليه والله لا يصيبه شيء ودعه مسجوناً شهراً كاملاً حتى تلين عريكته.
فبينما هما في الكلام وإذا بالخادم دخل عليهما وهو في تلك الحالة وقال له: يا مولانا السلطان إن ولدك حصل له جنونو قد فعل بي هذه الفعال، وقال لي: إن صبية باتت عندي في هذه الليلة وذهبت خفية فأخبرني بخبرها وأنا لا أعرف ما شأن هذه الصبية، فلما سمع السلطان شهرمان هذا الكلام عن ولده قمر الزمان صرخ قائلاً: واولداه، وغضب على الوزير الذي كان سبباً في هذه الأمور غضباً شديداً وقال له: قم اكشف لي خبر ولدي قمر الزمان، فخرج الوزير وهو يتعثر في أذياله من خوفه من الملك وراح مع الخادم إلى البرج وكانت الشمس قد طلعت فدخل الوزير على قمر الزمان فوجده جالساً على السرير يقرأ القرآن فسلم عليه الوزير وجلس إلى جانبه وقال له: يا سيدي إن هذا العبد النحس أخبرنا بخبر شوش علينا وأزعجنا فاغتاظ الملك من ذلك، فقال له قمر الزمان: أيها الوزير، وما الذي قاله لكم عني حتى شوش على أبي وفي الحقيقة هو ما شوش إلا علي، فقال له الوزير: إنه جاءنا بحالة منكرة وقال لنا قولاً حاشاك منه وكذب علينا بما لا ينبغي أن يذكر في شانك فسلامة شبابك وعقلك الرجيح ولسانك الفصيح وحاشى أنيصدر منك شيء قبيح، فقال له قمر الزمان: فأي شيء قال هذا العبد النحس فقال له الوزير: إنه أخبرنا أنك جننت وقلت له كان عندي صبية في الليلة الماضية، فهل قلت للخادم هذا الكلام? فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً وقال للوزير: تبين لي أنكم علمتم الخادم الفعل الذي صدر منه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ابن الملك شهرمان، قال للوزير: تبين لي أنكم منعتموه من أن يخبرني بأمر الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة وأنت أيها الوزير أعقل من الخادم فأخبرني في هذه الساعة أين ذهبت الصبية المليحة التي كانت نائمة في حضني في تلك الليلة فأنتم الذين أرسلتموها وأمرتموها أن تبيت في حضني ونمت معها إلى الصباح فلما انتبهت ما وجتها، فأين هي الآن? فقال الوزير: يا سيدي قمر الزمان اسم الله حواليك وإنا ما أرسلنا لك في هذه الليلة أحداً وقد نمت وحدك والباب مقفل عليك والخادم نائم من خلف الباب وما أتى إليك صبية ولا غيرها فارجع إلى عقلك يا سيدي ولا تشغل خاطرك، فقال له قمر الزمان وقد اغتاظ من كلامه: أيها الوزير: أيها الوزير إن تلك الصبية معشوقتي وهي المليحة صاحبة العيون السود والخدود الحمر التي عانقتها في هذه الليلة، فتعجب الوزير من كلام قمر الزمان وقال له: هل رأيت الصبية في هذه الليلة بعينك في اليقظة أو في المنام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس أتظن أني رأيتها بأذني إنما رأيتها بعيوني في اليقظة وقلبتها بيدي وسهرت معها نصف ليلة كاملة وأنا أتفرج على حسنها وجمالها وظرفها ودلالها وإنما انتم أوصيتموها أنها لا تكلمني فجعلت نفسها نائمة فنمت بجنبها إلى الصباحثم استيقظت من منامي فلم أجدها،فقال له الوزير: يا سيدي قمر الزمان ربما تكون رأيت هذا الأمر في المنام فيكون أضغاث أحلام أو تخيلات من أكل مختلف الطعام أو وسوسة الشياطين اللئام. فقال له قمر الزمان: يا أيها الشيخ النحس كيف تهزأ بي أنت الأخر وتقول لي لعل هذا أضغاث أحلام مع أن الخادم قد أقر بتلك الصبية وقال لي في هذه الساعة أعود إليك وأخبرك بقصتها? ثم إن قمر الزمان قام من وقته وتقدم إلى الوزير وقبض على لحيته في يده وكانت لحيته طويلة فأخذها قمر الزمان ولفها على يده وجذبه منها فرماه من فوق السرير وألقاه على الأرض فأحس الوزير أن روحه طلعت من شدة نتف لحيته وما زال قمر الزمان يرفس الوزير برجليه ويصفعه على قفاه بيديه حتى كاد أن يهلكه.
فقال الوزير في نفسه: إذا كان العبد الخادم خلص نفسه من هذا الصبي المجنون بكذبة فأنا أولى بذلك منه وأخلص نفسي أنا الآخر بكذبة وإلا يهلكني، فهاأنا أكذب وأخلص روحي منه فإنه مجنون ولا شك في جنونه، ثم إن الوزير التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا سيدي لا تؤاخذني فإن والدك أوصاني أن أكتم عنك خبر هذه الصبية وأنا الآن عجزت وكليت من الضرب لأني بقيت رجلاً كبيراً وليس لي قوة تحمل الضرب فتمهل علي قليلاً حتى أحدثك بقصة الصبية.
فعند ذلك منع عنه الضرب وقال له: لأي شيء لم تخبرني بخبر تلك الصبية إلا بعد الضرب والإهانة فقم أيها الشيخ النحس واحك لي خبرها، فقال له الوزير: هل أنت تسأل عن تلك الصبية صاحبة الوجه المليح والدقد الرجيح? فقال له قمر الزمان: نعم أخبرني أيها الوزير من الذي جاء بها إلي وأنامها عندي وأين هي في هذه السهاة حتى أروح إليها بنفسي? فإن كان أبي الملك شهرمان فعل معي هذه الفعال وامتحني بتلك الصبية المليحة من أجل زواجها فأنا رضيت أن أتزوج بها فإنه ما فعل معي هذا الأمر كله وولع خاطري بتلك الصبية، بعد ذلك حجبها عني إلا من أجل امتناعي من الزواج فهاأنا رضيت بالزواج، فأعلم والدي بذلك أيها الوزير وأشر إليه أن يزوجني بتلك الصبية فإني لا أريد سواها وقلبي لم يعشق إلا إياها، فقم وأسرع إلى أبي وأشر إليه بتعجيل زواجي ثم عد إلي قريباً في هذه الساعة، فما صدق الوزير بالخلاص من قمر الزمان حتى خرج من البرج وهو يجري إلى أن دخل على الملك شهرمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والعشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير خرج يجري من البرج إلى أن دخل على الملك شهرمان فلما دخل عليه قال له الملك: أيها الوزير ما لي أراك في ارتباك ومن الذي بشره رماك حتى جئت مرعوباً? فقال للملك: إني قد جئتك ببشارة، فقال الملك: وما تلك البشارة? قال له: اعلم أن ولدك قمر الزمان قد حصل له جنون، فلما سمع الملك كلام الوزير صار الضياء في وجهه ظلاماً وقال له: أيها الوزير أوضح لي صف جنون ولدي? قال له الوزير: سمعاً وطاعة، ثم أخبره بما صدر من ولده فقال الملك: أبشر أيها الوزير إني أعطيك في نظير بشارتك إياي بجنون ولدي ضرب رقبتك وزوال النعم عنك يا أنحس الوزراء وأخبث الأمراء لأني اعلم أنك سبب جنون ولدي بمشورتك ورأيك التعس الذي أشرت به علي في الأول والآخر والله إن كان ياتي على ولدي شيء من الضرر أو الجنون لأسمرنك على القبة وأذيقنك النكبة.
ثم إن الملك نهض قائماً على قدميه وأخذ الوزير معه ودخل به البرجالذي نزل فيه قمر الزمان فلما وصلا إليه قام قمر الزمان على قدميه لوالده ونزل سريعاً من فوق السرير الذي هو جالس عليه وقبل يديه ثم تأخر وراءه وأطرق رأسه إلى الأرض وهو مكتف اليدين قدام أبيه ولم يزل كذلك ساعة زمانية وبعد ذلك رفع راسه إلى والده وفرت الدموع من عينيه وسالت على خديه وأنشد قول الشاعر:
إن كنت قد أذنبت سالـفـاً          في حقكم وأتيت شيئاً منكرا
أنا تائب عما جنيت وعفوكم                يسع المسئ إذا أتا مستغفرا

فعند ذلك قام الملك شهرمان وعانق ولده قمر الزمان وقبله بين عينيه وأجلسه إلى جانبه فوق السرير، ثم التفت إلى الوزير بعين الغضب وقال له: يا كلب الوزراء كيف تقول على ولدي قمر الزمان ما هو كذا وكذا وترعب قلبي عليه? ثم التفت إلى ولده وقال له: يا ولدي ما اسم هذا اليوم? فقال له: يا والدي هذا اليوس السبت وغداً يوم الأحد وبعده الاثنين وبعده الثلاثاء وبعده الأربعاء وبعده الخميس وبعده الجمعة. فقال له الملك: يا ولدي قمر الزمان الحمد لله على سلامتك، ما اسم هذا الشهر الذي علينا بالعربي? فقال: اسمه ذو القعدة ويليه ذو الحجة وبعده المحرم وبعده صفر وبعده ربيع الأول وبعده ربيع الثاني وبعده جمادى الأولى وبعده جمادى الثانية وبعده رجب وبعده شعبان وبعده رمضان وبعده شوال.
ففرح بذلك الملك فرحاً شديداً وبصق في وجه الوزير وقال له: يا شيخ السوء كيف تزعم أن ولدي قمر الزمان قد جن والحال أنه ما جن إلا أنت. فعند ذك حرك الوزير رأسه وأراد أن يتكلم ثم خطر بباله أن يتمهل قليلاً لينظر ماذا يكون ثم إن الملك قال لولده: يا ولدي أي شيء هذا الكلام الذي تكلمت به للخادم والوزير حيث قلت لهما: إني كنت نائماً أنا وصبية مليحة في هذه الليلة، فما شأن هذه الصبية التي ذكرتها? فضحك قمر الزمان من كلام أبيه وقال له: يا والدي اعلم أنه ما بقي لي قوة تتحمل السخرية فلا تزيدوا علي شيئاً ولا كلمة واحدة، فقد ضاق خلقي مما تفعلونه معي واعلم يا والدي أني رضيت بالزواج ولكن بشرط أن تزوجني تلك الصبية التي كانت نائمة عندي في هذه الليلة فإني أتحقق أنك أنت الذي أرسلتها إلي وشوقتني إليها وبعد ذلك أرسلت إليها قبل الصبح وأخذتها من عندي، فقال: اسم الله حواليك يا ولدي سلامة عقلك من الجنون. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والعشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان أي شيء هذه الصبية التي تزعم أني أرسلتها في هذه الليلة ثم أرسلت أخذتها من عندك قبل الصباح والله يا ولدي ليس لي علم بهذا الأمر. فبالله عليك أن تخبرني هل ذلك أضغاث أحلام أو تخيلات طعام فإنك بت في هذه الليلة وأنت مشغول الخاطر بالزواج وموسوس بذكره قبح الله الزواج وساعته وقبح من أشار به أنك متكدر المزاج من جهة الزواج فرأيت في المنام أن صبية مليحة تعانقك وأنت تعتقد في بالك انك رأيتها في اليقظة وهذا كله يا ولدي أضغاث أحلام.
فقال قمر الزمان: دع عنك هذا الكلام، واحلف بالله الخالق العلام قاصم الجبابرة ومبيد الأكاسرة أنه لم يكن عندك خبر بالصبية ومحلها? فقال الملك: وحق إله موسى وابراهيم أنه لم يكن لي علم بذلك، ولعله أضغاث أحلام رأيته في المنام، فقال قمر الزمان لوالده: أنا أضرب لك مثلاً يبين لك أن هذا كان في اليقظة.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان قال لوالده هذا المثل هو أني أسألك هل اتفق لأحد أنه رأى نفسه في المنام يقاتل وقد قاتل قتالاً شديداً وبعد ذلك استيقظ من منامه فوجد في يده سيفاً ملوثاً بالدم?فقال له والده: لا والله يا ولدي لم يتفق هذا، فقال له قمر الزمان: أخبرك بما حصل لي وهو أني رأيت في هذه الليلة كأني استيقظت من منامي نصف الليل فوجدت بنتاً نائمة بجانبي وقدها كقدي وشكلها كشكلي فعانقتها ومسكتها بيدي وأخذت خاتمها ووضعته في إصبعي وامتنعت عنها حياء منك وظننت أنك أرسلتها واستخفيت في موضع لتنظر ما أفعل، واستحييت من أجل ذلك أن أقبلها في فمها حياء منك، وخطر ببالي أنك تمتحني بها حتى ترغبني في الزواج.
و بعد ذلك انتبهت من منامي في وجه الصبح فلم أجد للصبية من أثر ولا وقفت لها على أثر على خبر وجرى لي مع الخادم والوزير ما جرى فكيف يكون هذا الأمر كذباً وأمر الخاتم صحيحاً? ولولا الخاتم كنت أظن أنه منام وهذا خاتمها في خنصري في هذه الساعة فانظر أيها الملك إلى الخاتم كم يساوي، ثم إن قمر الزمان ناول الخاتم لأبيه فأخذه وقلبه ثم التفت إلى ولده وقال له: إن لهذا الخاتم نبأً عظيماً وخبراً جسيماً وإن الذي اتفق لك في هذه الليلة مع تلك الصبية أمر مشكل ولا أعلم من أين دخل علينا هذا الدخيل وما تسبب في هذا كله إلا الوزير فبالله عليك يا ولدي أن تصبر لعل الله يفرج عنك هذه الكربة ويأتيك بالفرج العظيم كما قال الشاعر:
عسى ولعل الدهر يلوي عنانه             ويأتي بخير فالزمان غـيور
وتسعد آمالي وتقضي حوائجي            وتحدث من بعد الأمور أمور

فيا ولدي قد تحققت في هذه الساعة أنه ليس بك جنون ولكن قضيتك ما يجليها إلا الله، فقال قمر الزمان لوالده: بالله يا والدي أنك تفحص لي عن هذه الصبية وتعجل بقدزمها وإلا مت كمداً، ثم إن قمر الزمان أظهر الوجد والتفت بالوصل إلى أبيه وأنشد هذين البيتين:
إن كان في وعدكم بالوصـل تـزوير                ففي الكرى واصلوا المشتاق أو زورا
قالوا وكيف يزور الطيف جفن فتى                 منامه عند ممنوع ومـحـجـورا

ثم إن قمر الزمان بعد إنشاد هذه الأشعار التفت إليه أبيه بخضوع وانكسار وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
خذوا حذركم من طرفها فهو ساحر                وليس بناج من رمته المـحـاجـر
ولا تخدعوا من رقة في كلامـهـا                   فإن الحميا للعـقـول تـخـامـر
منعمه لولا مـس الـورد خـدهـا            بكت وبدت من مقلتيها الـبـواتـر
فلو في الكرى مر النسيم بأرضهـا                  سرى وبدا من ارضها وهو عواطر

فلما فرغ قمر الزمان من شعره قال الوزير للملك: يا ملك الزمان إلى متى أنت محجوب عن العسكر عند ولدك قمر الزمان فربما يفسد عليك نظام المملكة بسبب بعدك عن أرباب دولتك، والعاقل إذا ألمت بجسمه أمراض مختلفة يجب أن يبدأ بمداواة أعظمها، والرأي عندي أن تنقل ولدك فيه وتجعل للموكب والديوان في كل جمعة يومين الخميس والاثنين فيدخل عليك الأمراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وخواً المملكة وأصحاب الصولة وبقية العساكر والرعية ويعرضون عليك أحوالهم فاقض حوائجهم واحكم بينهم وخذ مطلبهم وأمر وانهي بينهم، وبقية الجمعة تكون عند ولدك قمر الزمان ولا تزال على تلك الحالة حتى يفرج الله عنك وعنه، ولا تأمن أيها الملك من نوائب الزمان وطوارق الحدثان فإنه العاقل دائماً محاذر وما أحسن قول الشاعر:
حسنت ظنك بالأيام إذ حـسـنـت            ولم نخف سوء ما يأتي به القـدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند                وعند صفو الليالي يحدث الكـدر
يا معشر الناس من كان الزمان له                  مساعد فليكن من رأيه الـحـذر

فلما سمع السلطان من الوزير هذا الكلام رآه صواباً ونصيحة في مصلحته فأثر عنده وخاف أن ينفسد عليه نظام الملك فنهض من وقته وساعته وأمر بتحويل ولده من ذلك المكان إلى القصر الذي في السرايا المطل على البحر ويمشون إليه على ممشاة في وسط البحر عرضها عشرون ذراعاً وبدائر القصر شبابيك مطلة على البحر وأرض ذلك القصر مفروشة بالرخام الملون وسقفه مدهون بأفخر الدهان من سائر الألوان ومنقوش بالذهب واللازورد ففرشوا لقمر الزمان فيه البسط الحرير وألبسوا حيطانه الديباج وأرخوا عليه الستائر المكللة بالجواهر ودخل فيه قمر الزمان وصار من شدة العشق كثير السهر، فاشتغل خاطره واصفر لونه وانتحل جسمه، وجلس والده عند رأسه وحزن عليه.
و صار الملك كل يوم اثنين وخميس يأذن في أن يدخل عليه من شاء الدخول الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وسائر العساكر والرعية في ذلك القصر فيدخلون عليه ويؤدون وظائف الخدمة ويقيمون عنده إلى آخر النهار ثم ينصرفون بعد ذلك إلى حال سبيلهم وبعد ذلك يدخل الملك عند ولده قمر الزمان في ذلك المكان ولا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، ولم يزل على تلك على تلك الحالة مدة أيام وليال من الزمان.
هذا ما كان من أمر قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والسبعة قصور فإن الجن لما حملوها وأناموها في فراشها لم يبق من الليل إلا ثلاث ساعات، ثم طلع الفجر فاستيقظت من منامها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما استيقظت من منامها جلست والتفتت يميناً وشمالاً فلم تر معشوقها الذي كان في حضنها فارتجف فؤادها وزال عقلها وصرخت صرخة عظيمة فاستيقظ جميع جواريها والدايات والقهرمانات ودخلن عليها فتقدمت إليها كبيرتهن وقالت لها: يا سيدتي ما الذي أصابك? فقالت لها: أيتها العجوز النحس أين معشوقي الشاب الذي كان نائماً هذه الليلة في حضني فأخبريني أين راح? فلما سمعت منها القهرمانة هذا الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً وخافت من بأسها خوفاً عظيماً وقالت: يا سيدتي بدور أي شيء هذا الكلام القبيح? فقالت السيدة بدور: ويلك يا عجوز النحس أين معشوقي الشاب المليح صاحب الوجه المليح والعيون السود والحواجب المقرونة الذي كان بائتاً عندي من العشاء إلى قرب طلوع الفجر? فقالت: والله ما رأيت شاباً ولا غيره، فبالله يا سيدتي لا تمزحي هذا المزاح الخارج عن الحد فتروح أرواحنا وربما بلغ أباك هذا المزاح فمي يخلصنا من يده? فقالت الملكة بدور: إنه كان غلاماً بائتاً عندي في هذه الليلة وهو من أحسن الناس وجهاً، فقالت لها القهرمانة: سلامة عقلك ما كان أحد بائتاً عندك في هذه الليلة. فعند ذلك نظرت السيدة بدور إلى يدها فوجدت خاتم قمر الزمان في إصبعها ولم تجد خاتمها فقالت للقهرمانة: ويلك يا خائنة تكذبين علي وتقولين ما كان أحد بائتاً عندك وتحلفين بالله باطلاً، فقالت القهرمانة: والله ما كذبت عليك ولا حلفت باطلاً، فاغتاظت السيدة بدور وسحبت سيفاً كان عندها وضربت القهرمانة فقتلتها، فعند ذلك صاح الخدم والجواري والسراري عليها وراحوا إلى أبيها وأعلموه بحالها فأتى الملك إلى ابنتها السيدة بدور من وقته وساعته وقال لها: يا بنتي ما خبرك? فقالت يا أبي أين الشاب الذي كان نائماً بجانبي في هذه الليلة? وطار عقلها من رأسها وصارت تلتفت بعينيها يميناً وشمالاً ثم شقت ثوبها إلى ذيلها، فلما رأى أبوها تلك الفعال أمر الجواري والخدم أن يمسكوها فقبضوا عليها وقيدوها وجعلوا في رقبتها سلسلة من حديد وربطوها في الشباك الذي في القصر. هذا ما كان من أمر الملكة بدور.
و أما ما كان من أمر أبيها الملك الغيور فإنه لما رأى ما جرى من ابنته السيدة بدور ضاقت عليه الدنيا لأنه كان يحبها فلم يهن عليه أمرها، فعند ذلك أحضر المنجمين والحكماء وأصحاب الأقلام وقال لهم: من أبراً بنتي مما هي فيه زوجته بها وأعطيته نصف مملكتي ومن لم يبرئها ضربت عنقه ويعلق رأسه على باب القصر، ولم يزل يفعل ذلك إلى أن قطع من أجلها أربعين رأساً، فطلب سائر الحكماء فتوقفت جميع الناس عنها وعجز جميع الحكماء عن دوائها واشتكت قضيتها على أهل العلوم وأرباب الأقلام، ثم إن السيدة بدور لما زاد بها الوجد والغرام وأرباب الهيام أجرت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
غرامي فيك يا قمري غريمي               ذكرك في دجى ليلي نديمي
أتيت وأضلعي فيها لـهـيب                 يحاكي حره نار الجـحـيم
بليت بفرط وجد واحـتـراق                 عذابي منهما أضحى أليمـي

فلما فرغت السيدة بدور من إنشاد هذه الأشعار بكت حتى مرضت جفونها وتذبلت وجناته ثم إنها استمرت على هذا الحال ثلاث سنين وكان لها أخ من الرضاع يسمى مرزوان وكان سافر إلى أقصى البلاد وغاب عنها تلك المدة بطولها وكان يحبها محبة زائدة على محبة الأخوة فلما حضر دخل على والدته وسألها عن أخته السيدة بدور فقالت له: يا ولدي أختك حصل لها الجنون ومضى لها ثلاث سنين وفي رقبتها سلسلة من حديد وعجزت الأطباء عن دوائها، فلما سمع مرزوان هذا الكلام قال لها: لا بد من دخولي عليها لعلي أعرف ما بها وأقدر على دوائها، فلما سمعت كلامه قالت: لا بد من خولك عليها ولكن اصبر إلى غد حتى أتحيل في أمرك ثم إن أمه ذهبت إلى قصر السيدة بدور واجتمعت بالخادم الموكل بالباب وأهدت له هدية وقالت له: إن لي بنتاً قد تربت مع السيدة بدور وقد زوجتها ولما جرى لسيدتك ما جرى صار قلبها متعلقاً بها وأرجو من فضلك أن بنتي تأتي عندها ساعة لتنظرها ثم ترجع من حيث جاءت ولا يعلم بها أحد، فقال الخادم:لا يمكن ذلك إلا في الليل فبعد أن يأتي السلطان ينظر ابنته ويخرج ادخلي أنت وابنتك، فقبلت العجوز يد الخادم وخرجت إلى بيتها. فلما جاء وقت العشاء من الليلة القابلة قامت من وقتها وساعتها وأخذت ولدها مرزوان وألبسته بدلة من ثياب النساء وجعلت يده في يدها وأدخلته القصر، وما زالت تمشي حتى أوصلته إلى الخادم بعد انصراف السلطان من عند ابنته فلما رآها الخادم قام واقفاً وقال لها: ادخلي ولا تطيلي القعود فلما دخلت العجوز بولدها مرزوان رأى السيدة بدور في تلك الحالة فسلموا عليها بعد أنكشفت عنه أمه ثياب النساء فأخرج مرزوان الكتب التي معه وأوقد شمعة فنظرت إليه السيدة بدور فعرفته وقالت له: يا أخي أنت سافرت وانقطعت أخبارك عنا فقال لها: صحيح ولكن ردني الله باسلامة وأردت السفر ثانية فما ردني عنه إلا هذا الخبر الذي سمعته عنك فاحترق فؤادي عليك وجئت إليك لعلي أعرف داءك وأقدر على دوائك، فقالت له: يا أخي هل تحسب أن الذي اعتراني جنون، ثم أشارت إليه وأنشدت هذين البيتين:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم          ما لذة العيش إلا للمـجـانـين
ثم جننت فهاتوا من جننـت بـه             إن كان يشفي جنوني لا تلوموني

فعلم مرزوان أنها عاشقة فقال لها: أخبريني بقصتك وما اتفق لك لعل الله يطلعني على ما فيه خلاصك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والعشرون بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بدور قالت: يا أخي اسمع قصتي وذلك أنني تيقظت من منامي ليلة في الثلث الأخير من الليل وجلست فرأيت بجانبي شاباً احسن ما يكون من الشبان يكل عن وصفه اللسان كأنه غصن بان أو قضيب خيزران فظننت أن أبي هو الذي أمره بهذا الأمر ليمتحنني به لأنه راودني عن الزواج لما خطبني منه الملوك فأبيت فهذا الظن هو الذي منعني من أن أنبهه وخشيت إني إذا عانقته ربما يخبر أبي بذلك فلما أصبحت رأيت بيدي خاتمه عوضاً عن خاتمي. فهذه حكايتي وأنا يا أخي قد تعلق قلبي به من حن رؤيته ومن كثرة عشقي والغرام لم أذق طعم المنام وما لي شغل غير بكائي بالدموع وإنشاد الأشعار بالليل والنهار ثم أفضت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
أبعد الحب لـذاتـي تـطـيب                   وذاك الظبي مرتعه القـلـوب
دم العشاق أهون مـا عـلـيه                وفيه مهجة الظـنـى تـذوب
أغار عليه من نظري وفكـري              فمن بعضي على بعضي رقيب
راجفان له ترمـي سـهـامـاً                 فواتك في القلوب لنا تصـيب
فهل لي أن أراه قبل مـوتـي                إذا ما كان في الدنيا نـصـيب
وأكتم السـر فـينـيم دمـعـي                 بما عندي ويعلمـه الـرقـيب
قريب وصلـه مـنـي بـعـيد                  بعـيد ذكـره مـنـي قـريب

ثم إن السيدة بدور قالت لمرزوان: انظر يا أخي ما الذي تعمل معي في الذي اعتراني فأطرق مرزوان رأسه إلى الأرض ساعة وهو يتعجب وما يدري ما يفعل ثم رفع رأسه وقال لها: جميع ما جرى لك صحيح وإن حكاية هذا الشاب أعيت فكري ولكن أدور جميع البلاد وأفتش على دوائك لعل الله يجعله على يدي فاصبري ولا تقلقي ثم إن مرزوان ودعها ودعا لها بالثبات وخرج من عندها ثم إن مرزوان تمشى إلى بيت والدته فنام تلك الليلة ولما أصبح الصباح تجهز للسفر فسافر ولم يزل مسافراً من مدينة إلى مدينة ومن جزيرة إلى جزيرة مدة شهر كامل ثم دخل مدينة يقال لها الطيرب واستنشق الأخبار من الناس لعله يجد دواء للملكة بدور وكان كلما يدخل في مدينة أو يمر بها يسمع أن الملكة بدور بنت الملك الغيور قد حصل لها جنون ولم يزل يستنشق الأخبار حتى وصل إلى مدينة الطيرب فسمع إن قمر الزمان ابن الملك شهرمان مريض وأنه اعتراه وسواس وجنون.
فلما سمع مرزوان بخبره سأل بعض أهالي تلك المدينة عن بلاده ومحل تخته فقالوا له جزائر خالدات وبيننا وبينها مسيرة شهر كامل في البحر وأما في البر فستة أشهر، فنزل مرزوان في مركب إلى جزائر خالدات وكانت مركب مجهزة للسفر وطاب لها الريح مدة شهر فبانت لهم المدينة ولما أشرفوا عليها ولم يبق لهم إلا الوصول إلى الساحل خرجت عليهم ريح عاصف فرمى الرية ووقعت القلوع في البحرو انقلب المركب بجميع ما فيه.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والعشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرزوان جذبته قوة التيار جذبة حتى أوصلته تحت قصر الملك الذي فيه قمر الزمان وكان بالأمر المقدر قد اجتمع الأمراء والوزراء عنده للخدمة والملك شهرمان جالس ورأس ولده في حجره وخادم يهش عليه. وكان قمر الزمان مضى عليه يومان وهو لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم وصار الوزير واقفاً عند رجليه قريب من الشباك المطل على البحر فرفع الوزير بصره فرأى مرزوان قد أشرف على الهلاك من التيار وبقي على آخر نفس فرق قلب الوزير إليه فتقرب من السلطان ومد رأسه إليه وقال له: أستأذنك في أن أنزل إلى ساحة القصر وأفتح بابها لأنقذ إنساناً قد أشرف على الغرق وأطلعه من الضيق إلى الفرج لعل الله بسبب ذلك يخلص ولدك مما هو عليه.
فقال السلطان: كل ما جرى على ولدي بسببك وربما أنك إذا طلعت هذا الغريب يطلع على أحوالنا وينظر إلى ولدي وخرج يتحدث مع أحد بأسرارنا لأضربن رقبتك قبله لأنك أيها الوزير سبب ما جرى لنا أولاً وآخراً فافعل ما بدا لك، فنهض الوزير وفتح باب الساحة ونزل في الممشاة عشرين خطوة، ثم خرج إلى البحر فرأى مرزوان مشرفاً على الموت فمد الوزير يده إليه وأمسكه من شعر رأسه وجذبه منه عليه حتى ردت روحه إليه ثم نزع عنه ثيابه وألبسه غيرها وعممه بعمامة من عمائم غلمانه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما فعل مع مرزوان ما فعل، وكيف قال إني كنت سبباً لنجاتك فلا تكن سبباً لموتي وموتك، فقال مرزوان: وكيف ذلك? قال الوزير: لأنك في هذه الساعة تطلع وتشق بين أمراء ووزراء والكل ساكتون لا يتكلمون من أجل قمر الزمان ابن السلطان، فلما سمع مرزوان ذكر قمر الزمان عرفه لأنه كان يسمع بحديثه في البلاد، فقال مرزوان: ومن قمر الزمان? فقال الوزير: هو ابن السلطان شهرمان وهو ضعيف ملقى على الفراش لا يقر له قرار ولا يعرف ليلاً ولا نهاراً وكاد أن يفارق الحياة من نجول جسمه ويصير من الأموات فنهاره لهيب وليله في تعذيب وقد يئسنا من حياته وأيقنا بوفاته وإياك أن تطيل النظر إلى غير الموضع الذي تحط فيه رجلك وإلا تروح روحك وروحي، فقال: بالله أخبرني عن هذا الشاب الذي وصفته لي وما سبب هذا الأمر الذي هو فيه? فقال له الوزير: لا أعلم له سبباً إلا أن والده من مدة ثلاث سنين كان يراوده عن أمر الزواج وهو يأبى فأصبح يزعم أنه كان نائماً فرأى بجنبه صبية بارعة الجمال وجمالها يحير العقول ويعجز عنه الوصف وذكر لنا أنه نزع خاتمها من إصبعها ولبسه وألبسها خاتمه ونحن لا نعرف باطن هذه القضية، فبالله يالولدي اطلع معي القصر ولا تنظر إلى ابن الملك ثم بعد ذلك روح إلى حال سبيل فإن السلطان قلبه ملآن عليه غيظاً.
فقال مرزوان في نفسه: والله إن هذا هو المطلوب ثم طلع خلف الوزير إلى أن وصل إلى القصر، ثم جلس الوزير تحت رجلي قمر الزمان وأما مرزوان فإنه لم يكن له دأب إلا أنه مشى حتى وقف قدام قمر الزمان ونظر إليه فمات الوزير في جلده وصار ينظر إلى مرزوان ويغمزه ليروح إلى حال سبيله ومرزوان يتغافل وينظر لإلى قمر الزمان وعلم أنه هو المطلوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مرزوان قال: سبحان الله الذي جعل قده مثل قدها ولونه مثل لونها وخده مثل خدها ففتح قمر الزمان عينيه وصغى بأذنيه فلما رآه مرزوان صاغياً إلى ما يلقيه من الكلمات أنشد هذه الأبيات:
أراك طروباً ذا شـجـى وتـرنـم             تميل إلى ذكر المحاسن بـالـفـم
أصابك عشق أم رميت بـسـهـم            فما هـذه الأسـيجة مـن رمـي
ألا فاسقني كاسات خمر وإن لـي          بذكر سليمى والرباب وتـنـعـم
أغار على أعطافها من ثـيابـهـا            إذا لبستها فوق جسـم مـنـعـم
وأحسد كاسات تقبـل ثـغـرهـا              إذا وضعت اللـثـم فـي الـفـم
فلا تحسبوا أني قتلـت بـصـارم            ولكن لحاظ قد رمتني بـأسـهـم
ولما تلاقينـا وجـدت بـنـانـهـا              مخضبة تحكي عصـارة عـنـدم
فقالت وألقت في الحـشـا لاعـج            الهوى مقالة من للحب لم يتكـلـم
رويدك ما هذا خضاب خضبـتـه           فلاتك بالبهتان والزور متهـمـي
ولكننـي لـمـا رأيتـك نـائمـاً                 وقد كشفت كفي وزندي ومعصمي
بكيت دماً يوم النوى فمسـحـتـه           بكفي فابتلت بنانـي مـن دمـي
فلو قبل مبكاه بـكـيت صـبـابة              لكنت شفيت النفس قبل الـتـنـدم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البـكـا           بكاها فقلت الفضل للـمـتـقـدم
فلا تعذلوني في هواهـا لأنـنـي            وحق الهوى فيها كثير الـتـألـم
بكيت على زين الحسن وجهـهـا           ليس لها مثـل يعـرب وأعـجـم
لها علم لقمـان وصـورة يوسـف          ونـغـمة داود وعـفة مــريم
ولي حزن يعقوب وحسرة يونـس                  وبـلــوة أيوب وقـــصة آدم
فلا تقتلوها إن قلت بـهـا حـوى            بلى فاسألوها كيف حل لها دمـي

فلما أنشد مرزوان هذا الشعر نزل عل قمر الزمان برداً وسلاما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أشار إلى السلطان بيده: دع هذا الشاب يجلس في جانبي، فلما سمع السلطان من ولده قمر الزمان هذا الكلام هذا الكلام فرح فرحاً شديداً، بعد أن غضب على الشاب وأضمر في نفسه أنه يرمي رقبته، ثم قام الملك وأجلس مرزوان إلى جانب ولده وأقبل عليه وقال له: من أي البلاد أنت? قال من الجزائر الجوانية من بلاد الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور، والسبعة قصور. فقال له الملك شهرمان: عسى أن يكون الفرج على يديك لولدي قمر الزمان، ثم إن مرزوان أقبل على قمر الزمان وقال له في أذنه: ثبت قلبك وطب نفساً وقر عيناً فإن التي صرت من أجلها هكذا لا تسأل عما هي فيه من أجلك ولكنك كتمت أمرك فضعفت، وأما هي فإنها أظهرت ما بها فجئت وهي الآن مسجونة بأسوأ حال وفي رقبتها غل من حديد وإن شاء الله تعالى يكون دوائكما على يدي.
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام ردت روحه إليه واستفاق وأشار إلى الملك والده أن يجلس ففرح فرحاً زائداً وأجلس ولده، ثم أخرج جميع الوزراء والأمراء واتكأ قمر الزمان بين مخدتين وأمر الملك أن يطيبوا القصر بالزعفران ثم أمر بزينة المدينة وقال لمرزوان: والله يا ولدي إن هذه طلعة مباركة ثم أكرمه غاية الإكرام وطلب لمرزوان الطعام فقدموا له فأكل وأكل معه قمر الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السلطان شهرمان بات تلك الليلة عندهما من شدة فرحته بشفاء ولده فلما أصبح الصباح صار مرزوان يحدث قمر الزمان بالقصة وقال له: اعلم أنني أعرف التي اجتمعت بها واسمها بدور بنت الملك الغيور، ثم حدثه بما جرى للسيدة بدور من الأول إلى الآخر وأخبره بفرط محبتها له وقال له: جميع ما جرى لك مع والدك جرى لها مع والده وأنت من غير شك حبيبها فثبت قلبك وقوي عزيمتك فهاأنا أوصلك إليها وأجمع بينك وبينها وأعمل معكما كما قال بعض الشعراء:
إذا الحبيب صد عن صبـه                  ولم يزل في فرط أعراض
ألفت وصلاً بين شخصيكما                 كأنني مسمار مـقـراض

و لم يزل مرزوان يشجع قمر الزمان حتى أكل الطعام وشرب الشراب وردت روحه إليه ونقه مما كان فيه ولم يزل مرزوان يحدثه وينادمه ويسليه وينشد له الأشعار حتى دخل الحمام وأمر والده بزينة المدينة فرحاً بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان خلع الخلعة وتصدق وأطلق من في الحبوس ثم إن مرزوان قال لقمر الزمان: اعلم أنني ما حئت من عند السيدة بدور إلا لهذا الأمر وهو سبب سفري لأجل أن أخلصها مما هي فيه وما بقي لنا إلا الحيلة في رواحنا إليها لأن والدك لا يسمح لك بالذهاب، ولازم أن تخرج إلى الصيفي البرية ومعك خرجاً ملآناً من المال، واركب جواداً من الخيل وخذ معك جنيباً وأنا الآخر مثلك، وقل لوالدك إني أريد أن أتفرج في البرية وأتصيد وأنظر في الفضاء وأبيت هنا ليلة واحدة فلا تشغل قلبك علي بشيء، ففرح قمر الزمان واستأذنه في الخروج إلى الصيد وقال له الكلام الذي أوصاه به مرزوان فأذن له والده في الخروج إلى الصيد وقال له: لا تبت غير ليلة واحدة وفي غد تحضر فإنك تعلم أنه ما يطيب لي عيش إلا بك وإنني ما صدقت أنك خلصت مما كنت فيه، ثم إن الملك شهرمان أنشد هذين البيتين:
ولو أنني أصبحت في كل نعـمة           وكانت لي الدنيا وملك الأكاسـرة
لما وازنت عندي جناح بعـوضة           وإذا لم تكن عيني لشخصك ناظرة

ثم إن الملك جهز ولده قمر الزمان هو مرزوان وأمر أن يهيأ لهما ستة من الخيل وهجين برسم المال، وجمل يحمل الماء والزاد ومنع قمر الزمان أن يخرج معه أحد في خدمته فودعه أبوه وضمه إلى صدره وقال له: سألتك بالله لا تغيب عني إلا ليلة واحدة وحرام علي المنا فيها وأنشد:
وصالك عندي ألذ نـعـيم           وصبري عنك أضر ألـيم
فديتك إن كان ذنب الهـوى                 إليك فذنبي أجل عـظـيم
أعندك مثلي نار الـجـوى                   فأصلى بذاك عذاب الجحيم

ثم خرج قمر الزمان ومرزوان وركبا فرسين ومعهما الهجين والجمل عليه الماء والزاد واستقبلا البر.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ومرزوان لما استقبلا البر سارا أول يوم إلى المساء ثم نزلا وأكلا وشربا وأطهما دوابهما واستراحا ساعة ثم ركبا وما زالا سائرين مدة ثلاثة أيام وفي رابع يوم بان لهما مكان متسع فيه غاب فنزلا فيه ثم أخذ مرزوان جملاً وفرساً وذبحهما وقطع لحمهما قطعاً ونحر عظمهما وأخذ من قمر الزمان قميصه ولباسه وقطعهما ولونهما بدم الفرس وأخذ ملوطة قمر الزمان ومزقها ولوثها بالدم ورماها في مفرق الطريق ثم أكلا وشربا وسافرا فسأله قمر الزمان عما فعله فقال مرزوان: اعلم أم والدك الملك شهرمان إذا غبت عنه ليلة ولم تحضر ثاني ليلة يركب ويسافر في أثرنا إلى أن يصل إلى هذا الدم الذي فعلته ويرى قماشك مقطعاً وعليه الدم فيظن في نفسه أنه جرى لك شيء من قطاع الطريق أو وحش البر فينقطع رجاؤه منك ويرجع إلى المدينة ونبلغ بهذه الحيلة ما نريد، فقال قمر الزمان: نعم ما فعلت ثم سارا أياماً وليالي وكل ذلك وقمر الزمان باكي العين إلى أن استبشر بقرب الديار أنشد هذه الأشعار:
أتجفو محباً مـا سـلا عـنـك سـاعة                  وتزهد فيه بعد مـا كـنـت راغـبـا
حرمت الرضا إن كنت خنتك في الهوى            وعوقبت بالهجران إن كنـت كـاذبـا
وما كان لي ذنب فاستوجب الـجـفـا                 وإن كان لي ذنب فقـد جـئت تـائبـا
ومن عـجـب الأيام أنـك هـاجـري          وما زالت الأنام تبـدي الـعـجـائبـا

فلما فرغ قمر الزمان من شعره بانت له جزائر الملك الغيور ففرح قمر الزمان فرحاً شديداً وشكر مرزوان على فعله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان ومرزوان دخلا المدينة وأنزله مرزوان في خان واستراحا ثلاثة أيام من السفر وبعد ذلك دخل قمر الزمان الحمام وألبسه لبس التجار وعمل له تخت رمل من ذهب وعمل له عدة وعمل له اصطرلاباً من الذهب ثم قال له مرزوان: قم يا مولاي وقف تحت قصر الملك وناد: أنا الحاسب الكاتب المنجم فأين الطالب? فإن الملك إذا سمعك يرسل خلفك ويدخل بك على ابنته محبوبتك وهي حين تراك يزول ما بها من الجنون ويفرح أبوها بسلامتك ويزوجها بك ويقاسمك في ملكه لأنه شرط على نفسه هذا الشرط، فقبل قمر الزمان ما أشار به مرزوان وخرج من الخان وهو لابس البدلة وأخذ معه العدة التي ذكرناها ومشى إلى أن وقف تحت قصر الملك الغيور ونادى: أنا الكاتب الحاسب المنجم أكتب الكتاب وأحكم الحجاب وأحسب الحساب بأقلام المطالب فأين الطالب? فلما سمع أهل المدينة هذا الكلام وكانوا مدة من الزمان ما رأوا حاسباً ولا مترجماً وقفوا حوله وتأملوه فتعجبوا من حسن صورته ورونق سبابه وقالوا له: بالله عليك يا مولانا لا تفعل بنفسك هذه الفعال طمعاً في زواج بنت الملك الغيور وانظر بعينيك إلى هذه الرؤوس المعلقة فإن أصحابهم كلهم قتلوا من أجل هذا الحال فآل بهم الطمع إلى الوبال، فلم يلتفت قمر الزمان إلى كلامهم بل رفع صوته ونادى: أنا كاتب حاسب أقرب المطالب للطالب فتداخل عليه الناس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان نهته الناس فلم يسمع كلامهم فاغتاظوا جميعاً وقالوا له: ما أنت إلا شاب مكابر أحمق، ارحم شبابك وصغر سنك وحسنك وجمالك، فصاح قمر الزمان وقال: أنا المنجم والحاسب فهل من طالب? فبينما الناس تنهى قمر الزمان عن هذه الحالة إذ سمع الملك الغيور الصياح وضجة الناس فقال للوزير: انزل فائتنا بذا المنجم، فنزل الوزير وأخذ قمر الزمان فلما دخل على الملك قبل الأرض بين يديه وأنشد هذين البيتين:
ثمانية في المجد خرت جميعهـا            فلا زال خداماً بهن لك الدهـر
يتينك والتقوى ومجدك والـنـدى           ولفظك والمعنى وعزك والنصر

فلما نظر الملك الغيور إليه أجلسه إلى جانبه وأقبل عليه وقال له: يا ولدي لا تجعل نفشك منجماً ولا تدخل على شرطي فإني ألزمت نفسي أن كل من دخل على بنتي ولم يبرئها مما أصاب بها ضربت عنقه وكل من أبرأها زوجته لها فلا يغرك حسنك وجمالك وقدك واعتدالك والله والله إن لم تبرئها لأضربن عنقك، فقال قمر الزمان: قبلت منك هذا الشرط فأشهد عليه الملك الغيور القضاة وسلمه إلى الخدم وقال له: أوصل هذا إلى السيدة بدور فأخذه الخادم من يده ومشى به إلى الدهليز فصار قمر الزمان يسابقه وصار الخادم يقول له: ويلك لا تستعجل على هلاك نفسك فوالله ما رأيت منجماً يستعجل على هلاك نفسه إلا أنت ولكنك لم تعرف أي شيء قدامك على الدواهي فأعرض قمر الزمان بوجهه عن الخادم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أنشد هذه الأبيات:
أنا عارف بصفات حسنك جاهل            متحير لـم أدر مـا أنـا قـائل
إن قلت شمساً كأن حسنك لم يغب                   عني وعهدي بالشموس أوافـل
كملت محاسنك التي في وصفها           عجز البليغ وحار فيه الـقـائل

ثم إن الخادم أوقف قمر الزمان خلف الستارة التي على الباب فقال له قمر الزمان: أي الحالتين أحب إليك كوني أداوي سيدتك وأبرئها من هنا أو أدخل إليها وأبرئها من داخل الستارة? فتعجب الخادم من كلامه وقال له: إن أبرأتها من هنا كان ذلك زيادة في فضلك فعند ذلك جلس قمر الزمان خلف الستارة وأطلع الدواة والقلم وكتب في ورقة هذه الكلمات: من يروح به الجفاء فدواؤه الوفاء والبلاء لمن يئس من حياته وأيقن بحلول وفاته وما لقلبه الحزين من مسعف ولا معين وما لطرفه الساهر على الهم ناصر، فنهاره لهيب وليله تعذيب وقد انبرى جسمه من كثرة النحول ولم يأته من حبيبه رسول، ثم كتب هذه الأبيات:
كتبت ولي قلب بذكرك مـولـع              وجفن قريح من دمـائي يدمـع
وجسم كساه لاعج الشوق والأسى                 قميص نحول فهو فيه مضعضع
شكوت الهوى لما أضر بي الهوى                  ولم يبق عندي للتصبر موضـع
ليك فجودي وارحمي وتعطفـي            فإن فؤادي بالهـوى يتـقـطـع

ثم كتب تحت الشعر هذه السجعات: شفاء القلوب لقاء المحبوب، من جفاه حبيبه فالله طبيبه، من خان منكم ومنالاً نال ما يتمنى، ولا أظرف من المحب الوافي إلى الحبيب الجافي، ثم كتب في الإمضاء: من الهائم الولهان العاشق الحيران من أقلقه الشوق والغرام سير الوجد والهيام قمر الزمان ابن الملك شهرمان إلى فريدة الزمان ونخبة الحور الحسان السيدة بدور بنت الملك الغيور، اعلمي أنني في ليلي سهران وفي نهاري حيران زائد النحول والأسقام والعشق والغرام كثير الزفرات غزير العبرات أسير الهوى قتيل الجوى، غريم الغرام، نديم السقام، فأنا السهران الذي لا تهجع مقلته والميتم الذي لا تهجع مقلته والمتي الذي لا ترفأ عبرته، فنار قلبي لا تطفأ ولهيب شوقي لا يخفى، ثم كتب في حاشية الكتاب هذا البيت المستطاب:
سلام من خزائن لطف ربـي                على من عندها روحي وقلبي
ثم كتب أيضاً:
أرسلت خاتمك الذي أستبـدلـه              يوم التواصل فارسلي لي خاتمي

وكان وضع خاتم السيدة بدور في طي الكتاب ثناول الكتاب للخادم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما وضع الخاتم في الورقة ناولها للخادم فأخذها ودخل بها إلى السيدة بدور فأختها من يد الخادم وفتحتها فوجدت خاتمها بعينه ثم قرأت الورقة، فلما عرفت المقصود علمت أن معشوقها قمر الزمان وأنه هو الواقف خلف الستارة فطار عقلها من الفرح واتسع صدرها وانشرح، ومن فرط المسرات أنشدن هذه الأبيات:
ولقد ندمت على تفرق شملنـا               دهرأ وفاض الدمع من أجفاني
ونذرت إن عاد الزمان يلمـنـا              لا عدت أذكر فرقة بلسـانـي
هجم السرور علي حتـى أنـه               من فرط ما سرني أبكـانـي
يا عين صار الدمـع سـجـية                تبكين في فرح وفي أحـزان

فلما فرغت السيدة بدور من شعرها قامت من وقتها وصلبت رجليها في الحائط واتكأت بقوتها على الغل الحديد فقطعته من رقبتها وقطعت السلاسل وخرجت من خلف الستارة ورمت روحها على قمر الزمان وقبلته في فمه مثل زق الحمام وعانقته م شدة ما بها من الغرام وقالت له: يا سيدي هل هذا يقظة أو منام وقد من الله علينا بجمع شملنا، ثم حمدت الله وشكرته على جمع شملها بعد اليأس، فلما رآها الخادم على تلك الحالة ذهب يجري حتى وصل إلى الملك الغيور فقبل الأرض بين يديه وقال له: يا مولاي اعلم أن هذا المنجم أعلم المنجمين كلهم فإنه داوى ابنتك وهو واقف خلف الستارة ولم يدخل عليها، فقال الملك للخادم: أصحيح هذا الخبر? فقال الخادم يا سيدي قم وانظر كيف قطعت السلاسل وخرجت للمنجك تقبله وتعانقه، فعند ذلك قام الملك الغيور ودخل على ابنته فلما رأته نهضت قائمة وغطت رأسها وأنشدت هذين البيتين:
لا أحب السواك من أجل أني               إن ذكرت السواك قلت سواكا
وأحب الأراك من أجل أنـي                 إن ذكرت الأراك قلت أراك

ففرح أبوها بسلامتها وقبلها بين عينيها لأنه كان يحبها محبة عظيمة، وأقبل الملك الغيور على قمر الزمان وسأله عن حاله وقال له: من أي البلاد أنت? فأخبره قمر الزمان بشأنه وأعلمه أن والده الملك شهرمان، ثم إن قمر الزمان قص عليه القصة من أولها إلى آخرها وأخبره بجميع ما اتفق له مع السيدة بدور وكيف أخذ الخاتم من إصبعها وألبسها خاتمه فتعجب الملك الغيور من ذلك وقال: إن حكايتكما يجب أن تؤرخ في الكتب وتقرأ بعدكما جيلاً بعد جيل، ثم إن الملك الغيور أحضر القضاة والشهود من وقته وكتب كتاب السيدة بدور على قمر الزمان وأمر بتزيين المدينة سبعة أيام، ثم مدوا السماط والأطعمة وزينت المدينة وجميع العساكر وأقبلت البشائر ودخل قمر الزمان على السيدة بدور وفرح بعافيتها وزواجها وحمد الله الذي رماها في حب شاب مليح من أبناء الملوك ثم جلوها عليه وكانا يشبهان بعضهما في الحسن والجمال والظرف والدلال ونام قمر الزمان عندها الليلة وبلغ أربه منها وتمتعت هي بحسنه وجماله وتعانقا إلى الصباح، وفي اليوم الثاني عمل الملك وليمة وجمع أهل الجزائر الجوانية والجزائر البرانية وقدم لهم الأسمطة وامتدت الموائد مدة شهر كامل، وبعد ذلك تفكر قمر الزمان أباه ورآه في المنام يقول له: يا ولدي أهكذا تفعل معي هذه الفعال وأنشده في المنام هذين البيتين:
لقد راعني بدر الدجى بـصـدوده          ووكل أجفاني برعي كـواكـبـه
فياكبدي مهلاً عـسـاه يعـود لـي           ويا مهجتي صبراً على ما كواك به

ثم إن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه أصبح حزيناً وأعلم زوجته بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما رأى والده في المنام يعاتبه أصبح حزيناً وأخبر السيدة بدور بذلك فدخلت هي وإياه على والدها وأعلماه واستأذناه في السفر فقالت السيدة بدور: يا والدي لا أصبر على فراقه فقال لها والدها: سافري معه وأذن لها بالإقامة معه سنة كاملة وبعد السنة تجيء تزور والدها في كل عام مرة، فقبلت يد أبيها وكذلك قمر الزمان، ثم شرع الملك الغيور في تجهيز ابنته هي وزوجها وهيأ لهما الخيول والهجان وأخرج ابنته وحمل لهما البغال والهجان واخرج لهما ما يحتاجان إليه في السفر.
و في يوم المسير ودع الملك الغيور قمر الزمان وخلع عليه خلعة سنية من الذهب مرصعة بالجواهر وقدم له خزنة مال وأوصاه على ابنته، ثم خرج معهما إلى طرف الجزائر وبعد ذلك ودع قمر الزمان، ثم دخل على ابنته وهي في المحفة وصار يعانقها ويبكي وأنشد هذين البيتين:
يا طالباً للفراق صبـرا             فمنعة العاشق العنـاق
مهلاً فطبع الزمان غدر           وآخر العشرة الفـراق

