ألف ليلة وليلة الجزء التاسع


ألف ليلة وليلة

الجزء التاسع





وفي الليلة الثانية عشرة بعد الثمانمائة


قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أهل المدينة وجدوا جميع القضاة والشهود مرضى بحبها فإن كل من رآها مات بعشقها وأن لم يعش يكابد لوعة الغرام من شدة حبها رحمهم الله أجمعين. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر زين المواصف فإنها وجدت في السير مدة أيامٍ حتى قطعت مسافةً بعيدةٍ فاتفق أنها خرجت هي وجواريها فمرت على ديرٍ في الطريق وفيه راهب كبير اسمه دانس وكان عنده أربعون بطريقاً فلما رأى جمال زين المواصف نزل إليها وعزم عليها وقال لها استريحوا عندنا عشرة أيامٍ ثم سافروا فنزلت عنده هي وجواريها في ذلك الدير فلما نزلت ورأى حسنها وجمالها أفسدت عقيدته وأفتتن بها وصار يرسل إليها مع البطارقة واحد بعد واحد لأجل أن يؤلفها فصار كل من أرسله إليها يقع في حبها ويراودها عن نفسها له وهي تعتذر وتمتنع ولم يزل دانس يرسل إليها الأربعين بطريقا وكل واحدٍ حين يراها يتعلق بعشقها ويكثر من ملاطفتها ويراودها عن نفسها ولا يذكر لها اسم دانس فتمتنع من ذلك وتجاوبهم بأغلظ جواب فلما فرغ صبر دانس وأشتد غرامه، قال في نفسه: إن صاحب المثل يقول: ما حك جسمي غير ظفري ولا سعى في مرامي مثل أقدامي.
ثم نهض قائماً على قدميه وصنع طعاماً مفتخراً وحمله ووضعه بين يديها وكان ذلك اليوم التاسع من العشرة أيام التي أتفق معها على إقامتها عنده لأجل الاستراحة فلما وضعه بين يديها قال: تفضلي باسم الله خير الزاد ما حصل فمدت يديها وقالت: بسم الله الرحمن الرحيم وأكلت هي وجوارها فلما فرغت من الأكل قال لها: يا سيدتي أريد أن أنشدك أبياتاً من الشعر، فقالت له: قل، فأنشد هذه الأبيات:
ملكت قلبي بالـحـاظ ووجـنـات             وفي هواك غد نثـري وأبـياتـي
أتتركني محباً مـغـرمـاً دنـفـاً               أعالج العشق حتى في المنامـات
لا تتركيني صريعاً ولهـاً فـلـقـد            تركت أشغال ديري بعد لـذاتـي
يا غادة جوزت في الحب سفك دمي                رفقاً بحالي وعطفاً في شكاياتـي
فلما سمع زين المواصف شعره أجابته عن شعره بهذين البيتين:
يا طالب الوصل لا يغررك بي أمل                   أكفف سؤالك عني أيها الـرجـل
لا تطمع النفس فيما لست تملكـه                    أن المطامع مقرون بهـا الأجـل

فلما سمع شعرها رجع إلى صومعته وهو مفتكر في نفسه ولم يدر كيف يصنع في أمرها ثم بات تلك الليلة في أسوأ حال فلما جن الليل قامت زين المواصف وقالت لجواريها: قوموا بنا فأننا لا نقدر على أربعين رجلاً رهباناً وكل واحدٍ يراودني عن نفسي فقال لها الجواري: حباً وكرامة ثم أنهن ركبن دوابهن وخرجن من باب الدير ليلاً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة عشرة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما خرجت هي وجواريها من الدير ليلاً لم يزلن سائرات وإذا هن بقافلةٍ فاختلطن بها وإذا بالقافلة من مدينة عدن التي كانت فيها زين المواصف فسمعت أهل القافلة يتحدثون بخبر زين المواصف ويذكرون القضاة والشهود ماتوا في حبها وولى أهل المدينة قضاةً وشهوداً غيرهم وأطلقوا زوج زين المواصف من الحبس.
فلما سمعت زين المواصف هذا الكلام التفتت إلى جواريها وقالت لجاريتها هبوب: ألا تسمعين هذا الكلام? فقالت لها جاريتها: إذا كان الرهبان الذين عقيدتهم أن الترهب عن النساء عبادة قد افتتنوا في هواك فكيف حال القضاة الذين عقيدتهم أنه لا رهبانية في الإسلام ولكن أمض بنا إلى أوطاننا ما دام أمرنا مكتوماً ثم أنهن سرن وبالغن في السير وهن قاصدات مدينة عدن إلى أن وصلت زين المواصف إلى منزلها وفتحت الأبواب ودخلت الدار ثم أرسلت إلى أختها نسيم فلما سمعت أختها بذلك فرحت فرحاً شديداً وأحضرت لها الفراش ونفيس القماش ثم أنها فرشت لها وألبستها وأرخت الستور على الأبواب وأطلقت العود والبد والعنبر والمسك الأذفر حتى عبق المكان من تلك الرائحة وصار أعظم ما يكون ثم أن زين المواصف لبست أفخر قماشها وتزينت أحسن زينة كل ذلك جرى ومسرور لم يعلم بقدومها بل كان في همٍ شديد وحزنٍ ما عليه مزيد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة عشرة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما دخلت دارها أتت لها أختها بالفراش وفرشت لها وألبستها أفخر الثياب كل ذلك جرى ومسرور لم يعلم بقدومها بل كل في همٍ شديد وحزن ما عليه مزيد، ثم جلست زين المواصف تتحدث مع جواريها الذين تخلفن عن السفر معها وذكرت لهن جميع ما وقع لها من الأول إلى الأخر، ثم أنها التفتت إلى هبوب وأعطتها دراهم وأمرتها أن تذهب وتأتي لها بشيء تأكله هي وجواريها فذهبت وأتت بالذي طلبته من الأكل والشرب فلما انتهى أكلهن وشربهن أمرت هبوب أن تمضي إلى مسرور وتنظر أين هو وتشاهد ما هو فيه من الأحوال وكان مسرور لا يقر له قرار ولا يمكنه اصطبار فلما زاد عليه الوجد والغرام قام ومشى إلى زقاق زين المواصف فشم منه الروائح الزكية فهاج لبه وفاق صدره وقلبه وتضرر غرامه وزاد هيامه وإذا بهبوب متوجهةٌ إلى قضاء حاجة فرآها وهي مقبلة من صدر الزقاق، فلما رآها فرح فرحاً شديداً فلما رأته هبوب أتت إليه وسملت عليه وبشرته بقدوم سيدتها زين المواصف وقالت لها: أنها أرسلتني في طلبك إليها ففرح فرحاً شديداً ما عليه من مزيد ثم أخذته ورجعت به إليها فلما رأته زين المواصف نزلت له من فوق سريرها وقبلته وعانقته وعانقها ولم يزل يقبلان بعضهما ويتعانقان حتى غشي عليهما زمناً طويلاً من شدة المحبة والفراق.
فلما أفاقا من غشيتهما أمرت جاريتها هبوب بإحضار قلة مملوءة من شراب السكر وقلة مملوءة من شراب الليمون فأحضرت لها الجارية جميع ما طلبته، ثم أكلوا وشربوا وما زالوا كذلك إلى أن أقبل الليل فصاروا يذكرون الذي جرى لهم من أوله إلى أخره ثم أنها أخبرته بإسلامها ففرح وأسلم هو أيضاً وكذلك جواريها وتابوا إلى الله تعالى فلما أصبح الصباح أمرت بإحضار القاضي والشهود وأخبرتهم أنها عازبة وقد وفت العدة ومرادها الزواج بمسرور فكتبوا كتابها وصاروا في ألذ عيش، هذا ما كان من أمر زين المواصف.
وأما ما كان من أمر زوجها اليهودي، فإنه حين أطلقه أهل المدينة من السجن سافر منها متوجهاً إلى بلاده، ولم يزل مسافراً حتى صار بينه وبين المدينة التي فيها زين المواصف ثلاثة أيامٍ فأخبرت بذلك زين المواصف فدعت بجارتيها هبوب وقالت لها: امض إلى مقبرة اليهودي واحفري قبراً وضعي عليه الرياحين ورشي عليه الماء وأن جاء اليهودي وسألك عني فقولي له أن سيدتي ماتت من قهرها عليك ومضى لموتها مدة عشرين يوما فأن قال أريني قبرها فخذيه إلى القبر وتحيلي دفنه فيه بالحياة، فقالت سمعاً وطاعةً ثم أنهم رفعوا الفراش وأدخلوه في مخدع ومضت إلى بيت مسرور فقعدوا في أكل وشرب ولم يزالا كذلك حتى مضت الثلاثة أيامٍ، هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر زوجها فإنه لما أقبل من السفر دق الباب فقالت هبوب: من بالباب? فقال: سيدك ففتحت له الباب فرأى دموعها تجري على خديها فقال لها: ما يبكيك? وأين سيدتك? فقالت له: إن سيدتي ماتت بسبب قهرها عليك، فلما سمع منها ذلك الكلام تحير في أمره وبكى بكاءً شديداً حتى خر مغشياً عليه فلما غشي عليه أسرعت هبوب بجره ووضعته في القبر وهو بالحياة ولكنه مدهوش ثم سدت عليه ورجعت إلى سيدتها وأعلمتها بهذا الخبر ففرحت بذلك فرحاً شديداً وأنشدت هذين البيتين:
الدهر أقسـم لا يزال مـكـدري              حنثت يمينك يا زمان فـكـفـر
مات العزول ومن هويت مواصلي                  فانهض إلى داعي السرور وشمر
ثم أنها أقاموا مع بعضهم على الأكل والشرب واللهو واللعب إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات ومميت البنين والبنات.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

حكاية علي نور الدين مع مريم الزنارية

وفي الليلة الخامسة عشرة بعد الثمانمائة

قالت: ومما يحكى أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجلٌ تاجرٌ بالديار المصرية يسمى تاج الدين وكان من أكابر التجار ومن الأمناء الأحرار إلا أنه كان مولعاً بالسفر إلى جميع الأقطار ويحب السير في البراري والقفار والسهول والأوعار وجزائر البحار في طلب الدرهم والدينار وكان له عبيد ومماليك وخدم وجوار وطالما ركب الأخطار وقاسى في السفر ما يشيب الأطفال الصغار وكان أكثر التجار في ذلك الزمان مالاً وأحسنهم مقالاً صاحب خيولٍ وبغالٍ وبخاتي وجمالٍ وغرائزٍ وأدغالٍ وبضائعٍ وأموالٍ وأقمشةٍ عديمة المثال من شدودٍ حمصيةٍ وثيابٍ بعلبكيةٍ ومقاطعٍ سندسيةٍ، وثيابٍ مرزيةٍ وتفاصيلٍ هنديةٍ وأزرارٍ بغداديةٍ وبرانسٍ مغربيةٍ ومماليكٍ تركيةٍ وخدمٍ حبشيةٍ وجوارٍ روميةٍ وغلمانٍ مصريةٍ وكانت غرائر أحماله من الحرير لأنه كان كثير الأموال بديع الجمال مائس الأعطاف شهي الانعطاف وكان لذلك التاجر ولدٌ ذكر يسمى على نور الدين كأنه البدر إذا بدر ليلة أربعة عشر بديع الحسن والجمال ظريف القد والاعتدال فجلس ذلك الصبي يوماً من الأيام في دكان والده على جري عادته للبيع والشراء والأخذ والعطاء وقد دارت حوله أولاده التجار فصار هو بينهم كأنه القمر بين النجوم بجبين أزهرٍ وخدٍ أحمرٍ وعذارٍ أخضرٍ وجسمٍ كالمرمر كما قال فيه الشاعر:
قلت قولاً باخـتـصـار               كل ما فـيك مـلـيح
ومليح قال صـفـنـي               أنت في الوصف فصيح

فعزمه أولاد التجار وقالوا له: يا سيدي نور الدين نشتهي في هذا اليوم أننا نتفرج نحن وإياك في البستان الفلاني فقال لهم: حتى أشاور والدي فإني لا أقدر أن أروح إلا بإجازته فبينما هم في الكلام وإذا بوالده تاج الدين قد أتى فنظر إليه وقال: يا أبي إن أولاد التجار قد عزموني لأجل أن أتفرج أنا وإياهم في البستان الفلاني فهل تأذن لي في ذلك? فقال له: نعم يا ولدي ثم أنه أعطاه شيئاً من المال وقال: توجه معهم فركب أولاد التجار حميراً وبغالاً وركب نور الدين بغلة وسار معهم إلى بستان فيه بجميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهو مشيد الأركان رفيع البنيان له بابٌ مقنطرٌ كأنه إيوان وبابٌ سماويٌ يشبه أبواب الجنان وبوابه اسمه رضوان وفوقه مائة مكعبٍ عنبٍ من سائر الألوان الأحمر كأنه مرجان والأسود كأنه أنوف السودان والأبيض كأنه بيض الحمام وفيه الخوخ والرمان والكمثري والبرقوق والتفاح كل هذه الأنواع مختلفة الألوان صنوان وغير صنوان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة عشرة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أولاد التجار لما دخلوا البستان رأوا فيه كل ما تشتهي الشفة واللسان ووجد العنب مختلف الألوان صنواناً وغير صنوان كما قال فيه الشاعر:
عنبٌ طعمه كطعم الشراب                  حللك لونه كلون الغراب
بين أوراقه زها فـتـراه            كبنان النساء بين الخطاب
ثم انتهوا إلى عريشة البستان فرأوا رضوان بواب البستان جالساً في تلك العريشة كأنه رضوان خازن الجنان، ورأوا مكتوباً على باب العريشة هذان البيتان:
سقي الله بستاناً تدلـت قـطـوفـه           فمالت بها الأغصان من شدة الشرب
إذا رقصت أغصانه بـيد الـصـبـا                    تنقطها الأنواء باللؤلـؤ الـرطـب

وفي ذلك البستان فواته ذات أفنانٍ وأطيارٍ من جميع الأصناف والألوان مثل فاخت وبلبل وكيروان وقماري وحمامٍ يغرد على الأغصان وأنهار بها الماء الجاري وقد راقت تلك المجاري بأزهارها وأثمار ذات لذات كما قال فيها الشاعر هذين البيتين:
سرت النسيم على الغصون فشابهت               حسناء تعثر في جميل ثـيابـهـا
وحكت جداولها السيوف إذا انتضت                أبدى الفوارس من غلاف قرابهـا
وفي ذلك البستان تفاح سكري ومسكي يدهش الناظر كما قال فيه الشاعر:
تفاحة قد جمعت لونين قـد حـكـيا                   خدي حبيبٍ ومحبوبٍ قد اجتمـعـا
لاحا على الغصن كالضدين من عجبٍ               فذاك أسودٌ والثانـي بـه لـمـعـا
تعانقـا فـبـدا وش فـراعـهـمـا              فاحمر ذا خجلاً وأصفر ذا ولـعـا
وتوفي ذلك البستان مشمش لوزي وكافور وجيلاني وعنابي، كما قال فيه الشاعر: 
والمشمش اللوزي يحكي عاشقاً                    جاء الحبيب له فيحـر لـبـه
وكفاه من صفة المتيم ما بـه               يصفر ظاهره ويكسر قلبـه
وفي ذلك البستان برقوق وقراصياً وعناب تشفي السقيم من الأوصاب والتين فوق أغصانه أحمرٌ وأخضرٌ يحير العقول والنواظر كما قال فيه الشاعر:
كأنما التين يبدو مـنـه أبـيضـه             مع أخضر بين أوراق من الشجر
أبناهن على أعلى القصور وقـد           جن الظلام بهم باتوا على حـذر

وفي ذلك البستان من الكمثري الطوري والحلبي والرومي ما هو مختلف الألوان صنوان وغير صنوان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة عشرة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أولاد التجار لما نزلوا البستان رأوه فيه من الفواكه ما ذكرناه ووجدوا فيه من الكمثري الطوري والحلبي والرومي ما هو مختلف الألوان صنوان وغير صنوان ما بين أصفر وأحمر يدهش الناظر كما قال فيه الشاعر:
يهنيك كمثري غدا لونهـا                   لون محبٍ زائد الصفـرة
شبيهة بالبكر في خدرهـا                   والوجه منها مسبل السترة
وفي ذلك البستان الخوخ السلطاني ما هو مختلف الألوان من أصفر وأحمر كما قال فيه الشاعر:
كأنما الخوخ لـدى روضةٍ                  وقد كسى من حمرة العندم
بنادق من ذهبٍ أصـفـر           قد خضبت في وجهها بالدم
وفي ذلك البستان من الموز الأخضر ما هو شديد الحلاوة يشبه الجمار ولبه من داخل ثلاثة أثواب من صنعة الملك الوهاب كما قال فيه الشاعر:
ثلاثة أثوابٍ على جسـدٍ رطـبٍ             مخالفة الأشكال من صنعة الرب
يريه الردى في ليلـه ونـهـاره             وأن يكن المسجون فيها بلا ذنب
وفي ذلك البستان النارنج كأنه خولنجانٌ كما قال فيها الشاعر الولهان:
وحمراء ملء الكف تزهو بحسنها                  فظاهرها نارٌ وباطنهـا ثـلـج
ومن عجبٍ ثلجٌ من النار لم يذب                    ومن عجبٍ نارٌ وليس لها وهـج
وفي ذلك البستان الكباد متدلياً في أغصانه كنهود أبكارٍ تشبه الغزلان وهو على غاية المراد كما قال فيه الشاعر وأجاد:
وكبادةٌ بين الرياض نظرتـهـا              على غصنٍ رطبٍ كقامة أغيد
إذا ميلتها الريح مالت كأكـرةٍ               بدت ذهباً في صولجانٍ زبرجد
وفي ذلك البستان الليمون زكي الرائحة يشبه بيض الدجاج ولكن صفرته زينةً مجانيةً وريحةً يزهو لجانبه كما قال فيه بعض واصفيه:
أما ترى الليمون لما بـدى                  يأخذ من أشراقه بالعـيان
كأنه بيض الدجـاج وقـد                    لطخه الخمسة بالزعفران

وفي ذلك البستان من سائر الفواكه والرياحين الخضروات والمشمومات من الياسمين والفاغية والفلفل والسنبل العنبري والورد بسائر أنواعه ولسان الحمل والأس وكامل الرياحين من كل الأصناف. وذلك البستان من غير تشبيهٍ كأنه قطعةٌ من الجنان لرائيه، إذا دخله العليل خرج منه كالأسد الغضبان ولا يقدر على وصفه اللسان لما فيه من العجائب والغرائب التي لا توجد إلا في الجنان، كيف لا واسم بوابه رضوان ولكن بين المقامين شتان. فلما تفرج أولاد التجار في ذلك البستان قعدوا بعد التفرج والتنزه على ليوان من لواوينه وأجلسوا نور الدين في وسط الليوان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة عشرة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أولاد التجار لما جلسوا في الليوان أجلسوا نور الدين في وسطٍ على نطعٍ من الأديم المزركش متكئاً على مخدةٍ محشوةٍ بريش النعام وضهارتها مدورةٌ سنجابيةً، ثم ناوله مروحةً من ريش النعام مكتوباً عليها هذان البيتان:
ومروحةٍ معطرة النـسـيم                   تذكر طيب أوقات النعـيم
وتهدي طيبها في كل وقـتٍ                إلى وجه الفتى الحر الكريم

ثم أن هؤلاء الشبان خلعوا ما كان عليهم من العمائم وقعدوا يتحدثون ويتنادمون ويتجاذبون أطراف الكلام بينهم وكل منهم يتأمل في نور الدين وينظر إلى حسن صورته، وبعد أن اطمأن بهم الجلوس ساعةً من الزمان أقبل عليهم عبد وعلى رأسه سفرة طعامٍ فيها أواني من الصيني والبلور لأن بعض أولاد التجار كان وصى أهل بيته قبل خروجه إلى البستان وكان في تلك السفر كثيرٌ ما درج وطار وسبح في البحار كالقطار والسماني وأفراخ الحمام وشياه الضأن والطف السمك فلما وضعت تلك السفرة بينهم تقدموا وأكلوا بحسب الكفاية ولما فرغوا من الأكل قاموا عن الطعام وغسلوا أيديهم بالماء الصافي والصابون الممسك وبعد ذلك نشفوا أيديهم بالمناديل المنسوجة بالحرير والقصب وقدموا لنور الدين منديلاً مطرزاً بالذهب الأحمر فمسح به يديه وجاءت القهوة كل منهم مطلوبه ثم جلسوا للحديث وإذا بخولي البستان قد جاء ومعه سفرة المدام فوضع بينهم صينيةً مزركشةً بالذهب الأحمر، وأنشد يقول هذين البيتين:
هتف الفجر بالسنى فاسق خمراً           عانساً تجعل الحليم سـفـيهـا
لست أدري من لطفها وصفاها             أبكأسٍ ترى أم الكأس فـيهـا

ثم أن خولي البستان ملأ وشرب ودار الدور إلى أن وصل إلى نور الدين ابن التاجر تاج الدين فملأ خولي البستان كأساً وناوله إياه فقال له نور الدين: أنت تعرف أن هذا شيءٌ لا أعرفه ولا شربته قط لأن فيه إثماً كبيراً وقد حرمه في كتابه الرب القدير فقال البستاني: يا سيدي نور الدين إن كنت ما تركت شربه إلا من أجل الإثم فإن الله سبحانه وتعالى كريمٌ حليمٌ غفورٌ رحيمٌ يغفر الذنب العظيم ورحمته وسعت كل شيءٍ ورحمة الله على بعض الشعراء حيث قال:
كن كيف شئت فإن الله ذو كرمٍ             وما عليك إذا أذنبت من بأس
إلا اثنتين فلا تقربهـمـا أبـداً                الشرك بالله والأضرار للناس

ثم قال واحدٌ من أولاد التجار: بحياتي عليك يا سيدي نور الدين أن تشرب هذا القدح وتقدم شابٌ آخر وحلف عليه بالطلاق وآخر وقف بين يديه على أقدامه فاستحى نور الدين وأخذ القدح من خولي البستان وشرب منه جرعةً ثم بصقها وقال: هذا مرٌ فقال خولي البستان: يا سيدي نور الدين لولا أنه مرٌ ما كانت فيه هذه المنافع ألم تعلم أن كل حلوٍ إذا أكل على سبيل التداوي يجده الآكل مراً وإن هذه الخمر منافعها كثيرةٌ فمن جملة منافعها أنها تهضم الطعام وتصرف الهم والغم وتزيل الأرياح وتروق الدم وتصفي اللون وتنعش البدن وتشجع الجبان وتقوي همة الرجل على الجماع ولو ذكرنا منافعها كلها لطال علينا شرح ذلك وقد قال بعض الشعراء:
شربنا وعفو الله من كل جانـبٍ            وداويت أسقامي بمرتشف الكأس
وما غرني فيها وأعرف إثمهـا            سوى قوله فيها منافع للـنـاس
ثم إن خلوي البستان نهض قائماً على أقدامه من وقته وساعته وفتح مخدعاً من مخادع ذلك الإيوان وأخرج منه قمع سكر مكرر وكسر منه قطعةً كبيرةً ووضعها لنور الدين في القدح وقال: يا سيدي إن كنت هبت شرب الخمر من مرارته فاشرب الآن فقد حلا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة عشرة بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخولي قال لنور الدين: إن كنت هبت شرب الخمر من مرارته فاشرب الآن فقد حلا فعند ذلك أخذ نور الدين القدح وشربه ثم ملأ الكأس واحدً من أولاد التجار قال: يا سيدي نور الدين أنا عبدك وكذا الآخر قال: خادمك وقام الآخر وقال: من أجل خاطري وقام الآخر وقال: بالله عليك يا سيدي نور الدين اجبر بخاطري ولم يزل العشرة أولاد التجار بنور الدين إلى أن أسقوه العشرة أقداحٍ كل واحدٍ قدحاً وكان نور الدين باطنه بكر عمره ما شرب خمراً قط إلا في تلك الساعة فدار الخمر في دماغه وقوي عليه السكر فوقف على حيله وقد ثقل لسانه واستعجم كلامه وقال: يا جماعة الله أنتم ملاح وكلامكم مليح ومكانكم مليح إلا أنه يحتاج إلى سماع طيبٍ فإن الشراب بلا سماعٍ عدمه أولى من وجودها كما قال فيه الشاعر هذين البيتين:
أدرها بالكبير والـصـغـير                   وحدها من يد القمر المنـير
ولا تشرب بلا طربٍ فإنـي                  رأيت الخيل تشرب بالصفير

فعند ذلك نهض الشاب صاحب البستان وركب بغلةً من بغال أولاد التجار وغاب ثم عاد ومعه صبيةً مصريةً كأنها ليةٌ طريةٌ أو فضةٌ نقيةٌ أو دينارٌ في صينيةٌ أو غزالٌ في بريةٍ بوجهٍ يخجل الشمس المضية وعيونٍ بابليةٍ وحواجبٍ كأنها قسى محنيةٍ وخدودٍ ورديةٍ وأسنانٍ لؤلؤيةٍ ومراشفٍ سكريةٍ وعيونٍ مرخيةٍ ونهودٍ عاجيةٍ وبطنٍ حماسيةٍ وأعكانٍ مطويةٍ وأردافٍ كأنهن مخداتٍ محشيةٍ وفخذين كالجداول الشامية وبينهما شيءٌ كأنه صرةٌ في بقجةٍ مطويةٍ كما قيل فيه هذه الأبيات:
ولو أنها للمشركين تـعـرضـت             رأوا وجهها من دون أصنامهم رباً
ولو أنها في الشرق لاحت لراهبٍ                   لخلى سبيل الشرق وأتبع الغربـاً
ولو تفلت في البحر والبحر مالـحٌ                   لأصبح ماء البحر من ريقها عذباً

وتلك الصبية كأنها البدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر وعليها بدلةٌ زرقاءٌ بقناعٍ أخضرٍ فوق جبينٍ أزهرٍ تدهش العقول وتحير أرباب المعقول.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن خولي البستان جاءهم بالصبية التي ذكرنا أنها في غاية الحسن والجمال ورشاقة القد والاعتدال كأنها المرأة المراد بقول الشاعر:
أقبلت فـي غـلالةٍ زرقـاءٍ                    لازوديةٍ كلون الـسـمـاء
فتحققت في الغلالة منـهـا                  قمر الصيف في ليالي الشتاء
ثم إن الشاب خولي البستان قال لتلك الصبية: اعلمي يا سيدة الملاح وكل كوكبٍ لاح أننا ما قصدنا بحضورك في هذا المكان إلا أن تنادمي هذا الشاب المليح الشمائل سيدي نور الدين فإنه لم يأت محلنا في هذا اليوم فقالت له الصبية: ليتك كنت أخبرتني لأجل أن أجيء بالذي كان معي فقال لها: سيدتي أنا أروح وأجيء به إليك فقالت: أفعل ما بدا لك فقال لها: أعطيني أمارةً فأعطته منديلاً فعند ذلك خرج سريعاً وغاب ساعةً زمانيةً ثم عاد ومعه كيسٌ أخضرٌ من الحرير أطلسٌ بشكلين من الذهب فأخذته منه الصبية وحلته ونفضته فنزل منه اثنتان وثلاثون قطعةً خشبٍ ثم ركبت الخشب في بعضه على صورة ذكر في أنثى وأنثى في ذكر وكشفت عن معاصمها وأقامته فصار عوداً محكوكاً مجروداً صنعة الهنود ثم انحنت عليه تلك الصبية انحناء الوالدة على ولدها وزعزعته بأنامل يدها فعند ذلك أن العود ورن ولأماكنه القديمة حن وقد تذكر المياه التي قد سقته والأرض التي نبت منها وتربى فيها وتذكر النجارين الذين قطعوه والدهانين الذين دهنوه والتجار الذين جلبوه والمراكب التي حملته فصرخ وصاح عدد وناح وكأنها سألته عن ذلك كله فأجابها بلسان الحال منشداً هذه الأبيات:
لقد كنت عودا للـبـلابـل مـنـزلا            أميل بها وجداً وفرعـي أخـضـر
ينوحون من فوقي فعلمت نوحـهـم                 ومن أجل ذاك النوح سرى مجهـر
رماني بلا ذنبٍ على الأرض قاطعي                 وصيرني عوداً نحـيلاً كـمـا تـر
ولكن ضربي بالأنـامـل مـخـبـرٌ            بأني قتيلٌ فـي الأنـام مـصـبـر
فمن أجل هذا صـار كـل مـنـادمٍ            إذا ما رأى نوحي يهـيم ويسـكـر
وقد حنن المولى على قـلـوبـهـم                    وقد صرت في أعلى الصدور أصدر
تعانق قدي كل من فاق حـسـنـهـا                   وكل غزالٍ ناحل الطـرف أحـور

ثم سكتت الصبية ساعة وبعد ذلك أخذت ذلك العود في حجرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وضربت عليه طرقاً عديدةً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية ضربت على العود طرقاً عديدة ثم عادت إلى طريقتها الأولى وأنشدت هذه الأبيات:
لو أنهم جنحوا للصـب أوزارٍ              لحط عنه من الأشواق أوزار
وعندليبٍ على غصنٍ يشاطره             كأنه عاشقٌ شطت به الـدار
قم وانتبه فليالي الوصل مقمرةٌ            كأنها باجتماع الشمل أسحـار
واليوم في غفلةٍ عنا حواسدنـا             وقد دعتنا إلى اللذات أوتـار
أما ترى أربعاً للهو قد جمعت              آسٌ ووردٌ ومنثـورٌ وأنـوار
واليوم قد جمعت للحظ أربعةٌ              صبٍ وخلٍ ومشروبٍ ودينار
فأظفر بحظك وفي الدنيا فلذتها            تغني وتبقى رواياتٍ وأخبـار

فلما سمع نور الدين من الصبية هذه الأبيات نظر إليها بعين المحبة حتى كاد لا يملك نفسه من شدة الميل إليها وهي الأخرى كذلك لأنها نظرت إلى الجماعة الحاضرين من أولاد التجار كلهم وإلى نور الدين، فرأته بينهم كالقمر بين النجوم لأنه كان رخيم اللفظ ذا دلالٍ كامل القدر والاعتدال والبهاء والجمال ألطف وأرق النسيم كما قيل فيه هذه الأبيات:
قسماً بوجنتـيه وبـاسـم ثـغـره             وباسهم قد راشها مـن سـحـره
وبلين معطفه ونبـل لـحـاظـه               وبياض غرته وأسـود شـعـره
وبحاجبٍ حجب الكرى عن ناظري                  وسطا على بنـهـيه وبـأمـره
وعقاربٍ قد أرسلت من صدغـه           وسعت لقتل العاشقين بهـجـره
وبـورد خـديه آس عـــذاره                وعقيق مبسمه ولؤلـؤ ثـغـره
وبغصن قامته الذي هو مثـمـرٌ            رمانه يزهو جـنـاه بـصـدره
وبردفه المرتج في حـركـاتـه              وسكونه وبدقةٍ فـي خـصـره
وحرير ملـبـسـه وخـفة ذاتـه              وبما حواه أمن الجمال بـأسـره
إن الشـذا قـد مـن أنـفـاسـه                والريح تروي طيبها عن نشـره
وكذلك الشمس المـنـيرة دونـه            وكذا الهلال قلامةً من ظـفـره

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما سمع كلام تلك الصبية وشعرها أعجبه نظامها وكان قد مال من السكر فجعل يمدحها ويقول:
عوادةٌ مالت لنا           في نشوة المنتبذ
قالت لنا أوتارها                    أنطقنا الله الذي

فلما تكلم نور الدين بهذا الكلام وأنشد هذا الشعر والنظام نظرت له تلك الصبية بعين المحبة وزادت فيه عشقاً وغراماً وقد صاحت متعجبةً من حسنه وجماله ورشاقة قده واعتداله فلم تتمالك نفسها بل احتضنت العود ثانياً وأنشدت هذه الأبيات:
يعاتبني على نظـري إلـيه                   ويهجرني وروحي في يديه
ويبعدني ويعلم ما بقلـبـي                   كأن الله قد أوحـى إلـيه
كتبت مثاله في وسط كفـي                 وقلت لناظري عول علـيه
فلا عيني ترى منـه بـديلاً                  ولا قلبي يصيرنـي لـديه
فيا قلبي نزعتك من فؤادي                 فقلبي لـم يمـل إلا إلـيه

فلما أنشدت الصبية تلك الأبيات تعجب نور الدين من حسن شعرها وبلاغة كلامها وعذوبة لفظها وفصاحة لسانها فطار عقله من شدة الغرام والوجد والهيام ولم يقدر أن يصبر عنها ساعةً من الزمان بل مال إليها وضمها إلى صدره فانطبقت الأخرى عليه وصارت بكليتها لديه وقبلته بين عينيه وقبل هو فاهها بعد ضم القوام ولعب معها في التقبيل كزق الحمام فالتفتت له وفعلت معه مثل ما فعل معها، فهام الحاضرون وقاموا على أقدامهم فاستحى نور الدين ورفع يده عنها ثم أنها أخذت عودها وضربت عليه طرائق عديدةً ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأنشدت هذه الأبيات:
قمرٌ يسل من الجفون إذا انثـنـى                    غضباً ويهزأ بالغـزال إذا رنـا
ملك محاسنه الـبـديعة جـنـده              ولدى الطعان قوامه يحكي القنـا
لو أن رقة خصره في قـلـبـه               ما جار قطٌ على المحب ولا جنى
يا قلبه القاسـي ورقة خـصـره             هلا نقلت إلى هنا مـن هـنـا
يا عاذلي في حبه كـن عـاذري             فلك البقاء بحسنه ولي الـفـنـا
فلما سمع نور الدين حسن كلامها وبديع نظامها مال إليها من الطرب ولم يملك عقله من التعجب ثم أنشد هذه الأبيات:
لقد خلتها شمس الضحى فتخيلت                   ولكن لهيب الحر منها بمهجتـي
وماذا عليها لو أشارت فسلمـت           علينا بأطراف البنـان وأومـت
رأى وجهها اللاحي فقال وتاه في                  محاسنها اللاتي عن الحسن جلت
أهذي التي همت شوقاً بحبـهـا             فإنك معذورٌ فقلت هي الـتـي
رمتني بسهم اللحظ عمداً وما رثت                 لحالي وذلي وانكساري وغربتي
فأصبحت مسلوب الفؤاد متـيمـاً           أنوح وأبكي طول يومي وليلتـي

فلما فرغ نور الدين من شعره، تعجبت الصبية من فصاحته ولطافته وأخذت عودها وضربت عليه بأحسن حركاتها وأعادت جميع النغمات، ثم أنشدت هذه الأبيات:
وحياة وجهك يا حـياة الأنـفـس            لا حلت عنـك يئسـت أم لا أيأس
فلئن جفوت فإن طيفـك واصـلٌ            أو غبت عن عيني فذكرك مؤنسي
يا موحشاً طرفي وتعلـم أنـنـي             أبداً بغير هواك لـم أسـتـأنـس
خداك من وردٍ وريقـك قـهـوةٌ             هلا سمحت بها بهذا المجـلـس

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية بعدما فرغت من شعرها طرب نور الدين من إنشاد تلك الصبية غاية الطرب وتعجب منها غاية العجب، ثم أجابها عن شعرها بهذه الأبيات:
ما أسفرت عن محيا الشمس في الغسق           إلا تحجب بـدر الـتـم فـي الأفـق
ولا بدت لعيون الصـبـح طـرتـهـا                   إلا وعوذت ذاك الفرق بـالـفـلـق
خذ عن مجاري دموعها في تسلسلهـا             وأرو حديث الهوى من أقرب الطرق
ورب راميةٍ بالنـبـل قـلـت لـهـا             مهلاً بنبلك أن القـلـب فـي فـرق
إن كان دمعي لبحر النيل نـسـبـتـه                  فإن ودك منسـوبٌ إلـى الـمـلـق
قالت فهات جمع المال قـلـت خـذي                 قالت ونومك أيضاً قلت من حـدقـي

فلما سمعت الصبية كلام نور الدين وحسن فصاحته طار قلبها واندهش لبها وقد احتمى على مجامع قلبها فضمته إلى صدرها وصارت تقبله تقبيلاً كزق الحمام وكذلك الآخر قابلها بتقبيلٍ متلاحقٍ ولكن الفضل للسابق وبعد أن فرغت من التقبيل أخذت العود وأنشدت هذه الأبيات:
ويلاه ويلي من ملامة عـاذلـي             أشكوه أم أشكو إليه تملمـلـي
يا هاجري ما كنت أحسب أننـي            ألقى الإهانة في هواك وأنت لي
عنفت أرباب الصبابة بالـجـوى            وأبحث فيك لعاذليك تـذلـلـي
بالأمس كنت ألوم أرباب الهـوى                    واليوم أعذر كل صب مبتـلـي
وإن اعترتني من فراقـك شـدةً             أصبحت أدعو الله باسمك يا علي
فلما فرغت تلك الصبية من شعرها أيضاً أنشدت هذين البيتين:
قد قالت العشاق إن لم يسقنـا              من ريقه ورحيق فيه السلسل
ندعو إله العالمين يجـيبـنـا                 ويقول فيه الكل منايا علـي

فلما سمع نور الدين من تلك الصبية هذا الكلام والشعر والنظام تعجب من فصاحة لسانها وشكرها على ظرافة افتتانها فلما سمعت تلك الصبية ثناء نور الدين عليها قامت من وقتها وساعتها على قدميها وخلعت جميع ما كان عليها من ثيابٍ ومصاغٍ وتجردت من ذلك كله ثم جلست على ركبتيها وقبلته بين عينيه وعلى شامتي خديه ووهبت له جميع ذلك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية وهبت كل ما كان عليها لنور الدين وقالت له: أعلم يا حبيب قلبي أن الهدية على مقدار مهديها، فقبل ذلك منها نور الدين ثم رده عليها وقبلها في فمها وخديها وعينيها، فلما انقضى ذلك ولم يدم إلا الحي القيوم رازق الطاووس والبوم قام نور الدين من ذلك المجلس ووقف على قدميه فقالت له الصبية: إلى أين يا سيدي? فقال: إلى بيت والدي، فحلف عليه أولاد التجار أن ينام عندهم فأبى وركب بغلته ولم يزل سائرا حتى وصل إلى منزل والده، فقامت له أمه وقالت له: يا ولدي ما سبب غيابك إلى هذا الوقت والله إنك قد شوشت علي وعلى والدك لغيابك عنا وقد اشتغل خاطرنا عليك، ثم إن أمه تقدمت إليه لتقبله في فمه فشمت منه رائحة الخمر فقالت: يا ولدي كيف بعد الصلاة والعبادة صرت تشرب الخمر وتعصي من له الخلق والأمر فبينما هما في الكلام وإذا بوالده قد أقبل، ثم إن نور الدين ارتمى في الفراش ونام فقال أبوه: ما لنور الدين هكذا? قالت أمه: كان رأسه أوجعه من هواء البستان، فعند ذلك تقدم والده ليسأله عن وجعه ويسلم عليه فشم منه رائحة الخمر، وكان ذلك التاجر المسمى تاج الدين لا يحب من يشرب الخمر فقال له: ويلك يا ولدي هل بلغ بك السفه إلى هذا الحد حتى تشرب الخمر? فلما سمع نور الدين كلام والده رفع يده في سكره ولطمه بها فجاءت اللطمة بالأمر المقدر على عين والده اليمنى فسالت على خديها فوقع على الأرض مغشياً عليه واستمر في غشيته ساعةً فرشوا عليه ماء الورد، فلما أفاق من غشيته أراد أن يضربه فحلف بالطلاق من أمه أنه إذا أصبح الصباح لا بد من قطع يده اليمنى.
فلما سمعت أمه كلام والده ضاق صدرها وخافت على ولدها، ولم تزل تداري والده وتأخذ بخاطره إلى أن غلب عليه النوم، فصبرت إلى أن طلع القمر وأتت إلى ولدها وقد زال عنه السكر فقالت له: يا نور الدين ما هذا الفعل القبيح الذي فعلته مع والدك? فقال: وما الذي فعلته مع والدي? فقالت: إنك لطمته بيدك على عينه اليمنى فسالت على خده وقد حلف بالطلاق أنه إذا أصبح الصباح لا بد أن يقطع يدك اليمنى، فندم نور الدين على ما وقع منه حيث لا ينفعه الندم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما ندم على ما وقع منه قالت له أمه: يا ولدي إن هذا الندم لا ينفعك وإنما ينبغي لك أن تقوم في هذا الوقت وتهرب وتطلب النجاة لنفسك وتختفي عند خروجك حتى تصل إلى أحد أصحابك وانتظر ما يفعل الله فإنه يغير حالاً بعد حال.
ثم إن أمه فتحت صندوق المال وأخرجت منه كيساً فيه مائة دينارٍ وقالت له: يا ولدي خذ هذه الدنانير واستعن بها على مصالح حالك فإذا فرغت منك يا ولدي فأرسل أعلمني حتى أرسل إليك غيرها، وإذا راسلتني فأرسل إلي أخبارك سراً لعل الله يقدر لك فرجاً وتعود إلى منزلك، ثم أنها ودعته وبكت بكاءً شديداً ما عليه مزيد، فعند ذلك تناول نور الدين كيس الدنانير من أمه وأراد أن يذهب فرأى كيساً كبيراً قد نسيته أمه بجنب الصندوق فيه ألف دينارٍ فأخذه نور الدين ثم ربط الاثنين في وسطه ومشى من الزقاق وتوجه إلى جهة بولاق قبل الفجر.
فلما أصبح الصباح وقامت الخلائق توحد الملك الفتاح وذهب كل واحدٍ منهم إلى مقصده ليحصل ما قسم الله له كان نور الدين وصل إلى بولاق فصار يتمشى على ساحل البحر فرأى مركباً سقالته ممدودةٌ والناس تطلع فيه وتنزل منه ومراسيه أربعٌ مدقوقةٌ في البر ورأى البحرية واقفين فقال نور الدين لهم: إلى أين أنتم مسافرون? فقالوا: إلى مدينة الإسكندرية فقال لهم نور الدين: خذوني معكم فقالوا له: أهلاً وسهلاً ومرحباً بك يا شاب يا مليح.
فعند ذلك نهض نور الدين من وقته وساعته ومضى إلى السوق واشترى ما يلزمه من زادٍ وفرشٍ وغطاءٍ ثم عاد إلى المركب وكان ذلك المركب قد تجهز للسفر، فلما نزل نور الدين في المركب لم يمكث إلا قليلاً حين سار من وقته وساعته، ولم يزل ذلك المركب سائراً حتى وصل إلى مدينة الرشيد فلما وصلوا إلى هناك رأى نور الدين مركباً صغيراً سائراً إلى الإسكندرية فنزل فيه وعدى الخليج، ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى قنطرة الجامي فطلع نور الدين من ذلك الزورق ودخل من باب السدرة وقد ستر الله عليه فلم ينظره أحدٌ من الواقفين في الباب، فمشى نور الدين حتى دخل مدينة الإسكندرية.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن نور الدين لما دخل مدينة الإسكندرية رآها مدينةً حصينة الأسوار حسنة المتنزهات تلذ لسكانها وترغب في استيطانها وقد ولى عنها فصل الشتاء ببرودة وأقبل عليها فصل الربيع بورده وأزهرت أزهارها وأورقت أشجارها وأينعت أثمارها وتدفقت أنهارها وهي مدينةٌ مليحةٌ الهندسة والقياس وأهلها من خيار الناس إذا أغلقت أبوابها أمنت أصحابها وهي كما قيل فيها هذه الأبيات:
قد قلت يوماً لخلٍ                   له مقالٌ فصـيح
إسكندرية صفهـا                   فقال ثغرٌ ملـيح
وقلت فيها معاشٌ                  قال أن هب ريحٌ

فمشى نور الدين في تلك المدينة ولم يزل ماشياً فيها إلى سوق النجارين ثم إلى سوق الصرافين ثم إلى سوق النقلية ثم إلى سوق الفكهانية ثم إلى سوق العطارين وهو يتعجب من تلك المدينة لأن وصفها قد شاكل اسمها.
فبينما هو يمشي في سوق العطارين إذا برجلٍ كبير السن نزل من دكانه وسلم عليه ثم تناول يده ومضى به إلى منزله فرأى نور الدين زقاقاً مليحاً مكنساً مرشوشاً قد هب عليه النسيم وظللته أوراق الشجر، وفي ذلك الزقاق ثلاث دور وفي صدر ذلك الزقاق داراً أساسها راسخٌ في الماء وجدرانها شاهقةٌ إلى عنان السماء وقد كنسوا الساحة التي قدامها ورشوها ويشم روائح الأزهار قاصدوها يقابلها النسيم كأنه من جنات النعيم، فأول ذلك الزقاق مكنوسٌ مرشوشٌ وآخره بالرخام مفروشٌ.
فدخل الشيخ ونور الدين إلى تلك الدار وقدم له شيئاً من المأكول فأكلا معا، فلما فرغا من الأكل معاً قال له الشيخ: متى كان القدوم من مدينة مصر إلى هذه المدينة? فقال له: يا والدي في هذه الليلة، قال له: ما اسمك? قال له: علي نور الدين، فقال له الشيخ: يا نور الدين يلزمني الطلاق ثلاثاً أنك ما دمت مقيماً في هذه المدينة لا تفارقني وأنا أخلي لك موضعاً تسكن فيها، فقال له نور الدين: يا سيدي الشيخ زدني بك معرفةً فقال لها: يا ولدي أعلم أني دخلت مصر في بعض السنين بتجارةٍ فبعتها فيها واشتريت متجراً آخر فاحتجت إلى ألف دينارٍ فوزنها عني والدك تاج الدين من غير معرفةٍ له بي ولم يكتب علي بها منشوراً وصبر علي بها إلى أن رجعت إلى هذه المدينة وأرسلتها إليه مع بعض غلماني ومعها هديةً وقد رأيتك وأنت صغير وإن شاء الله تعالى أجازيك ببعض ما فعل والدك معي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ قال لنور الدين: إن شاء الله أجازيك ببعض ما فعل والدك معي، فلما سمع نور الدين هذا الكلام أظهر الفرح والإبتسام وتناول الكيس الذي فيه ألف دينار وأعطاه لذلك الشيخ وقال له: خذ هذا وديعةً عندك حتى اشتري به شيئاً من البضائع لأتجر فيه.
ثم إن نور الدين أقام في مدينة الإسكندرية مدة أيامٍ وهو يتنزه كل يوم في شارعٍ من شوارعها ويأكل ويشرب ويلتذ ويطرب إلى أن فرغت المائة دينار التي كانت معه برسم النفقة فأتى إلى الشيخ العطار ليأخذ شيئاً منه من الألف دينار وينفقه فلم يجده في الدكان فجلس في دكانه ينتظره إلى أن يعود وصار ينظر على التجار ويتأمل ذات اليمين وذات الشمال، فبينما هو كذلك إذا بأعجمي قد أقبل على السوق وهو راكبٌ على بغلةٍ وخلفه جاريةٌ كأنها فضةٌ نقيةٌ وبلطيةٌ في فسقيةٍ أو غزالةٍ في بريةٍ بوجهٍ يخجل الشمس المضيئة وعيونٍ بابليةٍ ونهودٍ عاجيةٍ وأسنانٍ لؤلؤيةٍ وبطنٍ حماصيةٍ وأعطافٍ مطويةٍ وسيقانٍ كأطراف ليةٍ كاملة الحسن والجمال ورشيقة القد الاعتدال كما قال فيها بعض وأصفيها:
كأنها مثل ما تهواه قـد خـلـقـت           في رونق الحسن لا طولٌ ولا قصر
الورد من خدها يحمر من خـجـلٍ                   والغصن من قدها يزهو به الثمـر
البدر طلعتها والمسك نكـهـتـهـا           والغصن من قامتها ما مثلها بشـر
كأنها أفرغت مـن مـاء لـؤلـؤةٍ             في كل جارحةٍ من حسنها قـمـر

ثم إن الأعجمي نزل عن بغلته وأنزل الصبية وصاح على الدلال فحضر بين يديه فقال له: خذ هذه الجارية وناد عليها في السوق فأخذها الدلال ونزل بها إلى وسط السوق وغاب ساعةً ثم عاد ومعه كرسي من الأبنوس مزركشٌ بالعاج الأبيض فوضعه الدلال على الأرض وأجلس عليه تلك الصبية ثم كشف القناع عن وجهها فبان من تحته وجه كأنه ترسي ديلمي أو كوكب دري وهي كأنها البدر في ليلة أربعة عشر بغاية الجمال الباهر كما قال فيها الشاعر:
قد عارض البدر جهلاً حسن صورتها              فراح منكسفاً وانشق بالـغـضـب
وسرحة البان أن قيست بقامـتـهـا                  تبت يداً من غدت حمالة الحـطـب
وما أحسن قول الشاعر:
قل للمليحة في الخمار المذهب             ماذا فعلت بعابدٍ مـتـرهـب
نور الخمار ونور وجهك تحته             هزما بضوئها جيوش الغيهب
وإذا أتى طرفي ليسرق نظرةً              في الخد حراسٌ رمته بكوكب

فعند ذلك قال الدلال للتجار: دفعتم في درة الغواص وفتنة القناص فقال له تاجر من التجار: علي بمائة دينار وقال آخر: بمائتين وقال آخر: بثلثمائة ولم يزل التجار يتزايدون في تلك الجارية إلى أن وصلوا ثمنها إلى تسعمائة وخمسين ديناراً وتوقف البيع على الإيجاب والقبول.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن التجار يتزايدون في الجارية إلى أن بلغ ثمنها تسعمائة وخمسين ديناراً فعند ذلك أقبل الدلال على الأعجمي سيدها وقال له: إن جاريتك بلغ ثمنها تسعمائة وخمسين ديناراً فهل نبيع ونقبض لك الثمن? فقال الأعجمي: هل هي راضيةٌ بذلك فإني أحب مراعاة خاطرها لأني ضعفت في هذه السفرة وخدمتني هذه الجارية غاية الخدمة فحلفت أني لا أبيعها إلا لمن تشتهي وتريد وجعلت بيعها بيدها فأشاورها فإن قالت رضيت فبعها لمن أرادته وأن قالت لا فلا تبيعها فعند ذلك تقدم الدلال إليها وقال لها: يا سيدة الملاح أعلمي أن سيدك قد جعل بيعك بيدك وقد بلغ ثمنك تسعمائة وخمسين ديناراً فتأذنين أن أبيعك? فقالت الجارية للدلال: أرني الذي يريد أن يشتريني قبل انعقاد البيع فعند ذلك جاء الدلال بها إلى رجلٍ من التجار وهو شيخٌ كبيرٌ هرمٌ فنظرت إليه الجارية ساعةً زمانيةً وبعد ذلك التفتت إلى الدلال وقالت له: يا دلال هل أنت مجنون أو مصاب في عقلك? فقال لها الدلال: لأي شيءٍ يا سيدة الملاح تقولين لي هذا الكلام? فقالت له الجارية: أيحق لك من الله أن تبيع مثلي لهذا الشيخ الهرم الذي قال في شأن زوجته هذه الأبيات:
تقول لي وهي غضبى من تدللها                    وقد دعتني إلى شيءٍ فما كانـا
إن لم تنكني نيك المرء زوجتـه            فلا تلمني إذا أصبحت قـرنـا
كأن أيرك شمعٌ من رخـاوتـه               فكلما عركته راحـتـي لأنـا

فلما سمع شيخ التجار من تلك الصبية هذا الهجو القبيح اغتاظ غيظاً شديداً ما عليه من مزيد وقال للدلال: يا أنحس الدلالين ما جئت لنا في السوق إلا بجاريةٍ مشؤومةٍ تتحارى علي وتهجوني بين التجار فعند ذلك أخذها الدلال وانصرف عنه وقال لها: يا سيدتي لا تكوني قليلة الأدب أن هذا الشيخ الذي هجوته هو شيخ السوق ومحتسبه وصاحب مشورة التجار فضحكت وأنشدت هذين البيتين:
يصلح للحكام في عصرنـا                  وذاك للحكام ممـا يجـب
السنق للوالي على بـابـه                   والضرب بالذرة للمحتسب

ثم إن الجارية قالت للدلال: والله يا سيدي أنا لا أباع لهذا الشيخ فبعني إلى غيره لأنه ربما خجل مني فيبيعني إلى آخر فاصبر ممتهنة ولا ينبغي لي أن أدنس نفسي بالإمتهان وقد علمت إن أمر بيعي مفوض إلي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن الجارية قالت للدلال: لا ينبغي أن أدنس نفسي بالإمتهان وقد علمت أن أمر بيعي مفوض إلي فقال لها الدلال: سمعاً وطاعةً ثم توجه بها إلى رجلٍ من التجار الكبار فلما وصل بها إلى ذلك الرجل قال لها: يا سيدتي هل أبيعك إلى سيدي شريف الدين هذا بتسعمائة وخمسين ديناراً? فنظرت إليه الجارية فرأته شيخاً ولكن لحيته مصبوغةً فقالت للدلال: هل أنت مجنون أو مصاب بعقلك حتى تبيعني إلى هذا الشيخ الفاني فهل أنا من كتكت المشاق أو من مهلهل الأخلاق حتى تطوف بي على شيخٍ بعد شيخٍ وكلاهما كجدارٍ آيلٍ إلى السقوط أو عفريتٍ محقة النجم بالهبوط أما الأول فإنه ناطقٌ فيه لسان الحال يقول بقول من قال:
طلبت قبلتها فـي الـثـغـر قـائلةً             لا والذي أوجد الأشـياء مـن عـدم
ما كان لي في بياض الشيب من أربٍ               أفي الحياة يكون القطن حشو فمـي
وأما الآخر فإنه ذو عيبٍ وريبٍ ومسود وجه الشيب قد أتى في خضاب شيبه بأقبح عينٍ وأنشد لسان حاله هذين البيتين:
قالت أراك خضبت الشيب قلت لها                   كتمت عنك يا سمعي ويا بصري
فقهقهت ثم قالت إني ذا عـجـب            تكاثر الغش حتى صار في الشعر

فلما سمع الشيخ الذي صبغ لحيته من تلك الجارية هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً ما عليه من مزيدٍ وقال للدلال: يا أنحس الدلالين ما جئت في هذا اليوم إلى سوقنا إلا بجاريةٍ سفيهةٍ تسفه على كل من في السوق واحداً بعد واحدٍ وتهجوهم بالأشعار والكلام الفشار ثم إن ذلك التاجر نزل من دكانه وضرب الدلال على وجهه فأخذها الدلال ورجع بها وهو غضبان وقال: والله إني ما رأيت عمري جارية أقل حياء منك وقد قطعت رزقي ورزقك في هذا النهار وقد أبغضني من أجلك جميع التجار فرآها في الطريق رجلٌ من التجار فزاد في ثمنها عشرة دنانيرٍ وكان اسم ذلك التاجر شهاب الدين فاستأذن الدلال الجارية في البيع فقالت: أرني إياه حتى أنظر إليه واسأله عن حاجةٍ فإن كانت تلك الحاجة في بيته فأنا أباع له وإلا فلا، فخلاها الدلال واقفةً ثم تقدم إليه وقال له: يا سيدي شهاب الدين أعلم إن هذه الجارية قالت لي أنها تسألك عن حاجةٍ فإن كانت عندك فإنها تباع لك وها أنت وقد سمعت ما قالته لأصحابك من التجار.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الدلال قال للتاجر: إنك سمعت ما قالته هذه الجارية لأنك أنصح التجار والله خائفٌ أن أجيء بها إليك فتعمل معك مثل ما عملت مع جيرانك وأبقى أنا معك مفضوحاً فأي ذنبٍ لي في المجيء بها? فقال: ائتني بها فقال الدلال: سمعاً وطاعةً ثم ذهب الدلال وأتى بالجارية إليه فنظرته الجارية وقالت له: يا سيدي شهاب الدين هل في بيتك مدوراتٍ محشوةٍ بقطاعة فرو السنجاب? فقال لها: نعم يا سيدة الملاح عندي في البيت عشرة مدوراتٍ محشوةٍ بقطاعة فرو السنجاب فبالله عليك ماذا تصنعين بهذه المدورات? فقالت: اصبر عليك حتى ترقد وأجعلها على فمك وأنفك حتى تموت ثم أنها التفتت إلى الدلال وقالت له: يا أنحس الدلالين كأنك مجنون حتى تعرضني منذ ساعةٍ على اثنين من الشيوخ في كل واحد منهما عيبان وبعد ذلك تعرضني على سيدي شهاب الدين وفيه ثلاثة عيوب الأول أنه قصير، والثاني أنه كبير والثالث أن لحيته طويلةٌ وقد قال فيه بعض الشعراء:
ما رأينا ولا سمعنا بشخـصٍ               مثل هذا بين الخلائق أجمـع
فله لحيةٌ طول ذراعٍ وأنـفـه                طول شبر وقامةٌ طول إصبع
فلما سمع التاجر شهاب الدين من الجارية ذلك الكلام نزل من الدكان وأخذ بطرق الدلال وقال له: يا أنحس الدلالين كيف تأتي إلينا بجاريةٍ توبخنا وتهجونا واحداً بعد واحدٍ بالأشعار والكلام الفشار فعند ذلك أخذها الدلال وذهب من بين يديه وقال لها: والله طول عمري وأنا في هذه المهنة ما رأيت جاريةً أقل أدباً منك ولا أنحس علي من نجمك لأنك قطعت رزقي في هذا اليوم ولا ربحت منك إلا الصفح على القفا والأخذ بالطوق ثم أن الدلال وقف بتلك الجارية ليصاعد على تاجرٍ صاحب عبيدٍ وغلمانٍ وقال لها: أتباعين لهذا التاجر سيدي علاء الدين? وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الدلال قال للجارية: أتباعين لسيدي علاء الدين فنظرته فوجدته أحدب فقالت: أن هذا أحدب، وقد قال فيه الشاعر:
قصرت مناكبه وطال قفـاه                  فحكاه شيطانٌ يصادف كوكباً
وكـان قـد ذاق أول مـرةٍ                   وأحس ثانية فصار محدبـاً
فعند ذلك أسرع الدلال إليها وأخذها وأتى بها إلى تاجر آخر وقال لها: أتباعين لهذا? فنظرت إليه فوجدته أعمش فقالت: أن هذا أعمش كيف تبيعني له وقد قال فيه بعض الشعراء:
رمـدٌ أمـراضــه                    هدت قواه لحـينـه
يا قوم قوموا فانظروا             هذا القذى في عينه