ثم خرج من عند ابنته وأتى إلى زوجته قمر الزمان فصار يودعه ويقبله ثم فارقهما وعاد إلى جزائره بعسكره بعد أن أمرهما بالرحيل فسار قمر الزمان هو وزوجته السيدة بدور ومن معهم من الأتباع أول يوم والثاني والثالث والرابع ولم يزالوا مسافرين مدو شهر، ثم نزلوا في مرج واسع كثير الكلأ وضربوا خيامهم فيه وأكلوا وشربوا واستراحوا ونامت السيدة بدور فدخل عليها قمر الزمان فوجدها وفوق بدنها قميص مشمشي من الحرير يبين منه كل شيء وفوق رأسها كوفية من الحرير مرصعة بالجواهر وقد رفع الهواء قميصها فطلع فوق سرتها عند نهودها فبان بطنها أبيض من الثلج وكل عكسة من عكس طياته تسع اوقية من دهن البان فزاد بها محبة وهياماً وأنشد هذن البيتين:
لو قيل لي وزفير الحـر مـتـقـد             والنار في القلب والأحشاء تضطرم
أهم تريد وتهوى أن تشـاهـدهـم          أو شربة من زلال الماء قلت هـم

فحط قمر الزمان يده في تكة لباسها فجذبها وحلها لما اشتهاها خاطره فرأى فصاً أحمر مثل العندم مربوطاً على التكة وعليه أسماء منقوشة سطرين بكتابة لا تقرأ فتعجب قمر الزمان من ذلك الفص وقال في نفسه: لولا أن لهذا الفص أمر عظيم عندها ما ربطته على تكة لباسها وما خبأته في أعز مكان عندها حتى لا تفارقه، فماذا تصنع بهذا السر الذي هو فيه? ثم أخذه وخرج من الخيمة ليبصره في النور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد المئتين

وفي الليلة الأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أخذ الفص ليبصره في النور صار يتأمل فيه وإذا بطائر انقض عليه وخطفه من يده وطار به وحط على الأرض، فخاف قمر الزمان على الفص وجرى خلف الطائر، وصار الطائر يجري على قدر جري قمر الزمان خلفه من واد إلى واد ومن تل إلى تل إلى أن دخل الليل وتغلس الظلام فنام الطائر على شجرة عالية فوقف قمر الزمان تحتها وصار باهتاً وقد ضعف من الجوع والتعب وظن أنه هالك، وأراد أن يرجع فما علاف الموضع الذي جاء منه. وهجم الظلام فقال: لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، ثم نام تحت الشجرة التي فوقها الطائر إلى الصباح ثم انتبه من نومه فوجد الطائر قد انتبه وطار من فوق الشجرة فمشى قمر الزمان خلفه وصار ذلك الطائر يطير قليلاً بقدر مشي قمر الزمان وقال: يا لله العجب أن هذا الطائر كان بالأمس يطير بقدر جريتي وفي هذا اليوم علم اني أصبحت تعباناً لا أقدر على الجري فصار يطير على قدر مشيتي، إن هذا عجيب، ولكن لا بد أن أتبع هذا الطائر فإما أن يقودني إلى حياتي أو مماتي، فأنا أتبعه أينما يتوجه لأنه على كل حال لا يقيم إلا في البلاد العمار.
ثم إن قمر الزمان جعل يمشي تحت الطائر والطائر يبيت في كل ليلة على شجرة ولم يزل متابعه مدة عشرة أيام وقمر الزمان يتقوت من نبات الأرض ويشب من الأنهار. وبعد العشرة أيام أشرف على مدينة عامرة فمر الطائر في تلك المدينة مثل لمح البصر وغاب عن قمر الزمان وقال: الحمد لله الذي سلمني حتى وصلت إلى هذه المدينة، ثم جلس عند الماء وغسل يديه ورجليه ووجهه واستراح ساعة وتذكر ما كان فيه من الراحة، ونظر إلى ما هو فيه من الغربة والجوع والتعب، فأنشد يقول:
أخفيت ما ألقاه منه وقـد ظـهـر            والنوم من عيني تبذل بالـسـهـر
ناديت لما أوهنت قلبي الـفـكـر             يا دهر يا دهر لا تبقي علي ولاتذر
ها مهجتي بين المشقة والخطـر          
لو كان سلطان المحبة منصفي            ما كان نومي من عيوني قد نفـي
يا سادتي رفقاً بـصـب مـدنـف             وتعطفوا لعـزيز قـوم ذل فـي
شرع الهوى وغني قوم وافتقـر          
لج العواذل فيك ما طاوعتهم               وسددت كل مسامعي وعصيتـهـم
قالوا عشقت مهفهفاً فأجـبـتـهـم           اخترته من بينهـم وتـركـتـهـم
كفوا إذا وقع القضا عمي البصر         

ثم إن قمر الزمان لما فرغ من شعره واستراح دخل باب المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان دخل باب المدينة وهو لا يعلمأين يتوجه فمشى في المدينة جميعها وقد كان دخل من البر، ولم يزل يمشي إلى أن خرج من باب البحر فلم يقابله أحد من أهلها وكانت مدينة على جانب البحر، ثم إنه بعد أن خرج من باب البحر مشى ولم يزل ماشياً حتى وصل إلى بساتين المدينة وشق بين الأشجار فأتى إلى بستان ووقف على بابه فخرج إليه الخولي ورحب به وقال: الحمد لله الذي أتى بك سالماً من أهل هذه المدينة، فادخل هذا البستان سريعاً قبل أن يراك احد من أهلها.
فعند ذلك دخل قمر الزمان ذلك البستان وهو ذاهل العقل وقال للخولي ما حكاية أهل هذه المدينة وما خبرهم فقال له اعلم أن أهل هذه المدينة كلهم مجوس فبالله عليك كيف وصلت إلى هذا المكان وما سبب دخولك في بلادنا، فعند ذلك أخبره قمر الزمان بجميع ما جرى له فتعجب الخولي من ذلك غاية العجب وقال له: اعلم يا ولدي أن بلاد الإسلام بعيدة من هنا فبيننا وبينها أربعة أشهر في البحر وأما في البر فسنة كاملة وإن عندنا مركباً يقلع وتسافر كل سنة ببضائع إلى أول بلاد الإسلام وتسير من هنا إلى بحر الأبنوس ومنه إلى جزائر خالدات وملكها يقال له السلطان شهرمان.
فعند ذلك تفكر قمر الزمان في نفسه ساعة زمانية وعلم أنه من الأوفق له قعوده في البستان عند الخولي والعمل عنده مرابعاً، فقال للخولي: هل تقبلني عندك مرابعاً في هذا البستان فقال له الخولي سمعاً وطاعة، ثم علمه تحويل الماء بين الأشجار فصار قمر الزمان يحول الماء ويقطع الحشيش بالفأس وألبسه الخولي بشتاً قصيراً أزرق يصل إلى ركبته وصار يسقي الأشجار ويبكي بالدموع الغزار وينشد الأشعار بالليل والنهار في معشوقته بدور فمن جملة ذلك هذه الأبيات:
لنا عندكـم وعـد فـهـلا وفـيتـم             وقلتم لنا قولاً فـهـلا فـعـلـتـم
قهرنا على حكم الغـرام ونـمـتـم           ولـيس سـواء سـاهـرون ونـوم
وكنا عهدنا أننـا نـكـتـم الـهـوى           فأغراكم الواشـي وقـال قـلـتـم
فيا أيها الأحبـاب فـي الـسـخـط            والرضا على كل حال أنتم القصد أنتم
ولي عند بعض الناس قلب مـعـذب                 فيا ليته يرثـي لـحـالـي ويرحـم
وماك ل عين مثل عـينـي قـريحة                   ولاكل قلب مثل قـلـبـي مـتـيم
ظالمتم وقلتم إنمـا الـحـب ظـالـم           صدقتم كذا كان الحديث صـدقـتـم
سلوا مغرماً لا ينقض الدهر عـهـده                ولو كان في أحشائه النار تـضـرم
إذا كان خصمي في الصبابة حاكمـي               لمن أشتكي خصمي لمن أتـظـلـم
ولولا افتقاري في الهوى وصبابتـي                لما كان لي في العشق قلب مـتـيم

هذا ما كان من قمر الزمان واما ما كان من أمر زوجته السيدة بدور بنت الملك الغيور فإنها لما استيقظت من نومها طلبت زوجها قمر الزمان فلم تجده ورأت سروالها محلولاً فافتقدت العقد فوجدتها محلولة والفص معدوماً فقالت في نفسها يا للعجب أين معشوقي كأنه أخذ الفص وراح وهو لا يعلم السر الذي هو فيه فيا ترى أين راح ولكن لا بد له من أمر عجيب اقتضى رواحه فإنه لا يقدر أن يفارقني ساعة فلعن الله الفص ولعن ساعته ثم إن السيدة بدور تفكرت وقالت في نفسها إن خرجت إلى الحاشية وأعلمتهم بفقد زوجي يطمعوا في ولكن لا بد من الحيلة.
ثم إنها لبست ثياب قمر الزمان ولبست عمامة كعمامته وضربت لها لثاماً وحطت في محفتها جارية وخرجت من خيمتها وصرخت على الغلمان فقدموا لها الجواد فركبت وأمرت بشد الأحمال فشدوا الأحمال وسافروا وأخفت أمرها لأنها كانت تشبه قمر الزمان فما شك أحد أنها قمر الزمان بعينه وما زالت مسافرة هي وأتباعها أياماً وليالي حتى أشرفت على مدينة مطلة على البحر المالح فنزلت بظاهرها وضربت خيامها في ذلك المكان لأجل الإستراحة ثم سألت عن هذه المدينة فقيل لها هذه مدينة الآبنوس وملكها الملك أرمانوس وله بنت اسمها حياة النفوس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما نزلت بظاهر مدينة الآبنوس لأحل الإستراحة أرسل الملك أرمانوس رسولاً من عنده يكشف له خبر الملك النازل بظاهر المدينة فلما وصل إليهم الرسول سألهم فأخبروه بأن هذا ابن الملك تائه عن الطريق وهو قاصد جزائر خالدات الملك شهرمان فعاد الرسول إلى الملك أرمانوس وأخبره بالخبر فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام نزل هو وأرباب دولته إلى مقابلته فلما قدم على الخيام ترجلت السيدة بدور وترجل الملك أرمانوس وسلما على بعضهما وأخذها ودخل بها إلى مدينته وطلع بها إلى قصره وأمر بمد السماط وموائد الأطعمة وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة فقامت هناك ثلاثة أيام وبعد ذلك أقبل الملك أرمانوس على السيدة بدور وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام وأسفرت عن وجه كأنه البدر عند التمام فافتتن بها العالم وتهتكت بها الخلق عند رؤيتها.
فعند ذلك أقبل الملك أرمانوس عليها وهي لابسة حلة من الحرير مطرزة بالذهب المرصع بالجواهر وقال لها يا ولدي اعلم أني بقيت شيخاً هرماً وعمري ما رزقت ولداً غير بنت وهي على شكلك وقدك في الحسن والجمال وعجزت عن الملك فهل لك يا ولدي أن تقيم بأرضي وتسكن بلادي وأزوجك ابنتي وأعطيك مملكتي.
فأطرقت السيدة بدور رأسها وعرق جبينها من الحياء وقالت في نفسها كيف يكون العمل وأنا امرأة فإن خالفت أمره وسرت ربما يرسل خلفي جيشاً يقتلني وإن أطلعته على أمري ربما أفتضح وقد فقدت محبوبي قمر الزمان ولم أعرف له خبر وما لي خلاص إلا أن أجيبه إلى قصده وأقيم عنده حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ثم إن السيدة بدور رفعت رأسها وأذعنت للملك بالسمع والطاعة ففرح الملك بذلك وأمر المنادي أن ينادي في جزائر الآبنوس بالفرح والزينة وجمع الحجاب والنواب والأمراء وأرباب دولته وقضاة مدينته وعزل نفسه عن الملك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الملك أرمانوس لما عزل نفسه من الملك سلطن السيدة بدور وألبسها بدلة الملك ودخلت الأمراء جميعاً على السيدة بدور وهم لا يشكون في أنها شاب وصار كل نظر إليهم منهم جميعاً يبل سراويله لفرط حسنها وجمالها فلما تسلطنت الملكة بدور ودقت لها البشائر بالسرور شرع الملك أرمانوس في تجهيز ابنته حياة النفوس وبعد أيام قلائل أدخلوا السيدة بدور على حياة النفوس فكانتا كأنهما بدران اجتمعا أو شمسان في وقت طلعا فردوا عليهما الأبواب وأرخوا الستائر بعد بعد أن أوقدوا لهما الشموع وفرشوا لهما الفرش فعند ذلك جلست السيدة بدور مع السيدة حياة النفوس فتذكرت محبوبها قمر الزمان واشتدت بها الأحزان فسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
يا راحلين وقلـبـي زائد الـقـلـق            لم يبق بينكم في الجسم مـن رمـق
قد كان لي مقلة تشكو السهـاد وقـد                أذابها الدمع يا ليت السهـاد بـقـي
لما رحلتم أقام الـضـب بـعـدكـم            ولكن سلوا عنه ماذا في البعاد لقـي
لولا جفوني وقد فاضت مدامـعـنـا                  توقدت عرصات الأرض من حرقي
أشكو إلى الله أحبابـاً عـدمـتـهـم           لم يرحموا صبوتي فيهم ولاقلـقـي
لا ذنب لي عندهم إلا الغرام بـهـم                   والناس بين سعيد في الهوى وشقـي

ثم إن السيدة بدور لما فرغت من إنشادها جلست إلى جانب السيدة حياة النفوس وقبلتها في فمها ونهضت من وقتها وساعتها وتوضأت ولم تزل تصلي حتى نامت السيدة حياة النفوس ثم دخلت السيدة بدور معها في الفراش وأدارت ظهرها إلى الصباح، فلما طلع النهار دخل الملك هو وزوجته إلى انتهما وسألاها عن حالها فأخبرتهما بما جرى وما سمعته من الشعر.
هذا ما كان من أمر حياة النفوس وأبويها، وأما ما كان من أمر الملكة بدور فإنها خرجت وجلست على كرسي المملكة وطلع إليها الأمراء وأرباب وجميع الرؤساء والجيوش وهنأوها بالملك وقبلوا الأرض بين يديها ودعوا لها بدوام الملك وهم يعتقدون أنها رجل، ثم أنها أمرت ونهت وحكمت وعدلت وأطلقت من الحبوس وأبطلت المكوس ولم تزل قاعدة في مجلس الحكومة إلى أن دخل الليل ثم دخلت المكان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور لما دخلت المكان المعد لها وجدت السيدة حياة النفوس جالسة فجلست بجانبها وطقطقت على ظهرها ولاطفتها وقبلتها بين عينيها وأنشدت هذه الأبيات:
قد صار سري بالدموع عـلانـية           ونحول جسمي في الغرام علانيه
أخفي الهوى ويذيعه ألم الـنـوى           حالي على الواشين ليست خافـية
يا راحلين عن الحمى خـلـفـتـم             جسمي بكم مضنى ونفسي بالـيه
وسكنتم غور الحشا فـنـواظـري           تجري مدامعها وعـينـي دامـية
وأنا فداء الغائبين بـمـهـجـتـي             أبداً وأشـواقـي إلـيهـم بـاديه
لي مقلة مقروحة فـي حـبـهـم             جفت الكرى ودموعها متـوالـيه
ظن العدا من عـلـيه تـجـلـداً                هيهات ما أذني إلـيهـم واعـيه
خابت ظنونـهـم لـدي وإنـمـا               قمر الزمان بـه أنـال أمـانـيه
جمع الفضائل ما حواها قـبـلـه             أحد سواه في العصور الخـالـيه
أنسى الأنام بـجـوده وبـعـفـوه             كرم بن زائدة وحلـم مـعـاوية
لولا الإطالة والقريض مقـصـر             عن حصر حسنك لم أدع من قافيه

ثم إن الملكة بدور نهضت قائمة على أقدامها ومسحت دموعها وتوضأت وصلت ولم تزل تصلي إلى أن غلب النوم على السيدة حياة النفوس فنامت فجاءت الملكة الملكة بدور ورقدت بجانبها إلى الصباح ثم قامت وصلت الصبح وجلست على كرسي المملكة وأمرت ونهت وحكمت وعدلت. هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر الملك أرمانوس فإنه دخل على ابنته وسألها عن حاله فأخبرته بجميع ما جرى لها وأنشدته الشعر الذي قالته الملكة بدور وقالت: يا أبي ما رأيت أحداً أكثر عقلاً وحياءً من زوجي غير أنه يبكي ويتنهد، فقال لها أبوها: يا ابنتي اصبري فما بقي له غير هذه الليلة الثالثة فإن لم يدخل بك ويزل بكارتك يكون لنا معه رأي وتدبير وأخلصه من الملك وأنفيه من بلادنا، فاتفق مع ابنته على هذا الكلام وأضمر الرأي.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أقبل الليل قامت الملكة بدور من دست المملكة إلى القصر ودخلت المكان الذي هو معد لها فرأت الشمع موقداً والسيدة جالسة فتذكرت وزوجها وما جرى بينهما في تلك المدة اليسيرة ووالت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
قسماً لقد ملأت أحاديثي الـفـضـا          كالشمس مشرقة على ذات الغضى
نطقت إشارته فأشكل فـهـمـهـا            فلذاك شوقي في المزيد وانقضـى
أبغضت حسن الصبر مذ أحببـتـم          أرأيت صبراً في الصبابة مبغضـا
وممرض اللحظات صال بفتكـهـا          واللحظ أقتل ما يكون ممـرضـا
ألقـى ذوائبـه وحـط لـثـامـه                فرأيت منه الحسن أسود أبـيضـا
سقمي وبـرئي فـي يديه وإنـمـا           يشفي سقام الحب من قد أمرضـا
هام الوشاح برقة فـي خـصـره            والردف من حسد أبى أن ينهضـا
وكان طرتـه وضـوء جـبـينـه              ليل دجى فاعتافه صـبـح أضـا

فلما فرغت من إنشادها أرادت أن تقوم إلى الصلاة وإذا بحياة النفوس تعلقت بذيلها وقالت لها: أما تستحي من والدي وما فعل معك من الجميل وأنت تتركني إلى هذا الوقت، فلما سمعت منها ذلك جلست في مكانها وقالت لها يا حبيبتي ما الذي تقولينه? قالت: الذي أقوله إني ما رأيت أحداً معجباً بنفسه مثلك فهل كل من كان مليحاً يعجب بنفسه هكذا، ولكن أنا ما قلت هذا الكلام لأجل أن أرغبك في وإنما قلته خفية عليك من الملك أرمانوس فإنه أضمر إن لم تدخل بي في هذه الليلة وتزيل بكارتي أنه ينزعك من المملكة في غد ويسفرك من بلاده يزداد به الغيظ فيقتلك وأنا يا سيدي رحمتك ونصحتك والرأي رأيك.
فلما سمعت الملكة بدور منها ذلك الكلام أطرقت برأسها إلى الأرض وتحيرت في أمرها، ثم قالت في نفسها إن خالفته هلكت وإن أطلعته افتضحت ولكن أنا في هذه الساعة ملكة على جزائر الأبنوس كلها وهي تحت حكمي وما أجتمع أنا وقمر الزمان إلا في هذا المكان لأنه ليس له طريق إلى بلاده إلا من جزائر الأبنوس، وقد فوضت أمري إلى الله فهو نعم المدبر.
ثم إن الملكة بدور قالت لحياة النفوس يا حبيبتي إن تركي لك وامتناعي عنك بالرغم عني، وحكت لها ما جرى من المبتدأ إلى المنتهى وأرتها نفسها وقالت لها: سألتك بالله أن تخفي أمري وتكتمي سري حتى يجمعني الله بمحبوبي قمر الزمان ز بعد ذلك يكون ما يكون. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة بدور لما أعلمت حياة النفوس بقصتها وأمرتها بالكتمان تعجبت من ذلك غاية العجب ورقت لهل ودعت لها بجمع شملها على محبوبها قمر الزمان وقالت يا أختي لا تخافي ولا تفزعي واصبري إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ثم إن حياة النفوس أنشدت هذين البيتين:
السر عندي في بيت له غلـق              قد ضاع مفتاحه والبيت مختوم
ما يكتم السر إلا كل ذي ثـقة               والسر عند خيا الناس مكتـوم

فلما فرغت من شعرها قالت يا أختي إن صدور الأحرار قبور الأسرار وأنا لا أفشي لك سراً ثم لعبتا وتعانقتا ونامتا إلى قريب الآذان ثم قامت حياة النفوس وأخذت دجاجة وذبحتها وتلطخت بدمها وقلعت سراويله وصرخت فدخل لها أهلها وزغردت الجواري ودخلت عليها أمها وسألتها عن حالها وأقامت عندها إلى المساء، وأما الملكة بدور فإنها لما أصبحت قامت وذهبت إلى الحمام واغتسلت وصلت الصبح ثم توجهت إلى مجلس الحكومة وجلست على كرسي المملكة وحكمت بين الناس، فلما سمع الملك أرمانوس الزغاريد سأل عن الخبر فأخبروه بافتضاض بكارة ابنته ففرح بذلك واتسع صدره وانشرح وأولم اللائم ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان، هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر الملك شهرمان فإنه بعد خروج ولده إلى الصيد والقنص هو ومرزوان كما تقدم صبر حتى أقبل عليه الليل فلم يجيء ولده فتحير عقله ولم ينم تلك الليلة وقلق غاية القلق وزاد وجده واحترق وما صدق أن الفجر انشق حتى أصبح ينتظر ولده إلى نصف النهار فلم يجيء فأحس بقلبه بالفراق والتهب على ولده من الإشفاق ثم بكى حتى بل ثيابه وأنشد من قلب مصدوع:
مازلت معترضاً على أهل الهوى          حتى بليت بحـلـوه وبـمـره
وشربت كأس مراره متجـرعـاً             وذللت فيه لعـبـده ولـحـره
نذر الزمان بأن يفرق شمـلـنـا             والآن قد أوفى الزمان بـنـذره

فلما فرغ من شعره مسح دموعه ونادى في عسكره بالرحيل والحث على السفر الطويل فركب الجيش جميعه وخرج السلطان وهو محترق القلب على ولده قمر الزمان وقلبه بالحزن ملآن ثم فرق جيشه يميناً وشمالاً وأماماً وخلف ست فرق وقال لهم الإجتماع غداً عند مفرق الطريق فتفرقت الجيوش والعسكر كما ذكرنا وسلفرت الخيول ولم يزالوا مسافرين بقية النهار إلى أن جن الليل فساروا جميع الليل إلى نصف النهار حتى وصلوا إلى مفرق طرق فلم يعرفوا أي طريق سلكها ثم رأوا أثر أقمشة مقطعة ورأوا اللحم مقطعاً ونظروا أثر الدم باقياً وشاهدوا كل قطعة من الثياب واللحم في ناحية فلما رأى الملك شهرمان ذلك صرخ صرخة عظيمة من صميم القلب وقال واولداه ولطم على وجهه ونتف لحيته ومزق أثوابه وأيقن بموت ولده وزاد في البكاء والنحيب وبكت لبكائه العساكر وكلهم أيقنوا بهلاك قمر الزمان وحثوا على رؤوسهم التراب ودخل عليهم الليل وهم في بكاء ونحيب حنى أشرفوا على الهلاك واحترق قلب الملك بلهيب الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
لا تعذلوا المحزون في أحزانه             فلقد جفاه الوجد من أشجانـه
يبكي لفرط تأسف وتـوجـع                 وغرامه ينبيك عن نـيرانـه
يا سعد من لمتيم حلف الضنى             أن لا يزيل الدمع من أجفانه
يبدي الغرام لفقد بدر زاهـر                بضيائه يزهو على أقرانـه
ولقد سقاه الموت كأساً مترعاً             يوم الرحيل فشط عن أوطانه

فلما فرغ من إنشاده رحل بجيوشه إلى مدينته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان أيقن بهلاك ولده وعلم أنه عدا عليه وافترسه وحش وإما قاطع طريق ثم نادى في جزائر خالدات أن يلبسوا السواد من الأحزان على ولده قمر الزمان وعمل له بيتاً وسماه بيت الأحزان وسار كل يوم خميس واثنين يحكم في مملكته بين عسكره ورعيته وبقية الجمعة يدخل بيت الأحزان وينعي ولده ويرثيه بالأشعار فمن ذلك قوله:
فيوم الأماني يوم قربكم منـي              ويوم امنايا يوم إعراضكم عني
إذا بت مرعوباً أهدد بالـردى               فوصلكم عندي ألذ من الأمـن
ومن ذلك قوله:
نفس الفداء لظاعنين رحيلـه               أنكى وأفسد في القلوب وعاثا
فليقض عدته السرور فإننـي               طلقت بعدهم النعيم ثـلاثـا

هذا ما كان من أمر الملك شهرمان وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور فإنها صارت ملكة في بلاد الأبنوس وصار الناس يشيرون إليها بالبنان ويقولون هذا صهر الملك أرمانوس وكل ليلة تنام مع السيدة حياة النفوس وتشتكي وحشة زوجها قمر الزمان وتصف لها حسنه وجماله وتتمنى ولو في المنا وصاله.
هذا ما كان من أمر الملكة بدور. وأما ما كان من أمر قمر الزمان فإنه لم يزل مقيماً عند الخولي في البستان مدة من الزمان وهو يبكي بالليل والنهار ويتحسر وينشد الأشعار على أوقات الهنا والسرور والخولي يقول: في آخر السنة تسير المراكب إلى بلاد المسلمين، ولم يزل قمر الزمان على تلك الحالة إلى أن رأى الناس مجتمعين على بعضهم فتعجب من ذلك، فدخل عليه الخولي وقال له: يا ولدي أبطل الشغل في هذا اليوم ولا تحول الماء على الأشحار أن هذا اليوم عيد والناس فيه يزور بعضهم بعضاً فاسترح واجعل بالك إلى الغيط، فإني أريد أن أبصر لك مركباً فما بقي إلا القليل وأرسلك إلى بلاد المسلمين، ثم إن الخولي خرج من البستان وبقي قمر الزمان وحده فانكسر خاطره وجرت دموعه ولم يزل يبكي حتى غشي عليه.
فلما أفاق قام يتمشى في البستان وهو متفكر فيما فعل به الزمان وطول البعد والهجران وعقله ولهان فعثر ووقع على وجهه فجاءت جبهته على حجر شجرة فجرى دمه واختلط بدموعه فمسح دمه ونشف دموعه وشد جبهته بخرقة وقام يتمشى في ذلك البستان وهو ذاهل العقل فنظر بعينه إلى شجرة فوقها طائران يتخاصمان فقلب أحدهما الآخر ونقره في عنقه فخلص رقبته من جثته ثم أخذ رأسه وطار به ووقع المقتول في الأرض قدام قمر الزمان.
فبينما هو كذلك إذا بطائرين كبيرين قد انقضا عليه ووقف واحد منهما عند رأسه والأخر عند ذنبه وأرخيا أجنحتهما عليه ومدا أعناقهما إليه وبكيا فبكى قمر الزمان على فراق زوجته حين رأى الطائرين يبكيان على صاحبهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قمر الزمان بكى على فراق زوجته لما رأى الطائران يبكيان على صاحبهما ثم إن قمر الزمان رأى الطائرين حفرا حفرة ودفنا الطائر المقتول فيها وطارا إلى الجو وغابا ساعة، ثم عادا ومعهما الطائر القاتل فنزلا به على قبر المقتول وبركا على القاتل حتى قتلاه وشقا جوفه وأخرجا أمعائه وأراقا دمه على قبر الطائر المقتول، ثم نثرا لحمه ومزقا جلده وأخرجا ما في جوفه وفرقا إلى أماكن متفرقة هذا كله جرى وقمر الزمان ينظر ويتعجب فحانت منه التفاتة إلى الموضع الذي قتلا فيه الطائر فوجد فيه شيئاً يلمع فدنا منه فوجده حوصلة الطائر فأخذها وفتحها فوجد فيها الفص الذي كان سبب فراقه من زوجته. فلما رآه وعرفه وقع على الأرض مغشياً عليه من فرحه فلما أفاق قال في نفسه هذا علامة الخير وبشارة الإجتماع ثم تامله ومر به على عينه وربطه على ذراعه واستبشر بالخير وقام لينظر الخولي ولم يزل يفتش عليه إلى الليل فلم يأت فبات قمر الزمان في موضعه إلى الصباح.
ثم أفاق إلى شغله وشد وسطه بحبل من الليف وأخذ الفاس والقفة وشق في البستان فأتى إلى شجرة خروب وضرب الفاس في جذرها فطنت الضربة فكشف التراب فوجده طابقاً ففتحه، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان لما فتح ذلك الطابق وجد باباً فنزل فيه فلقي قاعة قديمة من عهد ثمود وعاد وتلك القاعة واسعة وهي مملوءة ذهباً أحمر فقال في نفسه لقد ذهب التعب وجاء الفرح والسرور، ثم إن قمر الزمان طلع من المكان إلى ظاهر البستان ورد الطابق كما كان، ورجع إلى البستان وإلى تحويل الماء على الأشجار، ولم يزل كذلك إلى آخر النهار فجاء الخولي وقال يا ولدي أبشر برجوعك إلى الأوطان فإن التجار تجهزوا للسفر والمراكب بعد ثلاثة أيام مسافرة إلى مدينة من مدائن المسلمين، فإذا وصلت إليها تسافر في البر ستة أشهر حتى تصل جزائر خالدات، والملك شهرمان ففرح قمر الزمان بذلك ثم قبل يد الخولي وقال له يا والدي كما بشرتني فأنا أبشرك بشارة وأخبره بأمر القاعة ففرح الخولي وقال يا ولدي أنا في هذا البستان صار لي مدة ثمانون عاماً لم أجد شيء وأنت لك عندي دون السنة ووجدت هذا الكنز فهو رزقك وسبب زوال عكسك، ومعين لك على وصولك إلى أهلك واجتماع شملك بمن تحب. فقال قمر الزمان: لا بد من المقاسمة بيني وبينك، ثم أخذ الخولي ودخل في تلك القاعة وأراه الذهب وكان في عشرين خابية فأخذ عشرة والخولي عشرة.
فقال له: يا ولدي عب لك أمطار من الزيتون العصافيري الذي في هذا البستان فإنه معدوم في غير بلادنا وتحمله التجار إلى جميع البلاد واحمل الذهب في الأمطار والزيتونفوق الذهب، ثم سدها وخذها في المركب، فقام قمر الزمان م وقته وساعته وعبأ خمسين مطراً ووضع الذهب فيها، وسد عليه بعد أن جعل الزيتون فوق الذهب وحط الفص معه في مطر، وجلس هو والخولي يتحدثان وأيقن بجمع شمله وقربه من أهله وقال في نفسه إذا وصلت إلى جزيرة الأبنوس أسافر منها إلى بلاد أبي وأسأل عن محبوبتي بدور فيا ترى رجعت إلى بلادها أو سافرت إلى بلاد أبي أو حدث لها حادث في الطريق ثم جلس قمر الزمان ينتظر انقضاء الأيام وحكى للخولي حكاية الطيور وما وقع بينهما.
فتعجب الخولي من ذلك ثم ناما إلى الصباح فأصبح الخولي ضعيفاً، واستمر على ضعفه يومين وفي ثالثيوم اشتد به الضعف حتى يئسوا من حياته فحزن قمر الزمان على الخولي، فبينما هو كذلك إذا بالريس والبحرية قد أقبلوا وسألوا عن الخولي فأخبرهم بضعفه فقالوا أين الشاب الذي يريد السفر معنا إلى جزيرة الآبنوس فقال لهم قمر الزمان هو المملوك الذي بين أيديكم ثم أمرهم بتحويل الأمطار إلى المركب فنقلوها إلى المركب، وقالوا لقمر الزمان أسرع فإن الريح قد طاب.
فقال لهم سمعاً وطاعة ثم نقل زوادته إلى المركب، ورجع إلى الخولي يودعه فوجده في النزاع الأخير، فجلس عند رأسه حتى مات وغمضه وجهزه ووراه في التراب ثم توجه إلى المركب فوجدها أرخت القلوع وسارت ولم تزل تشق البحر حتى غابت عن عينه فصار قمر الزمان مدهوشاً حيران ثم رجع إلى البستان وهو مهموم مغموم وحثا التراب على رأسه، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان رجع إل البستان وهو مهموم مغموم بعد أن سافرت المركب واستأجر البستان من صاحبه، وأقام تحت يده رجلاً يعاونه على سقي الشجر وتوجه إلى الطابق ونزل إلى القاعة وعبأ الذهب الباقي في خمسين مطراً ووضع فوقه الزيتون عن المركب وسأل عن المركب فقالوا إنها لا تسافر إلا في كل سنة مرة واحدة فزاد به الوسواس وتحسر على ما جرى له لا سيما فقد الفص الذي للسيدة بدور فصار يبكي بالليل والنهار وينشد الأشعار، هذا ما كان من أمر قمر الزمان.
و أما ما كان من أمر المركب فإنه طاب لها الريح ووصلت إلى جزيرة الأبنوس واتفق بالأمر المقدور أن الملكة بدور كانت جالسة في الشباك فنظرت إلى المركب وقد رست في الساحل فخفق فؤادها وركبت هي والأمراء والحجاب وتوجهت إلى الساحل ووقفت على المركب وقد دار النقل في البضائع إلى المخازن فأحضرت الريس وسألته عما معه.
فقال: أيها الملك إن معي في هذه المركب من العقاقير والسفوفات والأكحال والمراهم والأدهان والأموال والأقمشة الفاخرة والبضائع النفيسة ما يعجز عن حمله الجمال والبغال وفيها من أصناف العطر والبهار من العود القاقلي والتمر الهندي والزيتون العصافيري ما يندر وجوده في هذه البلاد فاشتهت نفسها الزيتون، وقالت لصاحب المركب ما مقدار الذي معك من الزيتون? قال معي خمسون مطراً ملآنة، ولكن صاحبها ما حضر معنا والملك يأخذ ما اشتهاه منها، فقالت: أطلعوها في البر لأنظر إليها فصاح الريس على البحرية فطلعوا الخمسين مطراً وأعطيكم ثمنها مهما كان.
فقال الريس: هذا ما له في بلادنا قيمة ولكن صاحبها تأخر عنا وهو رجل فقير الحال، قالت: وما مقدار ثمنها، قال: ألف درهم، قالت: آخذها بألف دينار، ثم أمرت بنقلها إلى القصر، فلما جاء الليل أمرت بإحضار مطر فكشفته وما في البيت غيرها هي وحياة النفوس فحطت بين يديها طبقاً ووضعت فيه شيئاً من المطر فنزل في الطبق كوم من الذهب الأحمر، فقالت للسيدة حياة النفوس: ما هذا إلا ذهب، ثم اختبرت الجميع فوجدتها كلها ذهباً والزيتون كله ما يملأ مطراً واحداً وفتشت في الذهب فوجدت الفص فيه فأخذته وتاملته فوجدته الفص الذي كان في تكة لباسها وأخذه قمر الزمان، فلما تحققته صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة بدور لما رأت الفص صاحت من فرحتها وخرت مغشياً عليها، فلما افاقت قالت في نفسها إن هذا الفص كان سبباً في فراق محبوبي قمر الزمان ولكنه بشير الخير ثم أعلمت السيدة حياة النفوس بأن وجود بشارة الإجتماع، فلما أصبح الصباح جلست على كرسي المملكة وأحضرت ريس المركب، فلما حضر قببل الأرض بين يديها فقالت: أين خليتم صاحب هذا الزيتون? فقال: يا ملك الزمان تركناه في بلاد المجوس وهو خولي بستان، فقالت له: إن لم تأت به فلا تعلم ما يجري عليك وعلى مركبك من الضرر، ثم أمرت بالختم على مخازن التجار وقالت لهم إن صاحب هذا الزيتونغريمي ولي عليه دين وإن لم يأت لأقتلنكم جميعاً وأنهب تجارتكم، فأقبلوا على الريس ووعدوه بأجرة مركبه ويرجع ثاني مرة وقالوا خلصنا من هذا الغاشم، فنزل الريس في المركب وحل قلوعها وكتب الله له السلامة حتى دخل الجزيرة في الليل وطلع إلى البستان وكان قمر الزمان قد طال عليه الليل وتذكر محبوبته فقعد يبكي على ما جرى له وهو في البستان ثم إن الريس دق الباب على قمر الزمان ففتح الباب وخرج إليه فحمله البحرية ونزلوا به إلى المركب وحلوا القلوع فيافروا وساروا ولم يزالوا سائرين أياماً وليالي وقمر الزمان لا يعلم ما موجب ذلك فسألهم عن السبب. فقالوا له: أنت غريم الملك صاحب جزائر الآبنوس صهر الملك أرمانوس وقد سرقت ماله يا منجوس، فقال: والله عمري ما دخلت هذه البلاد ولا أعرفها، ثم إنهم ساروا به حتى أشرفوا على جزائر الأبنوس وطلعوا به على السيدة بدور، فلما رأته عرفته قالت: دعوه عند الخدام ليدخلوا به الجمام وأفرجت عن التجار وخلعت على الريس خلعة تساوي عشرة آلاف دينار ودخلت على السيدة حياة النفوس واعلمتها بذلك، وقالت لها اكتمي الخبر حتى أبلغ مرادي وأعمل عملاً يؤرخ ويقرأ بعدنا على الملوك والرعايا وقد أمرت أن يدخلوا بقمر الزمان الخمام فدخلوا به وألبسوه لبس الملوك ولما طلع قمر الزمان من الحمام كأنه غصن بان أو كوكب يخجل بطلعته القمران وردت روحه إليه ودخل القصر.
فلما نظرته صبرت قلبها حتى يتم مرادها وأنعمت عليه بمماليك وخدم وجمال وبغال وأعطته خزانة مال ولم تزل ترقي قمر الزمان من درجة إلى درجة حتى جعلته خازندار وسلمت إليه الأموال وأقبلت عليه وقربته منها وأعلمت الأمراء بمنزلته فأحبوه جميعهم وصارت الملكة بدور كل يوم تزيد له في المرتبات وقمر الزمان لا يعرف سبب تعظيمها له ومن كثرة الأموال صار يهب ويتكرم ويخدم الملك أرمانوس حتى أحبه وكذلك أجبته الأمراء والخواً والعوام وصاروا يحلفون بحياته، كل ذلك وقمر الزمان يتعجب من تعظيم الملكة بدور له ويقول في نفسه والله إن هذه المحبة لا بد لها من سبب وربما يكون هذا الملك إنما يكرمني هذا الإكرام الزائد لأجل غرض فاسد فلا بد أن أستأذنه وأسافر من بلاده.
ثم إنه توجه إلى الملكة بدور وقال لها: أيها الملك إنك أكرمتني إكرماً زائداً، ومن تمام الإكرام أن تأذن لي بالسفر وآخذ معي جميع ما انعمت علي، فتبسمت الملكة بدور وقالت له: ما حملك على طلب الأسفار واقتحام الأخطار وأنت في غاية الإكرام ومزيد الأنعام? فقال لها قمر الزمان: أيها الملك السعيد إن هذا الإكرام إذا لم يكن له سبب فإنه أعجب العجب خصوصاً وقد أوليتني من المراتب ما استحق أن يكون للشيوخ الكبار مع إنني من الأطفال الصغار، فقالت له الملكة بدور: سبب ذلك أني أحبك لفرط جمالك الفائق وبديع حسنك الرائق وإن أمكنتني مما أريد منك أزيدك إكراماً وعطاء وإنعاماً وأجعلك وزيراً على صغر سنك كما جعلني الناس سلطاناً عليهم وانا في هذا السن ولا عجب اليوم في رئاسة الأطفال ولله در من قال:
كأن زماننا من قوم لوط           له شغف تقديم الصغار

فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام خجل واحمرت خدوده حنى صارت كالضرام وقال: لا حاجة لي بهذا الإكرام المؤدي إلى ارتكاب الحرام بل أعيش فقيراً من المال غنياً بالمروءة والكمال، فقالت له الملكة بدور: أنا لا أغتر بورعك الناشيء عن التيه والدلال ولله در من قال:
ذاكرته عهد الوصال فقال لي              كم ذا تطيل من الكلام المؤلم
فأريته الدينار أنـشـد قـائلاً                 أين المفر من القضاء المبرم

فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام قال: أيها الملك إنه لا عادة ليبهذه الفعال ولا طاقة لي على حمل الأثقال التي يعجز حملها أكبر مني فكيف بي على صغر سني? فلما سمعت كلامه الملكة بدور تبسمت وقالت:إن هذا الشيء عجاب كيف يظهر الخطأ من خلال الصواب إذا كنت صغيراً فكيف تخشى الحرام وارتكاب الآثام وانت لم تبلغ حد التكليف ولا مؤاخذة في ذنب الصغير ولا تعنيف فقد ألزمت نفسك الحجة بالجدال وخفت على عليك كلمة الوصال فلا تظهر بعد ذلك امتناعاً ولا نفوراً وكان أمراً لله قدراً مقدوراً فانا أحق منك بخشية الوقوع وقد أجاد من قال:
عضوي كبير والصغير يقول لي           اطعن به الأحشا وكن صنـديدا
فأجبته ذا لا يجوز فقـال لـي               عندي يجوز فنكتـه تـقـلـيدا

فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام تبدل الضياء في وجهه بالظلام وقال: أيها الملك إنه يوجد عندك من النساء والجواري الحسان ولا يوجد له نظير في هذا الزمان فهلا استغنيت بذلك عني فمل إلى ما شئت منهن ودعني فقالت: إن كلامك صحيح ولكن لا يشتفي بهن من عشقك، ألم ولا تبريح وإذا فسدت المزجة والطبيعة فهي لغير النصح سميعة فاترك الجدال واسمع قول من قال:
أما ترى السوق قد صفت فواكهه                  للتين قوم وللـجـمـيز أقـوام
و يقول آخر:
وصامتة الخلخال رن وشـاحـهـا           فهذا قد استغنى وذا يشتكي الفقرا
تريد السلوى عنك جهلاً بحسنـهـا                  وما كنت أرضى بعد إيماني الكفرا
وحق عذار بزردي بقفـاصـهـا             لما خدعتني عنك غـانـية عـذرا
و قول الآخر:
يا فريد الجمال حـبـك دينـي                واختياري على جميع المذاهب
قد تركت النساء لأجلك حتـى               زعم الناس أنني اليوم راهـب
و يقول الآخر:
سلا خاطري عن زينـب ونـوار            بوردة خـده فـوق أس عـذار
وأصبحت بالظبى المفرطق مغرما                  ولا رأى لي في عشق ذات سوار
أنيسي في النادي وفي خلوتي معـا                 خلاف أنيسي فـي قـرارة داري
فيا لا ئمي في هجر هند وزينـب           وقد لاح عذري كالمصباح الساري
أترضى بأن أمسي أسـير أسـيرة          محـصـنة أو مـن وراء جـدار
و قول الآخر:
جادت بفرج نـاعـم                 فقلت إني لـم أنـك
فانصـرفـت قـائلة                  يؤفك عنك من أفك
النيل من قـدام فـي                 هذا الزمان قد ترك
ودورت لي فـقـحة                 مثل اللجين المنسبك
أحسنت يا سـيدتـي                أحسنت لا فجعت بك
أحسنت يا أوسع مـن              فتوح مولانا الملـك
و قول الآخر:
يستغفر الناس بـأيديهـم           وهن يستغفرن بالأرجل
فيا له من عمل صالـح            يرفعه الله إلى أسفـل

فلما سمع قمر الزمان منها هذه الأشعار وتحقق أنه ليس له مما أرادته فراراً، قال: يا ملك الزمان إن كان ولا بد فعاهدني على أنك لا تفعل بي هذا الأمر إلا مرة واحدة وإن كان ذلك لا يجد في إصلاح الطبيعة الفاسدة وبعد ذلك لا تسألني فيه على الأبد فلعل الله يصلح مني ما فسد، فقالت: عاهدتك على ذلك راجياً إن الله علينا يتوب ويمحو بفضله عنا عظيم الذنوب فإن نطاق أفلاك المغفرة لا يضيق عن أن يحيط بنا ويكفر عنا ما عظم من سيئاتنا، ويخرجنا إلى نور الهدى من ظلام الضلال وقد أجاد وأحسن من قال:
توهم فينا الناس شيئاً وصممت            عليه نفوس منهم وقـلـوب
تعالى نحقق ظنهم لنريحهـم                من الإثم فينا مرة ونـتـوب

ثم أعطته المواثيق والعهود وحلفت له بواجب الوجود أنه لايقع بينها وبينه هذا الفعل إلا مرة في الزمان وإن ألجأهما غرامه إلى الموت والخسران فقام معها على هذا الشرط إلى محل خلوتها لتطفئ نيران لوعتها، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم حل سراويله وهو في غاية الخجل وعيونه تسيل من شدة الوجل فتبسمت وأطلعته معها على السرير وقالت له: لا ترى بعد هذه الليلة من نكير ومالت عليه بالتقبيل والعناق والتفاف ساق على ساق، ثم قالت له: مد يدك بين فخذي إلى المعهود لعله ينتصب إلى القيام من السجود فبكى وقال: أنا لا أحسن شيئاً من ذلك، فقالت: بحياتي تفعل ما أمرتك به مما هناك، فمد يده وفؤاده زفير فوجدها ألين من الزبد وأنعم من الحرير فاستلذ وجال بيده في جميع الجهات حتى وصل إلى قبة كثيرة البركات والحركات، وقال في نفسه: لعل هذا الملك خنثى وليس بذكر ولا أنثى، ثم قال: أيها الملك إني لم أجد لك آلة مثل آلات الرجال فما حملك على هذه الفعال? فضحكت الملكة بدور حتى استلقت على قفاها، وقالت: يا حبيبي ما أسرع من نسيت ليالي بتناها وعرفته بنفسها فعرف أنها زوجته الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور فاحتضنها واحتضنته وقبلها وقبلته، ثم اضجعن على فراش الوصال، وتناشدت أقوال من قال:
لما دعته إلى وصالي عـطـفة              من معتطف بتعطف متواصي
وسقت قساوة قلبها من لينـهـا            فأجاب بعد ممنع وتعـاصـي
خشي العواذل أن تـراه إذا بـدا            قاسى بعدة آمـن الإرهـاص
شكت القصور رواد فاقد حملت            أقدامه في المشي حمـل قـلاً
متقل الصمصام من ألحـاظـه               ومن الدجى مـتـدرعـاً بـلاً
وشذاء بشرني بسعـد قـدومـه            ففرت مثل الطير من أقفاصي
وفرشت حدي في الطريق لنعله           فشفي بأثمد تربها أرمـاصـي
وعقدت ألوية الوصال معانـقـاً             وفككت عقدة حظي المتعاصي
وأقمت أفراحاً أجاب نـداءهـا               طرب صفاً عن شائب الأنغاص
والبدر نقط بالنجوم الثغـر مـن             حبب على وجه الطلا رقـاص
وعكفت في محراب لذاتها على            ما من تعاطيه يتوب العاصـي
قسماً بآيات الضحى من وجهـه           إلى أنس فيه سورة الإخـلاص

ثم إن الملكة بدور أخبرت قمر الزمان بجميع ما جرى لها من الأول إلى الآخر وكذلك هو أخبرها بجميع ما جرى له وبعد ذلك انتقل معها إلى العتاب وقال لها: ما حملك على ما فعلته بي في هذه الليلة? فقالت: لا تؤاخذني كان قصدي المزاح ومؤيد البسط والأنشراح، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح أرسلت الملكة بدور إلى الملك أرمانوس والد الملكة حيا النفوس وأخبرته بحقيقة أمرها وأنها زوجة قمر الزمان وأخبرته بقصتهما وبسبب افتراقهما من بعضهما وأعلمته أن ابنته حياة النفوس بكر على حالها.
فلما سمع الملك أرمانوس صاحب جزائر الآبنوس قصة الملكة بدور بنت الملك الغيور وتعجب منها غاية العجب وأمر أن يكتبوها بماء الذهب، ثم التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا ابن الملك هل لك أن تصاهرني وتتزوج ابنتي حياة النفوس? فقال له: حتى أشاور الملكة بدور فإن لها علي فضلاً غير محصور، فلما شاورها قالت له: نعم الرأي هذا فتزوجها وأكون أنا لها جارية لأن لها معروفاً وإحساناً وخيراً وامتناناً وخصوصاً ونحن في محلها وقد غمرنا إحسان أبيها، فلما رأى قمر الزمان أن الملكة بدور مائلة إلى ذلك ولم يكن عندها غيرة من حياة النفوس اتفق معها على هذا الأمر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان اتفق مع زوجته الملكة بدور على هذا الأمر وأخبر الملك أرمانوس بما قالتهالملكة بدور من أنه تحب ذلك وتكون جارية حياة النفوس، فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام من قمر الزمان فرح فرحاً شديداً ثم خرج وجلس على كرسي مملكته وأحضر جميع الوزراء والأمراء والحجاب وأرباب الدولة وأخبرهم بقصة قمر الزمان وزوجته الملكة بدور من الأول إلى الآخر وأنه يريد أن يزوج ابنته حياة النفوس إلى قمر الزمان ويجعله سلطاناً عليهم عوضاً عن زوجته الملكة بدور، فقالوا جميعاً حيث كان قمر الزمان هو زوج الملكة بدور التي كانت سلطاناً علينا قبله ونحن نظن أنها صهر ملكنا أرمانوس فكلنا نرضاه سلطاناً علينا ونكون له خدماً ولا نخرج عن طاعته، ففرح الملك أرمانوس فرحاً شديداً ثم أحضر القضاة والشهود ورؤساء الدولة وعقد قمر الزمان على ابنته الملكة حياة النفوس، ثم إنه أقام الأفراح وأولم اللائم الفاخرة وخلع الخلع السنية على جميع الأمراء والمساكين وأطلق جميع المحابيس واستبشر العالم بسلطنة الملك قمر الزمان وصاروا يدعون له بدوام العز والإقبال والسعادة والإجلال.
ثم إن قمر الزمان لما صار سلطاناً أزال المكوس وأطلق من في الحبوس وسار فيهم سيرة حميدة وأقام مع زوجته في هناء وسرور ووفاء وحبور يبيت عند كل واحدة منهما ليلة، ولم يزل على ذلك مدة من الزمان وقد انجلت عنه الهموم والأحزان ونسي أباه الملك شهرمان وما كان له من عز وسلطان حتى رزقه الله من زوجتيه بولدين ذكرين مثل القمرين النيرين أكبرهما من الملكة بدور وكان اسمه الملك الأمجد وو أصغرهما من الملكة حياة النفوس وكان اسمه الملك الأسعد أجمل من أخيه الأمجد، ثم إنهما تربيا في العز والدلال والأدب والكمال وتعلما العلم والسياسة والفروسية حتى صارا في غاية الكمال ونهاية الحسن والجمال وافتتن بهما النساء والجال وصار لهما من العمر نحو سبعة عشر عاماً وهما متلازمان فيأكلان ويشربان سواء ولا يفترقان عن بعضهما ساعة من الساعات ولا وقتاً من الأوقات وجميع الناس تحسدهما على ذلك.
و لما بلغا مبلغ الرجال واتصفا بالكمال صار أبوهما إذا سافر يجلسهما على التعاقب في مجلس الحكم فيحكم كل واحد منهما بين الناس، واتفق بالقدر المبرم أن والقضاء المحتم أن محبة الأسعد الذي هو ابن حياة النفوس وقعت في قلب الملكة بدور زوجة أبيه وأن محبة الأمجد الذي هو ابن الملكة بدور وقعت في قلب حياة النفوس زوجة أبيه فصارت كل واحدة من المرأتين تلاعب ابن ضرتها وتقبله وتضمه إلى صدرها وإذا رأت ذلك أمه تظن أنه من الشفقة ومحبة الأمهات لأولادهن، وتمكن العشق من قلوب المرأتين وافتتنا بالولدين فصارت كل واحدة منهن إذا دخل عليها ابن ضرتها تضمه إلى صدرها وتود انه لا يفارقها، وطال عليهما المطال ولم يجدا سبيلاً إلى الوصال والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضع الحكم كل واحد منهما يوماً على عادته.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك توجه إلى الصيد والقنص وأمر ولديه أن يجلسا في موضعه للحكم كل واحد يوماً على عادتهما فجلس للحكم في اليوم الأول الأمجد ابن الملكة بدور فأمر ونهى وولى وعزل وأعطى ومنع فكتبت له الملكة حياة النفوس أم الأسعد مكتوباً تستعطفه فيه وتوضح له أنها متعلقة به ومتعشقة فيه وتكشف له الغطاء وتعلمه أنها تريد وصاله فأخت ورقة وكتبت فيها هذه السجعات: من المسكينة العاشقة الحزينة المفارقة التي ضاع بحبك شبابها وطال فيك عذابها ولو وصفت لك طول الأسف وما أقاسيه من اللهف وما بقلبي من الشغف وما أنا فيه من البكاء والأنيني وتقطع القلب الحزين وتوالي الغموم وتتابع الهموم وما أجده من الفراق والكآبة والإحتراق أطال شرحه في الكتاب وعجزت عن حصره الالحساب وقد ضاقت علي الأرض والسماء ولا لي في غيرك أمل ولا رجاء فقد أشرفت على الموت وكابدت أهوال القوت وزاد بي الإحتراق وألم الهجر والفراق ولو وصفت ما عندي من الأشواق لفاقت عنه الوراق ثم بعد ذلك كتبت هذين البيتين:
لو كنت أشرح ما ألقها من حـرق                   ومن سقام ومن وجد ومن قـلـق
لم يبق في الأرض قرطاس ولا قلم                 ولا مداد ولاشـيء مـن الـورق