فعند ذلك أخذها الدلال وأتى بها إلى تاجر آخر وقال لها أتباعين لهذا? فنظرت إليه فرأت لحيته كبيرة فقالت للدلال: ويلك هذا الرجل كبشٌ ولكن طلع ذيله في حلقه كيف تبعني له يا أنحس الدلالين أما سمعت إن كل طويل الذقن قليل العقل وعلى قدر طول اللحية يكون نقصانٌ في العقل وهذا الأمر مشهورٌ بين العقلاء كما قال فيه بعض الشعراء:
ما رجلٌ طالت له لحـيةٌ            فزادت اللحية في هيبتـه
إلا وما ينقص من عقلـه                    يكون طولاً زاد في لحيته

فعند ذلك أخذها الدلال ورجع بها فقالت له: أين تتوجه? فقال لها: إلى سيدك الأعجمي وكفانا ما جرى لنا بسببك في هذا النهار، وقد تسببت في منع رزقي ورزقه بقلة أدبك ثم أن الجارية نظرت في السوق والتفتت يميناً وشمالاً وخلفاً وأما ما فوقع نظرها بالأمر المقدر على نور الدين علي المصري فرأته شاباً مليحاً نقي الخدر رشيق القد وهو ابن أربع عشرة سنةً بديع الحسن والجمال والدلال كأنه البدر، إذا بدر في ليلة أربعة عشرٍ بجبين أزهرٍ وخدٍ أحمرٍ وعنقٍ كالمرمر وأسنانٍ كالجوهر وريقٍ أحلى من السكر، كما قال فيه بعض واصفيه:
بدت لتحاكي حسنه وجمالـه                بدورٌ وغزلانٌ فقلت لها قفي
رويدك يا غزلان لا تتشيهـي               بهذا ويا أقمار لا تتكلـفـي
وما أحسن قول بعض الشعراء:
ومهفهفٌ من شعره وجبينـه              تغدو الورى ظلمةٌ وضـياء
لا تنكروا الخال الذي في خده              كما الشقيق بنقطةٍ سـوداء

فلما نظرت تلك الجارية إلى نور الدين حال بينها وبين عقلها ووقع في خاطرها موقعاً عظيماً وتعلق قلبها بمحبته.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما رأت علياً نور الدين تعلق قلبها بمحبته فالتفتت إلى الدلال وقالت له: هل هذا الشاب التاجر الذي هو جالس بين التجار وعليه الفرجية الجوخ العود ما راد في تمني شيئاً? فقال لها الدلال: يا سيدة الملاح إن هذا شابٌ غريبٌ مصريٌ والده من أكابر التجار بمصر وله الفضل على جميع تجارها وأكابرها وله مدةٌ يسيرةٌ في هذه المدينة وهو مقيمٌ عند رجلٍ من أصحاب أبيه ولم يتكلم فيك بزيادة لا نقصان.
فلما سمعت الجارية كلام الدلال نزعت من إصبعها خاتم ياقوتٌ وقالت: أوصلني عند هذا الشاب المليح فإن اشتراني كان هذا الخاتم لك في نظير تعبك في هذا اليوم معنا ففرح الدلال وتوجه إلى نور الدين فلما صارت عنده تأملته فرأته كأنه بدر التمام لأنه ظريف الجمال رشيق القد والإعتدال فقالت له: يا سيدي بالله عليك ما أنا مليحةٌ? فقال لها: يا سيدة الملاح، وهل في الدنيا أحسن منك? فقالت له الجارية: ولأي شيءٍ رأيت التجار كلهم زادوا في ثمني، وأنت ساكتٌ ما تكلمت بشيء ولازدت في ثمني ديناراً واحداً كأنني ما عجبتك يا سيدي، فقال لها: يا سيدتي لو كنت في بلدي كنت اشتريتك بجميع ما تملكه يدي من المال فقالت له يا سيدي أنا ما قلت لك اشترني على غير مرادك ولكن لو زدت في ثمني بشيءٍ لجبرت خاطري ولو كنت لا تشتريني لأجل أن تقول التجار: لولا أن هذه الجارية مليحةً ما زاد فيها هذا التاجر المصري لأن أهل مصر لهم خبرةٌ بالجواري فعند ذلك استحى نور الدين من كلام الجارية الذي ذكرته وأحمر وجهه وقال للدلال: كم بلغ ثمن هذه الجارية? قال: بلغ ثمنها تسعمائةٍ وخمسين ديناراً غير الدلالة وأما قانون السلطان فإنه على البائع فقال نور الدين للدلال: خلها علي بالألف دينارٍ دلالةً وثمناً فبادرت الجارية وتركت الدلال وقالت بعت نفسي لهذا الشاب المليح بألف دينار فسكت نور الدين، فقال واحدٌ: بعناه وقال آخر يستاهل وقال آخر: ملعون ابن ملعون من يزود ولا يشتري وقال آخر: والله أنهما يصلحان لبعضهما فلم يشعر نور الدين إلا والدلال أحضر القضاة والشهود وكتبوا عقد البيع والشراء في ورقةٍ وناولها لنور الدين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الدلال ناول ورقة الشراء لنور الدين وقال له: تسلم جاريتك الله يجعلها مباركةٌ عليك فهي ما تصلح إلا لك ولا تصلح أنت إلا لها وأنشد الدلال هذين البيتين:
أتته السعادة منقـادةٌ               إليه تجرجر أذيالهـا
فلم تك تصلح إلا لـه               ولم يك يصلح إلا لها

فعند ذلك استحى نور الدين من التجار وقام من وقته وساعته ووزن الألف دينار التي كان وضعها وديعةً عند العطار صاحب أبيه وأخذ الجارية وأتى بها إلى البيت الذي أسكنه فيه العطار فلما دخلت الجارية البيت رأت فيه بساط خلق ونطعاً عتيقاً فقالت له: يا سيدي هل أنا ما لي منزلةٌ عندك ولا استحق أن توصلني إلى بيتك الأصلي على الذي فيه مصالحك ولأي شيء ما دخلت بي عند أبيك? فقال لها نور الدين: والله يا سيدة الملاح ما هذا بيتي الذي أنا فيه ولكنه ملك الشيخ عطار من أهل هذه المدينة وقد أخلاه لي وأسكنني فيه وقد قلت لك أنني غريبٌ وأنني في أولاد مدينة مصر فقالت له الجارية: يا سيدي أقل البيوت يكفي إلى بلدك ولكن يا سيدي بالله عليك أن تقوم وتأتي لنا بشيءٍ من اللحم المشوي والمدام والنقل والفاكهة فقال لها نور الدين: والله يا سيدة الملاح ما كان عندي من المال غير الألف دينار الذي وزنته في ثمنك ولا أملك غير تلك الدنانير شيئاً من المال وكان معي بعض دراهم صرفتها بالأمس.
فقالت له: أما لك في هذه المدينة صديق تقترض منه خمسين درهماً وتأتيني بها، حتى أقول لك أي شيء تفعل بها، فقال لها: ما لي صديق سوى العطار، ثم ذهب من وقته وتوجه إلى العطار وقال له: السلام عليك يا عم، فرد عليه السلام وقال: يا ولدي أي شيء اشتريت بالألف دينار في هذا اليوم? فقال له: اشتريت بها جاريةً. فقال له: يا ولدي هل أنت مجنون حتى تشتري جاريةً واحدةً بألف دينارٍ? ما جنس هذه الجارية? فقال نور الدين: يا عم أنها جارية من أولاد الفرنج.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد إن نور الدين قال للشيخ العطار إنها جاريةٌ من أولاد الإفرنج. فقال له الشيخ: أعلم يا ولدي أن خيار أولاد الإفرنج عندنا في هذه المدينة ثمنه مائتي دينارٍ ولكن والله يا ولدي قد عملت عليك حيلةً في هذه الجارية فإن كنت أحبتها فبت عندها في هذه الليلة واقض غرضك منها وأصبح أنزل بها السوق وبعها ولو كنت تخسر فيها مائتي دينار وقدر أنها غرفت في البحر أو طلع عليك اللصوص في الطريق.
فقال نور الدين: كلامك صحيحٌ ولكن يا عم أنت تعرف أنه ما كان معي غير الألف دينارٍ التي اشتريت بها الجارية ولم يبق معي شيءٌ أنفقه ولا درهمٌ واحدٌ، وإني أريد من فضلك أن تقرضني خمسين درهماً أنفقها إلى غدٍ فأبيع الجارية وأردها لك من ثمنها. فقال الشيخ: أعطيك يا ولدي على الرأس والعين ثم وزن له خمسين درهماً وقال له: يا ولدي أنت شابٌ صغيرٌ السن وهذه الجارية مليحةٌ وربما تعلق بها قلبك فما يهون عليك أن تبيعها وأنت ما تملك شيئاً تنفقه فتفرغ منك هذه الخمسين درهماً فتأتيني فأقرضك أول مرةٍ وثاني مرةٍ وثالث مرةٍ إلى عشر مراتٍ فإذا أتيتني بعد ذلك فلا أرد عليك السلام الشرعي وتضييع محبتنا مع والدك.
ثم ناوله الشيخ خمسين درهماً فأخذها نور الدين وأتى بها إلى الجارية، فقالت له: يا سيدي رح السوق في هذه الساعة وهات لنا بعشرين درهماً حريراً ملوناً خمسة ألوانٍ وهات لنا بالثلاثين الأخرى لحماً وخبزاً وفاكهةً وشراباً ومشموماً.
فعند ذلك ذهب نور الدين إلى السوق واشترى منه كل ما طلبته تلك الجارية فقامت من وقتها وساعتها وشمرت عن يديها وطبخت طعاماً وأتقنته غاية الإتقان، ثم قدمت له الطعام فأكل وأكلت معه حتى اكتفيا، ثم قدمت المدام وشربت هي وإياه ولم تزل تسقيه وتؤانسه إلى أن سكر ونام، فقامت الجارية من وقتها وساعتها وأخرجت من بقجتها جراباً من أديم طائفي وأخرجت منه مسمارين وقعدت وعملت شغلها إلى أن فرغ فصار زناراً مليحاً فلفته في خرقةٍ بعد صقله وتنظيفه ووضعته تحت المخدة.
ثم قامت وتعرت ونامت بجانب نور الدين وكبسته فانتبه من نومه فوجد بجانبه صبيةً كأنها فضةٌ نقيةٌ أنعم من الحرير وأطرى من الليلة وهي أشهر من علمٍ وأحسن من حمر النعم، خماسية القد قاعدة النهد بحواجب كأنها أقسى من السهام وعيونٍ كأنها عيون غزلان وخدودٍ كأنها شقائق النعمان وبطنٍ خمصية الأعكان وسرةٍ تسع أوقية من دهن البان وفخذان كأنهما مخدتان محشوتان من ريش النعام وبينهما شيءٌ يكل عن وصفه اللسان وتنسكب عند ذكره العبرات.
فعند ذلك التفت نور الدين من وقته وساعته إلى تلك الجارية وضمها إلى صدره ومص شفتها الفوقانية بعد أن مص التحتانية ثم لزق اللسان بين الشفتين وقام إليها مصوباً مدفعه فوجدها درةً ما ثقبت ومطيةً لغيره ما ركبت فأزال عنها بكارتها ونال منها الوصال وانعقدت بينهما المحبة بلا انفكاكٍ ولا انفصال، وتابع في خدها تقبيلاً كوقع الحصى في الماء ورهزاً كعن الرماح في مغارة الشعواء وضم الخصور وعض الخدود وركوب النهود مع حركاتٍ مصريةٍ، وغنجٍ يمانيةٍ وشهيقٍ حبشيةٍ وفتورٍ هنديةٍ وغلمةٍ نوبيةٍ وتضجر ريفيةٍ وأنين دمياطيةٍ وحرارة صعيديةٍ وفترة اسكندرانيةٍ وكانت هذه الجارية جامعةٌ لهذه الخصال مع فرط الجمال والدلال ثم نام نور الدين هو وتلك الجارية إلى الصباح في لذةٍ وانشراح.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين نام هو وتلك الجارية إلى الصباح في لذةٍ وانشراح لابسين حلل العنلق محكمة الأزرار آمنين طوارق الليل والنهار في الوصال كثرة القيل والقال وقد باتا على أحسن حال، ولم يخشيا أحد. فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح انتبه نور الدين من نومه فرآها أحضرت الماء فاغتسل هو وإياها وأدى ما عليه من الصلاة لربه ثم أتته بما تيسر من المأكول والمشروب فأكل وشرب ثم أدخلت الجارية يدها تحت المخدة وأخرجت الزنار الذي صنعته بالليل وناولته إياه وقالت: يا سيدي خذ هذا الزنار، فقال لها من أين هذا الزنار فقالت له: يا سيدي هو الحرير الذي اشتريته البارحة بالعشرين درهماً فقم واذهب به إلى سوق العجم وأعطه للدلال لينادي عليه ولا تبعه إلا بعشرين ديناراً سالمةً.
فقال لها نور الدين: يا سيدة الملاح هل شيءٌ بعشرين درهما يباع بعشرين ديناراً يعمل في ليلةً واحدةٌ? قالت له الجارية: يا سيدي أنت ما تعرف قيمة هذا، ولكن اذهب به السوق وأعطه للدلال فإذا نادى عليه الدلال ظهرت لك قيمته. فعند ذلك أخذ نور الدين الزنار من الجارية وأتى به إلى السوق الأعاجم وأعطى الزنار للدلال وأمره أن ينادي عليه، وقعد نور الدين على مصطبة دكان فغاب الدلال عنه ساعةً ثم أتى إليه وقال له: يا سيدي قم اقبض ثمن زنارك فقد بلغ عشرين ديناراً سالمة ليدك.
فلما سمع نور الدين كلام الدلال تعجب غاية العجب واهتز من الطرب وقام ليقبض العشرين ديناراً وهو ما بين مصدقٍ ومكذبٍ، فلما قبضها ذهب من ساعته واشترى بها كلها حريراً من سائر الألوان لتعمله الجارية كله زنانير ثم رجع إلى البيت وأعطاها الحرير.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما اشترى بالعشرين دينار حريراً أعطاه للجارية وقال لها اعمليه كله زنانير وعلميني أيضاً حتى أعمل معك فأني طول عمري ما رأيت صنعةً أحسن من هذه الصنعة، ولا أكثر مكسباً منها قط وأنها والله أحسن من التجارة بألف مرةٍ فضحكت الجارية من كلامه وقالت له: يا سيدي نور الدين امض إلى صاحبك العطار واقترض منه ثلاثين درهماً وفي غد أدفعها له ثمن الزنار هي والخمسين درهماً التي اقترضتها منه قبلها.
فقام نور الدين وأتى إلى صاحبه العطار وقال له يا عم اقرضني ثلاثين درهماً جملة وفي غد أن شاء الله تعالى أجيء لك بالثمانين درهماً جملةً واحدةً، فعند ذلك وزن له الشيخ العطار ثلاثين درهماً فأخذها نور الدين وأتى بها إلى السوق واشترى بها لحماً وخبزاً ونقلاً وفاكهةً ومشموماً كما فعل بالأمس وأتى بها إلى الجارية وكان اسم تلك الجارية مريم الزنارية فلما أخذت اللحم قامت من وقتها وساعتها وهيأت طعاماً فاخراً ووضعته قدام سيدها نور الدين ثم بعد ذلك هيأت سفرت المدام وتقدمت تشرب هي وإياه وصارت تملأ وتسقيه ويملأ ويسقيها فلما لعب المدام بعقلهما أعجبها حسن لطافته ورقة معانيه فأنشدت هذين البيتين:
أقول لاهـيف حـياً بـكـأس                  لها من مسك نكهتـه خـتـام
أمن خديك تعصر قـال كـلا                 متى عصرت من الورد المدام
ولم تزل تلك الجارية تنادم نور الدين وينادمها وتعطيه الكأس والطاس وتطلب أن يملأ لها ويسقها ما تطيب به الأنفاس وإذا وضع يده عليها تتمنع منه دلالاً وقد زادها السكر حسناً وجمالاً فأنشد هذين البيتين:
وهيفاء تهوى الراح قالت لصبها                   بمجلس أنسٍ وهو يخشى ملالها
إذا لم تدر كأس المدام وتسقنـي           أبيتك مهجور فخاف ملالـهـا

ولم ير إلا كذلك إلى أن غلب عليه السكر ونام فقامت هي من وقتها وساعتها وعملت شغلها في الزنار على جري عادتها ولما فرغت أصلحته ولفته في ورقة ثم نزعت ثيابها ونامت بجانبه إلى الصباح.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم الزنارية لما فرغت من شغل الزنار أصلحته ولفته في ورقة ونزعت ثيابها ونامت بجانبه إلى الصباح وكان بينهما ما كان من الوصل ثم قام نور الدين وقضى شغله وناولته الزنار وقالت له امض إلى السوق وبعه بعشرين ديناراً كما بعت نظيره بالأمس، فعند ذلك أخذه ومضى به إلى السوق وباعه بعشرين ديناراً وأتى إلى العطار ودفع له الثمانين درهماً وشكر فضله ودعا له فقال يا ولدي هل أنت بعت الجارية فقال نور الدين كيف أبيع روحي من جسدي ثم أنه حكى له الحكاية من المبتدأ إلى المنتهى وأخبره بجميع ما جرى له.
ففرح الشيخ العطار بذلك فرحاً شديداً ما عليه من مزيد وقال له والله يا ولدي أنك قد أفرحتني وأن شاء الله أنت بخير دائماً فأني أود لك الخير لمحبتي لوالدك وبقاء صحبتي معه ثم أن نور الدين فارق الشيخ العطار وراح من وقته وساعته إلى السوق واشترى اللحم والفاكهة والشراب وجميع ما يحتاج إليه على جري العادة وأتى به إلى تلك الجارية ولم يزل نور الدين هو والجارية في أكلٍ وشربٍ ولعبٍ وانشراحٍ وودٍ ومنادمةٍ مدة سنةٍ كاملةٍ وهي تعمل في كل ليلةٍ زناراً ويصبح يبيعه بعشرين ديناراً ينفق منها ما يحتاج إليه والباقي يعطيه لها تحفظه عندها إلى وقت الحاجة إليه.
وبعد السنة قالت له الجارية يا سيدي نور الدين إذا بعت الزنار في غد فخذ لي من حقه حريراً ملوناً ستة ألوانٍ فإنه قد خطر ببالي أن أصنع لك منديلاً تجعله على كتفك ما فرحت بمثله أولاد التجار ولا أولاد الملوك فعند ذلك خرج نور الدين إلى السوق وباع الزنار واشترى الحرير الملون كما ذكرت له الجارية وجاء به إليها فقعدت مريم الزنارية تصنع في المنديل جمعةٍ كاملةٍ لأنها كانت كلما فرغت من زنار في ليلةٍ تعمل في المنديل شيئاً إلى أن خلصته وناولته لنور الدين فجعله على كتفه وصار يمشي به في السوق فصار التجار والناس وأكابر البلد يقفون عنده صفوفاً ليتفرجوا على حسنه، وعلى ذلك المنديل وحسن صنعته فاتفق أن نور الدين كان نائماً ذات ليلة من الليالي، فانتبه من منامه فوجد جاريته تبكي بكاءً شديداً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما انتبه من منامه وجد جاريته تبكي بكاءً شديداً وتنشد هذه الأبيات:
دنا فراق الحبيب واقتربـا                   وأحربا للفراق وأحربـا
تفتت مهجتي فوا أسفـي                    على ليالٍ مضت لنا طربا
لا بد أن ينظر الحسود لنا                   بعين سوءٍ ويبلغ الأربـا
فما علينا أضر من حسـدٍ                   ومن عيون الوشاة والرقبا

فقال لها نور الدين يا سيدتي مريم مالك تبكي فقالت له أبكي من ألم الفراق فقد أحس قلبي به فقال لها يا سيدة الملاح ومن الذي يفرق بيننا وأنا الآن أحب الخلق إليك وأعشقهم لك فقالت له إن عندي أضعاف ما عندك ولكن حسن الظن بالليالي يوقع الناس في الأسف فإذا كنت تحرص على عدم الفراق فخذ حذرك من رجل إفرنجي أعور العين اليمنى وأعرج الرجل الشمال وهو شيخ أغبر الوجه مكلثم اللحية لأنه هو الذي يكون سبباً لفراقنا وقد رأيته أتى في تلك المدينة وأظن أنه ما جاء إلا في طلبي فقال لها نور الدين يا سيدة الملاح أن وقع بصري عليه قتلته ومثلت به فقالت له مريم يا سيدي لا تقتله ولا تكلمه ولا تبايعه ولا تشاوره ولا تعامله ولا تجالسه ولا تماشه ولا تتحدث معه بكلامٍ قط وادع الله أن يكفينا شره ومكره.
فلما أصبح الصباح أخذ نور الدين الزنار وذهب به إلى السوق وجلس على مصطبة دكان يتحدث هو وأولاد التجار فأخذته سنة من النوم فنام على مصطبة الدكان، فبينما هو نائم وإذا بذلك الإفرنجي مر على ذلك السوق في تلك الساعة ومعه سبعةٌ من الإفرنج فرأى نور الدين نائماً على مصطبة الدكان ووجهه ملفوفٌ بذلك المنديل وطرفه في يده فقعد الإفرنجي عنده وأخذ طرف المنديل وقلبه في يده واستمر يقلب فيه ساعةً فأحس به نور الدين فأفاق من النوم فرأى الإفرنجي الذي وصفته الجارية بعينه جالساً عند رأسه فصرخ عليه نور الدين صرخةً عظيمةً أرعبته فقال له الإفرنجي لأي شيء تصرخ علينا هل نحن أخذنا منك شيئاً فقال له نور الدين والله يا ملعون لو كنت أخذت شيئاً لكنت ذهبت بك إلى الوالي فقال له الإفرنجي يا مسلم بحق دينك وما تعتقده أن تخبرني من أين هذا المنديل فقال له نور الدين هو شغل والدتي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الإفرنجي لما سأل نور الدين عن الذي عمل المنديل، قال له إن هذا المنديل شغل والدتي عملته لي بيدها فقال له الإفرنجي أتبيعه لي وتأخذ ثمنه مني فقال له نور الدين والله يا ملعون لا أبيعه لك ولا لغيرك فإنها ما عملته إلا على اسمي ولم تعمل غيره فقال له بعه لي وأنا أعطيك ثمنه في هذه الساعة خمسمائة دينارٍ ودع الذي عملته تعمل لك غيره أحسن منه فقال له نور الدين: أنا ما أبيعه أبداً لأنه لا نظير له في هذه المدنية فقال له الإفرنجي يا سيدي وهل تبيعه بستمائة دينار من الذهب الخالص ولم يزل يزيده مائةً بعد مائةٍ إلى أن أوصله إلى تسعمائة دينار.
فقال له نور الدين يفتح الله علي بغير بيعةٍ أنا ما أبيعه ولا بألفي دينارٍ ولا بأكثر أبداً ولم يزل ذلك الإفرنجي يرغب نور الدين بالمال في ذلك المنديل إلى أن أوصله إلى ألف دينارٍ فقال له جماعةٌ من التجار الحاضرين نحن بعناك هذا المنديل فادفع ثمنه فقال له نور الدين أنا ما أبيعه والله فقال له تاجر من التجار أعلم يا ولدي أن هذا المنديل قيمته مائة دينارٍ أن كثرت وأن وجد له راغب وأن هذا الإفرنجي دفع فيه ألف دينار جملة فربحه تسعمائة دينارٍ فأي ربح تريد أكثر من هذا الربح فالرأي عندي أنك تبيع هذا المنديل وتأخذ الألف دينار وتقول للذي عملته لك تعمل لك غيره أو أحسن منه واربح أنت الألف دينارٍ من هذا الإفرنجي المنديل بألف دينارٍ ودفع له الثمن في الحضرة وأراد نور الدين أن ينصرف ويمضي إلى جاريته مريم ليبشرها بما كان من أمر الإفرنجي.
فقال الإفرنجي يا جماعة التجار احجزوا نور الدين فإنكم وإياه ضيوفي في هذه الليلة فإن عندي خابية خمر رومي من معتق الخمر وخروفاً سميناً وفاكهةً ونقلاً ومشموماً فأنتم تؤانسوننا في هذه الليلة ولا يتأخر أحدٌ منكم فقال التاجر يا سيدي نور الدين نشتهي أن تكون معنا في مثل هذه الليلة لنتحدث وإياك فمن فضلك وإحسانك أن تكون معنا فنحن وإياك ضيوفٌ عند هذا الإفرنجي لأنه رجلٌ كريمٌ ثم أنهم حلفوا عليه بالطلاق ومنعوه بالإكراه عن الرواح إلى بيته ثم قاموا من وقتهم وساعتهم وقفلوا الدكاكين وأخذوا نور الدين معهم وراحوا مع الإفرنجي إلى قاعةٍ مطيبةٍ رحيبةٍ بلوانين فأجلسهم فيها ووضع بين أيديهم سفرة غريبة الصنع بديعة العمل فيها صورة كاسرٌ ومكسور وعاشقٌ ومعشوق وسائلٌ ومسؤول ثم وضع الإفرنجي على تلك السفرة الأواني النفيسة من الصيني والبلور وكلها مملوءة بنفائس النقل والفاكهة والمشموم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الإفرنجي لما وضع السفرة وعليها أواني صيني وبلور مملوءة بنفائس النقل والفاكهة والمشموم ثم قدم لهم الإفرنجي خابية ملآنة بالخمر الرومي المعتق وأمر بذبح خروف سمين ثم أن الإفرنجي أوقد النار وصار يشوي من ذلك اللحم ويطعم التجار ويسقيهم من ذلك الخمر ويغمزهم على نور الدين أن ينزلوا عليه بالشراب فلم يزالوا يسقونه حتى سكر وغاب عن وجوده فلما رآه الإفرنجي مستغرقاً في السكر قال آنست يا سيدي نور الدين في هذه الليلة فمرحبا بك وصار الإفرنجي يؤانسه بالسلام ثم تقرب منه وجلس بجانبه وسارقه في الحديث ساعةً زمانيةً.
ثم قال له يا سيدي نور الدين هل تبيعني جاريتك التي اشتريتها بحضرة هؤلاء التجار بألف دينارٍ من مدة سنةٍ وأنا أعطيك في ثمنها الآن خمسة آلاف دينارٍ فأبى نور الدين ولم يزل ذلك الإفرنجي يطعمه ويسقيه ويرغبه في المال حتى أوصل الجارية إلى عشرة آلاف دينارٍ فقال نور الدين وهو في سكره قدام التجار بيعتك إياها هات عشرة آلاف دينار ففرح الإفرنجي بذلك القول فرحاً شديداً وأشهد عليه التجار وباتوا في أكلٍ وشربٍ وانشراحٍ إلى الصباح ثم صاح الإفرنجي على غلمانه وقال لهم ائتوني بالمال فأحضروا له المال فعد نور الدين العشرة آلاف دينار نقداً وقال له يا سيدي نور الدين تسلم هذا المال ثمن جاريتك التي بعتها في الليلة الماضية بحضرة هؤلاء التجار المسلمين.
فقال نور الدين يا ملعون أنا ما بعتك شيئاً وأنت تكذب علي وليس عندي جوار فقال له الإفرنجي لقد بعتني جاريتك وهؤلاء التجار يشهدون عليك بالبيع فقال التجار كلهم نعم يا نور الدين أنت بعته جاريتك قدامنا ونحن نشهد عليك أنك بعته إياها بعشرة آلاف دينار ثم قم اقبض الثمن وسلم إليه الجارية والله يعوضك خيراً منها أتكره يا نور الدين أنك اشتريت جارية بألف دينار ولك سنة ونصف تتمتع بحسنها وجمالها وتتلذذ في كل ليلةٍ بمنادمتها ووصالها وبعد ذلك ربحت من هذه الجارية تسعة آلاف دينار فوق ثمنها الأصلي وفي كل يوم تعمل لك زناراً تبيعه بعشرين ديناراً.
وبعد ذلك كله تنكر البيع وتستقل الربح أي ربح أكثر من هذا الربح وأي مكسبٍ أكثر من هذا المكسب فإن كنت تحبها فها أنت قد شبعت منها في هذه المدة فاقبض الثمن واشتري غيرها أحسن منها أو نزوجك بنتاً من بناتنا بمهر أقل من نصف هذا الثمن وتكون البنت أجمل منها ويصير معك باقي المال رأس مال في يدك ولم يزل التجار يتكلمون مع نور الدين بالملاطفة والمخادعة إلى أن قبض العشرة آلاف دينار ثمن الجارية وأحضر الإفرنجي من وقته وساعته القضاة والشهود فكتبوا له حجة باشتراء الجارية التي اسمها مريم الزنارية من نور الدين، هذا ما كان من أمر نور الدين.
وأما ما كان من أمر مريم الزنارية فإنها قعدت تنتظر سيدها جميع ذلك اليوم إلى المغرب ومن المغرب إلى نصف الليل فلم يعد إليها سيدها فحزنت وصارت تبكي بكاءً شديداً فسمعها الشيخ العطار وهي تبكي فأرسل إليها زوجته فدخلت عليها فرأتها تبكي فقالت لها: يا سيدتي ما لك تبكين? فقالت لها: يا أمي إني قعدت انتظر مجيء سيدي نور الدين فما جاء إلى هذا الوقت وأنا خائفةٌ أن يكون أحدٌ عمل عليه حيلةً من أجلي لأجل أن يبيعني فدخلت عليه بالحيلة وباعني.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم الزنارية قالت لزوجة العطار: أنا خائفةٌ أن يكون أحدٌ عمل على سيدي حيلة من شأني لأجل أن يبيعني فدخلت عليه الحيلة وباعني فقالت لها زوجة العطار: يا سيدتي مريم لو أعطوا سيدك فيك ملء هذه القاعة ذهباً لم يبعك لما أعرفه من محبته لك ولكن يا سيدتي مريم ربما يكون جماعةً أتوا من مدينة مصر من عند والديه فعمل لهم عزومه في المحل الذي هم نازلون فيه واستحى أن يأتي بهم إلى هذا المحل لأنه لا يسعهم ولأن مرتبتهم أقل من أن يجيء بهم إلى البيت أو أحب أن يخفي أمرك عنهم فبات عندهم إلى الصباح ويأتي إن شاء الله تعالى إليك في الغد بخير فلا تحمل نفسك هماً ولا غماً يا سيدتي فهذا سبب غيابه عنك في هذه الليلة وها أنا أبيت عندك في هذه الليلة وأسليك إلى أن يأتي إليك سيدك ثم أن زوجه العطار صارت تلهي مريم وتسليها بالكلام إلى أن ذهب الليل كله.
فلما أصبح الصباح نظرت مريم سيدها نور الدين وهو داخل من الزقاق وذلك الإفرنجي وراءه وجماعة التجار حواليه فلما رأتهم مريم ارتعدت فرائصها واصفر لونها وصارت ترتعد كأنها سفينةٌ في وسط بحرٍ مع شدة الريح فلما رأتها امرأة العطار قالت لها: يا سيدتي مريم ما لي أراك قد تغير حالك واصفر لونك وازداد بك الذهول? فقالت لها الجارية: يا سيدتي والله أن قلبي قد أحس بالفراق وبعد التلاق ثم إن مريم الزنارية بكت بكاءً شديداً ما عليه من مزيد وتيقنت الفراق وقالت لزوجة العطار: يا سيدتي أما قلت لك أن سيدي نور الدين قد عملت عليه حيلةٌ من أجل بيعي فما أشك أنه باعني في هذه الليلة لهذا الإفرنجي وقد كنت حذرته منه ولكن لا ينفع حذر من قدر فقد بان لك صدق قولي فبينما هي وزوجة العطار في الكلام وإذا بسيدها نور الدين دخل عليها في تلك الساعة فنظرت إليه الجارية فرأته قد تغير لونه وارتعدت فرائصه ويلوح على وجهه أثر الحزن والندامة فقالت له: يا سيدي نور الدين كأنك بعتني، فبكى بكاءً شديداً وتاه وتنفس الصعداء، وأنشد هذه الأبيات:
هي المقادير فما يغني الـحـذر             إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
إذا أراد اللـه أمـراً بـأمـرئ                 وكان ذا عقلٍ وسمعٍ وبـصـر
أصم أذنـيه وأعـمـى عـينـه                وسل منه عقله سل الـشـعـر
حتى إذا أنفـذ فـيه حـكـمـه                 رد إليه عقـلـه لـيعـتـبـر
فلا تقل فيما جرى كيف جـرى             فكل شيءٍ بـقـضـاء وقـدر

ثم أن نور الدين اعتذر إلى الجارية وقال لها: والله يا سيدتي مريم أنه قد جرى القلم بما حكم الله، والناس قد عملوا علي حيلةً من أجل بيعك فدخلت علي الحيلة فبعتك وقد فرطت فيك أعظم تفريطٍ ولكن عسى من حكم بالفراق أن يمن بالتلاق، فقالت له: قد حذرتك من هذا وكان في وهمي، ثم ضمته إلى صدرها وقبلته ما بين عينيه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما ضمت نور الدين وقبلته ما بين عينيه أنشدت هذه الأبيات:
وحق سواكم ما سلوت ودادكـم           ولو تلفت روحي هوىً وتشوقا
أنوح وأبكـي كـل يومٍ ولـيلةٍ               كما ناح قمري على شجر النقا
تنغص عيشي بعدكم يا أحبتـي             متى غبتم عني فما لي ملتقـى

فبينما هي على هذه الحالة وإذا بالإفرنجي قد طلع عليهما وتقدم ليقبل أيادي السيدة مريم فلطمته بكفها على خده وقالت له: ابعد يا ملعون فما زلت ورائي حتى خدعت سيدي ولكن يا ملعون إن شاء الله تعالى لا يكون الأخير، فضحك الإفرنجي من قولها وتعجب من فعلها واعتذر إليها وقال لها: يا سيدتي مريم أي شيءٍ ذنبي أنا وإنما سيدك نور الدين هذا هو الذي باعك برضا نفسه وطيب خاطره وأنه وحق المسيح لو كان يحبك ما فرط فيك ولولا أنه فرغ غرضه منك ما باعك.
وكانت هذه الجارية بنت ملك إفرنجة وهي مدينةٌ واسعة الجهات كثيرة الصنائع والغرائب والبنات تشبه مدينة القسطنطينية وقد كان لنزوح تلك الجارية من عند أبيها وأمها سبباً عجيبا وأمراً غريباً وذلك أنها تربت عند أبيها وأمها في العز والدلال وتعلمت الفصاحة والكتابة والفروسية والشجاعة وتعلمت جميع الصنائع مثل الزركشة والخياطة والحياكة وصنعة الزنار والعقادة ورمي الذهب على الفضة والفضة على الذهب وتعلمت جميع صنائع الرجال والنساء حتى صارت فريدة زمانها ووحيدة عصرها وأوانها، وقد أعطاها الله من الحسن والجمال والظرف والكمال ما فاقت به على جميع أهل عصرها فخطبها ملوك الجزائر من أبيها وكان كل من خطبها منه يأبى أن يزوجها له لأنه كان يحبها حباً عظيماً ولا يقدر على فراقها ساعةً واحدةً ولم يكن عنده بنتٌ غيرها وكان له من الأولاد الذكور كثير ولكنه كان مشغوفاً بحبها أكثر منهم، فاتفق أنها مرضت بعض السنين مرضاً شديداً حتى أشرفت على الهلاك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم مرضت مرضاً شديداً حتى أشرفت على الهلاك فنذرت على نفسها أنها إذا عوفيت من هذا المرض تزور الدير الفلاني في الجزيرة الفلانية وكان ذلك الدير معظماً عندهم وينذرون له النذور ويتبركون به، فلما عوفيت مريم من مرضها أرادت أن توفي نذرها الذي نذرته على نفسها لذلك الدير فأرسلها والدها ملك الإفرنجة إلى تلك الدير في مركبٍ صغيرٍ وأرسل معها بعضٌ من بنات أكابر المدينة ومن البطارقة لأجل خدمتها.
فلما قربت من الدير استقلت مركباً من مراكب المسلمين والمجاهدين في سبيل الله فأخذوا جميع ما في المركب من البطارقة والبنات والأموال والتحف فباعوا ما أخذوه في مدينة القيروان فوقعت مريم في يد رجلٍ أعجمي تاجرٍ من التجار وقد كان ذلك الأعجمي عنيناً لا يأتي النساء ولم تنكشف له عورةٌ على امرأة فجعلها للخدمة.
ثم أن ذلك الأعجمي مرض مرضاً شديداً حتى أشرف على الهلاك وطال عليه المرض مدة شهورٍ فخدمته مريم وبالغت في خدمته إلى أن عافاه الله من مرضه فتذكر ذلك الأعجمي منها الشفقة والحنية عليه والقيام بخدمته فأراد أن يكافئها على ما فعلته معه من الجميل فقال لها: تمني يا مريم فقالت: يا سيدي تمنيت عليك أن لا تبيعني إلا لمن أريده وأحبه، فقال لها: نعم لك على ذلك يا مريم ما أبيعك إلا لمن تريدينه وقد جعلت بيعك بيدك ففرحت فرحاً شديداً، وكان الأعجمي قد عرض عليها الإسلام فأسلمت وعلمها العبادات فتعلمت من ذلك الأعجمي في تلك المدة أمر دينها وما وجب عليها وحفظها القرآن وما تيسر من العلوم الفقهية والأحاديث النبوية، فلما دخل بها مدينة إسكندرية باعها لمن أرادته وجعل بيعها بيدها كما ذكرنا فأخذها علي نور الدين كما أخبرنا، هذا سبب خروجها من بلادها.
وأما ما كان من أمر أبيها ملك إفرنجة فإنه لما بلغه أمر ابنته ومن معها قامت عليه القيامة وأرسل خلفها المراكب وصحبتهم البطارقة والفرسان والرجال الأبطال فلم يقعوا لها على خبر بعد التفتيش في جزائر المسلمين ورجعوا إلى أبيها بالويل والثبور وعظائم الأمور.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم لما فقدت أرسل أبيها خلفها الرجال والأبطال فلم يقعوا لها على خبر بعد التفتيش عليها فحزن أبوها حزناً شديداً فأرسل وراءها ذلك الأعور اليمين والأعرج الشمال لأنه كان أعظم وزرائه وكان جباراً عنيداً ذو حيلٍ وخداعٍ وأمره أن يفتش عليها في جميع بلاد المسلمين ويشتريها ولو بملء مركبٍ ذهباً، ففتش عليها ذلك الملعون في جزائر البحار وسائر المدن فلم يقع لها على خبر إلى أن وصل إلى مدينة إسكندرية وسأل عنها فوقع على خبرها عند نور الدين المصري فجرى له ما جرى وعمل عليه حيلةً حتى اشتراها منه كما ذكرنا بعد الاستدلال عليها بالمنديل الذي لا يحسن صنعته غيرها.
وكان قد وصى التجار واتفق على خلاصها بالحيلة، فلما صارت عنده مكثت في بكاءٍ وعويلٍ فقال لها: يا سيدتي مريم خلي عنك هذا الحزن والبكاء وقومي معي إلى مدينة أبيك ومحل مملكتك ومنزل عزك ووطنك لتكوني بين خدمك وغلمانك واتركي هذا الذل وهذه الغربة ويكفي ما حصل لي من التعب والسفر من أجلك وصرف أموالٍ، فإن لي في التعب والسفر نحو سنة ونصف وقد أمرني والدك أن أشتريك ولو بملء مركب ذهباً ثم إن وزير ملك إفرنجة صار يقبل قدميها ويتخضع لها ولم يزل يكرر تقبيل يديها وقدميها ويزداد غضبها عليه كلما فعل ذلك أدباً معها وقالت له: يا ملعون إن شاء الله تعالى لا يبلغك ما في مرادك.
ثم قدم إليها الغلمان في تلك الساعة بغلةً بسرجٍ مزركشٍ وأركبوها عليه ورفعوا فوق رأسها سحابة من حريرٍ بعواميدٍ من ذهب وفضة وصار الإفرنج يمشون حولها حتى طلعوا بها من باب البحر وأنزلوها فيها فعند ذلك نهض الوزير الأعور وقال لبحرية المركب: ارفعوا الصاري فرفعوه من وقتهم وساعتهم ونشروا القلوع والأعلام ونشروا القطن والكتان وعملوا المقاذيف وسافرت بهم تلك المركب هذا كله ومريم تنظر إلى ناحية إسكندرية حتى غابت عن عينها فصارت تبكي في سرها بكاءً شديداً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم الزنارية صارت تنظر إلى ناحية إسكندرية حتى غابت عن عينيها فبكت وانتحبت وسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
أيا منزل الأحباب هل لك عـودةٌ            إلينا وما حلمي بما الله صـانـع
فسارت بنا سفن الفراق وأسرعت                  وطرف قريح قد محته المدامـع
لفرقة خلٍ كان غاية مقـصـدي             به يشتفي سقمي وتمحى المواجع
إلا يا إلهي كن عليه خلـيفـتـي              فعنـد يومٍ لا تـضـيع الـودائع
ولم تزل كلما تذكرته تبكي وتنوح فأقبل عليها البطارقة يلاطفونها فلم تقبل منهم كلاماً بل شغلها داعي الوجد والغرام، ثم أنها بكت وأنّت واشتكت وأنشدت هذه الأبيات:
لسان الهوى في مهجتي لك ناطقٌ                  يخبر عني أنني لـك عـاشـقٌ
ولي كبد جمر الهوى قد أذابـهـا                    وقلبي جريحٌ من فراقك خافـق
وكم أكتم الحب الذي قد أذابـنـي           فجفني قريح والدموع سـوابـق

ولم تزل مريم على هذه الحالة لا يقر لها قرار ولا يطاوعها اصطبار مدة سفرها، هذا ما كان من أمرها هي والوزير الأعور.
وأما ما كان من أمر نور الدين علي المصري ابن تاج الدين فإنه بعد نزول مريم المركب وسفرها ضاقت عليه الدنيا وصار لا يقر له قراراً ولا يطاوعه اصطبار فتوجه إلى القاعة التي كان مقيماً بها هو ومريم، فرآه في وجهه سوداء مظلمة ورأى العدة التي كانت تشتغل عليها الزنانير وثيابها التي كانت على جسدها فضمها إلى صدره وبكى وفاضت من جفنه العبرات، وأنشد هذه الأبيات
ترى هل يعود الشمل بعد تشتتـي                   وبعد توالي حسرتي وتلـفـتـي
فهيهات ما قد كان ليس بـراجـعٍ                    فيا هل ترى أحظى بوصل حبيبتي
ويا هل ترى قد يجمع الله شملنـا                    وتذكر أحبابي وعهود مـودتـي
ويحفظ ودي من بجهلي أضعـتـه                   ويرعى عهودي ثم سالف صحبتي
فما أنا إلا ميت بعـد بـعـدهـم               وهل ترتضي الأحباب يوماً منيتي
فيا أسفي إن كان يجد تـأسـفـي            لقد ذبت وجداً من تزايد حسراتي
وضاع زمانٌ كان فيه تواصـلـي           فيا هل ترى دهري يجود بمنيتـي
فيا قلب زد وجداً ويا عين اهملـي                   دموعاً ولا تبقى الدموع بمقلتـي
ويا بعد أحبابي وفقد تـصـبـري            وقد قل أنصاري وزادت بلـيتـي
سألت الله رب العالمين يجود لـي                    بعود حبيبي والوصال كعـادتـي
ثم أن نور الدين بكى بكاءً شديداً ما عليه من مزيد، ونظر إلى زوايا القاعة وأنشد هذين البيتين:
أرى آثارهم فأذوب شـوقـاً                 وأجري في مواطنهم دموعي
وأسأل من قضى بالبعد عنهم              يمن علي يوماً بالـرجـوع

ثم أن نور الدين نهض من وقته وساعته وقفل باب الدار وخرج يجري إلى البحر وصار يتأمل في موضع المركب التي سافرت بمريم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما خرج يجري إلى البحر صار يتأمل في موضع المركب التي سافرت بمريم ثم بكى وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
سلامٌ عليك ليس لي عنكـم غـنـى                   وإني على الحالين في القرب والبعد
أحن إلـيكـم كـل وقـتٍ وسـاعةٍ             واشتاقكم شوق العطاش إلى الورد
وعندكم سمعي ولبـي ونـاظـري                    وتذكاركم عندي ألذ من الـشـهـد
فيا أسفي لما استقلـت ركـابـكـم            وحادت بكم تلك السفينة عن قصـد

ثم أن نور الدين ناح وبكى وأن واشتكى ونادى: يا مريم، يا مريم هل كانت رؤيتي لك في المنام أم أضغاث أحلام فبينما نور الدين على هذه الحالة يبكي ويقول: يا مريم، يا مريم وإذا بشيخٍ قد طلع من مركبٍ وأقبل عليه فرآه يبكي وينشد هذين البيتين:
يا مريم الحسن عودي أن لي مقلا                  سحائب المزن تجري من سواكبها
واستخبري عذلي دون الآنام تـري                 أجفان عيني غرقى في كواكبهـا
فقال الشيخ: يا ولدي كأنك تبكي على الجارية التي سافرت البارحة مع الإفرنجي فلما سمع نور الدين كلام الشيخ خر مغشياً عليه ساعةً زمانيةً، ثم أفاق وبكى بكاءً شديداً ما عليه من مزيد وأنشد هذه الأبيات:
فهل بعد هذا البعد يرجى وصالـهـا                 ولذة أنسي قد يعـود كـمـالـهـا
فإن في قلـبـي لـوعةً وصـبـابةً            ويزعجني قبل الوشاة وقـال لـهـا
أقيم نهـاري بـاهـتـاً مـتـحـيراً              وفي الليل أرجو أن يزور خيالـهـا
فو الله لا أسلو عن العشـق سـاعةً                 وكيف ونفسي في الوشاة ملالـهـا
منعمة الأطراف مهضومة الحـشـا                  لها مقلةٌ في القلب مني نبـالـهـا
يحاكي قضيب البان في الروض قدها               ويخجل ضوء الشمس حسناً جمالهـا
ولولا أخاف الـلـه جـل جـلالـه             لقلت لذات الحسن جل جـلالـهـا

فلما نظر ذلك الشيخ إلى نور الدين ورأى جماله وقده واعتداله وفصاحة لسانه ولطف اقتنائه حزن قلبه عليه ورق لحاله وكان ذلك الشيخ رئيس مركب مسافرة إلى مدينة تلك الجارية وفيها مائة تاجرٍ من تجار المسلمين المؤمنين فقال له: اصبر ولا يكون إلا خيراً فإن شاء الله سبحانه وتعالى أوصلك إليها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الريس لما قال لنور الدين: أنا أوصلك إليها إن شاء الله تعالى قال له نور الدين: متى السفر? قال الريس: بعد ثلاثة أيامٍ تسافر في خير وسلامةٍ فلما سمع نور الدين كلام الريس فرح فرحاً شديداً وشكر فضله وإحسانه ثم إن نور الدين طلع من وقته وساعته وتوجه إلى السوق وأخذ منه جميع ما يحتاج إليه من الزاد وأدوات السفر وأقبل على ذلك الريس.
فلما رآه قال: يا ولدي ما هذا الذي معك? قال: زوادتي وما أحتاج إليه في السفر فضحك الريس من كلامه وقال له: يا ولدي هل أنت رائحٌ تتفرج على عمود السوارتي إن بينك وبين مقصدك مسيرة شهرين إذا طاب الريح وصفت الأوقات ثم أن ذلك الشيخ أخذ من نور الدين شيئاً من الدراهم وطلع إلى السوق واشترى له جميع ما يحتاج إليه في السفر على قدر كفايته وملأ له خابية ماء حلوٍ ثم أقام نور الدين في المركب ثلاثة أيام إلى أن تجهز التجار وقضوا مصالحهم ونزلوا في المركب ثم حل الريس قلوعها وساروا مدة إحدى وخمسين يوماً.
وبعد ذلك خرج عليهم القرصان قطاع الطريق فنهبوا المركب وأسروا جميع من فيها وأتوا بهم إلى مدينة إفرنجة وعرضوهم على الملك وكان نور الدين من جملتهم فأمر الملك بحبسهم، وفي وقت نزولهم من عند الملك إلى الحبس وصل الغراب الذي فيه الملكة مريم الزنارية مع الوزير الأعور فلما وصل الغراب إلى المدينة طلع الوزير إلى الملك وبشره بوصول ابنته مريم الزنارية سالمةً فدقوا البشائر وزينوا المدينة بأحسن زينةٍ وركب الملك في جميع عسكره وأرباب دولته وتوجهوا إلى البحر ليقابلوها فلما وصلت المركب طلعت ابنته مريم فعانقها وسلم عليها وسلمت عليه وقدم لها جواداً فركبته فلما وصلت إلى القصر قابلتها أمها وعانقتها وسلمت عليها وسلمت عليها وسألتها عن حالها وهل هي بكر مثل ما كانت عندهم سابقاً أم صارت امرأةً ثيباً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أم مريم لما سألتها عن حالها وهل هي ثيباً أم بكر فقالت لها مريم: يا أمي بعد أن يباع الإنسان في بلاد المسلمين من تاجرٍ إلى تاجرٍ يصير محكوماً عليه كيف يبقى بنتاً بكراً? إن التاجر الذي اشتراني هددني بالضرب واكرهني وأزال بكارتي وباعني لآخر وآخر باعني لآخر. فلما سمعت أمها منها ذلك الكلام صار الضياء في وجهها ظلاماً ثم أعادت على أبيها هذا الكلام فصعب ذلك عليه وعظم أمر حاله به وعرض حالها على أرباب دولته وبطارقته فقالوا له: أيها الملك إنها تنجست من المسلمين وما يطهرها إلا ضرب مائة رقبةٍ من المسلمين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرهبان قالوا: ما يطهرها إلا ضرب مائة رقبةٍ من المسلمين فعند ذلك أمر بإحضار الأسارى الذين في الحبس فأحضروهم جميعاً بين يديه ومن جملتهم نور الدين فأمر الملك بضرب رقابهم فأول من ضربوا رقبته ريس المركب ثم ضربوا رقاب التجار واحداً بعد واحدٍ حتى لم يبق إلا نور الدين فشرطوا ذيله وعصبوا عينيه وقدموه إلى نطع الدم وأرادوا أن يضربوا رقبته وإذا بامرأةٍ عجوزٍ أقبلت على الملك في تلك الساعة وقالت له: يا مولاي أنت كنت نذرت لكل كنيسةٍ خمسة أسارى من المسلمين إن رد الله بنتك مريم لأجل أن تساعدوا في خدمتها والآن قد وصلت إليك ابنتك السيدة مريم فأوف بنذرك الذي نذرته، فقال لها الملك: يا أمي وحق المسيح والدين الصحيح لم يبق عندي من الأسارى غير هذا الأسير الذي يريدون قتله فخذيه معك يساعدك في خدمة الكنيسة إلى أن يأتي إلينا أسارى من المسلمين فأرسل إليك أربعةً أخر ولو كنت سبقت قبل أن يضربوا رقاب هؤلاء الأسارى لأعطيناك كل ما تريدينه فشكرت العجوز صنيع الملك ودعت له بدوام العز والبقاء والنعم ثم تقدمت العجوز من وقتها وساعتها إلى نور الدين وأخرجته من نطع الدم ونظرت إليه فرأته شاباً لطيفاً ظريفاً رقيق البشرة ووجهه كأنه البدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر فأخذته ومضت به إلى الكنيسة وقالت له: يا ولدي أقلع ثيابك التي عليك فأنها لا تصلح إلا لخدمة السلطان.
ثم أن العجوز جاءت لنور الدين بجبةٍ من صوفٍ أسودٍ ومئزرٍ من صوفٍ أسودٍ وسيرٍ عريضٍ فألبسته تلك الجبة وعممته بالمئزر وشدت وسطه بالسير وأمرته أن يخدم الكنيسة مدة سبعة أيامٍ فبينما هو كذلك وإذا بتلك العجوز قد أقبلت عليه وقالت له: يا معلم خذ ثيابك الحرير وألبسها وخذ هذه العشرة دراهم وأخرج في هذه الساعة تفرج في هذا اليوم ولا تقف هنا ساعةً واحدةً لئلا تروح روحك فقال لها نور الدين: يا أمي أي شيءٍ الخبر? فقالت له العجوز: اعلم يا ولدي إن بنت الملك السيدة مريم الزنارية تريد أن تدخل الكنيسة في هذا الوقت لأجل أن تزورها وتتبرك بها وتقرب لها قرباناً حلاوة السلامة بسبب خلاصها من المسلمين وتوفي لها النذور التي نذرتها أن نجاها المسيح ومعها أربعمائة بنت ما واحدة منهن إلا كاملة في الحسن والجمال ومن جملتهن بنت الوزير وبنات الأمراء وأرباب الدولة وفي هذه الساعة يحضرون وربما يقع نظرهن عليك في هذه الكنيسة فيقطعنك بالسيوف فعند ذلك أخذ نور الدين من العجوز العشرة دراهم بعد أن لبس ثيابه وخرج إلى السوق وصار يتفرج في شوارع المدينة حتى عرف جهاتها وأبوابها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما لبس ثيابه أخذ العشرة دراهم من العجوز ثم خرج إلى السوق وغاب ساعة حتى عرف جهات المدينة ثم رجع إلى الكنيسة فرأى مريم الزنارية بنت ملك إفرنجة قد أقبلت على الكنيسة ومعها أربعمائة بنتٍ نهداً أبكارٌ كأنهن الأقمار ومن جملتهن بنت الوزير الأعور وبنات الأمراء وأرباب الدولة وهي تمشي بينهن كأنها القمر بين النجوم، فلما وقع نظر نور الدين عليها لم يتمالك نفسه بل صرخ من صميم قلبه وقال: يا مريم، يا مريم.
فلما سمعن البنات صياح نور الدين وهو ينادي يا مريم هجمن عليه وجردن بيض الصفاح مثل الصواعق وأردن قتله في تلك الساعة فالتفتت إليه مريم وتأملته فعرفته غاية المعرفة فقالت للبنات: اتركن هذا الشاب فإنه مجنون بلا شك لأن علامة الجنون لائحةٌ على وجهه فلما سمع نور الدين من السيدة مريم هذا الكلام كشف رأسه وحملق عينيه وأشاح بيديه وعوج رجليه وأخرج الزبد من فيه وشدقيه فقالت لهن السيدة مريم: أما قلت لكّن إن هذا مجنون أحضرن به ابعدن عنه حتى أسمع ما يقول فإني أعرف كلام العرب وأنظر حاله وهل داء جنونه يقبل المداواة أم لا، فعند ذلك حملنه البنات وجئن به بين يديها ثم بعدن عنه فقالت له: هل جئت إلى هنا من أجلي وخاطرت بنفسك وعملت نفسك مجنوناً? فقال لها نور الدين يا سيدتي أما سمعت قول الشاعر:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم                    ما لذة العيش إلا للمـجـانـين
هاتوا جنوني وهاتوا من جننت به                  فإن وفي بجنوني لا تلومونـي