ثم إن الملكة حياة النفوس لفت تلك الورقة في رقعة من غالي الحرير مضمخة بالمسك والعنبر ووضعت معها جدائل شعرها التي تستغرق الأموال بسعرها ثم لفتها وأعطتها للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنها أعطت ورقة المواصلة للخادم وأمرته أن يوصلها إلى الملك الأمجد فسار ذلك الخادم وهو لا يعلم ما خفي له في الغيب وعلام الغيوب يدبر الأمور كيف يشاء فلما دخل الخادم على الملك الأمجد قبل الأرض بين يديه وناوله المنديل وبلغه الرسالة فتناول الملك الأمجد المنديل من الخادم وفتحه فرأى الورقة ففتحها وقرأها فلما فهم معناها علم أن امرأة أبيه في عينها الخيانة وقد خانت أباه الملك قمر الزمان في نفسها فغضب غضباً شديداً وذم النساء على فعلهن وقال: لعن الله النساء الخائنات الناقصات عقلاً وديناً. ثم إنه جرد سيفه وقال للخادم: ويلك يا عبد السوء أتحمل الرسالة المشتملة على الخيانة من زوجة سيدك والله أنه لا خير فيك يا أسود اللون والصحيفة يا قبيح المنظر والطبيعة السخيفة ثم ضربه بالسيف في عنقه فعزل رأسه عن جثته وطوى المنديل على ما فيه ووضعه في جيبه ثم دخل على أمه وأعلمها بما جرى وسبها وشتمها وقال: كلكن أنجس من بعضكن والله العظيم لولا أني أخاف إساءة الأدب في حق والدي قمر الزمان وأخي الملك الأسعد لأدخلن وأضربن عنقها كما ضربت عنق خادمها ثم إنه خرج من عند الملكة بدور وهو في غاية الغيظ.
فلما بلغ الملكة حياة النفوس زوجة أبيه ما فعل بخادمها سبته ودعن عليه وأضمرت له المكر فبات الملك الأمجد في تلك الليلة ضعيفاً من الغيظ والقهر والفكر ولم يهنأ له أكل ولا منام فلما أصبح الصباح خرج أخوه الملك الأسعد وجلس في مجلس أبيه الملك قمر الزمان ليحكم بين الناس وأصبحت أمه ضعيفة بسبب ما سمعته عن الملك الأمجد من قتله للخادم ثم إن الملك الأسعد لما جلس للحكم في ذلك اليوم حكم وعدل وولى وعزل وأمر ونهى وأعطى ووهب ولم يزل جالساً في مجلس الحكم إلى قرب العصر ثم إن الملكة بدور أم الملك الأمجد أرسلت إلى عجوز من العجائز الماكرات وأظهرتها على ما في قلبها وأخذت ورقة لتكتب فيها مراسلة للملك الأسعد ابن زوجها وتشكو إليه من كثرة محبتها ووجدها به.
فكتبت له هذه السجعات: ممت تلفت وجداً وشوقاً، إلى أحسن الناس خلق وخلقاً المعجب بجماله التائه التائه بدلاله المعرض عن طلب وصاله الزاهد في القرب ممن خضع وذل إلى من جفا ومل الملك الأسعد صاحب الحسن الفائق والجمال الرائق والوجه الأقمر والجبين الأزهر والضياء الأبهر هذا كتابي إلى من حبه أذاب جسمي ومزق جلدي وعظمي، اعلم أنه قد عيل صبري وتحيرت أمري وأقلقني الشوق والبعاد وأجفاني الصبر والرقاد ولازمني الحزن والسهاد وبرح بي الوجد والغرام وحلول الضنى والسقام فالروح تفديك وإن كان قتل الصب يرضيك والله يبقيك ومن كل سوء يقيك، ثم بعد تلك السجعات كتبت هذه الأبيات:
حكم الزمان بأننـي عـاشـق                 يا من محاسنه كبدر يشـرق
حزت الفصاحة والملاحة كلها             وعليك من دون البرية رونق
ولقد رضيت بأن تكون معذبي             فعسى علي بنظرة تتصـدق
من مات فيك صبابة فله الهنا              لا خير فيمن لا يحب ويعشق
ثم كتبت أيضاً هذه الأبيات:
إليك أسعد أشكو من لهـيب جـوى                  فارحم متيمة بالشوق تـلـتـهـب
إلى متى وأيادي الوجد تلعـب بـي                   والعشق والفكر والتسهيد والنصـب
طوراً ببحر وطوراً أشتكي لهـبـاً          في مهجتي إن ذا يا منيتيت عجـب
يا لائمي خل لومي والتكمس هربـاً                 من الهوى فدموع العين تنسـكـب
كم صحت وجداً من الهجران واحربا               فلم يفدني بذاك الـويل والـحـرب
أمرضتني بصدود لست أحـمـلـه          أنت الطبيب فاسعفني بمـا يجـب
يا عاذلي كف عن عذلي مـحـاذرة                   كيلا يصيبك من داء الهوى عطـب

ثم إن الملكة بدور ضمخت ورقة الرسالة بالمسك الأذفر ولفتها في جدائل شعرها وهي من الحرير العراقي وشراريبها من قضبان الزمرد الأخضر مرصعة بالدر والجوهر، ثم سلمتها إلى العجوز وأمرتها أن تعطيها للملك الأسعد ابن زوجها الملك قمر الزمان، فراحت العجوز من أجل خاطرها ودخلت على الملك الأسعد من وقتها وساعتها وكان في خلوة عند دخولها فناولته الورقة بما فيها وقد وقفت ساعة زمانية تنتظر رد الجواب فعند ذلك قرأ الملك الأسعد الورقة وفهم ما فيها ثم بعد ذلك لف الورقة في الجدائل ووضعها في جيبه وغضب غضباً شديداً ما عليه من مزيد ولعن النساء الخائنات ثم إنه نهض وسحب السيف من غمده وضرب رقبة العجوز فعزل رأسها عن جثتها وبعد ذلك قام وتمشى حتى دخل على أمه حياة النفوس فوجدها راقدة في الفراش ضعيفة بسبب ما جرى لها من الملك الأمجد فشتمها الملك الأسعد ولعنها ثم خرج من عندها فاجتمع بأخيه الملك الأمجد وحكى له جميع ما جرى له من امه الملكة بدور وأخبره أنه قتل العجوز التي جاءت له بالرسالة، ثم قال له: والله يا أخي لولا حيائي منك لكنت دخلت في هذه الساعة وقطعت رأسها من بين كتفيها، فقال له الملك الأمجد: والله يا أخي أنه قد جرى لي بالأمس لما جلست على كرسي المملكة مثل ما جرى لك في هذا اليوم فإن أمك أرسلت لي رسالة بمثل مضمون هذا الكلام، ثم أخبره بجميع ما جرى له مع أمه الملكة حياة النفوس وقال له: يا أخي لولا حيائي منك لدخلت إليها وفعلت بها ما فعلت بالخادم، ثم إنهما باتا يتحدثان بقية تلك الليلة ويلعنان النساء الخائنات ثم تواصيا بكتمان هذا الأمر لئلا يسمع به أبوهما قمر الزمان فيقتل المرأتين ولم يزالا في غم تلك الليلة إلى الصباح.
فلما أصبح الصباح أقبل الملك بجيشه من الصيد وطلع إلى قصره ثم صرف الأمراء إلى حال سبيلهم وقام ودخل القصر فوجد زوجتيه راقدتين على الفراش وهما في غاية الضعف، وقد عملتا لولديهما مكيدة واتفقتا على تضييع أرواحهن لأنهن فضحن أنفسهن معهما وقد خشين أن يصيرا تحت ذلتهما فلما رآهما الملك على تلك الحالة، قال لهن: ما لكن? فقامتا إليه وقبلتا يديه وعكستا عليه المسألة وقالتا له: اعلم أيها الملك إن ولديك اللذين تربيا في نعمتك قد خاناك في زوجتيك وأركباك العار. فلما سمع الملك قمر الزمان من نسائه هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً واغتاظ غيظاً شديداً حتى طار عقله من شدة الغيظ وقال لنسائه: أوضحا لي هذه القضية? فقالت له الملكة بدور: اعلم يا ملك الزمان أن ولدك الأسعد ابن حياة النفوس له مدة في الأيام وهو يراسلني ويكاتبني ويراودني عن الزنا وأنا أنهاه عن ذلك فلم ينته فلما سافرت أنت هجم علي وهو سكران والسيف في يده فخفت أن يقتلني إذا مانعته كما قتل خادمي فقضى أربه مني غصباً وإن لم تخلص حقي منه أيها الملك قتلت نفسي بيدي وليس لي حاجة بالحياة في الدنيا بعد هذا الفعل القبيح وأخبرته حياة النفوس أيضاً بمثل ما أخبرته به ضرتها بدور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حياة النفوس أخبرت زوجها الملك قمر الزمان بمثل ما أخبرته به الملكة بدور وقالت له: أنا الأخرى جرى لي مع ولدك الأمجد كذلك ثم إنها أخذت في البكاء والنحيب وقالت له: إن لم تخلص لي حقي منه أعلمت أبي الملك أرمانوس بذلك ثم إن المرأتين بكتا قدام زوجهما الملك قمر الزمان بكاءً شديداً، فلما سمع كلامهما اعتقد أنه حق فغضب غضباً شديداً ما له من مزيد فقام وأراد أن يهجم على أولاده الاثنين ليقتلهما فلقيه عمه الملك أرمانوس وقد كان داخلاً في تلك الساعة ليسلم عليه لما علم أنه قد أتى من الصيد فرآه والسيف مشهور في يده والدم يقطر من مناخيره من شدة غيظه فسأله عما به فأخبره بجميع ما جرى من ولديه الأمجد والأسعد، ثم قال له: وهاأنا داخل إليهما لأقتلهما أقبح قتلة وأمثل بهما أقبح مثلة. فقال له الملك أرمانوس وقد اغتاظ منهما أيضاً ونعم ما تفعل يا ولدي فلا بارك الله فيهما ولا في أولاد تفعل هذه الفعال في حق أبيهما ولكن يا ولدي صاحب المثل يقول: من لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب وهما ولداك على كل حال وينبغي أن تقتلهما بيدك، فتجرع غصتهما وتندم بعد ذلك على قتلهما حيث لا ينفعك الندم ولكن أرسلها مع أحد المماليك ليقتلهما في البرية وهما غائبان عن عينيك.
فلما سمع الملك قمر الزمان من عمه الملك أرمانوس هذا الكلام رآه صواباً فأغمد سيفه ورجع وجلس على سرير مملكته ودعا خازنداره وكان شيخاً كبيراً عارفاً بالأمور وثبات الدهور وقال له: أدخل إلي ولدي الأمجد والأسعد وكتفها كتافاً جيداً واجعلهما في صندوقين واحملهما على بغل واركب أنت واخرج بهما إلى وسط البرية واذبحهما واملأ لي قنينتين من دمهما وائتني بهما عاجلاً، فقال له الخازندار: سمعاً وطاعة، ثم نهض من وقته وساعته وتوجه إلى الأمجد والأسعد فصادفهما في الطريق، وهما خارجان في دهليز القصر وقد لبسا قماشهما وأفخر ثيابهما، وأرادا التوجه إلى والدهما الملك قمر الزمان ليسلما عليه ويهنآه بالسلامة عند قدومه من السفر إلى الصيد، فلما رآهما الخازندار قبض عليهما، وقال لهما: يا ولدي اعلما أن عبد مأمور وإن أباكما أمرني بأمر فهل أنتما طائعان لأمره، فقالا: نعم، فعند ذلك تقدم إليهما الخازندار وكتفهما ووضعهما في صندوقين وحملهما على ظهر بغل وخرج بهما من المدينة ولم يزل سائراً بهما في البرية إلى قريب الظهر فأنزلهما في مكان أقفر موحش ونزل عن فرسه وحط الصندوقين عن ظهر البغل وفتحهما وأخرج الأمجد والأسعد منهما. فلما نظر إليهما بكى بكاءً شديداً على حسنهما وجمالهما وبعد ذلك جرد سيفه وقال لهما: والله يا سيدي إنه يعز علي أن أفعل بكما فعلاً قبيحاً ولكن أنا معذور في هذه الأمور لأنني عبد مأمور وقد أمرني والدكما الملك قمر الزمان بضرب رقابكما فقالا له: أيها الأمير افعل ما أمرك به الملك فنحن صابرون على ما قدره الله عز وجل علينا وأنت في حل من دمنا، ثم إنهما تعانقا وودعا بعضهما وقال الأسعد للخازندار: بالله عليك يا عم أنك لا تجرعني غصة أخي ولا تسقني حسرته بل اقتلني أنا قبله ليكون ذلك أهون علي، وقال الأمجد للخازندار مثل ما قاله الأسعد، واستعطف الخازندار أن يقتله قبل أخيه وقال له: إن أخي أصغر مني فلا تذقني لوعته ثم بكى كل منهما بكاءً شديداً ما عليه من مزيد وبكى الخازندار لبكائهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار بكى لبكائهما، ثم إن الأخوين تعانقا وودعا بعضهما، وقال أحدهما للآخر إن هذا كله من كيد الخائنتين أمي وأمك وهذا ما جرى مني في حق أمك وجزاء ما جرى منك في حق أمي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه لراجعون، ثم إن الأسعد اعتنق أخاه وصعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
يا من إليه المشتكى والمـفـزع             أنت المعد لكل مـا يتـوقـع
ما لي سوى قرعي لبابك حـيلة            ولئن وددت فأي بـاب أقـرع
يا من خزائن فضله في قول كن           أمنن فإن الخير عندك أجمـع
فلما سمع الأمجد بكاء أخيه بكى وضمه إلى صدره وأنشد هذين البيتين:
يا من أياديه عندي غير واحدة            ومن مواهبه تنمو من العدد
ما نابني من زماني قط نائبة               إلا وجدتك فيها آخذا بـيدي

ثم قال الأمجد للخازندار: سألتك بالواحد القهار الملك الستار أن تقتلني قبل أخي الأسعد لعل نار قلبي تخمد ولا تدعها تتوقد، فبكى الأسعد وقال: ما يقتل قبل إلا أنا، فقال الأمجد: الرأي أن تعتنقني وأعتنقك حتى ينزل السيف علينا فيقتلنا دفعة واحدة، فلما اعتنقا الاثنان وجهاً لوجه التزما ببعضهما، وشدهما الخازندار وربطهما بالحبال وهو يبكي، ثم جرد سيفه وقال: والله يا سيدي أنه يعز علي قتلكما فهل لكما من حاجة فأقضيها أو وصية فأنفذها أورسالة فأبلغها? فقال الأمجد: ما لنا حاجة، وأما من جهة الوصية فإني أوصيك أن تجعل أخي الأسعد من تحت وأنا من فوق لأجل أن تقع علي الضربة أولاً فإذا فرغت من قتلنا ووصلت إلى الملك وقال لك: ماسمعت منهما قبل موتهما فقل له: إن ولديك يقرآنك السلام ويقولان لك أنك لا تعلم هل هما بريئان أو مذنبان وقد قتلتهما وما تحققت منهما وما نظرت في حالهم ثم أنشد هذين البيتين:
إن النساء شياطين خلقن لـنـا              نعوذ بالله من كيد الشياطـين
فهن أصل البليات التي ظهرت             بين البرية في الدنيا وفي الدين

ثم قال الأمجد: ما نريد منك إلا أن تبلغه هذين البيتين، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد قال للخازندار: ما نريد منك أن تبلغه إلا هذين البيتين اللذين سمعتهما وأسألك بالله أن تطول بالك علينا حتى أنشد لأخي هذين البيتين الأخرين ثم بكى بكاءً شديداً وجعل يقول:
في الـذاهـبـين الأولـين            من الملوك لنا بـصـائر
كم قد مضى في ذا الطريق                 من الأكابر والأصـاغـر
فلما سمع الخازندار من الأمجد هذا الكلام بكى بكاءً شديداً حتى بل لحيته، وأما الأسعد فإنه تغرغرت عيناه بالعبرات وأنشد هذه الأبيات:
الدهر يفجع بعد العـين بـالأثـر             فما البكاء على الأشباح والصـور
فما الليالي أقال الله عـثـرتـنـا               من الليالي وخانتهـا يد الـغـدر
فقد أضمرت كيدها لابن الزبير وما                 رعت ليأذنه بالبيت والـحـجـر
وليتها إذ ندت عمـراً بـخـارجة            فدت علياً بمن شاءت من البشـر
ثم خضب خده بدمعه المرار وأنشد هذه الأشعار:
إن الليالي والأيام قد طـبـعـت               على الخداع وفيها المكر والحيل
سراب كل نياب عندهـا شـئت              وهول كل ظلال عندها كحـل
ذبني إلى الدهر فليكره سجيتـه            ذنب الحسام إذ ما أحجم البطـل
ثم صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
يا طالب الدنيا الـدنـيا إنـهـا                 شرك الردى أو قرارة الأكدار
دار متى أضحكت في يومهـا               أبكت غداً تباً لـهـا مـن دار
غاراته لا تنقضي وأسـيرهـا               لا يفتدي بجلائل الأخـطـار
كم مزده بغروره حتـى غـدا               متفردا متجاوز الـمـقـدار

فلما فرغ الأسعد من شعره اعتنق أخاه الأمجد حتى صارا كأنهما شخص واحد وسل الخازندار سيفه وأراد أن يضربهما وإذا بفرسه جفل في البر وكان يساوي ألف دينار وعليه سرج عظيم يساوي جملة من المال، فألقى السيف من يده وذهب وراء فرسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار وقد التهب فؤاده وما زال يجري خلفه ليمسكه حتى دخل في غابة فدخل وراءه في تلك الغابة فشق الجواد في وسط الغابة ودق الأرض برجليه، فعلا الغبار وارتفع وثار فأما الفرس فإنه شخر ونخر وصهل وزمجر وكان في تلك الغابة أسد عظيم الخطر قبيح المنظر عيونه ترمي بالشرر له وجه عبوس وشكل يهول النفوس فالتفت الخازندار فرأى الأسد قاصداً إليه فلم يجد له مهرباً من يديه ولم يكن معه سيف فقال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما حصل لي هذا الضيق إلا بذنب الأمجد والأسعد وإن هذا السفرة مشؤومة من أوله، ثم إن الأمجد والأسعد قد حمي عليهما الحر فعطشا عطشاً شديداً، حتى نزلت ألسنتهما واستغاثا من العطش فلم يغثهما أحد، فقالا: يا ليتنا كنا قتلنا واسترحنا من هذا ولكن ما ندري أين جفل الحصان حتى ذهب الخازندار وراءه وخلانا مكتفين فلو جاءنا وقتلنا كان أريح لنا من مقاساة هذا العذاب.
فقال الأسعد: يا أخي اصبر فسوف يأتينا فرج الله سبحانه وتعالى ن فإن الحصان ما جفل إلا لأجل لطف الله بنا وما ضرنا غير هذا العطش ثم هز نفسه وتحرك يميناً وشمالاً فانحل كتافه فقام وحل كتاف أخيه ثم أخذ سيف الخازندار وقال لأخيه: والله لا تبرح من هذا حتى نكشف خبره ونعرف ما جرى له وشرعا يقتفيان الأثر فدلهما على الغابة فقالا لبعضهما: إن الحصان والخازندار ما تجاوزا هذه الغابة. فقال الأسعد لأخيه: قف هنا حتى أدخل الغابة وأنظرها، فقال الأمجد: ما اخليك تدخل فيها وحدك وما ندخل إلا جميعنا فإن سلمنا سلمنا سواء وإن عطبنا عطبنا سواء، فدخل الاثنان فوجدا الأسد قد هاجم الخازندار وهو تحته كانه عصفور ولكنه صار يبتهل إلى الله ويشير إلى نحو السماء فلما رآه الأمجد أخذ السيف وهجم على الأسد وضربه بالسيف بين عينيه فقتله ووقع مطروحاً على الأرض فنهض الخازندار وهو متعجب من هذا الأمر فرأى الأمجد والأسعد ولدي سيده واقفين فترامى على أقدامهما وقال لهما: والله يا سيدي ما يصلح أن أفرط فيكما بقتلكما فلا كان من يقتلكما فبروحي أفديكما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخازندار قال للأمجد والأسعد: بروحي أفديكما ثم نهض من وقته وساعته وأعتقهما وسألهما عن سبب فك وثاقهما وقدومهما فأخبراه أنهم عطشا وانحل الوثاق من أحدهما ففك الآخر بسبب خلوص نيتهما ثم إنهما اقتفيا الأثر حتى وصلا إليه، فلما سمع كلامهما شكرهما على ما فعلهما وخرج معهما إلى ظاهر الغابة، فقالا له: يا عم افعل ما امرك به أبونا. فقال: حاشا لله أن أصيبكما بضرر ولكن اعلما أني أريد أن أنزع ثيابكما وألبسكما ثيابي وأملأ قنينتين من دم الأسد ثم أروح إلى الملك وأقول له: إني قتلتهما، وأما أنتما فسيحا في البلاد وأرض الله واسعة واعلما يا سيدي أن فراقكما يعز علي، ثم بكى كل من الخازندار والغلامين وخلعا ثيابهما وألبسهما ثيابه وراح إلى الملك ود أخذ ذلك وربط قماش كل واحد منهما في بقجة معه وملأ القنينتين من دم الأسد وجعل البقجتين قدامه على ظهر الجواد ثم ودعهما وسارمتوجهاً إلى المدينة.و لم يزل سائراً حتى دخل على الملك وقبل الأرض بين يديه فرآه الملك متغير الوجه وذلك مما جرى له من الأسد فظن أن ذلك من قتل أولاده ففرح وقال له: هل قضيت على الشغل? قال: نعم يا مولانا، ثم ناوله البقجتين اللتين فيهما الثياب والقنينتين الممتلئتين بالدم فقال له الملك: ماذا رأيت منهما وهل أوصياك بشيء? قال: وجدتهما صابرين محتسبين لما نزل بهما وقد قالا لي: إن أبانا معذور فاقرئه منا السلام وقل له: أنت في حل من قتلنا ومن دمائنا ولكن نوصيك أن تبلغه هذين البيتين وهما:
إن النساء شياطين خلقن لـنـا              نعوذ بالله من كيد الشياطـين
فهن أصل البليات التي ظهرت             بين البرية في الدنيا وفي الدين
فلما سمع الملك من الخازندار هذا الكلام أطرق رأسه إلى الأرض ملياً وعلم أن كلام ولديه يدل على أنهما قد قتلا ظلماً ثم تفكر في مكر النساء ودواهيهن وأخذ النقجتين وفتحهما وصار يقلب ثياب أولاده ويبكي.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قمر الزمان لما فتح البقجتين صار يقلب ثياب أولاده وبكى فلما فتح ثياب ولده الأسعد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته بدور ومعها جدائل شعرها ففتح الورقة وقرأها وفهم معناها فعل أن ولده الأسعد مظلوم ولما قلب ثياب الأمجد وجد في جيبه ورقة مكتوبة بخط زوجته حياة النفوس وفيها جدائل شعرها ففتح الورقة وقرأها فعلم أنه مظلوم فدق يداً على يد وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد قتلت أولادي ظلماً،ثم صار يلطم على وجهه ويقول: واولداه.. واطول حزناه، وأمر ببناء قبرين في بيت الأحزان وكتب على القبرين اسمي ولديه وترامى على قبر الأمجد وبكى وأن واشتكى وانشد هذه الأبيات:
يا قمر قد غاب تحت الثـرى                بكت عليه الأنجم الزاهـرة
يا قضياً لـم يمـس بـعـده          معاطف للأعين النـاظـرة
منعت عينيي عنك من غيرتي              علـيك لا أراك لـلآخـرة
وأغرقت بالسهد في دمها                  وإنني من ذاك بالعاهرة
ثم ترامى على قبر الأسعد وبكى وأن واشتكى وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى                   لكن الـلـه أراد غـير الـردى
سودت ما بين الفضاء وناظـري           ومحوت من عيني كـل سـواد
لا ينفذ الدمع الذي أبـكـي بـه              إن الـفـؤاد لـه مـن الأمـداد
أعز علي بأن أراك بمـرضـع               متشابـه الأوغـاد والأمـجـاد

و لما فرغ من شعره هجر الأحباب والخلان وانقطع في البيت الذي سماه بيت الأحباب وصار يبكي على أولاده وقد هجر نسائه وأصحابه وأصدقائه. هذاما كان من أمره، وأما ما كان من أمر الأمجد والأسعد فإنهما لم يزالا سائران في البرية وهما يأكلان من نبات الأرض ويشربان من متحصلات الأمطار مدة شهر كامل حتى انتهى بهما المسير إلى جبل من الصوان الأسود لا يعلم أين منتهاه والطريق افترقت عند ذلك الجبل طريقين، طريق تشقه من وسطه وطريق ساعده إلى أعلاه فسلكا الطريق التي في أعلى الجبل واستمرا سائران خمسة أيام فلم يرله منتهى وقد حصل لهما الإعياء من التعب وليسا معتادين على المشي في جبل ولا في غيره ولما يئسا من الوصول إلى منتهاه رجعا وسلكا الطريق التي في وسط الجبل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد والأسعد ولدي قمر الزمان لم عادا من الطريق الصاعدة في الجبل إلى الطريق المسلوكة في وسطه مشيا طول النهار إلى الليل وقد تعب الأسعد من كثرة السير فقال له لأخيه: يا أخي أنا ما بقيت أقدر على المشي فإني ضعفت جداً، فقل له الأمجد: يا أخي شد حيلك لعل الله يفرج عنا، ثم إنهما مشيا ساعة من الليل وقد تعب الأسعد تعباً شديداً ما عليه من مزيد وقال: يا أخي إني تعبت وكليت من المشي، ثم وقع في الأرض وبكى فخمله أخوه الأمجد ومشى به وصار ساعة يمشي وساعة يستريح إلى أن لاح الفجر حتى استراح أخوه فطلع هو وإياه فوق الجبل فوجد عيناً نابعة يجري منها الماء وعندها شجرة رمان ومحراب فما قصدا أنهما يريان ذلك، ثم جلسا عند تلك العين وشربا من مائها وأكلا من رمان تلك الشجرة وناما في ذلك الموضع حتى طلعت الشمس ثم جلسا واغتسلا من العين وأكلا من الرمان الذي في الشجرة وناما إلى العصر وأرادا أن يسيرا فما قدر الأسعد على السير وقد ورمت رجلاه فأقاما هناك ثلاثة أيام حتى استراحا، ثم سارا في الجبل مدة أيام وهما سائران فوق الجبل وقد تعبا من العطش إلى أن لاحت لهما مدينة من بعيد ففرحا وسارا حتى وصلا إليها.
فلما قربا منها شكرا الله تعالى وقال الأمجد للأسعد: يا أخي اجلس هنا وأنا أسير إلى هذه المدينة وأنظر ما شأنها وأسأل عن أحوالها لأجل أن نعرف أين نحن من أرض الله الواسعة ونعرف الذي قطعناه من البلاد في عرض هذا الجبل ولو أننا مشينا في وسطه ما كنا نصل إلى هذه المدينة في سنة كاملة، فالحمد لله على السلامة، فقال له الأسعد: والله يا أخي ما يذهب إلى المدينة غيري وأنا فداؤك، فإنك إن تركتني ونزلت وغبت عني تستغرقني الأفكار من أجلك وليس لي قدرة على بعدك عني، فقال له الأمجد: توجه ولا تبطئ، فنزل السعد من الجبل وأخذ معه دنانير وخلى أخاه ينتظره وسار ماشياً إلى أسفل الجبل حتى دخل المدينة وشق في أزقتها فلقيه رجل كبير طاعن في السن وقد نزلت لحيته على صدره وافترقت فرقتين وبيده عكاز وعليه ثياب فاخرة وعلى رأسه عمامة كبيرة حمراء، فلما رآه الأسعد تعجب من لبسه وهيئته وتقدم إليه وسلم عليه وقال له: أين طريق السوق يا سيدي? فلما سمع الشيخ كلامه تبسم في وجهه وقال له: يا ولدي كأنك غريب? فقال له الأسعد: نعم أنا غريب يا عم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الذي لقي الأسعد تبسم في وجهه وقال له: يا ولدي كأنك غريب? فقال له الأسعد: نعم غريب، فقال له الشيخ: قد آنست ديارنا وأوحشت ديار أهلك فما الذي تريده من السوق? فقال الأسعد: يا عم إن لي أخاً تركته في الجبل ونحن مسافران من بلاد بعيدة ولنا في السفر مدة ثلاثة شهور وقد أشرفنا على هذه المدينة فجئت إلى هنا لأشتري طعاماً وأعود به إلى أخي لأجل أن نقتات به، فقال الشيخ له: يا ولدي أبشر بكل خير واعلم أنني عملت وليمة وعندي ضيوف كثيرة وجمعت فيها من أطيب الطعام وأحسنه ما تشتهيه النفوس فهل لك أن تسير معي إلى مكاني فأعطيك ما تريد ولا آخذ منك ثمناً وأخبرك بأحوال هذه المدينة والحمد لله يا ولدي حيث وقعت بك ولم يقع بك أحد غيري. فقال الأسعد افعل ما أنت آملهو عجل فإن أخي ينتظرني وخاطره عندي، فأخذ الشيخ بيد الأسعد ورجع به إلى زقاق ضيق وصار يبتسم في وجهه ويقول له: سبحان من نجاك من أهل هذه المدينة، ولم يزل ماشياً به حتى دخل داراً واسعة وفيها قاعة جالساً فيها أربعون شيخاً طاعنون في السن وهم مصطفون حلقة وفي وسطهم نار موقدة والمشايخ جالسون حولها يعبدونها ويسجدون لها، فلما رأى ذلك الأسعد اقشعر بدنه ولم يعلم ما خبرهم، ثم إن الشيخ قال لهؤلاء الجماعة: يا مشايخ النار ما أبركه من نهار، ثم نادى قائلاً يا غضبان، فخرج عبد أسود بوجه أعبس وأنف أفطس وقامة مائلة وصورة هائلة ثم أشار إلى العبد فشد وثاق الأسعد. وبعد ذلك قال للعبد: انزل به إلى القاعة التي تحت الأرض واتركه هناك وقل للجارية الفلانية تتولى عذابه بالليل والنهار، فأخذه العبد وأنزله تلك القاعة وسلمه إلى الجارية فصارت تتولى عذابه وتعطيه رغيفاً واحداً في أول النهار ورغيفاً واحداً في أول الليل وكوز ماء مالح في الغداة ومثله في العشاء ثم إن المشايخ قالوا لبعضهم: لما يأتي أوان عيد النار نذبحه على الجبل ونتقرب به إلى النار، ثم إن الجارية نزلت إليه وضربته ضرباً وجيعاً حتى سالت الدماء من أعضائه وغشي عليه، ثم حطت عند رأسه رغيفاً وكوز ماء مالح وراحت وخلته فاستفاق في نصف الليل فوجد نفسه مقيداً وقد آلمه الضرب فبكى بكاءً شديداً وتذكر ما كان فيه من العز والسعادة والملك والسيادة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما رأى نفسه مقيداً وقد آلمه الضرب تذكر ما كان فيه من العز والسعادة والملك والسيادة فبكى وصعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
قفوا برسم الدار واستخبروا عنها                  تحسبونا في الديار كما كـنـا
لقد فرق الدهر المشتت شملنـا             وهنا تشتفي أكبادحسادنا مـنـا
تولت عذابي بالـسـياط لـئيمة              وقد ملئت منها جوانحي طعنـا
عسى ولعل الله يجمع شملـنـا              ويدفعوا بالتنكيل أعداءنا عـنـا
فلما فرغ الأسعد من شعره مد يده فوجد رغيفاً وكوز ماء مالح فأكل قليلاً ليسد رمقه وشرب قليلاً من الماء ولم يزل ساهراً إلى الصباح من كثرة البق والقمل فلما أصبح الصباح جاءت إليه الجارية ونزعت عنه ثيابه وكانت قد غمرت بالدم والتصقت بجلده وهو مقيد في الحديد بعيداً عن الأحباب فتذكرأخاه والعز الذي كان فيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد تذكرأخاه والعز الذي كان فيه وأن واشتكى وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
يا دهر كم تجـور وتـعـتـدي                ولكم بأحبابي تروح وتعـتـدي
ما آن أن ترثي لطول تشتـتـي             وترق يا من قلبه كالجـلـمـد
وأسأت أحبابي بما أشمـت بـي             كل العداة بما صنعت من الردي
وقد اشتفى قلب العدو بمـا رأى           من غربتي وصبابتي وتوحـدي
لم يكفه ما حل بي مـن كـربة              وفراق أحبابي وطرف أرمدي
حتى بليت بضيق سجن ليس لي           فيه أنيس غير عضـي بـالـيد
ومدامع تهمي كفيض سحـائب            وغليل شوق ناره لم تـخـمـد
وكآبة وصبـابة وتـذكـر           وتحسر وتنفس وتـنـهـد
شوق أكابده وحزن متلـف                 ووقعت في وجد مقيم مقعد

فلما فرغ من شعره ونثره حن وبكى وأن واشتكى وتذكر ما كان فيه من وما حصل له من فراق أخيه. هذا ما كان من أمره، وأمام ما كان من أمر أخيه الأمجد فإنه مكث ينتظر الأسعد إلى نصف النهار فلم يعد إليه فخفق فؤاده واشتد به ألم الفراق وأفاض دمعه المهراق.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد لما مكث ينتظر الأسعد إلى نصف النهار فلم يعد إليه فخفق فؤاده واشتد به ألم الفراق وأفاض دمعه المهراق وصاح واحسرتاه ما كان اخوفني من الفراق ثم نزل من فوق الجبل ودمعه سايل على خديه ودخل المدينة ولم يزل ماشياً فيها حتى وصل إلى السوق وسأل الناس عن اسم هذه المدينة وعن أهلها فقالوا له: هذه تسمى مدين المجوس وأهلها يعبدون النار دون الملك الجبار، ثم سأل عن مدينة فقالوا له: إن المسافة التي بيننا وبينها من الب سنة ومن البحر ستة أشهر وملكها يقال له أرمانوس وقد صاهر اليوم ملكاً وجعله مكانه وذلك الملك يقال له قمر الزمان وهو صاحب عدل وإحسان وجود وأمان.
فلما سمع الملك الأمجد ذكر أبيه حن وبكى وأن واشتكى وصار لا يعلم أين يتوجه وقد اشترى معه شيئاً للأكل وذهب إلى موضع يتوارى فيه ثم قعد وأراد أن يأكل فتذكر أخيه فبكى ولم يأكل إلا قدر سد الرمق ثم قام ومشى في المدينة ليعلم خبر أخيه فوجد رجلاً مسلماً خياطاً في دكان فجلس عنده وحكى له قصته فقال الخياط: إن كان وقع في يد أحد المجوس فما بقيت تراه إلا بعسر ولعل الله يجمع بينك وبينه ثم قال: هل لك يا أخي أن تنزل عندي? قال: نعم. ففرح الخياط بذلك وأقام عنده أياماً وهو يسليه ويصبره ويعلمه الخياطة حتى صار ماهراً ثم خرج يوماً إلى شاطئ البحر وغسل أثوابه ودخل الحمام ولبس ثياباً نظيفة ثم خرج من الحمام يتفرج في المدينة فصادف في طريقه امرأة ذات حسن وجمال وقد واعتدال ليس لها في الحسن مثال فلما رأته رفعت القناع عن وجهها وغمزته بحواجبها وعيونها وغازلته باللحظات وقد لعبت به أيادي الصبابات فأشار لها وأنشد هذه الأبيات:
ورد الخدود ودونه شوك الـقـنـا          فمن المحدث نفسه أن يجـتـنـي
لا تمدد الأيدي إلـيه فـطـالـمـا              شنوا الحروب لأن مددنا الأعـينـا
قل للتي ظلمت وكـانـت فـتـنة              ولو أنها عدلت لكانـت أفـتـنـا
ليزاد وجهك بالـتـبـرقـع ضـلة             وأرى السفور لمثل حسنك أصونـا
كالشمس يمتنع اجتلاءك وجهـهـا                  وإن اكتست برقيق غيم أمـكـنـا
غدت النحيلة في حمى من نحلـهـا                  فسلوا حماة الحي عـم تـصـدنـا
إن كان قتلي قصدهم فلـيرفـعـوا           تلك الضغائن وليخـلـوا بـينـنـا
ما هم بأعظم فتـكة لـو بـارزوا            من طرف ذات الخال إذا برزت لنا
فلما سمعت من الأمجد هذا الشعر تنهدت بصاعد الزفرات وأشارت وأشارت إليه وأنشدت هذه الأبيات:
أنت الذي سلك الإعراض لست أنـا                  جسد بالوصال إذا كان الوفاء أنـا
يا فالق الصبح مـن لالاء غـرتـه           وجاعل الليل من أصداغه سكـنـا
بصورة الوثن استعبدتنـي وبـهـا                   فتنتني وقديماً هجت لـي فـتـنـا
لا غرو إن أحرقت نار الهوى كبدي                فالنار حق على من يعبد الوثـنـا
تبيع مثلي مـجـانـاً بـلا ثـمـن               إن كان لا بد من بيع فخذ الثمـنـا

فلما سمع الأمجد منها هذا الكلام قال لها: أتجيئين عندي أو أجيء عندك? فأطرقت رأسها حياء إلى الأرض وتلت قوله تعالى:الرجال قوامون على النساء بما فضل بعضهم على بعض ففهم الأمجد إشارتها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد فهم إشارة المرأة وعرف أنها تريد الذهاب معه حيث يذهب فالتزم لها بالمكان وقد استحى أن يروح عند الخياط الذي هو عنده فمشى قدامها ومشت خلفه ولم يزل ماشياً بها من زقاق إلى زقاق ومن موضع إلى موضع حتى تعبت الصبية فقالت له: يا سيدي أين دارك? فقال لها: قدام وما بقي عليها إلا شيء يسير ثم انعطف بها في زقاق مليح ولم يزل ماشياً فيه وهي خلفه حتى وصلا إلى آخره فوجده غير نفاذ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم التفت بعينه فرأى في صدر الزقاق باباً كبيراً بمصطبتين ولكنه مغلق فجلس الأمجد على مصطبة وجلست المرأة على مصطبة، ثم قالت له: يا سيدي ما الذي تنتظره? فأطرق برأسه إلى الأرض ملياً ثم رفع رأسه وقال لها: أنتظر مملوكي فإن المفتاح معه وكنت قد قلت له: هيء لنا المأكول والمشروب وصحبة المدام حتى أخرج من الحمام ثم قال في نفسه: ربما يطول عليها المطال فتروح إلى حال سبيلها وتخليني في هذا المكان فلما طال عليها الوقت قالت له: يا سيدي إن المملوك قد أبطأ علينا ونحن قاعدون في الزقاق، ثم قامت الصبية إلى الضبة بحجر فقال لها الأمجد: لا تعجلي واصبري حتى يجيء المملوك، فلم تسمع كلامه ثم ضربت الضبة بالحجر فقسمتها نصفين فانفتح الباب فقال لها: وأي شيء خطر لك حتى فعلت هذا? فقالت له: يا سيدي أي شيء جرى أما هو بيتك? فقال: نعم، ولكن لا يحتاج إلى كسر الضبة، ثم إن الصبية دخلت البيت فصار الأمجد متحيراً في نفسه خوفاً من أصحاب المنزل ولم يدر ماذا يصنع، فقالت الصبية: لم لا تتدخل يا سيدي يا نور عيني وحشاشة قلبي? فقال لها: سمعاً وطاعة ولكن قد أبطأ علي المملوك وما أدري هل فعل شيئاً مما امرته به أم لا، ثم إنه دخل معها وهو غاية ما يكون من الهم خوفاً من أصحاب المنزل، فقالت: يا سيدي مالك واقفاً هكذا? ثم شهقت شهقة وأعطت الأمجد قبلة مقل كسر الجوز وقالت: يل سيدي إن كنت مواعد غيري فإني أشد ظهري وأخدمها فضحك الأمجد عن قلب مملوء بالغيظ ثم طلع وجلس وهو ينفخ وقال في نفسه: يا قبلة الشوم إذا جاء صاحب المنزل.
فبينما هو كذل إذا بصاحب الدار قد جاء وكان مملوكاً من أكابر المدينة لأنه كان أمير ياخو عند الملك وقد جعل تلك القاعة معدة لحظه لينشرح به صدره ويختلي فيها بمن يريد وكان في ذلك اليوم قد أرسل إلى معشوق يجيء له ويجهز له ذلك المكان وكان اسم ذلك المملوك بهادر وكان سخي اليد صاحب جود وإحسان وصدقات وامتنان فلما وصل إلى قريب القاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهادر صاحب القاعة لما وصل إلى قريب القاعة وجد الباب مفتوحاً فدخل قليلاً قليلاً، وطل برأسه فنظر الأمجد والصبية وقدامهما طبق فاكهة وآلة المدام وفي ذلك الوقت كان الأمجد ماسكاً قدحاً وعينيه إلى الباب، فلما صارت عينه في عين صاحب الدار اصفر لونه وارتعدت فرائصه فلما رآه بهادر وقد اصفر لونه وتغير حاله غمزه بإصبعه على فمه يعني أسكت وتعال عندي، فحط الأمجد الكأس من يده وقام إليه فقالت الصبية: إلى أين? فحرك رأسه وأشار لها أنه يريد الماء، ثم خرج إلى الدهليز خافياً، فلما رأى بهادر علم أنه صاحب الدار فأسرع إليه وقبل يديه ثم قال له: بالله عليك يا سيدي قبل أن تؤذيني اسمع مني مقالي، ثم حدثه بحديثه من أوله إلى آخره وأخبره بسبب خروجه من أرضه ومملكته وأنه ما دخل القاعة باختياره ولكن الصبية هي التي كسرت الضبة وفتحت الباب وفعلت هذه الفعال، فلما سمع بهادر كلام الأمجد وعرف أنه ابن ملك حن عليه ورحمه، ثم قال: اسمع يا أمجد كلامي وأطعني وأنا أتكفل لك بالأمان مما تخاف وإن خالفتني قتلتك. فقال الأمجد: آمرني بما شئت فأنا لا أخالفك أبداً لأنني عتيق مرؤتك، فقال له بهادر: ادخل إلى هذه القاعة واجلس في المكان الذي كنت فيه واطمئن وهاأنا داخل عليك واسمي بهادر فإذا دخلت إليك فاشتمني وانهرني وقل لي: ما سبب تأخرك إلى هذا الوقت ولا تقبل لي عذراً بل قم اضربني. وإن شفقت علي أعدمتك حياتك، فادخل وانبسط ومهما طلبته مني تجده حاضراً بين يديك في الوقت وبت كما تحب في هذه الليلة وفي غد توجه إلى حال سبيلك إكراماً لغربتك فإني أحب الغريب وواجب علي إكرامه، فقبل الأمجد يده ودخل وقد اكتسى وجهه حمرة وبياضاً فأول ما دخل قال للصبية: يا سيدتي آنست موضعك وهذه ليلة مباركة، فقالت له الصبية: إن هذا عجيب منك حيث بسطت لي الأنس، فقال الأمجد: والله يا سيدتي إني كنت أعتقد أن مملوكي بهادر أخذ لي عقود جواهر كل عقد يساوي عشرة آلف دينار، ثم خرجت الآن وأنا متفكر في ذلك ففتشت عليها فوجدتها في موضعها، ولأم أدر ما سبب تأخر المملوك إلى هذا الوقت ولابد لي من عقوبته، فاستراحت الصبية بكلام الأمجد ولعبا وشربا وانشرحا ولم يزالا في حظ إلى قريب المغرب، ثم دخل عليهما بهادر وقد غير لبسه وشد وسطه وجعل في رجليه زرنوباً على عادة المماليك، ثم سلم وقبل الأرض وكتف يديه وأطرق برأسه إلى الأرض، كالمعترف بذنبه فنظر إليه الأمجد بعين الغضب وقال له: ما سبب تأخرك يا أنحس المماليك? فقال له: يا سيدي إني اشتغلت بغسل أثوابي وما علمت أنك ههنا فإن ميعادي وميعادك العشاء لا بالنهار، فصرخ الأمجد وقال له: تكذب يا أخس المماليك والله لا بد من ضربك، ثم قام الأمجد وسطح بهادر على الأرض وأخذ عصا وضربه برفق فقامت الصبية وخلصت العصا من يده ونزلت بها على بهادر بضرب وجيع حتى جرت دموعه واستغاث وصار يكز على أسنانه والأمجد يصيح على الصبية: لا تفعلي هكذا، وهي تقول له: دعني أشفي غيظي، ثم إن الأمجد خطف العصا من يدها ودفعها فقام بهادر ومسح دموعه عن وجهه ووقف في خدمته ساعة ثم مسح القاعة وأوقد القناديل وصارت الصبية كلما دخل بهادر وخرج تشتمه وتلعنه والأمجد يغضب عليها ويقول لها: بحق الله تعالى أن تتركي مملوكي فإنه غير معهود بهذا وما زالا يأكلان ويشربان، وبهادر في خدمتهما إلى نصف الليل حتى تعب من الخدمة والضرب فنام في وسط القاعة وشخر ونخر.
فسكرت الصبية وقالت للأمجد: قم خذ هذا السيف المعلق واضرب رقبة هذا المملوك وإن لم تفعل ذلك عملت أنا على هلاك روحك، فقال الأمجد: وأي شيء خطر لك أن أقتل مملوكي? قالت: لا يكمل الحظ إلا بقتله وإن لم تقم قمت أنا وقتلته، فقال الأمجد: بحق الله عليك أن لا تفعلي، فقالت: لا بد هذا وأخذت السيف وجردته وهمت بقتله فقال الأمجد في نفسه: هذا رجل عمل معنا خيراً وسترنا وأحسن إلينا وجعل نفسه مملوكاً فأنا أحق بقتله منك ثم أخذ السيف من يدها ورفع يده وضرب الصبية في عنقها فأطاح رأسها عن جثتها فوقع رأسها على صاحب الدار فاستيقظ وجلس وفتح عينيه فوجد الأمجد واقفاً والسيف في يده مخضباً بالدم، ثم نظر إلى الصبية فوجدها مقتولة فاستخبره عن أمرها فاعاد عليه حديثها وقال له إنها أبت إلا أن تقتلك وهذا جزاؤها، فقام بهادر وقبل رأس الأمجد أطاحو قال له: يا سيدي ليتك عفوت عنها وما بقي في الأمر إلا إخراجها في هذا الوقت قبل الصباح ثم إن بهادر شد وسطه وأخذ الصبية ولفها في عباءة ووضعها في فرد وحملها، وقال للأمجد: أنت غريب ولا تعرف أحد فاجلس في مكانك وانتظر طلوع الشمي فإن عدت إليك لا بد أن أفعل معك خيراً كثيراً وأجتهد في كشف خبر أخيك وإن طلعت الشمس، ولم أعد إليك فاعلم أنه قد قضي علي والسلام عليك، وهذه الدار لك بما فيها من الأموال والقماش.
ثم إنه حمل الفرد وخرج من القاعة وشق بها الأسواق وقصد بها طريق البحر المالح ليرميها فيه فلما صار قريباً من البحر التفت فرأى الوالي والمقدمين قد أحاطوا به ولما عرفوه تعجبوا وفتحوا الفرد فوجدوا فيه قتيلة فقبضوا على عليه وبيتوه في الحديد إلى الصباح ثم طلعوا به هو والفرد إلى الملك وأعلموه بالخبر فلما رأى الملك غضب غضباً شديداً وقال له: ويلك إنك تفعل هكذا دائماً فتقتل القتلى وترميهم في البحر وتأخذ جميع مالهم وكم فعلت ذلك من قتل? فأطرق بهادر برأسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهادر أطرق برأسه إلى الأرض قدام الملك فصرخ الملك وقال له: ويلك من قتل هذه الصبية? فقال له: يا سيدي أنا قتلتها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فغضب الملك وأمر بشنقه فنزل به السياف حين أمره الملك وأمر الوالي المنادي أن ينادي في أزقة المدينة بالفرجة على بهادر أمير ياخور الملك ودار به في الأزقة والأسواق، هذا ما كان من أمر بهادر.
و أما ما كان من أمر الأمجد فإنه لما طلع عليه النهار وارتفعت الشمس ولم يعد إليه بهادر قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أي شيء جرى له? فبينما هو يتفكر إذا بالمنادي ينادي بالفرجة على بهادر فإنهم يشنقونه في وسط النهار فلما سمع الأمجد ذلك بكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد أراد هلاك نفسه من أجلي وانا الذي قتلتها والله لا كان هذا أبداً، ثم خرج من القاعة وقفلها وشق في وسط المدينة حتى أتى إلى بهادر، ووقف قدام الوالي وقال له: يا سيدي لا تقتل بهادر فإنه بريء والله ما قتلها إلا أنا فلما سمع الوالي كلامه أخذه هو وبهادر وطلع بهما إلى الملك وأعلمه بما سمعه من الأمجد فنظر الملك إلى الأمجد وقال له: أنت قتلت الصبية? قال: نعم، فقال له الملك: احك لي ما سبب قتلك إياها وأصدقني ن قال له: أيها الملك أنه جرى لي حديث عجيب وأمر غريب لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، ثم حكى للملك حديثه وأخبره بما جرى له ولأخيه من المبتدأ إلى المنتهى فتعجب الملك من ذلك غاية العجب، وقال: إني قد علمت أنك معذور ولكن يا فتى هل لك أن تكون عندي وزيراً? فقال له: سمعاً وطاعة، وخلع عليه الملك وعلى بهادر خلعاً سنية وأعطاه داراً حسنة وحشماً وأنعم عليه بجميع ما يحتاج إليه ورتب له الرواتب والجرايات وأمره أن يبحث عن أخيه الأسعد فجلس الأمجد في رتبة الوزارة وحكم وعدل وعزل وأخذ وأعطى وأرسل المنادي في أزقة المدينة ينادي على أخيه الأسعد فمكث مدة أيام ينادي في الشوارع والأسواق فلم يسمع له بخبر ولم يقع له على أثر. هذا ما كان من أمر الأمجد.
و أما ما كان من أمر الأسعد فإن المجوس ما زالوا يعاقبونه بالليل والنهار وفي العشي والأبكار مدة سنة كاملة حتى قرب عيد المجوس وهيأ له مركباً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والستين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بهرام المجوسي جهز مركباً للسفر، ثم حط الأسعد في صندوق وأقفله عليه ونقله إلى المركب وسافروا ولم يزالوا مسافرين أياماً وليالي وكل يومين يخرج الأسعد ويطعمه قليلاً من الزاد ويسقيه قليلاً من الماء إلى أن قربوا من جبل النار فخرج عليهم ريح وهاج بهم البحر حتى تاه المركب عن الطريق وسلكوا طريقاً غير طريقهم ووصلوا إلى مدينة مبنية على شاطئ البحر ولها قلعة بشبابيك تطل على البحر والحاكمة على تلك المدينة امرأة يقال لها الملكة مرجانة فقال الريس لبهرام: يا سيدي إننا تهنا عن الطريق ولا بد لنا من دخول هذه المدينة لأجل الراحة وبعد ذلك يفعل الله ما يشلء. فقال له بهرام: ما رأيت والذي تراه افعله فقال له الريس: إذا أرسلت لنا الملكة تسألنا ماذا يكون جوابنا? فقال له بهرام: أنا عندي هذا المسلم الذي معنا فنلبسه لبس المماليك ونخرجه معنا إذا رأته الملكة تظن أنه مملوك، فأقول لها إني جلاب مماليك، أبيع وأشتري فيهم وقد كان عندي مماليك كثيرة فبعتهم ولم يبق غير هذا المملوك فقال له الريس ك هذا كلام مليح، ثم إنهم وصلوا إلى المدينة وأرخوا القلوع ودقوا المراسي، وإذا بالملكة وإذا بالملكة مرجانة نزلت إليهم ومعها عسكرها ووقفت على المركب ونادت على الريس فطلع عندها وقبل الأرض بين يديها. فقالت له: أي شيء في مركبك هذه ومن معك? فقال لها: يا ملكة الزمان معي رجل تاجر يبيع المماليك فقالت: علي به، وإذا ببهرام طلع ومعه الأسعد ماش وراءه في صفة مملوك فلما وصل إليهم بهرام قبل الأرض بين يديها فقالت له: ما شأنك? فقال لها: أنا تاجر رقيق فنظرت إلى الأسعد فحن قلبها عليه فقالت: أتعرف الكتابة?قال: نعم فناولته دواة وقلماً وقرطاساً وقالت له: اكتب شيئاً حتى أراه فكتب هذي البيتين:
ما حيلة العبد والأقدار جـارية              عليه في مكل حال إيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال لـه              إياك إياك أن تبتل بـالـمـاء

فلما رأت الورقة رحمته ثم قالت لبهرام: بعني هذا المملوك فقال لها: يا سيدتي لا يمكنني بيعه لأني بعت جميع مماليكي ولم يبق عندي غير هذا، فقالت الملكة مرجانة: لا بد من أخذه منك إما ببيع أو بهبة، فقال لها: لا أبيعه ولا أهبه فقبضت على الأسعد وأخذت وطلعت به القلعة وأرسلت تقول له: إن لم تقلع في هذه الليلة عن بلدنا أخذت جميع مالك، وكسرت مركبك فلما وصلت إليه الرسالة اغتم غماً شديداً، وقال: هذه سفرة غير محمودة ثم قام وتجهز وأخذ جميع ما يريده وانتظر الليل ليسافر فيه وقال للبحرية: خذوا أهبتكم واملأوا قربكم من الماء واقلعوا بنا في آخر الليل، فصار البحرية يقضون أشغالهم. هذا ما كان من أمرهم.
و اما ما كان من أمر الملكة مرجانة فإنها أخذت الأسعد ودخلت القلعة وفتحت الشبابك المطلة على البحر وأمرت الجواري أن يقدمن لهم الطعام فقدمن لهم الطعام فأكلا ثم أمرتهن أن يقدمن المدام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة مرجانة أمرت الجواري أن يقدمن المدام فقدمنه فشربت مع الأسعد وألقى الله سبحانه وتعالى محبة الأسعد في قلبهخا وصارت تملأ القدح وتسقيه حتى غاب عقله فقام يريد قضاء حاجة ونزل من القاعة فرأى باباً مفتوحاً فدخل فيه وتمشى فانتهى به السير إلى بستان عظيم فيه جميع الفواكه والأزهار فجلس تحت شجرة وقضى حاجته وقام إلى الفسقية التي في البستان فاستلقى على قفاه ولباسه محلول، فضربه الهواء فنام ودخل عليه الليل. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر بهرام فإنه لما دخل عليه الليل صاح على بحرية المركب وقال له: خلوا قلوعكم وسافروا بنا فقالوا سمعاً وطاعة، ولكن اصبر علينا حتى نملأقربنا ونحل، ثم طلع البحرية بالقرب وداروا حول القلعة، فلم يجدوا غير حيطان البستان فتعلقوا بها ونزلوا البستان وتتبعوا أثر الأقدام الموصلة إلى الفسقية فلما وصلوا وجدوا الأسعد مستلقياً على قفاه فعرفوه، وفرحوا به وحملوه بعد أن ملأوا قربهم ونطوا من الحائط وأتوا به مسرعين إلى بهرام المجوسي، وقالوا له: أبشر بحصول المراد وشفاء الأكباد فقد طبل طبلك وزمر زمرك فإن أسيرك الذي أخذته الملكة مرجانة منك غصباً قد وجدناه واتينا به معنا ثم رموه قدامه. فلما نظره بهرام طار قلبه من الفرح واتسع صدره وانشرح، ثم خلع عليهم وأمرهم أن يحلوا القلوع بسرعة فحلوا قلوعهم قاصدين جبل النار ولم يزالوا مسافرين إلى الصباح. هذا ماكان من أمرهم.
و ام ما كان من أمر الملكة مرجانة فإنها بعد نزول الأسعد من عندها مكثت تنتظره ساعة فلم يعد إليها فقامت وفتشت عليه فما وجدته فأوقدت الشموع وامرت الجواري أن يفتشن عليه ثم نزلت هي بنفسها فرأت البستان مفتوحاً فعلمت أنه دخله فدخلت البستان فوجدت نعله بجانب الفسقية فصارت تفتش عليه في جوانب البستان إلى الصباح ثم سألت عن المراكب فقالوا لها: قد سافرت في ثلث الليل، فعلمت أنهم أخذوه معهم فصعب عليها واغتاظت غيظاً شديداً ثم أمرت بتجهيز عشر مراكب في الوقت وتجهيزات الحرب ونزلت في مركب من العشر مراكب ونزل معها عسكرها متهيئين بالعدة الفاخرة وآلات الحرب وحلوا القلوع وقالت للرؤساء: متى لحقتم مركب المجوسي فلكم عندي الخلع والأموال، وإن لم تلحقوها قتلتكم عن آخركم فحصل للبحرية خوف عظيم، ثم سافروا بالمراكب ذلك النهار وتلك الليلة وثاني يوم وثالث يوم، وفي اليوم الرابع لاحت لهم مركب بهرام ولم ينقض النهار حتى أحاطت المراكب بمركب المجوسي وكان بهرام في ذلك الوقت قد أخرج الأسعد وضربهو صار يعاقبه والأسعد يستغيث ويستجير فلم يجد مغيثاً ولا مجيراً من الخلق وقد آلمه الضرب الشديد.
فبينما هو يعاقبه إذ لاحت منه نظرة فوجد المراكب قد أحاطت بمركبه ودارت حولها كما يدور بياض العين بسوادها فتيقن أنه هالك لا محالة فتحسر بهرام وقال: ويلك يا أسعد هذا كله من تحت رأسك، ثم أخذه من يده وامر البحرية أن يرموه في البحر، وقال: والله لأقتلنك قبل موتي فاحتملته البحرية من يديه ورجليه ورموه في وسط البحر فأذن الله سبحانه وتعالى لما يريد من سلامته وبقية أجله أنغطس، ثم طلع وخبط بيديه ورجليه إلى أنسهل الله عليه وآتاه الفرج وضربه الموج وقذفه بعيداً عن مركب المجوسي ووصل إلى البر فطلع وهو لايصدق بالنجاة ولما صار في البر قلع أثوابه وعصرها ونشرها وقعد عرياناً يبكي على ما جرى له من المصائب والأسر، ثم أنشد هذين البيتين:
إلهي قل صبـري واحـتـيالـي               وضاق صدري وانصرمي حبالي
إلى من يشتكي المـسـكـين إلا              إلى مولاه يا مولى الـمـوالـي

فلما فرغ من شعره قام ولبس ثيابه ولم يعلم أين يروح ولا أين يجيء فصلر يأكل من نبات الأرض وفواكه الأشجار ويشرب من ماء الأنهار وسافر بالليل والنهار حتى أشرف على مدينة ففرح وأسرع في مشيته نحو المدينة فلما وصل إليها أدركه المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والسبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأسعد لما وصل إلى المدينة أدركه المساء وقد قفل بابها وكانت هي التي كان أسيراً فيها وأخوه الأمجد وزير ملكها فلما رآها الأسعد مقفلة رجع إلى جهة المقابر فلما وصل إلى المقابر وجد تربة بلا باب فدخلها ونام فيها فحط وجهه في غيه وكان بهرام المجوسي لما وصلت إليه الملكة مرجانة بالمراكب كسرها بمكره وسحره ورجع سالماً نحو مدينته وسار من وقته وساعته وهو فرحان فلما جاز على المقابر طلع من المركب بالقضاء والقدر ومشى بين المقابر فرأى التربة التي فيها الأسعد مفتوحة فتعجب وقال: لا بد أن أنظر في هذه التربة. فلما نظر فيها رأى الأسعد وهو نائم ورأسه في عبه فنظر في وجهه فعرفه فقال في نفسه: هل أنت تعيش إلى الآن? ثم أخذه وذهب به إلى بيته وكان له في بيته طابق تحت الأرض معد لعذاب المسلمين وكان له بنت تسمى بستان فوضع في رجلي الأسعد قيداً ثقيلاً وأنزله في ذلك الطابق ووكل بنته بتعذيبه ليلاً ونهاراً إلى أن يموت ثم إنه ضربه الضرب الوجيع وأقفل عليه الطابق وأعطى المفاتيح لبنته ثم إن بنته بستان نزلت لضربه فوجدته شاباً ظريف الشمال حلو المنظر مقوس الحاجبين كحيل المقلتين فوقعت محبته في قلبها فقالت له: ما اسمك? قال لها: اسمي الأسعد، فقالت له: سعدت وسعدت أيامك أنت ما تستاهل العذاب وقد علمت أنك مظلوم وصارت تؤانسه بالكلام وفكت قيوده ثم غنها سألته عن دين الإسلام فأخبرها أنه هو الدين الحق القويم أن سيدنا محمد صاحب المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة وأن النار تضر ولا تنفع وعرفها قواعد الإسلام، فأذعنت إليه ودخل حب الإيمان في قلبها ومزج الله محبة الأسعد بفؤادها فنطقت الشهادتين وصارت من أهل السعادة وصارت تطعمه وتسقيه وتتحدث معه وتصلي هي وهو وتصنع له المساليق بالدجاج حتى اشتد وزال ما به من الأمراض ورجع إلى ما كان عليه من الصحة.
ثم إن بنت بهرام خرجت من عند الأسعد ووقفت على الباب وإذا بالمنادي ينادي ويقول: كل من عنده شاب مليح صفته كذا وكذا وأظهره فله جميع ما طلب من الأموال ومن كان عنده وانكره فإنه يشنق على باب داره وينهب ماله ويهدر دمه، وكان الأسعد قد اخبر بستان بنت بهرام بجميع ما جرى له فلما سمعت ذلك عرفت أنه هو المطلوب فدخلت عليه وأخبرته بالخبر فخرج وتوجه إلى دار الوزير فلما رأى الوزير قال: والله إن هذا هو أخي الأمجد وعرفه فألقى نفيه عليه وتعانقا واحتاطت بهما المماليك وغشي على الأسعد والأمجد ساعة، فلما أفاقا من غشيتهما أخذه الأمجد وطلع به إلى السلطان وأخبره بقصته فأمر السلطان بنهب بهرام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والسبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السلطان أمر الأمجد بنهب دار بهرام فأرسل الوزير جماعة لذلك فتوجهوا إلى بيت بهرام ونهبوه وطلعوا بابنته إلى الوزير فأكرمها وحدث الأسعد أخاه بكل ما جرى له من العذاب وما عملت معه بنت بهرام من الإحسان فزاد الأمجد في إكرامها ثم حكى الأمجد للأسعد جميع ما جرى له مع الصبية وكيف سلم من الشنق وقد صار وزيراً وصار يشكو أحدهما للآخر ما وجد من فرقة أخيه، ثم إن السلطان أحضر المجوسي وأمر بضرب عنقه فقال بهرام: أيها الملك العظيم هل صممت على قتلي? قال: نعم، فقال بهرام: اصبرعلي أيها الملك قليلاً، ثم أطرق برأسه إلى الأرض وبعد ذلك رفع رأسه وتشهد وأسلم على يد السلطان ففرحوا بإسلامه ثم حكى الأمجد والأسعد ما جرى لهما فقال لهما: يا سيدي تجهزوا للسفر وأنا أسافر بكما، ففرحا بذلك وبإسلامه وبكيا بكاءً شديداً فقال لهما بهرام: يا سيدي لا تبكيا فمصيركما تجتمعان كما اجتمع نعمة ونعم فقالا له: وما جرى لنعمة ونعم?
حكاية نعم ونعمة
قال بهرام: ذكروا الله، اعلم أنه كان بمدينة الكوفة رجلاً من وجهاء أهلها، يقال له الربيع بن حاتم وكان كثير المال مرفه الحال، وكان قد رزق ولداً فسماه نعمة الله فبينما هو ذات يوم بدكة النخاسين إذ نظر جارية تعرض للبيع وعلى يدها وصيفة صغيرة بديعة في الحسن والجمال فأشار الربيع إلى النخاس وقال له: بكم هذه الجارية وابنتها? فقال: بخمسين ديناراً، فقال الربيع: اكتب العهد وخذ المال وسلمه لمولاها، ثم دفع للنخاس ثمن الجارية وأعطاه دلالته وتسلم الجارية وابنتها ومضى بهما إلى بيته، فلما نظرت ابنة عمه إلى الجارية قالت له: يا ابن العم ما هذه الجارية? قال: اشتريتها رغبة في هذه الضغيرة التي على يديها واعلمي أنها إذا كبرت ما يكون في بلاد العرب والعجم مثلها أو أجمل منها، فقالت لها ابنة عمه: ما اسمك يا جارية? فقالت: يا سيدتي اسمي توفيق، قالت: وما اسم ابنتك? قالت: سعد، قالت: صدقت، لقد سعدت وسعد من اشتراك، ثم قالت: يا ابن عمي ما تسميها? قال: ما تختارينه أنت، قالت: نسميها نعم، قال الربيع: لا بأس بذلك، ثم إن الصغيرة نعم ترتب مع نعمة بن الربيع في مهد واحد إلى حين بلغا من العمر عشر سنين وكان كل شخص منهما أحسن من صاحبه وصار الغلام يقول لها: يا أختي وهي تقول له: يا أخي.
ثم أقبل الربيع على ولده نعمة حين بلغا هذا السن وقال له: يتا ولدي ليست نعم أختك بل هي جاريتك وقد اشتريتها على اسمك وأنت في المهد فلا تدعها بأختك من هذا اليوم، قال نعمة لأبيه: فإذا كان كذلك فأنا أتزوجها، ثم إنه دخل على والدته وأعلمها بذلك فقالت: يا ولدي هي جاريتك فدخل نعمة بتلك الجارية وأحبها ومضى عليهما تسع سنين وهما على تلك الحالة ولم يكن بالكوفة جارية أحسن من نعم ولا احلى ولا أظرف منها وقد كبرت وقرأت القرآن وعرفت أنواع اللعب والآلات وبرعت في المغنى، وآلات الملاهي حتى إنها فاقت جميع أهل عصرها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد بأن نعم فاقت أهل عصرها، وبينما هي جالسة ذات يوم من الأيام مع زوجها نعمة بن الربيع في مجلس الشراب وقد أخذت العود وشدت أوتاره وأنشدت هذين البيتين:
إذا كنت لي مولي أعيش بفضله           وسيفاً به أفني رقاب النـوائب
فما لي إلى زيد وعمرو شفاعة            سواك إذا ضاقت علي مذاهبي
فطرب نعمة طرباً عظيماً ثم قال لها: بحياتي يا نعم أن تغني لنا على الدف وآلات الطرب فأطربت نعم بالنغمات وغنت بهذه الأبيات:
وحياة من ملست يداه قيادي               لأخالفن على الهوى حسادي
ولأعصين عواذلي وأطيعكم                ولأهجرن تلذذي ورقـادي
ولأجعلن لكم بأكناف الحشـا                قبراً ولم يشعر بذاك فؤادي

فقال الغلام: لله درك يا نعم، فبينما هما في أطيب عيش وإذا بالحجاج في دار نيابته يقول لا بد لي أن أحتال على أخذ هذه الجارية التي اسمها نعم وأرسلها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لأنه لا يوجد في قصره مثلها ولا أطيب من غنائها، ثم إنه استدعى بعجوز قهرمانة وقال لها: امضي إلى دار الربيع واجتمعي بالجارية نعم وتسببي في أخذها لأنه لم يوجد على وجه الأرض مثلها، فقبلت العجوز من الحجاج ما قاله ولما أصبحت لبست أثوابها الصوف وحطت في رقبتها سبحة عدد حباتها ألوف. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قبلت ما قاله الحجاج، ولما أصبحت لبست أثوابها الصوف وحطت في رقبتها سبحة عدد حباتها ألوف وأخذت بيدها عكازاً وركوة يمانية وسارت وهي تقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولم تزل في تسبيح وابتهال وقلبها ملآن بالمكر والإحتيال حتى وصلت إلى دار نعمة بن الربيع عند صلاة الظهر فقرعت الباب ففتح لها البواب وقال: ما تريدين? قالت: أنا فقيرة من العابدات وادركتني صلاة الظهر وأريد أن أصلي في هذا المكان المبارك، فقال لها البواب: يا عجوز إن هذه دار نعمة بن الربيع وليست بجامع ولا مسجد. فقالت: أنا أعرف أنه لا جامع ولا مسجد مثل دار نعمة بن الربيع وأنا قهرمانة من قصر أمير المؤمنين خرجت طالبة العبادة والسياحة، فقال لها البواب: لا أمكنك من أن تدخلي وكثر بينهما الكلام فتعلقت به العجوز وقالت له: هل يمنع مثلي من دخول دار نعمة بن الربيع وأنا أعبر إلى ديار الأمراء والأكابر? فخرج نعمة وسمع كلامها فضحك وامرها أن تدخل خلفه، فدخل نعمة وسارت العجوز خلفه حتى دخل بها على نعم فسلمت عليها العجوز بأحسن سلام، ولما نظرت إلى نعم تعجبت من فرط جمالها ثم قالت لها: يا سيدتي أعذك بالله الذي آلف بينك وبين مولاك في الحسن والجمال، ثم انتصبت العجوز في المحراب وأقبلت على الركوع والسجود والدعاء إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بالإعتكار، فقالت الجارية: يا امي أريحي قدميك ساعة ن فقالت العجوز: يا سيدتي من طلب الآخرة أتعب نفسه في الدنيا ومن لم يتعب نفسه في الدنيا لم ينل منازل الأبرار في الآخرة، ثم إن نعم قدمت الطعام للعجوز وقالت لها: كلي من طعامي وادعي لي بالتوبة والرحمة، فقالت العجوز: يا سيدتي إني صائمة وأما أنت فصبية يصلح لك الأكل والشرب والطرب والله يتوب عليك وقد قال الله تعالى: )إلا من تاب وعمل عملاً صالحاً(، ولم تزل الجارية جالسة مع العجوز ساعة تحدثها ثم قالت لسيدها: يا سيدي احلف على هذه العجوز أن تقيم عندنا مدة فإن على وجهها أثر العبادة فقال: اخلي لها مجلساً للعبادة ولا تخلي أحداً يدخل عليها فلعل الله سبحانه وتعالى نفعنا ببركتها ولا يفرق بيننا، ثم باتت العجوز ليلتها تصلي وتقرأ إلى الصباح.
فلما أصبح الصباح جاءت إلى نعمة ونعم وصبحت عليهما وقالت لهما: أستودعكما الله فقالت لها نعم: إلى أين تمضين يا أمي وقد أمرني سيدي أن أخلي لك مجلساً تعتكفين فيه للعبادة? فقالت العجوز: الله يبقيكما ويديم نعمته عليكما ولكن أريد أن توصوا البواب أن لا يمنعني من الدخول إليكما وإن شاء الله تعالى أدور في الأماكن الطاهرة وأدعو لكما عقب الصلاة والعبادة في كل يوم وليلة.
ثم خرجت من الدار والجارية نعم تبكي على فراقها وما تعلم السبب الذي أتت إليها من أجله، ثم إن العجوز توجهت إلى إلى الحجاج فقال لها: ما وراءك? فقالت له: إني نظرت إلى الجارية فرأيتها لم تلد النساء أحسن في زمانها، فقال لها الحجاج: إن فعلت ما أمرتك به يصل إليك مني خير جزيل، فقالت له: أريد منك المهلة شهراً كاملاً، فقال لها: أمهلتك شهر، ثم إن العجوز جعلت تتردد إلى دار نعمة وجاريته نعم.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز صارت تتردد إلى دار نعمة ونعم وهما يزيدان في إكرامها ومازالت العجوز تمسي وتصبح عندهما ويرحب بها كل من في الدار حتى إن العجوز اختلت بالجارية يوماً من الأيام وقالت: يا سيدتي والله إني حضرت إلى الأماكن الطاهرة ودعوت لك وأتمنى أن تكوني معي حتى تري المشايخ الواصلين ويدعو لك بما تختارين فقالت الجارية نعم: بالله يا أمي أن تأخذيني معك، فقالت لها: استاذني حماتك وأنا آخذك معي، فقالت الجارية لحماتها أم نعمة: يا سيدتي اسألي سيدي أن يخليني أخرج أنا وأنت يوماً من الأيام مع أمي العجوز إلى الصلاة والدعاء مع الفقراء في الأماكن الشريفة، فلما أتى نعمة وجلس تقدمت إليه العجوز تقبل يديه فمنعها من ذلك ودعت له وخرجت من الدار فلما كان ثاني يوم جاءت العجوز ولم يكن نعمة في الدار فأقبلت على الجارية نعم وقالت لها: دعونا لكم البارحة ولكن قومي في هذه الساعة تفرجي وعودي قبل أن يجيء سيدك، فقالت لحماتها: سألتك الله أن تأذني لي في الخروج مع هذه المرأة الصالحة لأتفرج على أولياء الله في الأماكن الشريفة وأعود بسرعة قبل مجيء سيدي، فقالت لها أم نعمة: أخشى أن يعلم سيدك، فقالت العجوز: والله لا أدعها تجلس على الأرض بل تنظر وهي واقفة على أقدامها ولا تبطيء. ثم أخذت الجارية بالجيلة وتوجهت إلى قصر الحجاج وعرفته بجيئها بعد أن حطتها في مقصورة فأتى الحجاج ونظر إليها فرآها أجمل أهل زمانها ولم ير مثلها، فلما رأته سترت وجهها فلم يفارقه حتى استدعى بحاجبه وأركب معه خمسين فارساً وأمره أن يأخذ الجارية على نجيب سابق ويتوجه بها إلى دمشق ويسلها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان وكتب له كتاباً وقال له: أعطه هذا الكتاب وخذ منه الجواب وأسرع لي بالرجوع، فتوجه الحاجب وأخذ الجارية على هجين وسافربها وهي باكية العين من أجل فراق سيدها حتى وصلوا إلى دمشق واستأذن على أمير المؤمنين فأذن له فدخل الحاجب عليه وأخبره بخبر الجارية فأخلى لها مقصورة، ثم دخل الخليفة حريمه فرأى زوجته فقال لها: إن الحجاج قد اشترى لي جارية من بنات ملوك الكوفة بعشرة آلاف دينار وأرسل إلي هذا الكتاب وهي صحبة الكتاب، فقالت له زوجته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والسبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما اخبر زوجته بقصة الجارية قالت له زوجته: زادك الله من فضلك، ثم دخلت أخت الخليفة على الجارية فلما رأتها قالت: والله ما خاب من أنت في منزله ولو كان ثمنك مائة ألف دينار،، فقالت لها الجارية نعم: يا صبيحة الوجه هذا قصر من من الملوك وأي مدينة هذه المدينة? قالت لها: هذه مدينة دمشق وهذا قصر أخي أمير المؤمنين عبد الله بن مروان، ثم قالت ثم قالت الجارية: كأنك ما علمت هذا? قالت: والله يا سيدتي لا علم لي بهذا، قالت: والذي باعك وقبض ثمنك أما أعلمك بأن الخليفة قد اشتراك? فلما سمعت الجارية هذا الكلام سكبت دموعها وبكت وقالت الجارية لنفسها:: إن تكلمت فما يصدقني أحد ولكن أسكت وأصبر لعلمي أن فرج الله قريب، ثم إنها أطرقت رأسها حياء وقد احمرت خدودها من أثر السفر والشمس فتركتها أخت الخليفة في ذلك اليوم وجاءتها في اليوم الثاني بقماش وقلائد من الجوهر وألبستها فدخل عليها أمير المؤمنين وجلس إلى جانبها.
فقالت له أخته: انظر إلى هذه الجارية التي كمل الله فيها من الحسن والجمال، فقال الخليفة لنعم: أزيحي القناع عن وجهك فلم تز ل القناع عن وجهها وإنما رأى معصمها فوقعت محبتها في قلبه وقال لأخته: لا أدخل عليها إلا بعد ثلاثة ايام حتى تستانس بك، ثم قام وخرج من عندها فصارت الجارية متفكرة في أمرها ومتحسرة على افتراقها من سيدها نعمة فلما أتى الليل ضعفت الجارية بالحمى ولم تأكل ولم تشرب تغير وجهها ومحاسنها فعرفوا الخليفة بذلك فشق عليه أمرها ودخل عليها الأطباء وأهل البصائر فلم لها أحد على طب. هذا ما كان من أمرها.
و أما ما كان من أمر سيدها نعمة فإنه أتى إلى داره وجلس على فراشه ونادى: يا نعم فلم تجبه فقام مسرعاً ونادى فلم يدخل عليه أحد وكل جارية بالبيت اختفت خوفاً منه فخرج نعمة إلى والدته فوجدها جالسة ويدها على خدها فقال لها: يا أمي أين نعم? فقالت له: يا ولدي مع من هي أوثق مني مع العجوز الصالحة فإنها خرجت معها لتزور الفقراء وتعود، فقال: ومتى كان لها عادة بذلك وفي أي وقت خرجت? قالت: خرجت بكرة النهار، قال: وكيف أذنت لها بذلك? فقالت له: يا ولدي هي التي أشارت علي بذلك فقال نعمة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم خرج من بيته وهو غائب عن الوجود ثم توجه إلى صاحب الشرطة فقال له: أتحتال علي وتأخذ جاريتي من داري فلا بد لي أن أسافر وأشتكيك إلى أمير المؤمنين، فقال صاحب الشرطة: ومن أخذها? فقال: عجوز صفتها كذا وكذا وعليها ملبوس من الصوف وبيدها سبحة عدد حباتها ألوف فقال له صاحب الشرطة: أوقفني على العجوز وأنا أخلص لك جاريتك فقال: ومن يعرف العجوز? فقال له صاحب الشرطة: ما يعلم بالغيب إلا الله سبحانه وتعالى وقد علم صاحب الشرطة أنها محتالة الحجاج، فقال له نعمة: ما أعرف حاجتي إلا منك وبيني وبينك الحجاج، فقال له: امض إلى من شئت فتوجه نعمة إلى قصر الحجاج وكان والداه من أكابر أهل الكوفة فلما وصل إلى بيت الحجاج دخل حاجب الحجاج عليه وأعلمه بالقضية فقال له: علي به فلما وقف بين يديه قال له الحجاج: ما بالك? فقال له نعمة: كان من أمري ما هو كذا وكذا فقال هاتوا صاحب الشرطة فنأمره أن يفتش على العجوز فلما حضر صاحب الشرطة قال له: أريد منك أن تفتش على جارية نعمة بن الربيع فقال صاحب الشرطة: لا يعلم الغيب غير الله تعالى فقال له الحجاج: لا بد أن تركب الخيل وتبصر الجارية في الطرقات وتنظر في البلدان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والسبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحجاج قال لصاحب الشرطة: لا بد أن تركب الخيل وتنظر في البلدان والطرقات وتفتش على الجارية، ثم التفت إلى نعمة وقال له: إن لم ترجع جاريتك دفعت لك عشر جوار من داري وعشر جوار من دار صاحب الشرطة، ثم قال لصاحب الشرطة اخرح في طلب الجارية فخرج صاحب الشرطة ونعمة مغموم وقد يئس من الحياة وكان قد بلغ من العمر أربع عشرة سنة ولا نبات بعارضيه فجعل يبكي وينتحب وانعزل عن داره ولم يزل يبكي إلى الصباح فأقبل والده عليه وقال له: يا ولدي إن الحجاج قد احتال على الجارية وأخذها من ساعة إلى ساعة يأتي فيها الله بالفرج م عنده فتزايدت الهموم على نعمة وصار لا يعلم ما يقول ولا يعرف من يدخل عليه وأقام ضعيفاً ثلاثة أشهر حتى تغيرت أحواله ويئس منه أبوه ودخلت عليه الأطباء فقالوا: ما له دواء إلا الجارية.
فبينما والده جالس يوماً من الأيام إذ سمع بطبيب وهو أعجمي وقد وصفه الناس بإتقان الطب والتنجيم وضرب الرمل فدعا به الربيع فلما حضر أجلسه الربيع وأكرمه وقال له: انظر ما حال ولدي، فقال لنعمة: هات يدك فاعطاه يده فجس مفاصله ونظر في وجهه وضحك والتفت إلى أبيه وقال: ليس بولدك مرض غير مرض في قلبه فقال: صدقت يا حكيم فانظر في شأن ولدي بمعرفتك واخبرني بجميع أحواله ولا تكتم عني شيئاً من امره، فقال الأعجمي: إنه متعلق بجارية وهذه الجارية في البصرة أو دمشق وما دواء ولدك غير اجتماعه به فقال الربيع: إن جمعت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الربيع قال للعجمي: إن جمعت بينهما فلك عندي ما يسرك وتعيش عمرك كله في المال والنعمة، فقال له الأعجمي: إن هذا الأمر قريب وسهل ثم التفت إلى نعمة وقال له: لا بأس عليك فطب نفساً وقر عيناً، ثم قال للربيع: اخرج من مالك أربعة آلاف دينار فأخرجها وسلمها للأعجمي فقال له الأعجمي: أريد م ولدك أن يسافر معي إلى دمشق ثم إن نعمة ودع والده ووالدته وسافر مع الحكيم إلى حلب فلم يقع على خبر الجارية ثم إنهما وصلا إلى دمشق وأقاما فيها ثلاثة ايام. وبعد ذلك أخذ الأعجمي دكاناً وملأ رفوفها بالصيني النفيس والأغطية وزركش الرفوف بالذهب والقطع المثمنة وحط قدامه أواني من القناني فيها سائر الأدهان والأشربة ووضع حول القناني أقداحاً من البلور وحط الإصطرلاب قدامه ولبس أثواب الحكمة والطب وأوقف بين يديه نعمة وألبسه قميصاً وملوط من الحرير بفوطة في وسطه م الحرير مزركشة بالذهب ثم قال الأعجمي لنعمة: يا نعمة أنت من اليوم ولدي فلا تدعني إلا بأبيك وأنا لا أدعوك إلا بولدي. فقال نعمة: سمعاً وطاعة، ثم إن أهل دمشق اجتمعوا على دكان الأعجمي ينظرون إلى حسن نعمة وإلى حسن الدكان والبضائع التي فيها والعجمي يكلم نعمة بالفارسية ونعمة يكلمه كذلك بتلك اللغة لأنه كان يعرفها على عادة أولا د الأكابر واشتهر ذلك العجمي عند أهل دمشق وجعلوا يصفون له الأوجاع وهو يعطيهم الأدوية، فبينما هو ذات يوم جالس إذ أقبلت عليه عجوز راكب على حمار بردعته من الديباج المرصع بالجواهر فوقفت على دكان العجمي وشدت لجام الحمار وأشارت للعجمي وقالت له: أمسك يدي فأخذ يدها فنزلت من فوق الحمار وقالت له: أنت الطبيب العجمي الذي جئت من العراق? قال: نعم، قالت: اعلم أن لي بنتاً وبها مرض وأخرجت له قارورة. فلما نظر العجمي إلى ما فوق القارورة قال لها: يا سيدتي ما اسم تلك الجارية حتى أحسب لها نجمها وأعرف ساعة يوافقها فيها شرب الدواء? فقالت: يا أخا الفرس اسمها نعم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجمي لما سمع اسم نعم جعل يحسب ويكتب على يده وقال لها: يا سيدتي ما أصف لها دواء حتى أعرف من أي أرض هي لأجل اختلاف الهواء فعرفيني في أي أرض تربت وكم سنة سنها، فقالت العجوز: سنها أربع عشرة سنة ومر بها بأرض الكوفة من العراق، فقال: وكم شهراً لها في هذه الديار? فقالت له: قامت في هذه الديار شهوراً قليلة. فلما سمع نعمة كلام العجوز وعرف اسم جاريته خفق قلبه فقال لها الأعجمي: يوافقها من الأدوية كذا وكذا، فقالت له العجوز: أعطني ما وصفت على بركة الله تعالى ورمت له عشرة دنانير على الدكان، فنظر الحكيم إلى نعمة وامره أن يهيء لها عقاقير الدواء وصارت العجوز تنظر إلى نعمة وتقول: أعيذك بالله يا ولدي إن شكلها مثل شكلك، ثم قالت العجوز للعجمي: يا أخا الفرس هل هذا مملوكك أم ولدك? فقال لها: إنه ولدي، ثم إن نعمة وضع لها الحوائج في علبة وأخذ ورقة وكتب فيها هذين البيتين:
إذا أنعمت نعم علـي بـنـظـرة               فلا أسعدت سعدي ولا أفلت جمل
وقالوا أسل عنها تعط عشرين مثلها               وليس لها مثل ولست لها أسـلـو

ثم خبأ الورقة في داخل العلبة وختمها وكتب على غطاء العلبة بالخط الكوفي: أنا نعمة بن الربيع ثم وضعت العلبة قدام العجوز فأخذتها وودعتهما وانصرفت متوجهة إلى قصر الخلافة فلما طلعت العجوز بالحوائج إى القاعة وضعت الدواء قدامها ثم قالت لها: يا سيدتي اعلمي أنه قد أتى مدينتنا طبيب أعجمي ما رأيت أحداً أعرف بأمور الأمراض منه فذكرت له اسمك بعد أن رأى القارورة فعرف مرضك ووصف دواءك ثم أمر ولد فشد لك هذا الدواء وليس في دمشق جمل ولا أظرف من ولده ولا أحسن ثياباً منه ولا يوجد لأحد دكاناً مثل دكانه فأخذت العلبة فرأت مكتوباً على غطائها اسم سيدها واسم أبيه، فلما رأت ذلك تغير لونها وقالت: لاشك أن صاحب الدكان قد أتى في شأني ثم قالت للعجوز: صفي لي هذا الصبي فقالت اسمه نعمة وعلى حاجبه الأيمن أثر وعليه ملابس فاخرة وله حسن كامل، فقالت الجارية: ناوليني الدواء على بركة الله وعونه وأخذت الدواء وشربته وهي تضحك وقالت لها: إنه دواء مبارك ثم فتشت في العلبة فرأت الورقة ففتحتها وقرأتها فلما فهمت معناها تحققت أنه سيدها فطابت نفسها وفرحت، فلما رأتها العجوز قد ضحكت قالت لها: هذا اليوم يوم مبارك فقالت نعم: يا قهرمانة أريد منك الطعام والشراب فقالت العجوز للجواري: قدمن الموائد والأطعمة الفاخرة لسيدتكن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت للجواري: أحضرن الطعام فقدمن إليها الأطعمة، وجلست للأكل وإذا بعبد الملك بن مروان قد دخل عليهن ونظر الجارية جالسة وهي تأكل الطعام ففرح ثم قالت القهرمانة: يا أمير المؤمنين يهنيك عافية جاريتك نعموذلك أنه وصل إلى هذه المدينة رجل طبيب ما رأيت أعرف منه بالأمراض ودوائها فأتيتت لها منه بدواء فتعافت منه مرة واحدة فحصلت لها العافية، فقال لها أمير المؤمنين: خذخي ألف دينار وأعطيها للذي أبرأها، ثم خرج وهو فرحان بعافية الجارية وراحت العجوز إلى دكان العجمي بالألف دينار وأعطته إياها وأعلمته أنها جارية الخليفة وناولته ورقة كانت نعم قد كتبتها فأخذها العجمي وناولها لنعمة، فلما رآها عرف خطها فرقع مغشياً عليه فلما أفاق فتح الورقة، فوجد مكتوباً فيها: من الجارية المسلوبة من نعمتها المخدوعة في عقلها المفارقة لحبيب قلبها أما بعد. فإنه قد ورد كتابكم علي فشرح الصدر وسر الخاطر وكان كقول الشاعر:
وورد الكتاب فلا عدمت أناملاً             كتبت به حتى تضمخ طـيبـاً
فكأن موسى قد أعـيد لأمـه                أو ثوب يوسف قد أتى يعقوب

فلما قرأ نعمة هذا الشعر هملت عيناه بالدموع فقالت له القهرمانة: ما الذي يبكيك يا ولدي لا أبكى الله لك عيناً? فقال العجمي: يا سيدتي كيف لا يبكي ولدي وهذه جاريته وهو سيدها نعمة بن الربيع الكوفي، وعافية هذه الجارية مرهونة برؤيته وليس لها علة إلا هواه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجمي قال للعجوز: كيف لا يبكي ولدي وهذه جاريته وهو سيدها نعمة بن الربيع الكوفي، وعافية هذه الجارية مرهونة برؤيته وليس لها علة إلا هواه فخذي أنت يا سيدتي هذه الألف دينار لك ولك عندي أكثر من ذلك وانظري لنا بعين الرحمة وإننا لا نعرف إصلاح هذا الأمر إلا منك، فقالت العجوز لنعمة: هل أنت مولاها? قال: نعم، قالت: صدقت فإنها لا تفتر عن ذكرك فأخبرها نعمة بما جرى من الأول إلى الآخر فقالت العجوز: يا غلام لا تعرف اجتماعك بها إلا مني، ثم ودعته وذهبت إلى الجارية وقالت لها: إن سيدك قد ذهبت روحه في هواك وهو يريد الإجتماع بك فما تقولين في ذلك?فقالت نعم: وأنا كذلك قد ذهبت روحي وأريد الإجتماع به. فعند ذلك أخذت العجوز بقجة فيها حلي ومصاغ وبدلة من ثياب النساء وتوجهت إلى نعمة وقالت له: ادخل بنا مكاناً وحدنا فدخل معها قاعة خلف الدكان ونقشته وزينت معاصمه وزوقت شعره وألبسته لباس جارية وزينته بأحسن ما تزين به الجواري فصار كأنه من حور الجنان فلما رأته القهرمانة في تلك الصفة قالت: تبارك الله أحسن الخالقين والله إنك لأحسن من الجارية ثم قالت له: امشو قدم الشمال وأخر اليمين وهز أردافك فمشى قدامها، كما أمرته فلما رأته قد عرف مشي النساء قالت له: امكث حتى آتيك ليلة غد إن شاء الله تعالى فآخذك وادخل بك القصر، وإذا نظرت الحجاب والخدامين فقو عزمك وطاطئ رأسك ولا تتكلم مع أحد وأنا أكفيك كلامهم وبالله التوفيق.
فلما أصبح الصباح أتته القهرمانة في ثاني يوم وأخذته وطلعت به القصر ودخلت قدامه ودخل وراءها في أثرها فأراد الحاجب أن يمنعه من الدخول فقالت له: يا أنحس العبيد إنها الجارية نعم محظية أمير المؤمنين فكيف تمنعها من الدخول ثم قالت: ادخلي يا جارية فدخل مع العجوز ولم يزالا داخلين إلى الباب الذي يتوصل منه إلى صحن القصر فقالت له العجوز: يا نعمة قو نفسك وثبت قلبك وادخل القصر وخذ على شمالك وعد خمسة أبواب وادخل الباب السادس فإنه باب المكان المعد لك وتخف وإذا كلمك أحد فلا تتكلم معه ثم سارت حتى وصلت إلى الأبواب فقابلها الحاجب المعد لتلك الأبواب قال لها: ما هذه الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحاجب قابل العجوز وقال لها: ما هذه الجارية? فقالت له العجوز: إن سيدتنا تريد شراءها، فقال الخادم: ما يدخل أحد إلا بإذن أمير المؤمنين فارجعي بها فإني لا أخليها تدخل لأني أمرت بهذا، فقالت له القهرمانة: أيها الحاجب الكبير أين عقلك إن نعماً جارية للخليفة الذي قلبه معلقق بها قد توجهت إليها العافية وما صدق أمير المؤمنين بعافيتها وتريد شراء هذه الجارية فلا تمنعها من الدخول لئلا يبلغها أنك منعتها فتغضب عليك وإن غضبت عليك تسببت في قطع رأسك، ثم قالت: ادخلي يا جارية ولا تسمعي كلامه ولا تخبري سيدتك أن الحاجب منعك من الدخول فطأطأ نعمة رأسه ودخل القصر وأراد أن يمشي إلى جهة يمينه وأراد أن يعد الخمسة أبواب ويدخل السادس فعد ستة ودخل السابع، فلما دخل ذلك الباب رأى موضعاً مفروشاً بالديباج وحيطانه عليها ستائر الحرير المرقومة بالذهب وفيه مباخر العود والعنبر والمسك والأذفر ورأى سريراً في الصدر مفروشاً بالديباج فجلس عليه نعمة ولم يعلم بما كتب له في الغيب، فبينما هو جالس متفكر في أمره إذ دخلت عليه أخت أمير المؤمنين ومعها جاريتها فلما رأت الغلام جالساً ظنته جارية فقدمت إليه وقالت له: من تكوني يا جارية وما خبرك? وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخت الخليفة قالت لنعمة ما خبرك وما سبب دخولك في هذا المكان? فلم يتكلم نعمة ولم يرد عليها جواباً فقالت: يا جارية إن كنت من محاظي أخي وقد غضب عليك فأنا أستعطفه عليك، فلم يرد نعمة عليها جواباً فعند ذلك قالت لجاريتها: قفي على باب المجلس ولا تدعي احداً يدخل. ثم تقدمت إليه ونظرت إلى جماله وقالت: يا صبية عرفيني من تكوني، وما اسمك وما سبب دخولك هنا فأنا لم أنظرك في قصرنا فلم يرد عليها جواباً، فعند ذلك غضبت أخت الخليفة وو وضعت يدها على صدر نعمة فلم تجد له نهوداً فأرادت أن تكشف ثيابه لتعلم خبره فقال لها نعمة: يا سيدتي أنا مملوك فاشتريني وأنا مستجير بك فأجيريني، فقالت له: لا بأس عليك فمن أنت ومن أدخلك مجلسي هذا? فقال لها نعمة: أنا أيتها الملكة أدعى نعمة بن الربيع الكوفي وخاطرت بروحي لأجل جاريتي نعم التي احتال عليها الحجاج وأخذها وأرسلها إلى هنا، فقالت له: لا بأس عليك ثم صاحت على جاريتها وقالت لها: امض إلى مقصورة نعم وقد كانت القهرمانة أتت إلى مقصورة نعم وقالت لها: هل وصل إليك سيدك? فقالت لا والله، فقالت القهرمانة: لعله غلط فدخل غير مقصورتك وتاه عن مكانك، فقالت نعم: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد فرغ أجلنا وهلكنا وجلستا متفكرتان، فبينما هما كذلك إذ دخلت عليهما جارية أخت الخليفة فسلمت على نعم، وقالت لها: إن مولاتي تدعوك إلى ضيافتها، فقالت سمعاً وطاعة، فقالت القهرمانة: لعل سيدك عند أخت الخليفة وقد انكشف الغطاء فنهضت نعم من وقتها وساعتها ودخلت على أخن الخليفة فقالت لها: هذا مولاك جالس عندي، وكأنه غلط في المكان وليس عليك ولا عليه خوف إن شاء الله تعالى.
فلما سمعت نعم هذا الكلام من أخت الخليفة اطمأنت إلى نفسها وتقدمت إلى مولاها نعمة، فلما نظرها قام إليها، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نعمة لما نظر إلى جاريته نعم قام إليها وضم كل واحد منهما صاحبه إلى صدره ثم وقعا على الأرض مغشياً عليهما، فلما أفاقا، قالت لهما أخت الخليفة: اجلسا حتى نتدبر في الخلاص من الأمر الذي وقعنا فيه، فقالا لها: سمعاً وطاعة والأمر لك فقالت: والله ما ينالكما سوء قط ثم قالت لجاريتها: أحضري الطعام والشراب، فأحضرت فأكلوا بحسب الكفاية ثم جلسوا يشربون فدارت الأقداح وزالت عنهم الأتراح فقل نعمة: ليت شعري بعد ذلك ما يكون، فقالت له أخت الخليفة: يا نعمة هل تحب نعماً جاريتك? فقال لها: يا سيدتي إن هواها هو الذي حملني على ما أنا فيه من المخاطرة بروحي، ثم قالت لنعم: يا نعم هل تحبين سيدك? قالت: يا سيدتي هواه هو الذي أذاب جسمي وغير حالي، فقالت والله أنكما متحابان فلا كان من يفرق بينكما فقرا عيناً وطيبا نفساً ففرحا بذلك وطلبت نعم عوداً فأحضروه لها فأخذته وأصلحته وأطربت بالنغمات ن وانشدت هذه الأبيات:
ولما أبى الواشون إلا فـراقـنـا             وليس لهم عندي وعندك من ثأر
وشنوا على أسماعنا كـل غـارة           وقلت حماني عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتـيك وأدمـعـي             ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
ثم إن نعماً أعطت العود لسيدها وقالت له إن لنا شعراً، فأخذه وأصلحه وأطرب بالنغمات ثم أنشد هذه الأبيات:
البدر يحكـيك لـولا أنـه كـلـف              والشمس مثلك لولا الشمس تنكسف
إني عجبت وكم في الحب من عجب                فيه الهموم وفيه الوجد والكـلـف
أرى الطريق قريباً حين أسـلـكـه           إلى الحبيب بعيداً حين أنـصـرف
فلما فرغ من شعره ملأت له قدحاً وناولته إياه فأخذه وشربه ثم ملأت قدحاً آخر وناولته لأخت الخليفة فشربته وأخذت العود وأصلحته وشدت اوتاره وأنشدت هذين البيتين:
غم وحزن في الفؤاد مـقـيم                وجودي تردد في حشاي عظيم
ونحول جسمي قد تبدى ظاهراً            فالجسم مني بالغرام سـقـيم
ثم ناولت العود لنعمة بن الربيع فأخذه وأصلح أوتاره وأنشد هذين البيتين:
يا من وهبت له روحي فعذبتها            ورمت تخليصه منه فلم أطق
دارك محباً بما ينجيه من تلف              قبل الممات فهذا آخر الرمق

و لم يزالوا ينشدون الأشعار ويشربون على نغمات الأوتار وهم في لذة وحبور وفرح وسرور فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أمير المؤمنين، فلما نظروه قاموا وقبلوا الأرض بين يديه فنظر إلى نعم والعود معها، فقال يا نعم الحمد لله الذي أذهب عنك اليأس والوجع، ثم التفت إلى نعمة وهو عل تلك الحالة وقال: يا أختي من هذه الجارية التي في جانب نعم?فقالت له أخته يا أمير المؤمنين إن هذه الجتارية من المحاظي أنيسة لا تأكل نعم ولا تشرب إلا وهي معها، ثم أنشدت قول الشاعر:
ضدان واجتمعا افتراقا في البهاء                   والضد يظهر حسنه بالـضـد

فقال الخليفة: والله العظيم أنها مليحة وفي غد أخلي لها مجلساً بجانب مجلسها وأخرج لها الفرش والقماش وأنقل إليها جميع ما يصلح لها أكثر مما لنعم واستدعت أخت الخليفة بالطعام فقدمته لأخيها فأكل وجلس معهم في تلك الحضرة ثم ملأ قدحاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الخليفة لما مل القدح وأومأ إلى نعم بأن تنشد له الشعر فأخذت العود بعد أن شربت قدحين وأنشدت هذين البيتين:
إذا ما نديمي علني ثم علني                ثلاثة أقداح لهـن هـدير
لأبيت أجر الذيل تيهاً كأني                  عليك أمير المؤمنين أمير
فطرب أمير المؤمنين وملأ قدحاً آخر وناوله إلى نعم وأمرها أن تغني، فبعد أن شربت القدح حسبت الأوتار وأنشدت هذه الأشعار:
يا أشرف الناس في هذا الزمان وما                له مثيل بهذا الأمـر يفـتـخـر
يا واحداً في العلا والجود منصبـه                  يا سيداً ملكاً في الكل مـشـهـر
يا مالكاً لملـوك الأرض قـاطـبة             تعطي الجزيل ولا من ولا ضجر
أبقاك ربي على رغم العدا كـمـداً          وزان طالعك الإقبال والـظـفـر

فلما سمع الخليفة من نعم هذه الأبيات قال لها: لله درك يا نعم ما أفصح لسانك وأوضح بيانك، ولم يزالوا في فرح وسرور إلى نصف الليل، ثم قالت أخت الخليفة: اسمع يا أمير المؤمنين أنني رأيت حكاية في الكتب عن بعض أرباب المراتب قال الخليفة: وما تلك الحكاية فقالت له أخته: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان بمدين الكوفة صبي يسمى نعمة بن الريع وكان له جارية يحبها وكانت قد تربت معه في فراش واحد، فلما بلغا وتمكن حبهما من بعضهما رماهما الدهر بنكباته وجار عليهما الزمان بآفاته وحكم عليهما بالفراق وتحيلت عليها الوشاة حتى خرجت من داره وأخذوها سرقة من مكانه ثم إن سارقها باعها لبعض الملوك بعشرة آلاف دينار وكان عند الجارية لمولاها من المحبة مثل ما عنده لها ففارق أهله وداره وسافر في طلبها وتسبب باجتماعه بها، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نعمة لم يزل معارفاً لأهله ووطنه وخاطر بنفسه وبذل مهجته حتى توصل إلى اجتماعه بجاريته وكان يقال لها نعم، فلما اجتمع بها سراً لم يستقر بهما الجلوس حتى دخل عليهما الملك الذي كان اشتراها من الذي سرقها فعجل عليهما وامر بقتلهما ولم ينصف من نفسه ولم يمهل عليه في حكمه، فما تقول يا أمير المؤمنين في قلة إنصاف هذا الملك فقال أمير المؤمنين إن هذا شيء عجيب فكان ينبغي لذلك الملك العفة عند المقدرة لأنه يجب عليه أن يحفظ ثلاثة أشياء الأول أنهما متحابان والثاني أنهما في منزله وتحت قبضته والثالث أن الملك ينبغي له في الحكم بين الناس فكيف بالأمر الذي يتعلق به، فهذا الملك قد فعل فعلاً لا يشبه فعل الملوك، فقالت له أخته يا أخي بحق ملك السموات والأرض أن تأمر نعماً بالغناء وتسمع ما تغني به فقال: يا نعم إن لي فأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
غدر الزمـان ولـم يزل غـداراً              يصمي القلوب ويورث الأفكارا
ويفرق الأحباب بعـد تـجـمـع               فترى الدموع على الخدود غزارا
كانوا وكنت وكان عيشي ناعمـاً           والدهر يجمع شملنـا مـدرارا
فلأبكين دماً ودمعاً ساجماً                  أسفاً عليك ليالياً ونهارا