فقالت له مريم: والله يا نور الدين أنك الجاني على نفسك فإني حذرتك من هذا قبل وقوعه فلم تقبل قولي وتبعت هوى نفسك وأنا ما أخبرتك لا من باب الكشف ولا من باب الفراسة ولا من باب الرؤية في المنام وإنما هو من باب المشاهدة والعيان لأني رأيت الوزير الأعور فعرفت أنه ما دخل في هذه البلدة إلا في طلبي فقال لها نور الدين: يا سيدتي مريم نعوذ بالله من إزالة العقل ثم تزايد بنور الدين الحال فأنشد هذا القول:
هب لي بجناية من أزلت به القدم                    قد يشمل العبد من ساداته كـرم
حسب المسيء بذنبٍ من جنايتـه                    فرط الندامة إذ لا ينفع الـنـدم
فعلت ما يقتضي التأديب معترفاً            فأين ما يقتضيه العفو والكـرم
ولم يزل نور الدين هو والسيدة مريم الزنارية في عتابٍ يطول شرحه وكل منهما يحكي لصاحبه ما جرى له وينشدان الأشعار ودموعهما تجري على خدودهما شبه البحار ويشكوان لبعضهما شدة الهوى وأليم الوحدة والجوى ولم يبق لأحدهما قوةً على الكلام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين والسيدة مريم شكا لبعضهما ما جرى لهما عند فراقهما وما هما عليه من شدة الهوى إلى أن لم يبق لأحدهما قوةٌ على الكلام وكان النهار قد ولى وأقبل الظلام وكان على السيدة مريم حلةً خضراء مزركشةٌ بالذهب الأحمر مرصعةٌ بالدر والجوهر فزاد حسنها وجمالها وظرف معانيها فعند ذلك أقبلت السيدة مريم على البنات وقالت لهن: هل أغلقتن الباب? فقلن لها: قد أغلقناه فعند ذلك أخذت السيدة مريم البنات وأتت بهن إلى مكان يقال له مكان السيدة مريم العذراء أم النور لأن النصارى يزعمون أن روحانيتها وسرها في ذلك المكان فصار البنات يتبركن به ويطفن في الكنيسة كلها.
ولما فرغن من زيارتها التفتت السيدة مريم إليهن وقالت لهن: إني أريد أن أدخل وحدي في هذه الكنيسة وأتبرك بها فإنه حصل لي اشتياقٌ إليها بسبب طول غيبتي في بلاد المسلمين وأما أنتن فحيث فرغتن من الزيارة فنمن حيث شئتن فقلن لها: حباً وكرامةً افعلي أنت ما تريدينه ثم أنهن تفرقن عنها في الكنيسة ونمن فعند ذلك استغفلتهن مريم وقامت تفتش على نور الدين فرأته في ناحيةٍ جالساً على مقالي الجمر وهو في انتظارها فلما أقبلت عليه قام لها على قدميه وقبل يديها فجلست وأجلسته في جانبها ثم نزعت ما كان عليها من الحلي والحلل ونفيس القماش وضمت نور الدين إلى صدرها وجعلته في حضنها ولم تزل هي وإياه في بوس وعناق ونغمات خاق باق وهما يقولان ما قصر ليل التلاقي وما أطول يوم الفراق، وينشدان قول الشاعر:
يا ليل الوصل وبكـر الـدهـر                لانت غرة اللـيالـي الـغـر
فجاءتني بالصبح وقت العصـر            هل كنت كحلاً في عيون الفجر
وقول آخر:
أو كنت نوماً في عيوني رمد              يا لليلة الهجر وما أطولهـا
آخرها مـواصـلٌ أولـهـا           كحلقةٍ مفرغةٍ ما أن لهـا
وقول آخر:
من طرف والحشر أيضاً قبلها             فالصب بعد البعث ميت الصد
فبينما هما في هذه اللذة العظيمة والفرحة العميمة وإذا بغلامٍ من الغلمان النفيسة يضرب فوق سطح الكنيسة، ليقيم من عاداتهم الشعائر، وهو كما قال الشاعر:
رأيته يضرب النـاقـوس قـلـت لـه                   من علم الظبي ضرباً بـالـنـواقـيس
وقلت للنفس أي الضرب أحسـن هـل               ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم الزنارية ما زالت هي ونور الدين في لذةٍ وطربٍ إلى أن طلع الغلام النواقيسي فوق سطح الكنيسة وضرب الناقوس فقامت من وقتها وساعتها ولبست ثيابها وحليها فشق ذلك على نور الدين وتكدر وقته فبكى وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
لا زلت ألثم ورد خـذ غـضٍ                 وأعض ذاك مبالغاً في العض
حتى إذا طبنا ونام رقـيبـنـا                 وعيونه مالت لنحو الغمـض
ضربت نواقيسٌ تنبه أهلـهـا                كمؤذن يدعو صلاة الفـرض
قامت على عجلٍ للبس ثيابهـا              من خوف نجمٍ رقيبنا المنقض
وتقول يا سؤلي ويا كل المنـى            جاء الصباح بوجهه المبـيض
أقسمت لو أعطـيت يوم ولايةٍ              وبقيت سلطاناً شديد القـبـض
لهدمت أركان الكنائس كلـهـا               وقتلت كل مقسسٍ في الأرض
ثم أن السيدة مريم ضمت نور الدين إلى صدرها وقبلت خده وقالت له: يا نور الدين كم يوماً لك في هذه المدينة? فقال: سبعة أيامٍ فقالت له: هل سرت في هذه المدينة وعرفت طرقها ومخارزها وأبوابها التي من ناحية البر والبحر? قال نعم، فقال: وهل تعرف طريق صندوق النذر الذي في الكنيسة? قال نعم، قالت له: حيث تعرف ذلك كله إذا كانت الليلة القابلة ومضى ثلث الليل الأول فاذهب في تلك الساعة إلى صندوق النذر وخذ منه ما تريد وتشتهي وافتح باب الكنيسة الذي فيه الخوخة التي توصل إلى البحر فإنك تجد سفينةً صغيرة فيها عشرة رجال بحرية فمتى رآك الريس يمد يديه إليك فناوله يدك فإنه يطلعك في السفينة فاقعد عنده حتى أجيء إليك، والحذر ثم الحذر من أن يلحقك النوم في تلك المدينة فتندم حيث لا ينفعك الندم.
ثم أن السيدة مريم ودعت نور الدين وخرجت من عنده في تلك الساعة ونبهت جواريها وسائر البنات من نومهن وأخذتهن وأتت إلى باب الكنيسة ودقته ففتحت العجوز الباب فلما أطلت منه رأت الخدام والبطارقة وقوفاً فقدموا لها بغلةً فركبتها وأرخوا عليها ناموسيةً من الحرير وأخذ البطارقة بزمام البغلة ووراءها البنات واحتاط بها الجاويشية وبأيديهم السيوف مسلولةً وساروا بها إلى أن وصلوا إلى قصر أبيها.
هذا ما كان من أمر مريم الزنارية. وأما ما كان من أمر نور الدين فإنه لم يزل مختفياً وراء الستارة التي كان مستترا خلفها هو ومريم إلى أن طلع النهار وانفتح باب الكنيسة وكثر الناس فيها فاختلط بالناس وجاء إلى تلك العجوز قيمة الكنيسة فقالت له: أين كنت راقداً في هذه الليلة? قال: في محل داخل المدينة كما أمرتيني، فقالت العجوز: إنك فعلت الصواب يا ولدي ولو كنت بت الليلة في الكنيسة كانت قتلتك أقبح قتلة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت لنور الدين: لو كنت بت الليلة في الكنيسة كانت قتلتك أقبح قتله، فقال لها نور الدين: الحمد لله الذي نجاني شر من هذه الليلة، ولم يزل نور الدين يقضي شغلة في الكنيسة إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بدياجي الإعتكار فقام نور الدين وفتح صندوق النذر فتناول منه ما خف حمله وغلا ثمنه من الجواهر، ثم صبر إلى أن مضى ثلث الليل الأول وقام ومشى إلى باب الخوخة التي توصل إلى البحر وهو يطلب الستر من الله.
ولم يزل يمشي إلى أن وصل إلى الباب وفتحه وخرج من تلك الخوخة إلى البحر فوجد السفينة رأسيةً على شاطئ البحر بجوار الباب ووجد الريس شيخاً كبيراً طريفاً لحيته طويلةٌ وهو واقفٌ في وسطها على رجليه والعشرة رجالٍ واقفون قدامه فناوله نور الدين يده كما أمرته مريم فأخذه من يده وجذبه فصار في وسطه السفينة.
فعند ذلك صاح الشيخ الريس على البحرية وقال لهم: أقلعوا مرساة السفينة من البر وعوموا بنا قبل أن يطلع النهار فقال واحدٌ من العشرة البحرية: يا سيدي كيف نعوم والملك أخبرنا أنه في غد يركب السفينة في هذا البحر ليطلع على ما فيه لأنه خائفٌ على ابنته مريم من سراق المسلمين? فصاح عليهم الريس وقال لهم: ويلكم يا ملاعين هل بلغ من أمركم أنكم تخالفونني وتردون كلامي? ثم أن الريس سل سيفه من غمده وضرب به ذلك المتكلم على عنقه فخرج السيف يلمع من رقبته فقال واحدٌ: وأي شيءٍ عمل صاحبنا من الذنوب حتى تضرب رقبته? فمد يده إلى السيف وضرب به عنق هذا المتكلم، ولم يزل ذلك الريس يضرب أعناق البحرية واحداً بعد واحدٍ حتى قتل العشرة ورماهم على شاطئ البحر، ثم التفت إلى نور الدين وصاح عليه صيحةً عظيمةً أرعبته وقال له: انزل أقلع الوتد فخاف نور الدين من ضرب السيف ونهض قائماً ووثب إلى البر وقلع الوتد ثم طلع في السفينة أسرع من البرق الخاطف وصار الريس يقول: افعل كذا وكذا ودور كذا وكذا وانظر في النجوم ونور الدين يفعل جميع ما يأمره به الريس وقلبه خائفٌ مرعوبٌ، ثم رفع شراع المركب وسار به في البحر العجاج المتلاطم الأمواج.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ الريس لما رفع شراع المركب توجه بالمركب هو ونور الدين في البحر العجاج وقد طاب لهما الريح كل ذلك ونور الدين ماسكٌ بيده الراجع وهو غريقٌ في بحر الأفكار، ولم يزل مستغرقاً في الفكر ولم يعلم بما هو مخبوء له في الغيب وكلما نظر إلى الريس بل صار مشغولاً في فكرٍ ووسواسٍ إلى أن أضحى النهار.
فعند ذلك نظر نور الدين إلى الريس فرآه قد أخذ لحيته الطويلة بيده وجذبها فطلعت من موضعها في يده وتأملها نور الدين فوجدها لحيةً كانت ملصقةً زوراً، ثم تأمل نور الدين في ذات الريس ودقق في نظره فرآها السيدة مريم معشوقته ومحبوبة قلبه وكانت قد تحيلت بتلك الحيلة حتى قتلت الريس وسلخت وجهه بلحيته وأخذت جلده وركبته على وجهها.
فتعجب نور الدين من فعلها وشجاعتها ومن قوة قلبها وطار قلبه من الفرح واتسع صدره وانشرح وقال لها: مرحباً يا منيتي وسؤلي وغاية مطلبي، وكانت السيدة مريم قوية القلب تعرف بأحوال سير المراكب في البحر المالح وتعرف الأهواء واختلافها وتعرف جميع طرق البحر، فقال لها نور الدين: والله يا سيدتي لو أطلت علي هذا الأمر لمت من شدة الخوف والفزع وخصوصاً من نور الوجد والإشتياق وأليم عذاب الفراق، فضحكت من كلامه وقامت من وقتها وساعتها وأحضرت شيئاً من المأكول والمشروب فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا.
وبعد ذلك أحضرت من اليواقيت والجواهر وأصناف المعادن والذخائر الغالية وأنواع الذهب والفضة ما خف حمله وغلا ثمنه من الذي جاءت به وجلبته من قصر أبيها وخزائنه وعرضت ذلك على نور الدين ففرح به غاية الفرح، كل ذلك والريح معتدلٌ والمركب سائرٌ ولم يزالوا سائرين حتى أشرفوا على مدينة إسكندرية وشاهدوا أعلامها القديمة والجديدة وشاهدوا عمود السواري، فلما وصلوا إلى الميناء طلع نور الدين من وقته وساعته على تلك السفينة وربطها في حجر من أحجار القصارين وجلب معه شيئاً من الذخائر التي جاءت بها الجارية معها وقال للسيدة مريم: اقعدي يا سيدتي في السفينة حتى أطلع لك إلى إسكندرية مثل ما أحب وأشتهي فقالت له: ولكن ينبغي أن يكون ذلك بسرعةٍ لأن التراخي في الأمور يورث الندامة فقال لها: ما عندي تراخٍ، فقعدت مريم في السفينة وتوجه نور الدين إلى بيت العطار صاحب أبيه ليستعير لها من زوجته نقاباً وخبرة وخفاً وأزراراً كعادة نساء إسكندرية ولم يعلم بما لم يكن له في حسابٍ من تصرفات الدهر صاحب العجب العجاب. هذا ما كان من أمر نور الدين ومريم الزنارية.
وأما من كان من أمر أبيها ملك إفرنجة فأنه لما أصبح الصباح تفقد ابنته مريم فلم يجدها فسأل عنها عند جواريها وخدمها فقالوا له: يا مولانا إنها رحلت بالليل وراحت إلى الكنيسة وبعد ذلك لم نعرف عنها شيئاً، فبينما الملك يتحدث مع الجواري والخدم في تلك الساعة وإذا بصرختين عظيمتين تحت القصر دوى لهما المكان، فقال الملك: ما الخبر? فقالوا له: أيها الملك أنه وجد عشرة رجالٍ مقتولين على ساحل البحر وسفينة الملك قد فقدت ورأينا باب الخوخة الذي في الكنيسة من جهة البحر مفتوحاً والأسير الذي كان في الكنيسة يخدمها قد فقد، فقال الملك: إن كانت سفينتي التي في البحر فقدت فبنتي مريم فيها بلا شكٍ ولا ريبٍ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الفرنجة لما فقدت ابنته مريم جاؤوا له بالخبر وقالوا له: أن سفينتك فقدت فقال: إن كانت سفينتي قد فقدت فابنتي فيها بلا شكٍ ولا ريبٍ، ثم أن الملك دعا من وقته وساعته بريس الميناء وقال له: وحق المسيح والدين الصحيح إن لم تلحق سفينتي في هذه الساعة بعسكرٍ وتأتيني بها وبمن فيها لأقتلنك أشنع قتلةٍ وأمثل بك أشنع مثلة، ثم صرخ عليه الملك فذهب من بين يديه وهو يرتعد وطلب العجوز من الكنيسة وقال لها: ما كنت تسمعين من الأسير الذي كان عندك في شأن بلاده ومن أي البلاد هو? فقالت له: كان يقول: أنا من مدينة الإسكندرية.
فلما سمع الريس كلام العجوز عاد من وقته وساعته إلى المينة وصاح على البحرية وقال لهم: تجهزوا وحلوا القلوع ففعلوا ما أمرهم به وسافروا ولم يزالوا مسافرين ليلاً ونهاراً حتى أشرفوا على مدينة الإسكندرية في الساعة التي طلع فيها نور الدين من السفينة وترك فيها السيدة مريم وكان من جملة الإفرنج الوزير الأعور الأعرج الذي كان اشتراها من نور الدين فرأوا السفينة مربوطة فعرفوها فربطوا مركبهم بعيداً عنها وأتوا إليها في مركبٍ صغيرٍ من مراكبهم يعوم على ذراعين من الماء وفي ذلك المركب مائة مقاتلٍ ومن جملتهم الوزير الأعور الأعرج لأنه كان جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً ولصاً محتالاً لا يقدر أحد على احتياله يشبه أبا محمد البطال.
ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى فلك السفينة فهجموا عليها وحملوا حملةً واحدةً فلم يجدوا فيها أحداً إلا السيدة مريم فأخذوها هي والسفينة التي هي فيها بعد أن طلعوا على الشاطئ وأقاموا زمناً طويلاً ثم عادوا من وقتهم وساعتهم إلى مراكبهم وقد فازوا ببغيتهم من غير قتال ولا شهر سلاحٍ ورجعوا قاصدين بلاد الروم وسافروا وقد طاب لهم الريح، ولم يزالوا مسافرين على حمايةٍ إلى أن وصلوا إلى مدينة إفرنجة وطلعوا بالسيدة مريم إلى أبيها وهو في تخت مملكته.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الإفرنج لما طلعوا بالسيدة مريم إلى أبيها وهو على تخت مملكته نظر إليها وقال لها: ويلك يا خائنة كيف تركت دين الأباء والأجداد وحصن المسيح الذي عليه الإعتماد وأتبعت دين الإسلام الذي قام بالسيف على رغم الصليب والأصنام فقالت له مريم: أنا ما لي ذنبٌ لأني خرجت في الليل إلى الكنيسة لأزور السيدة مريم العذراء وأتبرك فيها فبينما أنا في غفلةٍ وإذا بسراقي المسلمين قد هجموا علي وسدوا فمي وشدوا وثاقي ووضعوني في السفينة وسافروا بي إلى بلادهم فخادعتهم وتكلمت معهم في دينهم إلى أن فكوا وثاقي وما صدقت أن رجالك أدركوني وخلصوني وأنا وحق المسيح والدين الصحيح وحق الصليب ومن صلب عليه وقد فرحت بفكاكي من أيديهم غاية الفرح واتسع صدري وانشرح حيث خلصت من أسر المسلمين.
فقال لها أبوها: كذبت يا فاجرة يا عاهرة، وحق ما في محكم الإنجيل من منزل التحريم والتحليل لا بد لي من أن أقتلك أقبح قتلة وأمثل بك أشنع مثلة، أما كفاك الذي فعلتيه في الأول ودخل علينا محالك حتى رجعت إلى بهتانك. ثم أن الملك أمر بقتلها وصلبها على باب القصر فدخل عليه الوزير الأعور في تلك الساعة وكان مغرماً بحبها قديماً وقال له: أيها الملك لا تقتلها وزوجني بها وأنا أحرص عليها غاية الحرص وما أدخل عليها حتى أبني لها قصراً من الحجر الجلمود وأعلي بنيانه حتى لا يستطيع أحدٌ من السارقين الصعود إلى سطحه وإذا فرغت من بنيانه ذبحت على بابه ثلاثين من المسلمين وأجعلهم قرباناً المسيح عني وعنها، فأنعم عليه الملك بزواجها وأذن للقسيسين والرهبان والبطارقة أن يزوجوها له فزوجوها للوزير الأعور وأذن أن يشرعوا لها في بنيان قصر عظيم يليق بها فشرع العمال في العمل. هذا ما كان من أمر الملكة مريم وأبيها والوزير الأعور.
وأما ما كان من أمر نور الدين والشيخ العطار فإن نور الدين لما توجه إلى العطار صاحب أبيه استعار من زوجته أزراراً وخفاً وثياباً كثياب نساء الإسكندرية ورجعه بها إلى البحر وقصد السفينة التي فيها السيدة مريم فوجد الجو قفراً والمزار بعيداً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما رجع إلى البحر وجد الجو قفراً والمزار بعيد صار قلبه حزيناً، فبكى بدموعٍ متواترةٍ وأنشد قول الشاعر:
سرى طيف سعدي طارقاً فاستفزني                سحيراً وصحبي في الفلاة رقـود
فلما انتبهنا للخـيال الـذي سـرى                    أرى الجو قفراً والمـزار بـعـيد

فمشى نور الدين على شاطئ البحر يتلفت يميناً وشمالاً فرأى ناساً مجتمعين على الشاطئ وهم يقولون: يا مسلمين ما بقي لمدينة الإسكندرية حرمةٌ حتى صار الإفرنج يدخلونها ويخطفون من فيها ويعودون إلى بلادهم على هينةٍ ولا يخرج وراءهم أحدٌ من المسلمين ولا من العساكر المغازين، فقال لهم نور الدين: ما الخبر? فقالوا له: يا ولدي أن مركباً من مراكب الإفرنج فيه عساكر هجموا في تلك الساعة على تلك المدينة وأخذوا سفينةً كانت راسيةً هنا بمن فيها وراحوا على حماية إلى بلادهم.
فلما سمع نور الدين كلامهم وقع مغشياً عليه، فلما أفاق سألوه عن قضيته فأخبرهم بخبره من الأول إلى الأخر، فلما فهموا خبره صار كل منهم يشتمه ويسبه ويقول له: لأي شيءٍ ما تخرجها إلا بأزرارٍ ونقاب وصار كل واحدٍ من الناس يقول له كلاماً مؤلماً ومنهم من يقول: خليه في حاله يكفيه ما جرى له، وصار كل واحدٍ يوجعه بالكلام ويرميه بسهام الملام حتى وقع مغشياً عليه.
فبينما الناس مع نور الدين على تلك الحالة وإذا بالشيخ العطار مقبلاً فرأى الناس مجتمعين فتوجه إليهم ليعرف الخبر فرأى نور الدين راقداً بينهم وهو مغشيٌ عليه فقعد عند رأسه ونبهه، فلما أفاق قال له: يا ولدي ما هذا الحال الذي أنت فيه? فقال له: يا عم إن الجارية التي كانت راحت مني قد جئت بها من مدينة أبيها في مركبٍ وقاسيت ما قاسيت في المجيء بها، فلما وصلت بها إلى هذه المدينة ربطت السفينة في البر وتركت الجارية فيها وذهبت إلى منزلك وأخذت من زوجتك مصالح للجارية لأطلعها بها إلى المدينة فجاء الإفرنج وأخذوا السفينة والجارية فيها وراحوا على حمايةٍ حتى وصلوا إلى مراكبهم، فلما سمع الشيخ العطار من نور الدين هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلام وتأسف على نور الدين تأسفاً عظيماً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العطار لما تأسف على ما جرى لنور الدين قال له: يا ولدي لأي شيءٍ ما أخرجتها من السفينة إلى المدينة من غير أزرار ولكن في هذا الوقت لا ينفع الكلام، قم يا ولدي وأطلع معي إلى المدينة لعل الله يزرقك بجارية أحسن منها فتتسلى بها عنها، والحمد لله ما خسرت فيها شيئاً بل حصل لك الربح فيها، وأعلم يا ولدي أن الإتصال والإنفصال بيد الله المتعال، فقال له نور الدين: والله يا عم إني ما أقدر أن أسلوها أبداً ولا أترك طلبها ولو سقيت من أجلها كأس الردى، فقال له العطار: يا ولدي وأي شيء في ضميرك تريد أن تفعله? فقال له: نويت أن أرجع إلى بلاد الروم وأدخل إلى مدينة إفرنجة وأخاطر بنفسي فإما عليها وأما لها، فقال له: يا ولدي إن في الأمثال السائرة: ما كل مرة تسلم الجرة وإن كانوا ما فعلوا بك في المرة الأولى شيئاً ربما يقتلوك في هذه المرة لا سيما وقد عرفوك حق المعرفة.
فقال نور الدين: يا عم دعني أسافر وأقتل في هواها صريعاً ولا أموت بتركها صبراً وتحسيراً. وكان بمصادفة القدر مركباً راسياً في الميناء مجهزاً للسفر وركابه قد قضوا جميع أشغالهم وفي تلك الساعة قلعوا أوتاده وفنزل فيه نور الدين وسافر ذلك المركب مدة أيامٍ وطاب لركابه الوقت والريح.
فبينما هم سائرون وإذا بمركب من مراكب الإفرنج دائر في البحر العجاج لا يرون مركباً إلا ويأسرونه خوفاً على ابنة الملك من سراق المسلمين، وإذا أخذوا مركباً يوصلون جميع من فيه إلى ملك إفرنجة فيذبحهم ويوفي بهم نذره الذي كان قد نذره من أجل ابنته، فرأوا المركب الذي فيه نور الدين فأسروه وأخذوا كل من كان فيه وأتوا بهم إلى الملك أبي مريم، فلما أوقفوه بين يديه وجدهم مائة رجل من المسلمين فأمر بذبحهم في تلك الساعة ومن جملتهم نور الدين فذبحوهم كلهم ولم يبق منهم غير نور الدين وكان الجلاد قد عفا عنه شفقةً عليه لصغر سنه ورشاقة قده.
فلما رآه الملك عرفه حق المعرفة فقال: أما أنت نور الدين الذي كنت عندنا في المرة الأولى وقبل هذه المرة? فقال له: ما كنت وليس اسمي نور الدين وإنما اسمي إبراهيم، فقال له الملك: إنك تكذب بل أنت نور الدين الذي وهبتك العجوز القيمة على الكنيسة لتساعدها في خدمة الكنيسة، فقال نور الدين: يا مولاي أنا اسمي إبراهيم، فقال له الملك: إن العجوز قيمة الكنيسة إذا حضرت ونظرتك تعرف هل أنت نور الدين أو غيره.
فبينما هم في الكلام وإذا بالوزير الأعرج الأعور الذي تزوج ابنة الملك قد حضر في تلك الساعة وقبل الأرض بين يدي الملك وقال له: أعلم أن القصر قد فرغ بنيانه وأنت تعرف أني نذرت للمسيح إذا اكتمل بنيانه أن أذبح على بابه ثلاثين مسلماً وقد أتيتك لآخذ من عندك ثلاثين مسلماً فأذبحهم وأوفي بهم نذر المسيح ويكونوا في ذمتي على سبيل القرض ومتى جاءني أسارى أعطيك بدلهم.
فقال الملك: وحق المسيح والدين الصحيح ما بقي عندي غير هذا الأسير وأشار إلى نور الدين وقال له: خذه وأذبحه في هذه الساعة، حتى أرسل إليك البقية إذا جاءني أسارى من المسلمين فعند ذلك قام الوزير الأعور وأخذ نور الدين ومضى به إلى القصر ليذبحه على عتبة بابه فقال له الدهانون: يا مولانا ما بقي علينا من الدهان شغل يومين فاصبر علينا وأخر ذبح هذا الأسير حتى نفرغ من الدهان عسى أن يأتي إليك بقية الثلاثين فتذبح الجميع دفعة واحدة وتوفي بنذرك في يوم واحد، فعند ذلك أمر الوزير بحبس نور الدين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الثمانمائة 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما أمر بحبس نور الدين أخذوه مقيداً جائعاً عطشاناً يتحسر على نفسه وقد نظر الموت بعينه، وكان بالأمر المقدر والقضاء المبرم للملك حصانين أخوان شقيقان أحدهما اسمه سابق والأخر لاحق وكانت بحسرة تحصيل واحد منهما لملك الأكاسرة وكان أحدهما أشهب نقياً والآخر أدهم كالليل الحالك وكان ملوك الجزائر جميعاً يقولون: كل من سرق لنا حصاناً من هذين الحصانين نعطيه جميع ما يطلبه من الذهب الأحمر والدر والجواهر فلم يقدر أحد على سرقة واحدٍ من هذين الحصانين فحصل لأحدهما مرض في عينه فأحضر الملك جميع البياطرة لدوائه فعجزوا عنه كلهم فدخل على الملك الوزير الأعور الذي تزوج ابنته فرآه مهموماً من قبل الحصان فأراد أن يزيل همه فقال: أيها الملك أعطني هذا الحصان وأنا أداويه فأعطاه له فنقله في الإصطبل الذي فيه نور الدين، فلما فارق الحصان أخاه صاح صيحةً عظيمةً وصهل حتى أزعج الناس من الصياح فعرف الوزير أنه ما حصل منه هذا الصياح إلا لفراقه من أخيه فراح وأعلم الملك فلما تحقق الملك من كلام الوزير قال: إذا كان ذلك حيواناً ولم يصبر على فراق أخيه فكيف بذوي العقول? ثم أمر الغلمان أن ينقلوا الحصان عند أخيه بدار الوزير زوج مريم وقال لهم: قولوا للوزير أن الملك يقول لك أن الحصانين أنعام منه عليك لأجل خاطر ابنته مريم.
فبينما نور الدين نائمٌ في الإصطبل وهو مقيد مكبل إذ نظر الحصانين فوجد على عيني أحدهما غشاوةٌ وكان عنده بعض معرفة بأحوال الخيل وممارسة دوائها فقال في نفسه: هذا والله وقت فرحة فأقوم وأكذب على الوزير وأقول له: أنا أداوي هذا الحصان وأعمل له شيءً يتلف عينيه فيقتلني واستريح من هذه الحياة الذميمة ثم أن نور الدين انتظر الوزير إلى أن دخل الإصطبل ينظر الحصانين فلما دخل قال له نور الدين: يا مولاي أي شيءٍ يكون لي عليك إذا أنا داويت لك هذا الحصان وأعمل لك شيئاً يطيب عينيه? فقال له الوزير: وحياة رأسي إن داويته أعتقك من الذبح وأخليك تتمنى علي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير قال لنور الدين: إن داويت الحصان أعتقك وأخليك تتمنى علي فقال: يا مولاي مر بفك قيدي فأمر الوزير بإطلاقه فنهض نور الدين وأخذ زجاجاً بكراً وسحقه وأخذا جيراً بلا طفء وخلطه بماء البصل ثم وضع الجميع في عيني الحصان وربطهما وقال في نفسه: الآن تغور عيناه فيقتلوني وأستريح من هذه العيشة الذميمة ثم أن نور الدين نام تلك الليلة بقلبٍ خالٍ من وسواس الهم وتضرع إلى الله تعالى وقال: يا رب في علمك ما يغني عن السؤال فلما أصبح الصباح وأشرقت الشمس على الروابي والبطاح جاء الوزير إلى الإصطبل وفك الرباط عن عين الحصان، ونظر إليهما فرآهما أحسن عيون ملاح بقدرة الملك الفتاح، فقال له الوزير: يا مسلم ما رأيت في الدنيا مثلك في حسن معرفتك، وحق المسيح والدين الصحيح أنك أعجبتني غاية الإعجاب فإنه عجز عن دواء هذا الحصار كل بيطار في بلادنا ثم تقدم إلى نور الدين وحل قيده بيده ثم ألبسه حلةً سنيةً وجعله ناظراً على خيله ورتب له مرتبات وجرايات وأسكنه في طبقة على الإصطبل وكان في القصر الجديد الذي بناه للسيدة مريم شباكً مطلٍ على بيت الوزير وعلى الطبقة التي فيه نور الدين.
فقعد نور الدين مدة أيام يأكل ويشرب ويتلذذ ويطرب ويأمر وينهي على خدمة الخيل وكل من غاب منهم ولم يعلق على الخيل المربوطة على الطوال التي فيها خدمته يرميه ويضربه شرباً شديدا ويضع في رجليه القيد الحديد وفرح الوزير بنور الدين غاية الفرح واتسع صدره وانشرح ولم يدر ما يؤول أمره إليه وكان نور الدين كل يومٍ ينزل إلى الحصانين ويمسحهما بيده لما يعلم من معزتهما عند الوزير ومحبته لهما وكان للوزير الأعور بنت بكر في غاية الجمال كأنها غزال شاردٌ أو غصنٌ مائدٌ فاتفق أنها كانت جالسة ذات يوم من الأيام في الشباك المطل على بيت الوزير وعلى المكان الذي فيه نور الدين إذ سمعت نور الدين يغني ويسلي نفسه على المشقات.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بنت الوزير الأعور سمعت نور الدين يسلي نفسه على المشقات بإنشاد هذه الأبيات:
يا عـاذلاً أصـبـح فـي ذاتـه                 منـعـمـاً يزهـو بـلـذاتـه
لو عضدك الـدهـر بـآفـاتـه                 لقلـت مـن ذوق مـرارتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
لكن سلمت الـيوم مـن غـدره              ومن تنـاهـيه ومـن جـوره
فلا تسلم من حـار فـي أمـره               وقال من فرط صـبـابـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
كن عاذر العشاق في حالـهـم              وتكن عوباً علـى عـذلـهـم
إياك أن تشتد فـي حـبـلـهـم                مجرعاً من مـر لـوعـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
قد كنت قبلـك بـين الـعـبـاد                 كمثل من بات خلـي الـفـؤاد
لم أعرف العشق وطعم السهـاد           حتى دعانـي لـمـقـامـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
لم يدر الـعـشـق ومـا ذلـه                  إلا الذي أقـسـمـه طـولـه
رضاع منه في الهوى عقـلـه              وشربه من مـر جـرعـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
كم عين صب في الدجى أسهرا            وأحرم الجفن لـذيذ الـكـرى
ركم أسـأل دمـعـه أنـهـراً                   تجري على الخد بلـوعـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
كم في الورى من مغرمٍ مستهامٍ                    سهران من وجدٍ بعيد المـنـام
ألبسه ثوب الضنى والـسـقـام              من قد نفى عنه مـنـامـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
كم قل صبري وبري عظـمـي              وسال دمعي منه كـالـعـنـدم
مهفهفٌ مر من مـطـعـمـي                 ما كان حلواً فـي مـذاقـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
مسكينٌ من في الناس مثلي عشق                  وبات في جنح اللـيالـي أرق
أن عام في بحر التجافي غـرقٌ            يشكوا من العشق وزفـراتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
من ذا الذي بالعشق لـم يبـتـل              ومن نجا من كـيده الأسـهـل
ومن به يعيش عيش الـخـلـى              وأين مـن فـاز بـراحـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه
يا رب دبر من بـه قـد بـلـى                وكفله نعم أنـت مـن كـافـل
ورزقه منك باللمات الـجـلـى               وألطف به في كـل أوقـاتـه
آهٍ من الـعـشـق وحـرارتـه                 أحرق قلـبـي بـحـرارتـه

فلما استتم نور الدين أقصى كلامه وفرغ من شعره ونظامه قالت في نفسها بنت الوزير: وحق المسيح والدين الصحيح أن هذا المسلم شابٌ مليحٌ ولكنه لا شك عاشقٌ مفارقٌ فيا ترى معشوق هذا الشاب مليح مثله وهل عنده مثل ما عنده أم لا? فإن كان معشوقه مليح مثله يحق له إسالة العبرات وشكوى الصبابات وإن كان غير مليحٍ فقد ضيع عمره في الحسرات وحرم طعم اللذات.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بنت الوزير قالت في نفسها: فإن كان معشوقه مليحاً يحق له إسالة العبرات وإن كان غير مليح فقد ضيع عمره في الحسرات وكانت مريم الزنارية زوجة الوزير قد نقلت إلى القصر مساء ذلك اليوم وعلمت منها بنت الوزير ضيق الصدر فعزمت أن تذهب إليها وتحدثها بخبر هذا الغلام وما سمعت منه من النظام فما استتمت الفكر في هذا الكلام حتى أرسلت خلفها السيدة مريم زوجة أبيها لأجل أن تؤانسها، بالحديث فذهبت إليها فرأت صدرها ضيقاً ودموعها جاريةٌ على خديها وهي تبكي بكاءً شديداً ما عليه من مزيد، فقالت لها بنت الوزير: أيتها الملكة لا تضيقي صدراً وقومي معي في هذه الساعة إلى شباك القصر فإن عندنا في الإصطبل شاباً مليحاً رشيق القوام حلو الكلام كأنه عاشقٌ مفارق، فقالت لها السيدة مريم: بأي علامةٍ عرفت أنه عاشقٌ مفارق? فقالت لها بنت الوزير: أيتها الملكة عرفت ذلك بإنشاد القصائد والأشعار أثناء الليل وأطراف النهر فقالت السيدة مريم في نفسها: إن كان قول بنت الوزير بيقين فهذه صفات الكئيب المسكين علي نور الدين فيا هل ترى هو ذلك الشاب الذي ذكرته بنت الوزير? ثم أن السيدة مريم زاد بها العشق والهيام والوجد والغرام فقامت من وقتها وساعتها ومشت مع بنت الوزير إلى الشباك ونظرت منه فرأته محبوبها وسيدها نور الدين ودققت النظر فيه فعرفته حق المعرفة ولكنه سقيمٌ من كثرة عشقه لها ومحبته إياها ومن نار الوجد وألم الفراق والوله والإشتياق قد زاد به النحول فصار ينشد ويقول:
القلب مملوك وعينـي جـاريةٍ               ليس لها سـحـابة مـجـاريه
بين بكائي وسهـادي والـجـوى            والنوح والحزن على أحبـابـه
وأحرقتي وأحسرتي وألوعـتـي            تكاملت أعـدادهـا ثـمـانـيه
وأتابعهـا سـتة فـي خـمـسةٍ                إلا قفوا واستمعـوا مـقـالـيه
ذكرٌ وفكـرٌ وزفـيرٌ وظـنـى                 وفرط شوقٍ واشتغـال بـالـيه
في محـنةٍ وغـربةٍ وصـبـوةٍ               ولـهـفةٍ وفـرحةٍ تـوانــيه
قل اصطباري واحتمالي للجوى            لما نأى صبري دنا مـحـالـيه
قد زاد في قلبي تباريح الجـوى            يا سائلاً عن نار قلبي ما هـيه
ما بال دمعي موقداً في مهجتـي                    فنار قلبي لا تـزال حـامـيه
أصبحت في طوفان دمعي غارقاً                    ومن لظى هذا الهوى في هاويه

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما فرغ من شعره وتحققت منه السيدة مريم فرأته سيدها نور الدين وسمعت بليغ شعره وبديع نثره تحققت أنه هو ولكنها أخفت أمرها عن بنت الوزير وقالت لها: وحق المسيح والدين الصحيح ما كنت أحسب أن عندك خبراً بضيق صدري ثم نهضت من وقتها وساعتها وقامت من الشباك ورجعت إلى مكانها ومضت بنت الوزير إلى شغلها ثم صبرت السيدة مريم ساعةً زمانيةً ورجعت إلى الشباك وجلست فيه وصارت تنظر إلى سيدها نور الدين وتتأمل في لطفه ورقه معانيه فرأته كالبدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر ولكنه دائم الحسرات جاري العبرات لأنه تذكر ما فات فأنشد هذه الأبيات:
أملت وصل أحبتي ما نـلـتـه                أبداً ومر العيش قد أوصلـتـه
دمعي تحاكي البحر في جريانـه            وإذا رأيت عواذلي كفكـفـتـه
آهٍ على داعٍ دعـا تـفـراقـنـا                 لو نلت منه لسانه لقطـعـتـه
إلا عتب للأيامٍ في أفعـالـهـا                 مزجت بصرف المر ما جرعته
فلمن أسير إلى سواكم قـاصـداً            والقلب في عرصاتكم خلفـتـه
من منصفي من ظالمٍ متحـكـمٍ              يزداد ظلماً كلما حـكـمـتـه
ملكته روحي ليحفظ مـلـكـه                فأضاعني وأضاع ما ملكـتـه
أنفقت عمري في هواه وليتنـي            أعطي وصولاً بالذي أنفقـتـه
يا أيها الرشا المسلم بمهجـتـي            يكفي من الهجران ما قد ذقتـه
أنت الذي جمع المحاسن وجهـه                    لكن عليه تصبري فـرقـتـه
أحللته قلبي فحـل بـه الـبـلا                أني لراضٍ بالذي أحـلـلـتـه
وجرت دموعي مثل بحرٍ زاخرٍ            لو كنت أعرف مسلكي لسلكته
وخشيت خوفاً أن أموت بحسرةٍ                    ويفوت مني كل ما أمـلـتـه
فلما سمعت مريم من نور الدين العاشق المفارق المسكين، إنشاد هذه الأشعار حصل عندها من كلامه استعبار فأفاضت دمع العين، وأنشدت هذين البيتين:
تمنيت من أهوى فما لـقـيتـه               ذهلت فلم أملك لساناً ولا طرفا
وكنت معدا للعـتـاب دفـاتـراً                فلما اجتمعنا ما وجدت ولا حرفا
فلما سمع نور الدين كلام السيدة مريم عرفها فبكى بكاءً شديداً وقال والله إن هذه نغمة السيدة مريم الزنارية بلا شكٍ ولا رجم غيبٍ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما سمعها تنشد الأشعار قال في نفسه: إن هذه نغمة السيدة مريم بلا شكٍ ولا ريبٍ ولا رجم غيبٍ فيا ترى هل ظني صحيحٌ وأنها هي بعينها أو غيرها ثم أن نور الدين زادت به الحسرات وأنشد هذه الأبيات:
لما أرآني لائمي في الـهـوى               صادفت حبي في مكان رحيب
ولم أفه بالعتب عنـد الـلـقـا                 ورب عتب فيه يراه الـكـئيب
فقال ما هذا السـكـوت الـذي               صدك عن رد الجواب المصيب
فقلت يا من قد غـدا جـاهـلاً                بحال أهل العشق كالمستـريب
علامة العاشق في عـشـقـه                سكوته عند لقـاء الـحـبـيب

فلما فرغ من شعره أحضرت السيدة مريم دواةٍ وقرطاساً وكتبت فيه البسملة الشريفة أما بعد، فسلامٌ الله عليك ورحمته وبركاته أخبرك أن الجارية مريم تسلم عليك وهي كثيرة الشوق إليك وهذه مراسلتها إليك فساعة وقوع هذه الورقة بين يديك انهض من وقتك وساعتك واهتم بما تريده منك غاية الاهتمام والحذر كل الحذر من المخالفة ومن أن تنام فإذا مضى ثلث الليل الأول فإن تلك الساعة من أسعد الأوقات فلا يكن لك فيها شغل إلا أن تشد الفرسين وتخرج بهما خارج المدينة وكل من قال لك: أين أنت رائحٌ? فقل له: أنا رائحٌ أسيرهما فإذا قلت ذلك لا يمنعك أحدٌ فإن أهل المدينة واثقون بقفل الأبواب.
ثم أن السيدة مريم لفت الورقة في منديل حريرٍ ورمتها إلى نور الدين من الشباك فأخذها وقرأها وفهم ما فيها وعرف أنها خط السيدة مريم فقبلها ووضعها بين عينيه، ثم أن نور الدين لما جن عليه الليل اشتغل بإصلاح الحصانين وصبر حتى مضى من الليل ثلثه الأول ثم قام من وقته وساعته إلى الحصانين ووضع عليهما سرجين من أحسن السروج وخرج بهما من باب الإصطبل وقفل الباب وسار بهما إلى باب المدينة وجلس ينتظر السيدة مريم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما صار بالحصانين إلى باب المدينة جلس ينتظر السيدة مريم. هذا ما كان من أمر نور الدين.
وأما ما كان من أمر الملكة مريم فأنها ذهبت من وقتها ساعتها إلى المجلس الذي هو معد لها في ذلك القصر فوجدت الوزير الأعور جالساً في ذلك المجلس متكئاً على مخدةٍ محشوةٍ من ريش النعام وهو مستح أن يمد يده إليها أو يخاطبها فلما رأته ناجت ربها وقالت: اللهم لا تبلغه مني أربا ولا تحكم علي بالنجاسة بعد الطهارة ثم أقبلت عليه وأظهرت له المودة وجلست في جانبه ولاطفته وقالت له: يا سيدي ما هذا الأعراض عنا? هل هو منك تيهٌ ودلالٌ علينا ولكن صاحب المثل السائر يقول: إذا بار السلام سلمت العقود على القيام فإن كنت يا سيدي ما تجيء عندي وتخاطبني أجيء أنا وأخاطبك فقال الوزير: الفضل والجميل لك يا ملكة الأرض في الطول والعرض وهل أنا إلا من خدامك وأقل غلمانك وإنما أنا مستحٍ أن أتجهم على مكانتك الفخمة أيتها اليتيمة الدرة ووجهي منك في الأرض فقالت له: دعنا من هذا الكلام وأتنا بالمأكل والمشرب.
فعند ذلك صاح الوزير على جواريه وخدمه وأمرهم بإحضار المأكل والمشرب فقدموا له سفرةً فيها ما درج وطار وسبح في البحار من قطا وسمان وأفراخ الحمام ورضيع الضأن وأوزٍ سمينٍ وفيها دجاجٍ محمرٍ وفيها من سائر الأشكال والألوان فمدت السيدة مريم يدها إلى السفرة وأكلت وصارت تلقم الوزير وتبوسه في فمه وما زالا يأكلان حتى اكتفيا من الأكل.
ثم غسلا أيديهما وبعد ذلك رفع الخدم سفرة الطعام وأحضروا سفرة المدام فصارت مريم تملأ وتشرب وتسقيه وقامت بخدمته حق القيام حتى كاد أن يطير قلبه من الفرح واتسع صدره وانشرح فلما غاب عقله عن الصواب وتمكن منه الشراب مدت يدها إلى جيبها وأخرجت منه قرصاً من البنج البكر المغربي الذي إذا شم منه الفيل أدنى رائحةٍ نام من العام إلى العام وكانت أعدته لهذه الساعة.
ثم غافلت الوزير وفركته في القدح وملأته وأعطته إياه فطار عقله من الفرح وما صدق أنها ناولته إياه فأخذ القدح وشربه فما استقر في جوفه حتى خر صريعاً على الأرض في الحال فقامت السيدة مريم على قدميها وعمدت إلى خرجين كبيرين وملأتهما مما خف حمله وغلا ثمنه من الجواهر واليواقيت وأصناف المعادن الثمينة.
ثم حملت معها شيئاً من المأكل والمشرب ولبست آلة الحرب والكفاح من العدة والسلاح وأخذت معها لنور الدين ما يسره من الملابس الملوكيه الفاخرة وأهبة السلاح الباهرة ثم أنها رفعت الخرجين على أكتافها وخرجت من القصر وكانت ذات قوة وشجاعة وتوجهت إلى نور الدين. هذا ما كان من أمر مريم، وأما ما كان من أمر نور الدين.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم لما خرجت من القصر توجهت إلى نور الدين وكانت ذات قوةٍ وشجاعةٍ هذا ما كان من أمر مريم.
وأما ما كان من أمر نور الدين العاشق المسكين فإنه قعد على باب المدينة ينتظرها ومقاود الحصانين في يده فأرسل الله عز وجل عليه النوم فنام وسبحان من لا ينام وكانت ملوك الجزائر في ذلك الزمان يبذلون المال رشوة على سرقة هذين الحصانين أو واحدٌ منهما.
وكان موجوداً في تلك الأيام عبدٌ أسود تربى في الجزائر يعرف بسرعة الخيل فصار ملوك الإفرنج يرشونه بمالٍ كثيرٍ لأجل أن يسرق أحد الحصانين ووعده أنه إذا سرق الحصانين يعطوه جزيرة كاملة ويخلعوا عليه خلعاً سنية وقد كان لذلك العبد زمانٌ طويلٌ يدور في مدينة إفرنجة وهو مختفٍ فلم يقدر على أخذ الحصانين وهما عند الملك فلما وهبهما للوزير الأعور ونقلهما إلى إصطلبه فرح فرحاً شديداً وطمع في أخذهما وقال: وحق المسيح والدين الصحيح لأسرقهما.
ثم أن العبد خرج في تلك الليلة قاصداً ذلك الإصطبل ليسرق الحصانين فبينما هو ماش في الطريق إذ لاحت منه التفاته فرأى نور الدين نائماً ومقاود الحصانين في يده فنزع المقاود من رؤوسها وأراد أن يركب واحداً ويسوق الآخر قدامه وإذا بالسيدة مريم قد أقبلت وهي حاملة الخرجين على كتفها فظنت أن العبد هو نور الدين فناولته أحد الخرجين فوضعه على الحصان، ثم ناولته الثاني فوضعه على الحصان الآخر وهو ساكت وهي تظن أنه نور الدين ثم أنها خرجت من باب المدينة والعبد ساكتٌ فقالت له: يا سيدي نور الدين ما لك ساكتاً? فالتفت العبد إليها وهو مغضب وقال لها: أي شيءٍ تقولين يا جارية? فسمعت بربرة العبد فعرفت أنها غير لغة نور الدين فرفعت رأسها إليه ونظرته فوجدت له مناخير كالإبريق فلما نظرته صار الضياء في وجهها ظلام فقالت له: من تكون يا شيخ بني حام? وما اسمك بين الآنام? فقال له: يا بنت اللئام أنا اسمي مسعود سراق الخيل والناس نيام فما ردت عليه بشيءٍ من الكلام بل جردت من وقتها الحسام وضربته على عاتقه فطلع يلمع من علائقه فوقع صريعاً على الأرض يتخبط بدمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار.
فعند ذلك أخذت السيدة مريم الحصانين وركبت واحداً منهما وقبضت الآخر في يدها ورجعت على عقبها تفتش على نور الدين فلقيته راقدا في المكان الذي واعدته بالاجتماع فيه والمقاود في يده وهو نائمٌ يغط في نومه ولم يعرف يديه من رجليه فنزلت عن ظهر الحصان ولكزته بيدها فانتبه من نومه مرعوباً وقال لها: يا سيدتي الحمد لله على مجيئك سالمة فقالت له: قم اركب هذا الحصان وأنت ساكتٌ فقام وركب الحصان والسيدة مريم ركبت الحصان الثاني وخرجا من المدينة وسارا ساعةً زمانيةً وبعد ذلك التفتت مريم إلى نور الدين وقالت له: أما قلت لك لا تنم فإنه لا أفلح من ينام? فقال: يا سيدتي أنا ما نمت إلا من برد فؤادي بميعادك وأي شيءٍ جرى يا سيدتي? فأخبرته بحكاية العبد من المبتدأ إلى المنتهى.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة مريم لما أخبرت نور الدين بحكاية العبد من المبتدأ إلى المنتهى فقال لها نور الدين: الحمد لله على السلامة ثم جدا في إسراع المسير وقد أسلما أمرهما إلى اللطيف الخبير وصارا يتحدثان حتى وصلا إلى العبد الذي قتلته السيدة مريم فرآه مرمياً في التراب كأنه عفريتٌ فقالت مريم لنور الدين: أنزل جرده من ثيابه وخذ سلاحه فقال لها: يا سيدتي والله أنا لا أقدر أن أنزل عن ظهر الحصان ولا أقف عنده ولا أقترب منه وتعجب نور الدين من خلقته وشكر السيدة مريم على فعلها وتعجب من شجاعتها وقوة قلبها.
ثم سارا ولم يزالا سائرين سيراً عنيفاً بقية الليل إلى أن أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح وانتشرت الشمس على الروابي والبطاح فوصلا إلى مرجٍ فسيحٍ فيه الغزلان تمرح وقد أخضرت منه الجوانب وتشكلت فيه الأثمار من كل جانب وأزهاره كبطون الحيات والطيور فيه عاكفات وجداوله تجري مختلفة الصفات فعند ذلك نزلت السيدة مريم هي ونور الدين ليستريحا في ذلك الوادي فأكلا من أثماره وشربا من أنهاره وأطلقا الحصانين يأكلان في المرعى فأكلا وشربا من ذلك الوادي وجلس نور الدين هو ومريم يتحدثان ويتذكران حكايتهما وما جرى لهما وكلٌ منهما يشكوا لصاحبه ما لاقاه من ألم الفراق وما قاسها من الإشتياق فبينما هما كذلك وإذا بغبار قد ثار حتى سد الأقطار وسمعا صهيل الخيل وقعقعة السلاح وكان السبب في ذلك أن الملك لما زوج ابنته للوزير ودخل عليها في تلك الليلة وأصبح الصباح أراد الملك أن يصبح عليها كما جرت به عادة الملوك في بناتهم فقام وأخذ معه أقمشة الحرير وتبر الذهب والفضة ليتخاطفها الخدمة والمواشط ولم يزل الملك يتمشى هو وبعض الغلمان إلى أن وصل إلى القصر الجديد فوجد الوزير مرمياً على الفراش لا يعرف رأسه من رجليه فالتفت الملك في القصر يميناً وشمالاً فلم ير ابنته فيه فتكدر حاله وانشغل باله وأمر بإحضار الماء الساخن والخل البكر والكندر فلما أحضر له ذلك خلطهم ببعضهم وسمط الوزير بهم ثم هزه فخرج البنج من جوفه كقطع الجبن ثم أن الملك سمط الوزير بذلك ثاني مرة فانتبه فسأله عن حاله وعن حال ابنته فقال له: أيها الملك الأعظم لا علم لي بها غير أنها أسقتني قدحاً من الخمر بيدها فمن ذلك الوقت ما عرفت روحي إلا في هذه الساعة ولا أعلم ما كان من أمرها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال للملك: إن مريم من ساعة ما أعطتني قدح الخمر ما عرفت روحي إلا في هذا الوقت ولا أعلم ما كان من أمرها فلما سمع الملك كلام الوزير صار الضياء في وجهه ظلاماً وسحب السيف وضرب به الوزير على رأسه فخرج يلمع من أضراسه ثم أن الملك أرسل من وقته وساعته إلى الغلمان والسياس فلما حضروا طلب منهم الحصانين فقالوا له: أيها الملك إن الحصانين فقدا في هذه الليلة وكبيرنا فقد معهما أيضاً فإننا أصبحنا وجدنا الأبواب كلها مفتوحةً فقال الملك: وحق ديني وما يعتقده يقيني ما أخذ الحصانين إلا ابنتي هي والأسير الذي كان يخدم الكنيسة وكان قد أخذها في المرة الأولى وعرفته حق المعرفة ولم يخلصه من يدي إلا هذا الوزير الأعور وقد جوزي بفعله، ثم أن الملك دعا في الوقت بأولاده الثلاثة وكانوا أبطالاً وشجعاناً كل واحدٍ منهم يقوم بألف فارسٍ في حومة الميدان ومقام الضرب والطعان ثم صاح الملك عليهم وأمرهم بالركوب فركبوا وركب الملك بجملتهم مع خواص بطارقته وأرباب دولته وأكابرهم وصاروا يتبعون أثرهما فلحقوهما في ذلك الوادي فلما رأتهم مريم نهضت وركبت جوادها وتقلدت بسيفها وحملت آلة سلاحها وقالت لنور الدين: ما حالك وكيف قلبك في القتال والحرب والنزال? فقال لها: إن ثباتي في النزال مثل ثبات الوتد في النخال ثم أنشد وقال:
يا مريم أطرحي أليم عـتـابـي               لا تقصدي قتلي وطول عذابـي
من أين لي أني أكون محـاربـاً             إني لأفزع من نعـاق غـراب
وإذا نظرت الفأر أفـزع خـيفةً              وأبول من خوفي على أثوابـي
أنا لا أحب الطعـن إلا خـلـوةً               والكس يعرف سطوة الأزبـاب
هذا هو الرأي السديد ومـا يرى           من دون هذا الرأي غير صواب