فلما سمع أمير المؤمنين هذا الشعر طرب طرباً عظيماً فقالت له أخته: يا أخي من حكم على بشيء ألزمه القيام به والعمل بقوله وأنت قد حكمت على نفسك هذا الحكم،، ثم قالت: يا نعمة قف على قدميك وكذا قفي أنت يا نعم فوقفا فقالت أخت الخليفة أمير المؤمنين: إن هذه الواقفة هي نعم المسروقة سرقها الحجاج بن يوسف الثقفي وأوصلها لك وكذب فيما ادعاه في كتابه من انه اشتراها بعشرة آلاف دينار وهذا الواقف هو نعمة بن الربيع سيدها وأنا أسألك بحرمة آبائك الطاهرين أن تعفو عنهما وتهبهما لبعضهما لتغنم أجرهما فإنهما في قبضتك وقد أكلا من طعامك وشربا من شرابك وان الشافعة فيهما المستوهبة دمهما.
فعند ذلك قال الخليفة: صدقت أنا حكمت بذلك وما أحكم بشيء وأرجع فيه، ثم قال: يا نعم هل هذا مولاك? قالت له: نعم يا أمير المؤمنين فقال: لا بأس عليكما فقد وهبتكما لبعضكما، ثم قال: يا نعمة وكيف عرفت مكانها ومن وصف لك هذا المكان. فقال: يا أمير المؤمنين اسمع خبري وأنصت إلى حديثي فوحق آبائك الطاهرين لا أكتم عنك شيئاً، ثم حدثه بجميع ما كان من أمره وما فعله معه الحكيم العجمي وما فعلته القهرمانة وكيف دخلت به في الأبواب.
فتعجب الخليفة من ذلك غاية العجب ثم قال: علي بالعجمي فأحضروه بين يديه فجعله من جملة خواصه وخلع عليه خلعة وأمر له بجائزة سنية وقال من يكون هذا تدبيره يجب أن نجعله من خواصنا، ثم إن الخليفة أحسن على نعمة وأنعم على القهرمانة وقعدا عنده سبعة أيام في سرور وحظ وأرغد عيش، ثم طلب نعمة اإذن بالسفر هو وجاريته فأذن له بالسفر إلى الكوفة فسافر واجتمع بوالده ووالدته وأقاموا في أطيب عيش إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات، فلما سمع الأمجد والأسعد هذا الحديث من بهرام تعجبا منه غاية العجب وقالا: إن هذا لشيء عجيب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الأمجد والأسعد لما سمعا من بهرام المجوسي الذي استلم هذه الحكاية تعجبا منها غاية العجب وباتا تلك الليلة، ولما أصبح وركب الأمجد والأسعد وأرادا أن يدخلا على الملك استأذنا في الدخول فأذن لهما، فلما دخلا أكرمهما وجلسوا يتحدثون، فبينما هم كذلك إذا بأهل المدينة يصيحون ويتصارخون ويستغيثون فدخل الحاجب على الملك وقال له: إن ملكاً من الملوك نزل بعساكره على المدينة وهم شاهرون السلاح وما ندري ما مرادهم فأخبر الملك ووزيره الأمجد وأخاه الأسعد بما سمعه من الحاجب. فقال الأمجد: أنا أخرج إليه وأكشف خبره فخرج الأمجد إلى ظاهر المدينة فوجد الملك ومعه عسكر كثير ومماليك راكبة فلما نظروا إلى الأمجد عرفوا أنه رسول من عند ملك المدينة فأخذوه وأحضروه قدام السلطان فلما صار قدامه قبل الأرض بين يديه وإذا بالملك إمرأة ضاربة لها لثاماً فقالت: اعلم أنه ما لي عندكم غرض في هذه المدينة إلا مملوك أمرد فإن وجدته عندكم فلا بأس عليكم وإن لم أجده وقع بيني وبينكم القتال الشديدلأنني ما جئت إلا في طلبه، فقال الأمجد: أيتها الملكة ما صفة هذا المملوك وما اسمه? فقالت: اسمه الأسعد وانا اسمي مرجانة وهذا المملوك جاءني صحبة بهرام المجوسي وما رضي أن يبيعه فأخذته منه غصباً فعدا عليه وأخذه من عندي بالليل سرقة واما أوصافه فإنها كذا وكذا.
فلما سمع الأمجد ذلك علم أنه أخوه الأسعد فقال لها: يا ملكة الزمان الحمد لله الذي جاء بالفرح وإن هذا المملوك هو أخي ثم حكى لها حكايته وما جرى لهما في بلاد الغربة وأخبرها بسبب خروجهما من جزائر الآبنوس فتعجبت الملكة مرجانة من ذلك وفرحت بلقاء الأسعد وخلعت على أخيه الأمجد ثم بعد ذلك عاد الأمجد إلى الملك وأعلمه بما جرى ففرحوا بذلك ونزل الملك هو والأمجد والأسعد قاصدين الملكة فلما دخلوا عليها وجلسوا يتحدثون فبينما هم كذلك إذا بالغبار طار حتى سد الأقطار وبعد ساعة انكشف الغبار عن عسكرجرار مثل البحر الذخار وهم مهيئون بالعدد والسلاح فقصدوا المدينة ثم داروا بها كما يدور الخاتم بالخنصر وشهروا سيوفهم فقال الأمجد والأسعد: إنا لله وإنا إليه راجعون ماهذا الجيش الكبير إن هذه أعداء لا محالة وإن لم نتفق مع هذه الملكة مرجانة على قتالهم أخذوا منا المدينة وقتلونا وليس لنا حيلة إلا أننا نخرج إليهم ونكشف خبرهم ثم قام الأمجد وخرج من باب المدينة وتجاوز جيش الملكة مرجانة فلما وصل إلى العسكر وجده عسكر جده الملك الغيور وابا أمه الملكة بدور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأمجد لما وصل إلى العسكر وجدها عسكر الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور والسبعة قصور فلما صار قدامه قبل الأرض بين يديه وبلغه الرسالة وقال له: ما اسمك? قال: اسمي الملك الغيور وقد جئت عابر سبيل لأن الزمان قد فجعني في بنتي بدور فإنها فارقتني وما رجعت إلي وما سمعت لها ولزوجها قمر الزمان خبراً، فهل عندكم خبرها? فلما سمع الأمجد ذلك أطرق رأسه إلى الرض ساعة يتفكر حتى تحقق أنه جده أبو أمه، ثم رفع رأسه وقبل الأرض بين يديه واخبره أنه ابن بنته بدور. فلما سمع الملك أنه ابن ابنته بدور رمى نفسه عليه وصارا يبكيان ثم قال الملك الغيور: والحمد لله يا ولدي على السلامة حيث اجتمعت بك ثم قال له الأمجد: إن ابنته بدور في عافية وكذلك أبوه قمر الزمان وأخبره أنهما في مدينة يقال لها جزيرة الأبنوس، وحكى له أن قمر الزمان والده غضب عليه وعلى أخيه وامر بقتله وأن الخازندار رق لهما وتركهما بلا قتل، فقال الملك الغيور: وانا أرجع بك وبأخيك إلى والدك وأصلح بينكما وأقيم عندكم، فقبل الأرض بين يديه ثم خلع الملك الغيور على الأمجد ابن ابنته ورجع مبتسماً إلى الخليفة وأعلمه بقصة الملك الغيور فتعجب منها غاية العجب ثم أرسل له آلات الضيافة من الخيل والجمال والغنم والعليق وغير ذلك وأخرج للملكة مرجانة كذلك وأعلموها بما جرى فقالت: أنا أذهب معكم بعسكري وأكون ساعية في الصلح. فبينما هم كذلك إذا بغبار قد ثار حتى سد الأقطار واسود منه النهار وسمعوا من تحته صياحاً وصراخاً وصهيل الخيل ورأوا سيوفاً تلمع ورماحاً تشرع فلما قربوا من المدينة ورأوا العسكرين ودقوا الطبول فلما رأى الملك ذلك قال: ما هذا النهار إلا نهار مبارك الحمد لله الذي أصلحنا مع هذين العسكرين وإن شاء الله تعالى يصلحنا مع هذا العسكر أيضاً ثم قال: يا أمجد أخرج أنت وأخوك الأسعد اكشفا لنا خبر هذه العساكر فإنه جيش ثقيل ما رأيت أثقل منه فخرج الاثنان الأمجد وأخوه الأسعد بعد أن أغلق الملكباب المدينة خوفاً من العسكر المحيط بها ففتحا البواب وسارا حتى وصلا إلى العسكر فوجداه عسكر ملك الآبنوس وفيه والدهما قمر الزمان فلما نظراه قبلا الأرض بين يديه وبكيا.
فلما رآهما قمر الزمان رمى نفسه عليهما وبكى بكاءً شديداً واعتذر لهما وضمهما إلى صدره ثم أخبرهما بما قاساه بعدهما من الوحشة الشديدة لفراقهما ثم إن الأمجد والأسعد ذكرا له عن الملك الغيور أنه وصل إليهم فركب قمر الزمان في خواصه وأخذ ولديه الأمج والأسعد معه وساروا حتى وصلوا إلى قرب عسكر الملك الغيور فسبق واحد منهم إلى الملك الغيور وأخبروه أن قمر الزمان وصل فطلع إلى ملاقاته فاجتمعوا ببعضهم وتعجبوا من هذه الأمور وكيف اجتمعوا في هذا المكان وصنع أهل المدينة الولائم وأنواع الأطعمة والحلويات وقدموا الخيول والجمال والضيافات والعليق وما تحتاج إليه العساكر.
فبينما هم كذلك إذا بغبار ثار حتى سد الأقطار وقد ارتجفت الأرض من الخيول وصارت الطبول كعواصف الرياح والجيش جميعه بالعدد والأزاد وكلهم لابسون السواد وفي وسط شيخ كبير ولحيته واصلة إلى صدره عليه ملابس سوداء فلما نظر أهل أهل المدينة هذه العساكر العظيمة قال صاحب المدينة للملوك: الحمد لله الذي اجتمعتم بإذنه تعالى في يوم واحد وكنتم كلكم معارف فما هذا العسكر الجرار الذي قد سد الأقطار? فقال له الملوك: لا تخف فنحن ثلاثة ملوك وكل ملك له عساكر كثيرة فإن كانوا أعداء نقاتله معك ولو زادوا ثلاثة أمثالهم.
فبينما هما كذلك إذا برسول من تلك العساكر قد أقبل متوجهاً إلى هذه المدينة فقدموه بين يدي قمر الزمان والملك الغيور والملكة مرجانة والملك صاحب المدينة فقبل الأرض وكان هذا الملك من بلاد العجم وقد فقد ولده من مدة سنتين وهو دائر يفتش عليه في الأقطار فإن وجده عندكم فلا بأس عليكم وإن لم يجده وقع الحرب بينه وبينكم وأخرب مدينتكم، فقال له قمر الزمان: ما يصل إلى هذا ولكن ما يقال له في بلاد العجم فقال الرسول: يقال له الملك شهرمان صلحب جزائر خالدات وقد جمع هذه العساكر من الأقطار التي مر بها وهو دائر يفتش على ولده.
فلما سمع قمر الزمان كلام الرسول صرخ صرخة عظيمة وخر مغشياً عليه واستمر في غشيته ساعة ثم أفاق وبكى بكاءً شديداً وقال للأمجد والأسعد وخواصهما: امشوا يا أولادي مع الرسول وسلموا على جدكم والدي الملك شهرمان وبشروه بي فإنه حزين على فقدي وهو الآن لابس الملابس السود من أجلي ثم حكى للملوك الحاضرين جميع ما جرى له في أيام صباه فتعجب جميع الملوك من ذلك ثم نزلوا هم وقمر الزمان وتوجهوا إلى والده فسلم قمر الزمان على والده وعانقا بعضهما ووقعا مغشياً عليهما من شدة الفرح. فلما أفاقا حكى لابنه جميع ما جرى له ثم سلم عليه بقية الملوك وردوا مرجانة إلى بلادها بعد أن زوجوها للأسعد ووصوها أنها لا تقطع عنهم مراسلتها ثم زوجوا الأمجد بستان بنت بهرام وسافروا كلهم إلى مدينة الآبنوس وخلا قمر الزمان بصهره وأعلمه بجميع ما جرى له وكيف اجتمع بأولاده ففرح وهنأه بالسلامة ثم دخل الملك الغيور أبو الملكة بدور على ابنته وسلم عليها وبل شوقه منها وقعدوا في مدينة الآبنوس شهراً كاملاً ثم سافر الملك الغيور بابنته إلى بلده.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك الغيور سافر بابنته وجماعته إلى بلده وأخذ الأمجد معهم فلما استقر في مملكته أجلس الأمجد يحكم مكان جده وأما قمر الزمان فإنه أجلس ابنه الأسعد يحكم في مكانه في مدينة جده أرمانوس ورضي به جده ثم تجهز قمر الزمان وسافر مع أبيه الملك شهرمان إلى أنوصل إلى جزائر خالدات فزينت له المدينة فاستمرت البشائر شهراً كاملاً وجلس قمر الزمان يحكم مكان أبيه إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات والله أعلم. فقال الملك: يا شهرزاد إن هذه الحكاية عجيبة جداً،قالت أيها الملك ليست هذهبأعجب من حكاية علاء الدين أبو الشامات قال: ما حكايته?

حكاية علاء الدين أبو الشامات

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والآوان رجل تاجر بمص يقال له شمس الدين وكان من أحسن التجار وأصدقهم مقالاً وهو صاحب خدم وحشم وعبيد وجوار ومماليك ومال كثير وكان شاهبندر التجار بمصر وكان معه زوجة يحبها وتحبه إلا أنه عاش معها أربعين عاماً ولم يرزق منها بنت ولا ولد فقعد يوماً من الأيام في دكانه فرأى التجار وكل واحد منهم له ولد وولدان أو أكثر وهم قاعدون في دكاكين مثل آبائهم وكان ذلك اليوم يوم جمعة. فدخل ذلك التاجر الحمام واغتسل غسل الجمعة ولما طلع أخذ مرآة المزين فرأى وجهه فيها وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنمحمداً رسول الله، ثم نظر إلى لحيته فرأى البياض غطى السواد وتذكر أن الشيب نذير الموت وكانت زوجته تعرف ميعاد مجيئه فتغتسل وتصلح من شأنها له فدخل عليها فقالت له: مساء الخير فقال لها: أنا ما رأيت الخير وكانت قالت للجارية: هاتي سفر العشاء فأحضرت الطعام وقالت له: تعش يا سيدي فقال لها ك ما آكل شيئاً واعرض عن السفر بوجهه فقالت له: ما سبب ذلك وأي شيء أحزنك? فقال لها: أنت سبب حزني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شمس الدين قال لزوجته: أنت سبب حزني فقالت له: لأي شيء? فقال لها: إني فتحت دكاني في هذا اليوم ورأيت كل واحد من التجار له ولد أو ولدان أو أكثر وهم قاعدون في الدكاكين مثل آبائهم فقلت لنفسي: إن الذي أخذ أباك ما يخليك وليلة دخلت بك حلفتيني أنني ما أتزوج عليك ولا أتسرى بجارية حبشية ولا رومية ولا غير ذلك من الجواري ولم آت ليلة بعيداً عنك والحالة انك عاقر والنكاح فيك كالنحت في الحجر فقالت: اسم الله على أن العاقة منك ما هي مني لأن بيضك رائق. فقال لها: وما شأن الذي بيضه رائق? فقالت: هو الذي لا يحبل النساء وهو لايجيء باولاد، فقال لها: وأين معكر البيض وأنا أشتريه لعله يعكر بيضي? فقالت له: فتش عليه عند العطارين، فبات التاجر وأصبح متندماً حيث عاير زوجته وندمت هي حيث عايرته، ثم توجه إلى السوق فوجد رجلاً عطاراً فقال له: السلام عليكم فرد السلام فقال له: هل يوجد عندك معكر البيض? فقال له: كان عندي وجبر ولكن اسأل جاري فدار يسأل حتى سأل جميع العطارين وهم يضحكون عليه، وبعد ذلك رجع إلى دكانه وقعد فكان في السوق نقيب الدلالين وكان رجلاً حشاشاً يتعاطى الأفيون والبرش ويستعمل الحشيش الأخضر وكان ذلك النقيب يسمى الشيخ محمد سمسم وكان فقير الحال وكانت عادته أن يصبح على التاجر في كل يوم فجاءه على عادته وقال له: السلام عليك فرد عليه السلام وهو مغتاظ. فقال له: يا سيدي ما لك مغتاظ? فحكى له جميع ما جرى بينه وبين زوجته وقال له: لي أربعين سنة وأنا متزوج بها ولم تحبل مني بولد ولا ببنت وقالوا لي: إن سبب عدم حبلها منك أن بياضك رائق ففتشت على شيء أعكر به بيضي فلم أجده، فقال له: يا سيدي أنا عندي معكر البيض فما تقول فيمن يجعل زوجتك تحبل منك بعد هذه الأربعين سنة التي مضت، فقال له التاجر: إن غعلت هذا فأنا أحسن إليك وأنعم عليك، فقال له: هات لي ديناراً فقال له: خذ هذين الدينارين، فأخذهما وقال: هات هذه السلطانية الصيني، فأعطاه السلطانية، فأخذها وتوجه إلى بياع الحشيش وأخذ منه المكرر الرومي والحبهان والزنجبيل والفلفل الأبيض والسقنقور الجبلي ودق الجميع وغلاهم بالزيت الطيب وأخذ ثلاث أوراق حصا لبان ذكر وأخذ مقدار قدح من الحبة السوداء ونقعه وعمل جميع ذلك معجوناً بالعسل النحلي وحطه في السلطانية ورجع بها إلى التاجر وأعطاها له وقال: هذا معكر البيض فينبغي أن تأخذ منه على رأس الملوق بعد أن تأكل اللحم الضاني البيتي وتكثر له الحرارات والبهارات وتتعشى وتشر بالسكر المكرر.
فأحضر التاجر جميع ذلك وأرسله إلى زوجته وقال لها: اطبخي ذلك طبخاً جيداً وخذي معكر البيض واحفظيه عندك حتى أطلبه ففعلت ما أمرها به ووضعت له الطعام فتعشى، ثم غنه طلب السلطانية فأكل بقيتها وواقع زوجته فعلقت منه تلك الليلة ففات عليها الشهر الأول والثاني والثالث ولم ينزل عليها الدم فعلمت أنها ثم وفت حملها ولحقها الطلق وقامت الأفراح فقاست الداية المشقة في الخلاص ورقته باسم محمد وعلي وكبرت وأذنت في أذنه ولفته وأعطته لأمه فأعطته ثديها وأرضعته فشرب وشبع ونام، وأقامت الداية عنده ثلاثة أيام حتى عملوا الحلاوة ليفرقوها في اليوم السابع ثم رشوا ملحه ودخل التاجر وهنأ زوجته بالسلامة وقال لها: أين وديعة الله? فقدمت له مولوداً بديع الجمال صنع المدبر الموجود وهو ابن سبعة أيام ولكن الذي ينظره يقول عليه أنه ابن عام، فنظر التاجر في وجهه فرآه بدراً مشرقاً وله شامات على الخدين، فقال لها: ما سميته? فقالت له: لو كان بنتاً كنت سميتها وهذا ولد فلا يسميه إلا أنت، وكان أهل ذلك الزمن يسمون أولادهم بالفال، فبينما هم يتشاورون في الاسم وإذا بواحد يقول: يا سيدي علاء الدين فقال لها نسميه علاء الدين أبي الشامات ووكل به المراضع والدايات فشرب اللبن عامين وفطموه فكبر وانتشى وعلى الأرض مشى، فلما بلغ من العمر سبع سنين أدخلوه تحت طابق خوفاً عليه من العين وقال هذا لا يخرج من الطابق حتى تطلع لحيته ووكل به جارية وعبداً فصارت الجارية تهيء له السفرة والعبد يحملها إليه ثم إنه طاهره وعمل له وليمة عظيمة ثم بعد ذلك أحضر له فقيهاً يعلمه فعلمه الخط والقرآن والعلم إلى أن صار ماهراً وصاحب معرفة فاتفق أن العبد أوصل إليه السفرة في بعض الأيام ونسي الطابق مفتوحاً فطلع علاء الدين من الطابق ودخل على أمه وكان عندها محضر من أكابر النساء.
فبينما النساء يتحدثن مع أمه وإذا هو داخل عليهن كالمملوك السكران من فرط جماله فحين رأينه النسوة غطين وجوههن وقلن لأمه: الله يجازيك يا فلانة كيف تدخلين علينا هذا المملوك الأجنبي أما تعلمين أن الحياء من الإيمان? فقالت لهن: سمين الله إن هذا ولدي وثمرة فؤادي وابن شاه بندر التجار شمس الدين ابة الدارة والقلادة والقشفة واللبانة فقلن لها: عمرنا ما رأينا لك ولداً فقالت: إن أباه خاف عليه من العين فجعل مرباه في طابق تحت الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أم علاء الدين قالت للنسوة: إن أباه خاف عليه من العين فجعل مرباه في طابق تحت الأرض فلعل الخادم نسي الطابق مفتوحاً فطلع منه ولم يكن مرادنا أن يطلع منه حتى تطلع لحيته، فهنأها النسوة بذلك وطلع الغلام من عند النسوة إلى حوش البيت ثم طلع المقعد وجلس فيه، فبينما هة جالس وإذا بالعبيد قد دخلوا ومعهم بغلة أبيه فقال لهم علاء الدين: أين كانت هذه البغلة? فقالوا له: نحن أوصلنا أباك إلى الدكان وهو راكب عليها وجئنا بها. فقال لهم: أي شيء صنعه أبي? فقالوا إن أباك شاه بندر التجار بأرص مصر وهو سلطان أولاد العرب. فدخل علاء الدين على على أمه وقال له: يا أمي ما صناعة أبي فقالت له: يا ولدي إن أباك تاجر وهو شاه بندر التجار بأرض مصر وسلطان أولاد العرب وعبيده لا تشاوره في البيع إلا على البيعة التي تكون أقل ثمنها ألف دينار وأما البيع التي تكون بتسعمائة دينار فأقل فإنهم لا يشاورنه عليها بل يبيعونها بأنفسهم ولا يأتي متجر من من بلاد الناس قليلاً أو كثيراً إلا ويدخل تحت يده ويتصرف فيه كيف يشاء ولا ينحزم متجراً ويروح بلاد الناس إلا ويكون من بيت أبيك والله تعالى أعطى أباك يا ولدي مالاً كثيراً لا يحصى. فقال لها: يا أمي الحمد لله الذي جعلني ابن سلطان أولاد العرب ووالدي شاه بندر التجار ولأي شيء تجطونني في الطابق وتتركوني محبوساً فيه? فقالت له: يا ولدي نحن ما حطيناك في الطابق إلا خوفاً عليك من أعين الناس فإن العين حق وأكثر أهل القبور من العين، فقال لها: يا أمي وأين المفر من القضاء والحذر لا يمنع القدر والمكتوب ما منه مهروب وإن الذي أخذ جدي لا يترك أبي فإنه عاش اليوم وما يعيش غداً وإذا مات أبي وطلعت أنا علاء الدين ابن التاجر شمس الدين لا يصدقني أحد من الناس، والإختيارية يقولون عمرنا ما رأينا لشمس الدين ولداً ولا بنتاً فينزل بيت المال ويأخذ مال أبي، ورحم الله من قال:
يموت الرجل ويذهب ماله                  ويأخذ أنذال الرجال نساءه

فأنت يا أمي تكلمين أبي حتى يأخذني معه إلى السوق ويفتح لي دكاناً وأقعد فيه ببضائع ويعلمني البيع والشراء والأخذ والعطاء فقالت له: يا ولدي إذا حضر أبوك أخبرته بذلك، فلما رجع التاجر إلى بيته وجد ابنه علاء الدين أبي الشامات قاعداً عند أمه فقال لها: لأي شيء أخرجتيه من الطابق? فقالت له: يا ابن عمي أنا ما أخرجته ولكن الخدم نسوا الطابق مفتوحاً فبينما أنا قاعدة وعندي محضر من أكابر النساء وإذا به دخل علينا وأخبرته بما قال ولده فقال له: يا ولدي في غد إن شاء تعالى آخذك معي إلى السوق ولكن يا ولدي قعود الأسواق والدكاكين يحتاج إلى الأدب والكمال في كل حال، فبات علاء الدين وهو فرحان من كلام أبيه.
فلما أصبح الصباح أدخله الحمام وألبسه بدلة تساوي جملة من المال، ولما أفطروا وشربوا الشرابات ركب بغلته واركب ولده بغلة وأخذه وراءه وتوجه به إلى السوق فنظر أهل السوق شاه بندر التجار مقبلاً ووراءه غلام كأن وجهه القمر في ليلة أربعة عشر فقال واحد منهم لرفقيه: انظر هذا الغلام الذي وراء شاه بندر التجار وقد كنا نظن به الخير وهو مثل الكرات شائب وقلبه أخضر، فقال الشيخ محمد سمسم المتقدم ذكره للتجار: نحن ما بقينا نرضى به أن يكون شيخاً علينا أبداً، وكان من عادة شاه بندر التجار أنه لما يأتى من بيته في الصباح ويقعد في دكانه يتقدم نقيب السوق ويقرأ الفاتحة للتجار فيقومون معه ويأتون شاه بندر التجار ويصبحون عليه ثم ينصرف كل واحد منهم إلى دكانه.
فلما قعد شاه بندر التجار في دكانه ذلك اليوم على عادته لم يأت إليه التجار عادته فنادى النقيب وقال له: لأي شيء لم يجتمع التجار على جري عادتهم? فقال له: أنا ما أعرف نقل الفتن، إن التجار اتفقوا على على عزلك من المشيخة ولا يقرأون لك فاتحة فقال له: ما سبب ذلك? فقال له: ما شان هذا الولد الجالس بجانبك وانت إختيار ورئيس التجار، فهل هذا الولد هو مملوكك او يقرب لزوجتك وأظن انك تعشقه وتميل إلى الغلام. فصرخ عليه وقال له: اسكت قبح الله ذاتك وصفاتك هذا ولدي.
فقال له: عمرنا ما رأينا لك ولداً، فقال له: لما جئتني بمعكر البيض جملت زوجتي وولدته ولكن من خوفي عليه من العين ربيته في طابق تحت الأرض وكان مرادي أنه لا يطلع حتى يمسك لحيته بيده فما رضيت أمه وطلب مني أن أفتح له دكاناً وأحط عنده بضائع وأعلمه البيع والشراء، فذهب النقيب إلى التجار وأخبرهم بحقيقة الأمر فقاموا كلهم بصحبته وتوجهوا إلى شاه بندر التجار ووقفوا بين يديه وقرأوا الفاتحة وهناوه بذلك الغلام وقالوا له: ربنا يبقي الأصل والفرع ولكن الفقير منا لما ياتيه ولداً أو بنتالا بد أن يصنع لأخوانه دست عصيدة ويعزمة معارفه وأقاربه وأنت لم تعمل ذلك فقال لهم: لكم علي ذلك ويكون اجتماعنا في البستان.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شاه بندر التجار وعد التجار بالسماط وقال لهم: يكون اجتماعنا في البستان.
فلما أصبح الصباح أرسل الفراش للقاعة والقصر الذين في البستان وأمره بفرشهما وأرسل آلة الطبخ من خرفان وسمن وغير ذلك مما يحتاج إليه الحال وعمل سماطين سماطاً في القصر وسماطاً في القاعة وتحرم التاجر شمس الدين وتحرم ولده علاء الدين وقال له: يا ولدي إذا دخل الرجل الشائب فأنا اتلقاه وأجلسه على السماط الذي في القصر وأنت ولدي إذا دخل الولد الأمر فخذه وادخل به القاعة واجلسه على السماط فقال له: لأي شيء يا أبي تعمل سماطين واحد للرجال وواحد للأولاد? فقال: يا ولدي إن الأمرد يستحي أن يأكل عند الرجال فاستحسن ذلك ولده فلما جاء التجار صلر شمس الدين يقابل الرجال ويجلسهم في القصر وولده علاء الدين يقابل الأولاد ويجلسهم في القاعة ثم وضعوا الطعام وشربوا الشرابات وأطلقوا البخور ثم قعد الإختيارية في مذاكرة العلم والحديث وكان بينهم تاجر يسمى محمود البلخي وكان مسلماً في الظاهر ومجوساً في الباطن وكان يبغي الفساد ويهوى الأولاد فنظر إلى علاء الدين نظرة أعقبته ألف حسرة وعلق له الشيطان جوهرة في وجهه فأخذه به الغرام والوجد والهيام وكان ذلك التاجر الذي اسمه محمود البلخي يأخذ القماش والبضائع من والد علاء الدين. ثم إن محمود البلخي قام يتمشى وانعطف نحوا الأولاد فقاموا لملتقاه وكن علاء الدين فقام يزيل الضرورة فالتفت التاجر محمود إلى الأولاد وقال لهم: إن طيبتم خاطر علاء الدين على السفر مغي أعطيت كل واحد منكم بدلة تساوي جملة من المال ثم توجه منعندهم إلى مجلس الرجال فبينما الأولاد جالسون وإذا بعلاء الدين أقبل عليهم فقاموا لملتقاه وأجلسوه بينهم في صدر المقام فقام ولد منهم وقال لرفيقه: يا سيدي حسن أخبرني برأس المال الذي عندك تبيع فيه وتشتري من أين جاءك? فقال له: أنا لما كبرت ونشات وبلغت مبلغ الرجال قلت لأبي: يا والدي أحضر لي متجراً فقال: يا ولدي أنا ما عندي شيء ولكن رح خذ مالاً من واحد تاجر واتجر به وتعلم البيع والشراء والأخذ والعطاء فتوجهت إلى واحد من التجار واقترضت منه ألف دينار فاشتريت بهما قماشاً وسافرت به إلى الشام فربحت المثل مثلين ثم أخذت من الشام وسافرت به إلى بغداد وبعته فربحت المثل مثلين ولم أزل حتى صار رأس مالي نجو عشرة آلاف دينار وصار كل واحد من الأولاد يقول لرفيقه مثل ذلك إلى أن دار الدور وجاء الكلام إلى علاء الدين أبي الشامات فقالوا له: وانت يا سيدي علاء الدين? فقال لهم: أنا تربيت في طابق تحت الأرض وطلعت منه في هذه الجمعة وأنا أروح الدكان وأرجع منه إلى البيت، فقالوا له: أنت متعود على قعود البيت ولا تعرف لذة السفر، والسفر ما يكون إلا للرجال، فقال لهم: أنا ما لي حاجة بالسفر وليس للراحة قيمة فقال واحد منهم لرفيقه: هذا مثل السمك إن فارق الماء مات ثم قالوا له: يا علاء الدين ما فخر أولاد التجار لإلا بالسفر لأجل المكسب فحصل لعلاء الدين غيظ بسبب ذلك وطلع من عندالولاد وهو باكي العين فقالت له أمه: ما يبكيك يا ولدي? فقال لها:إن أولاد التجار جميعاً يعايرونني وقالوا لي: ما فخر أولاد التجار إلا بالسفر لأجل أن يكسبوا الدراهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين قال لوالدته: إن أولاد التجار عايروني وقالوا لي: ما فخر أولاد التجار إلا بالسفر لأجل أن يكسبوا الدراهم والدنانير فقالت أمه: يا ولدي هل مرادك السفر? قال: نعم، فقالت له: تسافر إلى أي البلاد? فقال لها: إلى مدينة بغداد فإن الإنسان يكسب فيها المثل مثلين، فقالت: يا ولدي إن أباك عنده مال كثير وإن لم يجهز لك متجراً من ماله فأنا أجهز لك متجراً من عندي، فقال لها: خير البر عاجله فإن كان معروفاً فإن هذا وقته فاحضرت العبيد وأرسلتهم إلى الذين يحزمون القماش وفتحت حاصلاً واخرجت منه قماشاً وحزموا عشرة أحمال. هذا ما كان من أمر أمه.
و أما ما كان من أمر أبيه فإنه التفت فلم يجد ابنه علاء الدين في البستان فسأل عنه فقالوا انه ركب بغلته وراح إلى البيت، فركب وتوجه خلفه فلما دخل منزله رأى أحمالاً محزومة فسأل عنها فأخبرته زوجته بما وقع من أولاد التجار لولده علاء الدين فقال له: يا ولدي خيب الله الغربة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سعادة المرء أن يرزق في بلده. وقال الأقدمون: دع السفر ولو كان ميلاً، ثم قال لولده: عل صممت على السفر ولا رجع عنه? فقال له ولده: لا بد لي من السفر إل بغداد بمتجر وإلا قلعت ثيابي ولبس ثياب الدراويش وطلعت سائحاً في البلاد، فقال له: ما أنا محتاج ولا معدم بل عندي منال كثير وأراه جميع ما عنده من المال والمتاجر والقماش وقال له: أنا عندي لكل بلد ما يناسبها من القماش والمتاجر وأراه من جمل ذلك أربعين حملاً محزمين ومكتوباً على كل حمل ثمنه ألف دينار، ثم قال: يا ولدي خذ الأربعين حملاً والعشرة أحمال التي من عند أمك وسافر مع سلامة الله تعالى ولكن يا ولدي أخاف عليك من غابة في طريقك تسمى غابة الأسد وواد هناك يقال له واد الكلاب فإنهما تراوح فيهما الأرواح بغير سماح، فقال له: لماذا يا والدي?فقال: من بدوي قاطع الطريق يقال له: عجلان فقال له: الرزق رزق الله وإن كان لي فيه نصيب لم يصبني ضرر، ثم ركب علاء الدين مع والده وسار إلى سوق الدواب وإذا بعكام نرل من فوق بغلته وقبل يد شاه بندر التجار وقال له: والله زمان يا سيدي ما استقضينا في تجارات، فقال له: لكل زمان دولة ورجال ورحم الله من قال:
وشيخ في جهات الأرض يمشي           ولحيته تقـابـل ركـبـتـيه
فقلت له لمـاذا أنـت مـحـن                  فقال وقد لوى نـحـوي يديه
شبابي في الثرى قد ضاع مني            وهاأنا منحن بحـثـاً عـلـيه

فلما فرغ من شعره قال: يا مقدم ما مراده السفر إلا ولدي هذا فقال له العكام: الله يحفظه عليك، ثم إن شاه بندر التجار عاهد بين ولده وبين العكام وجعله ولده وأوصاه عليه وقال له: خذ هذه المائة دينار لغلمانة ثم إن شاه بندر التجار اشترى ستين بغلاً وستر السيد عبد القادر الجيلاني وقال له: يا ولدي أنا غائب وهذا أبوك عوضاً عني وجميع ما يقوله لك طاوعه فيه، ثم توجه بالبغال والغلمان وعملوا في تلك الليلة ختمة ومولد الشيخ عبد القادر الجيلاني، ولما أصبح الصباح أعطى شاه بندر التجار لولده عشرة آلاف دينار وقال له: إذا دخلت بغداد ولقيت القماش رائجاً معه، فبعه وإن لقيت حاله واقفاً اصرف من هذه الدنانير،ثم حملوا البغال وودعوا بعضهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين والعكام لما أمروا العبيد أن يحملوا البغال ودعوا شاه بندر التجار والد علاء الدين وساروا حتى خرجوا من المدينة وكان محمود البلخي تجهز للسفر إلى جهة بغداد، وأخرج حموله ونصب صواوينه خارج المدينة وقال في نفسه: ما تحظى بهذا الولد إلا في الخلاء لأنه لا واشي ولا رقيب يعكر عليك وكان لأب الولد ألف دينار عند محمود البلخي بقية معاملة فذهب إليه وودعه وقال له: أعط اللف دينار لولدي علاء الدين وأوصاه عليه وقال: إنه مثل ولدك، فاجتمع علاء الدين بمحمود الذي قدم لعلاء الدين المأكل والمشرب هو وجماعته، ثم توجهوا للسفر وكان للتاجر محمود البلخي أربعة بيوت واحد في مصر وواحد في الشام وواحد في حلب وواحد في بغداد ولم يزالوا مسافرين في البراري والقفار حتى أشرفوا على الشام فأرسل محمود عبده إلى علاء الدين فرآه قاعداً يقرأ فتقدم وقبل يديه فقال: ما تطلب? فقال له: سيدي يسلم عليك ويطلبك لعزومتك في منزله، فقال له: لما أشاور أبي المقدم كمال الدين العكام فشاوره على الرواح فقال له: لا ترح، ثم سافروا من الشام إلى أن دخلوا إلى حلب فعمل محمود البلخي عزومة وأرسل يطلب علاء الدين فشاور المقدم فمنعه وسافروا من حلب إلى أن بقي بينهم وبين بغداد مرحلة فعمل محمود البلخي عزومة وأرسل بطلب علاء الدين، فشاور المقدم فمنعه، فقال علاء الدين: لا بد لي من الرواح، ثم قام وتقلد بسيف تحت ثيابه وسار إلى أن دخل على محمود البلخي فقام لملتقاه وسلم عليه وأحضر له سفرة عظيمة فأكلوا وشربوا وغسلوا أيديهم ومال محمود البلخي على علاء الدين ليأخذ منه قبلة فلاقاه في كفه وقال له: ما مرادك أن تعمل? فقال: إني أحضرتك ومرادي أعمل معك حظاً في هذا المجال ونفسر قول من قال:
أيمكن أن تجيء لنا لحـظـه                 كجلب شويهة أو شي بيضـه
وتأكل ما تيسر مـن خـبـيز                 وتقبض ما تحمل من فضيضه
وتحمل ما تشاء بغير عـسـر               شبيراً أو فتيراً أو قبـيضـه
ثم إن محمود البلخي هم بعلاء الدين وأراد أن يفترسه فقام علاء الدين وجرد سيفه وقال له: واشيبتاه أما تخشى الله وهو شديدالمحال ولم تسمع قول من قال:
احفظ مشيبك من عيب يدنسـه             إن البياض سريع الحمل للدنس

فلما فرغ علاء الدين من شعره قال لمحمود: إن هذه البضاعة أمانة الله لا تباع، ولو بعتها لغيرك لبعتها لك بالفضة، ولكن والله يا خبيث ما بقيت أرافقك أبداً، ثم رجع علاء الدين إلى المقدم كمال الدين وقال له: إن هذا رجل فاسق فأنا ما بقيت أرافقه أبداً، ولا أمشي معه في الطريق فقال له: يا ولدي قلت لك لا تروح عنده، ولكن يا ولدي إن افترقنا منه نخشى على انفسنا التلف فخلنا قفلاً واحداً.
فقال له: لا يمكن أن أرافقه في الطريق أبداً ثم حمل علاء الدين حموله وسار هو ومن معه إلى أن نزلوا في واد وأرادوا أن يحطوا فيه فقال العكام: لا تحطوا هنا واستمروا رائحين وأسرعوا في المسير لعلنا نحصل بغداد قبل أن تقفل أبوابها فإنهم لا يفتحونها ولا يقفلونها إلا بعد الشمس خوفاً على المدينة أنيملكها الروافض ويرموا كتب العلم في دجلة، فقال له: يا والدي أنا ما توجهت بهذا المتجر إلى هذا البلد لأجل أن أتسبب بل لأجل الفرجة على بلاد الناس، فقال له: يا والدي نخشى عليك وعلى مالك من العرب، فقال له علاء الدين: عل أنت خادم أو مخدوم? أنا ما أدخل بغداد لإلا في وقت الصباح لأجل أن تنظر أولاد بغداد إلى متجري ويعرفونني فقال له العكام: افعل ما تريد فأنا أنصحك وأنت تعرف خلاصك فأمرهم علاء الدين بتنزيل الأحمال عن البغال فأنزلوا الأحمال ونصبوا الصيوان واستمروا مقيمين إلى نصف الليل. ثم طلع علاء الدين يزيل ضرورة فرأى شيئاً يلمع على بعد فقال للعكام: يا مقدم ما هذا الشيء الذي يلمع? فتأمل العكام وحقق النظر فرأى الذي يلمع أسنة رماح وسيوفاً بدوية، وإذا بهم عرب ورئيسهم يسمى شيخ العرب عجلان أبو ناب، ولما قرب العرب منهم ورأوا حمولهم قالوا لبعضهم: يا ليلة الغنيمة.
فلما سمعوهم يقولون ذلك قال المقدم كمال الدين العكام: حاس يا أقل العرب فلطشه أبو ناب بحربته في صدره فخرجت تلمع من ظهره فوقع على باب الخيمة قتيلاً فقال السقا: حاس يا أخس العرب فضربوه بسيف على عاتقه فخرج يلمع من علائقه ووقع قتيلاً، كل هذا جرى وعلاء الدين واقف ينظر. ثم إن العرب جالوا وصالوا على القافلة فقتلوهم ولم يبق أحد من طائفة علاء الدين ثم حملوا الأحمال على ظهور البغال وراحوا فقال علاء الدين لنفسه: ما يقتلك إلا بغلتك وبدلتك هذه فقام وقطع البدلة ورماها على ظهر البغلة وصار بالقميص واللباس فقط والتفت قدامه إلى باب الخيمة فوجد بركة دم سائلة من القتلى فصار يتمرغ فيها بالقميص واللباس حتى صار كالقتيل الغريق في دمه. هذا ما كان من أمره.
و أما ما كان من أمر شيخ العرب عجلان فإنه قال لجماعته: يا عرب هذه القافلة داخلة من مصر أو خارجة من بغداد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن البدوي لما قال لجماعته: يا عرب هذه القافلة داخلة من مصر أو خارجة من بغداد فقالوا له: داخلة من مصر إلى بغداد فقال لهم: ردوا على القتلى لأني أظن أن صاحب هذه القافلة لم يمت فرد العرب على القتلى وصاروا يردون القتلى بالطعن والضرب إلى أن وصلوا إلى علاء الدين وكان قد ألقى نفسه بين القتلى. فلما وصلوا إليه قالوا: أنت جعلت نفسك ميتاً فنحن نكمل قتلك وسحب البدوي الحربة وأراد أن يغرزها في صدر علاء الدين فقال علاء الدين: يا بركتك يا سيدتي نفيسة هذا وقتك وإذا بعقرب لدغ البدوي في كفه، فصرخ وقال: يا عرب تعالوا إلي فإني لدغت ونزل من فوق ظهر فرسه فأتاه رفقاؤه وأركبوه ثانية على فرسه وقالوا له: أي شيء أصابك? فقال لهم: لدغني عقرب، ثم أخذوا القافلة وساروا. هذا ما كان من أمرهم.
و أما ما كان من أمر محمود البلخي فإنه أمر بتحميل الأحمال وسافر إلى أن وصل إلى غابة الأسد فوجد غلمان علاء الدين كلهم قتلى وعلاء الدين نائماً وهو عريان بالقميص واللباس فقط فقال له: من فعل بك هذه الفعال وخلاك في أسوأ حال? فقال له: العرب? فقال: يا ولدي فداك البغال والأموال وتسل بقول من قال:
إذا سلمت هام الرجال من الردى          فما المال إلا مثل قص الأظافر
و لكن يا ولدي انزل ولا تخشى بأساً فنزل علاء الدين من شباك الصهريج وأركبه بغلة وسافروا إلى أن دخلوا مدينة بغداد في دار محمود البلخي فأمر بدخول علاء الدين الحمام وقال له: المال والأحمال فداؤك يا ولدي وإن طاوعتني أعطيك قدر مالك وأحمالك مرتين وبعد طلوعه من الحمام أدخله قاعو مزركشة بالذهب لها أربعة لواوين، ثم أمر بإحضار سفرة فيها جميع الأطعمة فأكلوا وشربوا ومال محمود البلخي على علاء الدين ليأخذ من خده قبلة فلقيها علاء الدين بكفه وقال له: هل أنت إلى الآن قابع لضلالك أما قلت لك: أنا لو كنت بعت هذه البضاعة لغيرك بالذهب ما كنت أبيعها لك بالفضة? فقال: أنا ما أعطيتك المتجر والبغلة والبدلة إلا لأجل هذه القضية فإنني من غرامي بك في خيال ولله در من قال:
حدثنا عن بعض أشياخـه                   أبو بلال شيخنا عن شريك
لا يشتفي العاشق مما بـه                  بالضم والتقبيل حتى ينيك

فقال له علاء الدين: إن هذا شيء لا يمكن أبداً فخذ بدلتك وبغلتك وافتح الباب حتى أروح، ففتح الباب فطلع علاء الدين والكلاب تنبح وراءه وسار فبينما هو سائر إذ بباب مسجد فدخل في دهليز المسجد واستكن فيه وإذا بنور مقبل عليه فتأمله فرأى فانوسين في يد عبدين قدام اثنين من التجار واحد منهما إختيار حسن الوجه، والثاني شاب فسمع الشاب يقول لإختيار: بالله يا عمي أن ترد لي بنت عمي. فقال له: أما نهيتك مراراً عديدة وانت جاعل الطلاق مصحفك? ثم إن الإختيار التفت على يمينه فرأى ذلك الولد كأنه فلقة قمر فقال: يا غلام من أنت? فقال له: أنا علاء الدين بن شمس الدين شاه بندر التجار بمصر وتمنيت على والدي المتجر فجهز لي خمسين حملاً من البضاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين: فجهز لي خمسين حملاً من البضاعة وأعلطاني عشرة آلاف دينار، وسافرت حتى وصلت إلى غابة الأسد فطلع علي العرب وأخذوا مالي وأحمالي فدخلت هذه المدينة وما أدري أين أبيت فرأيت هذا المحل فاستكنت فيه، فقال له: يا ولدي ما تقول في أني أعطيك ألف دينار وبدلة بألف دينار، فقال له علاء الدين: على أي وجه تعطيني ذلك يا عمي? فقال له: إن هذا الغلام الذي معي ولم يكن لأبيه غيره وأنا عندي بنت لم يكن لي غيرها تسمى زبيدة العودية وهي ذات حسن وجمال فزوجتها له وهو يحبها وهي تكرهه فحنث يمينه بالطلاق الثلاث فما صدقت زوجته بذلك حتى افترقت منه فشاروا علي جميع الناس أني أردها له فقلت له: هذا لا يصح إلا بالمحلل واتفقت معه على أن نجعل المحلل له واحداً غريباً لا يعايره أحد بهذا الأمر وحيث كنت أنت غريباً فتعال معنا لكتب كتابك عليها وتبيت عندها هذه الليلة وتصبح تطلقها ونعطيك ما ذكرته لك، فقال علاء الدين في نفسه: مبيتي ليلة مع عروس في بيت على فراش أحسن من مبيتي في الأزقة والدهاليز فسار معهما إلى القاضي.
فلما نظر القاضي لإلى علاء الدين وقعت محبته في قلبه وقال لأبي البنت: أي شيء مرادكم? فقال: مرادنا أن نعمل هذا محللاَ لبنتنا ولكن نكتب عليه حجة بمقدم الصداق عشرة آلاف دينار فإذا بات عندها وأصبح طلقها أعطيناه بدلة بألف دينار فعقدوا العقد على هذا الشرط وأخذ أبو البنت حجة بذلك ثم أخذ علاء الدين معه وألبسه البدلة وساروا به إلى أن وصلوا دار ابنته، فأوقفه على باب الدار ودخل على ابنته وقال لها: خذي حجة صداقك، فإني كتبت على شاب مليح يسمى علاء الدين أبي الشامات فتوصي به غاية الوصاية، ثم أعطاها الحجة وتوجه إلى بيته.
و اما ابن عم البنت فإنه كان له قهرمانة تتردد على زبيدة العودية بنت عمه وكان يحسن إليها فقال لها: يا أمي إن زبيدة بنت عمي متى رأت هذا الشاب المليح لا تقبلني بعد ذلك فأنا أطلب منك أنتعملي حيلة وتمنعي الصبية عنه فقالت له ك وحياة شبابك ما أخليه يقربها. ثم إنها جاءت لعلاء الدين وقالت له: يا ولدي أنصحك بالله تعالى فاقبل نصيحتي ولا تقرب تلك الصبية ودعها تنام وحدها وتلمسها ولا تدن منها، فقال: لأي شيء? فقالت له: إن جسدها ملآن بالجذام وأخاف عليك منها أنتعدي شبابك المليح فقال لها: ليس لي بها حاجة ثم انتقلت إلى الصبية وقالت لها مثل ما قالت لعلاء الدين فقالت لها: لا حاجة لي به بل أدعه ينام وحده ولما يصبح الصباح يروح لحال سبيله.
ثم دعت الجارية وقالت لها: خذي سفرة الطعام وأعطيها له يتعشى فحملت الجارية سفرة الطعام ووضعتها بين يديه فاكل حتى اكتفى، ثم قعد وقرأ سورة يس بصوت حسن فصغت له الصبية فوجدت صوته يشبه مزامير آل داود، فقالت في نفسها: الله ينكد على هذه العجوز التي قالت لي عليه انه مبتلى بالجذام فمن كانت به هذه الحالة لا يكون صوته هكذا وغنما هذا الكلام كذب.
ثم إنها وضعت في يديها عوداً من صنعة الهنود وأصلحت أوتاره وغنت عليه بصوت يوقف الطير في كبد السماء وأنشدت هذين البيتين:
تعشقت ظبياً ناعس الطرف أحورا                  تغار غصون البان منه إذا مشى
بما تغني والغير يحظى بوصلـه           وذلك فضل الله يؤتيه مـن يشـا
فلما سمعها انشدت هذا الكلام بعد أن ختم السورة غنى وانشد هذا البيت:
سلامي على ما في الثياب من القد                  وما في خدود البساتين من الورد
فقامت الصبية وقد زادت محبتها له ورفعت الستارة فلما رآها علاء الدين أنشد هذين البيتين:
بدت قمر ومالت غصن بان                 وفاحت عنبراً ورنت غزالا
كأن الحزن مشغوف بقلبـي                 فساعة هجرها يجد الوصالا
ثم غنها خطر تهز اردافاً تميل بأعطاف صنعة خفي الألطاف ونظر كل واحدمنهما نظرة أعقبتها ألف حسرة، فلما تمكن في قلبه منها سهم اللحظين أنشد هذين البيتين:
بدت قمر السماء فأذكرتني                 ليالي وصلها بالرقمتـين
كلانا ناظر قمراً ولـكـن            رأيت بعينها ورأت بعيني
فلما قربت منه ولم يبقبينه وبينها غير خطوتين وانشد هذين البيتين:
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها            في ليلة فأرت ليالي أربـعـا
واستقبلت قمر السماء بوجهها            فأرتني القمرين في وقت معا

فلما أقبلت عليه قال لها: ابعدي عني لئلا تعديني فكشفت عن معصمها فانفرق المعصم فرقتين وبياضه كبياض اللجين، ثم قالت له: ابعد عني فإنك مبتلى بالجذام لئلا تعديني، فقال لها: وأنا الآخر أخبرتني العجوز أنك مصابة بالبرص ثم كشف لها عن ذراعه فوجدت بدنه كالفضة النقية فضمته إلى حضنها وضمها إلى صدره واعتنق الاثنان بعضهما.
ثم أخذته وراحت على ظهرها وفكت لباسها فتحرك عليها الذي خلفه له الوالد فقالت: مددك يا شيخ زكريا يا أبا العروق وحط يديه على خاصرتيها ووضع عرق الحلاوة في الخرق فوصل إلى باب الشعرية وكان مورده من باب الفتوح وبعد ذلك دخل سوق الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس فوجد البساط على قدر الليوان ودور الحق على غطاه حتى ألقاه.
فلما أصبح الصباح قال لها: يا فرحة ما تمت أخذها الغراب وطار فقالت له: ما معنى هذا الكلام? فقال لها: سيدتي ما بقي لي قعود معك غير هذه الساعة فقالت له: من يقول ذلك? فقال لها: إن أباك كتب علي حجة بعشرة آلاف دينار مهرك وإن لم أوردها هذا اليوم حبسوني عليها في بيت القاضي والآن يدي قصيرة عن نصف فضة واحد من العشرة آلاف دينار، فقالت له: يا سيدي هل العصمة بيدك أو بأيديهم? فقال لها: العصمة بيدي ولكن ما معي شيء فقالت له: إن الأمر سهل ولا تخشى شيئاً ولكن خذ هذه المائة دينار ولو كان معي غيرها لأعطيتك ما تريد فإن أبي من محبته لابن أخيه حول جميع ماله من عندي إلى بيته حتى صيغتي أخذها كلها، وإذا أرسل إليك رسولاً من طرف الشرع في غد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية قالت لعلاء الدين: وإذا أرسلوا إليك رسولاً من طرف الشرع في غد وقال لك القاضي وأبي: طلق فقل لهما: في أي مذهب يجوز أنني أتزوج في العشاء وأطلق في الصباح? ثم إنك تقبل يد القاضي وتعطيه إحساناً وكذا كل شاهد تقبل يده وتعطيه عشرة دنانير فكلهم يتكلمون معك فإذا قالوا لك: لأي شيء ما تطلق وتأخذ ألف دينار والبغلة والبدلة على حكم الشرط الذي شرطناه عليك? فقل لهم: أنا ما عندي فيها كل شعرة بألف دينار ولا أطلقها أبداً ولا آخذ بدلة ولا غيرها فإذا قال لك القاضي: ادفع المهر فقل له: أنا معسر الآن وحينئذ يسترفق بك القاضي والشهود ويمهلونك مدة.
فبينما هما في الكلام وإذا برسول القاضي يدق الباب فخرج إليه فقال له الرسول: كلم الأفندي، فإن نسيبك طالبك فأعطاه خمسة دنانير وقال له: يا محضر في أي شرع أني أتزوج في العشاء وأطلق في الصباح? فقال له: لا يجوز عندنا أبداً وإن كنت تجهل الشرع فأنا أعمل وكيلك وساروا إلى المحكمة، فقالوا له: لأي شيء لم تطلق المرأة وتأخذ ما وقع عليه الشرط? فتقدم إلى القاضي وقبل يده ووضع فيها خمسين ديناراً وقال له: يا مولانا القاضي في أي مذهب أني أتزوج في العشاء وأطلق في الصباح قهراً عني? فقال القاضي: لا يجوز الطلاق بالإجبار في أي مذهب من المسلمين. فقال أبو الصبية: إن لم تطلق فادفع الصداق عشرة آلاف دينار، فقال علاء الدين: أمهلني ثلاثة أيام، فقال القاضي: لا تكفي ثلاثة أيام في المهلة يمهلك عشرة أيام واتفقوا على ذلك وشرطوا عليه بعد عشرة أيام وإما الطلاق، فطلع من عندهم على هذا الشرط فأخذ اللحم والأرز والسمن وما يحتاج إليه من المأكل وتوجه إلى البيت فدخل على الصبية وحكى جميع ما جرى له بين الليل والنهار يساوي عجائب ولله در من قال:
كن حليماً إذا بليت بغـيظ          وصبوراً إذا أتتك مصيبة
فالليالي من الزمان حبالى                   مثقلات يلدن كل عجيبة

ثم قامت وهيأت الطعام وأحضرت السفرة فأكلا وشربا وتلذذا وطربا، ثم طلب منها أن تعمل نوبة سماع فأخذت العود وعملت نوبة يطرب منها الحجر الجلمود ونادت الأوتار في الحضرة يا داود ودخلت في دارج النوبة، فبينما هما في حظ ومزاح وبسط وانشراح وإذا بالباب يطرق فقالت له: قم انظر من في الباب فنزل وفتح الباب فوجد أربعة دراويش واقفين فقال لهم: أي شيء تطلبون? فقالوا له: يا سيدسي نحن دراويش غرباء الديار وقوت روحنا السماع ورقائق الأشعار ومرادنا أن نرتاح عندك هذه الليلة إلى وقت الصباح ثم نتوجه إلى حال سبيلنا وأجرك على الله تعالى فإننا نعشق السماع وما فينا واحد إلا ويحفظ القصائد والأشعار والموشحات.
فقال لهم: علي مشورة، ثم طلع وأعلمها فقالت له: افتح له الباب وأطلعهم وأجلسهم ورحب بهم ثم احضر لهم طعاماً فلم يأكلوا وقالوا له: يا سيدي إن زاردنا ذكر الله بقلوبنا وسماع المغاني بآذاننا، ولله در من قال:
وام القصد إلا أن يكون اجتماعنا          وما الأكل إلا سمة البـهـائم