فلما سمعت مريم من نور الدين هذا الكلام والشعر والنظام أظهرت له الضحك والإبتسام وقالت له: يا سيدي نور الدين استقم مكانك وأنا أكفيك شرهما ولو كانوا عدد الرمل، ثم أنها تهيأت من وقتها وساعتها وركبت ظهر جوادها وأطلقت من يدها طرف العنان وأدارت الرمح جهة السنان فخرج ذلك الحصان من تحتها كأنه الريح الهبوب، أو الماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب وقد كانت مريم أشجع أهل زمانها وفريدة عصرها وأوانها لأن أباها علمها وهي صغيرة الركوب على ظهور الخيل والخوض بحومة الميدان في ظلام الليل وقالت لنور الدين: اركب جوادك وكن خلف ظهري وإذا انهزمنا فأحرص على نفسك من الوقوع فإن جوادك ما يلحقه لاحق.
فلما نظر الملك إلى ابنته مريم عرفها غاية المعرفة والتفتت إلى ولده الأكبر وقال له: يا برطوط يا ملقب برأس القلوط إن هذه أختك مريم لا شك فيها ولا ريب وقد حملت علينا وطلبت حربنا وقتالنا فأبرز أليها وأحمل عليها وحق المسيح والدين الصحيح أنك أن ظفرت بها لا تقتلها حتى تعرض عليها دين النصارى فإن رجعت إلى دينها القديم فأرجع بها أسيرةً وإن لم ترجع إليها فأقتلها أقبح قتلة ومثل بها أشنع مثلة وكذلك هذا الملعون الذي معها مثل به أقبح مثلة، فقال له برطوط: السمع والطاعة.
ثم بين لأخته مريم من وقته وساعته وحمل عليها فلاقته وحملت عليه ودنت منه وتقربت إليه، فقال لها برطوط: يا مريم ألا يكفي ما جرى منك حيث تركت دين الآباء والأجداد واتبعت دين السياحين في البلاد يعني دين الإسلام? ثم قال: وحق المسيح والدين الصحيح إن لم ترجعي إلى دين آبائك وأجدادك من الملوك وتسلكي فيه أحسن السلوك لأقتلنك أشر قتلة وأمثل بك أقبح مثلةً فضحكت مريم من كلام أخيها وقالت: هيهات أن يعود ما فات أو يعيش من مات بل أجرعك أشد الحسرات وأنا والله لسب براجعة عن دين محمد بن عبد الله الذي عم هداه فإنه هو الدين الحق فلا أترك الهدى ولو سقيت كؤوس الردى.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والستين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مريم قالت لأخيها: هيهات أن أرجع عن دين محمد بن عبد الله الذي عم هداه فإنه دين الهدى ولو سقيت كؤوس الردى، فلما سمع الملعون برطوط من أخته هذا الكلام صار الضياء في وجهه ظلاماً وعظم ذلك عليه وكبر لديه والتحم بينهما القتال واشتد الحرب والنزال وغاص الإثنان في الأودية العراض الطوال وصبرا على الشدائد وشخصت لهما الأبصار فأخذهما الإنبهار ثم تجاولا ملياً واعتركا طويلاً وصار برطوط كلما يفتح لأخته مريم بابا من الحرب تبطله عليه وتسده بحسن صناعتها وقوة براعتها ومعرفتها وفروسيتها ولم يزالا على تلك الحالة حتى انعقد على رؤوسهما الغبار وغاب الفارسان عن الأبصار ولم تزل مريم تحاوله وتسد عليه طرائقه حتى كّل وبطلت همته واضمحل عزمه وضعفت قوته فضربته بالسيف على عاتقه فخرج يلمع من علائقه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار ثم أن مريم جالت في حومة الميدان وموقف الحرب والطعان، وطلبت البراز وسألت الإنجاز وقالت: هل من مقاتل? هل من مناجز لا يبرز لي اليوم كسلانٌ ولا عاجزٌ، لا يبرز لي إلا أبطال أعداء الدين لأسقيهم كأس العذاب المهين يا عبدة الأوثان وذوي الكفر والطغيان هذا يوم تبيض فيه وجوه أهل الإيمان وتسود فيه وجوه أهل الكفر بالرحمن، فلما رأى الملك ولده الكبير قتل لطم على وجهه وشق أثوابه وصاح على ولده الوسطاني، وقال له: يا برطوس يا ملقب بجزء السوس أبرز يا ولدي بسرعة إلى قتال أختك مريم وخذ ثأر أخيك برطوط وائتني بها أسيرة ذليلة حقيرة فقال لها: يا أبت السمع والطاعة.
ثم أنه برز لأخته مريم وحمل عليها، فلاقته وحملت عليه فتقاتلت هي وإياه قتالا شديدا أشد من الأول فرأى أخوها الثاني نفسه عاجزاً عن قتالها فأراد الفرار والهروب فلم يمكنه ذلك من شدة بأسها لأنه كلما ركن إلى الفرار تقربت منه ولاصقته وضايقته ثم ضربته بالسيف على رقبته فخرج يلمع من ليته وألحقته بأخيه وبعد ذلك جالت في حومة الميدان وموقف الحرب والطعان وقالت: أين الفرسان والشجعان? أين الوزير الأعور الأعرج? فعند ذلك صاح أبوها بقلبٍ جريحٍ وطرفٍ من الدمع قريحٍ وقال: إنها قتلت ولدي الأوسط وحق المسيح والدين الصحيح، ثم أنه صاح على ولده الصغير وقال له: يا فسيان يا ملقب بسلخ الصبيان أخرج يا ولدي إلى قتال أختك وخذ منها ثأر أخويك وصادمها أما لك أو عليك وأن ظفرت بها فأقتلها أقبح قتلة فعند ذلك برز لها أخوها الصغير وحمل عليها، فنهضت إليه ببراعتها وحملت عليه بحسن صناعتها ومعرفتها بالحرب وفروسيتها، وقالت له: يا عدو الله وعدو المسلمين لالحقنك بأخويك وبئس مثوى الكافرين.
ثم أنها جذبت سيفها من غمده وضربته فقطعت عنقه وذراعيه وألحقته بأخويه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى البطارقة والفرسان الذين كانوا ركبين مع أبيها أولاده الثلاثة قد قتلوا وكانوا أشجع أهل زمانها وقع في قلوبهم الرعب من السيدة مريم وأدهشتهم الهيبة ونكسوا رؤوسهم إلى الأرض وأيقنوا بالهلاك والدمار والذل والبوار واحترقت قلوبهم من الغيظ بلهيب النار فولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار.
فلما نظر الملك إلى أولاده وقد قتلوا وإلى عساكره وقد انهزموا أخذته الحيرة والإنبهار واحترق قلبه بلهيب النار وقال في نفسه: إن السيدة مريم قد استقلت بنا وأن جازفت بنفسي وبرزت إليها وحدي، ربما غلبت علي وقهرتني فتقتلني أشنع قتلة وتمثل بي أقبح مثلة كما قتلت أخوتها لأنها لم يبق لها فينا رجاءٌ ولا لنا في رجوعها طمعٌ، والرأي عندي أن أحفظ حرمتي وأرجع إلى مدينتي.
ثم أن الملك أرخى عنان فرسه ورجع إلى مدينته فلما استقر في قصره انطلقت في قلبه النار من أجل قتل أولاده الثلاثة، وانهزام عسكره وهتك حرمته فما استقر نصف ساعة حتى طلب أرباب دولته وكبراء مملكته وشكا إليهم فعل ابنته مريم معه من قتلها لأخواتها وما لاقاه من القهر والحزن واستشارهم فأشاروا عليه كلهم أن يكتب كتاباً إلى خليفة الله في أرضه أمير المؤمنين هارون الرشيد، ويعلمه بهذه القضية فكتب إلى الرشيد مكتوباً مضمونه: بعد السلام على أمير المؤمنين، أن لنا بنتاً اسمها مريم الزنارية قد أفسدها علينا أسيرٌ من أسرى المسلمين اسمه نور الدين علي ابن التاجر تاجر الدين المصري وأخذها ليلاً وخرج بها إلى ناحية بلاده وأنا أسأل من فضل مولانا أمير المؤمنين أن يكتب إلى سائر بلاد المسلمين بتحصيلها وإرسالها إلينا مع رسولٍ أمينٍ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة الواحد والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة الثانية والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة الثالثة والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة الرابعة والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة الخامسة والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة السادسة والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة السابعة والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة الثامنة والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة التاسعة والسبعون  بعد الثمانمائة

وفي الليلة الثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ملك إفرنجة لما كتب إلى الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد كتاباً يتضرع فيه ويطلب ابنته مريم ويسأله من فضله أن يكتب إلى سائر بلاد المسلمين بتحصيلها وإرسالها مع رسولٍ أمينٍ من خدام حضرة أمير المؤمنين ومن جملة مضمون ذلك الكتاب أننا نجعل لكم نظير مساعدتكم لنا على هذا الأمر نصف مدينة رومة الكبرى، لتبنوا فيها مساجد للمسلمين، ونجعل إليكم خراجها.
وبعد أن كتب الكتاب برأي أهل مملكته وكبراء دولته وطواه ودعا بوزيره الذي جعله وزيراً مكان الوزير الأعور وأمره أن يختم الكتاب بختم الملك وكذلك ختمه أرباب دولته بعد أن وضعوا خطوط أيديهم فيه، ثم قال لوزيره: إن انتهيت بها فلك عندي إقطاع أميرين وأخلع عليك خلعة بطرازين، ثم ناوله الكتاب وأمره أن يسافر إلى مدينة بغداد دار السلام ويوصل الكتاب إلى أمير المؤمنين من يده إلى يده، ثم سافر الوزير بالمكتوب وسار يقطع الأودية والقفار حتى وصل إلى مدينة بغداد، فلما دخلها مكث فيها ثلاثة أيامٍ حتى استقر واستراح ثم سأل عن قصر أمير المؤمنين هارون الرشيد فدلوه عليه، فلما وصل إليه طلب إذنا من أمير المؤمنين في الدخول عليه فأذن له في ذلك فدخل عليه وقبل الأرض بين يديه وناوله الكتاب الذي من ملك إفرنجة وصحبته من الهدايا والتحف العجيبة ما يليق بأمير المؤمنين.
فلما فتح الخليفة المكتوب وقرأه وفهم مضمونه أمر وزرائه من وقته أن يكتبوا المكاتيب إلى سائر بلاد المسلمين ففعلوا ذلك وبينوا في المكاتيب صفة مريم وصفة نور الدين واسمه واسمها وأنهما هاربان فكل من وجدهما فليقبض عليهما ويرسلهما إلى أمير المؤمنين وحذرهم من أن يعطوا في ذلك إمهالاً أو إهمالاً أو غفلةً، ثم ختمت الكتب وأرسلت مع السعاة فبادروا في إمتثال الأمر وساروا يفتشون في سائر البلاد على من يكون بهذه الصفة.
هذا ما كان من أمر هؤلاء الملوك وأتباعهم، وأما ما كان من أمر نور الدين المصري ومريم الزنارية ابنة ملك إفرنجة فإنهما ركبا بعد انهزام الملك وعساكره من وقتهما وساعتهما وسارا إلى بلاد الشام وقد ستر عليهما الرحمن فوصلا إلى مدينة دمشق وكانت الطلائع التي أرسلها الخليفة قد سبقتهما إلى دمشق الشام بيومٍ، فعلم أمير دمشق أنه مأمورٌ بالقبض عليهما متى وجدهما ليحضرهما بين الخليفة.
فلما كان يوم دخولهما إلى دمشق أقبل عليهما الجواسيس فسألوهما عن اسميهما فأخبراهما بالصحيح وقصا عليهم قصتهما وجميع ما جرى معهما، فعرفوهما وقبضوا عليهما وأخذوهما وساروا بهما إلى أمير دمشق فأرسلهما إلى الخليفة بمدينة بغداد دار السلام، فلما وصلوا إليها استأذنوا في الدخول على أمير المؤمنين هارون الرشيد فأذن لهم، فلما دخلوا عليه قبلوا الأرض بين يديه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجواسيس دخلوا على أمير المؤمنين وقالوا له: يا أمير المؤمنين إن هذه مريم الزنارية ابنة ملك إفرنجة وهذا نور الدين ابن التاجر تاج الدين المصري الذي أفسدها على أبيها وسرقها من بلاده ومملكته وهرب بها إلى دمشق فوجدناهما حين دخولهما دمشق وسألناهما عن اسميهما فأجابانا بالصحيح فعند ذلك أتينا بهما وأحضرناهما بين يدك.
فنظر أمير المؤمنين إلى مريم الزنارية فرآها رشيقة القد والقوام فصيحة الكلام مليحة أهل زمانها فريدة عصرها وأوانها حلوة اللسان ثابتة الجنان قوية القلب. فلما وصلت إليه قبلت الأرض بين يديه ودعت له بدوام العز والنعم وزوال البؤس والنقم، فأعجب الخليفة حسن قوامها وعذوبة ألفاظها وسرعة جوابها فقال لها: هل أنت مريم الزنارية ابنة ملك إفرنجة? قالت: نعم يا أمير المؤمنين وأمام الموحدين وحامي حرمة الدين وابن عم سيد المرسلين، فعند ذلك التفت الخليفة فرأى علياً نور الدين شاباً مليحاً حسن الشكل كأنه البدر المنير في ليلة تمامه فقال له الخليفة: هل أنت نور الدين الأسير ابن التاجر تاج الدين المصري? قال: نعم يا أمير المؤمنين وعمدة القاصدين، فقال الخليفة: كيف أخذت هذه الصبية من مملكة أبيها وهربت بها? فصار نور الدين يحدث الخليفة بجميع ما جرى له من أول الأمر إلى آخره، فلما فرغ من حديثه تعجب الخليفة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة هارون الرشيد لما سأل نور الدين عن قصته وأخبره بجميع ما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، فتعجب الخليفة من ذلك غاية العجب وقال: ما أكثر ما تقاسيه الرجال، ثم إنه التفت إلى السيدة مريم وقال: يا مريم اعلمي أن والدك ملك إفرنجة قد كاتبنا في شأنك فما تقولين? قالت: يا خليفة الله في أرضه وقائماً بسنة نبيه وفرضه خلد الله عليك النعم وأجارك من البؤس والنقم أنت خليفة الله في أرضه قد دخلت دينكم لأنه هو الدين القويم الصحيح وتركت ملة الكفره الذين يكذبون على المسيح وقد صرت مؤمنة بالله الكريم ومصدقة بما جاء به رسوله الرحيم أعبد سبحانه وتعالى وأوحده وأسجد خاضعةً إليه وأمجده وأنا قائلة بين يدي الخليفة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فهل في وسعك يا أمير المؤمنين أن تقبل كتاب الملحدين وترسلني إلى بلاد الكافرين الذين يشركون بالملك الغلام ويعظمون الصليب ويعبدون الأصنام ويعتقدون إلهية عيسى وهو مخلوقٌ فإن فعلت بي ذلك يا خليفة الله أتعلق بأذيالك يوم العرض على الله وأشكوك إلى ابن عمك رسول الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فقال أمير المؤمنين: يا مريم معاذ الله أن أفعل ذلك أبداً، كيف أرد امرأةً مسلمةً موحدةً بالله ومصدقة برسوله إلى ما نهى الله عنه ورسوله فقالت مريم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال لها أمير المؤمنين: يا مريم بارك الله فيك وزادك هدايةً إلى الإسلام حيث كنت مسلمةً موحدةً بالله، فقد صار لك علينا حقٌ واجبٌ وهو أنني لا أفرط فيك أبداً ولو بذل لي من أجلك ملء الأرض جواهر وذهباً فطيبي نفساً وقري عيناً وانشرحي صدراً ولا يكن خاطرك إلا طيباً، فهل رضيت أن يكون هذا الشاب نور الدين المصري لك بعلاً وتكوني له أهلاً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أمير المؤمنين قال لمريم: هل رضيت أن يكون نور الدين المصري لك بعلاً وتكوني له أهلاً? فقالت مريم: يا أمير المؤمنين كيف لا أرضى أن يكون لي بعلاً وقد اشتراني بماله وأحسن إلي غاية الإحسان ومن تمام إحسانه أنه خاطر بروحه من أجلي مراراً عديدةً فزوجها به أمير المؤمنين وعمل لها مهراً وأحضر القاضي والشهود وأكابر دولته يوم زواجها عند كتب الكتاب وكان يوماً مشهوداً.
ثم بعد ذلك التفت أمير المؤمنين من وقته وساعته إلى وزير ملك الروم وكان حاضراً في تلك الساعة وقال له: هل سمعت كلامها كيف أرسلها إلى أبيها الكافر وهي مسلمةً موحدةً بالله وربما أساءها وأغلظ عليها خصوصاً وقد قتلت أولاده فأتحمل أنا ذنبها يوم القيامة وقد قال الله تعالى: )ولن يجعل الله الكافرين على المؤمنين سبيلاً(. فأرجع إلى ملكك وقل له: ارجع عن هذا الأمر ولا تطمع فيه، وكان ذلك الوزير أحمقٌ فقال للخليفة: يا أمير المؤمنين وحق المسيح والدين الصحيح أني لا يمكنني الرجوع بدون مريم ولو كانت مسلمة لأني لو رجعت إلى أبيها بدونها يقتلني فقال الخليفة: خذوا هذا الملعون واقتلوه وأنشد هذا البيت:
هذا جزاء من عصى              من فوقه وعصيانه

ثم أمر بضرب عنق الوزير الملعون وحرقه فقالت السيدة مريم: يا أمير المؤمنين لا تنجس سيفك بدم الملعون ثم جردت سيفها وضربته به فأطاحت رأسه عن جثته فذهب إلى دار البوار ومأواه جهنم وبئس القرار، فتعجب الخليفة من صلابة ساعدها وقوة جنانها ثم خلع على نور الدين خلعةً سنيةً وأفرد لهما مكاناً في قصره هي ونور الدين ورتب لهما المرتبات والجوامك والعلوفات وأمر بأن ينقل إليهما جميع ما يحتاجان إليه من الملابس والمفارش والأواني النفسية وأقاما في بغداد مدةً في الزمان وهما في أرغد عيش وأهناه.
وبعد ذلك اشتاق نور الدين إلى أمه وأبيه فعرض الأمر على الخليفة وطلب منه إذناً في التوجه إلى بلاده وزيارة أقاربه فدعا بمريم وأحضرها بين يديه وأجازه بالتوجه وأتحفه بالهدايا والتحف الثمينة وأوصى مريم ونور الدين ببعضهما، ثم أمر بالمكاتيب إلى أمراء مصر المحروسة وعلمائها وكبرائها بالوصية على نور الدين هو ووالديه وجاريته وإكرامهم غاية الإكرام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أمير المؤمنين كتب إلى أمراء مصر وعلمائها وكبرائها بالوصية على نور الدين ووالديه وجاريته وإكرامهم غاية الإكرام، فلما وصلت الأخبار إلى مصر فرح التاجر تاج الدين بعودة ولده نور الدين وكذلك أمه فرحت بذلك غاية الفرح وتوجه للقائه الأكابر والأمراء وأرباب الدولة من أجل وصية الخليفة فلاقوا نور الدين وكان لهم يومٌ مشهودٌ مليحٌ عجيبٌ اجتمع فيه المحب والمحبوب واتصل الطالب بالمطلوب وصارت الولائم كل يوم على واحدٍ من الأمراء وفرحوا بهم فرحاً عظيماً وأكرموهما الإكرام المتصاعد.
فلما اجتمع نور الدين بوالدته ووالده فرحوا ببعضهم غاية الفرح وزال عنهم الهم والترح وكذلك فرحوا بالسيدة مريم وكرموها غاية الإكرام ووصلت إليهم الهدايا والتحف من سائر الأمراء والتجار العظام وصاروا كل يومٍ في انشراح جديدٍ وسرورٍ أعظم من سرور العيد، ولم يزالوا في فرحٍ ولذات ونعمٍ جزيلةٍ وأكلٍ وشربٍ وسرورٍ مدةً من الزمان إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب الدور والقصور ومعمر بطون القبور فانتقلوا من الدنيا بالممات وصاروا في عداد الأموات، فسبحان الحي الذي لا يموت وبيده مقاليد الملك والملكوت.

حكاية الشاب البغدادي مع جاريته التي اشتراها

يحكى أنه كان في قديم الزمان رجلٌ بغدادي من أولاد أهل النعم ورث عن أبيه مالاً جزيلاً وكان يعشق جاريةً اشتراها وكانت تحبه كما يحبها ولم يزل ينفق عليها إلى أن ذهب جميع ماله ولم يبق منه شيء فطلب شيئاً من أسباب المعاش يتعيش فيه فلم يقدر، وكان ذلك الفتى في أيام غناه يحضر مجالس العرفين بصناعة الغناء فبلغ فيها الغاية القصوى، فاستشار أحد إخوانه فقال له: أنا لا أعرف لك صنعةً أحسن من أن تغني أنت وجاريتك فتأخذ على ذلك المال الكثير وتأكل وتشرب، فكره ذلك هو والجارية.
فقالت له جاريته: قد رأيت لك رأياً، قال: ما هو? قالت: تبيعني ونخلص من هذه الشدة أنا وأنت وأكون في نعمةٍ، فإن مثلي لا يشتريه إلا ذو نعمةٍ وبذلك أكون سبباً في رجوعي إليك، فأطلعها إلى السوق فكان أول من رآها رجلٌ هاشمي من أهل البصرة وكان ذلك الرجل أديباً ظريفاً كريم النفس فاشتراها بألف وخمسمائة دينار وذلك الفتى صاحب الجارية فلما قبضت الثمن ندمت وبكت أنا والجارية وطلبت الإقامة فلم يرض، فوضعت الدنانير في الكيس وأنا لا أدري أين أذهب لأن بيتي أصبح موحشاً بعد غيابها وحصل لي من البكاء واللطم والنحيب ما لم يحصل لي قطٌ من قبل، فدخلت بعض المساجد وقعدت أبكي فيه واندهشت حتى صرت لا أعلم بنفسي، فنمت ووضعت الكيس تحت رأسي كالمخدة فلم أشعر إلا وإنسان قد سحبه من تحت رأسي فانتبهت فزعاً مرعوباً فلم أجد الكيس فقمت أجري خلفه وإذا برجلي مربوطةٌ في حبل، فوقعت على وجهي وصرت أبكي وألطم وقلت في نفسي: فارقتك روحك وضاع مالك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ذلك الفتى لما ضاع منه الكيس قال: قلت في نفسي فارقتك روحك وضاع مالك وزادني الحال فجئت إلى الدجلة وحملت ثوبي على وجهي وألقيت نفسي في البحر ففطن بي الحاضرون وقالوا إن ذلك لعظيم همٍ حصل له فرموا أرواحهم خلفي وأطلعوني وسألوني عن أمري فأخبرتهم بما حصل لي فتأسفوا لذلك ثم جاءني شيخ منهم وقال: قد ذهب مالك وكيف تتسبب في ذهاب روحك فتكون من أهل النار قم معي حتى أرى منزلك ففعلت ذلك فلما وصلنا إلى منزلي قعد عندي ساعةً حتى سكن ما بي فشكرته عن ذلك ثم انصرف فلما خرج من عندي كدت أن أقتل روحي فتذكرت الآخرة والنار فخرجت من بيتي هارباً إلى بعض الأصدقاء فأخبرته بما جرى لي فبكى رحمةً لي وأعطاني خمسين ديناراً وقال لي: أقبل رأيي وأخرج في هذه الساعة من بغداد وأجعل هذه نفقة لك، إلى أن يشتغل قلبك عن حبها وتسلوها وأنت من أهل الإنشاء والكتابة وخطك جيداً وأدبك بارع فاقصد من شئت من العمال وأطرح نفسك عليه لعل الله يجمعك بجاريتك فسمعت منه وقد قوى عزمي وأزال عني بعض الهموم وعزمت على أني أقصد أرض واسط لأن فيها أقارب فخرجت إلى ساحل البحر فرأيت سفينةً رأسيةً والبحرية ينقلون إليها أمتعة وقماشاً فاخراً فسألتهم أن يأخذوني معهم فقالوا: إن هذه السفينة لرجل هاشمي ولا يمكننا أخذك على هذه الصورة فرغبتهم في الأجرة فقالوا: إن كان ولا بد فاقلع هذه الثياب الفاخرة التي عليك وألبس ثياب الملاحين وأجلس معنا كأنك واحدٌ منا فرجعت واشتريت شيئاً من ثياب الملاحين ولبسته وجئت إلى السفينة وكانت متوجهةً إلى البصرة فنزلت معهم، فما كان إلا ساعةً حتى رأيت جاريتي بعينها ومعها جاريتان يخدمانها فسكن ما كان عندي من الغيظ وقلت في نفسي: ها أنا أراها وأسمع غناءها إلى البصرة فما أسرع إن جاء الهاشمي راكباً ومعه جماعة فنزلوا في تلك السفينة وانحدرت بهم وأخرج الطعام فأكل هو والجارية، وأكل الباقون في وسط السفينة.
ثم قال الهاشمي للجارية: كم هذا التمنع من الغناء ولزوم الحزن والبكاء ما أنت أول من فارق من يحب فعلمت ما كان عندها من أمر حبي ثم ضرب سائراً على الجارية في جانب السفينة واستدعى الذين كانوا في ناحيتي وجلس معهم خارج الستارة فسألت عنهم فإذا هم أخوته ثم أخرج لهم ما يحتاجون إليه من الخمر والنقل ولم يزالوا يحثون الجارية على الغناء إلى أن استدعت بالعود وأصلحته وأخذت تغني فأنشدت هذين البيتين:
بان الخليط بمن أحب فادلجـوا             وعن السرى بمنأى لم يتحرجوا
والصب بعد أن اسقتل ركابهـم             جمر الغضى في قلبه يتأجـج

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية بعدما أنشدت بيتين من الشعر غلبها البكاء ورمت العود وقطعت الغناء فتنغص القوم ووقعت أنا مغشياً علي فظن القوم أني قد صرعت فصار بعضهم يقرأ في أذني ولم يزالوا يلاطفونها ويطلبون منها الغناء إلى أن أصلحت العود وأخذت تغني فأنشدت:
فوقفت أندب طاعنين تحمـلـوا             هم في الفؤاد وأن نأوا وترجلوا
وقالت أيضاً: 
ووقفت بالأطلال أسأل عنهم               والدار قفر والمنازل بلقع

ثم وقعت مغشياً عليها وارتفع البكاء من الناس وصرخت أنا ووقعت مغشياً علي وضح الملاحون مني فقال بعض غلمان الهاشمي: كيف حملتم هذا الجنون? ثم قال بعضهم لبعض: إذا وصتلم إلى بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه فحصل لي من ذك همٌ عظيمٌ وعذابٌ أليمٌ فتجلدت غاية الجلد وقلت في نفسي: لا حيلة لي في الخلاص من أيديهم إلا أن أعلمهم بمكاني من السفينة لتمنع من إخراجي ثم صرنا حتى وصلنا إلى قرب ضيعةٍ فقال صاحب السفينة: اصعدوا بنا الشاطئ فطلع القوم وكان ذلك وقت المساء فقمت حتى صرت خلف الستارة وأخذت العود وغيرت الطرق طريقةً بعد طريقة، وضربت على الطريقة التي تعلمتها مني ورجعت إلى موضعي من السفينة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الفتى قال: ثم رجعت إلى موضعي من السفينة وبعد ذلك نزل القوم من الشاطئ ورجعوا إلى مواضعهم في السفينة وقد انبسط القمر على البر والبحر فقال الهاشمي للجارية: بالله عليك لا تنغصي علينا عيشنا فأخذت العود وجسته بيدها وشهقت، فظنوا أن روحها قد خرجت ثم قالت: والله إن أستاذي معنا في هذه السفينة فقال الهاشمي: والله لو كان معنا ما ضيعته من معاشرتنا لأنه ربما كان يخفف ما بك فننتفع بغنائك ولكن كونه في السفينة أمر بعيد فقالت: لا أقدر على ضرب العود وتقليب الأهوية ومولاي معنا، قال الهاشمي: نسأل الملاحين فقالت: أفعل، فسألهم وقال: هل حملتم معكم أحداً? فقالوا له: لا، فخفت أن ينقطع السؤال فضحكت وقلت: نعم أنا أستاذها وعلمتها حين كنت سيدها فقالت: والله إن هذا كلام مزري فجاءني الغلمان وأخذوني إلى الهاشمي فلما رآني عرفني فقال: ويحك ما هذا الذي أنت فيه وما أصابك حتى صرت في هذه الحالة? فحكيت له ما جرى من أمري وبكيت وعلا نحيب الجارية من خلف الستارة، وبكى الهاشمي هو وأخوته بكاءً شديداً رأفةً بي ثم قال: والله ما دنوت من هذه الجارية ولا وطئتها ولا سمعت لها غناء إلا اليوم وأنا رجلٌ قد وسع الله علي وإنما وردت بغداد لسماع الغناء وطلب أرزاقي من أمير المؤمنين وقد بلغت الأمرين، ولما أردت الرجوع إلى بلادي أحببتن أن اصطحب معي جاريةً من عندكم لكي أسمع شيئاً من غناء بغداد فاشتريت هذه الجارية ولم أعلم أنكما على هذه الحالة فأنا أشهد الله على أن هذه الجارية إذا وصلت إلى البصرة أعتقها وأزوجك إياها وأجري لكما ما يكفيكما وزيادة ولكن على شرط أني إذا أردت السماع يضرب لها ستارة وتغني من خلف الستارة وأنت من جملة أخواني وندمائي ففرحت بذلك ثم أن الهاشمي أدخل رأسه في الستارة وقال لها: أيرضيك ذلك? فأخذت تدعو له وتشكره.
ثم استدعى بغلام له وقال له: خذ بيد هذا الشاب وانزع ثيابه وألبسه ثياباً فاخرةً وبخره وقدمه إلينا فأخذني الغلام وفعل بي ما أمره به سيده وقدمني إليه فوضع بين يدي الشراب مثل ما وضعه بين أيديهما ثم اندفعت الجارية تغني بأحسن النغمات وتنشد هذه الأبيات:
عيروني بأن سكبـت دمـوعـي             حين جاء الحبـيب لـلـتـوديع
لم يذوقوا طعم الـفـراق ولا مـا            أحرقت لوعة الأسى من ضلوعي
إنمـا يعـرف الـغـرام كـئيبٌ                 ساقط القلب بين تلـك الـربـوع
قال: فطرب القوم من ذلك طرباً شديداً وزاد فرح الفتى بذلك ثم أخذ العود من الجارية وضرب به على أحسن النغمات وأنشد هذه الأبيات:
اسأل العرف أن سألت كريماً               لم يزل يعرف الغني واليسارا
فسؤال الكـريم يورث عـزاً                 وسؤال اللـئيم يورث عـارا
وإذا لم يكن مـن الـذل بـدٌ                  فالق بالذل إن سألت الكبـارا
ليس إجلالك الـكـريم بـذلٍ                   إنما الذل أن أتجل الصغـارا

ففرح القوم بي وزاد فرحهم ولم يزالوا في فرحٍ سرورٍ، وأنا أغني ساعةٍ والجارية ساعة إلى أن جئنا إلى بعض السواحل فرست السفينة هناك وصعد كل من فيها وصعدت أنا أيضاً وكنت سكراناً فعدت أبول فغلبني النوم فنمت ورجعت الركاب إلى السفينة وانحدرت بهم ولم يعلموا بي لأنهم كانوا سكارى وكنت دفعت النفقة إلى الجارية ولم يبق معي شيءٌ ووصلوا إلى البصرة ولم انتبه إلا من حر الشمس فقمت من ذلك المكان فما رأيت أحدا ونسيت أن اسأل الهاشمي عن اسمه وأين داره بالبصرة وبأي شيءٍ يعرف وبقيت حيراناً وكأن ما كنت فيه من الفرح بلقاء الجارية منام ولم أزل متحيراً حتى اجتازت بي ومكثت معي فقلت فيها ودخلت البصرة وما أعرف بها أحداً ولا أعرف بيت الهاشمي فجئت إلى بقال وأخذت منه دواةً وورقة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن البغدادي صاحب الجارية لما دخل البصرة صار حيران وهو لا يعرف أحداً ولا يعرف دار الهاشمي قال: فجئت إلى بقال وأخذت منه دواةً وورقةً وقعدت أكتب فاستحسن خطي ورأى ثوبي دنساً فسألني عن أمري فأخبرته أني غريبٌ فقيرٌ فقال: أتقيم عندي ولك في كل يوم نصف درهم وأكلك وكسوتك وتضبط لي حساب دكاني? فقلت: نعم، وأقمت عنده وضبطت أمره ودبرت له دخله وخرجه فلما كان بعد شهر رأى الرجل دخله زائداً وخرجه ناقصاً فشكرني على ذلك ثم أنه جعل لي في كل يوم درهماً إلى أن حال الحول فدعاني أن أتزوج ابنته ويشاركني في الدكان فأجبته إلى ذلك ودخلت بزوجتي ولزمت الدكان إلا أني منكسر الخاطر والقلب ظاهر الحزن فمكثت على تلك الحالة مدة سنتين فبينما أنا في الدكان وإذا بجماعةٍ معهم طعامٌ وشرابٌ فسألت البقال عن القضية فقال: هذا يوم المتنعمين يخرج فيه أهل الطرب واللعب والفتيان من ذوي النعمة إلى شاطئ البحر يأكلون ويشربون بين الأشجار على نهر الآيلة فدعتني نفسي إلى الفرجة على هذا الأمر وقلت في نفسي: لعلي إذ شاهدت هؤلاء الناس اجتمع بمن أحب فقلت للبقال: إني أريد ذلك.
فقال: شأنك والخروج معهم ثم جهز لي طعاماً وشراباً وسرت حتى وصلت إلى نهر الآيلة، فإذا الناس ينصرفون فأردت الإنصراف معهم وإذا برئيس السفينة التي كان فيها الهاشمي والجارية بعينها وهو سائر في نهر الآيلة فصحت عليهم فعرفني هو ومن معه وأخذوني عندهم وقالوا لي: هل أنت حيٌ وعانقوني وسألوني عن قصتي فأخبرتهم بها فقالوا: إنا ظننا أنه قوي عليك السكر، وغرقت في الماء فسألتهم عن حال الجارية فقالوا: إنها لما علمت بفقدك مزقت ثيابها وأحرقت العود وأقامت على اللطم والنحيب فلما رجعنا مع الهاشمي إلى البصرة قلنا لها: اتركي هذا البكاء والحزن فقالت: أنا ألبس السواد وأجعل لي قبراً في جانب هذه الدار فأقيم عند ذلك القبر وأتوب عن الغناء فمكناها من ذلك وهي في تلك الحالة إلى الآن ثم أخذوني معهم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن البغدادي قال: فأخذوني معهم فلما وصلت إلى الدار رأيتها على تلك الحالة فلما رأتني شهقت شهقةً عظيمةً حتى ظننتها أنها ماتت فاعتنقتها عناقاً طويلاً.
ثم قال لي الهاشمي: خذها فقلت: نعم ولكن أعتقها كما وعدتني وزوجني بها ففعل ذلك ودفع إلينا أمتعةً نفيسةً وثياباً كثيرةً وفرشاً وخمسمائة دينارٍ، وقال: هذا مقدار ما أردت إعطائه لكما في كل شهرٍ، ولكن بشرط المنادمة وسماع الجارية ثم أخلى لنا دار وأمر بأن ينقل إليها جميع ما نحتاج إليه فلما توجهت إلى تلك الدار وجدتها قد غمرت بالفرش والقماش وحملت إليها الجارية ثم أنني جئت إلى البقال وأخبرته بجميع ما حصل لي وسألته أن يجعلني في حلٍ من طلاق ابنته من غير ذنبٍ ودفعت إليها ما يلزمني وأقمت مع الهاشمي على ذلك سنتين وصرت صاحب نعمةٍ عظيمةٍ وعادت لي حالتي التي كنت فيها أنا والجارية في بغداد وقد فرج الله الكريم عنا وأسبغ جزيل النعم علينا وجعل مآل صبرنا إلى الظفر بالمراد فلله الحمد في المبدأ والمعاد، والله أعلم.

حكاية ورد خان بن الملك جليعاد

ومما يحكى أيضاً أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملكٌ من بلاد الهند وكان ملكاً عظيماً طويل القامة حسن الصورة حسن الخلق كريم الطبائع محسناً للفقراء محباً للرعية ولجميع أهل دولته وكان اسمه جليعاد وكان تحت يده في مملكته اثنان وسبعون ملكاً ولبلاده ثلثمائة وخمسون قاضياً وكان له سبعون وزيراً وقد جعل على كل عشرة من عسكره رئيساً وكان أكبر وزرائه شخصاً يقال له شماس وكان عمره مائتي وعشرون سنة وكان حسن الخلق والطباع لطيفاً في كلامه ليناً في جوابه حاذقاً في جميع أموره حكيماً مدبراً رئيساً مع كبر سنه عارفاً بكل حكمةٍ وأدبٍ وكان الملك يحبه محبةً عظيمةً ويميل إليه لمعرفته بالفصاحة والبلاغة وأحوال السياسة ولما أعطاه الله من الرحمة وحفظ النجاح للرعية.
وكان ذلك الملك عادلاً في مملكته حافظاً لرعيته مواصلاً كبيرهم وصغيرهم بالإحسان وما يليق بهم من الرعاية والعطايا والأمان والطمأنينة مخففاً للخراج عن كامل الرعية وكان محباً لهم كبيراً وصغيراً ومعاملاً لهم بالإحسان إليهم والشفقة عليهم وأتى في حسن بينهم بما لم يأت به أحدٌ قبله ومع هذا كله لم يرزقه الله تعالى بولدٍ فشق ذلك عليه وعلى أهل مملكته فاتفق أن الملك كان مضطجعاً في ليلةٍ من الليالي وهو مشغول البال والفكر في عاقبة أمر مملكته، ثم غلب عليه النوم فرأى في منامه كأنه يصب ماء في أصل شجرة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك رأى في منامه كأنه يصب ماء في أصل شجرة وحول تلك الشجرة أشجار كثيرة وإذا بنارٍ قد خرجت من تلك الشجر وأحرقت جميع ما كان حولها من الأشجار، فعند ذلك انتبه الملك من منامه فزعاً مرعوباً واستدعى أحد غلمانه وقال له: اذهب بسرعة وأتني بشماس الوزير عاجلاً فذهب الغلام إلى الوزير شماس وقال له: إن الملك يدعوك في هذه الساعة لأنه انتبه من نومه مرعوباً فأرسلني إليك لتحضر عنده عاجلاً فلما سمع الوزير شماس كلام الغلام قام من وقته وساعته وتوجه إلى الملك ودخل عليه فرآه قاعداً على فراشه فسجد بين يديه داعياً له بدوام العز والنعم وقال له: لا أحزنك الله أيها الملك ما الذي أقلقك في هذه الليلة وما سبب طلبك إياي بسرعةٍ? فأذن الملك بالجلوس فجلس وصار الملك يقص عليه ما رأى قائلاً: إني رأيت في ليلتي هذه مناماً هالني وهو كأني أصب ماء في أصل شجرة وحول تلك الشجرة أشجار كثيرة فبينما أنا في هذه الحالة وإذا بنارٍ خرجت من أصل تلك الشجرة وأحرقت جميع ما حولها الأشجار ففزعت من ذلك وأخذني الرعب فانتبهت عند ذلك وأرسلت دعوتك لكثرة معرفتك ولما أعلمه من اتساع علمك وغزارة فهمك فأطرق الوزير شماس رأسه ساعةً ثم تبسم فقال له الملك: ماذا رأيت يا شماس أصدقني الخبر ولا تخف عني شيئاً? فأجابه الوزير شماس وقال له: أيها الملك إن الله تعالى خولك وأقر عينك وأمر هذه الرؤيا يؤول إلى كل خير وهو أن الله تعالى يرزقك ولداً ذكراً يكون وارثاً للملك عنك من بعد طول عمرك غير أنه يكون فيه شيء لا أحب تفسيره في هذا الوقت لأنه غير موافق لتفسيره ففرح الملك بذلك فرحاً عظيماً وزاد سروره وذهب عنه فزعه وطابت نفسه وقال: إن كان الملك كذلك من حسن تأويل المنام فكمل لي تأويله إذا جاء الوقت الموافق لكمال تأويله فالذي لا ينبغي تأويله الآن ينبغي أن تؤوله لي إذا آن أوانه لأجل أن يكمل فرحي لأني لا أبتغي بذلك غير رضا الله سبحانه وتعالى.
فلما رأى شماس من الملك أنه صمم على تمام تفسيره احتج له بحجة دافع بها عن نفسه فعند ذلك دعا الملك بالمنجمين وجميع المعبرين للأحلام الذين في مملكته فحضروا جميعاً بين يديه وقص عليهم ذلك المنام وقال لهم أريد منكم أن تخبروني بصحة تفسيره فتقدم واحداً منهم وأخذ إذناً من الملك بالكلام فلما أذن له قال: اعلم أيها الملك أن شماس وزيرك ليس بعاجزٍ عن تفسير ذلك وإنما هو احتشم منك وسكن روعك ولم يظهر لك جميع التأويل بالكلية ولكن إذا أذنت لي بالكلام تكلمت فقال له الملك: تكلم أيها المفسر بلا احتشام وأصدق في كلامك فقال المفسر: أعلم أيها الملك أنه يظهر منك غلام يكون وارثاً للملك عنك بعد طول حياتك ولكنه لا يسير في الرغبة بسيرك بل يخالف رسومك ويجور على رعيتك ويصيبه ما أصاب الفأر مع السنور، فاستعاذ الملك بالله تعالى وقال: وما حكاية السنور والفأر? فقال المفسر: أطال الله عمر الملك أن السنور هو القط سرح سرحة من الليالي إلى شيءٍ يفترسه في بعض الغيطان فما وجد شيئاً وضعف من شدة البرد والمطر اللذين حصلا في تلك الليلة فأخذ يحتال لنفسه بشيءٍ فبينما هو دائر على تلك الحالة إذ رأى وكراً في أسفل شجرة فدنا منه وصار يشمشم ويدندن حتى أحس أن داخل الوكر فأراً فحوله وهم بالدخول عليه لكي يأخذه فلما أحس به الفأر أعطاه قفاً وصار يزحف على يديه ورجليه لكي يسد باب الوكر عليه فعند ذلك صار السنور يصوت صوتاً ضعيفاً ويقول: لم تفعل ذلك يا أخي وأنا ملتجيءٌ إليك لتفعل معي رحمة بأن تقربي في وكرك هذه الليلة لأني ضعيف الحال من كبر سني وذهاب قوتي ولست أقدر على الحركة وقد توغلت في هذا الغيط هذه الليلة وكم دعوت بالموت على نفسي لكي أستريح وها أنا على بابك طريح من البرد والمطر وأسألك بالله من صدقتك أن تأخذ بيدي وتدخلني عندك وتأويني في دهليز وكرك لأني غريبٌ ومسكينٌ وقد قيل: من أوى بمنزله غريباً مسكيناً كان مأواه الجنة يوم الدين فأنت يا أخي حقيق بأن تكسب أجري وتأذن لي في أن أبيت عندك هذه الليلة إلى الصباح ثم أروح إلى حال سبيلي.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السنور قال للفأر: ائذن لي أن أبيت عندك هذه الليلة ثم أروح إلى حال سبيلي، فلما سمع الفأر كلام السنور قال له: كيف تدخل وكري وأنت عدو لي بالطبع ومعاشك من لحمي وأخاف أن تغدر بي لأن ذلك من شيمتك لأنه لا عهد لك وقد قيل: لا ينبغي الأمان للرجل الزاني على المرأة الحسناء ولا الفقير العائل على المال وكالنار على الحطب وليس بواجب علي أن استأمنك على نفسي وقد قيل: عداوة الطبع لا ضعف صاحبها دنت أقوى، فأجاب السنور قائلاً بأحسن صوت وأسوأ حال: إن الذي قلته من المواعظ حق ولست أنكر عليك ولكن أسألك الصفح عما مضى من العداوة الطبيعية التي بيني وبينك لأنه قد قبل من صفح عن مخلوق مثله صفح خالقه عنه وقد كنت قبل ذلك عدواً لك وها أنا اليوم طالب صداقتك وقد قيل: إذا أردت أن يكون عدوك لك صديقاً فافعل معه خيراً، وأنا يا أخي أعطيك عهد الله وميثاقه إني لا أضربك أبداً ومع هذا ليس لي قدرةٌ على ذلك فثق بالله وأفعل خيراً وأقبل عهدي وميثاقي.
فقال الفأر: كيف أقبل عهد من تأسست العداوة بيني وبينه وعادته أن يغدر بي ولو كانت العداوة بيننا على شيءٍ من الأشياء غير الدم لهان علي ذلك، ولكنها عداوة طبيعية بين الأرواح وقد قيل: من استأمن عدوه على نفسه كان كمن أدخل يده في فم الأفعى فقال السنور وهو ممتلئ غيظاً قد ضاق صدري وضعفت نفسي وها أنا في النزاع وبعد قليل أموت على بابك ويبقى إثمي عليك لأنك قادرٌ على نجاتي مما أنا فيه وهذا آخر كلامي معك فحصل للفأر خوف من الله تعالى ونزلت في قلبه الرحمة وقال في نفسه: من أراد المعونة من الله تعالى على عدوه فليصنع معه رحمةً وخيراً وأنا متوكل على الله في هذا الأمر وأنقذ هذا السنور من الهلاك لأكسب أجره.
فعند ذلك خرج الفأر إلى السنور وأدخله في وكره سحباً فأقام عنده إلى أن اشتد واستراح وتعافى قليلاً فصار يتأسف على ضعفه وذهاب قوته وقلة أصدقائه فصار الفأر يترفق به ويأخذ بخاطره ويتقرب منه ويسعى حوله وأما السنور فإنه زحف إلى الوكر حتى ملك المخرج خوفاً أن يخرج منه الفأر فلما أراد الخروج قرب السنور وعلى عادته فلما صار قريباً منه قبض عليه وأخذه بين أظافره وصار يعضه وينثره ويأخذه في فمه ويرفعه عن الأرض ويرميه ويجري وراءه وينهشه ويعذبه فعند ذلك استغاث الفأر وطلب الخلاص من الله وجعل يعاقب السنور ويقول: أين العهد الذي وعدتني به وأين أقسامك التي أقسمت بها? هذا جزائي منك وقد أدخلتك وكري واستأمنتك على نفسي ولكن صدق من قال: من أخذ عهداً من عدوه لا ينبغي لنفسه نجاة ومن قال: من أسلم نفسه لعدوه وكان مستوجباً لنفسه الهلاك ولكن توكلت على خالقي فهو الذي يخلصني منك.
فبينما هو على تلك الحالة مع السنور وهو وجد أن يهجم عليه وينهش فيه ويفترسه وإذا برجلٍ صيادٍ معه كلاب جارحة معودة بالصيد فمر بهم كلب على باب الوكر فسمع فيه معركةً كبيرةً فظن أن فيه ثعلباً يفترس شيئاً فاندفع الكلب منحدراً ليصطاده فصادف السنور فجذبه إليه فلما وقع السنور بين يدي الكلب التهى بنفسه وأطلق الفأر حياً ليس فيه جرح وأما هو فأنه خرج به الكلب الجارح بعد أن قطع عصبه ورماه ميتاً وصدق في حقهما قول من قال: من رحم رحم آجلاً ومن ظلم ظلم عاجلاً.
هذا ما جرى لهما أيها الملك فلذلك لا ينبغي لأحد أن ينقض عهد من استأمنه ومن غدر وخان يحصل له مثل ما حصل للسنور لأنه كما يدين الفتى يدان ومن يرجع إلى الخير ينل الثواب ولكن لا تحزن أيها الملك ولا يشق عليك ذلك لأن ولدك بعد ظلمه وعسفه ربما يعود إلى حسن سيرتك وأن هذا لعالم الذي هو وزيرك شماس أحب أن لا يكتم عليك شيءٌ فيما رمزه إليك وذلك رشد منه وقيل أن أكثر الناس خوفاً أوسعهم علماً وأغبطهم خيراً فأذعن الملك عند ذلك وأمر لهم بإكرام جزيل، ثم صرفهم وقام ودخل مكانه وصار يتفكر في عاقبة أمره.
فلما جن الليل أقضى إلى بعض نسائه وكانت أكرمهن عنده وأحبهن إليه فراقدها فلما تم لها نحو أربعة أشهر تحرك الجنين في بطنها ففرحت بذلك فرحاً شديداً وأعلمت الملك بذلك فقال: صدقت رؤياي والله المستعان ثم أنزلها أحسن المنازل وأكرمها غاية الإكرام وأعطاها أنعاماً جزيلاً وحولها بشيءٍ كثير وبعد ذلك دعا ببعض الغلمان وأرسله ليحضر الوزير شماس، فلما حضر حدثه الملك بما صار من حمل زوجته وهو فرحان قائلاً: قد صدقت رؤياي واتصل رجائي فلعل ذلك الحمل يكون ولداً ذكراً ويكون وارثاً لملكي فما تقول يا شماس في ذلك? فسكت شماس ولم ينطق بجوابٍ فقال له الملك: ما لي أراك لا تفرح فرحي ولا ترد لي جواباً يا ترى هل أنت كارهٌ لهذا الأمر يا شماس? فسجد عند ذلك الوزير شماس بين أيادي الملك وقال: أطال الله عمرك ما الذي ينفع المستظل بشجرةٍ إذا كانت النار تخرج منها وما لذة شارب الخمر الصافي إذا حصل له بها الشرق? وما فائدة الناهل من الماء العذب البارد إذا غرق فيه وإنما أنا عبد الله ذلك أيها الملك ولكن قد قيل ثلاثة أشياء لا ينبغي للعاقل أن يتكلم في شأنها إلا إذا تمت للمسافر حتى يرجع من سفره والذي في الحرب حتى يقهر عدوه والمرأة الحامل حتى تضع حملها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير شماساً لما قال للملك ثلاثة أشياءٍ لا ينبغي للعاقل أن يتكلم في شأنها إلا إذا تمت قال له بعد ذلك فأعلم أيها الملك أن المتكلم في شأن شيءٍ لم يتم مثل الناسك المدفون على رأسه فقال له الملك: وكيف حكاية الناسك وما جرى له? فقال له: أيها الملك أنه كان إنسان ناسك عند شريف من أشراف بعض المدن وكان للناسك جراية في كل يوم من رزق ذلك الشريف وهي ثلاثة أرغفة مع قليل من السمن والعسل وكان السمن في ذلك البلد غالياً وكان الناسك يجمع الذي يجيء إليه في جرةٍ عنده حتى ملأها وعلقها فوق رأسه خوفاً واحتراساً، فبينما هو ذات ليلةٍ من الليالي جالس على فراشه وعصاه في يده إذ عرض له فكر في أمر السمن وغلائه، فقال في نفسه: ينبغي أن أبيع هذا السمن الذي عندي جميعه واشتري بثمنه نعجة وأشارك عليها أحداً من الفلاحين فأنها في أول عام تلد ذكراً وأنثى وثاني عام تلد أنثى وذكراً ولا تزال هذه الغنم تتوالد ذكوراً وإناثاً حتى تصير شيئاً كثيراً وأقسم حصتي بعد ذلك فيها ما شئت واشتري الأرض الفلانية وأنشيء فيها غيطاً وأبني فيها قصراً عظيماً وأقتني ثياباً وملبوساً واشتري عبيداً وجواري وأتزوج بنت التاجر الفلاني وأعمل عرساً ما صار مثله قط وأذبح الذبائح وأعمل الأطعمة الفاخرة والحلويات والملبوسات وغيرها وأجمع فيها الملاعب والفنون وآلات السماع وأجهز الأزهار والمشمومات وأصناف الرياحين وأدعو الأغنياء والفقراء والعلماء وأرباب الدولة وكل من طلب شيئاً أحضرته إليه وأجهز أنواع المآكل والمشارب وأطلق منادي ينادي: من يطلب شيئاً يناله وبعد ذلك أدخل على عروسي بعد جلائها وأتمتع بحسنها وجمالها وآكل وأشرب وأطرب وأقول لنفسي قد بلغت مناك وأستريح من النسك والعبادة وبعد ذلك تحمل زوجتي وتلد غلاماً ذكراً أفرح به وأعمل له أولاً ثم أربيه في الدلال وأعلمه الحكمة والأدب والحساب وأشهر اسمه بين الناس وأفتخر به عند أرباب المجالس وآمره بالمعروف فلا يخالفني وأنهاه عن الفاحشة والمنكر وأوصيه بالتقوى وعمل الخير وأعطيه العطايا الحسنة السنية فإن رأيته لزم الطاعة زدته عطايا صالحة وإن رأيته مال إلى المعصية أنزل عليه بهذه العصا ورفعها ليضرب بها ولده فأصابت جرة السمن التي فوق رأسه فكسرتها فعند ذلك نزلت شقافتها عليه وساح السمن على رأسه وعلى ثيابه وعلى لحيته وصار عبرةً فلأجل ذلك أيها الملك لا ينبغي للإنسان أن يتكلم على شيءٍ قبل أن يصير.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال للملك لا ينبغي للإنسان أن يتكلم على شيءٍ قبل أن يصير فقال له الملك: لقد صدقت فيما قلت ونعم الوزير أنت بالصدق نطقت وبالخير أشرت ولقد صارت رتبتك عندي على ما تحب ولم تزل مقبولاً فسجد الوزير شماس لله وللملك ودعا له بدوام النعم وقال: أدام الله أيامك وأعلى شأنك وأعلم أنني لست أكتم عنك شيئاً لا في العلانية ورضاك رضاي وغضبك غضبي وليس لي فرح إلا بفرحك ولا يمكنني أن أبيت وأنت ساخطٌ علي لأن الله تعالى رزقني كل خير بإكرامك إياي فأسأل الله تعالى أن يحرسك بملائكته ويحسن ثوابك عند لقائه فابتهج الملك عند ذلك ثم قام الوزير شماس وانصرف من عند الملك.
ثم بعد مدة وضعت زوجة الملك غلاماً ذكراً فنهض المبشرون إلى الملك وبشروه بغلامه ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً وشكر الله شكراً جزيلاً وقال: الحمد لله الذي رزقني ولداً بعد اليأس وهو الشفوق الرؤوف على عباده ثم أن الملك كتب إلى سائر أهل مملكته ليعلمهم بالخير ويدعوهم إلى منزلة فحضر له الأمراء والرؤساء والعلماء وأرباب الدولة الذين تحت أمره، هذا ما كان من أمر الملك.
وأما ما كان من أمر ولده فأنه قد دقت البشائر والأفراح في سائر المملكة وأقبل أهلها إلى الحضور من سائر الأقطار وأقبل أهل العلوم والفلسفة والأدباء والحكماء ودخلوا جميعهم إلى الملك ووصل كل منهم إلى حد مقامه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما دعى أهل المملكة دخل كلٌ منهم على قدر مقامه ثم أشار إلى الوزراء السبعة الكبار الذين رئسهم الوزير شماس أن يتكلم كل واحد منهم على قدر ما عنده من الحكمة في شأن ما هو بصدده فابتدأ رئيسهم الوزير شماس واستأذن في الكلام فأذن له فقال: الحمد لله الذي انشأنا من العدم إلى الوجود المنعم على عبادة الملوك أهل العدل والإنصاف تماماً أولاهم من الملك والعمل الصالح وبما أجراه على أيديهم لرعيتهم من الرزق وخصوصاً ملكنا الذي حيا به أموات بلادنا بما أسداه علينا من النعم ورزقنا من سلامته برخاء العيش والطمأنينة والعدل، فأي ملك يصنع بأهل مملكته ما صنع هذا الملك بنا من القيام بمصالحنا وأداء حقوقنا وإنصاف بعضنا من بعض وعدم الغفلة عنا ورد مظالمنا.
ومن فضل الله على الناس أن يكون ملكهم متعهداً لأمورهم وحافظاً لهم من عدوهم لأن العدو غاية قصده أن يقهر عدوه وأن يملكه في يده وكثير من الناس يقدمون أولادهم إلى الملوك خدماً فيصيرون عندهم بمنزلة العبيد لأجل أن يمنعوا عنهم الأعداء وأما نحن فلم يطأ بلادنا أعداء في زمن ملكنا لهذه النعمة الكبرى والسعادة العظمى التي لم يقدر الواصفون على وصفها وإنما هي فوق ذلك وأنت أيها الملك حقيق بأنك أهل لهذه النعمة العظيمة ونحن تحت كنفك وفي ظل جناحك أحسن الله ثوابك وأدام بقاءك لأننا كنا قبل ذلك نجد في الطلب من الله تعالى أن يمن علينا بالإجابة ويبقيك لنا ويعطيك ولداً صالحاً تقر به عيناك والله سبحانه وتعالى قد تقبل منا واستجاب دعاءنا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شماساً قال للملك: أن الله تعالى قد تقبل منا واستجاب دعاءنا وأتانا الفرج القريب مثل ما آتى بعض السمك في غدير الماء فقال الملك: وما حكاية السمك? وكيف ذلك? فقال شماساً: إنما أيها الملك أنه كان في بعض الأماكن غدير ماءٍ وكان فيه بعض سمكات فعرض لذلك الغدير أنه قل ماؤه وصار ينضم بعضه إلى بعضٍ ولم يبق من الماء ما يسعها فكادت أن تهلك وقالت: ما عسى أن يكون من أمرنا وكيف نحتال ومن نستشيره في نجاتنا? فقامت سمكة منهن وكانت أكبرهن عقلاً وسناً، وقالت: ما لنا حيلة في خلاصنا إلا الطلب من الله ولكي نلتمس الرأي من السرطان فأنه أكبرنا فهلموا بنا لننظر ما يكون من رأيه، لأنه أكبر منا معرفةً بحقائق الكلام فاستحسنوا رأيها وجاؤا بأجمعهم إلى السرطان فوجدوه رابضاً في موضعه وليس عنده علمٌ ولا خبرٌ بما هو فيه فسلموا عليه وقالوا له: يا سيدنا أما يعنيك أمرنا وأنت حاكمنا ورئيسنا فأجابهم السرطان قائلاً: وعليكم السلام ما الذي جاء بكم وما تريدون? فقصوا عليه قصتهم وما دهاهم من أمر نقص الماء وأنه متى نشف حصل لهم الهلاك، ثم قالوا له: وقد جئتك منتظرين رأيك وما يكون لنا فيه النجاة لأنك كبيرنا وأعرف منا فعند ذلك أطرق رأسه ملياً ثم قال: لا شك أن عندكم نقص عقلي ليأسكم من رحمة الله تعالى وكفالته بأرزاق خلائقه جميعاً، ألم تعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرزق عباده بغير حساب وقدر أرزاقهم قبل أن يخلق شيئاً من الأشياء وجعل لكل شخص عمراً محدوداً ورزقاً مقسوماً بقدرته الإلهية فكيف تحملوا هم شيءٍ هو في الغيب مسطور والرأي عندي أنه لا يكون أحسن من الطلب من الله تعالى فينبغي أن يكون كل واحد منا يصلح سريرته مع ربه في سره وعلانيته ويدعوا الله أن يخلصنا وينقذنا من الشدائد لأن الله تعالى لا يخيب رجاءً من توكل عليه ولا يرد طلب من توسل إليه فإذا أصلحنا أحوالنا استقامت أمورنا وحصل لنا كل خير ونعمة وإذا جاء الشتاء وغمرت أرضنا بدعاءٍ صالحاً فلا يهدم الخير الذي بناه فالرأي أن نصبر وننتظر ما يفعله الله بنا فإن كان يحصل لنا موت على العادة استرحنا وإن كان يحصل لنا ما يوجب الهرب هربنا ورحنا من أرضنا إلى حيث يريد الله فأجاب السمك جميعه من فم واحد: صدقت يا سيدنا جزاك الله عنا خيراً وتوجه كل واحدٍ منهن إلى موضعه فما مضى إلا أيامٍ قلائلٍ وأتاهم الله بمطرٍ شديدٍ حتى ملأ الغدير زيادة عما كان أولاً وهكذا نحن أيها الملك كنا يائسين من أن يكون لك ولد وحيث مّن الله علينا وعليك بهذا الولد المبارك فنسأل الله تعالى أن يجعله ولداً مباركاً وأن تقر به عينك ويحله خلفاً صالحاً ويرزقنا منه مثل ما رزقنا منك، فإن الله تعالى لا يخيب من قصده ولا ينبغي لأحدٍ أن يقطع رجاءه من رحمة الله تعالى ثم أن الوزير الثاني سلم على الملك فأجابه الملك قائلاً: وعليكم السلام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الثاني لما دخل على الملك وسلم عليه فرد الملك: وعليك السلام فقال ذلك الوزير: إن الملك لا يسمى ملكاً إلا إذا أعطى وعدل وحكم وأكرم وأحسن سيرته مع رعيته بإقامة الشرائع والسنن المألوفة بين الناس وأنصف بعضهم من بعض وحقن دماءهم وكف الأذى عنهم ويكون موصفاً بعدم الغفلة عن فقرائهم وإسعاف أعلاهم وأدناهم وإعطاءهم الحق الواجب لهم حتى يصيروا جميعاً داعين له ممتثلين لأمره لأنه لا شك أن الملك الذي بهذه الصفة محبوبٌ عند الرعية مكتسبٌ من الدنيا علاها ومن الآخرة شرفها ورضا خالقها ونحن معاشر العبيد معترفون لك أيها الملك بأن الجميع ما وصفناه عندكم كم قيل: خير الأمور أن يكون ملك الرعية عادلاً وحكيمها ماهراً وعالمها خبيراً عاملاً بعلمه ونحن الآن متنعمون بهذه السعادة وكنا قبل ذلك قد وقعنا في اليأس من حصول ولد لك يرث ملكك ولكن الله جل اسمه لم يخب رجاءك وقبل دعاءك لحسن ظنك به وتسليم أمرك إليه فنعم الرجاء رجاؤك وقد صار فيك ما صار للغراب والحية فقال الملك: وكيف ذلك حكاية الغراب والحية? 
فقال الوزير: أيها الملك أنه كان غراباً ساكناً في شجرة هو وزوجته في أرغد عيش إلى أن بلغا زمان تفريخهما، وكان زمن القيظ فخرجت حيةٌ من وكرها وقصدت تلك الشجرة وتعلقت بفرعها إلى أن صعدت إلى عيشٍ الغراب وربضت فيه ومكثت فيه مدة أيام الصيف وصار الغراب مطرود لا يجد له فرصةً ولا موضعاً يرقد فيه فلما انقضت أيام الحر ذهبت الحية إلى موضعها فقال الغراب لزوجته: نشكر الله تعالى الذي نجانا وخلصنا من هذه الآفة وما أحرمنا من الزاد في هذه السنة لأن الله تعالى لا يقطع رجاءنا فنشكره على ما منّ علينا من السلامة وصحة أبداننا وليس لنا إتكالٌ إلا عليه وإذا أراد الله وعشنا إلى العام المقبل عوض الله علينا نتاجنا.
فلما جاء وقت تفريخهما خرجت الحية من موضعها وقصدت الشجرة فبينما هي متعلقة ببعض أغصانها وهي قاصدة عش الغراب على العادة وإذا بحداة قد انقضت عليها وضربتها في رأسها فخدشتها فعند ذلك سقطت الحية على الأرض مغشياً عليها وطلع عليها النمل فأكلها وصار الغراب مع زوجته في سلامة وطمأنينة وفرخاً أولاداً كثيرة وشكر الله على سلامتهما، وعلى حصول الأولاد ونحن أيها الملك يجب علينا شكر الله على ما أنعم عليك وعلينا بهذا المولود المبارك السعيد بعد اليأس وقطع الرجاء أحسن الله ثوابك وعاقبة أمرك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة التسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الثاني لما فرغ من كلامه ختمه بقوله: أحسن الله ثوابك وعاقبة أمرك ثم قام الوزير الثالث وقال: أبشر أيها الملك العادل بالخير العاجل والثواب الآجل لأن كل من تحبه أهل السماء والله تعالى قسم تلك المحبة وجعلها في قلوب أهل مملكتك فله الشكر والحمد منا ومنك لكي يزيد نعمته عليك وعلينا بك وأعلم أيها الملك أن الإنسان لا يستطيع شيئاً إلا بأمر الله تعالى وأنه هو المعطي وكل خير عند شخص إليه ينتهي قسم النعم على عبيده كما يحب فمنهم من أعطاه مواهب كثيرةً ومنهم من شغله بتحصيل القوت ومنهم من جعل رئيسا ومنهم من جعله زاهداً في الدنيا راغباً إليه لأنه هو الذي قال: أنا الضار النافع أشفي وأمرض وأغني وأفقر وأميت وأحيي وبيدي كل شيءٍ وإلى المصير فواجب على جميع الناس شكره وأنت أيها الملك من السعداء الأبرار كما قيل: إن أسعد الأبرار من جمع الله له بين أخرى الدنيا والآخرة ويقنع بما قسم الله له ويشكره على ما أقامه فيه ومن تعدى وطلب غير ما قدر الله له وعليه يشبه حمار الوحش والثعلب، قال الملك: ماذا حديثهما? قال الوزير: أعلم أيها الملك أن ثعلباً كان يخرج كل يومٍ من وطنه ويسعى على رزقه فبينما هو ذات يوم في بعض الجبال وإذا بالنهار قد انقضى وقصد الرجوع فاجتمع على ثعلب رآه ماشياً وصار كل منهما يحكي لصاحبه حكاية مع ما أفترسه، فقال أحدهما: أنني بالأمس وقعت في حمار وحش وكنت جائعاً وكان لي ثلاثة أيامٍ ما أكلت ففرحت بذلك وشكرت الله تعالى الذي سحره لي ثم رجعت إلى وطني ومضى علي ثلاثة أيامٍ ما أجد شيئاً آكله ومع ذلك أنا شبعان إلى الآن، فلما سمع الثعلب الحكاية حسده على شبعه، وقال في نفسه: لا بد لي من أكل قلب حمار الوحش فترك الأكل أيام حتى انهزل وأشرف على الموت وقصر شعبه واجتهاده وربض في وطنه.
فبينما هو في وطنه ذات يومٍ من الأيام وإذا بصيادين ماشيين قاصدين الصيد فوقع لهما حمار وحش فأقاما النهار كله في طرد أثره، ثم أن بعضهما رماه بسهمٍ مشعبٍ فأصابه ودخل جوفه واتصل بقلبه فقتله مقابل وكر الثعلب المذكور فأدركه الصيادان فوجداه ميتاً فأخرجا السهم الذي أصابه في قلبه فلم يخرج إلا العود وبقي السهم مشبعاً في بطن حمار الوحش فلما كان المساء خرج الثعلب من وطنه وهو يتضجر من الضعف والجوع فرأى حمار الوحش على بابه طريحاً ففرح فرحاً شديداً حتى كاد أن يطير من الفرح وقال: الحمد لله الذي يسر لي شهوتي من غير تعب لأني كنت لا اؤمل أني أصيب حمار وحش ولا غيره ولعل الله أوقع هذا وساقه إلي في موضعه ثم وثب عليه وشق بطنه وأدخل رأسه وصار يجول بفمه في أمعائه إلى أن وجد القلب فالتقمه بفمه وابتلعه فلما صار داخل حلقه اشتبك شعب السهم في عظم رقبته ولم يقدر على إدخاله في بطنه ولا على إخراجه من حلقه وأيقن بالهلاك فلهذا أيها الملك ينبغي للإنسان أن يرضى بما قسمه الله له، ويشكر نعمه ولا يقطع رجاءه من مولاه وها أنت أيها الملك بحسن نيتك، وإسداء معروفك رزقك الله ولداً بعد اليأس فنسأل الله تعالى أن يرزقه عمراً طويلاً وسعادةٍ دائمةٍ ويجعله خلفاً مباركاً موفياً بعهدك من بعدك بعد طول عمرك ثم قام الوزير الرابع وقال: إن الملك إذا كان فهيماً عالماً بأبواب الحكمة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الرابع لما قام وقال: أن الملك إذا كان فهيماً عالماً بأبواب الحكمة والأحكام والسياسة مع صلاح النية والعدل في الرعية وإكرام من يجب إكرامه وتوقير من يجب توقيره والعفو عند المقدرة إلا فيما لا بد منه ورعاية الرؤساء والمرؤوسين والتخفيف عنهم والإنعام عليهم وستر عوراتهم والوفاء بعهدهم كان حقيقاً بالسعادة الدنيوية والآخروية فأن ذلك مما يعيذه منهم ويعينه على ثبات ملكه ونصرته على أعدائه وبلوغ مأموله مع زيادة نعمة الله عليه وتوفيقه لشكره والفوز بعنايته. إن الملك إذا كان بخلاف ذلك فأنه لم يزل في مصائب وبلايا هو وأهل مملكته لكون جوره على الغريب والقريب ويصير فيه ما صار لابن الملك السائح، فقال الملك: وكيف كان ذلك? فقال الوزير: أعلم أيها الملك أنه كان في بلاد العرب ملكٌ جائر في حكمه ظالمٌ غاشمٌ عاسفٌ مضيعٌ لرعاية رعيته ومن دخل في مملكته، فكان لا يدخل في مملكته أحدٌ إلا ويأخذ عما له منه أربعة أخماس ما له ويبقى له الخمس لا غير، فقدر الله أنه كان له ولد سعيد موفق فلما رأى أحوال الدنيا غير مستقيمة تركها وهام سائحاً عابداً الله تعالى من صغره ورفض الدنيا وما فيها وذهب في طاعة الله تعالى سارحاً في البراري والقفاز داخلاً المدن، ففي بعض الأيام دخل تلك المدينة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الثمانمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال للملك: لما دخل ابن تلك المدينة، فلما وقف على المحافظين أخذوه وفتشوه فلم يروا معه سوى ثوبين أحدهما جديد والأخر عتيق فنزعوا منه الجديد وتركوا له العتيق بعد الإهانة والتحقير فصار يشكو ويقول: ويحكم أيها الظالمون أنا رجل فقير وسائح وما عسى أن ينفعكم هذا الثوب وإذا لم تعطوه لي ذهبت للملك وشكوتكم إليه، فأجابوه قائلين: أننا فعلنا ذلك بأمر الملك فما بدا لك أن تفعله فافعله.
فصار السائح يمشي إلى أن وصل بلاد الملك وأراد الدخول فمنعه الحجاب فرجع وقال في نفسه: ما لي إلا أني أرصدة حتى يخرج وأشكو إليه حالي وما أصابني. فبينما هو على تلك الحالة ينتظر خروج الملك إذ سمع أحد الأجناد يخبر عنه، فأخذ يتقدم قليلاً قليلاً حتى وقف قبال الباب فما شعر إلا والملك خارج فتقدم السائح نحوه ودعا له بالنصر وأخبره بما وقع له من المحافظين وشكا إليه حاله وأخبره أنه من أهل الله رفض الدنيا وخرج طالباً رضا الله تعالى فصار سائحاً في الأرض وكل من وفد إليه من الناس أحسن إليه بما أمكنه وصار يدخل كل مدينةٍ وكل قريةٍ وهو على هذه الحالة ثم قال: فلما دخلت إلى هذه المدينة كان رجائي أن يفعل بي أهلها مثل ما يفعلوا بغيري من السائحين فعارضني أتباعك ونزعوا أحد أثوابي وأوجعوني ضرباً فانظر في شأني وخذ بيدي وخلص لي ثوبي وأنا لا أقيم بعد الآن في هذه المدينة ساعةً واحدةً.
فأجابه الملك الظالم قائلاً: من أشار عليك بدخول هذه المدينة وأنت غير عالم بما يفعل ملكها، فقال: بعد أن آخذ ثوبي أفعل بي مرادك، فلما سمع ذلك الملك الظالم من السائح هذا الكلام حصل عنده تغيير مزاج فقال: أيها الجاهل نزعنا عنك ثوبك لكي تذل وحيث وقع منك مثل هذا الصياح عندي فأنا أنزع نفسك منك، ثم أمر بسجنه، فلما دخل السجن جعل يندم على ما وقع منه من الجواب وعنف نفسه حيث لم يترك ذلك يفوز بروحه.
فلما كان نصف الليل قام وصلى صلاةً مطولةً وقال: يا الله إنك الحكيم العدل تعلم بحالي وما انطوى عليه أمري مع هذا الملك الجائر، وأنا عبدك المظلوم أسألك من فيض رحمتك أن تنقذني من يد هذا الملك الظالم وتحل به نقمتك لأنك لا تغفل عن ظلم كل ظالمٍ، فأن كنت تعلم أنه ظلمني فأحلل نقمتك عليه في هذه الليلة وأنزل به عذابك لأن حكمك عدل وأنت غياث كل ملهوفٍ يا من له القدرة والعظمة إلى آخر الدهر.
فلما سمع السجان دعاء هذا المسكين صار جميع ما فيه من الأعضاء مرعوباً، فبينما هو كذلك وإذا بنار قادت في القصر الذي فيه الملك فأحرقت جميع ما فيه حتى باب السجن ولم يخلص سوى السجان السائح، فانطلق السائح وسار هو والسجان ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى غير تلك المدينة، وأما مدينة الملك الظالم فأنها احترقت عن آخرها بسبب جور ملكها.
وأما نحن أيها الملك السعيد فما نمسي ونصبح إلا ونحن داعون لك وشاكرين الله تعالى على فضله بوجودك مطمئنين بعدلك وحسن سيرتك وكان عندنا غم كثير لعدم وجود ولد لك يرث ملكك خوفاً أن يصير علينا ملك غيرك من بعدك، والآن قد أنعم الله تعالى بكرمه علينا وأزال عنا الغم وأتانا بالسرور بوجود هذا الغلام المبارك، فنسأل الله تعالى أن يجعله خليفةً صالحةً ويرزقه العز والسعادة الباقية والخير الدائم، ثم قام الوزير الخامس وقال: تبارك الله العظيم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التسعمائة

بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الخامس قال: تبارك الله العظيم مانح العطايا الصالحة والمواهب السنية، وبعد فإننا تحققنا أن الله ينعم على من يشكره ويحافظ على دينه وأنت أيها الملك السعيد الموصوف بهذه المناقب الجليلة والعدل والإنصاف بين رعيتك بما يرضي الله تعالى، فلأجل ذلك أعلى الله شأنك وأسعد أيامك ووهب لك هذه العطية الصالحة التي على هذا الولد السعيد بعد اليأس وصار لنا بذلك الفرح الدائم والسرور الذي لا ينقطع لأننا قبل ذلك كنا في همٍ شديدٍ وغمٍ زائد بسبب عدم وجود ولد لك وفي أفكار فيما أنت منطوٍ عليه من عدلك ورأفتك بنا وخوفاً أن يقضي الله عليك بالموت ولم يكن لك من يخلفك ويرث الملك من بعدك فيختلف رأينا ويقع بيننا الشقاق ويصير بيننا ما صار للغراب.
فقال الملك: وما حكاية الغراب? فأجابه الوزير قائلاً: أعلم أيها الملك السعيد أنه كان في بعض البراري وادٍ متسعٍ وكان به أنهارٌ وأشجارٌ وأثمارٌ وبه أطيارٌ تسبح الله الواحد القهار خالق الليل والنهار وكان من جملة الطيور غربان وكانوا في أطيب عيش وكان المقدم عليهم والحاكم بينهم غرابٌ رؤوف بهم شفوقٌ عليهم وكانوا معه في أمانٍ وطمأنينة.
ومن حسن تصريفهم فيما بينهم لم يكن أحد من الطيور يقدر عليهم فاتفق أن مقدمهم توفي وجاءه الأمر المحتوم على سائر الخلق فحزنوا عليه حزناً شديداً ومن زيادة حزنهم إنه لم يكن فيهم أحد مثله يقوم مقامه فاجتمعوا جميعاً وائتمروا فيما بينهم على من يقوم عليهم بحيث يكون صالحاً فطائفةً منهم اختارت غراباً وقالوا: إن هذا يصلح أن يكون ملكاً علينا، وآخرون اختلفوا فيه ولم يريدوه فوقع بينهم الشقاق والجدال وعظمت الفتنة بينهم، وبعد ذلك حصل بينهم توافق على أن يناموا تلك الليلة ولا يبكر أحد إلى السروح في طلب المعيشة غدا بل يصبرون جميعاً إلى الصباح وعند طلوع الفجر يكونون مجتمعين في موضع واحد ينظرون إلى كل واحد يسبق في الطيران وقالوا: إنه هو الذي يكون مختاراً عندنا للملك فنجعله ملكاً علينا ونوليه أمرنا، فرضوا كلهم بذلك وعاهد بعضهم بعضاً واتفقوا على هذا العهد، فبينما هم على هذا الحال إذ طلع باز فقالوا له: يا أبا الخير نحن اخترناك والياً علينا تنظر في أمرنا، فرضي الباز بما قالوه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الخامس قال للملك: فرضي الباز بما قالوه وقال لهم: إن شاء الله تعالى سيكون لكم مني خير عظيم، ثم أنهم بعد ما ولوه عليهم صار كل يوم إذا سرح يسرح الغربان وينفرد بأحدهم ويضربه ويأكل دماغه وعينيه ويترك الباقي، ولم يزل يفعل معهم هكذا حتى فطنوا به فرأوا غالبهم قد هلك فأيقنوا بالهلاك وقال بعضهم لبعض: كيف نصنع وقد هلك أكثرنا وما انتهينا حتى هلك أكابرنا فينبغي أن نتيقظ لأنفسنا فلما أصبحوا نفروا منه وتفرقوا من حوله ونحن الآن نخشى أن يقع لنا مثل هذا ويصير علينا ملك غيرك ولكن قد منّ الله علينا بهذه النعمة ووجهك إلينا ونحن الآن واثقون بالصلاح وجمع الشمل والأمن والأمانة والسلامة في الوطن فتبارك الله العظيم وله الحمد والشكر والثناء الجميل وبارك الله للملك ولنا معشر الرعية ورزقنا وإياه السعادة العظمى وجعله سعيد الوقت قائم الجد، ثم قام الوزير السادس وقال: هناك الله أيها الملك بأحسن الهناء في الدنيا والآخرة فقد تقدم من قول المتقدمين أن من صلى وصام وقام بحقوق الوالدين وعدل في حكمه أبقي ربه وهو راضٍ عنه وقد وليت علينا فعدلت فكنت بذلك سعيد الحركات فسأل الله تعالى أن يجزل ثوابك ويأجرك على إحسانك وقد سمعت ما قال هذا العالم فيما نتخوف من حرمان حظنا بدم الملك ويوجد ملك آخر لا يكون فيعظم اختلافنا بعده ويقع البلاء في الإختلاف وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فواجبٌ علينا أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء لعله يهب للملك ولداً سعيداً ويجعله وارثاً للملك بعده.
ثم بعد ذلك ربما كان الذي يحبه الإنسان من الدنيا ويشتهيه مجهول العاقبة له وحينئذ لا ينبغي للإنسان أن يسأل ربه أمر لا يدري عاقبته لأنه ربما كان ضرر ذلك أقرب إليه من نفعه فيكون هلاكه في مطلوبه ويصيبه مثل ما أصاب الحاوي وزوجته وأهل بيته.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير السادس لما قال للملك: أن الإنسان لا ينبغي له أن يسأل ربه شيئاً لا يدري عاقبته، لأنه ربما كان ضرر ذلك أقرب إليه من نفعه فيكون هلاكه في مطلوبه، ويصيبه ما أصاب الحاوي وأولاده وزوجته وأهل بيته فقال الملك: وما حكاية الحاوي وزوجته وأهل بيته? فقال الوزير: أعلم أيها الملك أنه كان إنسانا حاوياً وكان يربي الحيات وهذه كانت صنعته، وكان عنده سلةً كبيرةً فيها ثلاث حيات لم يعلم بها أهل بيته وكان كل يوم يخرج يدور بها في المدينة ويتسبب بها، بتحصيل رزقه ورزق عياله ويرجع عند المساء إلى بيته ويضع الأحناش في السلة سراً وعند الصباح يأخذها ويدور بها في المدينة فكان هذا دابه على الدوام ولم يعلم أهل بيته بما في السلة فجاء إلى بيته على عادته يوماً فسألته زوجته وقالت له: ما في السلة? فقال لها الحاوي: وما مرادك منها? أليس الزاد عندكم كثيراً زائداً فاقنعي بما قسم الله لك ولا تسألي عن غيره فسكتت عند تلك المرأة وصارت تقول في نفسها: لا بد لي أن أفتش هذه السلة وأعرف ما فيها، وصممت على ذلك وأعلمت أولادها وأكدت عليهم أن يسالوأ والدهم على تلك السلة ويلحوا عليه في السؤال لأجل أن يخبرهم فعند ذلك تعلق خاطر الأولاد بأن فيها شيءٌ يؤكل فصار الأولاد كل يومٍ يطلبون من أبيهم أن يريهم ما في السلة وكان أبوهم يدافعهم ويراضيهم وينهاهم عن هذا السؤال فمضت لهم مدة وهم على ذلك الحال وأمهم تحثهم على ذلك.
ثم اتفقوا معها على أنهم لا يذوقون طعاماً ولا يشربون شراباً لوالدهم حتى يبلغهم طلبهم ويفتح لهم السلة، فبينما هم كذلك ذات ليلةٍ إذ حضر الحاوي ومعه شيء كثير من الأكل والشرب، فقعد ودعاهم ليأكلوا معه فأبوا من الحضور إليه وبينوا له الغيظ فجعل يلاطفهم بالكلام الحسن ويقول له: انظروا ماذا تريدون حتى أجيء به إليكم أكلاً أو شرباً أو ملبوساً فقالوا له: يا والدنا ما نريد منك إلا فتح هذه السلة لننظر ما فيها وإلا قتلنا أنفسنا فقال لهم: يا أولادي ليس لكم فيها خير وإنما فتحها ضرراً لكم فعند ذلك ازدادوا غيظاً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحاوي قال لأولاده: إن فتح السلة فيه ضررٌ لكم فازدادوا غيظاً فلما رآهم على هذه الحالة أخذ يهددهم ويشير لهم بالضرب إن لم يرجعوا عن تلك الحالة فلم يزدادوا إلا غيظاً ورغبةً في السؤال فعند ذلك غضب عليهم وأخذ عصاً ليضربهم بها فهربوا من قدامه في الدار وكانت السلة حاضرة لم يخفها الحاوي في مكان فخلت المرأة الرجل مشغولاً بالأولاد وفتحت السلة بسرعة لكي تنظر ما فيها وإذا بالحيات قد خرجت من السلة ولدغوا المرأة فقتلوها ثم داروا في الدار وهلكوا الكبار والصغار ما عدا الحاوي فترك الحاوي الدار وخرج فلما تحققت ذلك أيها الملك السعيد علمت أن الإنسان ليس له أن يتمنى شيء لم يرده الله تعالى، بل يطيب نفساً بما قدره الله تعالى وأرادها، أنت أيها الملك مع غزارة علمك وجودة فهمك أقر الله عينك بحضور ولدك بعد اليأس وطيب قلبك ونحن نسأل الله تعالى أن يجعله من الخلفاء العادلين المرضين لله تعالى والرعية.
ثم قام الوزير السابع وقال أيها الملك أني قد علمت وتحققت ما ذكره لك أخوتي هؤلاء الوزراء العلماء وما تكلموا به في حضرتك أيها الملك وما تميزت به عمن سواك من الملوك حيث فضلوك عنهم وذلك من بعض الواجب علينا أنا، وأما أنا فأقول الحمد لله الذي ولاك نعمته وأعطاك صلاح الملك برحمته وأعانك وإيانا على أن تزيده شكراً وما ذاك إلا وجودك وما دمت فينا لم نتخوف جوراً ولا نبغي ظلماً ولا يستطيع أحدٌ أن يستطيل علينا مع ضعفنا وقد 





قيل: إن أحسن الرعايا من كان ملكهم عادلاً وشرهم من كان ملكهم جائراً. وقيل أيضاً: السكنى مع الأسود الكواسر ولا السكنى مع السلطان الجائر، فالحمد لله تعالى على ذلك حمداً دائماً حيث أنعم علينا بوجودك ورزقك هذا الولد المبارك بعد اليأس والطعن في السن، لأن أجمل العطايا في الدنيا الولد الصالح وقد قيل: من لا ولد له ولا ذكر وأنت بقويم عدلك وحسن ظنك بالله تعالى أعطيت هذا الولد السعيد فجاءك هذا الولد المبارك منة من الله تعالى علينا وعليك بحسن سيرتك وجميل صبرك وصار فيك ذلك مثل ما صار في العنكبوت والريح، فقال الملك: وما حكاية العنكبوت والريح.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قال للوزير: وما حكاية العنكبوت والريح? فقال الوزير: أعلم أيها الملك أن عنكبوتة تعلقت في باب متنح عالٍ وعملت لها بيتاً وسكنت فيه بأمانٍ وكانت تشكر الله تعالى الذي يسر لها هذا المكان وآمن خوفها من الهوان، فسكنت على هذا الحال مدة من الزمان وهي شاكرةً لله على راحتها واتصال رزقها فامتحنها خالقها بأن أخرجها لينظر شكرها وصبرها فأرسل إليها ريحاً عاصفاً شرقياً فحملها ببيتها ورماها في البحر فجرتها الأمواج إلى البر فعند ذلك شكرت الله تعالى على سلامتها وجعلت تعاقب الريح قائلةً لها: أيتها الريح لم فعلت بي ذلك وما الذي حصل لك من الخير في نقلي من مكاني إلى هنا وقد كنت آمنة مطمئنة في بيتي بأعلى ذلك الباب? فقالت لها الريح: انتهي عن العتاب فأني سأرجع بك وأوصلك إلى مكانك كما كنت أولاً فلبثت العنكبوت صابرةً على ذلك راجيةً أن ترجع إلى مكانها حتى ذهبت ريح الشمال ولم ترجع بها وهبت ريح الجنوب فمرت بها واختطفتها وطارت بها إلى جهة ذلك البيت فلما مرت به عرفته فتعلقت به. ونحن نسأل الله الذي أتاب الملك على وحدته وصبره ورزقه هذا الغلام بعد يأسه وكبر سنه ولم يخرجه من هذه الدنيا حتى رزقه قرة عين له ووهب له ما وهب من الملك والسلطان فرحم رعيته وأولاهم نعمته.
فقال الملك: الحمد لله فوق كل حمد والشكر له فوق كل شكر لا إله ألا هو خالق كل شيءٍ الذي عرفنا نور آثاره وجلال عظمته يؤتي الملك والسلطان من يشاء من عباده في بلاده لأنه ينتجب من يشاء ليجعله خليفة ووكيلاً على خلفه ويأمره فيهم بالعدل والإنصاف وإقامة الشرائع والسنن والعمل بالحق والإستقامة في أمورهم على ما أحب وأحبوا فمن أهمل منهم بما أمر الله كان لحظه مصيباً ولأمر ربه مطيعاً فيكفيه هول دنياه ويحسن جزاؤه في آخراه إنه لا يضيع أجر المحسنين ومن عمل منهم بغير ما أمر الله أخطأ خطأً بليغاً وعصى ربه وآثر دنياه على آخراه فليس في الدنيا مآثر ولا في الآخرة نصيب لأن الله يمهل أهل الجود والفساد ولا يهمل أحداً من العباد وقد ذكر وزراؤنا هؤلاء أن من عدلنا بينهم وحسن تصرفنا معهم أنعم علينا وعليهم بالتوفيق لشكره المستوجب لمزيد إنعامه وكل واحدٍ منهما قال ما ألهمه الله في ذلك وبالعوافي الشكر لله تعالى والثناء عليه بسبب نعمته وفضله وأنا أشكر الله لأني إنما أنا عبدٌ مأمورٌ وقلبي بيده ولساني تابع له راضٍ بما حكم الله علي وعليهم بأي شيءٍ صار وقد قال كل واحدٍ منهم: ما خطر بباله أمر هذا الغلام وذكر وما كان من متجدد النعمة علينا حين بلغت من السن حداً يغلب معه اليأس وضعف اليقين والحمد لله الذي نجانا من الحرمان واختلاف الحكام كإختلاف الليل والنهار وقد كان ذلك أنعاماً عظيماً عليهم وعلينا فنحمد الله تعالى الذي رزقنا هذا الغلام سمياً مطيعاً وجعله وارثاً من الخلافة رفيعاً نسأله من كرمه وحلمه أن يجعله سعيد الحركات موفقاً للخيرات حتى يصير ملكاً وسلطاناً على رعيته بالعدل والإنصاف حافظاً لهم من هلكات الإعتساف بمنه وكرمه وجوده.
فلما فرغ من كلامه قام الحكماء والعلماء وسجدوا لله وشكروا الملك وقبلوا يديه وانصرف كل واحدٍ منهم إلى بيته.
فعند ذلك دخل الملك بيته وأبصر الغلام ودعاه له وسماه وردخان فلما تم له من العمر اثنتا عشرة سنة أراد الملك أن يعلمه العلوم فبنى له قصراً في وسط المدينة وبنى فيه ثلثمائة وستين مقصورة وجعل الغلام فيه ورتب له ثلاثة من الحكماء والعلماء وأمرهم أن لا يغفلوا عن تعليمه ليلاً ونهاراً وأن يجلسوا معه في كل مقصورة يوماً ويحرصوا على أن لا يكون علم إلا ويعلمونه إياه حتى يصير بجميع العلوم عارفاً ويكتبون على باب كل مقصورة ما يعلمونه له فيها من أصناف العلوم يرفعون إليه في كل سبعة أيام ما عرفه من العلوم.
ثم أن العلماء أقبلوا على الغلام وصاروا لا يفترون عن تعليمه ليلاً ونهاراً ولا يؤخرون عنه شيء مما عندهم من العلوم فظهر للغلام من ذكاء العقول وجودة الفهم وقبول العلم ما لم يظهر لأحد قبله وجعلوا يرفعون للملك وفي كل أسبوع مقدار ما تعلمه ولده وأتقنه فكان الملك يستظهر من ذلك علماً حسناً وأدباً جميلاً وقال العلماء: ما رأينا قط من أعطى فهماً مثل هذا الغلام فبارك الله لك فيه ومتعك بحياته فلما أتم الغلام مدة اثنتي عشرة سنة حفظ من كل علمٍ أحسنه وفاق جميع العلماء والحكماء الذين في زمانه فأتى به العلماء إلى الملك والده وقالوا له: أقر الله عينيك أيها الملك بهذا الولد السعيد وقد أتيناك به بعد أن تعلم كل علم حتى لم يكن أحد من علماء الوقت وحكمائه بلغ من بلغه ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً وزادني في شكر الله تعالى وخر ساجداً لله عز وجل وقال: الحمد لله على نعمه التي لا تحصى ثم دعا بالوزير شماس وقال له: أعلم يا شماس أن العلماء قد أتوني وأخبروني أن ابني هذا قد تعلم كل علم ولم يبق من العلوم علمٌ إلا وقد علموه له حتى فاق من تقدمه في ذلك فما تقول يا شماس? فسجد عند ذلك لله عز وجل وقبل يد الملك وقال: أبت الياقوتة ولو كانت في الجبل الأصم إلا أن تكون مضيئةً كالسراج وابنك هذا جوهرة فما تمنعه حداثته من أن يكون حكيماً والحمد لله على ما أولاه وأنا إن شاء الله تعالى في غد أسأله واستيقظه بما عنده في مجمع أجمعه له من خواص العلماء والأمراء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك جليعاد لما سمع كلام شماس أمر جهابذة العلماء وأذكياء الفضلاء ومهرة الحكماء أن يحضروا إلى قصر الملك في غد فحضروا جميعاً فلما اجتمعوا على باب الملك أذن لهم بالدخول.
ثم حضر شماس الوزير وقبل يدي ابن الملك فقام ابن الملك وسجد للشماس، فقال له الشماس: لا يجب على شبل الأسد أن يسجد لأحد من الوحوش ولا ينبغي أن يقترن النور بالظلام، قال الغلام: إن شبل الأسد لما رأى وزير الملك سجد له فعند ذلك قال له الشماس: أخبرني ما الدائم المطلق وما كوناه وما الدائم من كونيه? قال الغلام: أما الدائم المطلق فهو الله عز وجل لأنه أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء وأما كوناه فالدنيا والآخرة وأما الدائم من كونيه فهو نعيم الآخرة.
قال الشماس صدقت فيما قلت وقبلته منك غير أني أحب أن تخبرني من أين علمت أن أحد الكونين هو الدنيا وثانيهما هو الآخرة. قال الغلام لأن الدنيا خلقت ولم يكن من شيءٍ كائنٍ فآل أمرها إلى الكون الأول غير أنها عرض سريع الزوال مستوجب الجزاء على الأعمال وذلك يستدعي إعادة الفاني، فالآخرة هي الكون الثاني، قال شماس: صدقت فيما قلت وقبلت منك غير أني أحب أن تخبرني من أين علمت أن نعيم الآخرة هو الدائم من الكونين، قال الغلام: علمت ذلك من أنها دار الجزاء على الأعمال التي أعدها الباقي بلا زوال، قال الشماس: أخبرني أي أهل الدنيا أحمد عملاً قال الغلام: من يؤثر آخرته على دنياه? قال الشماس ومن الذي يؤثر آخرته على الدنيا، قال الغلام: من كان يعلم أنه في دار منقطعة وأنه ما خلق إلا الفناء وأنه بعد الفناء يحاسب وأنه لو كان له الدنيا أحداً مخلداً أبداً لا يؤثر للدنيا على الآخرة. قال شماس: أخبرني هل تستقيم آخره بغير دنيا، قال الغلام: من لم يكن له دنيا فلا آخرة له ولكن رأيت الدنيا وأهلها والمعاد الذي هم سائرون إليه كمثل أهل هؤلاء الضياع الذين لهم أمير بيتاً ضيقاً وأدخلهم فيه وأمرهم بعمل منهم ما أمر به أخرجه الشخص الموكل به من ذلك الضيق ومن لم يعمل ما أمر به وقد انقضى الأجل المضروب له عوقب.
فبينما هم كذلك إذ رشح لهم من شقوق البيت عسل فلما أكلوا من العسل وذاقوا طعمه وحلاوته ترانوا في العمل الذي أمروا به ونبذوه وراء ظهورهم وصبروا على ما هم فيه من الضيق والغم مع ما علموا من تلك العقوبة التي هم سائرون إليها وقنعوا بتلك الحلاوى اليسيرة وصار الموكل بهم لا يدع أحداً منهم إذا جاء أجله إلا ويخرجه من ذلك البيت فعرفنا أن دار تتحير فيها الأبصار وضرب لأهلها فيها الآجل فمن وجد الحلاوة القليلة التي تكون في الدنيا وأشغل نفسه بها كان من الهالكين حيت أثر أمر دنياه على آخرته ومن يؤثر آخرته على دنياه ولم يلتفت إلى تلك الحلاوة القليلة كان من الفائزين.
قال الشماس: قد سمعت ما ذكرت من أمر الدنيا والآخرة وقبلت ذلك منك ولكني قد رأيتهما مسلطين على الإنسان فلا بد له من إرضائهما معاهما مختلفان فإن أقبل العبد على طلب المعيشة فذلك أضرار بروحه في المعاد وإن أقبل على الآخرة كان ذلك أضرار بجسده وليس له سبيل إلى إرضاء المتخلفين معاً. قال الغلام: إنه ما حصل المعيشة من الدنيا تقوى على الآخرة فإني رأيت أمر الدنيا والآخرة مثل ملكين عادل وحائر وكانت أرض الملك الحائر ذات أشجار وأثمار ونبات وكان ذلك الملك لا يدع أحداً من التجار إلا أخذ ماله وتجارته وهم صابرون على ذلك لما يصيبونه من خصب تلك الأرض في المعيشة.
وأما الملك العادل فأنه بعث رجلاً من أهل أرضه وأعطاه مالاً وافراً وأمره أن ينطلق إلى أرض الملك الجبار ليبتاع به جواهر منه فانطلق ذلك الرجل بالمال حتى دخل تلك الأرض فقيل للملك إنه جاء إلى أرضك رجلٌ تاجرٌ ومعه مالٌ كثيرٌ يريد أن يبتاع به جواهر منها فأرسل إليه وأحضره وقال له: من أنت? ومن أين أتيت? ومن جاء بك إلى أرضي? وما حاجتك? فقال له: أني من أرضٍ كذا وكذا وأن ملك تلك الأرض أعطاني مالاً وأمرني أن أبتاع له به جواهر من هذه الأرض فامتثلت أمره وجئت. فقال له الملك: ويحك أما علمت صنعي بأهل أرضي من أني آخذ مالهم في كل يوم فكيف تأتيني بمالك وها أنت مقيمٌ في أرضي منذ كذا وكذا، فقال له التاجر: إن الملك ليس لي منه شيء، وإنما هو أمانة تحت يدي حتى أوصله إلى صاحبه فقال له: إني لست بتاركك تأخذ معيشتك من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال جميعه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك الجائر قال للتاجر الذي يريد أن يشتري الجواهر من أرضه لا يمكن أن تأخذ معاشاً من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال وتهلك، فقال الرجل في نفسه: وقعت بين ملكين وقد علمت أن جور هذا الملك عام على كل من أقام بأرضه فأن أرضه كان هلاكي وذهاب المال لا بد منهما ولم أصب حاجتي وإن أعطيته جميع المال كان هلاكي عند الملك صاحب المال لا بد منه وليس لي حيلةٌ سوى أن أعطيه من هذا المال جزءاً يسيراً وأرضيه به وأذهب عن نفسي وعن هذا المال الهلاك وأصيب من خصب هذه الأرض قوت نفسي حتى أبتاع ما أريد من الجواهر وأكون قد أرضيته بما أعطيته وأخذ نصيبي من أرضه هذه وأتوجه إلى صاحب المال بحاجته فأني أرجو من عدله وتجاوزه ما لا أخاف معه عقوبة فيما أخذه هذا الملك من المال خصوصاً إذا كان يسيراً.
ثم أن التاجر دعا الملك وقال له: أيها الملك أنا أفدي نفسي وهذا المال بجزء صغير منه منذ دخلت أرضك حتى أخرج منها، فقبل الملك منه ذلك وخلى سبيله سنة فاشترى الرجل بماله جميعه جواهر وانطلق إلى صاحبه الملك العادل مثالاً للآخرة والجواهر التي بأرض الملك الجائر مثل الحسنات والأعمال الصالحة والرجل صاحب المال مثل لمن طلب الدنيا والمال الذي معه مثال الحياة الإنسان، فلما رأيت ذلك علمت أنه ينبغي لمن طلب المعيشة في الدنيا أن لا يخلي يوماً عن طلب الآخرة فيكون قد أرضى الدنيا بما ناله من خصب الأرض وأرضى الآخرة بما يصرف من حياته.
قال شماس: فأخبرني عن الجسد والروح سواء في الثواب والعقاب أو إنما يختص بالعقاب صاحب الشهوات وفاعل الخطيئات، قال الغلام: قد يكون الميل إلى الشهوات والخطيئات موجبات للثواب بحبس النفس عنها والتوبة منها والأمر بيد من يفعل ما يشاء وبعدها تتميز الأشياء على أن المعاش لا بد منه للجسد ولا جسد إلا بالروح وطهارة الروح بإخلاص النية في الدنيا والالتفاتات إلى أن ينفع في الآخرة فهما فرساً رهان ورضيعاً لبان ومشتركان في الأعمال وباعتبار النية تفصيل الإجمال وكذلك الجسد والروح مشتركان في الأعمال وفي الثواب والعقاب وذلك مثل الأعمى والمقعد الذين أخذهما رجل صاحب بستان وأدخلهما بستان وأمرهما أن لا يفسدا فيه ولا يصنعا فيه أمراً يضر به.
فلما طابت أثمار البستان قال المقعد للأعمى: ويحك أني أرى أثمار طيبة وقد اشتهينا لها ولست أقدر على القيام إليها لآكل منها فقم أنت لأنك صحيح الرجلين وائتنا منها بما نأكل، فقال الأعمى: ويحك قد ذكرتها لي، وقد كنت عنها غافلاً ولست أقدر على ذلك لأني لست أبصرها، فما الحيلة في تحصيل ذلك، فبينما هما كذلك إذ أتاهما الناظر على البستان وكان رجلاً عالماً فقال له المقعد، ويحك يا ناظر إنا قد اشتهينا شيئاً من هذه الثمار ونحن كما ترى أنا مقعد وصاحبي هذا أعمى لا يبصر شيئاً فما حيلتنا? فقال لهما الناظر: ويحكما لستما تعلمان ما عاهدكما عليه صاحب البستان من أنكما لا تتعرضان لشيءٍ مما يؤثر فيه من الفساد فانتهينا ولا تفعلا، فقالا له: لا بد لنا من أن نصيب من هذه الثمار ما نأكله فأخبرنا بما عندك من الحيلة فلما لم ينتهيا عن ريهما، قال لهما: الحيلة في ذلك أن يقوم الأعمى ويحملك أيها المقعد على ظهره ويدنيك من الشجرة التي تعجبك ثمارها حتى إذا أدناك منها تجني أنت ما أصبت من الثمار فقام الأعمى وحمل المقعد وجعل يهديه إلى السبيل حتى أدناه إلى شجرة فصار المقعد يأخذ منها ما أحب ولم يزل ذلك دابهما حتى أفسدا ما في البستان من الشجر وإذا بصاحب البستان قد جاء وقال لهما: ويحكما ما هذه الفعال? ألم أعاهدكما على أن لا تفسدا في هذا البستان.? فقالا له: قد علمت أننا لا نقدر أن نصل إلى شيءٍ من الأشياء لأن أحدنا مقعد لا يقوم والآخر أعمى لا يبصر ما بين يديه فما ذنبنا? فقال لهما صاحب البستان: لعلكما تظنان أني لست أدري كيف صنعتما وكيف أفسدتما في بستاني كأني بك أيها الأعمى قد قمت وحملت المقعد على ظهرك وصار يهديك السبيل حتى أوصلته إلى الشجر، ثم أنه أخذهما وعاقبهما عقوبةً شديدةً وأخرجهما من البستان. فالأعمى مثال للجد لأنه لا يبصر إلا بالنفس والمقعد مثال للنفس التي لا حركة لها إلا بالجسد وأما البستان فأنه مثال للعمل الذي لا يجازي به العبد والناظر مثال للعقل الذي يأمر بالخير وينهي عن الشر، فالجسد والروح مشتركان في الثواب قال له شماس: قد صدقت وأنا قبلت قولك هذا فأخبرني أي العلماء عندك أحمد? قال الغلام: من كان بالله عالماً وينفعه علمه قال شماس: ومن ذلك? قال الغلام: من يلتمس رضا ربه ويتجنب سخطه قال فأيهم أفضل? قال الغلام: من كان بالله أعلم قال شماس: فمن أشدهم اختباراً? قال: من كان على العمل بالعلم صباراً قال شماس: أخبرني من أرقهم قلباً? قال: أكثرهم استعداداً للموت وذكراً وأقلهم أملاً لأن من أدخل على نفسه طوارق الموت كان مثل الذي ينظر في المرآة الصافية فإنه يعرف الحقيقة ولا تزداد المرآة إلا صفاء وبريقاً. قال شماس: أي الكنوز أحسن? قال: كنوز السماء قال: أحسن قال: تعظيم الله وتحميده قال: فأي كنوز الأرض أفضل? قال: اصطناع المعروف.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير شماس لما قال لابن الملك: أي كنوز الأرض أفضل قال له اصطناع المعروف قال: صدقت وقد قبلت قولك هذا فأخبرني عن الثلاثة المختلفة: العلم والذهن وعن الذي يجمع بينهما? قال الغلام: إنما العلم من التعلم وأما الرأي فأنه من التجارب وأما الذهن فأنه من التفكر وثباتهم واجتماعهم في العقل فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان كاملاً ومن جمع إليهم تقوى الله على مصيباً قال شماس: صدقت وقد قبلت منك ذلك فأخبرني عن العلم العليم ذي الرأي السديد والفطنة الوقادة والذهن الفائق الرائق هل يغيره الهوى والشهوة عن هذه الحالات? قال الغلام: إن هاتين الخصلتين إذا أدخلتا على الرجل غيرنا علمه ورأيه وذهنه وكان مثل العقاب الكاسر الذي عن القنص محاذر المقيم في جو السماء لفرط حذقه فبينما هو كذلك إذ نظر رجلاً صياداً قد نصب شركه، فلما فرغ الرجل من نصب الشرك وضع فيه قطعة لحم فعند ذلك أبصر العقاب قطعة اللحم فغلب عليه الهوى والشهوة حتى نسي ما شاهده من الشرك ومن سوء الحال لكل من وقع من الطير فانقض من جو السماء حتى وقع على قطعة اللحم فاشتبك في الشرك. فلما جاء الصياد رأى العقار في شركه فتعجب عجباً شديداً وقال: أنا نصبت شركي ليقع فيه حمام أو نحوه من الطيور الضعيفة فكيف وقع فيه هذا العقاب? وقد قيل: إن الرجل العاقل إذا حمله الهوى والشهوة على أمر ينبغي أن يجعل عقله مثل الفارس الماهر في فروسيته إذا ركب الفرس الأرعن فإنه يجذبه باللجام الشديد حتى يستقيم ويمضي معه على ما يريد وأما من كان سفيها لا علم له ولا رأي عنده والأمور مشتبهة عليه والهوى والشهوة مسلطان عليه فإنه يشمل بشهوته وهواه فيكون من أثماره ولا يكون في الناس أسوأ حالاً منه.
قال شماس: صدقت فيما قلت وقد قبلت ذلك منك فأخبرني متى يكون العلم نافعاً والعقل لونان: الهوى والشهوة دافعاً قال الغلام: إذا صرفهما صاحبهما في طلب الآخرة لأن العقل والعلم كليهما نافعان ولكن ليس ينبغي لصاحبهما أن يصرفهما في طلب الدنيا إلا بمقدار ما يصيب به قوته ويدفع عن نفسه شرها ويصرفها في عمل الآخرة قال: أخبرني ما أحق أن يلزم الإنسان ويشغل به قلبه قال: العمل الصالح قال: فإذا فعل الرجل ذلك شغله عن معاشه فكيف يفعل في المعيشة التي لا بد له منها? قال الغلام: إن نهاره وليله أربعة وعشرون ساعة فينبغي له أن يجعل منها جزءاً واحداً في طلب المعيشة وجزءاً واحداً للدعة والراحة ويصرف الباقي في طلب الباقي في طلب العلم لأن الإنسان إذا كان عاقلاً وليس عنده علم فأنه هو كالأرض المجدبة التي ليس فيها موضع للعمل والفرس والنبات.
فإذا لم تهيأ للعمل وتفرس لا ينفع فيها ثمر وإذا هيئت للعمل وغرست أنبتت ثمراً حسناً كذلك الإنسان بغير علم لا ينفع به حتى يغرس فيه العلم فإذا غرس فيه العلم أثمر قال شماس: فأخبرني عن علمٍ بغير عاقل ما شأنه قال: كعلم البهيمة التي تعلمت أوان مطعمها ومشربها وأوان يقظتها ولا عقل لها قال شماس: قد أوجزت في الإجابة عن ذلك وقد قبلت منك هذا الكلام فأخبرني كيف ينبغي أن أتوقى السلطان? قال الغلام: لا تجعل له عليك سبيلاً قال: وكيف أستطيع أن لا أجعل له علي سبيلاً وهو مسلط علي وزمام أمري بيده? قال الغلام: إنما سلطانه عليك بحقوقه التي قبلك فإذا أعطيته حقه فلا سلطان له عليك قال شماس: ما حق الملك على الوزير: قال النصيحة والإجتهاد في السر والعلانية والرأي السديد وكتم سره وأن لا يخفى عنه شيئاً مما هو حقيق بالإطلاع عليه وقلة الغفلة عما قلده إياه من قضاء حوائجه وطل رضاه بكل وجهٍ واجتناب سخطه عليه قال شماس: فأخبرني ما الذي يفعله الوزير مع الملك? قال الغلام: إذا كنت وزيراً للملك وأحببت أن تسلم منه فليكن سمعك وكلامك له فوق ما يؤمله منك وليكن طلبك منه الحاجة على قدر منزلتك عنده وأحذر أن تنزل نفسك منزلةً لم يرك لها أهلاً فيكون ذلك منك مثل الجراءة عليه فإذا اغتررت بحلمه ونزلت نفسك منزلة لم يرك لها أهلا تكون مثل الصياد الذي يصطاد الوحوش فيسلخ جلودها لحاجته إليها ويطرح لحومها فيجعل الأسد يأتي إلى ذلك المكان فيأكل من تلك الجيفة، فلما كثر تردده إلى ذلك المحل استأنس بالصياد وألفه فأقبل الصياد يرمي إليه ويمسح يده على ظهره وهو يلعب بذيله فعندما رأى الصياد سكوت الأسد له واستئناسه به وتذلله إليه قال في نفسه: إن هذا الأسد قد خضع إليه وملكته وما رأى إلا أني أركبه وأسلخ جلده مثل غيره من الوحوش فتجاسر الصياد ووثب على ظهر الأسد وطمع فيه فلما رأى الأسد ما صنع الصياد غضب غضباً شديداً ثم رفع يده وضرب الصياد فدخلت مخالبه في أمعائه ثم طرحه تحت قوائمه ومزقه تمزيقاً فمن ذلك علمت أنه ينبغي للوزير أن يكون عند الملك على حسب ما يرى من حاله ولا يتجاسر عليه الفضل رأيه فيتغير الملك عليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام ابن الملك جليعاد قال للوزير شماس: ينبغي للوزير أن يكون عند الملك على حسب ما يرى من حوله ولا يتجاسر عليه لفضل رأيه فيتغير الملك عليه قال شماس: فأخبرني ما الذي يتزين به الوزير عند الملك? قال الغلام: داء الأمانة التي فرض إليه أمرها من النصيحة وسداد الرأي وتنفيذه لأوامره وقال له شماس: أما ما ذكرت من أن حق الملك على الوزير أن يتجنب سخطه ويفعل ما يقتضي رضاه ويهتم بما قلده إياه فأنه أمرٌ واجبٌ ولكن أخبرني ما الحيلة إذا كان الملك إنما رضاه بالجور وارتكاب الظلم والعسف، فما حيلة الوزير إذا هو ابتلى به بعشرة ذلك الملك الجائر فإنه أراد أن يصرفه عن هواه وشهوته ورأيه لا يقدر على ذلك وإن هو تابعه على هواه وحسن له رأيه حمل وزر ذلك وصار للرعية عدواً فما تقول في هذا? فأجابه الغلام قائلاً: إن ما ذكرت أيها الوزير من الوزر والإثم إنما هو إذا تابعه على ما أرتكبه من الخطأ ولكن يجب على الوزير إذا شاوره الملك في مثل هذا أن يبين له طريق العدل والإنصاف ويحذره من الجور والإعتساف ويعرفه حسن السيرة في الرعية ويرغبه فيما في ذلك من الثواب ويحذره عما يلزمه من العقاب فإن مال وعطف إلى كلامه حصل المراد وإلا فلا حيلة له إلا بمفارقته إياه بطريقة لطيفة لأن في المفارقة لكل واحدٍ منهما الراحة.
قال الوزير: فأخبرني ما حق الملك على الرعية وما حق الرعية على الملك? قال: الذي يأمرهم به يعلمونه بنيةٍ خالصة ويطيعونه فيما يرضيه ويرضي الله ورسوله وحق الرعية على الملك حفظ أموالهم وصون حريمهم كما إن للملك على الرعية السمع والطاعة وبذل الأنفس دونه وإعطاءه واجب حقه وحسن الثناء عليه بما أولاهم من عدله وإحسانه قال شماس: قد بينت لي ما سألتك عنه من حق الملك والرعية فأخبرني هل بقي للرعية شيءٌ على الملك غير ما قلت? قال الغلام: نعم حق الرعية على الملك أوجب من حق الملك على الرعية وهو أن ضياع حقهم عليه أضر من ضياع حقه عليهم لأنه لا يكون هلاك الملك وزوال ملكه ونعمه إلا من ضياع حق الرعية فمن تولى ملكاً يجب عليه أن يلازم ثلاثة أشياءٍ وهي: إصلاح الدين وإصلاح السياسة، فبملازمة هذه الأمور يدوم ملكه، قال: أخبرني كيف ينبغي أن يستقيم في إصلاح الرعية? قال: بأداء حقهم وإقامة سنتهم، واستعمال العلماء والحكماء لتعليمهم وإنصاف بعضهم من بعضٍ وحقن دمائهم والكف عن أموالهم وتخفيف الثقل عنهم وتقوية جيوشهم، قال: فأخبرني ما حق الوزير على الملك? قال الغلام: ليس على الملك حقٌ لأحد من الناس أوجب عليه الواجب من الحق الواجب عليه للوزير ثلاث خصال: الأولى للذي يصيبه معه خطأ الرأي والإنتفاع العام للملك والرعية عند سداد الرأي، والثانية لعلم الناس حسن منزلة الوزير عند الملك فتنظر إليه الرعية بعين الإجلال والتوقير وخفض الجناح، والثالثة أن الوزير إذا شاهد ذلك من الملك والرعية دفع عنهم ما يكرهونه ووفى لهم بما يحبونه قال شماس: قد سمعت ما قلته لي من صفات الملك والوزير والرعية وقبلته منك فأخبرني ما ينبغي لحفظ اللسان عن الكذب والسفاهة وسب العرض والإفراط في الكلام? قال الغلام: ينبغي للإنسان أن لا يتكلم إلا بالخير والحسنات ولا ينطق في شأن ما لا يعنيه ويترك النميمة ولا ينقل عنه حديثاً سمعه منه لعدوه ولا يطلب لصديقه ولا لعدوه ضرراً عند سلطانه ولا يعبأ بمن يرتجيء خبره ويتقي شره إلا الله تعالى لأنه هو الضار النافع على الحقيقة ولا يذكر لأحد عيباً ولا يتكلم بجهلٍ لئلا يلزمه الوزير والإثم من الله والبغض بين الناس وأعلم أن الكلام مثل السهم إذا نفذ لا يقدر أحدٌ على رده وليحذر أن يودع سره عند من يفشيه فربما تقع في ضرارية إفشائه بعد أن يكون على ثقة من الكتمان وإن مخفياً لسره عن صديقه أكثر من إخفائه عن عدوه فإن كتمان السر عن جميع الناس من أداء الأمانة.
قال شماس: فأخبرني عن حسن الخلق مع الأهل والأقارب? قال الغلام: إنه لا راحة لبني آدم إلا بحسن الخلق ولكن ينبغي أن يصرف الأهل ما يستحقونه وإلى أخوانه ما يجب لهم قال: أخبرني ما الذي يجب أن يصرفه إلى الأهل? قال: أما الذي يصرفه للوالدين فخفض الجناح وحلاوة اللسان ولين الجانب والإكرام والوقار وأما الذي يصرفه للإخوان فالنصيحة وبذل المال ومساعدتهم على أسبابهم والفرح لفرحهم والإغضاء عما يقع منهم من الهفوات فإذا عرفوا منه ذلك قابلوه بأعز ما عندهم من النصيحة وبذلوا الأنفس دونه فإذا كنت من أخيك على ثقةٍ فأبذل له وكن مساعداً له على جميع أموره.