و قد كنا نسمع عندك سماعاً لطيفاً فلما طلعنا بطل السماع فيا هل ترى التي كانت تعمل النوبة جارية بيضاء أو سوداء أو بنت ناس? فقال لهم: هذه زوجتي وحكى لهم كل ما جرى له وقال لهم: إن نسيبي عمل علي عشرة آلاف دينار مهرها وأمهلوني عشرة أيام فقال درويش منهم: لا تحزن ولا تأخذ في خاطرك إلا الطيب فأنا شيخ التكية وتحت يدي أربعون درويشاً أحكم عليهم وسوف أجمع لك العشرة آلاف دينار منهم وتوفي المهر الذي عليك لنسيبك ولكن قل لها أن تعمل لنا نوبة لأجل نحظى بسماعها ويحصل لنا انتعاش فإن السماع لقوم كالغذاء لقوم ولقوم كالدواء ولقوم كالمروحة.
و كان هؤلاء الدراويش الأربعة: الخليفة هارون الرشيد والوزير جعفر البرمكي وأبو نواس الحسن بن هانئ ومسرور سياف النقمة، وسبب مرورهم على هذا البيت أن الخليفة حصل له ضيق صدر فقال للوزير: إن مرادنا أن ننزل ونشق في المدينة لأنه حاصل عندي ضيق صدر فلبسوا لبس الدراويش ونزلوا في المدينة فجازوا على تلك الدار فسمعوا النوبة فأحبوا أن يعرفوا حقيقة الأمر، ثم إنهم باتوا في حظ ونظام ومناقلة كلام إلى أن أصبح الصباح فحط الخليفة مائة دينار تحت السجادة ثم أخذوا خاطره وتوجهوا إلى حال سبيلهم، فلما رفعت الصبية السجادة رأت مائة دينار تحتها فقالت لزوجها: خذ هذه المائة دينار التي وجدتها تحت السجادة لأن الدراويش حطوها قبل ما يروحوا وليس عندنا علم بذلك، فأخذها علاء الدين وذهب إلى السوق واشترى اللحم والأرز والسمن وكل ما يحتاج إليه وفي ثاني ليلة أوقد الشمع. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين أوقد الشمع في ثاني ليلة وقال لزوجته زبيدة: إن الدراويش لم يأتوا بالعشرة آلف دينار التي وعدوني بها ولكن هؤلاء فقراء، فبينما هما في الكلام وإذا بالدراويش قد طرقوا الباب فقالت له: انزل افتح لهم ففتح لهم وطلعوا فقال لهم: هل أحضرتم العشرة آلاف دينار التي وعدتموني بها? فقالوا: ما تيسر منها شيء ولكن لا تخشى بأساً إن شاء الله في غد نطبخ لك طبخة كيمياء وأأمر زوجتك أن تسمعنا نوبة على العود ترقص الحجر الجلمود فباتوا في هناء وسرور ومسامرة وحبور إلى أن طلع الصباح وأضاء بنوره ولاح فحط الخليفة مائة دينار تحت السجادة ثم أخذوا خاطره وانصرفوا من عنه إلى حال سبيلهم. ولم يزالوا يأتون إليه على هذه الحال مدة تسع ليال وكل ليلة يحط الخليفة تحت السجادة مائة دينار إلى أن أقبلت الليلة العاشرة فلم يأتوا وكان السبب في انقطاعهم أن الخليفة أرسل إلى رجل عظيم من التجار وقال له: أحضر لي خمسين حملاً من الأقمشة التي تجئ من مصر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد المئتين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن أمير المؤمنين قال لذلك التاجر: أحضر لي خمسين حملاً من القماش الذي يجئ من مصر يكون كل حمل ثمنه ألف دينار واكتب على كل حمل ثمنه وأحضر لي عبداً حبشياً فأحضر له التاجر كل ما أمره به الخليفة، ثم إن الخليفة أعطى العبد طشتاً وإبريقاً من الذهب وهدية والخمسين حملاً وكتب كتاباً على لسان شمس الدين شاه بندر التجار بمصر والد علاء الدين وقال له: خذ هذه الأحمال وما معها ورح بها إلى الحارة الفلانية التي فيها بيت شاه بندر التجار وقل: أين سيدي علاء الدين أبو الشامات فإن الناس يدلونك على الحارة وعلى البيت، فأخذ العبد الأحمال وما معها وتوجه كم أمره الخليفة. هذا ما كان من أمره.
و أما ما كان من أمر ابن عم الصبية فإنه توجه إلى أبيها وقال له: تعالى نروح لعلاء الدين لنطلق بنت عمي فنزل وسار هو وأبوه وتوجها إلى علاء الدين فلما وصل إلى البيت وجدا خمسين بغلاً وعليها خمسين حملاً من القماش وعبداً راكب بغلة فقالا له: لمن هذه الأحمال? فقال: لسيدي علاء الدين أبو الشامات، فإن أباه كان قدجهز له متجراً وسفره إلى مدينة بغداد فطلع عليه العرب فأخذوا ماله وأحماله فبلغ الخبر إلى أبيه فأرسلني إليه بأحمال عوضها وأرسل معي بغلاً عليه خمسون ألف دينار وبقجة تساوي جملة من المال وكرك سمور وطشتاً وإبريقاً من الذهب، فقال أبوالبنت: هذا نسيبي وأنا أدلك على بيته.
فبينما علاء الدين قاعد في البيت وهو في غم شديد وإذا بالباب يطرق فقال علاء الدين: يا زبيدة الله أعلم أن أباك أرسل لي رسولاً من طرف القاضي أو من طرف الوالي فقالت له: انزل وانظر الخبر، فنرل وفتح الباب فرأى نسيبه شاه بندر التجار أبا زبيدة ورأى عبداً حبشياً أسمر اللون حلو المنظر راكباً فوق بغلة فنزل العبد وقبل يديه فقال له: أي شيء تريد? فقال له العبد: أنا عبد سيدي علاء الدين أبي الشامات بن شمس الدين شاه بندر التجار بأرض مصر وقد أرسلني إليه أبوه بهذه الأمانة، ثم أعطاه الكتاب فأخذه علاء الدين وفتحه وقرأه فرأى مكتوباً فيه:
يا كتابي إذا رآك حبـيبـي                   قبل الأرض والنعال لـديه
وتمهل ولا تكن بعـجـول                   إن روحي وراحت في يديه

بعد السلام والتحية والإكرام من شمس الدين إلى ولده علاء الدين: اعلم يا ولدي أنه بلغني خبر قتل رجالك ونهب أموالك وأحمالك فأرسلت إليك غيرها هذه الخمسين حملاً من القماش المصري والبدلة والكر السمور والطشت والإبريق الذهب ولا تخشى بأساً والمال فداؤك يا ولدي ولا يحصل لك حزن أبداً، وإن أمك وأهل البيت طيبون بخير وهم يسلمون عليك كثير السلام، وبلغني يا ولدي خبر وهو أنهم عملوك محللاً للبنت زبيدة العودية وعملوا عليك مهرها خمسين ألف دينار فهي واصلة إليك صحبة الأحمال مع عبدك سليم، فلما فرغ من قراءة الكتاب تسلم الأحمال، ثم التفت إلى نسيبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن علاء الدين لما التفت إلى نسيبه قال له: يا نسيبي خذ الخمسين ألف دينار مهر ابنتك زبيدة وخذ الأحمال تصرف فيها ولك المكسب ورد لي رأس المال، فقال له: لا والله لا آخذ شيئاً وأما مهر زوجتك فاتفق أنت وإياها من جهته فقام علاء الدين هو ونسيبه ودخلا البيت بعد إدخال الحمول فقالت زبيدة لأبيها: يا أبي لمن هذه الأحمال? فقال لها: هذه الأحمال لعلاء الدين زوجك أرسلها إليه أبوه عوضاً عن الأحمال التي أخذها العرب منه وأرسل إليه الخمسين ألف دينار وبقجة وكرك سمور وبغلة وطشتاً وإبريقاً ذهباً، وأما من جهة مهرك فالرأي إليه لك فيه فقام علاء الدين وفتح الصندوق وأعطاها إياه فقال الولد ابن عم البنت: يا عم خل علاء الدين يطلق لي امرأتي? قال له: هذا شيء ما بقي يصح أبداً والعصمة بيده فراح الولد مهموماً مقهوراً ورقد في بيته ضعيفاً فكانت القاضية فمات. وأما علاء الدين فإنه طلع إلى السوق بعد أناخذ الأحمال وأخذ ما يحتاج إليه من المأكل والمشرب والسمن وعمل نظاماً مثل كل ليلة وقال لزبيدة: انظلاي هؤلائ الدراويش الكذابين قد وعدونا وأخلفوا وعدهم فقالت له: أنت ابن شاه بندر التجار وكانت يدك قصيرة عن نصف فضية فكيف بالمساكين الدراويش? فقال لها: أغنانا الله تعالى عنهم ولكن ما بقيت أفتح لهم الباب إذا أتوا إلينا، فقالت له: لأي شيء والخير ما جاءنا إلا إلى قدومهم وكل ليلة يحطون تحت السجادة لنا مائة دينار فلا بد أن تفتح لهم الباب إذا جاؤوا، فلما ولى النهار بضيائه وأقبل الليل أوقد الشمع وقال لها: يا زبيدة قومي اعملي لنا نوبة وإذا بالباب يطرق فقالت له: قم انظر من بالباب فنزل وفتح الباب رآهم الدراويش فقال: مرحباً بالكذابين اطلعوا، فطلعوا معه وأجلسهم وجاء لهم بسفرة الطعام فأكلوا وشربوا وتلذذوا وبعد ذلك قالوا له: يا سيدي إن قلوبنا عليك مشغولة أي شيء جرى لك مع نسيبك? فقال لهم: عوض الله علينا بما فوق المراد، فقالوا له: والله إنا كنا خائفين عليك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن الدراويش قالوا لعلاء الدين: والله إنا كنا خائفين عليك وما منعنا إلا قصر أيدينا عن الدراهم فقال لهم: قد أتناي الفرج القريب من ربي وقد أرسل لي والدي خمسين ألف دينار وخمسين حملاً من القماش ثمن كل حمل ألف دينار وبدلة وكرك سمور وبغلة وعبداً وطشتاً وإبريقاً من الذهب ووقع الصلح بيني وبين نسيبي وطابت لي زوجتي والحمد لله على ذلك، ثم إن الخليفة قام يزيل ضرورة فمال الوزير جعفر على علاء الدين وقال له: الزم الأدب فإنك في حضرة أمير المؤمنين، فقال له: أي شيء وقع مني من قلة الأدب في حضرة أمير المؤمنين، ومن هو أمير المؤمنين منكم? فقال له: إنه الذي كان يكلمك وقام يزيل الضرورة هو أمير المؤمنين الخليفة هارون الرشيد وأنا الوزير جعفر البرمكي وهذا مسرور سياف نقمته وهذا أبو نواس الحسن بن هانئ فتأمل بعقلك يا علاء الدين وانظر مسافة كم يوم في السفر من مصر إلى بغداد، فقال له الخمسة والأربعين يوماً فقال له: إن حمولك نهبت منذ عشرة أيام فقط فكيف يروح الخبر لأبيك ويجزم لك الأحمال وتقطع مسافة خمسة وأربعين يوماً في العشرة أيام? فقال له: يا سيدي ومن أين أتاني هذا? فقال له: من عند الخليفة أمير المؤمنين بسبب فرط محبته لك فبينما هما في هذا الكلام وإذا بالخليفة قد أقبل فقام علاء الدين وقبل الأرض بين يديه وقال له: الله يحفظك يا أمير المؤمنين ويديم بقاءك ولا عدم الناس فضلك وإحسانك. فقال: يا علاء الدين خل زبيدة تعمل لنا نوبة حلاوة السلامة فعملت النوبة على العود من غرائب الموجود إلى أن طرب لها الحجر الجلمود وصباح العود في الحضرة يا داود فباتوا على أسر حال إلى الصباح فلما أصبحوا قال الخليفة لعلاء الدين: في غد اطلع الديوان، فقال له: سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى وأنت بخير ثم إن علاء الدين أخذ عشرة أطباق ووضع فيها هدية سنية وطلع بها الديوان في ثاني يوم فبينما الخليفة قاعد على الكرسي في الديوان وإذا بعلاء الدين مقبل من ابا الديوان وهو ينشد هذين البيتين:
تصحبك السعادة كـل يوم                   بإجلال على رغم الحسود
ولا زالت الأيام لك بيضاً           وأيام الذي عاداك سود

فقال له الخليفة: مرحباً يا علاء الدين، فقال له علاء الدين: يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهدية وهذه عشرة أطباق وما فيها هدية مني إليك فقبل منه ذلك أمير المؤمنين وأمر له بخلعة سنية وجعله شاه بندر وأقعده في الديوان. فبينما هو جالس وإذا بنسيبه أبي زبيدة مقبل فوجد علاء الدين جالساً في رتبته وعليه خلعة فقال لأمير المؤمنين: يا ملك الزمان لأي شيء هذا جالس في رتبتي وعليه هذه الخلعة? فقال له الخليفة: إني جعلته شاه بندر التجار والمناصب تقليد لا تخليد وأنت معزول، فقال له: إنه منا وإلينا ونعم ما فعلت يا أمير المؤمنين الله يجعل خيارنا أولياء أمورنا وكم من صغير صار كبيراً، ثم إن الخليفة كتب فرماناً لعلاء الدين وأعطاه للوالي والوالي أعطاه للمشاعل ونادى في الديوان: ما شاه بندر التجار إلا علاء الدين أبو الشامات وهو مسموع الكلمة محفوظ الحرمة يجب له الإكرام والاحترام ورفع المقام. فلما انفض الديوان نزل الوالي بالمنادي بين يدي علاء الدين وصار المنادي يقول: ما شاد بندر التجار إلا سيدي علاء الدين أبو الشامات، فلما أصبح الصباح فتح دكاناً للعبد وأجلسه فيه يبيع ويشتري وأما علاء الدين فإنه كان يركب ويتوجه إلى مرتبته في ديوان الخليفة.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين كان يركب ويتوجه إلى ديوان الخليفة فاتفق أنه جلس في مرتبته يوماً على عادته فبينما هو جالس وإذا بقائل يقول للخليفة: يا أمير المؤمنين تعيش رأسك في فلان النديم فإنه توفي إلى رحمة الله تعالى وحياتك الباقية فقال الخليفة: أين علاء الدين أبو الشامات? فحضر بين يديه فلما رآه خلع عليه خلعة سنية وجعله نديمه وكتب له جامكية ألف دينار في كل شهر وأقام عنده يتنادم معه فاتفق أنه كان جالساً يوماً من الأيام في مرتبته على عادته في خدمة الخليفة وإذا بأمير المؤمنين طالع إلى الديوان بسيف وترس وقال: يا أمير المؤمنين يعيش رأسك رئيس الستين فإنه مات في هذا اليوم فأمر الخليفة لعلاء الدين أبي الشامات وجعله رئيس الستين مكانه وكان رئيس الستين لا ولد له ولا زوجة فنزل علاء الدين ووضع يده على ماله وقال الخليفة لعلاء الدين: واره في التربا وخذ جميع ما تركه من مال وعبيد وجوار وخدم.
ثم نفض الخليفة المنديل وانفض الديوان فنزل علاء الدين وفي ركابه المقدم أحمد الدنف مقدم ميمنة الخليفة هو وأتباعه الأربعون وفي يساره المقدم حسن شومان مقدم ميسرة الخليفة وأتباعه الأربعون، فالتفت علاء الدين وقال لهم: أنتم سياق على المقدم أحمد الدنف لعله يقبلني ولده في عهد الله فقبله وقال له: أنا واتباعي نمشي قدامك إلى الديوان في كل يوم، ثم إن علاء الدين مكث في خدمة الخليفة مدة أيام، فاتفق أن علاء الدين نزل من الديوان يوماً من الأيام وسار إلى بيته وصرف أحمد الدنف ومن معه في سبيلهم، ثم جلس مع زوجته زبيدة العودية وقد أوقدت الشموع وبعد ذلك قامت تزيل ضرورة، فبينما هو جالس في مكانه إذ سمع صرخة عظيمة فقام مسرعاً لينظر الذي صرخ فرأى صاحب الصرخة زبيدة العودية وهي مطروحة فوضع يده على صدرها فوجدها ميتة وكان بيت أبيها قدام بيت علاء الدين فسمع صرختها فقال لعلاء الدين: ما الخبر يا سيدي علاء الدين? فقال له: يعيش رأسك يا والدي في بنتك زبيدة العودية ولكن ياوالدي إكرام الميت دفنه، فلما أصبح الصباح واروها التراب وصار علاء الدين يعزي أباها وأباها يعزيه.
هذا ما كان من أمر زوجته، وأما ما كان من أمر علاء الدين فإنه لبس ثياب الحزن وانقطع عن الديوان وصار باكي العين حزين القلب فقال الخليفة لجعفر: يا وزيري ما سبب انقطاع علاء الدين عن الديوان? فقال له الوزير: يا أمير المؤمنين إنه حزين القلب على زوجته زبيدة ومشغول بعزائها فقال الخليفة للوزير: واجب علينا أن نعزيه، فقال الوزير: سمعاً وطاعة ثم نزل الخليفة هو والوزير وبعض الخدم وتوجهوا إلى بيت علاء الدين فبينما هو جالس وإذا بالخليفة والوزير معهما مقبلون عليه فقام لملتقاهم وقبل الأرض بين يدي الخليفة فقال له: عوضك الله خيراً? فقال علاء الدين: أطال الله لنا بقاءك يا أمير المؤمنين فقال له الخليفة: يا علاء الدين ما سبب انقطاعك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن الخليفة قال لعلاء الدين: ما سبب انقطاعك عن الديوان? فقال له: حزني على زوجتي زبيدة يا أمير المؤمنين فقال له الخليفة ادفع الهم عن نفشك فإنها ماتت إلى رحمة الله تعالى والحزن عليها لا يفيدك شيئاً أبداً، فقال: يا أمير المؤمنين إنا لا أترك الحزن عليها إلا إذا مت ودفنوني عندها، فقال له الخليفة: إن في الله عوضاً من كل فائت ولا يخلص من الموت حيلة ولا مال، ولله در من قال:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته            يوماً على آلة حدباء محمـول
وكيف يلهو بعيش أو يلـذ لـه              من التراب على حديه جعول
و لما فرغالخليفة من تعزيته أوصاه أنه لا ينقطع عن الديوان وتوجه إلى محله وبات علاء الدين، ولما أصبح الصباح ركب وسار إلى الديوان فدخل على الخليفة وقبل الأرض بين يديه فتحرك له الخليفة من على الكرسي ورحب به وحياه وأنزله في منزلته وقال له: يا علاء الدين أنت ضيفي في هذه الليلة، ثم دخل به سرايته ودعا بجارية تسمى قوت القلوب وقال لها: إن علاء الدين كان عنده زوجة تسمى زبيدة العودية وكانت تسليه عن الهم والغم فماتت إلى رحمة الله تعالى ومرادي أن تسمعيه نوبة على العود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن الخليفة قال لجاريته قوت القلوب: مرادي أن تسمعيه نوبة على العود من غرائب الموجود لأجل أن يتسلى عن الهم والأحزان، فقامت الجارية وعملت نوبة من الغرائب فقال الخليفة: ما تقول يا علاء الدين في صوت هذه الجارية? فقال له: إن زبيدة أحسن صوتاً منها إلا أنها صاحبة صناعة في ضرب العود لأنها تطرب الحجر الجلمود فقال له: هل هي أعجبتك? فقال له: أعجبتني يا أمير المؤمنين فقال الخليفة: وحياة رأسي وتربة جدودي أنها هبة مني إليك هي وجواريها فظن علاء الدين أنالخليفة يمزح معه فلما أصبح الخليفة دخل على جاريته قوت القلوب، وقال لها: أنا وهبتك لعلاء الدين ففرحت بذلك لأنها رأته وأحبته ثم تحول الخليفة من قصر السرايا إلى اديوان ودعا بالحمالين وقال لهم: انقلوا أمتعة قوت القلوب وحطوها في التختروان هي وجواريها إلى بيت علاء الدين فنقلوها هي وجواريها وامتعتها وأدخلوها القصر وجلس الخليفة في مجلس الحكم إلى آخر النهار، ثم انفض الديوان ودخل قصره. هذا ما كان من أمره.
و أما ما كان من أمر قوت القلوب فإنها لما دخلت قصر علاء الدين هي وجواريها وكانوا أربعين جارية غير الطواشية، قالت لاثنين من الطواشية: أحدكما يقعد على كرسي في ميمنة الباب والثاني يقعد على كرسي في ميسرته وحين يأتي علاء الدين قبلا يديه وقولا له: إن سيدتنا قوت القلوب تطلبك إلى القصر فإن الخليفة وهبها لك هي وجواريها فقالا: سمعاً وطاعة ثم فعلا ما أمرتهما به فلما أقبل علاء الدين وجد اثنين من طواشية الخليفة جالسين بالباب فاستغرب الأمر وقال في نفسه: لعل هذا ما هو بيتي وإلا فما الخبر? فلما رأته الطواشية قاموا إليه وقبلوا يديه، وقالوا: نحن من أتباع الخليفة ومماليك قوت القلوب وهي تسلم عليك وتقول لك أن الخليفة قد وهبها لك هي وجواريها وتطلبك عندها. فقال لهم: قولوا لها: مرحبا بك ولكن ما دمت عنده ما يدخل القصر الذي أنت فيه لأن ما كان للمولى لا يصلح أن يكون للخدام وقولا لها: ما مقدار مصروفك عند الخليفة في كل يوم? فطلعوا إليها وقالوا لها ذلك فقالت: كل يوم مائة دينار فقال لنفسه أنا ليس لي حاجة بأن يهب لي الخليفة قوت القلوب حتى أصرف عليها هذا المصروف ولكن لا حيلة في ذلك.
ثم إنها أقامت عنده مدة أيام وهو مرتب لها في كل يوم مائة دينار إلى أن انقطع علاء الدين عن الديوان يوماً من الأيام فقال الخليفة للوزير جعفر: أنا ما وهبت قوت القلوب لعلاء الدين إلا لتسليته عن زوجته، وما سبب انقطاعه? فقال جعفر: لعله ما قطعه عنا إلا عذر ولكن نحن نزوره وكان قبل ذلك بأيام قال علاء الدين للوزير: أنا شكوت للخليفة ما أجده من الحزن على زوجتي زبيدة العودية فوهب لي قوت القلوب. فقال له الوزير: لولا أنه يحبك ما وهبها لك وهل دخلت بها يا علاء الدين? فقال: لا والله لا أعرف لها طولاً من عرض فقال له: ما سبب ذلك? فقال: يا وزير الذي يصلح للمولى لا يصلح للخدام ثم إن الخليفة وجعفر اختفيا وسارا لزيارة علاء الدين ولم يزالا سائرين إلى أندخلا على علاء الدين فعرفهما وقام وقبل يد الخليفة فلما رآه الخليفة وجد عليه علامة الحزن فقال له: يا علاء الدين ما سبب هذا الحزن الذي أنت فيه أما دخلت على قوت القلوب? فقال: يا أمير المؤمنين الذي يصلح للمولى لا يصلح للخدام وإني إلى الآن ما دخلت عليها ولا أعرف لها طولاً من عرض فأقلني منها فقال الخليفة: إن مرادي الإجتماع بها حتى أسألها عن حالها فقال علاء الدين: سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين فدخل عليها الخليفة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة دخل على قوت القلوب فلما رأته قامت وقبلت الأرض بين يديه فقال لها: هل دخل بك علاء الدين? فقالت: لا يا أمير المؤمنين وقد أرسلت أطلبه للدخول فلم يرض فأمر الخليفة برجوعها إلى السرايا وقال لعلاء الدين: لا تنقطع عنا، ثم توجه الخليفة إلى داره فبات علاء الدين تلك الليلة ولما أصبح ركب وسار إلى الديوان فجلس في رتبة رئيس الستين فأمر الخليفة الخازندار يعطي للوزير جعفر عشرة آلف دينار فأعطاه ذلك المبلغ ثم قال الخليفة للوزير: ألزمتك أن تنزل إلى سوق الجواري وتشتري لعلاء الدين بالعشرة آلف دينار جارية فامتثل الوزير لأمر الخليفة وأخذ معه علاء الدين وسار به إلى سوق الجواري فاتفق في هذا اليوم أن والي بغداد الذي من طرف الخليفة وكان اسمه الأمير خالد نزل إلى السوق لأجل اشتراء جارية لولده وسبب ذلم أنه كان له زوجة تسمى خاتون وكان رزق منها بولد قبيح المنظر يسمى حبظلم بظاظة واكن بلغ من العمر عشرين سنة ولا يعرف أن يركب الحصان وكان أبوه شجاعاً قرماً مناعاً وكان يركب الخيل ويخوض بحار الليل فنام حبظلم بظاظة في ليلة من الليالي فاحتلم فأخبر والدته بذلك ففرحت وأخبرت والده بذلك وقالت: مرادي أن تزوجه فإنه صار يستحق الزواج فقال لها: هذا قبيح المنظر كريه الرائحة دنس وحش لا تقبله واحدة من النساء، فقالت: تشتري له جارية فلأمر قدره الله تعالى أن اليوم الذي نزل فيه الوزير وعلاء الدين إلى السوق نزل فيه الأمير خالد الوالي هو وولده حبظلم بظاظة.
فبينما هم في السوق، وإذا بجارية ذات حسن وجمال وقد واعتدال في يد رجل دلال فقال الوزير: شاور يا دلال عليها بألف دينار فمر بها على الوالي فرآها حبظلم بظاظة نظرة أعقبته ألف حسرة وتولع بها وتمكن منه حبها، فقال: يا أبت اشتري هذه الجارية فنادى الدلال وسأل الجارية عن اسمها فقالت له: اسمي ياسمين فقال له أبوه يا ولدي إن كانت أعجبتك فزد في ثمنها، فقال: يا دلال كم معك من الثمن? قال: ألف دينار قال: علي بألف دينار ودينار فجاء لعلاء الدين فعملها بألفين فصار كلما يزيد ابن الوالي ديناراً في الثمن يزيد علاء الدين ألف دينار فاغتاظ ابن الوالي وقال: يا دلال من يزيد علي في ثمن الجارية? فقل له الدلال: إن الوزير جعفر يريد أن يشتريها لعلاء الدين أبي الشامات فعملها علاء الدين بعشرة آلف دينار فسمح له سيدها وقبض ثمنها وأخذها علاء الدين وقال لها: أعتقتك لوجه الله تعالى.
ثم إنه كتب كتابه عليها وتوجه بها إلى النيت ورجع الدلال ومعه دلالته فناداه ابن الوالي وقال له: أين الجارية? فقال له: اشتراها علاء الدين بعشرة آلاف دينار وأعتقها وكتب كتابه عليها فانكمد الولد وزادت به الحسرات ورجع ضعيفاً إلى البيت من محبته لها وارتمى في الفراش وقطع الزاد وزاد به العشق والغرام. فلما رأته أمه ضعيفاً قالت له: سلامتك يا ولدي ما سبب ضعفك? قال لها: اشتري لي ياسمين يا أمي قالت له: لما يفوت صاحب الرياحين أشتري لك جنينة ياسمين، فقال لها: ليس الياسمين الذي يشم وإنما هي جارية اسمها ياسمين لم يشترها لي أبي، فقالت لزوجها: لأي شيء ما اشتريت له هذه الجارية? فقال لها: الذي يصلح للمولى لا يصلح للخدام وليس لي قدرة على أخذها فإنه ما اشتراها إلا علاء الدين رئيس الستين فزاد الضعف بالولد حتى جفا الرقاد وتعصبت امه بعصائب الحزن.
فبينما هي في بيتها حزينة على ولدها، وإذا بعجوز دخلت عليها اسمها أم أحمد قماقم السراق وكان هذا السراق ينقب وسطانياً ويلقف فرقانياً ويسرق الكحل من العين وكان بهذه الصفات القبيحة في أول أمره ثم عملوه مقدم الدرك فسرق عملة ووقع بها وهجم عليه الوالي فأخذه وعرضه على الخليفة فأمر بقتله في بقعة الدم فاستجار بالوزير، وكان للوزير عند الخليفة شفاعة لا ترد فشفع فيه فقال له الخليفة: كيف تشفع في آفة تضر الناس? فقال له: يا أمير فإن الذي بنى السجن كان حكيماً لأن السجن قبر الأحياء وشماتة الأعداء فأمر الخليفة بوضعه في السجن في قيد وكتب عليه قيد مخلد إلى الممات لا يفك إلا على دكة المغسل فوضعوه مقيداً في السجن، وكانت أمه تتردد على بيت الأمير خالد الوالي وتدخل لابنها في السجن وتقول له: أما قلت لك ثب عن الحرام فيقول لها قدر الله ذلك ولكن يا أمي إذا دخلت على زوجة الوالي فخليها تشفع لي عنده.
فلما دخلت العجوز على زوجة الوالي وجدتها معصبة بعصائب الحزن، فقالت لها: ما لك حزينة? فقالت لها: على فقد ولدي حبظلم بظاظة، فقالت لها: سلامة ولدك ما الذي أصابه? فحكت لها الحكاية فقالت لها العجوز: ما تقولين فيمن يلعب منصفاً يكون فيه سلامة ولدك? فقالت لها: وما الذي تفعلينه? فقالت: أنا لي ولد يسمى أحمد قماقم السراق وهو مقيد في السجن مكتوب على قيده مخلد إلى الممات، فأنت تقومين وتلبسين أفخر ما عندك وتتزينين بأحسن الزينة وتقابلين زوجك ببشر وببشاشة فإذا طلب منك ما يطلبه الرجال من النساء فامتنعي منه ولا تمكنيه وقولي له: يا لله العجب إذا كان للرجل حاجة عند زوجته يلح عليها حتى يقضيها منها وإذا كان للزوجة عند زوجها حاجة فإنه لا يقضيها لها فيقول لك وما حاجتك. فتقولي له: حتى تحلف لي فإذا حلف لك بحياة رأسه وبالله فقولي له: حلف لي بالطلاق مني ولا تمكنيه إلا أن يحلف لك بالطلاق فإذا حلف لك بالطلاق فقولي له: عندك في السجن واحد مقدم اسمه أحمد قماقم، وله أم مسكينة وقد وقعت علي وساقتني عليك، وقالت لي: خليه يشفع عند الخليفة لأجل أن يتوب ويحصل له الثواب، فقالت لها: سمعاً وطاعة، فلما دخل الوالي على زوجته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوالي لما دخل على زوجته قالت له ذلك الكلام وحلف لها بالطلاق فمكنته وبات ولما أصبح الصباح اغتسل، وصلى الصبح وجاء إلى السجن وقال: يا أحمد قماقم يا سراق هل تتوب مما أنت فيه? فقال: إني تبت إلى الله تعالى ورجعت وأقول بالقلب واللسان: أستغفر الله فأطلقه الوالي من السجن وأخذه معه إلى الديوان وهو في القيد ثم تقدم إلى الخليفة وقبل الأرض بين يديه.
فقال له: يا أمير خالد، أي شيء تطلب? فتقدم أحمد قماقم يخطر في القيد قدام الخليفة فقال له: يا قماقم هل أنت حي إلى الآن? فقال: يا أمير المؤمنين إن عمر الشقي بقي فقال: يا أمير خالد لأي شيء جئت به هنا? فقال له: إن له أماً مسكينة منقطعة وليس لها أحد غيره، وقد وقعت على عبدك أن يتشفع عندك يا أمير المؤمنين في أنك تفكه من القيد وهو يتوب عما كان فيه وتجعله مقدم الدرك كما كان أولاً. فقال الخليفة لأحمد قماقم: هل تبت عما كنت فيه? فقال له: تبت إلى الله يا أمير المؤمنين فأمر بإحضار الحداد وفك قيده على دكة المغسل وجعله مقدم الدرك وأوصاه بالمشي الطيب فقبل يد الخليفة ونزل بخلعة الدرك ونادوا له بالتقديم فمكث مدة من الزمن في منصبه، ثم دخلت أمه على زوجة الوالي فقالت لها: الحمد لله الذي خلص ابنك من السجن وهو على قيد الصحة والسلامة فلأي شيء لم تقولي له يدبر أمراً في مجيئه بالجارية ياسمين إلى ولدي حبظلم بظاظة? فقالت: أقول له، ثم قامت من عندها ودخلت على ولدها فوجدته سكراناً. فقالت له: يا ولدي ما سبب خلاصك من السجن إلا زوجة الوالي وتريد منك أن تدبر لها أمراً في قتل علاء الدين أبي الشامات وتجيء بالجارية ياسمين إلى ولدها حبظلم بظاظة، فقال لها: هذا أسهل ما يكون ولا بد أن أدبر له أمراً في هذه الليلة وكانت تلك الليلة أول ليلة في الشهر الجديد وعادة أمير المؤمنين أن يبيت فيها عند السيدة زبيدة لعتق جارية أو مملوك أو نحو ذلك وكان من عادة الخليفة أن يقلع بدلة الملك، ويترك السبحة والنمشة وخاتم الملك ويضع الجميع فوق الكرسي في قاعة الجلوس وكان عند الخليفة مصباح من ذهب وكان ذلك المصباح عزيزاً عند الخليفة.
ثم إن الخليفة وكل الطواشية بالبدلة والمصباح وباقي الأمتعة ودخل مقصورة السيدة زبيدة فصبرأحمد قماقم السراق لما انتصف الليل وأضاء سهيل ونامت الخلائق وتجلى عليهم بالستر الخالق، ثم سحب سيفه في يمينه وأخذ مقفله في يساره وأقبل على قاعة الجلوس فتعلق بها وطلع على السلم إلى السطوح، ورفع طابق القاعة ونزل فيها فوجد الطواشية نائمين، فبنجهم وأخذ بدلة الخليفة والسبحة والنمشة والمنديل والخاتم والمصباح الذي بالجواهر ثم نزل من الموضع الذي طلع منه وسار إلى بين علاء الدين أبي الشامات وكان علاء الدين في هذه الليلة مشغولاً بفرح الجارية فدخل عليها وراحت منه حاملاً.
فنزل أحمد قماقم السراق على قاعة علاء الدين وقلع لوحاً رخاماً من دار القاعة وحفر تحته ووضع بعض المصالح وأبقى بعضها معه، ثم جبس اللوح الرخام كما كان ونزل من الموضع الذي طلع منه وقال في نفسه: أنا أقعد أسكر وأحط المصباح قدامي وأشرب الكأس على نوره ثم سار إلى بيته فما أصبح ذهب الخليفة إلى القاعة فوجد الطواشية مبنجين فأيقظهم وحط يده فلم يجد البدلة ولا الخاتم ولا السبحة ولا النمشة ولا المنديل ولا المصباح فاغتاظ لذلك غيظأ شديداً ولبس بدلة الغضب وهي بدلة حمراء، وجلس في الديوان فتقدم الوزير وقبل الأرض بين يديه وقال له: أي شيء حصل? فحكى له جميع ما وقع وإذا بالوالي طالع وفي ركابه أحمد قماقم السراق، فوجد الخليفة في غيظ عظيم، فلما نظر الخليفة إلى الوالي قال له: يا أمير خالد كيف حال بغداد? فقال له: سالمة أمينة، فقال له: تكذب فقال له: لأي شيء يا أمير المؤمنين? فقص عليه القصة وقال له: ألزمتك أن تجيء بذلك كله فقال له: يا أمير المؤمنين دود الخل منه فيه ولا يقدر غريب أن يصل إلى هذا المحل أبداً، فقال: إن لم تجيء لي بهذه الأشياء قتلتك، فقال له: قبل أن تقتلني أقتل أحمد قماقم السراق فإنه لا يعرف الحرامي والخائن إلا مقدم الدرك فقام أحمد قماقم وقال للخليفة: شفعني في الوالي وأنا أضمن لك عهدة الذي سرق وأقص الأثر وراءه حتى أعرفه ولكن أعطني اثنين من طرف القاعة واثنين من طرف الوالي فإن الذي فعل هذا لا يخشاك ولا يخشى من الوالي ولا من غيره. فقال الخليفة: لك ما طلبت ولكن أول التفتيش يكون في سرايتي وبعدها سراية الوزير وفي سرايا رئيس الستين فقال أحمد قماقم: صدقت يا أمير المؤمنين ربما يكون الذي عمل هذه العملة واحد قد تربى في سرايا أمير المؤمنين أو في أحد من خواصه فقال الخليفة: وحياة رأسي كل من ظهرت عليه هذه العملة لا بد من قتله ولو كان ولدي ثم إن أحمد قماقم أخذ ما أراده وأخذ فرماناً بالهجوم على البيوت وتفتيشها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أحمد قماقم أخذ ما أراده وأخذ فرماناً بالهجوم على البيوت وتفتيشها ونزل وبيده قضيب ثلثه من الشؤم وثلثه من النحاس وثلثه من الحديد والفولاذ وفتش سرايا الخليفة وسرايا الوزير جعفر ودار على بيوت الحجاب والنواب إلى أن مر على بيت علاء الدين أبي الشامات فلما سمع الضجة علاء الدين قام من عند ياسمين زوجته وفتح الباب فوجد الوالي في كوكبة فقال له: ما الخبر يا أمير خالد? فحكى له جميع القضية فقال علاء الدين: أدخلوا بيتي وفتشوه. فقال الوالي: العفو يا سيدي أنت أمين وحاشا أن يكون الأمين خائناً فقال له: لا بد من تفتيش بيتي فدخل الوالي والقضاة والشهود وتقدم أحمد قماقم إلى داره أرض القاعة وجاء إلى الرخامة التي دفن تحتها الأمتعة وأرخى القضيب على اللوح الرخام بعزمه فانكسرت الرخامة وإذا بشيء ينور تحتها فقال المقدم: باسم الله ما شاء الله على بركة قدومنا انفتح لنما كنز وأريد أن أنزل إلى هذا المطلب وأنظر ما فيه. فنظر القاضي والشهود إلى ذلك المحل فوجدوا الأمتعة بتمامها فكتبوا ورقة مضمونها أنهم وجدوا الأمتعة في بيت علاء الدين ثم وضعوا في تلك الورقة ختومهم وأمروا بالقبض على علاء الدين وأخذوا عمامته من فوق رأسه وضبطوا جميع ماله ورزقه في قائمة وقبض أحمد قماقم السراق على الجارية ياسمين وكانت أحسن حالاً من علاء الدين وأعطاها لأمه وقال لها: سلميها لخاتون امرأة الوالي فأخذت ياسمين ودخلت بها على زوجة الوالي فلما رآها حبظلم بظاظة جاءت له العافية وقام من وقته وساعته وفرح فرحاً شديداً وتقرب إليها فسحبت خنجراً من حياصتها وقالت له: ابعد عني وإلا أقتلك وأقتل نفسي فقالت لها أمه خاتون: يا عاهرة خلي ولدي يبلغ منك مراده? فقالت لها: يا كلبة في أي مذهب يجوز للمرأة أن تتزوج باثنين وأي شيء أوصل الكلاب أن تدخل في مواطن السباع? فزاد بالولد الغرام وأضعفه الوجد والهيام وقطع الزاد ولزم الوساد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حبظلم بظاظة قطع الزاد ولزم الوساد فقالت لها امرأة الوالي: يا عاهرة كيف تحسريني على ولدي لا بد من تعذيبك وأما علاء الدين فإنه لا بد من شنقه فقالت لها: أنا أموت على محبته فقامت زوجة الوالي ونزعت عنها ما كان عليها من الصيغة وثياب الحرير وألبستها لباساً من الخيش وقميصاً من الشعر وأنزلتها في المطبخ وعملتها من الجواري الخدمة وقالت لها: جزاؤك أنك تكسرين من الحطب وتقشرين البصل وتحطين النار تحت الحلل، فقالت لها: أرضى بكل عذاب وخدمة ولا أرضى رؤية ولدك فحنن الله عليها قلوب الجواري وصرت يتعاطين الخدمة عنها في المطبخ. هذا ما كان من أمر ياسمين.
و أما ما كان من أمر علاء الدين أبي الشامات فأنهم أخذوه هو وأمتعة الخليفة وساروا به إلى أن وصلوا إلى الديوان، فبينما الخليفة جالساً على الكرسي وإذا هم طالعون بعلاء الدين ومعه الأمتعة فقال الخليفة: أين وجدتموها? فقالوا له: في وسط بيت علاء الدين أبي الشامات فامتزج الخليفة بالغضب وأخذ الأمتعة فلم يجد المصباح فقال الخليفة: أين المصباح? فقال له علاء الدين: أنا ما سرقت ولا علمت ولا رأيت ولا معي خبر فقال له: يا خائن كيف أقربك إلي وتبعدني عنك وأستأمنك وتخونني ثم أمر بشنقه فنزل به الوالي والمنادي ينادي عليه: هذا جزاء من يخون الخلفاء الراشدين فاجتمع الخلائق عند المشنقة. هذا ما كان من أمر علاء الدين.
و أما ما كان من أمر أحمد الدنف كبير علاء الدين فإنه كان قاعداً هو وأتباعه على بستان فبينما هم جالسون في حظ وسرور وإذا برجل سقاء من السقايين في الديوان دخل عليهم وقبل يد أحمد الدنف وقال: يا مقدم أحمد يا دنف أنت قاعد في صفاء الماء تحت رجليك وما عندك علم بما حصل? فقال له أحمد الدنف: ما الخبر? فقال السقاء إن ولدك في عهد الله علاء الدين نزلوا به إلى المشنقة، فقال الدنف: ما عندك من الحيلة يا حسن شومان? فقال له: أستغرب هذا الأمر وهذا ملعوب عليه من واحد عدو فقال له: ما الرأي عندك? فقال: خلاصه علينا إن شاء المولى ثم إن حسن شومان ذهب إلى السجن وقال للسجان: أعطنا واحداً يكون مستوجباً للقتل فأعطاه واحداً وكان شبه البرايا بعلاء الدين أبي الشامات فغطى رأسه وأخذه أحمد الدنف بينه وبين علي الزيبق المصري وكانوا قدموا علاء الدين إلى الشنق فتقدم الدنف وحط رجله على رجل المشاعلي فقال له المشاعلي: أعطني الوسع حتى أعمل صنعتي فقال له: يا لعين خذ هذا الرجل واشنقه موضع علاء الدين أبي الشامات فإنه مظلوم وانفدى إسماعيل بالكبش فأخذ علي المشاعلي ذلك الرجل وشنقه عوضاً عن علاء الدين ثم إن أحمد الدنف وعلي الزيبق المصري أخذا علاء الدين وسارا به إلى قاعة أحمد الدنف فلما دخلوا عليه قال له علاء الدين: جزاك الله خيراً يا كبيري فقال له أحمد الدنف: ما هذا الفعل الذي فعلته? و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أحمد الدنف قال لعلاء الدين: ما هذا الفعل الذي فعلته? ورحم الله من قال: من ائتمنك فلا تخونه ولو كنت خائناً والخليفة مكنك عنده وسماك بالثقة الأمين، كيف تفعل معه هكذا وتأخذ أمتعته? فقال علاء الدين: والاسم الأعظم يا كبيري ما هي عملتي ولا لي فيها ذنب ولا أعرف من عملها، فقال أحمد الدنف: إن هذه العملة ما عملها إلا عدو مبين ومن فعل شيئاً يجازي به ولكن يا علاء الدين أنت ما بقي لك إقامة في بغداد فإن الملوك لا تعادى يا ولدي ومن كانت الملوك في طلبه يطول تعبه? فقال علاء الدين: أين أروح يا كبيري? فقال له: أنا أوصلك إلى الإسكندرية فإنها مباركة وعتبتها خضراء وعيشتها هنيئة فقال له: سمعاً وطاعة يا كبيري فقال أحمد الدنف لحسن شومان: خل بالك وإذا سأل عني الخليفة فقل له: أنه راح يطوف على البلاد ثم أخذه وخرج من بغداد ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى الكروم والبساتين فوجدا يهوديين من عمال الخليفة راكبين على بغلتين فقال أحمد الدنف لليهوديين: هاتوا الغفر فقال اليهوديان: نعطيك الغفر على أي شيء? فقال لهما? أنا غفير هذا الوادي فأعطاه كل منهما مائة دينار وبعد ذلك قتلهما أحمد الدنف وأخذ البغلتين في خان وباتا فيه.
و لما أصبح الصباح باع علاء الدين بغلته وأوصى البواب على بغلة أحمد الدنف ونزل في مركب من مينة إياس حتى وصلا إلى الإسكندرية فطلع أحمد الدنف ومعه علاء الدين ومشيا في السوق وإذا بدلال يدلل على دكان ومن داخل الدكان طبقة على تسعمائة وخمسين ديناراً فقال علاء الدين: علي بألف فسمح له البائع وكانت لبيت المال فتسلم علاء الدين المفاتيح وفتح الطبقة فوجدها مفروشة بالفرش والمساند ورأى فيها حاصلاً فيه قلاع وصواري وحبال وصناديق وأجرة ملآنة خرزاً وودعاً وركابات وأطياراً ودبابيس وسكاكين ومقصات وغير ذلك لأن صاحبه كان سقطياً.
فقعد علاء الدين أبي الشامات في الدكان وقال له أحمد الدنف: يا ولدي الدكان والطبقة وما فيهما صارت ملكك فاقعد فيها وبع واشتري ولا تنكر فإن الله تعالى بارك في التجارة وأقام عنده ثلاثة أيام واليوم الرابع أخذ خاطره وقال له: استقر في هذا المكان حتى أروح وأعود إليك بخبر من الخليفة بالأمان عليك وأنظر الذي عمل معك هذا الملعوب ثم توجه مسافراً حتى وصل إلى إياس فأخذ البغلة من الخان وسار إلى بغداد فاجتمع بحسن شومان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العاشرة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أحمد الدنف اجتمع بحسن شومان واتباعه وقال: يا حسن هل الخليفة سأل عني? فقال: ولا خطرت على باله فقام في خدمة الخليفة وصار يستنشق الأخبار فرأى الخليفة التفت إلى الوزير جعفر يوماً من الأيام وقال له: انظر يا وزير هذا العملة التي فعلها معي علاء الدين، فقال له: يا أمير المؤمنين أنت جازيته بالشنق وجزاؤه ما حل به، فقال له: يا وزير مرادي أن أنزل وأنظره وهو مشنوق، فقال الوزير: افعل ما شئت يا أمير المؤمنين.
فنزل الخليفة ومعه الوزير جعفر إلى جهة المشنقة ثم رفع طرفه فرأى المشنوق غير علاء الدين أبي الشامات الثقة الأمين فقال الخليفة: هذا ما هو علاء الدين فقال له: كيف عرفت أنه غيره? فقال: إن علاء الدين كان قصيراً وهذا طويل فقال له: إن المشنوق يطول، فقال إن علاء الدين كان أبيض وهذا وجهه أسود فقال له: أما تعلم يا أمير المؤمنين أن الموت له غبرات? فأمر بتنزيله من فوق المشنقة فلما أنزلوه وجد مكتوباً على كعبيه الاثنين اسما الشيخين فقال له: يا وزير إن علاء الدين كان سنياً وهذا رافضي فقال له: سبحان الله علام الغيوب ونحن لا نعلم هل هذا علاء الدين أو غيره فأمر الخليفة بدفنه وصار نسياً منسياً. هذا ما كان من أمره.
و أما ما كان من أمر حبظلم بظاظة ابن الوالي فإنه قد طاب به العشق والغرام حتى مات وواروه في التراب. وأما ما كان من أمر الجارية ياسمين فإنها وفت حملها ولحقها الطلق فوضعت ذكراً كأنه القمر فقالت لها الجواري: ما تسميه? فقالت: لو كان أبوه طيباً كان سماه ولكن أنا أسميه أصلان، ثم إنها أرضعته اللبن عامين متتابعين وفطمته وحبى ومشى فاتفق أن أمه اشتغلت بخدمة المطبخ يوماً من الأيام فمشى الغلام ورأى سلم فقعد فطلع عليه وكان الأمير خالد الوالي جالساً فأخذه وأقعده في حجره وسبح مولاه فيما خلق وصور وتأمل وجهه فرآه شبه النوايا بعلاء الدين أبي الشامات، ثم إن أمه ياسمين فتشت عليه فلم تجده فطلعت المقعد فرأت الأمير خالد جالساً والولد في حجره يلعب وقد ألقى الله محبة الولد في قلب الأمير خالد. فالتفت الولد فرأى أمه فرمى نفسه عليها فزنقه الأمير خالد في حضنه وقال لها: تعالي يا جارية فلما جاءت قال لها هذا الولد ابن من? فقالت له: هذا ولدي وثمرة فؤادي فقال لها: ومن أبوه? فقالت له: أبوه علاء الدين أبي الشامات والآن صار ولدك فقال لها: إن علاء الدين كان خائناً فقالت: سلامته من الخيانة حاشا وكلا أن يكون الأمين خائناً فقال لها: إذا كبر هذا الولد ونشأ وقال: من أبي? فقولي له: أنت ابن الأمير خالد الوالي صاحب الشرطة فقالت سمعاً وطاعة.
ثم إن الأمير خالد طاهر الولد ورباه وأحسن تربيته وجاء له بفقيه خطاط فعلمه الخط والقراءة فقرأ وأعاد وختم وصار يقول للأمير خالد: يا والدي وصار الوالي يعمل في الميدان ويجمع الخيل وينزل يعلم الولد أرباب الحرب ومقاصد الطعن والضرب إلى أن انتهى في الفروسية وتعلم الشجاعة وبلغ من العمر أربع عشرة سنة ووصل إلى درجة الإمارة.
فاتفق أن أصلان اجتمع مع أحمد قماقم السراق يوماً من الأيام وصارا أصحاباً فتبعه إلى الخمارة وإذا بأحمد قماقم السراق أطلع المصباح الجوهر الذي أخذه من أمتعة الخليفة وحطه قدامه وتناول الكأس على نوره وسكر فقال له أصلان: يا مقدم أعطني هذا المصباح فقال له: ما أقدر أن أعطيك إياه فقال له: لأي شيء? و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية عشرة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أصلان قال لأحمد قماقم: لأي شيء? فقال له: لأنه راحت على شأنه الأرواح فقال له: أي روح راحت على شأنه? فقال له: كان واحد جاءنا هنا وعمل رئيس الستين يسمى علاء الدين أبي الشامات ومات بسبب ذلك فقال له: وما حكايته وسبب موته? فقال له: كان لك أخ يسمى حبظلم بظاظة وبلغ من العمر ستة عشرة عاماً حتى استحق الزواج وطلب أبوه أن يشتري له جارية وأخبره بالقصة من أولها إلى آخرها وأعلمه بضعف حبظلم بظاظة وما وقع لعلاء الدين ظلماً.
فقال أصلان في نفسه: لعل هذه الجارية ياسمين أمي وما أبي إلا علاء الدين أبي الشامات فطلع الولد أصلان من عنده حزيناً فقابل المقدم أحمد الدنف فلما رآه أحمد الدنف قال: سبحان من لا شبيه له فقال له حسن شومان: يا كبيري من أي شيء تتعجب? فقال له: من خلقة هذا الولد أصلان فإنه أشبه البرايا بعلاء الدين أبي الشامات فنادى أحمد الدنف وقال: يا أصلان فرد عليه فقال له: ما سام أمك? فقال له تسمى الجارية ياسمين فقال له: يا أصلان طب نفساً وقر عيناً فإنه ما أبوك إلا علاء الدين أبي الشامات ولكن يا ولدي ادخل على أمك واسألها عن أبيك فقال سمعاً وطاعة.
ثم دخل على أمه وسألها فقالت له: أبوك الأمير خالد فقال لها: ما أبي إلا علاء الدين أبي الشامات فبكت أمه وقالت له: من أخبرك بهذا يا ولدي? فقال المقدم أحمد الدنف أخبرني بذلك فحكت له جميع ما جرى وقالت له: يا ولدي قد ظهر الحق واختفى الباطل واعلم أن أباك علاء الدين أبي الشامات إلا أنه ما رباك إلا الأمير خالد وجعلك ولده، فيا ولدي إن اجتمعت بالمقدم أحمد الدنف قل له: يا كبيري سألتك بالله أن تأخذ ثأري من قاتل أبي علاء الدين أبي الشامات، فطلع من عندها وسار.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية عشرة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أصلان طلع من عند أمه وسار إلى أن دخل على المقدم أحمد الدنف وقبل يده، فقال له: ما لك يا أصلان? فقال له: إني عرفت وتحققت من أن أبي علاء الدين أبي الشامات ومرادي أنك تأخذ لي ثأري من قاتله فقال له: من الذي قتل أباك? فقال له: أحمد قماقم السراق، فقال له: ومن أعلمك بهذا الخبر? فقال له: رأيت معه المصباح الجوهر الذي ضاع من جملة أمتعة الخليفة وقلت له أعطني هذا المصباح فما رضي وقال لي: هذا راحت على شأنه الأرواح وحكى لي أنه هو الذي نزل وسرق الأمتعة ووضعها في دار أبي فقال له أحمد الدنف: إذا ما رأيت الأمير خالد يلبس ثياب الحرب فقل له: ألبسني مثلك فإذا طلعت معه وأظهرت باباً من أبواب الشجاعة قدام أمير المؤمنين فإن الخليفة يقول لك تمن علي يا أصلان فقل له أتمنى عليك أن تأخذ ثأر أبي من قاتله فيقول لك أباك حي وهو الأمير خالد فقل له: إن أبي علاء الدين أبي الشامات وخالد الوالي له علي حق التربية فقط وأخبره بجميع ما وقع بينك وبين أحمد قماقم السراق وقل له: يا أمير المؤمنين أؤمر بتفتيشه وأنا أخرجه من جيبه فقال له: سمعاً وطاعة.
ثم طلع أصلان فوجد المير خالد يتجه إلى طلوعه ديوان الخليفة فقال له: مرادي أن تلبسني لباس الحرب مثلك وتأخذني معك إلى ديوان الخليفة فألبسه وأخذه معه إلى الديوان ونزل الخليفة بالعسكر خارج البلد ونصبوا الصواوين والخيام واصطفت الصفوف وطلع بالأكرة والصولجان منهم فصار الفارس يضرب الأكرة وبالصولجان فيردها عليه الفارس الثاني وكان بين العسكر واحد جاسوس مغري على قتل الخليفة فأخذ الأكرة وضربها بالصولجان وحررها على وجه الخليفة وإذا بأصلان استلقاها عن الخليفة وضرب بها راميها فوقعت بين أكتافه فوقع على الأرض فقال الخليفة: بارك الله فيك يا أصلان.
ثم نزلوا على ظهور الخيل وقعدوا على الكراسي وأمر الخليفة بإحضار الذي ضرب الأكرة فلما حضر بين يديه قال له: من أغراك على هذا الأمر وهل أنت عدو أم حبيب? فقال له: أنا عدو وكنت مضمر قتلك فقال: ما سبب ذلك أما أنت مسلم? فقال: لا وإنما أنا رافضي فأمر الخليفة بقتله وقال لأصلان: تمن علي فقال له: أتمنى عليك أن تأخذ لي ثأر أبي من قاتله فقال له: إن أباك حي وهو واقف على رجليه فقال له: من هو أبي? فقال له: الأمير خالد الوالي فقال له: يا أمير المؤمنين ما هو أبي إلا في التربية وما والدي إلا علاء الدين أبي الشامات. فقال له: إن أباك كان خائناً فقال: يا أمير المؤمنين حاشا أن يكون الأمين خائناً وما الذي خانك فيه? فقال: سرق بدلتي وما معها فقال: يا أمير المؤمنين حاشا أن يكون أبي خائناً ولكن يا سيدي لما عدمت بدلتك وعادت إليك هل رأيت المصباح رجع إليك أيضاً? فقال: ما وجدناه فقال أنا رأيته مع أحمد قماقم السراق وطلبته منه فلم يعطني إياه وقال: هذا راحت عليه الأرواح وحكى لي عن ضعف حبظلم بظاظة ابن الأمير خالد الوالي وعشقه للجارية ياسمين وخلاصه من القيد وأنه هو الذي سرق البدلة والمصباح وأنت يا أمير المؤمنين تأخذ لي بثأر والدي من قاتله فقال الخليفة: اقبضوا على أحمد قماقم فقبضوا عليه وقال: أين المقدم أحمد الدنف فحضر بين يديه فقال الخليفة: فتش قماقم فحط يديه في جيبه فأطلع منه المصباح الجوهر.
فقال الخليفة: تعال يا خائن من أين لك هذا المصباح? فقال اشتريته يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: من أين اشتريته ومن يقدر على مثله حتى يبيعه لك? وضربوه فأقر أنه هو الذي سرق البدلة والمصباح فقال له الخليفة: لأي شيء تفعل هذه الفعال يا خائن حتى ضيعت علاء الدين أبا الشامات وهو الثقة الأمين? ثم أمر الخليفة بالقبض عليه وعلى الوالي فقال الوالي: يا أمير المؤمنين أنا مظلوم وأنت أمرتني بشنقه ولم يكن عندي خبر بهذا الملعوب، فإن التدبير كان بين العجوز وأحمد قماقم وزوجتي وليس عندي خبر وأنا في جيرتك يا أصلان فتشفع فيه أصلان عند الخليفة، ثم قال: يا أمير المؤمنين ما فعل الله بأم هذا الولد فقال له: عندي فقال: أمرتك أن تأمر زوجتك أن تلبسها بدلتها وصيغتها وتردها إلى سيادتها، وإن لم تفك الختم الذي على بيت علاء الدين وتعطي ابنه رزقه وماله، فقال: سمعاً وطاعة.
ثم نزل الوالي وأمر امرأته فألبستها بدلتها وفك الختم عن بيت علاء الدين وأعطى أصلان المفاتيح، ثم قال للخليفة: تمن علي يا أصلان فقال له: تمنيت عليك أن تجمع شملي بأبي فبكى الخليفة وقال: الغالب أن أباك هو الذي شنق ومات ولكن وحياة جدودي كل من بشرني بأنه على قيد الحياة أعطيته جميع ما يطلبه فتقدم أحمد الدنف وقبل الأرض بين يديه وقال له: أعطني الأمان يا أمير المؤمنين فقال له: عليك الأمان. فقال: أبشرك أن علاء الدين أبا الشامات، الثقة الأمين طيب على قيد الحياة فقال له: ما الذي تقوله? فقال له: وحياة رأسك إن كلامي حق وفديته بغيره ممن يستحق القتل وأوصلته إلى الإسكندرية، وفتحت له دكان سقطي فقال الخليفة: ألزمتك أن تجيء به. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة عشرة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة قال لأحمد الدنف: ألزمتك أن تجيء به فقال سمعاً وطاعة فأمر الخليفة بعشرة آلاف دينار، وسار متوجهاً إلى الإسكندرية. هذا ما كان من أمر أصلان.
و أما ما كان من أمر والده علاء الدين أبي الشامات فإنه باع ما كان في الدكان كله جميعه ولم يبق في الدكان إلا القليل وجراب قديم، فنفض الجراب فنزلت منه خرزة تملأ الكف في سلسلة من الذهب ولها خمسة وجوه وعليها أسماء وطلاسم كدبيب النمل فدعك الخمسة وجوه فلم يجاوبه أحد فقال في نفسه: لعلها خرزة من جزع ثم علقها في الدكان وإذا بقنصل فائت في الطريق فرفع بصره فرأى الخرزة معلقة على دكان علاء الدين وقال له: يا سيدي هل هذه الخرزة للبيع فقال له جميع ما عندي للبيع فقال له: أتبيعني إياها بثمانين ألف دينار? فقال علاء الدين: يفتح الله فقال له: أتبيعها بمائة ألف دينار? فقال: بعتها لك بمائة ألف دينار فانقدني الدنانير، فقال له القنصل: ما أقدر أن أحمل ثمنها معي والإسكندرية فيها حرامية وشرطية فأنت تروح معي إلى مركبي وأعطي لك الثمن ورزمة صوف أنجوري ورزمة أطلس ورزمة قطيفة ورزمة خوخ، فقام علاء الدين وقفل الدكان بعد أن أعطاه الخرزة وأعطى المفاتيح لجاره وقال له: خذ هذه المفاتيح عندك أمانة حتى أروح إلى المركب مع هذا القنصل وأجيء بثمن خرزتي فإن عوقت عنك وورد المقدم أحمد الدنف الذي كان وطنني في هذا المكان فأعطه المفاتيح وأخبره بذلك.
ثم توجه مع قنصل إلى المركب فلما نزل إلى المركب فلما نزل به المركب نصب له كرسياً وأجلسه عليه وقال: هاتوا المال: فدفع الثمن والخمس رزم التي وعده بها، وقال له: يا سيدي أقصد جبري بلقمة أو شربة ماء فقال: إن كان عندك ماء فاسقني فأمر بالشرابات فإذا فيها بنج فلما شرب انقلب على طهره، فرفعوا الكراسي وحطوا المداري وحلوا القلوع وأسعفته الرياح حتى وصلوا إلى وسط البحر فأمر القبطان بطلوع علاء الدين من الطنبر فطلعوه وشمموه ضد البنج ففتح عينيه وقال: أين أنا? فقال له: أنت معي مربوط وديعة ولو كنت تقول يفتح الله لكنت أزيدك فقال له علاء الدين: ما صناعتك? فقال له: أنا قبطان ومرادي أن آخذك إلى حبيبة قلبي، فبينما هما في الكلام وإذا بمركب فيها أربعون من تجار المسلمين فطلع القبطان بمركبه عليهم ووضع الكلاليب في مراكبهم ونزل هو ورجاله فنهبوها وأخذوها وساروا بها إلى مدينة جنوة فأقبل القبطان الذي معه علاء الدين إلى باب قصر قيطون وإذا بصبية نازلة وهي ضاربة لثاماً فقالت له: هل جئت بالخرزة وصاحبها? فقال لها: جئت بهما فقالت له: هات الخرزة فأعطاها لها وتوجه إلى الميناء وضرب مدافع السلامة فعلم ملك المدينة بوصول ذلك القبطان، فخرج إلى مقابلته وقال له: كيف كانت سفرتك? فقال له: كانت طيبة جداً وقد كسبت فيها مركباً واحداً وأربعون من تجار المسلمين، فقال له: أخرجهم إلى المدينة فأخرجهم في الحديد ومن جملتهم علاء الدين. وركب الملك هو والقبطان وأمشوهم قدامهم إلى أن وصلوا إلى الديوان وقدموا أول واحد.
فقال له الملك من أين يا مسلم فقال من الإسكندرية فقال يا سياف اقتله فرمى رقبته والثاني والثالث هكذا إلى تمام الأربعين وكان علاء الدين في آخرهم فشرب حسرتهم، وقال لنفسه رحمة الله عليك يا علاء الدين فرغ عمرك فقال له الملك وأنت من أي البلاد، فقال من الإسكندرية فقال السياف ارم عنقه فرفع السياف يده بالسيف وأراد أن يرمي رقبة علاء الدين وإذا بعجوز ذات هيبة تقدمت بين أيادي الملك فقام إليها تعظيماً لها.
فقالت يا ملك الزمان أما قلت لك لما يجيء القبطان بالأسارى تذكر الدير بأسيرين يخدمان في الكنيسة فقال لها: يا أمي ليتك سبقت بساعة ولكن خذي هذا الأسير الذي فضل.
فالتفتت إلى علاء الدين وقالت له: هل أنت تخدم في الكنيسة أو أخلي الملك يقتلك فقال لها أنا أخدم في الكنيسة فأخذته وطلعت به من الديوان وتوجهت إلى الكنيسة فقال لها علاء الدين: ما أعمل من الخدمة فقالت له: تقوم في الصبح وتأخذ خمسة بغال وتسير بها إلى الغابة وتقطع ناشف الحطب وتكسره وتجيء به إلى مطبخ الدير وبعد ذلك تلم البسط وتكنس وتمسح البلاط وترد الفرش مثل ما كان وتأخذ نصف إردب قمح وتغربله وتطحنه وتعمله منينات للدير وتأخذ وجبة عدس تغربلها وتدشها وتطبخها ثم تملأ الأربع فساقي ما وتحول بالبرميل وتملأ ثلثمائة وست وستين قطعة وتفت فيها المنينات وتسقيها من العدس وتدخل لكل راهب أو بطريق قصعته فقال لها علاء الدين رديني إلى الملك وخليه يقتلني أسهل لي من هذه الخدمة فقالت له إن خدمت ووفيت الخدمة التي عليك خلصت من القتل وإن لم توف خليت الملك يقتلك فقعد علاء الدين حامل الهم وكان في الكنيسة عشر عميان مكسحين فقال له واحد منهم هات لي قصرية فأتى له فتغوط فيها وقال له ارم الغائط فرماه فقال له يبارك فيك المسيح يا خدام الكنيسة وإذا بالعجوز أقبلت وقالت له لأي شيء ما وفيت الخدمة في الكنيسة، فقال لها: أنا لي كم يد على عمل هذه الخدمة، فقالت له: يا مجنون أنا ما جئت بك للخدمة ثم قالت له: خذ يا ابني هذا القضيب وكان من النحاس وفي رأسه صليب واخرج إلى الشارع فإذا قابلك والي البلد فقل له أني أدعوك إلى خدمة الكنيسة من أجل السيد المسيح فإنه لا يخالفك فخليه يأخذ القمح ويغربله ويطحنه وينخله ويخبزه منينات وكل من يخالفك اضربه ولا تخف أحد، فقال سمعاً وطاعة وعمل كما قالت ولم يزل يسخر الأكابر والأصاغر مدة سبعة عشر عاماً فبينما هو قاعد في الكنيسة وإذا بالعجوز داخلة عليه فقال له: اطلع إلى خراج الدير. فقال لها: أين أروح فقالت له: بت هذه الليلة في خمارة أو عند واحد من أصحابك فقال لها: لأي شيء تطرديني من الكنيسة فقالت له أن حسن مريم بنت الملك يوحنا ملك هذه المدينة مرادها أن تدخل الكنيسة للزيارة، ولا ينبغي أن تقعد في طريقها فامتثل كلامها وقام وأراها أنه رائح إلى خارج الكنيسة وقال في نفسه: يا هل ترى بنت الملك مثل نسائنا أو أحسن منهن فأنا لا أروح حتى أتفرج عليها فاختفى في مخدع له طاقة تطل على الكنيسة.
فبينما هو ينتظر في الكنيسة وإذا ببنت الملك مقبلة، فنظر إليها نظرة أعقبته ألف حسرة لأنه وجدها كأنها البدر إذا بزغ من تحت الغمام وصحبتها صبية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة عشرة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين لما نظر إلى بنت الملك، ورأى صحبتها صبية وهي تقول لتلك الصبية آنست يا زبيدة فأمعن علاء الدين النظر في تلك الصبية فرآها زوجته زبيدة العودية التي كانت ماتت، ثم إن بنت الملك قالت لزبيدة قومي اعملي لنا نوبة على العود، فقالت لها أنا لا أعمل لك نوبة حتى تبلغني مرادي وتفي لي بما وعدتني به.
فقالت لها ما الذي وعدتك به قالت لها: وعدتني بجمع شملي بزوجي علاء الدين أبي الشامات الثقة الأمين فقالت لها: يا زبيدة طيبي نفساً وقري عيناً واعملي لنا نوبة حلاوة اجتماع شملك بزوجك علاء الدين، فقالت لها: وأين هو فقالت لها: إنه هنا في هذا المخدع يسمع كلامنا فعملت نوبة على العود ترقص الحجر الجلمود فلما سمع ذلك علاء الدين هاجت بلابله وخرج من المخدع وهجم عليهما وأخذ زوجته زبيدة العودية بالحضن وعرفته فاعتنق الاثنان بعضهما ووقعا على الأرض مغشياً عليهما، فتقدمت الملكة حسن مريم ورشت عليهما ماء الورد ونبهتهما وقالت جمع الله شملكما.
فقال لها علاء الدين على محبتك يا سيدتي ثم التفت علاء الدين إلى زوجته زبيدة العودية وقال لها: أنت قد مت يا زبيدة ودفناك في القبر فكيف حييت وجئت إلى هذا المكان فقالت له: يا سيدي أنا ما مت وإنما اختطفني عون من أعوان الجان وطار بي إلى هذا المكان وأما التي دفنتموها فإنها جنية، وتصورت في صورتي وعملت أنها ميتة وبعدما دفنتوها شقت القبر وخرجت منه وراحت إلى خدمة سيدتها حسن مريم بنت الملك.
و أما أنا فإني صرعت وفتحت عيني فرأيت نفسي عند حسن مريم بنت الملك وهي هذه فقلت لها: لأي شيء جئت بي إلى هنا، فقالت لي أنا موعودة بزواجي بزوجك علاء الدين أبي الشامات فهل تقبليني يا زبيدة أن أكون ضرتك ويكون لي ليلة ولك ليلة فقلت لها سمعاً وطاعة يا سيدتي ولكن أين زوجي فقالت: إنه مكتوب على جبينه ما قدره الله تعالى فمتى استوفى ما على جبينه لا بد أن يجيء إلى هذا المكان ولكن نتسلى على فراقه بالنغمات والطرب على الآلات حتى يجمعنا الله بع فمكثت عندها هذه المدة إلى أن جمع الله شملي بك في هذه الكنيسة.
ثم إن حسن مريم التفتت إليه وقالت له: يا سيدي علاء الدين هل تقبلني أن أكون أهلاً وتكون بعلاً? فقال لها: يا سيدتي أنا مسلم وأنت نصرانية فكيف أتزوج بك? فقالت: حاشا الله أن أكون كافرة بل أنا مسلمة ولي ثمانية عشر عاماً وأنا متمسكة بدين الإسلام وإني بريئة من كل دين يخالف دين الإسلام فقال لها: يا سيدتي مرادي أن أروح إلى بلادي فقالت له: اعلم أني رأيت مكتوباً على جبينك أموراً لا بد أن تستوفيها وتبلغ غرضك ونهنيك يا علاء الدين أنه ظهر لك ولد اسمه أصلان وهو الآن جالس في مرتبتك عند الخليفة وقد بلغ من العمر ثمانية عشر عاماً واعلم أنه ظهر الحق واختفى الباطل وربنا كشف الستر عن الذي سرق أمتعة الخليفة وهو أحمد قماقم السراق الخائن وهو الآن في السجن محبوس ومقيد واعلم أني أنا التي أرسلت إليك الخرزة ووضعتها لك في داخل الجراب الذي كان في الدكان وأنا التي أرسلت القبطان وجاء لك بالخرزة واعلم أن هذا القبطان متعلق بي، ويطلب مني الوصال فما رضيت أن أمكنه من نفسي إلا إذا جئت لي بالخرزة وصاحبها وأعطيته مائة كيس وأرسلته في صفة تاجر وهو قبطان ولما قدموك إلى القتل بعد قتل الأربعين الأسارى الذين كنت معهم أرسلت إليك هذه العجوز فقال لها: جزاك الله عني كل خير.
ثم إن حسن مريم جددت إسلامها على يديه ولما عرف صدق كلامها قال لها: خبريني عن فضيلة هذه الخرزة من أين هي فقالت له: هذه الخرزة من كنز مرصود وفيها خمس فضائل تنفعنا عند الاحتياج إليها وإن جدتي أم أبي كانت ساحرة تحل الرموز وتختلس ما في الكنوز فوقعت لها هذه الخرزة من كنز فلما كبرت أنا وبلغت من العمر أربعة عشر عاماً قرأت الإنجيل وغيره من الكتب السماوية فرأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم في الأربعة كتب التوراة والإنجيل والزبور والفرقان فآمنت بمحمد وأسلمت وتحققت بعقلي أنه لا يعبد بحق إلا الله تعالى وأن رب الأنام لا يرضى إلا دين الإسلام وكانت جدتي حين ضعفت وهبت لي هذه الخرزة وأعلمتني بما فيها من الخمس فضائل وقبل أن تموت جدتي قال أبي: اضربي لي تخت رمل وانظري عاقبة أمري وما يحصل لي. فقالت له: إن البعيد يموت قتيلاً من أسير يجيء من الإسكندرية، فحلف أبي أن يقتل كل أسير يجيء منها وأخبر القبطان بذلك وقال له: لا بد أن تهجم على مراكب المسلمين وكل من رأيته من الإسكندرية تقتله أو تجيء به إلي، فامتثل أمره حتى قتل عدد شعر رأسه.
ثم هلكت جدتي فطلعت أنا وضربت لي تخت رمل وأضمرت ما في نفسي وقلت: يا هل من يتزوج بي? فظهر أنه لا يتزوج بي إلا واحد يسمى علاء الدين أبا الشامات الثقة الأمين فتعجبت من ذلك وصبرت إلى أن آن الأوان واجتمعت بك ثم إنه تزوج بها وقال لها: أنا مرادي أن أروح إلى بلادي فقالت له: إذا كان الأمر كذلك فتعال معي ثم أخذته وخبأته في مخدع قصرها ودخلت على أبيها فقال لها: يا ابنتي أنا عندي اليوم قبض زائد فاقعدي حتى أسكر معك فقعد ودعا بسفرة المدام وصارت تملأ وتسقيه حتى غاب عن الوجود ثم إنها وضعت له البنج في قدح فشربه وانقلب على قفاه ثم جاءت إلى علاء الدين وأخرجته من المخدع وقالت له: إن خصمك مطروح على قفاه فافعل به ما شئت فإني أسكرته وبنجته فدخل علاء الدين فرآه مبنجاً فكتفه تكتيفاً وثيقاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة عشرة بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين أعطى الملك أبا حسن مريم ضد البنج فأفاق فوجد علاء الدين وابنته راكبين على صدره فقال لها: يا ابنتي أتفعلين معي هذه الفعال? فقالت له: إن كنت ابنتك فأسلم لأنني أسلمت وقد تبين لي الحق تبعته والباطل فاجتنبته وقد أسلمت لله رب العالمين وإنني بريئة من كل دين خالف دين الإسلام في الدنيا والآخرة فإن أسلمت حباً وكرامة وإلا فقتلتك أو لما حياتك ثم نصحه علاء الدين فأبى وتمرد فسحب علاء الدين خنجراً ونحره من الوريد إلى الوريد وكتبت ورقة بصورة الذي جرى ووضعها على جبهته واخذ ما خف حمله وغلا ثمنه وطلعا من القصر وتوجها إلى الكنيسة. فأحضرت الخرزة وحطت يدها على الوجه الذي هو منقوش عليه السرير ودعكته وإذا بسرير وضع قدامها فركبت هي وعلاء الدين وزوجته زبيدة العودية على ذلك السرير وقالت: بحق ما كتب لنا بهذه الخرزة من الأسماء والطلاسم وعلوم الأقلام أن ترتفع بنا يا سرير فارتفع بهما السرير وسارا إلى واد لا نبات فيه فأقامت الأربعة وجوه الباقية من الخرزة إلى الأسماء وقلبت الوجه المرسوم عليه السماء فنزل بهما إلى الأرض وقلبت الوجه المرسوم عليه هيئة صيوان في هذا الوادي فانتصب الصيوان وجلسوا فيه وكان ذلك الوادي أقفر لا نبات فيه ولا ماء. فقلبت الأربعة وجوه إلى السماء وقالت بحق أسماء الله تنبت هنا أشجار ويجري بجانبها بحر فنبتت الأشجار في الحال وجرى بجانبها بحر عجاج متلاطم بالأمواج فتوضأ منه وصلا وشربا وقلبت الثلاثة وجوه الباقية من الخرزة إلى الوجه الذي عليه هيئة سفرة الطعام وقالت: بحق أسماء الله يمتد السماط وإذا بسماط امتد وفيه سائر الأطعمة الفاخرة فأكلا وشربا وتلذذا وطربا. هذا ما كان من أمرهما.
وأما ما كان من أمر ابن الملك فإنه دخل ينبه أباه فوجده قتيلاً ووجد الورقة التي كتبها علاء الدين فقرأها وعرف ما فيها ثم فتش على أخته فلم يجدها فذهب إلى العجوز في الكنيسة وسألها عنها فقالت: من أمس ما رأيتها فعاد إلى العسكر وقال لهم: الخيل يا أربابها وأخبرهم بالذي جرى فركبوا الخيل وسافروا إلى أن قربوا من الصيوان فالتفتت حسن مريم فرأت الغبار قد سد الأقطار وبعد أن علا وطار وانكشف فظهر من تحته أخوها والعسكر وهم ينادون: إلى أين تقصدون نحن وراءكم? فقالت الصبية لعلاء الدين: كيف ثباتك في الحرب والنزال? فقال لها: مثل الوتد في النخال فإني ما أعرف الحرب والكفاح ولا السيوف والرماح فسحبت الخرزة ودعكت الوجه المرسوم عليه صورة الفرس والفارس وإذا بفارس ظهر من البر ولم يزل يضرب فيهم بالسيف إلى أن كسرهم وطردهم ثم قالت له: أتسافر إلى مصر أو الإسكندرية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة عشر بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسن مريم قالت: أتسافر إلى مصر أو الإسكندرية? فقال: إلى الإسكندرية فركبوا على السرير وعزمت فسار بهم في لحظة إلى أن نزلوا في الإسكندرية فأدخلهم علاء الدين في مغارة وذهب إلى الإسكندرية فأتاهم بثياب وألبسهم إياها وتوجه بهم إلى الدكان والطبقة ثم طلع يجيء لهم بغذاء وإذا بالمقدم أحمد الدنف قادم من بغداد فرآه في الطريق فقابله بالعناق وسلم عليه ورحب به ثم إن المقدم أحمد الدنف بشره بولده أصلان وانه بلغ من العمر عشرين عاماً وحكى له علاء الدين ما جرى له من الأول إلى الآخر وأخذه إلى الدكان والطبقة فتعجب أحمد الدنف من ذلك غاية العجب وباتوا تلك الليلة.
و لما أصبحوا باع علاء الدين الدكان ووضع ثمنها على ما معه ثم إن أحمد الدنف أخبر علاء الدين بأن الخليفة يطلبه فقال له: أنا رائح إلى مصر أسلم على أبي وأمي وأهل بيتي فركبوا السرير جميعاً وتوجهوا إلى مصر السعيدة ونزلوا في الرب الأصفر لأن بيتهم كان في تلك الحارة ودق باب بيتهم فقالت أمه: من بالباب بعد فقد الأحباب? فقال: أنا علاء الدين فنزلوا وأخذوه بالأحضان ثم أدخل زوجته وما معه في البيت وبعد ذلك دخل وأحمد الدنف صحبته وأخذوا لهم راحة ثلاثة أيام ثم طلب السفر إلى بغداد فقال له أبوه: يا ولدي اجلس عندي. فقال: ما أقدر على فراق ولدي أصلان ثم إنه أخذ أباه وأمه معه وسافروا إلى بغداد فدخل أحمد الدنف وبشر الخليفة بقدوم علاء الدين وحكى له حكايته فطلب الخليفة ملتقاه وأخذ معه ولده أصلان وقابلوه بالأحضان وأمر الخليفة بإحضار أحمد قماقم السراق فلما حضر بين يديه قال: يا علاء الدين دونك وخصمك فسحب علاء الدين السيف وضرب أحمد قماقم فرمى عنقه ثم إن الخليفة عمل لعلاء الدين فرحاً عظيماً بعد أن أحضر القضاة والشهود وكتب كتابه على حسن مريم ولما دخل عليها وجدها درة لم تثقب ثم جعل ولده أصلان رئيس الستين وخلع عليه الخلع السنية وأقاموا في أرغد عيش وأهنأه إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات.
بعض حكايات تتعلق بالكرام
أما حكايات الكرام فإنها كثيرة جداً منها ما روي عن حاتم الطائي أنه لما مات دفن في رأس جبل وعملوا على قبره حوضين من حجر وصور بنات محلولات الشعر من حجر وكان تحت ذلك الجبل نهر جار فإذا نزلت الوفود يسمعون الصراخ في الليل من العشاء إلى الصباح فإذا أصبحوا لم يجدوا أحد غير البنات المصورة من الحجر فلما نزل ذو الكراع ملك حمير بذلك الوادي خارجاً من عشيرته بات تلك الليلة هناك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة عشر بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ذا الكراع لما نزل بذلك الوادي بات تلك الليلة هناك وتقرب من ذلك الموضع فسمع الصراخ فقال: ما هذا العويل الذي فوق الجبل? فقالوا له: إن هذا قبر حاتم الطائي وإن عليه حوضين من حجر وصور بنات من حجر محلولات الشعور وكل ليلة يسمع النازلون هذا العويل والصراخ فقال ذا الكراع ملك حمير يهزأ بحاتم الطائي: يا حاتم نحن الليلة ضيوفك ونحن خماً فغلب عليه النوم ثم استيقظ وهو مرعوب وقال: يا عرب الحقوني وأدركوا راحلتي فلما جاءوه وجدوا الناقة تضطرب فنحروها وشووا لحمها وأكلوه ثم سألوه عن سبب ذلك فقال: إني نمت فرأيت حاتم الطائي في المنام قد جاءني بسيف وقال: جئنا ولم يكن عندنا شيء وعقر ناقتي بالسيف ولو لم تنحروها لماتت.
فلما أصبح الصباح ركب ذو الكراع راحلة واحد من أصحابه ثم أردفه خلفه فلما كان في وسط النهار رأوا راكباً على راحلة وفي يده راحلة أخرى فقالوا له: من أنت? قال: أنا عدي بن حاتم الطائي ثم قال: أين ذو الكراع أمير حمير? فقالوا له: اركب هذه الناقة عوضاً عن راحلتك فإن ناقتك نحرها أبي لك قال: ومن أخبرك? قال: أتاني في المنام في هذه الليلة وقال لي: يا عدي إن ذو الكراع ملك حمير استضافني فنحرت له ناقته فأدركه بناقة يركبها فإني لم يكن عندي شيء فأخذها ذو الكراع وتعجب من كرم حاتم حياً وميتاً.
ومن حكايات الكرام أيضاً
ما يروى عن معن بن زائدة أنه كان في يوم من الأيام في الصيد والقنص فعطش فلم يجد مع غلمانه ماء فبينما هو كذلك وإذا بثلاث جوار أقبلن عليه حاملات ثلاث قرب ماء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة عشر بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن إن الجواري أقبلن على معن حاملات ثلاث قرب ماء فاستقاهن فأسقينه فطلب شيئاً من غلمانه ليعطيه للجواري فلم يجد معه مالاً فدفع لكل واحدة منهن عشرة أسهم من كنانته نصولها من الذهب فقالت إحداهن لصاحبتيها: لم تكن هذه الشمائل إلا لمعن بن زائدة فلتقل كل واحدة منكن شيئاً من الشعر مدحاً فيه فقالت الأولى:
يركب في السهام نصول يبر               ويرمي العدا كرماً وجـودا
فللمرضى علاج من جراح                 وأكفان لمن سكن اللحـودا
و قالت الثانية:  
ومحارب من فرط جود بنـانـه             عممت مكارمه الأحبة والعـدا
صيغت نصول سهامه من عسجد                   كيلا تعوقه الحروب عن النـدا
و قالت الثالثة:
ومن جوده يرمي العداة بـأسـهـم                   من الذهب الإبريز صيغت نصولها
لينفقها المجـروح عـنـد دوائهـا           ويشتري الأكفان منـهـا قـتـيلا

و قيل إن معن بن زائدة خرج في جماعته إلى الصيد فقرب منهم قطيع ظباء فافترقوا في طلبه وانفرد معن خلف ظبي فلما ظفر به نزل فذبحه فرأى شخصاً مقبل من البرية على حمار فركب فريه واستقبله فسلم عليه وقال له: من أين أتيت? قال: أتيت من أرض قضاعة وإن مدة من السنين مجدبة وقد أخصبت هذه السنة فزرعت فيها القثاء فطرحت في غير وقتها فجمعت منها ما استحسنته من القثاة وقصدت الأمير معن بن زائدة لكرمه المشهور ومعروفه المأثور فقال له: كم أملت منه? قال: ألف دينار. فقال: فإن قال لك هذا القدر كثير قال: خمسمائة دينار قال: فإن قال لك كثير قال مائة دينار قال: فإن قال لك كثير قال خمسين دينار قال فإن قال لك هذا كثير? قال أدخلت قوائم حماري في حرامه ورجعت إلى أهلي صفر اليدين، فضحك معن من كلامه وساق جواده حتى لحق بعسكره ونزل في منزله وقال لحاجبه: إذا أتاك شخص على حمار بقثاة فأدخله علي فأتى ذلك الرجل بعد ساعة فأذن له الحاجب بالدخول، فلما دخل على الأمير مهن لم يعرف أنه هو الذي قابله في البرية لهيبته وجلاله وكثرة خدمه وحشمه وهو متصدر في دست مملكته والحفدة قيام عن يمينه وعن شماله وبين يديه.
فلما سلم عليه قال له الأمير: ما الذي أتى بك يا أخا العرب? قال: أملت من الأمير واتيت له بقثاة في غير أوانها فقال له: كم أملت منها? قال: ألف دينار، قال ك هذا القدر كثير، قال: خمسمائة دينار قال: كثير قال: كثير قال: ثلثمائة دينار قال: كثير قال: مائتي دينار قال: كثير، قال: مائة دينار قال: كثير، قال خمسين ديناراً قال: كثير، قال ثلاثين ديناراً قال: كثير. قال: والله لقد كان ذلك الرجل الذي قابلني في البرية مشؤوماً أفلا أقل من ثلاثين ديناراً، فضحك معن وسكت فعلم الإعرابي أنه هو الرجل الذي قابله في البرية فقال له: يا سيدي إذا لم تجيء بالثلاثين فها هو الحمار مربوط بالباب وها معن جالس، فضحك معن حتى استلقى على قفاه، ثم استدعى بوكيله وقال: أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلثمائة دينار ومائتي دينار ومائة دينار وثلاثين دينار ودع الحمار مربوطاً مكانه، فبهت الإعرابي وتسلم الألفين ومائة وثمانين ديناراً، فرحمة الله عليهم أجمعين.
حكاية تتعلق ببعض مدائن الأنلس التي فتحها طارق بن زياد و بلغني أيها الملك السعيد أن مملكة يقال لها البطة وكانت مملكة للإفرنج وكان فيها قصر مقفل دائماً وكلما مات ملك وتولى بعده ملك آخر من الروم رمي عليه قفلاً محكماً فاجتمع على الباب أربعة وعشرون قفلاً من كل ملك قفل ثم تولى بعدهم رجل ليس من اهل بيت المملكة فأراد فتح تلك الأقفال ليرى ما في ذلك القصر فمنعه من ذلك أكابر الدولة وأنكروا عليه وزجروه فأبى وقال: لا بد من فتح ذلك القصر فبذلوا له جميع ما بأيديهم من نفائس الأموال والذخائر على عدم فتحه فلم يرجع. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة عشر بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أهل المملكة بذلوا لذلك الملك جميع ما في أيديهم من الأموال والذخائر على عدم فتح ذلك القصر فلم يرجع عن فتحه، ثم أن أزال الأقفال وفتح الباب فوجد فيه صورة العرب على خيلهم وجمالهم وعليهم العمائم المسبلة وهم متقلدون بالسيوف وبأيديهم الرماح الطوال ووجد كتاباً فيه فأخذه وقرأه فوجد مكتوباً فيه: إذا فتح هذا الباب يغلب على هذه الناحية قوم من العرب وهم على هيئة هذه الصور فالحذر ثم الحذر من فتحه، وكانت تلك المدينة بالأندلس.
ففتحها طارق بن زياد في تلك السنة في خلافة الوليد بن عبد الملك من بني أمية وقتل ذلك الملك أقبح قتلة ونهب بلاده وسبى بها من النساء والغلمان وغنم أموالها ووجد فيها ذخائر عظيمة فيها ما ينوب عن مائة وسبعين تاجاً من الدر والياقوت ووجد فيها أحجاراً نفيسة وإيواناً ترمح فيه الخيالة برماحهم ووجد بها من أواني الذهب والفضة ولا يحيط به وصف ووجد بها على المائدة التي كانت لنبي الله سليمان بن داود عليه السلام، وكانت على ما ذكر من زمر أخضر. وهذه المائدة إلى الآن باقية في مدينة روما وأوانيها من الذهب وصحافها من الزبرجد ونفيس الجواهر ووجد فيها الزبور مكتوباً بخط يوناني في ورق من الذهب مفصص بالجواهر ووجد فيها كتاباً يذكر فيه منافع الأحجار الكريمة والبيوت والمدائن والقرى والطلاسم وعلم الكيمياء من الذهب والفضة ووجد كتاباً آخر يحكي فيه صناعة اليواقيت والأحجار وتركيب السموم والترياقات وصورة شكل الأرض والبحار والبلدان والمعادن، ووجد فيها قاعة كبيرة ملآنة من الأكسير الذي الدرهم منه يقلب ألف درهم من الفضة ذهباً خالصاً ووجد بها مرآة كبيرة مستديرة عجيبة مصنوعة من أخلاط صنعت لنبي الله سليمان بن داود عليه السلام إذا نظر الناظر فيها رأى الأقاليم السبعة عياناً ووجد فيها ليواناً فيه من الياقوت البهرماني ما لا يحيط به وصف، فحمل ذلك كله إلى الوليد بن عبد الملك وتفرق العرب في مدنها وهي من أعظم البلاد.
حكاية هشام بن عبد الملك مع غلام من الأعراب
و مما يحكى أيضاً أن هشام بن عبد الملك بن مروان كان ذاهباً إلى الصيد في بعض الأيام فنظر إلى ظبي فتبعه ابلكلاب فبينما هو خلف الظبي إذ نظر إلى صبي من الأعراب يرعى غنماً فقال هشام له: يا غلام دونك هذا الظبي فاتني به فرفع رأسه إليه وقال: يا جاهلاً بقدر الأخبار لقد نظرت إلي بالإستصغار وكلمتني بالإحتقار فكلامك كلام جبار وفعلك فعل حمار، فقال هشام: ويلك أما تعرفني? فقال: قد عرفني بك سوء أدبك إذ بداتني بكلامك دون سلامك فقال له: ويلك يا هشام بن عبد الملك فقال له الإعرابي: لا قرب الله ديارك ولا حيا مزارك فما أكثر كلام وأقل إكرامك.
فما استتم كلامه حتى أحدقت به الجند من كل جانب وكل واحد منهم يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال هشام: اقصروا عن هذا الكلام واحفظوا هذا الغلام فقبضوا عليه ورجع هشام إلى قصره وجلس في مجلسه وقال: علي بالغلام البدوي لإاتي به، فلما رأى الغلام كثرة الحجاب والوزراء وأرباب الدولة لم يكترث بهم ولم يسأل عنهم بل جعل ذقنه على صدره ونظر حيث يقع قدمه إلى أنوصل إلى هشام فوقف بين يديه ونكس رأسه إلى الأرض وسكت عن السلام وامتنع عن الكلام، فقال له بعض الخدام: يا كلب العرب ما منعك أن تسلم على أمير? فالتفت إلى الخادم مغضباً وقال: يا بردعة الحمار منعني من ذلك طول الطريق وصعود الدرجة والتعويق فقال هشام وقد تزايد به الغضب: يا صبي لقد حضرت في يوم حضر فيه أجلك وغاب عنك أملك وانصرم عمرك فقال: والله يا هشام لئن كان في المدة تاخير ولم يكن في الأجل تقصير فقال له الحاجب: هل بلغ من مقامك يا أخس العرب أن تخاطب أن تخاطب أمير المؤمنين كلمة بكلمة فقال مسرعاً: لقيت الخبل ولا فارقك الويل والهبل أما سمعت ما قال الله تعالى: يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. فعند ذلك اغتاظ هشام غيضاً شديداً وقال: يا سياف علي برأس هذا الغلام فإنه أكثر بالكلام ولم يخش الملام ففأخذ الغلام ونزل به إلى أن نطع الدم وسل سيفه على رأسه وقال: يا أمير المؤمنين هذا عبدك المذل بنفسه السائر إلى رمسه هل أضرب عنقه وانا بريء من دمه? قال ك نعم، فاستأذن ثانياً ففهم الفتى أنه إن أذن له هذه المرة يقتله فضحك حتى بدت نواجذه فازداد هشاماً غضباً وقال: يا صبي أظنك معتوهاً أما ترى أنك مفارق الدنيا فكيف تضحك هزءاً بنفسك? فقال ك يا أمير المؤمنين لئن كان في العمر تأخير لا يضرني قليل ولا كثير ولكن حضرتني أبياتاً فاسمعها فإن قتلي لا يفوتك فقال هشام: هات وأوجز فأنشد هذه الأبيات:
نبئت أنالباز صادف مـرة                   عصفور بر ساقه المقدور
فتكلم العصفور في أظفاره                 والباز منهمك عليه يطير
مثلي ما يغني لمثلك شبعة                  ولئن أكلت فإنني حقـير
فتبسم الباز المذل بنفـسـه                  عجباً وأفلت ذلك العصفور

فتبسم هشام وقال: وحق قرابتيمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تلفظ بهذا اللفظ من أول كلامه وطلب مادون الخلافة لأعطيتها إياه، يا خادم احش فاه جوهراً وأحسن جائزته فأعطاه الخادم حلة عظيمة، فأخذها وانصرف إلى حال سبيله. انتهى.
حكاية اسحق الموصلي وتزوج المأمون بخديجة بنت الحسن بن سهل و مما يحكى أن اسحق الموصلي قال: خرجت ليلة من عند المأمون متوجهاً إلى بيتي فضايقني حصر البول فعمدت إلى زقاق وقمت أبول خوفاً أن يضر بي شيء إذا جلست في جانب الحيطان فرأيت شيئاً معلقاً من تلك الدور فلمسته لأعرف ما هو فوجدته زنبيلاً كبيراً باربعة آذان ملبساً ديباجاً، فقلت في نفسي: لا بد هذا من سبب وصرت متحيراً في أمري فحملني السكر على أن أجلس فيه فجلست فيه وإذا بأصحاب الدار جذبوه بي وظنوا انني الذي كانوا يترقبونه. ثم رفعوا الزنبيل إلى رأس الحائط وإذا بأربع جوار يقلن لي إنزل على الرحب والسعة ومشت بين يدي جارية بشمعة حتى نزلت إلى دار فيها مجالس مفروشة لم أر مثلها إلا في دار الخلافة فجلست فما شعرت بعد ساعة إلا بستور قد رفعت في ناحية الجدار وإذا بوصائف يتماشين وفي أيديهن الشموع ومجامر البخور من العود القاقلي وبينهن جارية كأنها البدر الطالع فنهضت وقالت: مرحباً بك من زائر، ثم أجلستني وسألتني عن خبري. فقلت لها: إني انصرفت من عند بعض إخواني وغرني الوقت وحصرني البول في الطريق فملت إلى هذا الزقاق فوجدت زنبيلاً ملقى فأجلسني النبيذ في الزنبيل ورفع بي الزنبيل إلى هذا الدار، هذا ما كان من أمري. فقالت: لا ضير عليك وأرجو أن تحمد عاقبة أمرك ثم قالت لي: فما صناعتك? فقلت: أنا تاجر في سوق بغداد فقالت: هل تروي من الأشعار شيئاً? قلت: شيئاً ضعيفاً قالت: فذاكرنا فيه وأنشدنا شيئاً منه فقلت: إن للداخل دهشة ولكن تبدأين أنت. قالت: صدقت ثم انشدت شعراً رقيقاً من كلام القدماء والمحدثين وهو من أجود أقاويلهم وأنا أسمع ولا أدري أأعجب من حسنها وجماله أم من حسن روايتها ثم قالت: هل ذهب ما كان عندك من الدهشة? قلت: أي والله قالت: إن شئت فأنشدنا شيئاً من روايتك فأنشدتها شعر الجماعة من القدماء ما فيه الكفاية فاستحسنت ذلك، ثم قالت: والله ما ظننت أن يوجد في أبناء السوقة مثيل هذا ثم أمرت بالطعام فقالت لها أختها دنيازاد: ما أحلى حديثك وأحسنه وأطيبه وأعذبه فقالت: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة إن عشت وأبقاني الملك.
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اسحق الموصلي قال: ثم إن الجارية أمرت بإحضار الطعام فحضر فجعلت تأخذ وتضع قدامي وكان في المجلس م أصناف الرياحين وغريب الفواكه ما لا يكون إلا عند الملوك، ثم دعت بالشراب فشربت قدحاً ثم ناولتني قدحاً وقالت هذا المذاكرة والأخبار فاندفعت أذاكرها وقلت: بلغني أنه كذا وكذا وكان رجل يقول كذا، حتى حكيت لها عدة أخبار حسان فسرت بذلك وقالت: إني لأعجب كيف يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذه الأخبار وغنما هي أحاديث ملوك. فقلت: كان لي جار يحادث الملوك وينادمهم، وإذا تعطل حضرت بيته فربما حدث بما سمعت فقالت: لعمري لقد أحسنت الحفظ، ثم أخذنا في المذاكرة وكلما سكت ابتدأت هي حتى قطعنا أكثر الليل وبخور العود يعبق وأنا في حالة لو توهمها المأمون لطار شوقاً إليها فقالت لي: إنك من ألطف الرجال وأظرفهم لأنك ذو أدب بارع وما بقي إلا شيء واحد فقلت لها: وما هو? قالت: لو كنت تترنم بالأشعار على العود فقلت لها: إني كنت تعلقت بهذا قديماً ولكن لما لم أرزق حظاً فيه أعرضت عنه وفي قلبي منه حرارة وكنت أحب في هذا المجلس أن أحسن شيئاً منه لتكتمل ليلتي قالت:كأنك عرضت بإحضار العود فقلت: الرأي لك وأنت صاحبة الفضل ولك المنة في ذلك. فأمرت بعود فحضرت وغنت بصوت ما سمعت بمثل حسنه مع حسن الأدب وجودة الضرب والكمال الراجح ثم قالت: هل تعرف هذا الصوت لمن? وهل تعرف الشعر لمن? قلت: لا. قالت الشعر لفلان والمغنى لإسحق. قلت: وهل اسحق جعلت فداءك بهذه الصفة? قالت: بخ بخ اسحق بارع هذا الشأن فقلت: سبحان الله الذي أعطى هذا الرجل ما لم يعطه أحد سواه، قالت: فكيف لو سمعت هذا الصوت منه? ثم لم تزل على ذلك حتى إذا كان انشقاق الفجر أقبلت عليها عجوز كأنها داية لها وقالت: إن الوقت قد حضر فنهضت عند قولها وقالت: فتستر ما كان منا فإن المجالس بالأمانات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: فتستر ما كان منا فإن المجالس بالأمانات فقلت لها: جعلت فداءك فلست محتاجاً إلى وصية في ذلك ثم ودعتها وأرسلت جارية تمشي بين يدي إلى باب الدار ففتحت لي وخرجت متوجهاً إلى داري فصليت الصبح ونمت فأتاني رسول المأمون فسرت إليه وأقمت نهاري عنده فلما كان وقت العشاء تفكرت ما كنت فيه البارحة وهو شيء لا يصبر عنه الجهلاء فخرجت إلى الزنبيل وجلست فيه ورفعت إلى موضعي الذي كنت فيه البارحة.
فقالت لي الجارية: لقد عاودت فقلت: لا أظن إلا أنني قد غفلت، ثم أخذنا في المحادثة على عادتنا في الليلة السالفة من المذاكرة والمناشدة وغريب الحكايات منها ومني إلى الفجر، ثم انصرفت إلى منزلي وصليت الصبح ونمت فأتى رسول المأمون فمضيت إليه وأقمت نهاري عنده، فلما كان وقت العشاء قال لي أمير المؤمنين: أقسمت عليك أن تجلس حتى أذهب إلى غرض وأحضر، فلما ذهب الخليفة وغاب عني جالت وساوسي وتذكرت ما كنت فيه فهان علي ما يحصل لي من أمير المؤمنين فوثبت مدبراً وخرجت جارياً حتى وصلت إلى الزنبيل فجلست فيه ورفع بي إلى مجلسي فقالت: لعلك صديقنا? قلت: أي والله قالت: أجعلتنا دار إقامة? قلت: جعلت فداءك حتى الضيافة ثلاثة أيام فإن رجعت بعد ذلك فأنتم في حل من دمي ثم جلسنا على تلك الحالة فلما قرب الوقت علمت أن المأمون لا بد أن يسألني فلا يقنع إلا بشرح القصة فقلت لها: أراك ممن يعجب بالغناء ولي ابن عم أحسن مني وجهاً وأشرف قدراً وأكثر أدباً وأعرق خلق الله تعالى باسحق. قالت: أطفيلي وتقترح قلت لها: أنت المحكمة في الأمر فقالت: إن كان ابن عمك على ما تصف فما نكرر معرفته، ثم جاء الوقت فنهضت وقمت متوجهاً إلى داري فلم أصل إلى داري إلا ورسل المأمون هجموا علي وحملوني حملاً عنيفاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن اسحق الموصلي قال: فلم أصل إلى داري إلا ورسل المأمون هجموا علي وحملوني حملاً عنيفاً وذهبوا بي إليه فوجدته قاعداً على كرسي وهو مغتاظ مني فقال: يا اسحق اخرجوا عن الطاعة فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين فقال: فما قصتك أصدقني الخبر فقلت: نعم ولكن في خلوة فأومأ إلى من بين يديه فتنحوا فحدثته الحديث وقلت له: إني وعدتها بحضورك قال: أحسنت، ثم أخذنا في لذتنا ذلك اليوم والمأمون متعلق القلب بها فما صدقنا بمجيء الوقت وسرنا وأنا أوصيه وأقول له: تجنب أن تنادين باسمي قدامها بل أنا لك تبع في حضرتها واتفقنا على ذلك. ثم سرنا إلى أن أتينا مكان الزنبيل فوجدنا زنبيلين فقعنا فيهما ورفعنا إلى الموضع المعهود فأقبلت وسلمت علينا. فلما رآها المأمون تحير من حسنها وجمالها وأخذت تذاكره الأخبار وتناشده الأشعار، ثم أحضرت النبيذ فشربنا وهي مقبلة عليه مسرورة به وهو أيضاً مقبل لإليها مسرور بها، ثم أخذت العود وغنت طريقة وبعد ذلك قالت لي: وهل ابن عمك من التجار وأشارت إلى المأمون? قلت: نعم. قالت لي: إنكما لقريبا الشبه من بعضكما. قلت: نعم، فلما فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال داخله الفرح والطرب فصاح وقال: يا اسحق قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: عن بهذه الطريقة، فلما علمت أنه الخليفة مضت إلى مكان ودخلت فيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية دخلت في المكان، ولما فرغ اسحق من الغناء قال له المأمون: انظر من رب هذه الدار فبادرت عجوز بالجواب وقالت: هي للحسن بن سهيل فقال: علي به فغابت العجوز ساعة وإذا بالحسن قد حضر فقال له المأمون: ألك بنت? قال: نعم. قال: ما اسمها? قال اسمها خديجة. قال: هل هي متزوجة? قال: لا والله. قال: فإني أخطبها منك. قال: هي جاريتك وأمرها إليك يا أمير المؤمنين، قال الخليفة: قد تزوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار تحمل إليك صبيحة يومنا هذا فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتها. قال: سمعاً وطاعة، ثم خرجنا فقال: يا اسحق لا تقص هذا الحديث على أحد فسترته إلى أن مات المأمون فما اجتمع لأحد مثل ما اجتمع لي في هذه الأربعة أيام مجالسة المأمون بالنهار ومجالسة خديجة بالليل، والله ما رأيت أحداً من الرجال مثل المأمون ولا شاهدت امرأة من النساء مثل خديجة بل ولا تقارب خديجة فهماً ولا عقلاً ولا لفظاً. والله أعلم.
حكاية الحشاش مع حريم بعض الأكابر و مما يحكى أنه كان وأن الحج والناس في الطواف، فبينما المطاف مزدحم بالناس إذا بإنسان متعلق بأستار الكعبة وهو يقول من صميم قلبه: أسألك يا الله أنها تغضب على زوجها وأجامعها. قال: فسمعه جماعة من الحجاج فقبضوا عليه وأتوا به إلى أمير الحجاج بعد أن أشبعوه ضرباً وقالوا له: أيها الأمير إنا وجدنا هذا في الأماكن الشريفة يقول: كذا وكذا فأمر أمير الحجاج بشنقه فقال له: أيها الأمير بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمع قصتي وحديثي وبعد ذلك افعل بي ما تريد. قال: حدث، قال اعلم أيها الأمير أنني رجل حشاش أعمل في مسالخ الغنم فأحمل الدم والوسخ إلى الكيمان فاتفق أنني رائح بحماري يوماً من الأيام وهو محمل فوجدت الناس هاربين فقال واحد منهم: أدخل هذا الزقاق لئلا يقتلوك فقلت: ما للناس هاربين? فقال لي واحد خدام: هذا حريم لبعض الأكابر وصار الخدم ينحون الناس من الطريق قدامه ويضربون جميع الناس ولا يبالون بأحد فدخلت بالحمار في عطفة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرجل قال: فدخلت بالحمار عطفة ووقفت أنتظر انفضاض الزحمة فرأيت الخدم وبأيديهم العصي ومعه نجو ثلاثين امرأة بينهن واحدة كأنها قضيب بان كاملة الحسن والظرف والدلال والجميع في خدمتها فلما وصلت إلى باب العطفة التي أنا واقف فيها التفتت يميناً وشمالاً ثم دعت بطواشي فحضر بين يديها فساورته في أذنه وإذا بالطواشي جاء إلي وقبض علي فتهاربت الناس وإذا بطواشي آخر أخذ حماري ومضى به ثم جاء الطواشي وربطني بحبل وجرني خلفه وأنا لم أعرف ما الخبر والناس من خلفنا يصيحون ويقولون: ما يحل من الله هذا رجل حشاش فقير الحال ما سبب ربطه بالحبال ويقولون للطواشية: ارحموه يرحمكم الله تعالى وأطلقوه فقلت أنا في نفسي: ما أخذني الطواشية إلا لأن سيدتهم شمت رائحة الوسخ فاشمأزت من ذلك أو تكون حبلى أو حصل لها ضرر فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وما زلت ماشياً خلفهم إلى أن وصلوا إلى باب دار كبير فدخلوا وأنا خلفهم واستمروا داخلين بي حتى وصلت إلى قاعة كبيرة ما أعرف كيف أصف محاسنها وهي مفروشة بفرش عظيم ثم دخلت النساء تلك القاعة وأنا مربوط مع الطواشي فقلت في نفسي: لا بد أن يعاقبونني في هذا البيت حتى أموت ولا يعلم بموتي أحد ثم بعد ذلك أدخلوني حماماً لطيفاً من داخل القاعة فبينما أنا في الحمام إذا بثلاث جوار دخلن وقعدن حولي وقلن لي: اقلع شراميطك فقلعت ما علي من الخلقان وصارت واحدة منهن تحك رجلي وواحدة منهن تغسل رأسي وواحدة تكبسني فلما فرغن من ذلك حطوا لي بقجة قماش وقالوا لي: البس هذه فقلت: والله ما أعرف كيف ألبس فتقدمن إلي وألبسنني وهن يتضاحكن علي ثم جئن بقماقم مملوءة بماء الورد ورششن علي وخرجت معهن إلى قاعة أخرى والله ما أعرف كيف أصف محاسنها من كثرة ما فيها من النقش والفرش فلما دخلت تلك القاعة وجدت واحدة قاعدة على تخت من الخيزران. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرجل قال: فلما دخلت القاعة وجدت واحدة قاعدة على تخت من الخيزران قوائمه من عاج وبين يديها جملة جوار فلما رأتني قامت إلي ونادتني فجئت عندها فأمرتني بالجلوس فجلست إلى جانبها وأمرت الجواري أن يقدمن الطعام الفاخر من سائر الألوان ما أعرف اسمه ولا أعرف صفته في عمري فأكلت منه قدر كفايتي وبعد رفع الزبادي وغسل الأيادي أمرت بإحضار الفواكه فحضرت بين يديها بالحال فأمرتني بالأكل فأكلت فلما فرغنا من الأكل أمرت بعض الجواري بإحضار سلاحيات الشراب فأحضرن مختلف الألوان ثم أطلقن المباخر من جميع البخور وقامت جارية مثل القمر تسقينا على نغمات الأوتار فسكرت أنا وتلك السيدة الجالسة كل ذك جرى وأنا أعتقد أنه حلم في المنام. ثم بعد ذلك أشارت إلى بعض الجواري أن يفرشن لنا في مكان ففرشن في المكان الذي أمرت به ثم قامت وأخذت بيدي إلى ذلك المكان المفروش ونمت معها إلى الصباح وكنت كلما ضممتها إلى صدري أشم منها رائحة المسك والطيب وما أعتقد إلا أني في الجنة أو أني أحلم في المنام فلما أصبحت سألتني عن مكاني فقلت: في المحل الفلاني فأمرت بخروجي وأعطتني منديلاً مطرزاً بالذهب والفضة وعليه شيئ مربوط فقالت لي: أدخل الحمام بهذا ففرحت وقلت في نفسي: إن كان ما عليه خمسة فلوس فهي غدائي في هذا اليوم ثم خرجت من عندها كأني خارج من الجنة وجئت إلى المخزن الذي أنا فيه ففتحت المنديل فوجدت فيه خمسين مثقالاً من الذهب فدفنتها وقعدت عند الباب بعد أن اشتريت بفلسين خبزاً وإداماً وتغديت ثم صرت متفكراً في أمري فبينما أنا كذلك إلى وقت العصر إذا بجارية قد أتت وقالت لي: إن سيدتي تطلبك فخرجت معها إلى باب الدار فاستأذنت لي فدخلت وقبلت الأرض بين يديها فأمرتني بالجلوس وأمرت بإحضار الطعام والشراب على العادة ثم نمت معها على جري العادة التي تقدمت أول ليلة فلما أصبحت ناولتني منديلاً ثانياً فيه خمسون مثقالاً من الذهب فأخذتها وخرجت وجئت إلى المخزن ودفنتها ومكثت على هذه الحالة مدة ثمانية أيام أدخل عندها في كل يوم وقت العصر وأخرج من عندها في أول النهار. فبينما أنا نائم عندها ليلة ثامن يوم إذا بجارية دخلت وهي تجري وقالت لي: قم اطلع إلى هذه الطبقة فطلعت في تلك الطبقة فوجدتها تشرف على وجه الطريق فبينما أنا جالس إذا بضجة عظيمة ودربكة خيل في الزقاق وكان في الطبقة طاقة تشرف على الباب فنظرت منها فرأيت شاباً راكباً كأنه القمر الطالع ليلة تمامه وبين يديه مماليك وجند يمشون في خدمته فتقدم إلى الباب وترجل ودخل القاعة فرآها قاعدة على السرير فقبل الأرض بين يديها ثم تقدم وقبل يدها فلم تكلمه فما برح يتخضع لها حتى صالحها ونام عندها تلك الليلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبيى لما صالحها زوجها نام عندها تلك الليلة فلما أصبح الصباح أتته الجنود وركب وخرج من الباب فطلعت عندي وقالت لي: أرأيت هذا? قلت: نعم قالت: هو زوجي وأحكي لك ما جرى لي معه. اتفق أنني كنت وإياه يوماً قاعدين في الجنينة داخل البيت وإذا هو قد قام من جنبي وغاب عني ساعة طويلة فاستبطأته فقلت في نفسي: لعله يكون في بيت الخلاء فنهضت إلى بيت الخلاء فلم أجده فدخلت المطبخ فرأيت جارية فسألتها عنه فأرتني إياه وهو راقد مع جارية من جواري المطبخ فعند ذلك حلفت يميناً عظيماً أنني لا بد أن أزني مع أوسخ الناس وأقذرهم ويوم قبض عليك الطواشي كان لي أربعة أيام وأنا أدور في البلد على واحد يكون بهذه الصفة فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان ما كان من قضاء الله علينا وقد خلصت من اليمين التي حلفتها ثم قالت: فمتى وقع زوجي على الجارية ورقد معها مرة أخرى أعدتك إلى ما كنت عليه معي فلما سمعت منها هذا الكلام ورمت قلبي من لحاظها بالسهام جرت دموعي حتى قرحت المحاجر وأنشدت قول الشاعر:
مكنيني من بوس يسراك عشراً           واعرفي فضلها على يمنـاك
إن يسراك لهي أقرب عهـداً                وقت غسل الخرا بمستنجـاك