وفي الليلة التاسعة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام ابن الملك جليعاد لما سأله الوزير شماس عن المسائل المتقدمة ورد له أجوبتها قال الوزير شماس له: إني أرى الأخوان صنفين: أخوان ثقة وأخوان معاشرة، أما أخوان الثقة فأنه يجب لهم ما وصفت فأسألك عن غيرهم من أخوان المعاشرة قال الغلام: أما أخوان المعاشرة فإنك تصيب منهم لذة وحسن خلق وحلاوة لفظ وحسن معاشرة فلا تقطع منهما لذتك بل أبذل مثل ما يبذلونه لك وعاملهم بمثل ما يعاملونك به من طلاقة الوجه وعذوبة اللسان فيطيب عيشك ويكون كلامك مقبولاً عندهم.
قال شماس: قد عرفنا هذه الأمور كلها فأخبرني عن الأرزاق المقدرة للخلق من الخالق هل هي مقسومة بين الناس والحيوان فكل واحد رزقٍ إلى تمام أجله وإذا كان الأمر كذلك ما الذي يحمل طالب المعيشة على إرتكاب المشقة في طلب ما عرف أنه لم يكن مقدوراً له فلا بد من حصوله وأن لم يرتكب مشقة السعي وأن لم يكن مقدوراً له فلا يتحصل له ولو سعى إليه غاية السعي فهل يترك السعي ويكون على ربه متوكلاً ولجسده ونفسه مريحاً? 
قال الغلام: إنا رأينا لكل واحدٍ رزقاً مقسوماً وأجلاً محتوماً ولكن لكل رزقٍ طريق وأسباب فصاحب الطلب يصيب في طلبه الراحة بترك الطلب ومع ذلك لا بد من طلب الرزق غير أن الطالب على ضر بين أما أن يصيب وأما أن يحرم راحة المصيب في الحالتين أصابة رزقه وإن عاقبه طلبه حميدة وراحة المحروم في ثلاث خصال: الإستعداد لطلب رزقه والتنزه عن أن يكون كلا على الناس والخروج عن عهدة الملامة.
قال شماس: أخبرني عن باب طلب المعيشة? قال الغلام: يستحل الإنسان ما أحله الله ويحرم ما أحرمه الله عز وجل وانقطع بينهما الكلام لما وصل إلى هذا الحد ثم قام الوزير شماس هو ومن حضر من العلماء وسجدوا للغلام وعظموه وضمه أبوه إلى صدره ثم بعد ذلك أجلسه على سرير الملك وقال: الحمد لله الذي رزقني ولداً أقر به عيناي في حياتي.
ثم قال الغلام لشماس ومن حضر من العلماء: أيها العالم صاحب المسائل الروحانية إن لم يكن فتح الله علي من العلم إلا شيء قليل فإني قد فهمت قصدك في قبولك مني ما أتيت به جواباً عن ما سألتني سواء كنت مصيباً أو مخطئاً ولعلك صفحت عن خطئي وأنا أريد أن أسألك عن شيء عجز عنه رأيي وضاق منه ذرعي وكل عن وصفه لساني لأنه أشكل على أشكال الماء الصافي في الإناء الأسود فأحب منك أن تشرحه لي حتى لا يكون شيئاً مبهماً على مثلي فيما يستقبل مثل إبهامه علي فيما مضى لأن الله كما جعل الحياة بالماء والقوة بالطعام وشفاء المريض مداواة الطبيب جعل شفاء الجاهل يعلم العالم فأنصت إلى كلامي.
قال الوزير شماس: أيها المضيء العقل صاحب المسائل الصالحة ومن شهد له العلماء كلهم بالفضل لحسن تفضيلك للأشياء وتقسيمك إياها وحسن أصابتك في إجابتك عما سألتك عنه قد علمت أنت لست تسألني عن شيء ما إلا وأنت في تأويله أصوب رأياً وأصدق مقالاً لأن الله قد أتاك من العلم ما لم يأت أحداً من الناس فأخبرني عن هذه الأشياء التي تسألني عنها? قال الغلام: أخبرني عن الخالق جلت قدرته من أي الأشياء خلق الخلق ولم يكن قبل ذلك شيء وليس ترى في هذه الدنيا شيء إلا مخلوق من شيء والباريء تبارك وتعالى قادر على أن يخلق الأشياء من لا شيء ولكن اقتضت إرادته مع كمال القدرة والعظمة أنه لا يخلق شيئاً إلا من شيءٍ.
قال للوزير شماس: أما صناع الآلات من الفخار وغيره من الصنائع فلا يقدرون على إبتداع شيءٍ إلا من شاء أدهم مخلوقون وأما الخالق الذي صنع العلم بهذه الصنعة العجيبة فإن شئت أن تعرف قدرته تبارك وتعالى على إيجاد الأشياء فأطل الفكر في أصناف الخلق فأنك ستجد آيات وعلامات دالة على كمال قدرته وإنه قادر على أن يخلق الأشياء من لا شيءٍ بل أوجدها بعد العدم المحض لأن العناصر التي هي مادة الأشياء كانت عدماً محضاً وقد أوضحت لك ذلك حتى لا تكون في شك منه وبين لك ذلك آية الليل والنهار فإنهما يتعاقبان حتى إذا ذهب النهار وجاء الليل خفي علينا النهار ولم نعرف له مقراً وإذا ذهب الليل بظلمته ووحشته جاء النهار ولم نعرف لليل مقراً وإذا أشرقت علينا الشمس لا نعرف أين يطوي نورها وإذا غربت لم نعرف مستقر غروبها وأمثال ذلك من أفعال الخالق عز اسمه وجلت قدرته كثيرة مما يحير أفكار الأذكياء من كبار المخلوقات.
قال الغلام: أيها العالم أنك عرفتني عن قدرة الخالق ما لا يستطاع إنكاره لكن أخبرني كيف إيجاده لخلقه? قال الوزير شماس: إنما الخلق مخلوقة بكلمته التي هي موجودة قبل الدهر وبها خلق جميع الأشياء قال الغلام: إن الله تعاظم اسمه وارتفعت قدرته إنما أراد إيجاد الخلق قبل وجودهم قال شماس: وبإرادته خلقهم بكلمته فلولا أن له نظفاً وأظفر كلمةً لم تكن الخليفة موجودة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العاشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما سأل شماساً عن المسائل المتقدمة أجابه عنها ثم قال له: إنه لا يخبرك أحد من الناس غير ما قلته إلا بتحريف الكلام الوارد في الشرائع عن موضعه وصرف الحقائق عن وجوهها ومن ذلك قولهم أن الكلمة لها استطاعة أعوذ بالله من هذه العقيدة بل قولنا في الله عز وجل أنه خلق الخلق بكلمته معناه إنه تعالى واحدٌ في ذاته وصفاته وليس معناه أن كلمة الله لها قدرة بل القدرة صفة الله كما أن الكلام وغيره من صفات الله تعالى شأنه وعز سلطانه فلا يوصف هو دون كلمته ولا توصف كلمته دونه، فالله جل ثناؤه خلق بكلمته جميع خلقه وبغير كلمته لم يخلق وإنما خلق الأشياء بكلمته الحق، فبالحق نحن مخلوقون.
قال الغلام: قد فهمت من أمر الخالق وعزت كلمته ما ذكرت وقبلت ذلك بفهم لكني سمعتك تقول إنما خلق الخلق بكلمته الحق، والحق ضد الباطل فمن أين عرض الباطل وكيف يمكن عرضه للحق حتى يشتبه به ويلتبس على المخلوقين فيحتاجون إلى الفصل بينهما وهو الخالق عز وجل محبٍ لهذا الباطل أم مبغضٍ له، فإن قلت أنه محب للحق وبه حق خلقه ومبغض للباطل فمن أين دخل هذا الذي يبغضه الخالق على ما يحبه وهو الحق? قال شماس: إن الله لما خلق الإنسان ولم يكن محتاجاً إلى توبة حتى دخل الباطل على الحق الذي هو مخلوق به سبب الإستطاعة التي جعلها الله في الإنسان وهي الإرادة والميل المسمى بالكسب، فلما دخل الباطل على الحق بهذا الاعتبار ألتمس الباطل بالحق بسبب إرادة الإنسان واستطاعته والكسب الذي هو الجزء الإختياري مع ضعف طبيعة الإنسان فخلق الله له التوبة لتصرف عنه ذلك الباطل وتثبته على الحق وخلق له العقوبة إن هو أقام على ملابسه الباطل.
قال الغلام: فأخبرني ما سبب عروض هذا الباطل للحق حتى ألتبس به وكيف وجبت العقوبة على الإنسان حتى أحتاج إلى التوبة? قال شماس: إن الله خلق الإنسان بالحق جعله محباً له ولم يكن له عقوبة ولا توبة، واستمر كذلك حتى ركب الله فيه النفس التي هي من كمال الإنسانية مع ما هي مطبوعة عليه من الميل إلى الشهوات فنشأ من ذلك عروض الباطل والتباسه بالحق الذي خلق الإنسان به وطبع على حبه، فلما صار الإنسان إلى هذه الغاية زاغ عن الحق إنما يقع في الباطل.
قال الغلام: إن الحق إنما دخل عليه الباطل بالمعصية والمخالفة، فقال شماس: وهو كذلك لأن الله يحب الإنسان ومن زيادة محبته له خلق الإنسان محتاجاً إليه وذلك هو الحق بعينه ولكن ربما استرخى الإنسان عن ذلك بسبب ميل النفس إلى الشهوات ومال إلى الخلاف فصار إلى ذلك الباطل بالمعصية التي بها عصى ربه فاستوجبت لعقوبة وبإزاحة الباطل عنه بتوبته ورجوعه إلى محبة الحق استوجب الثواب.
قال الغلام: أخبرني عن مبتدأ المخالفة مع أن الخالق مرجعهم جميعاً إلى آدم وقد خلقه الله بالحق فكيف جل المعصية لنفسه ثم قرنت معصيته بالتوبة بعد تركيب النفس ليكون عاقبة الثواب والعقاب ونحن نرى بعض الخلق مقيماً على المخالفة مائلاً إلى ما لا يحبه مخالفة لمقتضى أصل خلفته من حب لحق مستوجباً لسخط ربه عليه وترى بعضهم مقيماً على رضا خالقه وطاعته مستوجباً للرحمة والثواب: فما سبب الإختلاف الحاصل بينهم? قال شماس: إن أول نزول هذه المعصية بالخلق إنما كان بسبب إبليس الذي كان أشرف ما خلق الله جل اسمه من الملائكة والإنس والجن وكان مطبوعاً على المحبة لا يعرف غيرها فلما انفرد بهذا الأمر داخله العجب والعظمة والتجبر والتكبر عن الإيمان والطاعة لأمر خالقه فجعله الله جل اسمه لا يحب المعصية ورأى آدم ما هو فيه من ذلك الحق والمحبة والطاعة لخالقه داخله الحسد فاستعمل الحيلة في صرفه لآدم عن الحق ليكون مشتركاً معه في الباطل فلزم العقوبة لميله إلى المعصية التي زينها له عدوه وإنقياده إلى هواه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شماس قال: فلزم آدم العقوبة لميله إلى المعصية التي زينها له عدوه وإنقياده إلى هواه وحيث خالف وصية ربه بسبب عروض الباطل، ولما علم الخالق جل ثناؤه وتفسدت أسماه ضعف الإنسان وسرعة ميله إلى عدوه وتركه الحق جعل له الخالق برحمته التوبة لينهض بها من ورطة الميل إلى المعصية ويحمل سلاح التوبة فيقهر به عدوه إبليس وجنوده ويرجع إلى الحق الذي هو مطبوع عليه.
فلما نظر إبليس أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه قد حول ممتداً بارداً إلى الإنسان بالمحاربة وأدخل عليه الحيل ليخرجه من نعمة ربه ويجعله شريكاً له في السخط الذي استوجبه هو وجنوده فجعل الله جل ثناؤه للإنسان استطاعة للتوبة وأمره أن يلزم الحق ويداوم عليه ونهاه عن المعصية والخلاف والهمه أن له على الأرض عدواً محارباً لا يفتر عنه ليلاً ولا نهاراً، فبذلك استحق الإنسان ثواباً أن لازم الحق جبلت طبيعته وعقاباً أن غلبته نفسه ومالت به الشهوات.
فقال له الغلام: بعد ذلك أخبرني بأي قوةٍ استطاع الخلق أن يخالفوا خالقهم وهو في غاية العظمة كما وصفت مع أنه لا يقهره شيءٌ ولا يخرج عن إرادته، ألا ترى أنه قادر على صرف خلقه عن هذه المعصية وإلزامهم المحبة دائماً. قال شماس: إن الله تعالى جل اسمه عادلٌ منصفٌ رؤوفٌ بأهل محبته قد بين لهم طريق الخير ومنحهم الإستطاعة والقدرة على فعل ما أرادوا من الخير فأن عملوا بخلاف ذلك صاروا في الهلاك والمعصية. قال الغلام: إذا كان الخالق هو الذي منحهم الإستطاعة وهم بسببها قادرون على فعل ما أرادوا فلاي شيءٍ لم يحل بينهم وبين ما يريدون من الباطل حتى يردهم إلى الحق?.
قال شماس: قد خلق كل شيء ولم يرض إلا ما يحب. قال الغلام: ما بال هذين الشيئين أحدهما يرضي الله ويوجب الثواب لصاحبه والأخر يغضب الله فيحل العذاب بصاحبه? قال شماس بين هذين الأمرين وأفهمنهما حتى أتكلم في شأنهما. قال الغلام هما الخير والشر المركبان في الجسم والروح.
قال شماس: أيها العاقل أراك قد علمت أن الخير والشر من الأعمال التي يعملها الجسد والروح فسمي الخير منها خيراً لكونه فيه رضا الله وسمي الشر شراً لكونه سخط الله وقد وجب عليك أن تعرف الله وترضيه بفعل الخير لأنه أمرنا بذلك ونهانا عن فعل الشر.
قال الغلام: إني أرى هذين الشيئين أعني الخير والشر إنما يعملهما الحواس الخمسة المعروفة في جسد الإنسان وهي محل الذوق الناشيء عنه الكلام والسمع والبصر والشم واللمس، فأحب أن تعرفني هل هذه الحواس الخمس خلقت للخير جميعاً أم للشر? قال شماس: افهم أيها الإنسان بيان ما سألت عنه وهو الحجة الواضحة وضعها في ذهنك وأشر بها قلبك وهو أن الخالق تبارك وتعالى خلق الإنسان بالحق وطبعه على حبه ولم يصدر عنه مخلوق إلا بالقدرة العلية المؤثرة في كل حادث ولا ينسب تعالى وتبارك إلا إلى الحكم بالعدل والإنصاف والإحسان وقد خلق الإنسان لمحبته وركب فيه النفس المطبوعة على الميل إلى الشهوات وجعل له الاستطاعة وجعل هذه الحواس الخمس سبباً للنعيم أو للجحيم.
قال الغلام: وكيف ذلك? قال شماس: لأنه خلق الإنسان للتعلق واليدين للعمل والرجلين للمشي والبصر للنظر والأذنين للسمع وقد أعطى كل واحدة من هذه الحواس استطاعة وهيجها على العمل والحركة وأمر كل واحد منها أن لا تعمل إلا برضاه والذي يرضاه من النطق الصدق وترك ما هو ضده الذي هو الكذب ومما يرضيه من البصر صرف النظر إلى ما يحبه الله وترك ضده وهو صرف النظر إلى ما يكرهه الله كالنظر إلى الشهوات ومما يرضيه من السمع أن لا يسمع إلا إلى الحق كالموعظة ما في كتب الله وترك ضده وهو أن يسمع ما يوجب سخط الله ومما يرضيه من اليدين أن لا يقدر ما حولهما الله بل يصرفاه على وجه يرضيه وترك ضده وهو الإمساك أو صرف ما حولهما الله في معصية.
ومما يرضيه من الرجلين أن يكون سعيهما في الخير كقصد التعليم وترك ضده وهو أن يمشيا في سبيل الله وما سوى ذلك من الشهوات التي يعملها الإنسان فإنه يصدر من الجسد بأمر الروح. ثم الشهوة التي تصدر من الجسد نوعان شهوة التناسل وشهوة البطن، فالذي يرضي الله من شهوة التناسل أنها لا تكون إلا حلالاً وسخطه أن تكون حراماً.
وأما شهوة البطن فالأكل والشرب، والذي يرضي الله من ذلك أن لا يتعاطى منه كل واحد إلا ما أحله له قليلاً كان أو كثيراً ويحمد الله ويشكره والذي يغضب الله منه أن يتناول ما ليس له بحق وما سوى ذلك من هذه الأحكام باطل، وقد علمت أن الله خلق كل شيءٍ ولا يرضى إلا الخير وأمر كل عضو من أعضاء الجسد أن يفعل ما أوجبه عليه لأنه هو العليم الحكيم.
قال الغلام: فأخبرني هل سبق في علم الله جلت قدرته أن آدم يأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها حتى كان من أمره ما كان وبذلك خرج من الطاعة إلى المعصية.
قال شماس: نعم أيها العالم قد سبق ذلك في علم الله تعالى قبل أن يخلق آدم وبيان ذلك ودليله ما تقدم له من التحذير عن الأكل وإعلامه أنه إذا أكل منها يكون عاصياً وذلك من طريق العدل والإنصاف لئلا يكون لآدم حجة يحتج بها على ربه فلما أن سقط في الورطة والهفوة وعظمت عليه المعيرة والمعتبة جرى ذلك في نسله من بعده فبعث الله تعالى الأنبياء والرسل وأعطاهم كتباً فأعلمونا بالشرائع وبينوا لنا ما فيها من المواعظ والأحكام وفصلوه لنا وأوضحوا لنا السبيل الموصل وبينوا لنا ما يجب أن نفعله وما يجب أن نتركه فنحن مسلطون بالإستطاعة.
فمن عمل بهذه الحدود فقد أصاب وربح ومن تعدى هذه الحدود وعمل بغير هذه الوصايا فقد خالف وخسر في الدارين وهذه سبيل الخير والشر فقد علمت أن الله قادر على جميع الأشياء وما خلق الشهوات لنا إلا برضاه وإرادته وأمرنا أن نأخذها على وجه الحلال لتكون لنا خيراً وإذا استعملناها على وجه الحرام فأنها تكون لنا شراً فما أصابنا من حسية فمن الله تعالى وما أصابنا من سيئة فمن أنفسنا معاشر المخلوقين لا من الخالق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام ابن الملك جليعاد لما سأل الوزير شماساً عن هذه المسائل ورد له أجوبتها قال له ما وصفته لي مما ينسب إلى الله تعالى ومما ينسب إلى خلقه فقد فهمته فأخبرني عن هذا الأمر الذي حير علي فرط التعجب منه فأني عجبت من ولد آدم وغفلتهم عن الآخرة وتركهم الذكرى لها ومحبتهم للدنيا وقد علموا أنهم يتركونها ويخرجون منها وهم صاغرون.
قال شماس نعم فأن الذي تراه من تغيرها وغدرها بأهلها دليل على أنه لا يدوم لصاحب النعيم نعيمه ولا لصاحب البلاء بلاؤه فليس يأمن لصاحبها تغيرها وإن كان قادراً عليها ومغبتطاً بها فلا بد أن يتغير حاله ويسرع إليه الإنتقال وليس الإنسان منها على ثقة ولا ينتفع بما هو من زخرفها وحيث عرفنا ذلك عرفنا أن أسوأ الناس حالاً من أعتز بها وسهى عن الآخرة وأن ذلك النعيم الذي قد أصابه، لا يعادل ذلك الخوف والمشقة والأهوال التي تحصل له بعد الإنتقال منها وعلمنا أنه لو كان العبد يعلم ما يصيبه عند حضور الموت وفراقه ما هو فيه من اللذات والنعيم لرفض الدنيا وما فيها وتيقنا أن الآخرة خير لنا وأنفع.
قال الغلام أيها العالم قد زالت هذه الظلمة التي كانت على قلبي بمصباحك المضيء وأرشدتني إلى السبيل التي سلكتها من أتباع الحق وأعطيتني سراجاً أنظر به فعند ذلك قام أحد الحكماء الذين كانوا بالحضرة وقال أنه إذا كان زمان الربيع فلا بد أن يطلب الأرنب مع الفيل مرعى وقد سمعت منكما من المسائل والتفاسير ما لم أرني أسمعه أبدا فدعاني ذلك إلى أن أسألكما فأخبراني ما خير مواهب الدنيا قال الغلام: صحة الجسم ورزقٌ حلال وولدٌ صالح قال فأخبراني ما الكبير فهو ما صبر له أصغر منه وأما الصغير فهو ما صبر لأكبر منه قال فأخبراني ما الأربعة أشياء التي تجتمع الخلائق فيها قال الغلام: تجتمع الخلائق في الطعام والشراب ولذة النور وشهوة النساء وفي سكرات الموت قال فما الثلاثة أشياء لا يقدر أحد على تنحية القباحة عنها?.
قال الغلام: الحماقة وخسة الطبع والكذب قال: فأي الكذب أحسن مع أنه كله قبيح? قال الغلام: الكذب الذي يضع عن صاحبه الضرر ويجر النفع قال: وأي الصدق قبيح وأن كان كله حسناً? قال الغلام: كان الإنسان بما عنده وإعجابه به، قال: وما أقبح القبيح? قال الغلام: إذا أعجب الإنسان بما ليس عنده، قال: فأي الرجال أحمق? قال الغلام: من كان ليس له همة إلا في شيءٍ يضعه في بطنه.
قال شماس: أيها الملك أنت ملكنا ولكن نحب أن تعهد لولدك بالملك من بعدك ونحن الخول والرعية فعند ذلك حث الملك من حضر من العلماء والناس على أن ما سمعوه منه يحفظونه ويعملون به وأمرهم أن يمتثلوا أمر ابنه فإنه جعله ولي عهده من بعده ليكون خليفة على ملك والده وأخذ العهد على جميع أهل مملكته من العلماء والشجعان والشيوخ والصبيان وبقية الناس أن لا يتخلوا عليه ولا ينكثوا عليه أمره، فلما أتى على ابن الملك سبع عشر سنة مرض الملك مرضاً شديداً حتى أشرف على الموت فلما أيقن الملك أن الملك قد نزل به قال لأهله: هذا داء الموت قد نزل بي فادعوا إلي أقاربي وولدي وأجمعوا إلي أهل مملكتي حتى لا يبقى منهم أحدٌ إلا ويحضر فخرجوا ونادوا الناس القريبين وجهزوا بالنداء للناس البعيدين حتى حضروا جميعهم ودخلوا على الملك، ثم قالوا له: كيف أنت أيها الملك وكيف ترى نفسك من مرضك هذا? قال لهم الملك: إن مرضي هذا هو القاضي وقد نفذ السهم بما قدره الله تعالى علي وأنا الآن في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، ثم قال لابنه: ادن مني فدنا منه الغلام وهو يبكي بكاءً شديداً حتى كاد أن يبل فراشه والملك قد دمعت عيناه وبكى كل من حضر ثم قال الملك لولده: لا تبك يا ابني فأني لست بأول من جرى له هذا الأمر المحتوم لأنه جار على جميع ما خلقه الله فاتق الله وأعمل خيراً يسبقك إلى الموضع الذي تقصده جميع الخلائق ولا تطع الهوى واشغل نفسك بذكر الله في قيامك وقعودك ويقظتك ونومك واجعل الحق نصب عينيك وهذا آخر كلامي معك والسلام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك جليعاد لما أوصى ولده بهذه الوصية وعهد له الملك من بعده قال الغلام لأبيه: قد علمت يا أبي أني لم أزل لك مطيعاً ولوصيتك حافظاً ولأمرك منفذاً ولرضاك طالباً وأنت لي نعم الأب فكيف أخرج بعد موتك عما ترضى به وأنت بعد حسن تربيتي مفارق ولا أقدر على ردك وعلى هذا حفظت وصيتك وصرت بها سعيداً وصار لي النصيب الأكبر.
فقال له الملك وهو في غاية الإستغراق من سكرات الموت: يا ابني إلزم عشر خصالٍ ينفعك الله بهن في الدنيا والآخر وهن: إذا اغتظت فاكظم غيظك وإذا بليت فاصبر وإذا نطقت فاصدق وإذا وعدت فأوف وإذا حكمت فأعدل وإذا قدرت فاعطف واكر قوادك وأصفح عن أعدائك وأبذل معروفك لعدوك وكف أذاك عنه. وإلزم أيضاً عشر خصال أخرى ينفك الله بها في أهل مملكتك وهن: إذا قسمت فأعدل وإذا عاقبت بحق فلا تجر وإذا عاهدت فأوف بعهدك وأقبل النصح وأترك اللاجاجة وإلزم الرعية بالإستقامة على الشرائع والسنن الحميدة وكن حاكماً عادلاً بين الناس حتى يحبك كبيرهم وصغيرهم ويخافك غاتيهم ومفسدهم.
ثم قال للحاضرين العلماء والأمراء الذين كانوا حاضرين عهده لولده بالملك من بعده: إياكم ومخالفة أمر ملككم وترك الإستماع لكثيركم فإن في ذلك هلاكاً لأرضكم وتفريقاً لجمعكم وضرراً لأبدانكم وتلفاً لأموالكم فتشمت بكم أعداؤكم وها أنتم علمتم ما عاهدتموني عليه فهكذا يكون عهدكم مع هذا الغلام والميثاق الذي بيني وبينكم وبينه وعليكم بالسمع والطاعة لأمره لأن في ذلك صلاح أحوالكم واثبتوا معه على ما كنتم معي فستقيم أموركم ويحسن حالكم وها هو ذا ملككم وولي نعمتكم والسلام.
ثم بعد هذا اشتدت به سكرات الموت والتجم لسانه فضم إليه ابنه وقبله وشكر الله ثم قضى نحبه وطلعت روحه فناح عليه جميع رعيته وأهل مملكته ثم أنهم كفنوه ودفنوه بإكرامٍ وتبجيلٍ وإعظامٍ.
ثم رجعوا والغلام معهم فألبسوه حلة الملك وتوجوه بتاج والده وألبسوه الخاتم في إصبعه وأجلسوه على سرير الملك فسار الغلام فيهم بسير أبيه من الحكم والعدل والإحسان مدةً يسيرةً ثم تعرضت له الدنيا وجذبته بشهواتها فاستغنم لذاتها وأقبل على زخارف أمورها وترك ما كان قلده به أبوه من المواثيق ونبذ الطاعة لوالده وأهمل مملكته ومشى فيما هو هلاكه واشتد به حب النساء فسار لا يسمع بامرأةٍ حسناء إلا ويرسل إليها ويتزوج بها فجمع من النساء عددٌ أكثر مما جمع سليمان بن دواد ملك بني إسرائيل وصار يختلي كل يومٍ بطائفةٍ منهن ويستمر مع من يختلي بهن شهراً كاملاً لا يخرج من عندهن ولا يسأل عن ملكه ولا عن حكمه ولا ينظر في مظلمة من يشكوا إليه من رعيته وإذا كاتبوه فلا يرد لهم جواباً.
فلما رأوا منه ذلك وعاينوا ما هو منطوٍ عليه من ترك النظر في أمورهم وإهماله لأمور دولته وأمور رعيته تحققوا أنهم عن قليلٍ يحل بهم البلاء فشق ذلك عليهم وأقبل بعضهم على بعضٍ يتلاومون فقال بعضهم لبعضٍ: امشوا بنا إلى شماسٍ كبيرٍ وزرائه نقص عليه أمرنا ونعرفه ما يكون من أمر هذا الملك لينصحه وإلا فعن قليل يحل بنا البلاء فإن هذا الملك قد أدهشته الدنيا بلذاتها وختنته بأشطانها.
فقاموا وأتوا شماساً وقالوا له: أيها العالم الحكيم أن هذا الملك قد أدهشته الدنيا بلذاتها وختنته بأشطانها فأقبل على الباطل وسعى في فساد مملكته تفسد العامة ويصير أمرنا إلى الهلاك وسببه أننا نمكث شهراً كاملاً وأياماً ما نراه ولا يبرز إلينا من عنده أمن لا للوزير ولا لغيره ولا يمكن أن ترفع إليه حاجةً ولا ينظر في حكومةٍ ولا يتعهد حال أحدٍ من رعيته لغفلته عنهم وأننا قد أتينا إليك لنخبرك بحقيقة الأمور ولأنك أكبرنا وأكمل منا وليس ينبغي أن يكون بلاءٍ في أرضٍ أنت مقيمٍ بها لأنك أقدر الناس على إصلاح هذا الملك فانطلق وكلمه لعله يقبل كلامك ويرجع إلى الله.
فقام شماس ومضى إلى حيث اجتمع بمن يمكنه الوصول إليه وقال له: أيها الولد الجيد أسألك أن تستأذن لي في الدخول للملك لأن عندي أمرٌ أريد أنظر وجهه وأخبره به وأسمع ما يجيبني به عنه، فأجاب الغلام قائلاً: والله يا سيدي منذ شهر لم يأذن لأحد في الدخول عليه ولا أنا فطول هذه المدة ما رأيت له وجهاً ولكن أدلك على من يستأذنه لك وهو أنك تتعلق بالوصيف الفلان الذي يقوم على رأسه ويأخذ له الطعام من المطبخ فإذا خرج إلى المطبخ ليأخذ الطعام اسأله عما بدا لك فأنه يفعل لك ما تريده.
فانطلق شماس إلى باب المطبخ وجلس قليلاً وإذا بالرصيف أقبل وأراد الدخول إلى المطبخ فكلمه شماس قائلاً له: يا بني أحب أن اجتمع بالملك لأخبره بكلام يخصه فمن فضلك إذا فرغ من غدائه وطابت نفسه أن تكلمه لي وتأخذ لي منه إذناً بالدخول عليه لكي أكلمه بما يليق به فقال الوصيف سمعاً وطاعةً فلما أخذ الوصيف الطعام وتوجه إلى الملك وأكل منه وطابت نفسه قال له الوصيف: إن شماساً واقفاً بالباب يريد منك الإذن في الدخول عليك ليعلمك بأمور تختص بك ففزع الملك وارتاب من ذلك وأمر الوصيف بإدخاله عليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما أمر الوصيف بإدخال شماس عليه خرج الوصيف إلى شماس ودعاه إلى الدخول فلما دخل على الملك خر لله ساجداً وقبل يد الملك ودعا له فقال الملك: ما أصابك يا شماس حتى طلبت الدخول علي? فقال له: إن لي مدة لم أر وجه سيدي الملك وقد اشتقت إليك كثيراً فها أنا شاهدت أطلعتك وجئت إليك بكلامٍ أذكره لك أيها الملك المؤيد بكل نعمةٍ فقال له: قل ما بدا لك، فقال شماس: اعلم أيها الملك إن الله تعالى رزقك من العلم والحكمة على حداثة سنك من لم يرزقه أحداً من الملوك قبلك وأن الله تمم لك ذلك بالملك وإن الله يحب أنك لا تخرج عما حولك إلى غيره سبب عصيانك فلا تحاربه بذخائرك بل ينبغي أن تكون لوصاياه حافظاً ولأموره جائعاً لأني قد رأيتك منذ أيام قلائل نسيت أباك ووصيته ورفضت عهده وأضعت نصيحته وكلامه وزهدت في عدله وأحكامه ولم تذكر نعمة الله عليك ولم تعيذها بشكره قال الملك: وكيف ذلك وما سببه? قال شماس: إنك تركت تعهد أمور مملكتك وما قلدك إياه الله من أمور رعيتك وأقبلت على النفس فما حسنته لك من قليل شهوات الدنيا وقد قيل: أن إصلاح الملك والدين والرعية مما ينبغي للملك أن يحافظ عليه والرأي عندي أن تحسن النظر في عاقبتك فإنك تجد السبيل الواضح الذي فيه النجاة ولا تقبل على اللذة القليلة الفانية الموصلة إلى ورطة الهلاك فيصيبك ما أصاب صياد السمك فقال له الملك: وكيف كان ذلك? قال شماس: قد بلغني أن صياداً قد أتى إلى نهرٍ ليصطاد منه على عادته فلما وصل إلى النهر ومشى على الجسر أبصر سمكةً عظيمةً فقال في نفسه: ليس لي حاجة بالمقام تهنا فأنا أمشي وأتبع هذه السمكة إلى حيث تذهب حتى آخذها وهي تغنني عن الصيد مدة أيامٍ فتعرى من ثيابه ونزل خلف السمكة وأخذها جريان الماء إلى أن ظفر بالسمكة وقبض عليها ثم التفت فوجد نفسه بعيداً عن الشاطئ، فلما رأى ما قد صنع به جريان الماء لم يترك السمكة ويرجع بل خاطر بنفسه وقبض عليها بيديه وترك جسده سابحاً مع جريان الماء، فما زال يسحبه الماء إلى أن رماه في وسط دوامةٍ لا يدخلها أحدٌ ويخلص منها فصار يصيح ويقول: أنقذوا الغريق فأتاه ناسٌ من المحافظين على البحر وقالوا له: ما شأنك وما دهاك حتى ألقيت بنفسك في هذا الخطر العظيم? فقال لهم: أنا الذي تركت السبيل الواضح الذي فيه النجاة وأقبلت على الهوى والتهلكة، فقالوا: يا هذا كيف تركت سبيل النجاة وأدخلت نفسك في هذه التهلكة وأنت تعرف من قديمٍ أنه ما دخل تهنا أحدٌ وسلم فما الذي منعك عن رمي ما في يدك ونجاة نفسك فكنت تنقذ روحك ولا تقع في هذا الهلاك الذي لا نجاة منه فلأن ليس أحدٌ منا ينقذك من هذه التهلكة فقطع الرجل الرجاء من حياته وفقد ما كان بيده مما حملته نفسه عليه وهلك هلاكاً عظيماً وما ضربت لك أيها الملك هذا المثل إلا لأجل أن تدع هذا الأمر الحقير الذي فيه اللهو عن مصالحك وتنظر فيما أنت متقلدٌ به من سياسة رعيتك والقيام بنظام ملكك حتى لا يرى أحدٌ فيك عيباً.
قال الملك: فما الذي تأمرني به? قال شماس: إذا كان في غدٍ وأنت بخيرٍ وعافية ائذن للناس في الدخول عليك وأنظر في أحوالهم وأعتذر إليهم ثم عدهم من نفسك بالخير وحسن السيرة، فقال الملك: يا شماس أنك تكلمت بالصواب وأني فاعل ما نصحتني به في غد إن شاء الله تعالى. فخرج شماس من عنده وأعلم الناس بكل ما ذكره له.
فلما أصبح الصباح خرج الملك من حجابه وأذن للناس في الدخول عليه وصار يعتذر إليهم ووعدهم أن يصنع لهم ما يحبون فرضوا بذلك وانصرفوا وسار كل واحدٍ إلى منزله ثم أن بعض نساء الملك وكانت أحبهن إليه وأكرمهن عنده قد دخلت عليه فرأته متغير اللون متفكراً في أموره بسبب ما سمعه من كبير وزرائه فقالت: ما لي أراك أيها الملك قلق النفس هل تشتكي شيئاً? فقال لها: لا إنما استغرقتني اللذات عن شؤوني فما لي ولهذه الغفلة عن أحوالي وعن أحوال رعيتي وإن استمريت على ذلك فعن قليلٍ يخرج ملكي من يدي، فأجابته قائلةً: إني أراك أيها الملك مع عمالك ووزرائك مغشوشاً فإنما يريدون نكايتك وكيدك حتى لا تحصل لك من ملكك هذه اللذة ولا تغنم نعيماً ولا راحةً بل يريدون أن تقضي عمرك في دفاع المشقة عنهم حتى أن عمرك يفنى بالنصب والتعب وتكون مثل الذي قتل نفسه لإصلاح غيره أو تكون مثل الفتى واللصوص، فقال الملك: وكيف كان ذلك? فقالت: ذكروا أن سبعةً من اللصوص خرجوا ذات يوم يسرقون على عادتهم فمروا على بستان فيه جوز رطب فدخلوا ذلك البستان وإذا هم بولدٍ صغيرٍ واقف بينهم فقالوا: يا فتى هل لك أن تدخل معنا هذا البستان وتطلع هذه الشجرة وتأكل من جوزها كفايتك وترمي لنا منها جوزاً? فأجابهم الفتى إلى ذلك ودخل معهم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفتى لما أجاب اللصوص ودخل معهم قال بعضهم لبعض: انظروا إلى أخينا وأصغرنا فاصعدوه فقالوا: ما نرى فينا ألطف من هذا الفتى. فلما أصعده قالوا: يا فتى لا تلمس من الشجرة شيئاً لئلا يراك أخوك فيؤذيك فقال الفتى: وكيف أفعل? فقالوا له أقعد في وسطها وحرك كل غصنٍ منها تحريكاً قوياً حتى يتناثر ما فيه فنلتقطه وإذا فرغ ما فيها ونزلت إلينا فخذ نصيبك مما التقطناه، فلما صعد الفتى على الشجرة صار يحرك كل غصن وحده أتجوز يتناثر منه واللصوص يجمعونه.
فبينما هم كذلك وإذا بصاحب الشجرة واقف عندهم وهم على ذلك الحال فقال لهم: ما لكم ولهذه الشجرة? فقالوا له: لم نأخذ منها شيئاً، غير أننا مررنا بها فرأينا هذا الفتى فوقها فاعتقدنا أنه صاحبها فطلبنا منه أن يطعمنا منها فهز بعض الأغصان حتى انتثر منها أتجوز ونحن ما لنا ذنبٌ، فقال صاحب الشجرة للغلام: فما تقول أنت? فقال: كذب هؤلاء ولكن أنا أقول لك الحق وهو أننا أتينا جميعاً إلى هنا فأمروني بالصعود على هذه الشجرة لأهز الأغصان كي ينتثر أتجوز عليهم فامتثلت أمرهم فقال له صاحب الشجرة: لقد ألقيت نفسك في بلاءٍ عظيمٍ وهل انتفعت بأكل شيءٍ منها? فقال الغلام: ما أكلت منها شيئاً. فقال له صاحب الشجرة: لقد علمت الآن حماقتك وجهلك وهو أنك سعيت في تلف نفسك لإصلاح غيرك ثم قال اللصوص: ما لي عليكم سبيل أمضوا إلى سبيلكم وقبض على الولد وعاقبه وهكذا وزراؤك وأهل دولتك يريدون أن يهلكوك لإصلاح أمرهم ويفعلوا بك مثل ما فعل اللصوص بالفتى فقال الملك: حقاً ما قلتيه ولقد صدقت في خبرك فأنا لا أخرج إليهم ولا أترك لذاتي، ثم بات مع زوجته في أرغد عيش إلى أن أصبح الصباح فقام الوزير وجمع أرباب الدولة مع من حضر معهم من الرعية ثم جاؤوا إلى باب الملك مستبشرين فرحين فلم يفتح لهم الباب ولم يخرج إليهم ولم يأذن لهم بالدخول عليه.
فلما يئسوا من ذلك قالوا لشماس: أيها الوزير الفاضل والحكيم الكامل أما ترى حال هذا الصبي الصغير السن القليل العقل، الذي قد جمع إلى ذنوبه الكذب فانظر وعده لك كيف أخلفه ولم يوف بما وعده وهذا ذنبٌ يجب أن نضيفه إلى ذنوبه ولكن نرجو أن تدخل إليه ثانياً وتنظر ما السبب في تأخيره ومنعه عن الخروج فإنا غير منكرين على طباعه الذميمة مثل هذا الأمر فإنه بلغ غاية القساوة ثم أن شماس توجه إليه ودخل عليه وقال: السلام عليك أيها الملك ما لي أراك قد أقبلت على شيءٍ يسير من اللذة وتركت الأمر الكبير الذي ينبغي الاعتناء به وكنت مثل الذي له ناقةٌ وهو منطو أعلى لبنها فألهاه حسن لبنها عن زمامها فأقبل يوماً على حلبها ولم يعتن بزمامها، فلما أحست الناقة بترك الزمام جذبت نفسها وطلبت الفضاء فصار الرجل فاقد اللبن والناقة مع أن ضرر ما لقيه أكثر من نفعه فانظر أيها الملك فيما فيه صلاح نفسك ورعيتك فأنه ليس ينبغي للرجل أن يديم الجلوس على باب المطبخ من أجل حاجته إلى الطعام ولا ينبغي له أن يكثر الجلوس مع النساء من أجل ميله إليهن وكما أن الرجل يبتغي من الطعام ما يدفع ألم الجوع ومن الشراب ما يدفع ألم العطش كذلك ينبغي للرجل العاقل أن يكتفي من هذه الأربعة والعشرين ساعةً بساعتين للنساء في كل نهار ويصرف الباقي في مصالح نفسه وفي مصالح رعيته ولا يطيل المكث مع النساء ولا الخلوة بهن أكثر من ساعتين فأن ذلك فيه مضرةٌ لنقله وبدنه لأنهن لا يأمرن بخيرٍ ولا يرشدن إليه ولا ينبغي أن يقبل منهن قولاً ولا فعلاً وقد بلغني أن أناساً كثيرةً هلكوا بسبب نسائهم فمنهم رجل هلك من اجتماعه بزوجته لكونه أطاعها فيما أمرته.
فقال الملك: وكيف كان ذلك? قال شماس: زعموا أن رجلاً كان له زوجة وكان يحبها وكانت مكرمةً عنده فكان يسمع قولها ويعمل برأيها وكان له بستان غرسه بيده جديداً فكان يأتي إليه كل يومٍ ليصلحه ويسقيه، فقالت له زوجته يوماً من الأيام: أي شيءٍ غرست في بستانك? فقال لها: كل ما تحبينه وتريدينه وها أنا مجتهد في إصلاحه وسقيه فقالت له: هل لك أن تأخذني وتفرجني فيه حتى أراه وأدعوا لك دعوةً صالحةً فإن دعائي مستجاب? فقال: نعم أمهليني حتى آتي إليك في غدٍ وأخذك فلما أصبح الرجل أخذ زوجته معه وتوجه بها إلى البستان ودخلا فيه وفي حال دخولهما نظر إليهما اثنان من الشبان على بعدٍ فقال بعضهما لبعضٍ: إن هذا الرجل زانٍ وإن هذه المرأة زانية وما دخلا هذا البستان إلا ليزنيا فيه فتبعاهما لينظرا ما يكون من أمرهما فأما الشابان فإنهما وقفا على جانب البستان وأما الرجل وزوجته فأنهما لما دخلا البستان واستقرا فيه قال الرجل لزوجته: ادعي لي الدعوى التي وعدتني بها فقالت: لا ادعو لك حتى تقوم بحاجتي التي تبتغيها النساء من الرجال فقال لها: ويحك أيتها المرأة أما كان مني في البيت كفايةً وههنا أخاف على نفسي من الفضيحة وربما أشغلتني عن مصالحي أما تخافين أن يرانا أحدٌ? فقالت: فلا نبال من ذلك لأننا لم نرتكب فاحشةً ولا حراماً وأما سقي هذا البستان ففيه مهلة وأنت قادرٌ على سقيه في أي وقت أردت ولم تقبل منه عذراً ولا حجة وألحت عليه في طلب النكاح فعند ذلك قام ونام معها فعندما أبصراهما الشابان المذكوران وثبا عليهما وأمسكاهما وقالا لهما: لا نطلقكما لأنكما من الزناة وإن لم نواقع المرأة نرفع أمرنا إلى الحاكم. فقال لهما: ويحكما إن هذه زوجتي وأنا صاحب البستان. فما سمعا له كلاماً بل نهضا على المرأة فعند ذلك صاحت واستغاثت بزوجها قائلةً له: لا تدع الرجال يفضحونني، فأقبل نحوهما وهو يستغيث، فرجع إليه واحدٌ منهما وضربه بخنجره فقتله وأتيا المرأة وفضحاها.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما قتل زوج المرأة رجع الشابان إلى المرأة وفضحاها وإنما قلنا لك هذا أيها الملك لتعلم أنه ليس ينبغي للرجل أن يسمع من المرأة كلاماً ولا يطيعها في أمرٍ ولا يقبل لها رأياً في مشور وإياك أن تلبس ثوب الجهل بعد ثوب الحكمة والعلم أو تتبع الرأي الفاسد بعد معرفتك للرأي الرشيد النافع فلا تتبع لذةً يسيرة مصيرها إلى الفساد ومآلها إلى الخسران الزائد الشديد.
فلما سمع الملك ذلك من شماس قال له: ثاني غدٍ أخرج إليهم إن شاء الله تعالى فخرج شماس إلى الحاضرين من كبراء المملكة وأعلمهم بما قال الملك، فبلغ المرأة ما قاله شماس فدخلت على الملك وقالت له إنما الرعية عبيد للملك والآن رأيت أنك أيها الملك عبدٌ لرعيتك بحيث تهاجم وتخاف شرهم وهم إنما يريدون أن يختبروا باطنك فإن وجدوك ضعيفاً تهاونوا بك وإن وجدوك شجاعاً هابوك وكذلك يفعل وزراء السوء بملكهم، لأن حيلهم كثيرةٌ وقد أوضحت لك حقيقة كيدهم فإن وافقتهم على ما يريدون أخرجوك من أمرك إلى مرادهم ولم يزالوا ينقلونك من أمرٍ إلى أمرٍ حتى يوقعك في الهلكة ويكون مثلك مثل التاجر واللصوص. فقال الملك: وكيف كان ذلك قالت: بلغني أنه كان تاجرٌ له مالٌ كثيرٌ فانطلق بتجارة ليبيعها في بعض المدن.
فلما انتهى إلى المدينة اكترى له منزلاً ونزل فيه فنظره لصوصٌ كانوا يراقبون التجار لسرقة متاعهم فانطلقوا إلى منزل ذلك التاجر واحتالوا في الدخول عليه فلم يجدوا لهم سبيلاً إلى ذلك فقال لهم رئيسهم أنا أكفيكم أمره، ثم أنه انطلق فلبس ثياب الأطباء وجعل على عاتقه جراباً فيه شيء من الدواء وأقبل ينادي من يحتاج إلى طبيب حتى وصل إلى منزل ذلك التاجر فرآه جالساً على غداءه فقال له: أتريد لك طبيباً? فقال: لست محتاجاً إلى الطبيب، ولكن أقعد وكل معي فقعد اللص مقابله وجعل يأكل معه وكان ذلك التاجر جيد الأكل.
فقال اللص في نفسه: لقد وجدت فرصتي. ثم التفت إلى التاجر وقال له: لقد وجب علي نصيحتك لما حصل لي من إحسانك وليس يمكن أن أخفي عليك نصيحةً، وهو أني أراك رجلاً كثير الأكل وهذا سببه مرض في معدتك فإن لم تبادر بالسعي على دوائك وإلا آل أمرك إلى الهلاك فقال التاجر أن جسمي صحيح ومعدتي سريعة الهضم وأن كنت جيد الأكل فليس ببدني مرضٌ ولله الحمد والشكر فقال له اللص إنما ذلك بحسب ما يظهر لك وإلا فقد عرفت أن في باطنك مرضاً خفياً فأن أنت أطعتني فداوي نفسك فقال التاجر وأين أجد من يعرف دوائي فقال له اللص إنما المداوي هو الله ولكن الطبيب مثلي يعالج المريض على قدر إمكانه.
فقال له التاجر أرني الآن دوائي وأعطني منه شيئاً فأعطاه سفوفاً فيه صبرٌ كثيرٌ وقال له استعمل هذا في هذه الليلة فأخذه منه ولما كان الليل تعاطى منه شيء فرآه صبراً كريه الطعم فلم ينكر منه شيء فلما تعاطاه وجد منه خفةً في تلك الليلة فلما كانت الليلة الثانية جاء اللص ومعه دواءٌ صبراً أكثر من الأول فأعطاه منه شيء فلما تعاطاه أسهله تلك الليلة ولكنه صبر على ذلك ولم ينكره فلما رأى اللص أن التاجر اعتني بقوله واستأمنه على نفسه وتحقق أنه لا يخالفه انطلق وجاء بدواءٍ قاتلٍ وأعطاه له فأخذه منه التاجر وشربه فعندما شرب ذلك الدواء نزل ما كان في بطنه وتقطعت أمعاؤه وأصبح ميتاً فقام اللصوص وأخذوا جميع ما كان للتاجر وأني أيها الملك ما قلت لك هذا إلا لأجل أنك لا تقبل من هذا المخادع كلاماً فيلحقك أموراً تهلك بها نفسك فقال الملك صدقت فأنا لا أخرج إليهم.
فلما أصبح الصباح اجتمع الناس وجاؤوا إلى باب الملك وقعدوا أكثر النهار حتى يئسوا من خروجه، ثم رجعوا إلى شماس وقالوا له أيها الفيلسوف الحكيم الماهر أما ترى هذا الولد الجاهل لا يزداد إلا كذباً علينا وإن خراج الملك من يده واستبدال غيره به فيه الصواب فتنتظم بذلك أحوالنا وتستقيم أمورنا ولكن ادخل إليه ثالثاً واعلمه أنه لا يمنعنا من القيام عليه ونزع الملك منه إلا الإحسان والده إلينا وما أخذه علينا من العهود والمواثيق ونحن مجتمعون في غدٍ عن آخرنا بسلاحنا ونهدم باب هذا الحصن فأن خرج إلينا وصنع لنا ما نحب فلا بأس وإلا دخلنا عليه وقتلناه وجعلنا الملك في يد غيره.
فانطلق الوزير شماس ودخل على الملك وقال له: أيها الملك المنهمك في شهواته ولهوه ما هذا الذي تصنعه بنفسك فيا هل ترى يغريك على هذا فأن كنت أنت الجاني على نفسك فقد زال ما نعهده لك من الصلاحية والحكمة والفصاحة فليت شعري من الذي حولك ونقلك من العلم إلى الجهل ومن الوفاء إلى الجفاء ومن اللين إلى القسوة ومن قبولك مني إلى إعراضك عني فكيف نصحتك ثلاث مراتٍ ولم تقبل نصيحتي وأشير عليك بالصواب وتخالف مشورتي، فأخبرني ما هذه الغفلة وما هذا اللهو ومن أغراك عليه اعلم أن أهل مملكتك قد تواعدوا على أنهم يدخلون عليك ويقتلونك ويعطون ملكك لغيرك.
فهل لك قوةٌ على جميعهم والنجاة من أيديهم أو تقدر على حياة نفسك بعد قتلها فأن كنت أعطيت هذا كله آمنت من قبلهم فلا حاجة لك بكلامي وإن كان حاجتك إلى الدنيا والملك، فأفق لنفسك واضبط ملكك وأظهر للناس قوة بأسك وأعلمهم بأعذارك فإنهم يريدون انتزاع ما في يدك وتسلميه إلى غيرك وقد عزموا على العصيان والمخالفة وصار دليل ذلك ما يلمونه من صغر سنك ومن انكبابك على اللهو والشهوات فأن الحجارة إذا طار مكثها في الماء متى أخرجت منه وضربت بعضها بعضاً تقدمت منها النار والآن رعيتك خلقٌ كثيرون يتوازرون عليك ويريدون نقل الملك منك إلى غيرك ويبلغون فيك ما يريدون من هلاكك ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير شماساً قال للملك ويبلغون فيك ما يريدون من هلاكك ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب فقال الملك وكيف كان ذلك قال زعموا أن جماعةً من الثعالب خرجوا ذات يوم يطلبون ما يأكلون فبينما هم يجولون في طلب ذلك وإذا هم بجملٍ ميت فقالوا في أنفسهم قد وجدنا ما نعيش به زمناً طويلاً ولكن نخاف أن يبغي بعضناً على بعض ويميل القوي بقوته على الضعيف فيهلك الضعيف منا فينبغي لنا أن نطلب حكماً يحكم بيننا ونجعل له نصيباً فلا يكون للقوي سلاطة على الضعيف.
فبينما هم يتشاورون في شأن ذلك وإذا بذئبٍ أقبل عليهم فقال بعضهم لبعضٍ أن أصاب رأيكم فاجعلوا هذا الذئب حكماً بيننا، لأنه أقوى الناس وأبوه سابقاً كان سلطاناً علينا ونحن نرجوا من الله أن يعدل بيننا ثم أنهم توجهوا إليه وأخبروه بما صار إليه رأيهم وقالوا لقد حكمناك بيننا لأجل أن تعطى لكل واحدٍ منا ما يقوته في كل يومٍ على قدر حاجته لئلا يبغي قوينا على ضعيفنا فيهلك بعضنا بعضاً فأجابهم الذئب إلى قولهم وتعاطي أمورهم وقسم عليهم في ذلك اليوم ما كفاهم.
فلما كان من الغد قال الذئب في نفسه إن قسمة هذا الجمل بين هؤلاء العاجزين لا يعود علي شيءٍ منها إلا الجزء الذي جعلوه لي وأن أكلته وحدي فهم لا يستطيعون لي ضراً مع أنه غنم لي ولأهل بيتي فمن الذي يمنعني عن أخذ هذا لنفسي ولعل الله مسببه لي بغير جميلة فالأحسن لي أن أختص به دونهم ومن هذا الوقت لا أعطيهم شيء فلما أصبح الثعالب جاؤوا إليه على العادة يطلبون منه قوتهم فقالوا له يا أبا سرحان أعطنا مؤنة يومنا.
فأجابهم قائلاً ما بقي عندي شيءٌ أعطيه لكم فذهبوا من عنده على أسوأ حال ثم قالوا إن الله أوقعنا في همٍ عظيم مع هذا الخائن الخبيث الذي لا يتقي الله ولا يخافه وليس لنا حولٌ ولا قوةٌ ثم قال بعضهم لبعضٍ إنما حمله على هذا الأمر ضرورة الجوع فدعوه اليوم يأكل حتى يشبع وفي غدٍ نذهب إليه، فلما أصبحوا توجهوا إليه وقالوا له يا أبا سرحان إنما وليناك علينا لأجل أن تدفع لكل واحدٍ منا قوته وتنصف لضعيفٍ من القوي وإذا فرغ تجتهد لنا في تحصيل غيره ونصير دائماً تحت كنفك ورعايتك وقد مسنا الجوع ولنا يومان ما أكلنا فأعطنا مؤنتنا وأنت في حلٍ من جميع ما تتصرف فيه من دون ذلك فلم يرد عليهم جواباً بل ازداد قسوةً فراجعوه فلم يرجع.
فقال بعضهم لبعضٍ ليس لنا حيلةٌ إلا أننا ننطلق إلى الأسد ونرمي أنفسنا عليه ونجعل له الجمل فإن أحسن لنا بشيءٍ منه كان من فضله وإلا فهو أحق به من هذا الخبيث ثم انطلقوا إلى الأسد وأخبروه بما حصل لهم مع الذئب، ثم قالوا له: نحن عبيدك وقد جئناك مستجيرين بك لتخلصنا من هذا الذئب ونصير لك عبيداً فلما سمع الأسد كلام الثعالب أخذته الحمية وغار الله تعالى ومضى معهم إلى الذئب فلما رأى الأسد مقبلاً طلب الفرار من قدامه فجرى الأسد خلفه وقبض عليه ومزقه قطعاً ومكن الثعالب من فريستهم فمن هذا عرفنا أنه لا ينبغي لأحد من الملوك أن يتهاون في أمر رعيته فأقبل نصيحتي وصدق القول الذي قلته لك وأعلم أن أباك قبل وفاته قد أوصاك بقبول النصيحة وهذا آخر كلامي معك والسلام.
فقال الملك إني سامعٌ منك وفي غد أن شاء الله تعالى أطلع إليهم فخرج شماس من عنده وأخبرهم بأن الملك قبل نصيحته ووعده في غدٍ أنه يخرج إليهم فلما سمعت زوجة الملك ذلك الكلام منقولاً عن شماس، وتحققت أنه لا بد من خروج الملك إلى الرعية أقبلت على الملك مسرعةً وقالت له ما أكثر تعجبي من إذعانك وطاعتك لعبيدك أما تعلم أن وزراءك هؤلاء عبيدٌ لك، فلأي شيءٍ رفعتهم هذه الرفعة العظيمة حتى أوهمتهم أنهم هم الذين أعطوك هذا الملك ورفعوك هذه الرفعة وإنهم أعطوك العطايا مع أنهم لا يقدرون أن يفعلوا معك أدنى مكروه فكان من حقك عدم الخضوع لهم بل من حقهم الخضوع لك وتنفيذ أمورك فكيف تكون مرعوباً منهم هذا الرعب العظيم وقد قيل إذا لم يكن قلبك مثل الحديد لا تصلح أن تكون ملكاً، وهؤلاء غرهم حلمك حتى تجاسروا عليك ونبذوا طاعتك مع أنه ينبغي أن يكونوا مقهورين على طاعتك مجبورين على الإنقياد إليك فإن أنت سارعت لقبول كلامهم وأهملتهم على ما هم فيه وقضيت لهم أدنى حاجة على غير مرادك ثقلوا عليك وطمعوا فيك وتصير لهم هذه عادةٌ فأن أطعتني ألا ترفع لأحد منهم شأناً ولا تقبل لأحد منهم كلاماً ولا تطمعهم في التجاسر عليك فتصير مثل الراعي.