ثم إنها أمرت بخروجي من عندها وقد تحصل لي منها أربعمائة مثقال من الذهب فأنا أصرف منها وجئت إلى ههنا أدعو الله سبحانه وتعالى أن زوجها يعود إلى الجارية مرة لعلي أعود إلى ما كنت عليه. فلما سمع أمير الحج قصة الرجل أطلقه وقال للحاضرين: بالله عليكم أن تدعو له فإنه معذور.
حكاية هارون الرشيد مع محمد علي الجوهري
و مما يحكى أن الخليفة هارون الرشيد قلق ليلة من الليالي قلقاً شديداً فاستدعى بوزيره جعفر البرمكي وقال له: صدري ضيق ومرادي في هذه الليلة أن أتفرج في شوارع بغداد وأنظر في مصالح العباد بشرط أننا نتزيا بزي التجار حتى لا يعرفنا أحد من الناس، فقال له الوزير: سمعاً وطاعة. ثم قاموا في الوقت والساعة ونزعوا ما عليهم من ثياب الافتخار ولبسوا ثياب التجار وكانوا ثلاثة: الخليفة وجعفر ومسرور السياف وتمشوا من مكان إلى مكان حتى وصلوا إلى الدخلة فرأوا شيخاً قاعداً في زورق فتقدموا إليه وسلموا عليه وقالوا له: يا شيخ إنا نشتهي من فضلك وإحسانك أن تفرجنا في مركبك هذا وخذ هذا الدينار في أجرتك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنهم قالوا للشيخ: إنا نشتهي أن تفرجنا في مركبك وخذ هذا الدينار، قال لهم: من ذا الذي يقدر على الفرجة والخليفة هارون الرشيد ينزل في كل ليلة بحر الدجلة في زورق صغير ومعه مناد ينادي ويقول: يا معشر الناس كافة من كبير وصغير وخاً وعام وصبي وغلام كل من نزل في مركب وشق الدجلة ضربت عنقه أو شنقته على صاري مركبه وكأنكم به في هذه الساعة وزورقه مقبل، فقال الخليفة وجعفر: يا شيخ خذ هذين الدينارين وادخل بنا قبة من هذه القباب إلى أن يروح زورق الخليفة، فقال لهم الشيخ: هاتوا الذهب والتوكل على الله تعالى، فأخذ الذهب وعوم بهم قليلاً وإذا بالزورق قد أقبل من كبد الدجلة وفيه الشموع والمشاعل مضيئة، فقال لهم الشيخ: أما قلت لكم أن الخليفة يشق في كل ليلة، ثم إن الشيخ صار يقول: يا ستار لا تكشف الأستار ودخل بهم في قبة ووضع عليهم مئزر أسود وصاروا يتفرجون من تحت المئزر فرأوا في مقدم الزورق رجلاً بيده مشعل من الذهب الأحمر وهو يشعل فيه بالعود القاقلي وعلى ذلك الرجل قباء من الأطلس الأحمر وعلى كتفه مزركش أصفر وإلى رأسه شاش موصلي وعلى كتفه الآخر محلاة من الحرير الأخضر ملآنة بالعود القاقلي يوقد منها المشعل عوضاً عن الحطب ورأوا رجلاً آخر في الزورق لابساً مثا لبسه وبيده مشعل مثل المشعل الذي معه ورأوا في الزورق مائتي مملوك واقفين يميناً ويساراً ووجد كرسياً من الذهب الأحمر منصوباً وعليه شاب حسن جالس كالقمر وعليه خلعة سوداء بطراز من الذهب الأصفر وبين يديه انسان كانه الوزير جعفر وعلى رأسه خادم واقف كأنه مسرور وبيده سيف مشهور ورأوا عشرين نديماً.
فلما رأى الخليفة ذلك قال: يا جعفر. قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: لعل هذا واحد من أولادي إما المأمون وإما الأمين، ثم تأمل الشاب وهو جالس على الكرسي فرآه كامل الحسن والجمال والقد والإعتدال، فلما تأمله التفت إلى الوزير وقال: يا وزير قال: لبيك قال: والله إن هذا الجالس لم يترك شيئاً من سكل الخلافة والذي بين يديه كأنك أنت يا جعفر والخادم الذي وقف على رأسه كأنه مسرور وهؤلاء الندماء كأنهم ندمائي وقد حار عقلي في هذا الأمر. فقالت لها أختها دنيازاد: ما أحسن حديثك وأطيبه وأحلاه وأعذبه فقالت: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة إن عشت وأبقاني الملك? فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع حديثها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما رأى هذا الأمير تحير في عقله وقال: والله إني تعجبت من هذا الأمر يا جعفر، فقال له جعفر: وأنا والله يا أمير المؤمنين، ثم ذهب الزورق حتى غاب عن العين، فعند ذلك خرج الشيخ بزورقه وقال: الحمد لله على السلامة حيث لم يصادفنا أحد فقال الخليفة: يا شيخ وهل الخليفة في كل ليلة ينزل دجلة? قال: نعم يا سيدي وله على هذه الحالة سنة كاملة. فقال الخليفة: يا شيخ نشتهي من فضلك أن تقف لنا هنا الليلة القابلة ونحن نعطيك خمسة دنانير ذهباً فإننا قوم غرباء وقصدنا النزهة ونحن نازلون في الفندق فقال له الشيخ: حباً وكرامة، ثم إن الخليفة وجعفراً ومسروراً توجهوا من عند الشيخ إلى القصر وقلعوا ما كان عليهم من لبس التجار ولبسوا ثياب الملك وجلس كل واحد في مرتبته ودخل الأمراء والوزراء والحجاب والبواب وانعقد المجلس بالناس، فلما انقضى المجلس وتفرقت أجناس الناس وذهب كل واحد إلى حال سبيله قال الخليفة هارون رشيد: يا جعفر رنهض بنا للفرجة على الخليفة الثاني، فضحك جعفر ومسرور ولبسوا لبس التجار وخرجوا يشقون وهم في غاية الإنشراح وكان خروجهم من باب السر. فلما وصلوا إلى الدجلة وجدوا الشيخ صاحب الزورق قاعداً لهم في الإنتظار فنزلوا عنده في المركب فما استقر بهم الجلوس مع الشيخ ساعة حتى جاء زورق الخليفة الثاني وأقبل عليهم فالتفتوا إليه وأمعنوا فيه النظر فوجدوا فيه مائتي مملوك غير المماليك الأول والمشاعلية ينادون على عادتهم، فقال الخليفة: يا وزير هذا شيء لو سمعت به ما كنت أصدقه ولكنني رأيت ذلك عياناً، ثم إن الخليفة قال لصاحب الزورق الذي هم فيه: خذ يا شيخ هذه العشرة دنانير وسر بنا في محاذاتهم فإنهم في النور ونحن في الظلام فننظرهم ونتفرج عليهم وهم لا ينظروننا، فأخذ الشيخ العشرة دنانير ومشى بزورقه في محاذاتهم وساروا في ظلام زورقهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة هارون الرشيد قال للشيخ: خذ هذه العشرة دنانير ومر بنا في محاذاتهم فقال: سمعاً وطاعة، ثم أخذ الدنانير وسار بهم وما زالوا سائرين في ظلام الزورق إلى البساتين.فلما وصلوا إلى البستان رأوا زريبة، فرسي عليها الزورق وإذا بغلمان واقفين ومعهم بغلة مسرجة بلجمة فطلع الخليفة الثاني وركب البغلة وسار بين الندماء وصاحت المشاعلية واشتغلت الحاشية بشأن الخليفة الثاني هارون الرشيد هو وجعفر ومسرور إلى البر وشقوا بين المماليك وساروا قدامهم فلاحت من المشاعلية التفاتة فرأوا ثلاثة أشخاً لبسهم لباس تجار وهم غرباء الديار فأنكروا عليهم وغمزوا وأحضروهم بين يدي الخليفة الثاني، فلما نظرهم قال لهم: كيف وصلتم إلى هذا المكان وما الذي أتى بكم في هذا الوقت? قالوا: يا مولانا نحن قوم من التجار غرباء الديار وقدمنا في هذا اليوم وخرجنا نتمشى الليلة وإذا بكم قد أقبلتم فجاء هؤلاء وقبضوا علينا وأوقفونا بين يديك وهذا خبرنا. فقال الخليفة الثاني: لا بأس عليكم لأنكم قوم غرباء ولو كنتم من بغداد لضربت أعناقكم، ثم التفت إلى وزيره وقال: خذ هؤلاء صحبتك فإنهم ضيوفنا في هذه الليلة فقال: سمعاً وطاعة لك يا مولانا، ثم ساروا معه إلى أن وصلوا إلى قصر عال عظيم الشأن محكم البنيان ما حواه سلطان قام من التراب وتعلق بأكتاف السحاب وبابه من خشب الصاج مرصع بالذهب الوهاج يصل منه الداخل إلى إيوان بفسقية وشاذروان وبسط ومخدات من الديباج ونمارق وطاولات، وهناك ستر مسبول وفرش يذهل العقول ويعجز من يقول وعلى الباب مكتوب هذان البيتان:
قصر عليه تـحـية وسـلام                  خلعت عليه جمالـهـا الأيام
فيه العجائب والغرائب نوعت              فتحيرت في فنهـا الأقـلام

ثم دخل الخليفة الثاني والجماعة صحبته إلى أن جلس على كرسي مذهب مرصع بالجواهر وعلى الكرسي سجادة من الحرير الأصفر وقد جلست الندماء ووقف سياف النقمة بين يديه فمدوا السماط وأكلواو رفعت الأواني وغسلت الأيادي وأحضروا آلة المدام واصطفت القناني والكاسات ودار الدور إلى أن وصل إلى الخليفة هارون الرشيد فامتنع من الشراب فقال الخليفة الثاني لجعفر: ما بال صاحبك لا يشرب? فقال: يا مولاي إن له مدة ما شرب من هذا. فقال الخليفة الثاني: عندي مشروب غير هذا يصلح لصاحبك وهو شراب التفاح ثم امر به فأحضروه في الحال فتقدم الخليفة الثاني بين يدي هارون الرشيد وقال له: كلما وصل إليك الدور فاشرب من هذا الشراب وما زالوا في انشراح وتعاطي أقداح الراح إلى أن تمكن الشراب من رؤوسهم واستولى على عقوله. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة الثاني هو وجلساؤه ما زالوا يشربون حتى تمكن الشراب من رؤوسهم واستولى على عقولهم فقال الخليفة هارون الرشيد لوزيره جعفر: والله ما عندنا آنية مثل هذه الآنية فيا ليت شعري ما شأن هذا الشاب فبينما هما يتحدثان سراً إذ لاحت من الشاب التفاتة فوجد الوزير يتساور مع الخليفة فقال: إن المساورة عربدة فقال الوزير: ما ثم عربدة إلا رفيقي هذا يقول: إني سافرت إلى غالب البلاد ونادمت أكابر الملوك وعاشرت الأجناد فما رأيت أحسن من هذا النظام ولا أبهج من هذه الليلة غير أن أهل بغداد يقولون: الشراب بلا سماع ربما أورث الصداع. فلما سمع الخليفة الثاني ذلك تبسم وانشرح وكان بيده قضيب فضرب به على مدوره وإذا بباب فتح وخرج منه خادم يحمل كرسياً من العاج مصفحاً بالذهب الوهاج وخلفه جارية بارعة في الحسن والجمال والبهاء والكمال فنصب الخادم الكرسي وجلست عليه الجارية وهي كالشمس الضاحية في السماء الصافية وبيدها عود عمل صناع الهنود فوضعته في حجرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وغنت عليه بعد أن أطربت وقلبت أربعاً وعشرين طريقة حتى أذهلت العقول ثم عادت إلى طريقتها الأولى وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
لسان الهوى في مهجتي لك ناطق                  يخبر عني أنني لـك عـاشـق
ولي شاهد من حر قلب معـذب             وطرف قريح والدموع سوابـق
وما كنت أدري حبك ما الهـوى            ولكن قضاء الله في الخلق سابق

فلما سمع الخليفة الثاني هذا الشعر من الجارية صرخ صرخة عظيمة وشق البدلة التي كانت عليه من الذيل وأسبلت عليه الستارة وأتوه ببدلة غيرها أحسن منها فلبسها ثم جلس على عادته فلما وصل إليه القدح ضرب بالقضيب على المدورة وإذا بباب قد فتح وخرج منه خادم يحمل كرسياً من الذهب وخلفه الجارية الثاتية أحسن من الأولى فجلست على ذلك الكرسي وبيدها عود يكمد قلب الحسود فغنت عليه هذين البيتين:
كيف اصطباري ونار الشوق في كبدي             والدمع من مقلتي طوفـانـه أبـدي
والله ما طاب لـي عـيش أسـر بـه                   فكيف يفرح قلب حشـوه كـمـدي
فلما سمع الشاب هذا الشعر صرخ صرخة عظيمة وشق ما عليه من الثياب إلى الذيل وانسبلت عليه الستارة وأتوه ببدلة أخرى فلبسها واستوى جالساً إلى حالته الأولى وانبسط في الكلام فلما وصل القدح إليه ضرب على المدورة فخرج خادم وراءه جارية أحسن من التي قبلها ومعه كرسي فجلست الجارية على الكرسي وبيدها عود فغنت عليه هذه الأبيات:
أقصروا الهجر أو أقلوا جفاكم             ففؤادي وحقكم ما سـلاكـم
وارحموا مدنفاً كئيباً حـزينـاً               ذا غرام متيماً في هـواكـم
قد برته السقام من فرط وجد              فتمنى من الإله رضـاكـم
يا بدوراً محلها فـي فـؤادي                كيف أختار في الأنام سواكم

فلما سمع الشاب هذه الأبيات صرخ صرخة عظيمة وشق ما عليه من الثياب فأرخوا عليه الستارة وأتوه بثياب غيرها ثم عاد إلى حالته مع ندمائه ودارت الأقداح فلما وصل القدح إليه ضرب على المدورة فانفتح الباب وخرج منه غلام ومعه كرسي وخلفه جارية فنصب لها الكرسي وجلست عليه وأخذت العود وأصلحته وغنت عليه بهذه الأبيات:  
حتى متى يبقى التهاجر والقلى             ويعود لي ما قد مضلا لي أولا
من أمس كنا والديار تلـمـنـا                في أنسنا ونرى الحواسد عقلا
غدر الزمان بنا وفرق شملـنـا             من بعد ما ترك المنازل كالخلا
أتروم مني يا عذولـي سـلـوة              وأرى فؤادي لا يطيع العـدلا
فدع الملام وخلني بصبابـتـي              فالقلب من أنس الأحبة ما خلا
يا سادة نقضوا العهود وبـذلـوا           لا تحسبوا قلبي بعدكـم سـلا

فلما سمع الخليفة الثاني إنشاد الجارية صرخ صرخة عظيمة وشق ما عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة الثاني لما سمع شعر الجارية صرخ صرخة عظيمة وشق ما عليه من ثياب وخر مغشياً عليه فأرادوا أن يرخوا عليه الستارة بحيب العادة فتوقفت حبالها فلاحت من هارون الرشيد التفاتة إليه فنظر إلى بدنه آثار ضرب مقارع فقال هارون الرشيد بعد النظر والتأكيد: يا جعفر والله إنه شاب مليح إلا انه لص قبيح. فقال جعفر: من أين عرفت ذلك يا أمير المؤمنين? فقال: أما رأيت ما على جنبيه من أثر السياط، ثم أسبلوا عليه الستارة وأتوه ببدلة غير التي كانت عليه واستوى جالساً على حالته الأولى مع الندماء فلاحت منه التفاتة فوجد الخليفة وجعفر يتحدثان سراً فقال لهما: ما الخبر يا فتيان? فقال جعفر: يا مولانا خيراً، غير أنه لا خفاء عليك إن رفيقي هذا نت التجار وقد سافر جميع الأمصار والأقطار وصحب الملوك والخيار وهو يقول لي: إن الذي حصل من مولانا الخليفة في هذه الليلة إسراف عظيم ولم أر أحداً فعل مثل فعله في سائر الأقاليم، لأنه شق كذا وكذا بدلة كل بدلة بألف دينار وهذا إسراف زائد. فقال الخليفة الثاني: يا هذاإن المال مالي والقماش قماشي وهذا من بعض الإنعام على الخدامو الحواشي فإن كل بدلة شققتهالواحد من الندماء الحضار وقد رسمت لهم مع كل بدلة بخمسمائة دينار، فقال الوزير جعفر: نعك ما فعلت يا مولانا ثم أنشد هذين البيتين:
بنت المكارم وسط كفك منزلا              وجعلت كالك للأنام مباحـا
فإذا المكارم أغلقت أبوابهـا                كانت يداك لقفلها مفتـاحـا

فلما سمع الشاب هذا الشعر من الوزير جعفر رسم له بألف دينار وبدلة ثم دارت بينهم الأقداح وطاب لهم الراح، فقال الرشيد: يا جعفر اسأله عن الضرب الذي على جنبيه حتى ننظر ما يقول في جوابه. فقال: لا تعجل يا مولاي وترفق بنفسك فإن الصبر أجمل فقال: وحياة رأسي وتربة العباس إن لم تسأله لأخمدن منك الأنفاس فعند ذلك التفت الشاب إلى الوزير وقال له: مالك مع رفيقك تتساوران فأخبرني بشأنكما? فقال: خير. فقال: سألتك بالله أن تخبرني بخبركما ولا تكتما عني شيئاً من امركما. فقال: يا مولاي إنه أبصر على جنبيك ضرباً وأثر سياط ومقارع فتعجب من ذلك غاية العجب وقال: كيف يضرب الخليفة وقصده أن يعلم ما السبب? فلما سمع الشاب ذلك تبسم وقال: اعلموا أن حديثي غريب وأمري عجيب لو كتب بالإبر على أماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر ثم صعد الزفرات وانشد هذه الأبيات:
حديثي عجيب فاق كل العـجـائب           وحق الهوى ضاقت على مذاهبي
فإن شئتموا أن تسمعوا لي فأنصتوا                ويسكت هذا الجمع من كل جانب
واصغوا إلى قولي ففـيه إشـارة           وإن كلامي صادق غـير كـاذب
فإني قتـيل مـن غـرام ولـوعة             وقاتلتي فاقت جميع الكـواكـب
لها مقلة كحلاء مـثـل مـهـنـد              وترمي سهاماً من قسي الحواجب
وقد حس قلبي أن فيكم أمـامـنـا           خليفة هذا الوقت وابن الأطـايب
وثانيكم هو المنادي بـجـعـفـر              لديه وزير صاحب وابن الأصاحب
وثالثكم مسـرور سـياف نـقـمة            فإن كان هذا القول ليس بكـاذب
لقد نلت ما أرجو من المر كـلـه            وجاء سرورالقلب من كل جانـب

فلما سمعا منه هذا الكلام حلف له جعفر وروى في يمينه أنهم لم يكونوا المذكورين فضحك الشاب وقال: اعلموا يا سادتي أن لست أمير المؤمنين وغنما سميت نفسي بهذا لأبلغ ما أريد من أولاد المدينة وإنما اسمي محمد علي بن علي الجواهري وكان أبي من الأعيان فمات وخلف لي مالاً كثيراً م ذهب وفضة ولؤلؤ ومرجان وياقوت وزبرجد وجواهر وعقارات وحمامات وغيطان وبساتين ودكاكين وطوابين وعبيد وجواري وغلمان فاتفق في بعض الأيام إني كنت جالساً في دكاني وحولي الخدم والحشم وإذا بجارية قد أقبلت راكبة على بغلة وفي خدمتها ثلاث جوار كأنهن الأقمار. فلما قربت من نزلت على دكاني وجلست عندي وقالت لي: هل أنت محمد الجوهري? فقلت لها: نعم هو أنا مملوكك وعبدك. فقالت: هل عندك جوهر يصلح لي? فقلت لها: يا سيدتي الذي عندي أعرضه عليك وأحضره بين يديك فإن أعجبك منه شيء كان بسعد المملوك شيء فبسوء حظي وكان عندي مائة عقد من الجوهر فعرضت عليها الجميع فلم يعجبها شيء من ذلك وقالت: أريد أحسن ممارأيت وكان عندي عقد صغير اشتراهوالدي بمائة ألف دينار ولم يوجد مثله عند أحد من السلاطين الكبار، فقلت لها: يا سيدتي بقي عندي عقد من الفصوص والجواهر التي لا يملك مثلها أحد من الأكابر والأصاغر. فقالت لي: أرني إياه. فلما رأته قالت: هذا مطلوبي وهو الذي طول عمري أتمناه ثم قالت لي: كم ثمنه? فقلت لها: ثمنه على والدي مائة ألف دينار فقالت: ولك خمسة آلاف دينار فائدة فقلت: يا سيدتي العقد وصاحبه بين يديك ولا خلاف عندي فقالت: لا بد من الفائدة ولك المنة الزائدة.
ثم قامت من وقتها وركبت البغلة بسرعة وقالت لي: يا سيدي باسم الله تفضل صحبتنا لتأخذ الثمن فإن نهارك اليوم بنا مثل اللبن فقمت وأقفلت الدكان وسرت معها في أمان إلى أن وصلنا الدار فوجدتها داراً عليها آثار السعادة لائحة وبابها مزركش بالذهب والفضة واللازورد مكتوب عليه هذان البيتان:
ألا يا دار لا يدخلـك حـزن                   ولا يغدر بصاحبك الزمـان
فنعم الدار أنت لكل ضـيف                  إذا ما ضاق بالضيف المكان

فنزلت الجارية ودخلت الدار وأمرتني بالجلوس على مصطبة الباب إلى أن يأتي الصيرفي، فجلست على باب الدار ساعة وإذا بجارية خرجت إلي وقالت: يا سيدي أدخل الدهليز فإن جلوسك على الباب قبيح فقمت ودخلت الدهلي وجلست على الدكة، فبينما أنا جالس إذا بجارية خرجت إلي وقالت لي: يا سيدي إن سيدتي تقول لك ادخل واجلس على باب الديوان حتى تقبض مالك، فقمت ودخلت البيت وجلست لحظة وإذا بكرسي من الذهب وعليه ستارة من الحرير وإذا بتلك الستارة قد رفعت فبان من تحتها تلك الجارية التي اترت مني ذلك العقد وقد أسفرت عن وجه كأنه دارة القمر والعقد في عنقها فطاش عقلي واندهش لبي من تلك الجارية لفرط حسنها وجمالها. فلما رأتني قامت من فوق الكرسي وسعت نحوي وقالت لي: يا نور عيني هل كان من كان مليح مثلك ما يرثي لمحبوبته، فقلت: يا سيدتي الحسن كله فيك وهو من بعض معانيك، فقالت: يا جوهري، اعلم أني أحبك وما صدقت أني أجيء بك عندي، ثم إنها مالت علي فقبلتها وقبلتني وإلى جهتها جذبتني وعلى صدرها رمتني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجوهري قال ثم إنها مالت علي فقبلتها وقبلتني وإلى جهتها جذبتني وعلى صدرها رمتني وعلمت من حالي أنني أريد وصالها فقالت: يا سيدي أتريد أن تجتمع بي في الحرام والله لا كان من يفعل مثل هذه الآثام ويرضى بقبح الكلام فإني بكر عذراء ما دنا مني أحد ولست مجهولة في البلد، أتعلم من أنا? فقلت: لا والله يا سيدتي فقالت أنا السيدة دنيا بنت يحيى بن خالد البرمكي وأخي جعفر وزير الخليفة.
فلما سمعت ذلك منها أحجمت بخاطري عنها وقلت لها: يا سيدتي ملي ذنب في التهجم عليك أنت من أطمعتني في وصالك بالوصول إليك، فقالت: لا بأس عليك ولا بد من بلوغك المراد بما يرضي الله فإن أمري بيدي والقاضي ولي عقدي والقصد أن أكون لك أهلاً وتكون لي بعلاً ثم إنها دعت بالقاضي والشهود وبذلت المجهود، فلما حضروا قالت لهم: محمد عيلي بن علي الجوهري قد طلب زواجي ودفع لي هذا العقد في مهري وانا قبلت ورضيت فكتبوا كتابي عليها ودخلت بها وأحضرت آلات الراح ودارت الأقداح بأحسن نظام وأتم أحكام ولما شعشعت الخمرة في رؤوسنا، أمرت جارية عوادة أن تغني فأخذت العود وأطربت النغمات وأنشدت هذه الأبيات:
بدا فأراني الظبي والغصن والبدرا                  فتباً لقلب لا يبيت بـه مـعـزى
مليح أراد اللـه إطـفـاء فـتـنة              بعارضه فاستؤنفت فتـنة أخـرى
أغالط عـذابـي إذا ذكـروا لـه               حديثاً كأني لا أحـب لـه ذكـرا
وأصغي إذا فاهو بغـير حـديثـه            بسمعي ولكني أذوب به فـكـرا
نبي جمال كل ما فـيه مـعـجـز             الحسن ولكن وجهه الآية الكبـرا
أقام بلال الحال في صحـن خـده           تراقب من لألأ غرته الـفـجـرا
يريد سلوى الـعـاذلـون جـبـالة             وما كنت أرضى بعد إيماني الكفرا

فأطربت الجارية بما أبدته من نغمات الوتار ورقيق الأشعار، ولم تزل الجواري تغني جارية بعد جارية وينشدن الأشعار إلى أن غنت عشر جوار ثم إنها صرفت الجواري وقمنا إلى أحسن مكان قد فرش لنا فيه فرش من سائر الألوان ونزعت ما عليهامن الثياب وخلوت بها خلوة الأحباب فوجدتها درة لم تثقب مرة ومهرة لم تركب ففرحت بها، ولم أر في عمري ليلة أطيب من تلك الليلة، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن محمد بن علي الجوهري قال: لما دخلت بالسيدة دنيا بنت يحيى بن خالد البرمكي رأيتها درة لم تثقب ومهرة لم تركب فأنشدت هذين البيتين:
طوقته طوق الحمام بساعدي              وجعلت كفي للثام مبـاحـا
هذا هو الفوز العظيم ولم نزل             متعانقين فلا نريد بـراحـا

ثم أقمت عندها شهراً كاملاً وقد تركت الدكان والأهل والأوطان فقالت لي يوماً: يا نور العين يا سيدي محمد إني قد عزمت اليوم على المسير إلى الحمام فاستقر أنت على هذا السرير ولا تنتقل من مكانك إلى أن أرجع إليك وحلفتني على ذلك فقلت لها سمعاً وطاعة ثم إنها حلفتني أني لا أنتقل من موضعي وأخذتجواريها وذهبت إلى الحمام فو الله يا أخواني ما لحقت أن تصل إلى رأس الزقاق إلا والباب قد فتح ودخلت منه عجوز وقالت يا سيدي محمد إن السيدة زبيدة تدعوك فإنها سمعت بأدبك وظرفك وحسن غنائك ن فقلت لها: والله ما أقوم من مكاني حتى تأتي السيدة دنيا.
فقالت العجوز يا سيدي لا تجعل السيدة زبيدة تغضب عليك وتبقى عدوتك فقم كلمها وارجع إلى مكانك فقمت من وقتي وتوجهت إليها والعجوز أمامي إلى أن أوصلتني إلى السيدة زبيدة، فلما وصلت إليها قالت لي: يا نور العين هل أنت معشوق السيدة دنيا فقلت: أنا مملوكك وعبدك، فقالت: صدق الذي وصفك بالحسن والجمال والأدب والكمال فإنك فوق الوصف والمقال ولكن عن لي حتى أسمعك.فقلت: سمعاً وطاعة، فأتتني بعود فغنيت عليه بهذه الأبيات:
قلب المحب مع الأحباب مغلوب            وجسمه بيد الأسقام منـهـوب
ما في الرجال وقد زمت ركائبهم          إلا محب له في الركب محبوب
أستودع الله في أطنابكم قـمـراً             يهواه قلبي وعن عيني محجوب
يرضى ويغضب ما أحلى تدللـه            وكل ما يفعله المحبوب محبوب

فلما فرغت من الغناء قالت لي: أصح الله بدنك وطيب أنفاسك فلقد كملت في الحسن والأدب والغناء فقم وامض إلى مكانك قبل أن تجيء السيدة دنيا فلا تجدك فتغضب عليك فقبلت الأرض بين يديها وخرجت من عندها وجئت إلى السرير فوجدتها قد جاءت من الحمام وهي نائمة على السرير فقعدت عند رجليها وكبستها ففتحت عينيها فرأتني تحت رجلها، فرفستني ورمتني من فوق السرير وقالت لي: يا خائن خنت اليمين وحنثت فيه ووعدتني أنك لا تنتقل من مكانك وأخلفت الوعد وذهبت إلى السيدة زبيدة والله لولا خوفي من الفضيحة لهدمت قصرها على رأسها، فتقدم العبد وشرط من ذيله رقعة وعصب عيني وأراد أن يضرب عنقي وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن محمد الجواهري قال: فتقدم العبد وشرط من ذيله رقعة وعصب عيني وأراد أن يضرب عنقي فقامت إليها الجواري الكبار والصغار وقلن لها: يا سيدتنا ليس هذا أول من أخطأ وهو لا يعرف خلقك وما فعل ذنباً يوجب القتل. فقالت: والله لا بد أن أعمل فيه أثراً. ثم أمرت أن يضربوني فضربوني على أضلاعي وهذا الذي رأيتموه أثر ذلك الضرب وبعد ذلك أمرت بإخراجي فأخرجوني وأبعدوني عن القصر ورموني فحملت نفسي ومشيت قليلاً حتى وصلت إلى منزلي وأحضرت جراحاً وأريته الضرب فلاطفني وسعى في مداواتي.
فلما شفيت ودخلت الحمام وزالت عني الأوجاع والأسقام جئت إلى الدكان وأخذت جميع ما فيه وبعته وجمعت ثمنه واشتريت لي أربعمائة مملوك فما جمعهم أحد من الملوك وصار يركب معي منهم في كل يوم مائتان وعملت هذا الزورق وصرفت عليه خمسة آلاف دينار من الذهب وسميت نفسي بالخليفة ورتبت من معي من الخدم واحد في وظيفة واحد من أتباع الخليفة وهيأته بهيئته وناديت كل من يتفرج في الدجلة ضربت عنقه بلا مهلة ولي على هذه الحال سنة كاملة وأنا لم أسمع لها خبراً ولم أقف لها على أثر ثم إنه بكى وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
والله ما كنت طول الدهر ناسيها                    ولا دنوت إلى من ليس يدنيهـا
كأنها البدر في تكوين خلقتـهـا             سبحان خالقها سبحان بـاريهـا
قد صيرتني حزيناً ساهراً دنفـاً             والقلب قد حار مني في معانيها

فلما سمع هارون الرشيد كلامه وعرف وجده ولوعته وغرامه تدله ولهاً وتخير عجباً وقال: سبحان الله الذي جعل لكل شيء سبباً ثم إنهم استأذنوا الشاب في الإنصراف فأذن لهم وأضمر له الرشيد على الإنصاف وأن يتحفه غاية الإتحاف.
ثم انصرفوا من عنده سائرين وإلى محل الخلافة متوجهين فلما استقر بهم الجلوس وغيروا ما عليهم من الملبوس ولبسوا أثواب المواكب ووقف بين أيديهم مسرور سياف النقمة قال الخليفة لجعفر: يا وزير، علي بالشاب الذي كنا عنده في الليلة الماضية فقال: سمعاً وطاعة ثم توجه إليه وسلم عليه وقال له: أجب أمير المؤمنين الخليفة هارون الرشيد فسار معه إلى القصر، وهو من الترسيم عليه في حضر فلما دخل على الخليفة قبل الأرض بين يديه ودعا له بدوام العز والإقبال وبلوغ الآمال ودوام النعم وإزالة البؤس والنقم، وقد أحسن ما به تكلم حيث قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين وحامي حومة الدين ثم أنشد هذين البيتين:
لا زال باب كعبة مقصـودة                 وترابها فوق الجباه رسـوم
حتى يناديك في البلاد بأسرها              هذا المقام وأنت ابـراهـيم

فتبسم الخليفة في وجهه ورد عليه السلام والتفت إليه بعين الإكرام وقربه لديه وأجلسه بين يديه وقال له: يا محمد علي أريد منك أن تحدثني بما وقع لك في هذه الليلة فإنه من العجائب وبديع الغرائب فقال الشاب: العفو يا أمير المؤمنين أطني منديل الأمان ليسكن روعي ويطمئن قلبي فقال له الخليفة: عليك الأمان من الخوف والأحزان، فشرع الشاب يحدثه بالذي حص له من أوله إلى آخره فعلم أن الصبي عاشق وللمعشوق مفارق فقال له: أتحب أن أردها عليك? قال: هذا من فضل أمير المؤمنين، ثم أنشد هذين البيتين:
ألثم أنامله فلسـن أنـامـلاً                   لكنهن كفـاتـح الأرزاق
وأشكر صنائعه فسن صنائعاً               لكنهـن قـلائد أعـنـاق

فعند ذلك التفت الخليفة إلى الوزير وقال له: يا جعفر أحضر لي أختك دنيا بنت الوزير يحيى بن خالد، فقال: سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين، ثم أحضرها في الوقت والساعة فلما تمثلت بين يديه قال لها الخليفة: أتعرفين من هذا? قالت: يا أمير المؤمنين من أين للنساء معرفة الرجال? فتبسم الخليفة وقال لها: يا دنيا هذا حبيبك محمد بن علي الجوهري وقد عرفنا الحلا وسمعنا الحكاية من أولها إلى آخرها وفهمنا ظاهرها والأمر لا يخفى وعن كان مستوراً. فقالت: يا أمير المؤمنين كان ذلك في الكتاب مسطوراً وأنا أستغفر الله العظيم مما جرى مني وأسألك من فضلك العفو عني. فضحك الخليفة هارون الرشيد وأحضر القاضي والشهود وجدد عقدها على زوجها محمد بن علي الجوهري وحصل لها وله سعد السعود وإكماد الحسود وجعله من جملة ندمائه واستمروا في سرور ولذة وحبور إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات.

حكاية هارون الرشيد مع علي العجمي
وما يتبع ذلك من حديث الجراب الكردي

و مما يحكى أيضاً أن الخليفة هارون الرشيد قلق ليلة من الليالي فاستدعى بوزيره فلما حضر بين يديه قال له: يا جعفر إني قلقت الليلة قلقاً عظيماً وضاق صدري وأريد منك شيئاً يسر خاطري وينشرح به صدري. فقال له جعفر: يا أمير المؤمنينإن لي صديقاً اسمه علي العجمي وعنده من الحكايات والأخبار المطربة ما يسر النفوس ويزيل عن القلب البؤس فقال له: علي به فقال: سمعاً طاعة. ثم إن جعفر خرج من عند الخليفة في طلب العجمي فأرسل خلفه فلما حضر قال له: أجب أمير المؤمنين فقال: سمعاً وطاعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجمي قال: سمعاً وطاعة ثم توجه معه إلى الخليفة فلما تمثل بين يديه أذن له بالجلوس فجلس فقال له الخليفة: يا علي إنه ضاق صدري في هذه الليلة وقد سمعت عنك أنك تحفظ حكايات وأخبار وأريدمنك أن تسمعني ما يزيل همي ويصقل فكري. فقال: يا أمير المؤمنين هل أحدثك بالذي رأيته بعيني أو بالذي سمعته بأذني? فقال: إن كنت رأيت شيئاً فاحكه? فقال: سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين إني سافرت في بعض السنين من بلدي هذه وهي مدينة بغداد وصحبتي غلام ومعه جراب لطيف ودخلنا المدينة.
فبينما أنا أبيع وأشتري وإذا برجل كردي ظالم متعدي قد هجم علي وأخذ مني الجراب وقال: هذا جرابي وكل ما فيه متاعي فقلت: يا معشر المسلمين خلصوني من يد أفجر الظالمين، فقال الناس جميعاً: اذهبا إلى القاضي واقبلا حكمه بالتراضي? فتوجهنا إلى القاضي وأنا بحكمه راضي فلما دخلنا عليه وتمثلنا بين يديه قال القاضي: في أي شيء جئتما? وما قضية خبركما? فقلت: نحن خصمان إليك تداعينا بحكمك تراضينا فقال: أيكما المدعي? فتقدم الكردي وقال: أيد الله مولانا القاضي إن هذا الجراب جرابي وكل ما فيه متاعي وقد ضاع مني ووجدته مع هذا الرجل. فقال القاضي: ومتى ضاع منك? فقال الكردي: من أمس هذا اليوم وبت لفقده بلا نوم. فقال القاضي: إن كنت تعرفه فصف لي ما فيه? فقال الكردي: في جرابي هذا مردوان من لجين وفيه أكحال للعين ومنديل لليدين ووضعت فيه شرابتين وشمعدانين وهو مشتمل على بيتين وطبقتين وملعقتين ومخدة ونطعين وابريقين وصينية وطشتين وقسدرة وزلعتين ومغرفة وسلة ومردوين وهرة وكلبتين وقصعة وقعيدتين وجبة وفروتين وناقتين وجاموسة وثورين ولبة وسبعين ودبة وثعلبين ومرتبة وسريرين وقصراً وقاعتين ورواقاً ومقعدين ومطبخاً ببابين وجماعة أكراد يشهدون أن الجراب جرابي.
فقال القاضي: ما تقول أنت يا هذا? فقلت إليه: يا أمير المؤمنين وقد أبهتني الكردي بكلامه فقلت: أعز الله مولانا القاضي أنا في جرابي هذا دويرة خراب واخرى بلا باب ومقصورة للكلاب وفيه الصبيان كتاب وشباب يلعبون الكعاب وفيه خيام وأطناب ومدينة البصرة وبغداد وقصر شداد بن عاد وكور حداد وشبكة صياد وأوتاد وبنات وأولاد وألف قواد يشهدون أن الجراب جرابي.
فلما سمع الكردي هذا الكلام بكى وانتحب وقال: يا مولانا القاضي إن جرابي هذا معروف وكل ما فيه موصوف في جرابي هذا حصون وقلاع وكراكي وسباع ورجال يلعبون بالشطرنج والرقاع وفي جرابي هذا حجرة ومهران وفحل وحصانان ورمحان طويلان وهو مشتمل على سبع وارنبين ومدينة وقريتين وقحبة وقوادين شاطرين ومخنث وعلقين وأعمى وبصيرين واعرج وكسيحين وقسيس وشماسين وبطريق وراهبين وقاض وشاهدين وهم يشهدون أن الجراب جرابي فقال القاضي: ما تقول يا علي? فامتلأتغيظاً يا أمير المؤمنين وتقدمت إليه وقلت: أيد الله مولانا القاضي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجمي قال: فامتلأت غيظاً يا أمير المؤمنين وتقدمت إليه وقلت: أيد الله مولانا القاضي أنا في جرابي هذا زرد وصفاح وخزائن سلاح وألف كبش نطاح وفيه للغنم مراح وألف كلب نباح وبساتين وكروم وازهار ومشموم وتين وتفاح وصور وأشباح وقناني وأقداح وعرائس ومغاني وأفراح وهرج وصياح وأقطار فساح وأخوة نجاح ورفقة صباح ومعهم سيوف ورماح ملاح وقوس ونشاب وأصدقاء وأحباب وخلان وأصحاب ومحابس للعقاب وندماء للشراب وطنبور ونايات وأعلام ورايات وصبيان وبنات وعرائس مجليات وجوار مغنيات وخمس حبشيات وثلاث هنديات وأربع مدنيات وعشرون روميات وخمسون تركيات وسبعون عجميات وثمانون كرديات وتسعون جرجيات والدجلة والفرات وشبكة صياد وقداحة وزناد وإرم ذات العماد وألف علق وقواد وميادين واصطبلات ومساجد وحمامات وبناء وتجار وخشبة ومسمار وعبد أسود ومزمار ومقدم وركبدار ومدن وأمصار ومائة ألف دينار والكوفة مع الأنبار وعشرون صندوقاً ملآنة بالقماش وخمسون حاصلاً للمعاش وغزة وعسقلان من دمياط إلى أصوان وإيوان كسرى وأنوشروان وملك سليمان ومن وادي نعمان إلى أرض خراسان وبلخ وأصبهان ومن الهند إلى بلاد السودان وفيه أطال الله عمر مولانا القاضي غلائل وعراضي وألف موس ماض تحلق ذقن القاضي إن لم يخش عقابي ولم يحكم بأن الجراب جرابي.
فلما سمع القاضي هذا الكلام تحير عقله من ذلك وقال: ما أراكما إلا شخصين نحسين أو رجلين زنديقين تلعبان بالقضاة والحكام ولا تخشيان من الملام لأنه ما وصف الواصفون ولا سمع السامعون بأعجب مما وصفتما ولا تكلموا بمثل ما تكلمتما والله إن من الصين إلى شجرة أم غيلان ومن بلاد فارس إلى أرض السودان ومن وادي نعمان إلى أرض خراسان لا يسع ما ذكرتماه ولا يصدق ما ادعيتماه فهل هذا الجراب بحر ليس له قرار أو يوم العرض الذي يجمع الأبرار والفجار. ثم إن القاضي أمر بفتح الجراب ففتحه وإذا فيه خبز وليمون وجبن وزيتون ثم رميت الجراب قدام الكردي ومضيت فلما سمع الخليفة هذه الحكاية من علي العجمي استلقى على قفاه من الضحك وأحسن جائزته.
حكاية هارون الرشيد مع جعفر والجارية والإمام أبي يوسف
و مما يحكى أن جعفر البرمكي نادم الرشيد ليلة فقال الرشيد: يا جعفر بلغني أنك اشتريت الجارية الفلانية ولي مدة أطلبها فإنها على غاية الجمال وقلبي يحبها في اشتعال فبعها لي فقال: لا أبيعها يا أمير المؤمنين فقال: لا أهبها، فقال الرشيد: زبيدة طالق ثلاثاً إن لم تبعها لي أو تهبها لي. قال جعفر: زوجتي طالق ثلاثاً إن بعتها لك ثم أفاقا من نشوتهما وعلما أنهما وقعا في أمر عظيم وعجزا عن تدبير الحيلة.
فقال هارون الرشيد: هذه وقعة ليس لها غير أبي يوسف فطلبوه وكان ذلك نصف الليل فلما جاءه الرسول قام فزعاً وقال في نفسه: ما طلبت في هذا الوقت إلا لأمر حدث في الإسلام ثم خرج مسرعاً وركب بغلته وقال لغلامه: خذ معك مخلاة البغلة لعلها لم تستوف عليقها فإذا دخلنا دار الخلافة لتأكل ما بقي من عليقها إلى حين خروجي إذا لم تستوف عليقها في هذه الليلة. فقال الغلام: سمعاً وطاعة فلما دخل هارون الرشيد قام له وأجلسه على سريره بجانبه وكان لا يجلس معه أحداً غيره وقال له: ما طلبناك في هذا الوقت إلا لأمر مهم هو كذا وكذا وقد عجزنا في تدبير الحيلة فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر أسهل ما يكون ثم قال: ياجعفر بع لأمير المؤمنين نصفها وهب له نصفها وتبرآن يمينكما في بذلك، فسر أمير المؤمنين بذلك وفعلا ما أمرهما به ثم قال هارون الرشيد: أحضروا الجارية في هذا الوقت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة هارون الرشيد قال: أحضروا الجارية في هذا الوقت فإني شديد الشوق إليها فأحضروها وقال للقاضي أبي يوسف أريد وطأها في هذا الوقت فإني لا أطيق الصبر عنها إلى مضي مدة الإستبراء وما الحيلة في ذلك? فقال أبو يوسف: ائتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين الذي لم يجر عليه العتق فأحضروا المملوك فقال أبو يوسف: أتأذن لي أن ازوجها منه ثم يطلقها قبل الدخول فيحل وطؤها في هذا الوقت من غير استبراء? فأعجب هارون الرشيد ذلك أكثر من الأول. فلما حضر المملوك قال الخليفة للقاضي: أذنت لك في العقد فأوجب القاضي النكاح ثم قبله المملوك وبعد ذلك قال له القاضي: طلقها ولك مائة دينار فقال: لا أفعل ولم يزل يزيده وهو يمتنع إلى أن عرض عليه ألف دينار ثم قال للقاضي: هل الطلاق بيدي أم بيد أمير المؤمنين? قال: بيدك قال: والله لا أفعل أبداً فاشتد غضب أمير المؤمنين وقال ما الحيلة يا أبا يوسف? قال القاضي أبو يوسف: يا أمير المؤمنين لا تجزع فإن الأمر هين ملك هذا المملوك للجارية قال: ملكته لها. قال القاضي: قولي قبلت، فقالت: قبلت.
فقال القاضي حكمت بينهما بالتفريق لأنه دخل في ملكها فانفسخ النكاح فقام أمير المؤمنين على قدميه وقال: مثلك من يكون قاضياً في زماني واستدعى بأطباق الذهب فأفرغت بين يديه وقال للقاضي: هل معك شيء تضعه فيه? فتذكر مخلاة البغلة فاستدعي بها فملئت ذهباً فأخذها وانصرف إلى بيته فلما أصبح الصباح قال لأصحابه: لا طريق إلى الدين والدنيا أسهل وأقرب من طريق العلم فإني أعطيت هذا المال العظيم في مسألتين أو ثلاث، فانظر أيها المتأدب إلى لطف هذه الوقعة فإنها اشتملت على محاسن منها دلال الوزير على هارون الرشيد وعلم الخليفة وزيادة علم القاضي فرحم الله أرواحهم أجمعين.

حكاية خالد بن عبد الله القسري مع الشاب السارق

و مما يحكى أن خالد بن عبد الله القسري كان أمير البصرة فجاء إليه جماعة متعلقون بشاب ذي جمال باهر وأدب ظاهر وعقل وافر وهو حسن الصورة طيب الرائحة وعليه سكينة ووقار فقدموه إلى خالد فسألهم عن قصته فقالوا: هذا لص أصبناه البارحة في منزلنا فنظر إليه خالد فأعجبه حسن هيئته ونظافته فقال: حلوا عنه ثم دنا منه وسأله عن قصته فقال: القوم صادقون فيما قالوه والأمر على ما ذكروا فقال له خالد: ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة? قال: حملني على ذلك الطمع في الدنيا وقضاء الله سبحانه وتعالى. فقال له خالد: ثكلتك أمك، أما كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك، وحسن أدبك زاجر يزجرك عن السرقة? قال: دع عنك هذا أيها الأمير وامض إلى ما أمر الله تعالى به فذلك ما كسبت يداي وما الله بظلام العبيد فسكت خالد ساعة يفكر في أمر الفتى. ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك على رؤوس الأشهاد قد رابني وانا ما اظنك سارقاً ولعل لك قصة غير السرقة فأخبرني بها? قال: أيها الأمير لا يقطع نفسك شيء سوى ما اعترفت به عندك وليس لي قصة أشرحها إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت ما أمكنني فأدركوني وأخذوه مني وحملوني إليك فأمر خالد بحبسه وأمر مناد ينادي بالبصرة: إلى من أحب أن ينظر إلى عقوبة اللص وقطع يده فليحضر من الغداة إلى المحل الفلاني فلما استقر الفتى في الحبس ووضعوا في رجليه الحديد تنفس الصعداء، وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
هددني خالد بقـطـع يدي                    إذا لم أبح عنده بقصتهـا
فقلت هيهات أن أبوح بما                   تضمن القلب من محبتها
قطع يدي الذي اعترفت به                 أهون للقلب من فضيحتها

فسمع ذلك الموكلون به فأتوا خالداً وأخبروه بما حصل منه فلما جن الليل أمر بإحضاره عنده فلما حضر لمنطقته رآه عاقلاً أديباً فطناً لبيباً فأمر بطعام فأكل وتحدث معه ساعة كاملة ثم قال له خالد: قد علمت أن لك قصة غير السرقة فإذا كان الصباح وحضر الناس وحضر القاضي وسألك عن السرقة فأنكرها واذكر ما يدرأ عنك حد القطع فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادرؤوا الحدود بالشبهات ثم أمر به إلى السجن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


ألف ليلة وليلة الجزء الخامس