فقال لها الملك وكيف كان ذلك قالت زعموا أنه كان رجلٌ راعي غنم وكان محافظاً على رعايتها فأتاه لص ذات ليلة يريد أن يسرق من غنمه شيء فرآه محافظاً عليها لا ينام ليلاً ولا يغفل نهاراً فصار يحاوله طول ليله فلم يظفر منه بشيءٍ فلما أعيته الحيلة انطلق إلى البرية واصطاد أسداً وسلخ جلده وحشاه تبنا، ثم أتى به ونصبه على محلٍ عالٍ في البرية بحيث يراه الراعي ويتحققه ثم أقبل اللص على الراعي وقال له إن هذا الأسد قد أرسلني إليك يطلب عشاه من هذه الغنم فقال له الراعي وأين الأسد فقال له اللص أرفع بصرك ها هو واقفٌ فرفع الراعي رأسه فرأى صورة الأسد فلما رآها ظن أنها أسدٌ حقيقيةٌ ففزع منها فزعاً شديداً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قالت له أن الراعي لما رأى صورة الأسد ظن أنها أسدٌ حقيقي ففزع منها فزعاً شديداً وأخذه الرعب وقال للص يا أخي خذ ما شئت ليس عندي مخالفة وأخذ اللص من الغنم حاجته وازداد طمعه في الراعي بسبب شدة خوفه فصار كل قليل يأتي إليه ويرعبه ويقول له إن الأسد يحتاج إلى كذا أو قصده أن يفعل كذا ثم يأخذ من الغنم كفايته ولم يزل اللص مع الراعي على هذه الحالة حتى أفنى غالب الغنم وإنما قلت لك هذا الكلام أيها الملك لئلا يغتر كبراء دولتك هؤلاء بحلمك ولين جانبك فيطمعوا فيك والرأي السديد أن يكون موتهم أقرب مما يفعلونه.
فقبل الملك قولها وقال أني قبلت منك هذه النصيحة ولست مطيعاً لمشورتهم ولا خارجاً إليهم فلما أصبح الصباح اجتمع الوزراء وأكابر الدولة ووجهاء الناس وحمل كل واحدٍ منهم سلاحه معه وتوجهوا إلى بيت الملك ليهجموا عليه ويقتلوه ويولوا غيره فلما وصلوا إلى بيت الملك ليهجموا عليه ويقتلوه ويولوا غيره تقربوا قليلاً من المنزل وسألوا البواب أن يفتح لهم فلم يفتح لهم فأرسلوا ليحضروا نار فيحرقوا بها الأبواب ثم يدخلوا فسمع البواب منهم هذا أن الكلام فانطلق بسرعةٍ وأعلم الملك أن الخلق مجتمعون على الباب وقال أنهم سألوني أن أفتح لهم فأبيت فأرسلوا ليحضروا نار فيحرقوا بها الأبواب ثم يدخلوا عليك ويقتلوك فماذا تأمرني.
فقال الملك في نفسه إني وقعت في الهلكة العظيمة ثم أرسل خلف المرأة فحضرت فقال لها أن شماساً لم يخبرني بشيءٍ إلا وقد وجدته صحيحاً وقد حضر الخاص والعام من الناس يريدون قتلي وقتلك ولما لم يفتح لهم البواب أرسلوا ليحضروا نار فيحرقون الأبواب فيحترق البيت ونحن داخله فماذا تشيرون علينا فقالت له المرأة: لا بأس عليك ولا يهولنك أمرهم، فأن هذا الزمان يقوم فيه السفهاء على ملوكهم.
فقال لها الملك فما تشيرين علي به لأفعله وما الحيلة في هذا الأمر فقالت له الرأي عندك أنك تعصب رأسك بعصابةٍ وتظهر أنك مريض ثم ترسل إلى الوزير شماس فيحضر إليك ويرى حالك الذي أنت فيه فإذا حضر فقل له قد أردت الخروج إلى الناس في هذا اليوم فمنعني هذا المرض فأخرج إلى الناس وأخبرهم بما أنا فيه وأخبرهم أني في غدٍ أخرج إليهم وأقضي حوائجهم وانظر في أحوالهم ليطمئنوا ويسكن غيظهم وإذا أصبحت فاستدع بعشرة من عبيد أبيك ويكونون سامعين لقولك طائعين لأمرك كاتمين لسرك حافظين لودك ثم أوقفهم على رأسك وأمرهم أن لا يمكنوا أحداً من الدخول عليك إلا واحدٍ بعد واحدٍ فإذا دخل واحدٌ فقل لهم خذوه واقتلوه وإذا اتفقوا معك على ذلك فأصبح ناصباً كرسيك في ديوانك وأفتح بابك إذا رأوك فتحت الباب طابت نفوسهم وأتوك بقلبٍ سليم واستأذنوا في الدخول عليك فائذن لهم في الدخول واحداً بعد واحدٍ كما قلت لك وافعل بهم مرادك ولكن ينبغي أن تبدأ بقتل شماس الكبير أولهم فإنه هو الوزير الأعظم وهو صاحب الأمر فأقتله أولاً.
ثم بعد ذلك أقتل الجميع واحداً بعد واحدٍ ولا تبق منهم من تعرف أنه ينكث لك عهداً وكذلك كل من تخاف صولته فإنك إذا فعلت بهم ذلك لا يبقى لهم قوة عليك وتستريح منهم الراحة الكلية ويصفو لك الملك وتعمل ما تحب واعلم أنه لا حيلة لك أنفع من هذه الحيلة فقال لها الملك: إن رأيك هذا سديدٌ وأمرك رشيدٌ فلا بد أن أعمل ما ذكرت ثم أمر بعصابة فشد بها رأسه وتضاعف وأرسل إلى شماس فلما حضر بين يديه قال له شماس: قد علمت أني لك ولرأيك مطيعٌ وأنت كالأخ والوالد دون كل أحد وتعرف أني أقبل منك جميع ما أمرتني به وقد كنت أمرتني بالخروج إلى الرعية والجلوس لأحكامهم وتحققت أنها نصيحة منك لي، وقد أردت الخروج إليهم بالأمس فعرض لي هذا المرض ولست أستطيع الجلوس، وقد بلغني أن أهل المملكة متنغصون من عدم خروجي إليهم وهموا أن يفعلوا في ما لا يليق من شرهم فأنهم غير عالمين بما أنا فيه من المرض فأخرج إليهم وأعلمهم بحالي وما أنا فيه واعتذر إليهم عني فأني تابع لما يقولون وفاعل ما يحبون فصلح لهم هذا الأمر واضمن لهم عني ذلك فأنك نصيح لي ولوالدي من قبلي وعادتك الإصلاح بين الناس وإن شاء الله تعالى في غد أخرج إليهم وفعل مرضي يزول عني في هذه الليلة ببركة صالح نيتي وما أضمرته لهم من الخير في سريرتي فسجد شماس لله ودعا للملك وقبل يديه ورجليه وفرح بذلك وخرج إلى الناس وأخبرهم بما سمعه من الملك ونهاهم عما أرادوه، وأعلمهم بالعذر وسبب امتناع الملك عن الخروج وأخبرهم أنه وعده في غد بالخروج إليهم وأنه يصنع لهم ما يحبون فانصرفوا عند ذلك إلى منازلهم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة عشرة بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شماساً خرج إلى الدولة وقال لهم: إن الملك في غدٍ يخرج إليكم ويصنع لكم ما تحبون فانصرفوا إلى منازلهم هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر الملك فإنه بعث إلى العشرة عبيد الجبابرة الذين اختارهم من جبابرة أبيه وكانوا ذوي عزمٍ جليدٍ وبأسٍ شديدٍ وقال لهم: قد علمتم ما كان لكم عند والدي من الحظوة ورفعة الشأن والإحسان إليكم مع لطفه بكم وإكرامه إياكم فأنا أنزلهم بعده عندي في درجة أرفع من تلك الدرجة وسأعرفكم سبب ذلك وأنتم في أمان الله مني ولكن أسألكم عن مسألة هل تكونون معي فيها طائعين لأمري فيما أقوله كاتمين لسري عن جميع الناس ولكم مني الإحسان فوق ما تريدون حيث مثلتم أمري فأجابه العشرة من فم واحدٍ وكلامٍ متواردٍ قائلين: جميع ما تأمرنا به يا سيدنا نحن به عاملون ولا نخرج عما تشير به علينا مطلقاً وأنت لي أمرنا.
فقال لهم: أحسن الله لكم فأنا الآن أعرفكم سبب اختصاصكم بمزيد الإكرام عندي أنكم قد علمتم ما كان يفعله أبي بأهل مملكته من الإكرام وما عاهدهم عليه من أمري وإقرارهم له بأنهم لا ينكثون لي عهداً أو لا يخالفون لي أمر وقد نظرتم ما كان منهم بالأمس حي اجتمعوا جميعاً حولي يريدون قتلي وأنا أريد أن أصنع بهم أمراً وذلك أني نظرت ما كان منهم بالأمس فرأيت أنه لا يزجرهم عن مثله إلا نكالهم فلا بد أن أوكلكم بقتل من أشير لكم بقتله سراً حتى أدفع الشر والبلاء عن بلادي بقتل أكابرهم ورؤسائهم وطريقة ذلك أني أقعد في هذا المقعد في هذه المقصورة في غدٍ وآذن لهم بالدخول علي واحداً بعد واحدٍ وإن يدخلوا من بابٍ ويخرجوا من بابٍ آخر فقفوا أنتم العشرة بين يدي فاهمين لإشارتي وكلما يدخل واحدٌ فخذوه وأدخلوا به هذا البيت وأقتلوه وأخفوا جثته، فقالوا: سمعاً لقولك وطاعةً لأمرك، فعند ذلك أحسن إليهم وصرفهم وبات، فلما أصبح طلبهم وأمر بنصب السرير ثم لبس ثياب الملك وأخذ في يده كتاب القضاء وأمر بفتح الباب ففتح وأوقف العشرة عبيد بين يديه ونادى من كان له حكومة فليحضر إلى بساط الملك فأتى الوزراء والقواد والحجاب ووقف كل واحدٍ في مرتبته ثم أمر لهم بالدخول واحداً بعد واحدٍ فدخل شماس الوزير أولاً كما هي عادة الوزير الأكبر.
فلما دخل واستقر قدام الملك لم يشعر إلا والعشرة عبيد محتاطون به وأخذوه وأدخلوه البيت وقتلوه وأقبلوا على باقي الوزراء ثم العلماء ثم الصلحاء فصاروا يقتلونهم واحداً بعد واحدٍ حتى فرغوا من الجميع، ثم دعا بالجلادين وأمرهم بحط السيف فيمن بقي من أهل الشجاعة وقوة البأس فلم يتركوا أحداً ممن يعرفون أن له شهامةً إلا وقتلوه ولم يتركوا إلا سفلة الناس ورعاعهم ثم طردهم ولحق كل واحدٍ منهم بأهله.
ثم بعد ذلك اختلى الملك بلذاته وأعطى نفسه شهواتها واتبع البغي والجور والظلم حتى سبق من تقدمه من أهل الشر، وكانت بلاد هذا الملك معدن الذهب والفضة والياقوت والجواهر وجميع من حوله من الملوك يحسدونه على هذه المملكة ويتوقعون له البلاء فقال في نفسه بعض الملوك المجاورين له أني ظفرت بما كنت أريد من أخذ هذه المملكة من يد هذا الولد الجاهل بسبب ما حصل من قتله لأكابر دولته وأهل الشجاعة والنجدة الذين كانوا في أرضه فهذا هو وقت الفرصة وانتزاع ما في يده لكونه صغيراً ولا درايةً له بالحرب ولا رأي له ولم يبق عنده من يرشده ولا من يعضده، فأنا اليوم أفتح معه باب الشر وهو أني أكتب له كتاباً وأبعث به فيه وأبكته على ما حصل منه وأنظر ما يكون من جوابه.
فكتب له مكتوباً مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني ما فعلت بوزرائك وعلمائك وجبابرتك وما أوقعت نفسك فيه من البلاء حتى لم يبق لك طاقة ولا قوة على دفع من يصول عليك حين طغيت وأفسدت وأن الله قد أعطاني النصر عليك وظفرني بك فاسمع كلامي وأمتثل أمري. أن لي قصراً معيناً في وسط البحر وأن لم تقدر على ذلك فأخرج من بلادك وفز بنفسك فإني باعثٌ إليك من أقصى الهند اثني عشر كردوساً من كردوس اثنا عشر ألف مقاتل فيدخلون بلادك وينهبون أموالك ويقتلون رجالك ويسبون حريمك وأجعل قائدهم بديعاً وزيري وآمره أن يرسخ عليها محاصر إلى أن يملكها، وقد أمرت هذا الغلام المرسل إليك أنه لا يقيم عندك غير ثلاثة أيامٍ فأن امتثلت أمري نجوت وإلا أرسلت إليك ما ذكرته لك.
ثم ختم الكتاب وأعطاه للرسول فسار به حتى وصل إلى تلك المدينة ودخل على الملك وأعطاه الكتاب، فلما قرأه الملك ضعفت قوته وضاق صدره وألتبس عليه أمره وتحقق الهلاك ولم يجد من يستشيره ولا من يستعين به ولا من ينجده، فقام ودخل على زوجته وهو متغير اللون فقالت له: ما شأنك أيها الملك? فقال لها: لست اليوم بملك ولكني عبدٌ للملك، ثم فتح الكتاب وقرأه عليها فلما سمعته أخذت في البكاء والنحيب وشقت ثيابها، فقال لها الملك: هل عندك شيءٌ من الرأي والحيلة في هذا الأمر العسير? فقالت له: وما عند النساء من الحيلة في الحروب والنساء لا قوة لهن ولا رأي لهن وإنما القوة والرأي والحيلة للرجال في مثل هذا الأمر. فلما سمع الملك منها هذا الكلام حصل له غاية الندم والتأسف والكآبة على ما فرط منه في حق جماعته ورؤساء دولته.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما سمع من زوجته ذلك الكلام حصل له غاية الندم والتأسف على ما فرط منه من قتل وزرائه وأشراف رعيته وتمنى الموت لنفسه قبل أن يرد عليه مثل هذا الخبر الفظيع، ثم قال لنسائه: لقد وقع لي منكن ما وقع للدراج مع السحالف، فقلن له: وكيف كان ذلك? فقال الملك: زعموا أن سحالف كانت في جزيرةٍ من الجزائر وكانت تلك الجزيرة ذات أشجارٍ وأثمارٍ وأنهارٍ، فاتفق أن دراجاً اجتاز بها يوماً وقد أصابه الحر والتعب، فلما أضر به ذلك حط من طيرانه في تلك الجزيرة التي بها تلك السحالف، فلما رأى السحالف التجأ إليها ونزل عندها وكانت السحالف ترعى في جهات الجزيرة ثم ترجع إلى مكانها، فلما رجعت من مسارحها إلى مكانها، رأت الدراج فيه فلما رأته أعجبها وزينه الله لها فسبحت خالقها وأحبت هذا الدراج حباً شديداً وفرحت به ثم قال بعضها لبعضٍ: لا شك أن هذا من أحسن الطيور فصارت كلها تلاطفه وتجنح إليه فلما رأى منها عين المحبة مال إليها واستأنس بها وصار يطير إلى أية جهة أراد وعند المساء يرجع إلى المبيت عندها فإذا أصبح الصباح يطير إلى حيث أراد وصارت عادته واستمر على هذه الحال مدةً من الزمان فلما رأت السحالف أن غيابه عنها يوحشها وتحققت أنها لا تراه إلا في الليل وإذا أصبح طار مبادراً ولا تشعر به مع زيادة حبها له.
قال بعضهم لبعضٍ: إن هذا الدراج قد أحببناه وصار لنا صديقاً وما بقي لنا قدرةٌ على فراقه فما يكون من الحيلة الموصلة إلى إقامته عندنا دائماً لأنه إذا طار يغيب عنا النهار كله ولا نراه إلا في الليل، فأشارت عليهن واحدةٌ قائلةٌ: استريحوا يا أخوتي وأنا أجعله لا يفارقنا طرفة عينٍ، فقال لها الجميع: إن فعلت ذلك صرنا لك كلنا عبيداً، فلما حضر الدراج من مسرحه وجلس بينهم تقربت منه السلحفة المحتالة ودعت له وهنأته بالسلامة وقالت له: يا سيدي اعلم أنه قد رزقك منا المحبة وكذلك أودع قلبك محبتنا وصرت لنا في هذا القفر أنيساً وأحسن أوقات المحبين إذا كانوا مجتمعين والبلاء العظيم في البعد والفراق ولكنك تتركنا عند طلوع الفجر ولم تعد إلينا إلا عند الغروب فيصير عندنا وحشةٌ زائدةٌ وقد شق علينا كثيراً ونحن في وجدٍ عظيمٍ لهذا السبب. فقال لها الدراج: نعم أنا عندي محبةٌ لكم واشتياقٌ عظيمٌ إليكم زيادة على ما عندكن وفراقكن ليس سهلاً عندي ولكن ما بيدي حيلة في ذلك لكوني طيراً ذو أجنحةٍ فلا يمكنني المقام معكن دائماً لأن هذا ليس من طبعي فأنا الطير ذا الأجنحة ليس له مستقراً إلا في الليل لأجل النوم وإذا أصبح طار وسرح في أي موضعٍ أعجبه. فقالت له السلحفة: صدقت ولكن ذو الأجنحة في غالب الأوقات لا راحة له ولكونه لا يناله من الخير ربع ما يحصل له من المشقة وغاية المقصود للشخص الرفاهية والراحة ونحن قد جعل الله بيننا وبينك المحبة والألفة ونخشى عليك ممن يصطادك من أعدائك فتهلك ونحرم من رؤية وجهك، فأجابها الدراج قائلاً: صدقت ولكن ما عندك من الرأي والحيلة في أمري? فقالت له: الرأي عندي أن تنتف سواعدك التي تسرع بطيرانك وتقعد عندنا مستريحاً وتأكل من أكلنا وتشرب من شربنا في هذه المسرحة الكثيرة الأشجار اليانعة الأثمار ونقيم نحن وأنت في هذا الموضع الخصب ويتمتع كل منا بصاحبه.
فمال الدراج إلى قولها وقصد الراحة لنفسه ثم نتف ريشةً واحدةً بعد واحدةٍ حسب ما استحسنه من رأي السلحفة واستقر عندهن عائشاً معهن ورضي باللذة اليسيرة والطرب الزائل. فبينما هم على تلك الحالة وإذا بابن عرس قد مر عليه فرمقه بعينيه وتأمله فرآه مقصوص الجناح لا يستطيع النهوض، فلما رآه على تلك الحالة فرح به فرحاً شديداً وقال في نفسه: إن هذا الدراج سمين اللحم قليل الريش، ثم دنا منه ابن عرس وافترسه فصاح الدراج وطلب النجدة من السحالف فلم تنجده بل تباعدن عنه وانكمش في بعضهن لما رأينا ابن عرس قابضاً عليه وحين رأينا ابن عرس يعذبه خنقهن البكاء عليه.
فقال لهن الدراج: هل عندكن شيءٌ غير البكاء? فقلن له: يا أخانا ليس لنا قوةٌ وطاقةٌ ولا حيلةٌ في أمر ابن عرس فحزن الدراج عند ذلك وقطع الرجاء من حياة نفسه وقال لهن: ليس لكن ذنبٌ إنما الذنب لي حيث أطعتكن ونتفت أجنحتي التي أطير بها فأنا استحق الهلاك لمطاوعتي لكن لا ألومكن في شيءٍ وأنا الآن لا ألومكن أيتها النساء بل ألوم نفسي وأؤدبها حيث لم أتذكر أنكن الشهوة التي حصلت من أبينا آدم لأجلها خرج ونسيت أنكن أصل كل شرٍ فأطعتكن بجهلي وخطأ رأيي وسوء تدبيري وقتلت وزرائي وحكام مملكتي الذين كانوا نصحاء لي في الأمور وكانوا عدتي وقوتي على كل أمرٍ أهمني فأنا الآن لا أجد عوضاً عنهم ولا أرى أحداً يقوم مقامهم وقد وقعت في الهلاك العظيم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لام نفسه وقال: أنا الذي أطعتكن بجهلي وقتلت وزرائي ولم أجد عوضاً عنهم يقوم مقامهم وإن لم يفتح الله علي بمن له رأيٌ سديدٌ يرشدني إلى ما فيه خلاصي ووقعت في الهلكة العظيمة ثم أنه قام ودخل مرقده بعد أن نعى الوزراء والحكماء قائلاً يا ليت هؤلاء الأسود عندي في هذا الوقت ولو ساعةً واحدةً حتى اعتذر إليهم وأنظرهم وأشكوا إليهم أمري وما حل بي بعدهم ولم يزل غريقاً في بحر الهم طول نهاره لا يأكل ولا يشرب فلما جن عليه الليل وغير لباسه ولبس ثياباً رديئةً وتنكر وخرج يسبح في المدينة لعله يسمع من أحدٍ كلمة يرتاح بها فبينما هو يطوف الشوارع وإذا هو بغلامين مختليين بأنفسهما جالسين بجانب حائط وهما مستويان في السن عمر كل واحد منهما اثنتا عشر سنةً فسمعهما يتحدثان مع بعضهما فدنا منهما الملك بحيث يسمع كلامهما ويفهمه فسمع واحدٌ منهما يقول للأخر: اسمع ما حكاه لي والدي ليلة أمس من أجل ما وقع له في زرعه ويبسه قبل أوانه بسبب عدم المطر وكثرة البلاء الحاصل في هذه المدينة. فقال له الأخر: أتعرف ما سبب هذا البلاء له? قال: لا فإن كنت تعرفه أنت فأذكره لي فأجابه قائلاً: نعم أعرفه وأخبرك به. اعلم أن بعض أصحاب والدي قال لي: إن ملكنا قتل وزراءه وعظماء دولته من غير ذنبٍ جنوه بل من أجل حبه للنساء وميله إليهن وأن الوزراء نهوه عن ذلك فلم ينته وأمر بقتلهم طاعةً لنسائه حتى أنه قتل شماساً وزيره ووزير والده من قبله وكان صاحب مشورته ولكن الخوف تنظر ما يفعل الله به بسبب ذنوبهم فسينتقم لهم منه فقال الغلام: وما عسى أن يفعل الله به بعد هلاكهم? قال له: اعلم أن ملك الهند الأقصى قد استخف بملكنا وبعث إليه بكتاب يوبخه فيه ويقول له: ابني لي قصراً في وسط البحر وإن لم تفعل ذلك فأنا أرسل إليك اثني عشر كردوساً كل كردوس فيه اثنا عشر ألف مقاتلٍ واجعل قائد هذه العساكر بديعاً وزيري فيأخذ ملكك ويقتل رجالك ويسبيك مع حريمك فلما جاء رسول ملك الهند الأقصى بهذا الكتاب أمهله ثلاثة أيامٍ واعلم يا أخي أن ذلك الملك الجبار عنيدٌ ذو قوة وبأس شديد وفي مملكته خلق كثيرٌ وأن لم يحتل ملكنا فيما يمنعه وقع في الهلكة وبعد هلاك ملكنا يأخذ هذا الملك أرزاقنا ويقتل رجالنا ويسبي حريمنا.
فلما سمع الملك منهما هذا الكلام زاد اضطراباً ومال إليهما وقال في نفسه إن هذا الكلام لحكيمٌ لكونه أخبر عن شيء لم يبلغه مني فأن الكتاب الذي جاء من ملك أقصى الهند عندي والسر معي ولم يطلع أحدٌ على هذا الخبر غيري فكيف علم هذا الغلام به ولكن أنا ألتجيء إليه وأكلمه وأسأل الله أن يكون خلاصنا على يديه ثم أن الملك دنا من الغلام بلطفٍ وقال له: أيها الولد الحبيب ما هذا الذي ذكرته من أجل ملكنا فأنه قد أساء كل الإساءة في قتل وزرائه وكبراء دولته لكنه في الحقيقة قد أساء لنفسه ورعيته أنت صدقت فيما قلته ولكن عرفني أيها الولد من أين عرفت أن ملك الهند الأقصى كتب إلى ملكنا كتاباً ووبخه فيه وقال له هذا الكلام الصعب الذي قلته? قال له هذا الغلام: قد علمت هذا من قول القدماء أنه ليس يخفى على الله خافيةٌ والخلق من بني آدم فيهم روحانية تظهر لهم الأسرار الخفية.
فقال له: صدقت يا ولدي ولكن هل لملكنا حيلةٌ وتدبيرٌ يدفع به عن نفسه وعن مملكته البلاء العظيم? فأجاب الغلام قائلاً: نعم إذ أرسل إلي وسألني ماذا يصنع ليدفع به عدوه وينجو من أخبرته بما فيه نجاته قوة الله تعالى قال له الملك: ومن يعلم الملك بذلك حتى يرسل إليك ويدعوك فأجاب الغلام قائلاً: إني سمعت عنه أنه يفتش على أهل الخبرة والرأي الرشيد وإذا أرسل إلي سرت معهم إليه وعرفت بما فيه صلاحه ودفع البلاء عنه وأن أهمل هذا الأمر العسير اشتغل بها ودفع نسائه وأردت أن أعلمه أبما فيه حياته وتوجهت إليه من تلقاء نفسي فإنه يأمر بقتلي مثل أولئك الوزراء وتكون معرفتي به سبباً لهلاكي وتستقل الناس بي ويستنقصون عقلي وأكون من مضمون قول من قال: من كان علمه أكثر من عقله هلك ذلك العالم.
فلما سمع الملك كلام الغلام تحقق حكمته وتبين فضيلته أن النجاة تحصل له ولرعيته على يديه فعند ذلك أعاد الملك الكلام على الغلام وقال له: من أين أنت? وأين بيتك? فقال له الغلام: إن هذه الحائط توصل إلى بيتنا فتعهد الملك ذلك المكان ثم أنه ودع الغلام ورجع إلى مملكته مسروراً فلما استقر في بيته لبس ودعا بالطعام والشراب ومنع عنه النساء وأكل وشرب وشكر الله تعالى وطلب منه النجاة والمعونة والمغفرة والعفو عما فعل بعلماء دولته ورؤسائهم ثم تاب إلى الله توبةً خالصةً وافترض على نفسه الصوم والصلاة الكثيرة بالنذر ودعا بأخذ غلمانه الخواص ووصف له مكان الغلام وأمره أن ينطلق إليه ويحضره بين يديه برفقٍ، فمضى ذلك العبد إلى الغلام وقال له: الملك يدعوك لخيرٍ يصل إليك من قبله ويسألك سؤالاً ثم تعود في خير إلى منزلك فأجاب الغلام قائلاً: وما حاجة الملك التي دعاني من أجلها? قال له الغلام: إن حاجة مولاي التي دعاك من أجلها هي سؤال وجواب فقال له الغلام: ألف سمعٍ وألف طاعةٍ لأمر الملك ثم سار معه حتى وصل إليه فلما صار بين يديه سجد لله ودعا للملك بعد أن سلم عليه فرد الملك عليه السلام وأمره بالجلوس فجلس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما جاء إلى الملك وسلم عليه أمره بالجلوس فجلس فقال له: هل تعرف من تكلم معك بالأمس? قال الغلام: نعم قال له: فأين هو? فأجابه بقوله: هو الذي يكلمني في هذا الوقت فقال له الملك: لقد صدقت أيها الحبيب ثم أمر الملك بوضع كرسي بجانب كرسيه وأجلسه عليها وأمر بإحضار أكل وشرب قم امتزجا في الحديث إلى أن قال للغلام: إنك أيها الوزير حدثتني بالأمس حديثاً وذكرت فيه أن معك حيلة تدفع بها عنا كيد ملك الهند فما هي الحيلة وكيف التدبير في دفع شره فأخبرني لكي أجعلك أول من يتكلم معي في الملك وأصطفيك وزير إلي وأكون تابعاً لرأيك في كل ما أشرت به علي وأجيزك جائزةً سنيةً.
قال الغلام له: جائزتك لك أيها الملك والملك والمشورة والتدبير عند نسائك اللاتي أشرن عليك بقتل والدي شماس مع بقية الوزراء فلما سمع الملك منه ذلك خجل وتنهد وقال أيها الولد الحبيب وهل شماس والدك كما ذكرت? فأجابه الغلام قائلاً: إن شماساً والدي حقا وأنا ولده صدقاً فعند ذلك خشع الملك ودمعت عيناه واستغفر الله وقال: أيها الغلام أني فعلت ذلك بجهلي وسوء تدبير النساء وكيدهن أسألك أن تكون متسامحاً لي وأني جاعلك في موضع أبيك وأعلى مقاماً من مقامه وإذا زالت هذه النقمة النازلة بنا طوقتك بطوق الذهب وأركبتك أعز مركوب وأمرت المنادي أن ينادي قدامك قائلاً: هذا الولد العزيز صاحب الكرسي الثاني بعد الملك وأما ما ذكرت من أمر النساء فإني أضمرت الإنتقام منهن ورجليه في الوقت الذي يريده الله تعالى فأخبرني بما عندك من التدبير ليطمئن قلبي? فأجابه الغلام قائلاً: أعطني عهداً أنك لا تخالف رأيي فيما أذكر لك وأني أكون مما أخشاه في أمان.
فقال له الملك: هذا عهد الله بين وبينك أني لا أخرج عن كلامك وأنك عندي صاحب المشورة ومهما أمرتني به فعلته والشاهد بيني وبينك على ما أقوله هو الله تعالى فعند ذلك انشرح صدر الغلام واتسع عنده مجال الكلام، فقال: أيها الملك إن التدبير والحيلة عندي أنك تنظر الوقت الذي يحضر لك فيه الساعي طالب الجواب بعد المهلة التي أمهلته إياها فإذا حضر بين يديك وطلب الجواب فأدفعه عنك وأمهله إلى يومٍ آخر فعند ذلك يعتذر إليك أن ملكه حدد عليه أياماً معلومةً فيراجعك في كلامك فأطرحه وأمهله إلى يوم آخر ولا تعين له ذلك اليوم فيخرج من عندك غضبان ويتوجه إلى وسط المدينة ويتكلم جهراً بين الناس ويقول: يا أهل المدينة أني ساعي ملك الهند الأقصى وهو صاحب بأسٍ شديدٍ وعزمٍ يلين له الحديد قد أرسلني بكتابٍ إلى ملك هذه المدينة وجدد لي أياما وقال لي أن لم تحضر عقب الأيام التي حددتها لك حلت بك نقمتي وها أنا جئت إلى ملك هذه المدينة وأعطيته الكتاب فلما قرأه أمهلني أيام ثم لم يعطني ذلك الكتاب فأجتبه إلى ذلك لطفاً به ورعاية لخاطره وقد مضت الثلاثة أيام وأتيت أطلب من الجواب فأمهلني إلى يومٍ آخر وأنا ليس عندي صبراً، فها أنا منطلقٌ إلى سيدي ملك الهند الأقصى وأخبره بما وقع لي وأنتم أيها القوم شاهدون بيني وبينه فعند ذلك يبلغك كلامه المرسل إليه وأحضره بين يديك وكلمه بلطفٍ وقل له: أيها الساعي لإتلاف نفسه أي حملك على ملامتنا بين رعيتنا لقد استحقيت منا التلف عاجلاً ولكن قالت القدماء: العفو من شيم الكرام وأعلم أن تأخير الجواب عنك ليس عجزاً منا وإنما هو لزيادة أشغالنا وقلة تفرغنا لكتابة جواب ملككم ثم أطلب الكتاب واقرأه ثانياً.
وبعد أن تفرغ من قراءته أكثر من الضحك وقل له: هل معك كتاب غير هذا الكتاب فنكتب جواباً له أيضاً فيقول لك: معي كتاب غير هذا الكتاب فأعد عليه بالقول ثانياً فيقول لك: ليس معي غيره أصلاً فقل له: إن ملككم هذا معدوم العقل حيث ذكر في هذا الكتاب كلاماً يريد به تقويم نفوسنا لأجل أن نتوجه بعسكرنا إليه فنغزو بلاده ونأخذ مملكته ولكن لا تؤاخذه في هذه المرة على إساءة أدبه بهذا الكتاب لأنه قاصر العقل ضعيف الحزم فالمناسب لمقدرتنا أننا ننذره ولا نحذره من أن يعود لمثل هذه الهذيانات فإن خاطر بنفسه وعاد إلى مثلها استحق البلاء عاجلاً وآمن أن الذي أرسلك جاهلاً أحمق غير مفكر في العواقب وليس له وزير عاقل سديد الرأي يستشيره ولو كان عاقلاً لاستشار وزيراً قبل أن يرسل إلينا مثل هذا الكلام السخرية ولكن له عندي جواب مثل كتابه وأزيد وأنا أدفع كتابه لبعض صبيان الكتب ليجيبه ثم أرسل إلي واطلبني فإذا حضرت بين يديك فأذن لي بقراءة الكتاب ورد جوابه.
فعند ذلك انشرح صدر الملك واستحسن رأي الغلام وأعجبته حيلته فأنعم عليه وخوله رتبة والده وصرفه مسروراً فلما انقضت الثلاثة أيام التي جعلها مهلةً للساعي جاء الساعي ودخل على الملك وطلب الجواب فأمهله الملك إلى يوم آخر فخرج البساط وتكلم بكلامٍ غير لائق مثل ما قال الغلام ثم خرج إلى السوق وقال: يا أهل هذه المدينة إني رسول ملك الهند الأقصى إلى ملككم جئته برسالةٍ وهو يماطلني في جوابها وقد انقضت المدة التي حددها لي ملكنا ولم يبق لملككم عذرٌ فأنتم تكونون الشهداء على ذلك. فلما بلغ الملك هذا الكلام أرسل إلى ذلك الساعي وأحضره بين يديه وقال له: أيها الساعي في إتلاف نفسه ألست ناقلاً كتاباً من ملك إلى ملك بينهما أسرار فكيف تخرج بين الناس وتظهر أسرار الملوك على العامة فقد استحقيت منا القصاص ولكن نحن نتحل ذلك لأجل عود جوابك لهذا الملك الأحمق والأنسب أن لا يرد له جواباً عنا إلا أقل صبيان المكتب ودعا حضور ذلك الغلام فحضر ولما دخل على الملك والساعي حضر سجد لله ودعا للملك بدوام العز والبقاء فعند ذلك رمى الملك الكتاب للغلام وقال له: اقرأ هذا الكتاب واكتب جوابه بسرعة فأخذ الغلام الكتاب وقرأه وتبسم بالضحك وقال للملك: هل أرسلت خلفي لأجل جواب هذا الكتاب? فقال له: نعم فأجاب بمزيد السمع والطاعة وأخرج الدواة والقرطاس وكتب.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما أخذ الكتاب وقرأه أخرج في الوقت دواةً وقرطاساً وكتب بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من بالأمان ورحمة الرحمن أما بعد فأني أعلمك أيها المدعو ملكاً كبيراً اسماً لا رسماً أنه قد وصل إلينا كتابك وقرأناه وفهمنا ما فيه من الخرافات وغريب الهذيانات فتحققنا جهلك وبغيك علينا وقد مددت يديك إلى ما لا تقدر عليه ولولا أن الرأفة أخذتنا على خلق الله والرعية لما تأخرنا عنك وأما رسولك فأنه خرج إلى السوق ونشر أخبار كتابك على الخاص والعام فيستحق منا القصاص ولكن أبقيناه رحمةً منا له لكونه معذوراً معك ولم نترك قصاصة وقاراً لك.
فأما ما ذكرته في كتابك من قتلي لوزرائي أو علمائي وكبار مملكتي ذلك حق ولكن لسبب قام عندي وما قتلت من العلماء واحداً إلا وعندي من جنسه ألف أعلم منه وأفهم وأعقل وليس عندي طفلٌ إلا وهو ممتلئ من العلوم وعندي عوضاً من كل واحدٍ من المقتولين من فضلاء نوعه ما لا أقدر أن أحصيه وكل واحد من عسكري يقاوم كردوساً من عسكرك أما من جهة المال فإن عندي معامل الذهب والفضة وأما المعادن فأنها عندي كقطع الحجارة وأما أهل مملكتي فإني لا أقدر أن أصف لك حسنهم وجمالهم وغناهم، فكيف تجاسرت علينا وقلت لنا: ابن قصراً في وسط البحر فإن هذا أمرٌ عجيبٌ ولعله ناشئ عن سخافة عقلك لأنه لو كان لك عقلٌ لكنت فحصت عن دفعات الأمواج وحركات الرياح وأنا أبني لك القصر، وأما زعمك أنك تظفرني فحاش لله من ذلك كيف يبغي علينا مثلك ويظفر بملكنا بل أن الله تعالى يظفرني لكونك معتدياً باغياً علي بغير حقٍ فاعلم أن أمك استوجبت العذاب من الله ومني ولكن أنا أخاف الله فيك في رعيتك ولا أركب عليك إلا بعد النذارة فإن كنت تخشى الله فعجل لي بإرسال خراج هذه السنة وإلا لا أرجع عن الركوب عليك ومعي ألف ومائة ألف مقاتل، كلهم جبابرة بأفيال فسردهم حول وزيرنا وآمره أن يقيم على محاصرتك ثلاث سنوات نظير الثلاثة أيام التي أمهلتها لقاصدك وأتملك مملكتك بحيث لا أقتل منها أحداً غير نفسك ولا أسبى منها غير حريمك.
ثم صور الغلام في المكتوب صورته وكتب بجانبها: إن هذا الجواب كتبه أصغر أولاد الكتاب ثم سلمه إلى الملك فأعطاه الملك للساعي فأخذه الساعي وقبل يدي الملك ومضى من عنده شاكر الله تعالى وللملك على حلمه وانطلق وهو يتعجب مما رأى من حذق الغلام، فلما وصل إلى ملكه وكان دخوله عليه في اليوم الثالث بعد الثلاثة أيام المحدودة له وكان الملك في ذلك الوقت ناصب الديوان بسبب تأخير الساعي عن المدة المحددة له فلما دخل عليه سجد بين يديه ثم أعطاه الكتاب فأخذه الملك وسأل الساعي عن سبب إبطائه وعن أحوال الملك وردخان فقص عليه القصة وحكى له جميع ما نظره بعينيه وسمعه بأذنيه فاندهش عقل الملك وقال للساعي: ويحك ما هذه الأخبار التي تخبرني بها عن مثل هذا الملك? فأجابه الساعي قائلاً: أيها الملك العزيز ها أنا بين يديك فافتح الكتاب واقرأه يظهر لك الصدق من الكذب فعند ذلك فتح الملك الكتاب وقرأه نظر فيه صورة الغلام الذي كتبه فأيقن زوال ملكه وتحير فيما يكون من أمره، ثم التفت إلى وزرائه وعلمائه وأرباب دولته وأخبرهم بما جرى وقرأ عليهم الكتاب فارتاعوا لذلك وارتعبوا رعباً عظيماً وصاروا يسكنون من روع الملك بكلام من ظاهر اللسان وقلوبهم تتمزق من الخفقان، ثم أن بديعاً الوزير الكبير قال: اعلم أيها الملك إن الذي يقوله أخوتي من الوزراء لا فائدة فيه والرأي عندي أنك تكتب لهذا الملك كتاباً وتعتذر إليه فيه وتقول له أنا محبٌ لك ولوالدك من قبلك وما أرسلنا إليك الساعي بهذا الكتاب إلا على طريق الإمتحان لك لننظر عزائمك وما عندك من الشجاعة والأمور العملية والعلمية والرموز الخفية وما أنت منطوٍ عليه من الكمالات الكلية ونسأل الله تعالى أن يبارك لك في مملكتك ويشيد حصون مدينتك ويزيد في سلطانك حيث كنت حافظاً لنفسك فتتم أمور رعيتك وأرسله مع ساعٍ آخر.
فقال الملك: والله العظيم أن هذا ليعجبا عظيماً كيف يكون هذا ملكاً عظيماً معتداً للحرب بعد قلته لعلماء مملكته وأصحاب رأيه ورؤساء جنده وتكون مملكته عامرة بعد ذلك ويخرج منها هذه القوة العظيمة وأعجب من هذا أن صغار مكاتبها يردون عن ملكها مثل هذا الجواب لكن أنا بسوء طمعي أشعلت هذه النار علي وعلى أهل مملكتي ولا أدري ما يطفئها إلا رأي وزيري هذا، ثم أنه جهز هديةً ثمينةً وخدماً وحشماً كثيرةً وكتب كتاباً مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد أيها الملك العزيز وردخان ولد الأخ العزيز الملك جليعاد رحمه الله وأبقاك، لقد حضر لنا كتابك فقرأناه وفهمنا ما فيه فرأينا فيه ما يسرنا وهذا غاية طلبنا لك من الله تعالى ونسأل الله أن يعلي شأنك ويشيد أركان مملكتك وينصرك على أعدائك الذين يريدون بك السوء واعلم أيها الملك أن أباك كان لي أخاً وبيني وبينه عهود ومواثيق مدة حياته وما كان يرى منا إلا خيراً أو كنا نحن كذلك لا نرى منه إلا خيراً، ولما توفي وجلست أنت على كرسي مملكته حصل عندنا غاية الفرح والسرور ولما بلغني ما فعلت بوزرائك وأكابر دولتك خشينا أن يصل خبر ذلك إلى ملك غيرنا فيطمع فيك وكنا نظن أنك في غفلةٍ عن مصالحك مهملاً لأمور مملكتك فكاتبناك بما ننبهك فلما رأيناك قد رددت لنا مثل هذا الجواب اطمأن قلبنا عليك، متعك الله بمملكتك وجعلك معاناً على شأنك والسلام، ثم جهز له الهدية وأرسلها إليه مع مائة فارسٍ.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الهند الأقصى لما جهز الهدية إلى الملك وردخان أرسلها له مع مائة فارسٍ فساروا إلى أن أقبلوا على الملك وردخان وسلموا عليه ثم أعطوه الكتاب فقرأه وفهم معناه ثم نزل قائدهم في محل يصلح له وإكرمه وقبل الهدية منه وشاع خبرها عند الناس وفرح الملك بذلك فرحاً شديداً ثم أرسل إلى الغلام ابن شماس وأحضره من ملكه وأعطاه الكتاب ففتحه وقرأه فسر الملك بذلك سروراً كبيراً وصار يعاتب رئيس المائة فارس وهو يقبل يديه ويعتذر إليه ويدعو له بدوام البقاء وخلود النعم عليه فشكره على ذلك وأكرمه إكراماً زائداً وأعطاه هو وجميع من معه ما يليق بهم وجهز معهم هدايا وأمر الغلام أن يكتب رد الجواب فعند ذلك كتب الغلام الجواب وأحسن الخطاب وأوجز في باب الصلح وذكر أدب الرسول ومن معه من الفرسان.
فلما تمم الكتاب عرضه على الملك فقال له الملك: اقرأه أيها الولد العزيز لكي نعرف ما كتب فيه، فعند ذلك قرأه الغلام بحضور المائة فارس فأعجب الملك هو وكل من حضر نظامه ومعناه ثم ختمه الملك وسلمه إلى رئيس المائة فارس وصرفه وأرسل معه من عسكره طائفةٌ توصلهم إلى أطراف بلادهم، هذا ما كان من أمر الملك والغلام.
وأما ما كان من أمر رئيس المائة فارس فإنه اندهش عقله مما رآه من أمر الغلام ومعرفته وشكر الله تعالى على قضاء مصلحته بسرعةٍ وعلى قبول الصلح ثم أنه سار إلى أن وصل إلى ملك أقصى الهند وقدم إليه الهدايا والتحف وأوصل إليه العطايا وناوله الكتاب وأخبره بما نظر ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً وشكر الله تعالى وأكرم رئيس المائة فارس وشكر همته على فعله، ورفع درجته وصار من ذلك الوقت في أمن مأمن وطمأنينة وزيادة أشباح، هذا ما كان من أمر ملك أقصى الهند.
وأما ما كان من أمر الملك ودرخان فأنه استقام مع الله ورجع عن طريقته الرديئة وتاب إلى الله توبةً خالصةً عما كان فيه وترك النساء جملةً وما لكليته إلى صلاح مملكته والنظر بخوف الله إلى الرعية وجعل ابن شماس وزيراً عوضاً عن والده وصاحب الرأي المقدم عنده في المملكة وكاتماً لسره وأمر بزينة مدينته سبعة أيامٍ وكذلك بقية المدائن ففرحت الرعية بذلك وزوال الخوف والرعب عنها واستبشروا بالعدل والإنصاف وابتهلوا بالدعاء للملك والوزير الذي أزال عنه وعنهم هذا الغم وبعد ذلك قال الملك للوزير: ما الرأي عندك في إتقان المملكة وإصلاح الرعية ورجوعها إلى ما كانت عليه أولاً من وجود الرؤساء والمديرين.
فعند ذلك أجابه الوزير قائلاً: أيها الملك العزيز الشأن الرأي عندي أنك قبل كل شيءٍ تتبدئ بقطع أمر المعاصي من قلبك وتترك ما كنت فيه من اللهو والعسف والإشتغال بالنساء لأنك إن رجعت إلى أصل المعاصي تكون الضلالة الثانية أشد من الأول فقال الملك: وما هي أصل المعاصي التي ينبغي أن أقلع عنها? فأجابه ذلك الوزير الصغير السن الكبير العقل قائلاً: أيها الملك الكبير اعلم أن أصل المعصية اتباع هوى النساء والميل إليهن وقبول رأيهن وتدبيرهن لأن محبتهن تغير العقول الصافية وتفسد الطباع السليمة والشاهد على قولي من دلائل واضحة لو تفكرت فيها وتتبعت وقائعها بإمعان النظر لوجدت لك ناصحاً من نفسك واستغنيت عن قولي جملةً، فلا تشغل قلبك بذكرهن واقطع من ذهنك رسمهن لأن الله تعالى أمر بعدم الإكثار منهن على يد نبيه موسى حتى قال بعض الملوك الحكماء لولده: يا ولدي إذا استقمت في الملك من بعدي فلا تكثر من النساء لئلا يضل قلبك ويفسد رأيك بالجملة فالإستكثار منهم يفضي إلى حبهن وحبهن يفضي إلى فساد الرأي والبرهان على ذلك ما جرى لسيدنا سليمان بن دواد عليهما السلام الذي خصه الله بالعلم والحكمة والملك العظيم ولم يعط أحدٌ من الملوك الذين تقدموا مثل ما أعطاه فكانت النساء سبباً لهفوة والده ومثل هذا كثير أيها الملك وإنما ذكرت لك سليمان لتعرف أنه ليس لأحد أن يملك مثل ما ملك حتى إطاعة جميع ملوك الأرض واعلم أيها الملك أن محبة النساء أصل كل شر وليس لأحداهن رأي فينبغي للإنسان أن يقتصر منهن على قدر الضرورة ولا يميل إليهن كل الميل فإن ذلك يوقعة في الفساد والهلكة فأن أطعت قولي أيها الملك استقامت لك جميع أمورك وإن تركته ندمت حيث لا ينفعك الندم فأجابه الملك قائلاً: لقد تركت ما كنت فيه من فرط الميل إليهن.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك وردخان لما قال لوزيره أني قد تركت ما كنت فيه من الميل إليهن وأعرضت عن الإشغال بالنساء جميعاً ولكن ماذا أصنع إليهن جزاء ما فعلن لأن قتل شماس والدك كان من كيدهن ولم يكن ذلك مرادي ولا عرفت كيف جرى لي في عقلي حتى وافقتهن على قتله، ثم تأوه وصاح قائلاً وأسفاه على فقد وزيري وسداد رأيه وحسن تدبيره وعلى فقد نظرائه من الوزراء ورؤساء المملكة وحسن آرائهم الرشيد فأجابه الوزير قائلاً اعلم أيها الملك أن الذنب ليس للنساء وحدهن لأنهن مثل بضاعة مستحسنةٍ تميل إليها شهوات الناظرين فمن اشتهى واشترى باعوه ومن لم يشتر لم يجبره أحدٌ على الشراء ولكن الذنب لمن اشترى وخصوصاً إذا كان عارفاً بمضرة تلك البضاعة وقد حذرتك ووالدي من قبلي كان يحذرك ولم تقبل منه نصيحةً فأجابه الملك أنني أوجبت على نفسي الذنب كما قلت أيها الوزير ولا عذر لي إلى التقادير الإلهية.
فقال الوزير اعلم أيها الملك أن الله تعالى خلقنا وخلق لنا استطاعة وجعل لنا إرادة واختياراً فإن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل ولم يأمرنا الله بفعل ضرار لئلا يلزمنا ذنبٌ فيجب علينا حساب فيما يكون لله صواباً لأنه تعالى لا يأمرنا إلا بالخير على سائر الأحوال وإنما ينهانا عن الشر ولكن نحن بإرادتنا نفعل ما نفعله صواباً كان أو خطأ فقال له الملك صدقت وإنما كان خطئي من الميل إلى الشهوات وقد حذرت نفسي من ذلك مراراً وحذرني والدك شماس مرار فغلبت نفسي على عقلي فهل عندك شيءٌ يمنعني عن ارتكاب هذا الخطأ حتى يكون عقلي غالباً على شهوات نفسي.
فأجاب الوزير نعم إني أرى شيئاً يمنعك عن ارتكاب هذا الخطأ وهو أنك تنزع عنك ثوب الجهل وتلبس ثوب العدل وتعصى هواك وتطيع مولاك وترجع إلى سيرة الملك العادل أبيك وتعمل ما يجب عليك من حقوق الله وحقوق رعيتك وتحافظ على دينك وعلى رعيتك وعلى سياسة نفسك وعلى عدم قتل رعيتك وتنظر في عواقب الأمور وتنزل عن الظلم والجور والبغي والفساد وتستعمل العدل والإنصاف والخضوع وتمتثل أوامر الله تعالى وتلازم الشفقة على خليقته الذين استخلفك عليهم وتواظب على ما يوجب دعاءهم لك لأنك إذا أدام لك ذلك صفا وقتك وعفا الله برحمته عنك وجعلك مهاباً عند كل من يراك وتتلاشى أعداؤك ويهزم الله جيوشهم وتصير عند الله مقبولاً وعند خلقه مهاباً محبوباً.
فقال له الملك لقد أحييت فؤادي ونورت قلبي بكلامك الحلو وجلوت عين بصيرتي بعد العمى وأنا عازمٌ على أن أفعل جميع ما ذكرته لي بمعونة الله تعالى وأترك ما كنت عليه من البغي والشهوات وأخرج نفسي من الضيق إلى السعة ومن الخوف إلى الأمن وينبغي أن تكون بذلك فرحاً مسروراً لأني صرت لك ابنا مع كبر سني وصرت لي أنت والداً حبيباً على صغر سنك وصار من الواجب علي بذل المجهود فيما تأمرني به وأنا أشكر فضل الله تعالى وفضلك فإن الله تعالى أولاني بك من النعم وحسن الهداية وسداد الرأي ما يدفع همي وغمي وقد حصلت سلامة رعيتي على يديك بشرف معرفتك وحسن تدبيرك فأنت الآن مدبراً لملكي لا أتشرف عليك بسوى الجلوس على الكرسي وكل ما تفعله جائزٌ علي ولا أرد لكلمتك وليس يفصلني منك إلا الموت وجميع ما تملكه يدي لك التصرف فيه وإن لم يكن لي خلف تجلس علي تختي عوضاً عني فأنت أولى من جميع ما في مملكتي فأوليك ملكي وأشهد على ذلك أكابر مملكتي، أجعلك ولي عهدي من بعدي إن شاء الله تعالى.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك وردخان قال لابن شماس الوزير سوف أستخلفك عني وأجعلك ولي عهدي من بعدي وأشهد علي ذلك أكابر مملكتي بعون الله تعالى، ثم بعد ذلك دعا بكاتبه فحضر بين يديه فأمره أن يكتب إلى سائر كبراء دولته بالحضور إليه وجهر بالنداء في مدينته للحاضرين الخاص والعام وأمر أن يجتمع الأمراء والقواد والحجاب وسائر أرباب الخدم أن حضرة الملك وكذلك العلماء والحكماء وعمل الملك ديواناً عظيماً وسماطاً لم يعمل مثله قط وعزم جميع الناس من الخاص والعام فاجتمع الجميع على حظ وأكل وشرب مدة شهرٍ وبعد ذلك كسا جميع حاشيته وفقراء مملكته وأعطى العلماء عطايا وافره فاختار جملةً من العلماء والحكماء بمعرفة ابن شماس وأدخلهم عليه وأمره أن ينتخب منهم سبعةً ليجعلهم وزراء من تحت كلمته ويكون هو الرئيس عليهم فعند ذلك اختار الغلام ابن شماس منهم أكبرهم سناً وأكملهم عقلاً وأكثرهم درايةً وأشرعهم حفظاً ورأى من بهذه الصفات ستة أشخاصٍ فقدمهم إلى الملك وألبسهم ثياب الوزراء وكلمهم قائلاً أنتم تكونون ورائي تحت طاعة ابن شماس وجميع ما يقوله لكم أو يأمركم به وزيري هذا ابن شماس لا تخرجوا عنه أبداً ولو كان هو أصغركم سناً لأنه أكبركم عقلاً، ثم أن الملك أجلسهم على كراسي مزركشة على عادة الوزراء وأجرى عليهم الأرزاق والنفقات ثم أمرهم أن ينتخبوا من أكابر الدولة الذين اجتمعوا عنده في الوليمة من يصلح لخدمة المملكة من الأجناد ليجعل منهم رؤساء ألوف ورؤساء خمسين ورؤساء عشرات ورتب لهم المرتبات وأجرى عليهم الأرزاق على عادة الكبراء ففعلوا ذلك في أسرع وقتٍ وأمرهم أيضاً أن ينعموا على بقية من حضر بالإنعامات الجزيلة وأن يصرفوا كل واحدٍ إلى أرضه بعزٍ وإكرامٍ وأمر عماله بالعدل في الرعية وأوصاهم بالشفقة على الفقراء والأغنياء وأمر بإسعافهم من الخزنة على قدر درجاتهم فدعا له الوزير بدوام العز والبقاء ثم أنه أمر بزينة المدينة ثلاثة أيامٍ شكر الله تعالى على ما حصل له من التوفيق هذا ما كان من أمر الملك ووزيره ابن شماس في ترتيب المملكة وأمرائها وعمالها.
وأما ما كان من أمر النساء المحظيات من السراري وغيرهن اللاتي كن سبباً لقتل الوزراء وفساد المملكة بحياتهن وخداعهن فأنه لما انصرف جميع من كان في الديوان من المدينة والقرى إلى محله واستقامت أمورهم أمر الملك الوزير الصغير السن الكبير العقل الذي هو ابن شماس أن يحضر بقية الوزراء.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أمر وزيره ابن شماس أن يحضر بقية الوزراء فلما حضروا جميعاً بين يدي الملك اختلى بهم وقال لهم اعلموا أيها الوزراء أني كنت حائداً عن الطريق المستقيم مستغرقاً في الجهل معرضاً عن النصيحة ناقضاً للعهود والمواثيق مخالفاً لأهم 
النصح وسبب ذلك كله ملاعبة هؤلاء النساء وخداعهن إياي، وزخرفة كلامهن وباطلهن لي وقبولي لذلك لأني كنت أظن أن كلامهن نصحٌ بسبب عذوبته ولينه فإذا هو سمٌ قاتلٌ والآن قد تقرر عندي أنهن يردن لي الهلاك والتلف فقد استحقين العقوبة والجزاء مني لكن على جهة العدل حتى أجعلهن عبرة لمن اعتبر فما الرأي السديد في أهلاكهن فأجابه الوزير ابن شماس قائلاً أيها الملك العظيم الشأن إنني قلت لك أولاً الذنب ليس مختصاً بالنساء وحدهن بل هو مشترك بينهن وبين الرجال الذين يطيعونهن لكن النساء يستوحين الجزاء على كل حال لأمرين الأول تنفذ قولك لكونك الملك الأعظم والثاني لتجاسرهن عليك وخداعهن لك ودخولهن فيما بينهن وحالاً يصلحن للتكلم فيه فهن أحقٌ بالهلاك ولكن كفاهن ما هو نازلٌ بهن ومن الآن اجعلهن بمنزلة الخدم والأمر إليك في ذلك غيره.
ثم أن بعض الوزراء أشار على الملك بما قاله ابن شماس وبعض الوزراء تقدم إلى الملك وسجد له وقال أدام الله أيام الملك إن كان لا بد أن تفعل بهن فعلة لهلاكهن فافعل ما أقوله لك فقال الملك ما الذي تقوله لي فقال له أن تأمر إحدى محاظيك بأن تأخذ النساء اللاتي خدعنك وتدخلهن البيت الذي حصل فيه قتل الوزراء والحكماء وتسجنهن هناك وتأمر أن يعطى لهن قليلٌ من الطعام والشراب بقدر ما يمسك أبدانهن ولا يؤذن إليهن في الخروج من ذلك الموضع أصلاً وكل من ماتت بنفسها تبقى بينهن على حالها إلى أن يمتن عن آخرهن وهذا أقل جزائهن لأنهن كن سبباً لهذه الفتنة العظيمة بل واصل جميع البلايا والفتن التي وقعت في هذا الزمان وصدق عليهن قول القائل إن من حفر بئراً لأخيه وقع فيها وما طالت سلامته فقبل الملك رأيه وفعل كما قال له وأرسل خلف أربع محظيات جبارات وسلم إليهن النساء وأمرهن أن يدخلن في محل القتلى ويسجنهن فيه وأجرى لهن طعاماً نيئاً قليلاً وشراباً قليلاً فكان من أمرهن أنهن حزن حزناً عظيماً وندمن على ما فرط منهن وتأسفن تأسفاً كثيراً وأعطاهن الله جزاهن في الدنيا من الخزي وأعدلهن العذاب في الآخرة ولم يزلن في ذلك الموضع المظلم المنتن الرائحة وفي كل يوم تموت ناس منهن حتى هلكن عن آخرهن وشاع خبر هذه الواقعة في جميع البلاد والأقطار وهذا ما انتهى إليه أمر الملك ووزرائه ورعيته والحمد لله مفني الأمم ومحيي الرمم المستحق للتجليل والإعظام والتقديس على الدوام.

حكاية أبي قير وأبي صير

ومما يحكى أيضاً: أن رجلين كانا في مدينة الإسكندرية وكان أحدهما صباغاً واسمه أبو قير وكان الثاني مزيناً واسمه أبو صير وكانا جارين لبعضهما في السوق وكان المزين في جانب دكان الصباغ نصاباً كذاباً صاحب شر قوي كأنما صدغه منحوتٌ من الجلموت أو مشتقٌ من عتبة كنيسة اليهود لا يستحي من عيبة يفعلها بين الناس وكان من عادته أنه إذا أعطاه أحدٌ قماشاً لصبغه يطلب منه الكراء أولاً ويوهمه أنه يشتري به أجزاءً ليصبغ بها، فيعطيه الكراء مقدماً فإذا أخذه منه يصرفه على أكلٍ وشربٍ.
ثم يبيع القماش الذي أخذه بعد ذهاب صاحبه ويصرف ثمنه في الأكل والشرب وغير ذلك ولا يأكل إلا طيباً من أفخر المأكول ولا يشرب إلا من أجود ما يذهب العقول فإذا أتاه صاحب القماش يقول له في غدٍ تجيء لي من قبل طلوع الشمس فتلقى حاجتك مغبونةً فيروح صاحب الحاجة ويقول في نفسه يوم من يومٍ قريب ثم يأتيه في ثاني يوم على الميعاد فيقول له تعال في غدٍ فأني أمس ما كنت فاضياً لأنه كان عندي ضيوف فقمت بواجبهم حتى راحوا وفي غدٍ قبل الشمس تعال خذ قماشك مصبوغاً فيروح ويأتيه في ثالث يوم فيقول له أني كنت أمس معذوراً لأن زوجتي ولدت بالليل وطول النهار وأنا أقضي مصالح ولكن في غد من كل بد تعال خذ حاجتك مصبوغة فيأتي له على الميعاد فيطلع له بحيلةٍ أخرى من حيث كان ويحلف له.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصباغ صار كلما أتى له صاحب الشيء يطلع له بحيلةٍ من حيث كان ويجلب له ولم يزل يعده ويخلف إذا جاءه حتى يقلق الزبون ويقول له كم تقول لي في غد أعطني حاجتي فإني لا أريد صبغاً فيقول والله يا أخي أنا مستحٍ منك ولكن أخبرك بالصحيح والله يؤذي كل من يؤذي الناس في أمتعتهم فيقول له أخبرني ماذا حصل فيقول أما حاجتك فأني صبغتها صبغاً ليس له نظيراً ونشرتها على الحبل فسرقت ولا أدري من سرقها فإن كان صاحب الحاجة من أهل الخير يقول له يعوض الله علي وإن كان من أهل الشر يستمر معه في هتيكةٍ وجرسةٍ ولا يحصل منه شيء ولو اشتكاه إلى الحاكم.
ولم يزل يفعل هذه الفعال حتى شاع ذكره بين الناس وصار الناس يحذر بعضهم من أبي قير ويضربون به الأمثال وامتنعوا عنه جميعاً وصار لا يقع معه إلا الجاهل بحاله ومع ذلك لا بد له كل يومٍ من جرسةٍ وهتيكةٍ من خلق الله فحصل له كساد بهذا السبب فصار يأتي إلى دكان جاره المزين أبي صير ويقعد في داخلها قبال المصبغة فإن رأى أحدٌ جاهلاً بحاله واقفاً على باب المصبغة ومعه شيءٌ يريد صبغه يقوم من دكان المزين ويقول له مالك يا هذا فيقول له خذ أصبغ لي هذا الشيء فيقول له أي لون تطلبه لأنه مع هذه الخصال الذميمة كان يخرج من يده أن يصبغ سائر الألوان ولكنه لم يصدق مع أحد والشقاوة غالبة عليه ثم يأخذ الحاجة منه ويقول له هات الكراء مسبقاً وفي غدٍ تعال خذها فيعطيه الأجرة ويروح.
وبعد أن يتوجه صاحب الشيء إلى حال سبيله يأخذ هو ذلك الشيء ويذهب إلى السوق فيبيعه ويشتري بثمنه اللحم والخضار والدخان والفاكهة وما يحتاج إليه، وإذا رأى أحداً واقفاً على الدكان من الذين أعطوه حاجةً ليصبغها فلا يظهر إليه ولا يريه نفسه، ودام على هذه الحالة سنين.
فاتفق له في يومٍ من الأيام أنه أخذ حاجةً من رجلٍ جبارٍ ثم باعها وصرف ثمنها وصار صاحبها يجيء إليه في كلا يومٍ فلم يره في الدكان لأنه متى رأى أحدٌ له عنده شيء يهرب منه في دكان المزين أبي صير، فلما لم يجده ذلك الجبار في دكانه وأعياه ذلك ذهب إلى القاضي وأتاه برسولٍ من طرفه وسمر باب الدكان بحضرة جماعة من المسلمين وختمه لأنه لم ير فيها غير بعض مواجير مكسره ولم يجد فيها شيئاً يقوم مقام حاجته، ثم أخذ الرسول المفتاح وقال للجيران: قولوا له يجيء بحاجة هذا الرجل ويأتي ليأخذ مفتاح دكانه.
ثم ذهب الرجل والرسول إلى حالهما فقال أبو صير لأبي قير: دهيتك فإن كل من جاء لك بحاجةٍ تعدمه إياها أين راحت حاجة هذا الرجل الجبار? قال يا جاري سرقت مني، قال أبو صير: عجائب كل من أعطاك حاجةً يسرقها منك لصٌ، هل أنت معادٍ جميع اللصوص، ولكن أظن أنك تكذب فأخبرني بقصتك يا جاري ما أحد سرق مني شيء، فقال أبو صير وما تفعل في متاع الناس? فقال له كل من أعطاني حاجةً أبيعها وأصرف ثمنها فقال له أبو صير أيحل لك هذا من الله، قال له أبو صير إنما أفعل هذا من الفقر لأن صنعتي كاسدة وأنا فقيرٌ وليس عندي شيءٌ، ثم صار يشرح له الكساد وقلة السبب وصار أبو صير يشرح له كساد صنعته أيضاً ويقول أنا أسطى ليس لي نظير في هذه المدينة ولكن لا يحلق عندي أحد لكوني رجل فقير وكرهت هذه الصنعة يا أخي.
فقال له أبو قير الصباغ: وأنا أيضاً كرهت صنعتي من الكساد ولكن يا أخي ما الداعي لإقامتنا في هذه البلدة فأنا وأنت نسافر منها نتفرج في بلاد الناس وصنعتنا في أيدينا رائجةٌ في جميع البلاد، فإذا سافرنا نشم الهواء ونرتاح من هذا الهم العظيم. وما زال أبو قير يحسن السفر لأبي صير حتى رغب في الإرتحال، ثم أنهما اتفقا على السفر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا قير ما زال يحسن السفر لأبي صير حتى رغب في الإرتحال، ثم أنهما اتفقا على السفر وفرح أبو قير بأن أبا صير رغب في أن يسافر وأنشد قول الشاعر:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا                   وسافر ففي الأسفار خمس فـوائد
تفرج همٌ واكتـسـاب مـعـيشةٌ              علم وأداب وصـحـبة مـاجـد
وإن قيل في الأسفار غمٌ وكـربةٌ                    وتشتيت شمل وارتكـاب شـدائد
فموت الفتى خيرٌ له من حياته             بدار هوانٍ بين واشٍ وحاسد

وحين عزما على السفر قال أبو قير لأبي صير: نحن صرنا أخوين ولا فرق بيننا فينبغي أننا نقرأ الفاتحة على أن أعمالنا يكتسب ويطعم بطالنا ومهما فضل نضعه في صندوقٍ فإذا رجعنا إلى الإسكندرية نقسمه بيننا بالحق والإنصاف، قال أبو صير وهو كذلك وقرأ الفاتحة على أن الذي يعمل ويكتسب يطعم البطال.
ثم أن أبا صير قفل الدكان وأعطى المفاتيح لصاحبها وأبو قير ترك المفاتيح عند رسول القاضي وترك الدكان مقفولةً مختومةً وأخذ مصالحهما وأصبحا مسافرين ونزلا في غليون في البحر المالح وسافرا في ذلك النهار وحصل لهما إسعاف.
ومن تمام سعد المزين أن جميع من كان في الغليون لم يكن معهم أحد من المزينين وكان فيه مائة وعشرون رجلاً غير الريس والبحرية. ولما حلوا قلوع الغليون قام المزين وقال للصباغ: يا أخي هذا بحر نحتاج فيه إلى الأكل والشرب وليس معنا إلا قليلٌ من الزاد وربما يقول لي أحد تعال يا مزين أحلق لي فأحلق له برغيف أو بنصف فضة أو بشرية ماء فانتفع بذلك أنا وأنت، فقال له الصباغ لا بأس.
ثم حط رأسه ونام وقام المزين وأخذ عدته والطاسة ووضع على كتفه خرقةً تغني عن الفوطة لأنه فقير وشق بين الركاب فقال له واحد تعال يا أسطى أحلق لي فحلق له فلما حلق لذلك الرجل أعطاه نصف فضة فقال له المزين ليس لي بهذا النصف الفضة ولو كنت فأعطيتني رغيفاً كان أبرك في هذا البحر لأن لي رفيقاً وزادنا شيء قليل فأعطاه رغيفاً وقطعة جبن وملأ له الطاسة ماء حلواً فأخذ ذلك وأتى إلى أبي قير وقال له: خذ هذا الرغيف وكله بالجبن واشرب ما في الطاسة فأخذ ذلك منه وأكل وشرب ثم أن أبا صير المزين بعد ذلك حمل عدته وأخذ الخرقة على كتفه والطاسة في يده وشق في الغليون بين الركاب فحلق لإنسان برغيفين ولآخر بقطعة جبن ووقع عليه الطلب وصار كل من يقول له أحلق يا أسطى يشرط عليه رغيفين ونصف فضة وليس في الغليون مزين غيره فما جاء المغرب حتى جمع ثلاثين رغيفاً وثلاثين نصف فضة وصار عنده جبن وزيتون وبطارخ وصار كلما يطلب حاجة يعطونه إياها حتى صار عنده شيءٌ كثيرٌ وحلق للقبطان وشكا له قلة الزاد في السفر فقال له القبطان مرحباً بك هات رفيقك في كل ليلةٍ وتعشيا عندي ولا تحملاهما ما دمتما مسافرين معنا ثم رجع إلى الصباغ فرآه لم يزل نائماً فأيقظه فلما أفاق أبو قير رأى عند رأسه شيءٌ كثيرٌ من عيش وجبن وزيتون وبطارخ.
فقال له من أين لك ذلك فقال من فيض الله تعالى فأراد أن يأكل فقال له أبو صير لا تأكل يا أخي من هذا واتركه ينفعنا في وقت آخر واعلم أني حلقت للقبطان وشكوت إليه قلة الزوادة فقال له مرحباً بك هات رفيقك كل ليلةٍ وتعشيا عندي فأول عشائنا عند القبطان في هذه الليلة فقال له أبو صير أنا دايخ من البحر ولا أقدر أن أقوم من مكاني فدعني أتعشى من هذا الشيء ورح أنت وحدك عند القبطان فقال له لا بأس بذلك ثم جلس يتفرج عليه وهو يأكل فرآه يقطع اللقمة كما يقطع الحجارة من الجبل ويبتلعها ابتلاع الغول الذي له أيام ما أكل ويلقم اللقمة قبل ازدراد التي قبلها ويحملق عينيه فيما بين يديه حملقة القول وينفخ مثل الثور الجائع على التبن والفول وإذا بنوتي جاء وقال يا أسطى يقول لك القبطان هات رفيقك وتعال للعشاء.
فقال أبو صير لأبي قير: أتقوم بنا? فقال له: أنا لا أقدر على المشي فراح المزين وحده فرأى القبطان جالساً وقدامه سفرة فيها عشرون لوناً أو أكثر وهو وجماعته ينتظرون المزين ورفيقه فلما رآه القبطان قال له أين رفيقك فقال له يا سيدي إنه دايخٌ من البحر فقال له القبطان لا بأس عليه ستزول عنه الدوخة تعال أنت تعش معنا فأني كنت في انتظارك ثم أن القبطان عزل صحنا وحط فيه من كل لون فصار يكفي عشرة وبعد أن تعشى المزين قال له القبطان خذ هذا الصحن معك إلى رفيقك فأخذه أبو صير وأتى إلى أبي قير فرآه يطحن بأنيابه فيما عنده من الأكل مثل الجمل ويلحق اللقمة باللقمة على عجل.
فقال له أبو صير: أما قلت لك لا تأكل فإن القبطان خيره كثير فانظر أي شيءٍ بعث به إليك لما أخبرته بأنك دايخ فقال هات فناوله الصحن فأخذه منه وهو ملهوف عليه وعلى غيره من الأكل مثل الكلب الكاسر أو السبع الكاسر أو الرخ إذا انقض على الحمام أو الذي كاد أن يموت من الجوع ورأى شيئاً من الطعام وصار يأكل فتركه أبو صير وراح إلى القبطان وشرب القهوة هناك ثم رجع إلى أبي قير فرآه قد أكل جميع ما في الصحن ورماه فارغا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا صير لما رجع إلى أبي قير رآه قد أكل ما في الصحن ورماه فارغاً فأخذه وأوصله إلى أتباع القبطان ورجع إلى أبي قير ونام إلى الصباح فلما كان ثاني الأيام صار أبو صير يحلق وكلما جاء له شيءٌ يعطيه لأبي قير وأبو قير يأكل ويشرب وهو قاعدٌ لا يقوم إلا لإزاله الضرورة وكل ليلةٍ يأتي له بصحنٍ ملآن من عند القبطان واستمر على هذه الحالة عشرين يوماً حق رسا الغليون على مدينة فطلعا من الغليون ودخلا تلك المدينة وأخذا لهما حجرة في خان وفرشها أبو صير واشترى جميع ما يحتاجان إليه وجاء بلحم وطبخه وأبو قير نائمٌ من حين دخل الحجرة ولم يستيقظ حتى أيقظه أبو صير ووضع السفرة بين يديه فلما أفاق أكل.
وبعد ذلك قال له لا تؤاخذني فأني دايخٌ ثم نام واستمر على هذه الحالة أربعين يوماً وكل يومٍ يحمل المزين العدة ويدور في المدينة فيعمل بالذي فيه النصيب ويرجع فيجد أبا قير نائماً فينبهه وحين ينتبه يقبل على الأكل بلهفة فيأكل أكل من لا يشبع ولا يقنع ثم ينام ولم يزل كذلك مدة أربعين يوماً أخرى وكلما يقول له أبو صير أجلس ارتاح واخرج تفسح في المدينة فأنها فرجة وبهجةٌ وليس لها نظيرٌ في المدائن يقول له أبو قيل الصباغ لا تؤاخذني أني دايخ فلا يرضي أبو صير المزين أن يكدر خاطره ولا يسمع كلمة تؤذيه وفي اليوم الحادي والأربعين مرض المزين ولم يقدر أن يسرح فسخر بواب الخان فقضى لهما حاجتهما وأتى لهما بما يأكلان وما يشربان كل ذلك وأبو قير يأكل وينام ولا زال المزين يسخر بواب الخان في قضاء حاجته مدة أربعة أيامٍ.
وبعد ذلك اشتد المرض على المزين حتى غاب عن الوجود من شدة مرضه وأما أبو قير فإنه أحرقه الجوع فقام وفتش في ثياب أبي كير فرأى معه مقداراً من الدراهم فأخذه وقفل باب الحجرة على أبي صير ومضى ولم يعلم أحداً وكان البواب في السوق فلم يره حين خروجه ثم أن أبا كير عمد إلى السوق وكسا نفسه ثياباً نفيسةً وصار يدور في المدينة ويتفرج فرآها مدينة ما وجد مثلها في المدائن وجميع ملبوسها أبيض وأزرق من غير زيادة فأتى إلى صباغ فرأى جميع ما في دكانه أزرق فأخرج له محرمة وقال له يا معلم خذ هذه المحرمة واصبغها وخذ اجرتك فقال له إن أجرة صبغ هذه عشرون درهماً فقال له نحن نصبغ هذه في بلادنا بدرهمين فقال رح اصبغها في بلادكم وأما أنا فلا أصبغها إلا بعشرين درهماً لا تنقص عن هذا القدر شيئاً.
فقال له أبو قير أي لونٍ تريد صبغها فقال له الصباغ زرقاء قال له أبو قير أنا مرادي أن تصبغها إلي حمراء قال له لا أدري صباغ الأحمر قال خضراء قال لا أدري صباغ الأخضر قال صفراء قال له لا أدري صباغ الأصفر وصار أبو قير يعد له الألوان لوناً بعد لونٍ فقال له الصباغ نحن في بلادنا أربعون معلماً لا يزيدن واحداً ولا ينقصون واحداً وإذا مات منا واحدٌ نعلم ولده وإن لم يخلف ولداً نبقى ناقصين واحداً والذي له ولدان نعلم واحداً منهما فإن مات علمنا أخاه وصنعتنا هذه مضبوطة ولا نعرف أن نصبغ غير الأزرق من غير زيادةٍ فقال له أبو قير الصباغ اعلم أني صباغ وأعرف أن أصبغ سائر الألوان ومرادي أن تخدمني عندك بالإجرة وأنا أعلمك جميع الألوان لأجل أن تفتخر بها على كل طائفة من الصباغين فقال له نحن لا نقبل غريباً يدخل في صنعتنا أبداً فقال هل وإذا فتحت لي مصبغة وحدي.
فقال له لا يمكنك ذلك أبداً فتركه وتوجه الثاني فقال له كما قال له الأول ولم يزل ينتقل من صباغ إلى آخر حتى طاف على الأربعين معلماً فلم يقبلوه لا أجيراً ولا معلماً فتوجه إلى شيخ الصباغين واخبره فقال له أننا لا نقبل غريباً يدخل في صنعتنا فحصل عند أبي قير غيظٌ عظيمٌ وطلع يشكو إلى ملك تلك المدينة وقال له: يا ملك الزمان أنا غريبٌ وصنعتي الصباغة وجرى لي مع الصباغين ما هو كذا وكذا وأنا أصبغ الأحمر ألوانا مختلفة كوردي وعنابي والأخضر ألواناً مختلفة كزرعي وفستقي وزيتي وجناح الدرة والأسود ألواناً مختلفة كفحمي وكحلي والأصفر ألوانا مختلفة كنارنجي وليموني وصار يذكر له سائر الألوان ثم قال يا ملك الزمان كل الصباغين الذين في مدينتنا لا يخرج من أيديهم أن يصبغوا شيئاً من هذه الألوان ولا يعرفون إلا صبغ الأزرق ولم يقبلوني أن أكون عندهم معلماً ولا أجير.
فقال له الملك صدقت في ذلك ولكن أنا أفتح لك مصبغة وأعطيك رأس مال وما عليك منهم وكل من تعرض لك شنقته على باب دكانه، ثم أمر البنائين وقال لهم امضوا مع هذا المعلم وشقوا أنتم وإياه في المدينة وأي مكان أعجبه فأخرجوا صاحبه منه سواء كان دكاناً أو خاناً أو غير ذلك وأبنوا له مصبغةً على مراده ومهما أمركم به فافعلوه ولا تخالفوه فيما يقول.
ثم أن الملك ألبسه بدلةً مليحةً وأعطاه ألف دينارٍ وقال له اصرفها على المرض الذي كان به، ثم قام على قدميه وقال لبواب الخان أن قدرني الله تعالى جازيتك على ما فعلته معي من الخير، ولكن لا يجازي إلا الله من فضله فقال له بواب الخان: الحمد لله على العافية أنا ما فعلت معك ذلك إلا ابتغاء وجه الله الكريم، ثم أن المزين خرج من الخان وشق في الأسواق فأتت به المقادير إلى السوق الذي فيه مصبغة أبو قير فرأى الأقمشة ملونة بالصباغ منشورة في باب المصبغة والخلائق مزدحمة يتفرجون عليها، فسأل رجلاً من أهل المدينة وقال له ما هذا المكان وما لي أرى الناس مزدحمين? فقال له المسؤول إن هذه مصبغة السلطان التي أنشأها رجلٌ غريبٌ اسمه أبو قير وكلما صبغ ثوباً نجتمع عليه ونتفرج على صبغه لأن بلادنا ما فيها صباغون يعرفون صبغ هذه الألوان.
وجرى له مع الصباغين الذين في البلد ما جرى، وأخبره بما جرى بين أبي قير وبين الصباغين وأنه شكاهم إلى السلطان فأخذ بيده وبنى له هذه المصبغة وأعطاه كذا وكذا وأخبره بكل ما جرى، ففرح أبو صير وقال في نفسه الحمد لله الذي فتح عليه وصار معلماً والرجل معذور لعله تلهى عنك بالصنعة ونسيك ولكن أنت عملت معه معروفاً وأكرمته وهو بطال فمتى رأك فرح بك وأكرمك نظير ما أكرمته.
ثم أنه تقدم إلى جهة باب المصبغة فرأى أبا قير جالساً على مكتبةٍ عاليةٍ فوق مصطبة في باب المصبغة وعليه بدلة من ملابس الملوك وقدامه أربعة عبيدٍ وأربعة مماليكٍ بيضٍ لابسين أفخر الملابس ورأى الصنائعية عشرة عبيدٍ واقفين يشتغلون لأنه حين اشتراهم علمهم الصباغة وهو قاعد بين المخدات كأنه وزيراً عظيماً وملك أفخم لا يعمل شيئاً بيده وإنما يقول لهم افعلوا كذا وكذا فوقف أبو صير قدامه وهو يظن أنه إذا رآه يفرح به ويسلم عليه ويكرمه ويأخذ بخاطره.
فلما وقعت العين في العين قال له أبو قير يا خبيث كم مرةٍ وأنا أقول لك لا تقف نفسك حتى تتم البناية وأعطاه مملوكين من أجل الخدمة وحصاناً بعدة مزركشة فلبس البدلة وركب الحصان وصار كأنه أمير وأخلى له الملك بيتاً وأمر بفرشه ففرشوه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أخلى بيتاً لأبي قير وأمر بفرشه ففرشوه له وسكن فيه وركب في ثاني يومٍ وشق في المدينة والمهندسون قدامه ولم يزل يتأمل حتى أعجبه مكان فقال هذا المكان طيبٌ فأخرجوا صاحبه منه وأحضروه إلى الملك فأعطاه ثمن دكانه زيادةً على ما يرضيه ودارت فيه البناية وصار أبو قير يقول للبنائين ابنوا كذا وكذا وافعلوا كذا وكذا حتى بنوا له مصبغة ليس لها نظير، ثم حضر إلى الملك وأخبره بأن المصبغة تم بناؤها وإنما يحتاج لثمن الصباغ من أجل إدارتها.
فقال له الملك: خذ هذه الأربعة آلاف دينار واجعلها رأس مال وأرني ثمرة مصبغتك فأخذها ومضى إلى السوق فرأى النيلة كثيرة وليس لها ثمن فاشترى جميع ما يحتاج إليه من حوائج للصباغة، ثم أن الملك أرسل إليه خمسمائة شقفة من القماش فدور الصبغ فيها وصبغها من سائر الألوان ثم نشرها قدام باب المصبغة فلما مر الناس بجانبها رأوا شيئاً عجيباً عمرهم ما رأوا مثله، فازدحمت الخلائق على باب محله وصاروا يتفرجون ويسألونه ويقولون له يا معلم ما اسم هذه الألوان فيقول لهم هذا أحمر وهذا أصفر وهذا أخضر ويشرح لهم أسامي الألوان فصاروا يأتونه بشيءٍ من القماش ويقولون له اصبغ لنا مثل هذا وذاك وخذ ما تطلب.
ولما فرغ من صباغ قماش الملك أخذه وطلع به إلى الديوان، فلما رأى الملك ذلك الصباغ فرح به وأنعم عليه إنعاماً زائداً وصار جميع العسكر يأتون إليه بالقماش ويقولون له اصبغ لنا هكذا فيصبغ لهم على أغراضهم ويرمون عليه بالذهب والفضة، ثم أنه شاع ذكره وسميت مصبغته مصبغة السلطان ودخل عليه الخير من كل باب وجميع الصباغين لم يقدر أحدٌ أن يتكلم معه إنما كانوا يأتونه ويقبلون بديه ويعتذرون إليه مما سبق منهم في حقه ويعرضون أنفسهم عليه ويقولون له اجعلنا خدماً عندك فلم يرض أن يقبل أحداً منهم وصار عنده عبيد وجوار وجمع مالاً كثيراً.
هذا ما كان من أمر أبي قير. وأما ما كان من أمر أبي صير فإنه لما قفل عليه أبو قير باب الحجرة بعد أن أخذ دراهمه وراح وخلاه وهو مريضٌ غائبٌ عن الوجود فصار مرمياً في تلك الحجرة والباب مقفولٌ عليه واستمر على ذلك ثلاثة أيامٍ فانتبه بواب الخان إلى باب الحجرة فرآه مقفولاً ولم ير أحداً من هذين الإثنين إلى المغرب ولم يعلم لهما خبراً فقال في نفسه لعلهما سافرا ولم يدفعا أجرة الحجرة أو ماتا أو ما خبرهما? ثم أنه أتى إلى باب الحجرة فرآه مقفولاً وسمع أنينٌ في داخلها ورأى المفتاح في الضبة ففتح الباب ودخل فرأى المزين يئن فقال له لا بأس عليك أين رفيقك? فقال له والله إني ما أفقت من مرضي إلا في هذا اليوم وصرت أنادي فما أحد رد علي جواباً، بالله عليك يا أخي أن تنظر الكيس تحت رأسي وتأخذ منه خمسة أصناف وتشتري لي بها شيئاً أقتات به فأني في غاية الجوع فمد يده فرآه فارغاً فقال للمزين إن الكيس فارغٌ ما فيه شيءٌ فعرف أبو صير المزين أن أبا قير سرق ما فيه وهرب فقال له: أما رأيت رفيقي فقال له من مدة ثلاثة أيامٍ ما رأيته وما كنت أظن إلا أنك سافرت وإياه، فقال له المزين ما سافرنا وإنما طمع في فلوسي فأخذها وهرب حين رآني مريضاً ثم أنه بكى وانتحب، فقال له بواب الخان: لا بأس عليك وهو يلقى فعله من الله.
ثم أن بواب الخان راح وطبخ له شوربا وغرف له صحناً وأعطاه إياه ولم يزل يتعهده مدة شهرين وهو يكلفه من كيسه حتى عرق وشفاه الله من مرضه. وذات يومٍ وهو يتجول في المدينة إذ صادف صديقه أبو قير في مصبغته والخدم بخدمته فتقدم وسلم عليه وأخذ يعاتبه على تركه إياه أثناء مرضه فما كان من أبو قير إلا ونهره من أمامه وقال له: اخرج من عندي هل مرادك أن تفضحني مع الناس يا حرامي أمسكوه فجرت خلفه العبيد وقبضوا عليه وقام أبو قير على حيله وأخذ عصاً وقال ارموه فرموه فضربه على ظهره مائة ثم قلبوه فضربه على بطنه مائة وقال يا خبيث يا خائن إن نظرتك بعد هذا اليوم واقفاً على باب المصبغة أرسلتك إلى الملك في الحال فيسلمك إلى الوالي ليرمي عنقك امش لا بارك الله لك فذهب من عنده مكسور الخاطر بسبب ما حصل له من الضرب والترذيل فقال الحاضرون لأبي قير الصباغ أي شيء عمل هذا الرجل فقال لهم: أنه حرامي سرق أقمشة الناس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا قير ضرب أبا صير وطرده وقال للناس إن هذا حرامي يسرق أقمشة الناس فإنه سرق مني كم مرة من القماش وأنا أقول في نفسي سامحه الله فأنه رجلٌ فقيرٌ ولم أرض أن أشوش عليه وأعطي للناس ثمن أقمشتهم وأنهاه بلطفٍ فلم ينته فإن رجع مرة غير هذه المرة أرسلته إلى الملك فيقتله ويريح الناس من أذاه فصار الناس يشتمونه بعد ذهابه هذا من كان من أمر أبي قير.
وأما ما كان من أمر أبي صير فإنه رجع إلى الخان وجلس يتفكر فيما فعل به أبو قير ولم يزل جالساً حتى يرد عليه الضرب ثم خرج وشق في أسواق المدينة فخطر بباله أن يدخل الحمام فسأل رجلٌ من أهل المدينة وقال له يا أخي من أين طريق الحمام? أجابه: أي حمام? فقال له: موضع تغتسل فيه الناس ويزيلون عليهم من الأوساخ وهو من أطيب طيبات الدنيا فقال له عليك بالبحر قال أنا مرادي الحمام قال له نحن لا نعرف الحمام كيف يكون كلنا نروح إلى البحر حتى الملك إذا أراد أن يغتسل فإنه يروح البحر فلما علم أبو صير إلى المدينة ليس فيها حماماً وأهلها لا يعرفون الحمام ولا كيفيته مشى إلى الملك ودخل عليه وقبل الأرض بين يديه ودعا له وقال له أنا رجلٌ غريب البلاد وصنعتي حمامي فدخلت مدينتك وأردت الذهاب إلى الحمام فما رأيت فيها ولا حماماً واحداً والمدينة التي تكون بهذه الصفة الجميلة كيف تكون من غير حمام مع أنه من أحسن نعيم الدنيا.
فقال له الملك أي شيءٍ يكون الحمام فصار يحكي له أوصافه وقال له لا تكون مدينتك كاملة إلا إذا كان بها حمام فقال له مرحباً بك وألبسه بدلةٌ ليس لها نظير وأعطاه حصاناً وعبيدين ثم أنعم عليه بأربع جوار ومملوكين وهيأ له دار مفروشة وأكرمه أكثر من الصباغ وأرسل معه البنائين وقال لهم الموضع الذي يعجبه أبنوا له فيه حمام فأخذهم وشق بهم في وسط المدينة حتى أعجبه مكان فأشار لهم إليه فدوروا فيه البناية وصار يرشدهم إلى كيفيته حتى بنوا له حماماً ليس له نظير ثم أمرهم بنقشه فنقشوه نقشاً عجيباً حتى صار بهجة للناظرين.
ثم طلع الملك وأخبره بفراغ بناء الحمام ونقشه وقال له إنه ليس ناقصاً غير الفرش فأعطاه الملك عشرة آلاف دينارٍ فأخذها وفرش الحمام وصف فيه الفوط على الحبال وصار كل من مر على باب الحمام يشخص له ببصره ويحتار فكره في نقشه وازدحمت الخلائق على ذلك الشيء الذي لم يرو مثله في عمرهم وصاروا يتفرجون عليه ويقولون أي شيءٍ هذا فيقول لهم أبو صير حمام فيتعجبون منه ثم أنه سخن الماء ودور الحمام وعمل سلسبيلاً في الفسقية يأخذ كل من رآه من أهل المدينة وطلب من الملك عشرة مماليك دون البلوغ فأعطاه عشرة مماليك مثل الأقمار فصار يكسبهم، ويقول لهم افعلوا مع الزبائن هكذا.
ثم أطلق البخور وأرسل منادٍ ينادي في المدينة ويقول: يا خلق الله عليكم بالحمام فإنه يسمى حمام السلطان فأقبلت عليه الخلائق وجعل يأمر المماليك أن يغتسلوا أجساد الناس وصار الناس ينزلون المغطس ويطلعون واستمر الناس يدخلون الحمام ويقضون حاجتهم منه ثم يخرجون بلا أجرةٍ وبعد طلوعهم يجلسون في الليوان والمماليك تكبسهم مثل ما علمهم أبو صير مدة ثلاثة أيامٍ وفي اليوم الرابع عزم الملك على الذهاب إلى الحمام فركب هو وأكابر دولته وتوجهوا إلى الحمام فقلع ودخل فدخل أبو صير وكبس الملك وأخرج من جسده الوسخ مثل الفتايل وصار يريه له ففرح الملك وصار لوضع يده على بدنه صوت من النعومة والنظافة وبعد أن غسل جسده مزج له ماء الورد بماء المغطس فنزل الملك في المغطس ثم خرج وجسده قد ترطب فحصل له نشاط عمره ما رآه ثم بعد ذلك أجلسه في الليوان وصار المماليك يكبسونه والمباخر تفوح والعود والند فقال الملك: يا معلم أهذا هو الحمام? قال: نعم فقال له: وحياة رأسي أن مدينتي ما صارت مدينة إلا بهذا الحمام ثم قال له: أنت تأخذ على كل رأس أي شيء أجرة فقال أبا صير: الذي تأمر به آخذه فأمر له بألف دينارٍ فقال: العفو يا ملك الزمان إن الناس ليسوا سواء بل فيهم الغني وفيهم الفقير وإذا أخذت من كل واحد ألف دينار يبطل الحمام فأن الفقير لا يقدر على ألف دينارٍ.
قال الملك: وكيف تفعل في الأجرة? قال: اجعل الأجرة بالمروءة فكل من يقدر على شيءٍ سمحت به نفسه يعطيه فنأخذ من كل إنسان على قدر حاله فإن الأمر إذا كان كذلك تأتي إلينا الخلائق والذي يكون غنياً يعطي على قدر مقامه والذي يكون فقيراً يعطي على قدر ما تسمح به نفسه فإذا كان الأمر كذلك يدور الحمام ويبقى له شأن عظيم وأما الألف دينار فإنها عطية الملك ولا يقدر عليها كل أحد فصدق عليه أكابر الدولة وقالوا له: هذا هو الحق يا ملك الزمان أتحسب أن الناس كلهم مثلك أيها الملك العزيز قال الملك: إن كلامكم صحيحٌ ولكن هذا الرجل غريب فقيراً وإكرامه واجبٌ علينا فإنه عمل في مدينتنا هذا الحمام الذي عمرنا ما رأينا مثله ولا تزينت مدينتنا وصار لها شأن إلا به فإذا أكرمناه بزيادة الأجرة ما هو كثير.
فقالوا له: إذا كنت تكرمه فأكرمه من مالك وإكرام الفقير من الملك بقلة أجرة الحمام لأجل أن يدعو لك الرعية وأما الألف دينار فنحن أكابر دولتك ولا تسمح أنفسنا بعطائها فكيف تسمح بذلك نفوس الفقراء? فقال الملك: يا أكابر دولتي كل منكم يعطيه في هذه المرة مائة دينارٍ ومملوكاً وجاريةً وعبد فقالوا: نعم نعطيه ذلك ولكن هذا اليوم كل من دخل لا يعطيه إلا ما تسمح به نفسه فقال: لا بأس بذلك فجعلت الأكابر يعطيه كل واحد منهم مائة دينارٍ وجاريةً ومملوكاً وعبداً وكان عدد الأكابر الذين اغتسلوا مع الملك في هذا اليوم أربعمائة نفس.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان عدد الأكابر الذين اغتسلوا مع الملك في هذا اليوم أربعمائة نفس فصار جملة ما أعطوه من الدنانير أربعين ألف دينارٍ ومن المماليك أربعمائة مملوكٍ ومن العبيد أربعمائة عبدٍ من الجواري أربعمائة جارية وناهيك بهذه العطية وأعطاه الملك عشرة الألف دينار وعشر جوار وعشرة عبيد فتقدم أبو صير وقبل الأرض بين أيادي الملك وقال له: أيها الملك السعيد، وصاحب الرأي الرشيد أي مكان يسعى بهذه المماليك والجواري والعبيد? فقال له الملك: أنا ما أمرت دولتي بذلك إلا لأجل أن نجمع لك مقداراً عظيماً من المال لأنك ربما تفكرت بلادك وعيالك واشتقت إليهم وأردت السفر إلى أوطانك فتكون أخذت من بلادنا مقداراً جسيماً من المال تستعين به على وقتك في بلادك.
قال: يا ملك الزمان أعزك الله أن هذه المماليك والجواري والعبيد الكثيرة شأن الملوك ولو كنت أمرت لي من هذا الجيش فإنهم يأكلون ويشربون ومهما حصلته من المال لا يكفيهم في الإنفاق عليهم ولكن أتبيعهم لي كل واحدٍ بمائة دينارٍ? فقال: بعتك إياهم بهذا الثمن فأرسل الملك إلى الخازندار ليحضر له المال فأحضره وأعطاه ثمن الجميع بالتمام والكمال ثم بعد ذلك أنعم الله بهم على أصحابهم وقال: كل من يعرف عبده أو جاريته أو مملوكه فليأخذه فأنهم هدية مني إليكم فامتثلوا أمر الملك وأخذ كل واحدٍ منهم ما يخصه فقال له أبو صير: أراحك الله يا ملك الزمان كما أرحتني من هؤلاء الغيلان الذين لا يقدر أن يشبعهم إلا الله فضحك الملك من كلامه وتصدق عليه ثم أخذ أكابر دولته وذهب من الحمام إلى سرايته وبات تلك الليلة أبو صير وهو يصر الذهب ويضعه في الأكياس ويختم عليه وكان عنده عشرون عبداً وعشرون مملوكاً وأربع جوارٍ برسم الخدمة.
فلما أصبح الصباح فتح الحمام وأرسل منادٍ ينادي ويقول: كل من دخل الحمام واغتسل فأنه يعطي ما تسمح به نفسه وما تقتضيه مروءته وقعد أبو صير عند الصندوق وهجمت عليه الزبائن وصار كل من طلع يحط الذي يهون عليه فما أمسى المساء حتى امتلأ الصندوق من خيرات الله تعالى.
ثم أن الملكة طلبت دخول الحمام فلما بلغ أبا صير ذلك قسم النهار من أجلها وجعل الفجر إلى الظهر للرجال ومن الظهر إلى المغرب قسم للنساء ولما أتت الملكة أو جارية خلف الصندوق وكان علم أربع جوار البلانة حتى صرن بلانات ماهرات، فلما أعجبها ذلك وانشرح صدرها حطت ألف دينارٍ وشاع ذكره في المدينة وصار كل من دخل يكرمه سواء غنياً أو فقيراً فدخل عليه الخير من كل بابٍ وتعرف بأعوان الملك وصار الملك يأتي إليه في الجمعة يومياً ويعطيه ألف دينار وبقية أيام الجمعة للأكابر والفقراء وصار يأخذ بخاطر الناس ويلاطفهم غاية الملاطفة فاتفق أن قبطان الملك لما دخل عليه يوماً من الأيام فقلع أبو صير ودخل وصار يكبسه ويلاطفه ملاطفةً زائدةً ولما خرج من الحمام عمل له الشربات والقهوة فلما أراد أن يعطيه شيئاً حلف أنه لا يأخذ منه شيئاً فحمل القبطان جميلة لما رأى من مزيد لطفه وإحسانه إليه وصار متحيراً فيما يهديه إلى ذلك الحمامي، وقالت له أمه: هذا ما كان من أمر أبي صير.
وأما ما كان من أمر أبي قير فأنه لما سمع جميع الخلائق يلهجون بذكر الحمام وكل منهم يقول: إن هذا الحمام نعيم الدينا بلا شك إن شاء الله يا فلان تدخل بنا غداً هذا الحمام النفيس فقال أبو قير في نفسه: لا بد أن أروح مثل الناس وأنظر هذا الحمام الذي أخذ عقول الناس ثم أنه لبس أفخر ما كان عنده من الملابس وركب بغلةً وأخذ معه أربعة عبيدٍ وأربعة مماليكٍ يمشون خلفه وقدامه وتوجه إلى الحمام ثم أنه نزل في باب الحمام فلما صار عند الباب شم رائحة العود والند ورأى ناساً داخلين وناساً خارجين ورأى المساطب ملآنه من الأكابر والأصاغر فدخل الدهليز فرآه أبو صير فقام إليه وفرح به فقال له أبو قير: هل هذا شرد أولاد الحلال وإنا فتحت لي مصبغة وبقيت معلم البلد وتعرفت بالملك وصرت في سعادةٍ وسيادةٍ وأنا وأنت لا تأتي عندي ولا تسأل عني ولا تقول أين رفيقي وأنا عجزت وأنا أفتش عليك وأبعث عبيدي ومماليكي يفتشون عليك في الحانات وفي سائر الأماكن فلا يعرفون طريقك ولا أحدٍ يخبرهم بخبرك، فقال له أبو صير: أما جئت إليك وعملتني لصاً وضربتني وهتكتني بين الناس فاغتم أبو قير وقال: أي شيءٍ هذا الكلام? هل أنت الذي ضربتك? فقال أبو صير: نعم هو أنا فحلف له أبو قير ألف يمينٍ أنه ما عرفه وقال: إنما كان واحدٌ شبيهك يأتي في كل يومٍ ويسرق قماش الناس فظننت أنك هو وصار يتندم ويضرب كفاً على كفٍ، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد أسأناك ولكن يا ليتك عرفتني بنفسك وقلت أنا فلان فالعيب عندك لكونك لم تعرفني خصوصاً وأنا مدهوش من كثرة الأشغال فقال له أبو صير: سامحك الله يا رفيقي وهذا الشيء كان مقداراً في الغيب والجبر على الله ادخل أقلع ثيابك واغتسل وانبسط فقال له: بالله عليك أن تسامحني يا أخي فقال له: أبرأ الله ذمتك وسامحك فأنه كان أمراً مقدراً علي في الأزل. ثم قال له أبو قير: ومن أين لك هذه السيادة? فقال له: الذي فتح عليك فتح علي فأني طلعت إلى الملك وأخبرته بشأن الحمام فأمر ببنائه فقال له: وكما أنه لك معرفةٌ بالملك فأنا الأخر عرفته.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا قير لما تعب هو وأبو صير قال له: كما أنت تعرف بالملك فأنا الآخر عرفته وإن شاء الله تعالى أنا أخليه يحبك ويكرمك زيادةً على هذا الإكرام من أجلي فإنه لم يعرف أنك رفيقي فأنا أعرفه بأنك رفيقي وأوصيه بك، فقال له: ما أحتاج إلى وصيةٍ فأن المحنن موجود وقد أحبني الملك هو وجميع رجال دولته وأعطاني كذا وكذا وأخبره بالخبر ثم قال: اقلع ثيابك خلف الصندوق وادخل الحمام وأنا أدخل معك لأجل أن أكبسك، فخلع ما عليه ودخل الحمام ودخل معه أبو صير وكبسه وصبنه وألبسه واشتغل له حتى خرج، فلما خرج أحضر له الغداء والشربات وصار جميع الناس يتعجبون من كثرة إكرامه له، ثم بعد ذلك أراد أبو قير أن يعطيه شيئاً فحلف أنه لا يأخذ منه شيئاً وقال له: استحي من هذا الأمر وأنت رفيقي وليس بيننا فرق.
ثم أن أبا قير قال لأبي صير: يا رفيقي والله أن هذا الحمام عظيمٌ ولكن صنعتك فيه ناقصةً فقال له: وما نقصها? فقال له: الدواء الذي هو عقد الزرنيخ والجير الذي يزيل الشعر بسهولة فاعمل هذا الدواء فإذا أتى الملك فقدمه إليه وعلمه كيف يسقط الشعر فيحبك حباً شديداً ويكرمك، فقال له: صدقت إن شاء الله أصنع ذلك.
ثم أن أبا قير خرج وركب بغلته وذهب إلى الملك ودخل عليه وقال له: أنا ناصح لك يا ملك الزمان فقال له: وما نصيحتك? فقال: بلغني خبراً وهو أنك بنيت حماماً، قال: نعم قد أتاني رجلٌ غريبٌ فأنشأته له كما أنشأت لك هذه المصبغة وهو حمامٌ عظيمٌ وقد تزينت مدينتي، وصار يذكر له محاسن ذلك الحمام، فقال أبو قير: وهل دخلته? قال: نعم، قال: الحمد لله الذي نجاك من شر هذا الخبيث عدو الدين وهو الحمامي، فقال له الملك: وما شأنه? قال له أبو قير: اعلم يا ملك الزمان أنك إن دخلته بعد هذا اليوم فأنك تهلك، فقال له: لأي شيءٍ? فقال له: إن الحمامي عدوك وعدو الدين فأنه ما حملك على إنشاء هذا الحمام إلا لأن مراده أن يدخل عليك فيه السم، فأنه صنع لك شيئاً وإذا دخلته يأتيك به ويقول لك: هذا دواء كل من دهن به نفسه يرمي الشعر منه بسهولةٍ وليس هو بدواء بل هو داءٌ عظيمٌ وسمٌ قاتلٌ وأن هذا الخبيث قد وعده سلطان النصارى أنه إن قتلك يفك له زوجته وأولاده من الأسر فإن زوجته وأولاده مأسورين عند سلطان النصارى وكنت مأسوراً معه في بلادهم ولكن أنا فتحت مصبغةً وصبغت لهم حوائجهم فاستعطفوا علي قلب الملك.
فقال الملك: أي شيءٍ تطلب? فطلبت العتق فأعتقني وجئت إلى هذه المدينة ورأيته في الحمام فسألته كيف كان خلاصك وخلاص زوجتك وأولادك فقال: لم أزل أنا وزوجتي وأولادي مأسورين حتى أن ملك النصارى عمل ديواناً فحضرت في جملة من حضر وكنت واقفاً من جملة الناس فسمعتهم فتحوا مذاكرة الملوك إلى أن يذكروا ملك هذه المدينة، فتأوه ملك النصارى وقال: ما قهرني في الدنيا إلا ملك المدينة الفلانية فكل من تحيل لي على قتله فأني أعطيه كل ما يتمنى، فتقدمت أنا إليه وقلت له: إذا تحيلت لك على قتله هل تعتقني أنا وزوجتي وأولادي? فقال له: نعم أعتقكم وأعطيك كل ما تتمنى ثم أني اتفقت وإياه على ذلك وأرسلني في غليون إلى هذه المدينة وطلعت إلى هذا الملك فبنى لي هذا الحمام وما بقي لي إلا أن أقتله وأروح إلى ملك النصارى وافدي أولادي وزوجتي وأتمنى عليه، فقلت وما الحيلة التي دبرتها في قتله حتى تقتله? قال لي: هي حيلة سهلة أسهل ما يكون، فأنه يأتي إلي في هذا الحمام وقد اصطنعت له شيئاً فيه سمٌ فإذا جاء أقول له: خذ هذا الدواء وادهن به تحتك فأنك يسقط الشعر فيأخذه ويدهن به تحته فيلعب السم فيه يوماً وليلةٍ حتى يسري إلى قلبه فيهلكه والسلام، فلما سمعت منه هذا الكلام خفت عليك لأن خيرك علي وقد أخبرتك بذلك.
فلما سمع الملك هذا الكلام غضب غضباً شديداً وقال للصباغ: اكتم هذا السر، ثم طلب الرواح إلى الحمام حتى يقطع الشك باليقين، فلما دخل الحمام تعرى أبو صير على جري عادته وتقيد بالملك وكبسه وبعد ذلك قال له: يا ملك الزمان إني عملت دواءً لتنظيف الشعر التحتاني فقال له: أحضره لي فأحضره بين يديه فرأى رائحته كريهة فصح عنده أنه سمٌ فغضب وصاح على الأعوان وقال: أمسكوه فقبض عليه الأعوان وخرج الملك وهو يشتعل بالغضب ولا أحدٌ يعرف سبب غضبه، ومع شدة غضب الملك لم يخبر أحداً ولم يتجاسر أحدٌ أن يسأله.
ثم أنه لبس وطلع الديوان ثم أحضر أبا صير بين يديه وهو مكتف ثم طلب القبطان فحضر، فلما دخل القبطان قال له: خذ هذا الخبيث وحطه في زكيبة وحط في الزكيبة قنطارين جيراً من غير طفء وأربط فمها عليه هو والجير ثم ضعها في الزورق وتعال تحت قصري فتراني جالساً في شباكي وقل لي: هل أرميه? فأقول لك: ارميه فإذا قلت لك ذلك فأرمه حتى ينطفئ الجير عليه لأجل أن يموت غريقاً، فقال سمعاً وطاعةً.
ثم أخذه من قدام الملك إلى جزيرةٍ قبال قصر الملك وقال لأبي صير: يا هذا أنا جئت عندك مرة واحدةً في الحمام فأكرمتني وقمت بواجبي وانبسطت منك كثيراً وحلفت أنك لم تأخذ مني أجرةً وأنا قد أحببتك محبةً شديدةً، فأخبرني ما قضيتك مع الملك وأي شيءٍ صنعت له من المكاره حتى غضب عليك وأمر أن تموت هذه الميتة الرديئة? فقال له: والله ما علمت شيئاً وليس عندي علمٌ بذنبٍ فعلته معه يستوجب هذا.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القبطان لم سأل أبا صير عن سبب غضب الملك عليه قال له: والله يا أخي ما عملت شيئاً قبيحاً يستوجب هذا، فقال له القبطان: أن لك عند الملك مقاماً عظيماً ما ناله أحدٌ قبلك وكل ذي نعمةٍ محسودٍ، فلعل أحداً حسدك على هذه النعمة ورمى في حقك بعض الكلام عند الملك حتى أن الملك غضب عليك هذا الغضب، ولكن مرحباً بك وما عليك من بأسٍ فكما أنك أكرمتني من غير معرفةٍ بيني وبينك فأنا أخلصك ولكن إذا خلصتك تقيم عندي في هذه الجزيرة حتى يسافر من هذه المدينة غليون إلى ناحية بلادك فأرسلك معه، فقبل أبو صير يد القبطان وشكره على ذلك. ثم أنه أحضر الجير ووضعه في زبيكة ووضع فيها حجراً كبيراً قدر الرجل وقال: توكلت على الله، ثم أن القبطان أعطى أبا صير شبكةً وقال له: ارم هذه الشبكة في البحر لعلك تصطاد شيئاً من السمك لأن مطبخ الملك رتب علي في كل يومٍ وقد اشتغلت عن الصيد بهذه المصيبة التي أصابتك فأخاف أن تأتي غلمان الطباخ ليطلبوا السمك فلا يجدوه، فإن كنت تصطاد شيئاً فإنهم يجدونه حتى أروح أعمل الحيلة تحت القصر واجعل أني رميتك، فقال له أبو صير: أنا اصطاد وروح أنت والله يعينك.
فوضع الزبيكة في الزورق وسار إلى أن وصل تحت القصر فرأى الملك جالساً في الشباك فقال له: يا ملك الزمان هل أرميه? وأشار بيده وإذا بشيءٍ برق ثم سقط في البحر وإذا بالذي سقط في البحر خاتم الملك وكان مرصودا بحيث إذا غضب الملك على أحدٍ وأراد قتله يشير عليه باليد اليمنى التي فيها الخاتم فيخرج من الخاتم بارقةً فتصيب الذي يشير عليه فيقع رأسه من بين كتفيه، وما أطاعته العسكر ولا قهر الجبابرة إلا بسبب هذا الخاتم، فلما وقع الخاتم من إصبعه كتم أمره ولم يقدر أن يقول خاتمي وقع في البحر خوفاً من العسكر أن يقوموا عليه فيقتلوه فسكت. هذا ما كان من أمر الملك.
وأما ما كان من أمر أبو صير فإنه بعدما تركه القبطان أخذ الشبكة وطرحها في البحر وسحبها فطلعت ملآنة سمكاً ثم طرحها ثانيةً فطلعت ملآنه سمكاً أيضاً، ولم يزل يطرحها وهي تطلع ملآنه حتى صار قدامه كومةٌ كبيرةٌ من السمك، فقال في نفسه: والله أن لي مدة طويلة ما أكلت من السمك ثم أختار له سمكةً كبيرةً ثمينةً وقال: لما يأتي القبطان أقول له يقلي لي هذه السمكة لأتغدى، ثم أنه ذبحها بسكينٍ كانت معه فعلقت السكين في نخشوشها فرأى خاتم الملك فيه لأنها كانت ابتلعته ثم ساقها القدر إلى تلك الجزيرة ووقفت في الشبكة.
فتناول الخاتم ولبسه في خنصره وهو لا يعلم ما فيه من الخواص، وإذا بغلامين من خدام الطباخ أتيا لطلب السمك فلما صارا عند أبا صير قالا له: يا رجل أين راح القبطان? فقال: لا أدري وأشار بيده اليمنى وإذا برأسي الغلامين وقعا بين أكتافهما حين أشار إليهما وقال لا أدري، فتعجب أبو صير من ذلك وجعل يقول: يا هل ترى من قتلهما? وصعب عليه وصار يفكر في ذلك وإذا بالقبطان أقبل فرأى كوماً كبيراً من السمك ورأى الغلامين مقتولين ورأى الخاتم في إصبع أبي صير فقال له: يا أخي لا تحرك يدك التي فيها الخاتم فأنك أن حركتها قتلتني، فتعجب من قوله: لا تحرك يدك التي فيها الخاتم فأن حركتها قتلتني.
فلما وصل إليه القبطان قال: من قتل هذين الغلامين? قال له: والله يا أخي لا أدري، قال: صدقت ولكن أخبرني عن هذا الخاتم من أين وصل إليك? قال: رأيته في نخشوش هذه السمكة، قال: صدقت فإني رأيته نازلاً يبرق من قصر الملك حتى سقط في البحر وقت أن أشار إليك وقال لي: ارمه فأنه لما أشار رميت الزبيكة وكان سقط من إصبعه ووقع في البحر فابتلعته هذه السمكة وساقها الله إليك حتى اصطدتها فهذا نصيبك، ولكن هل تعرف خواص هذا الخاتم? قال أبو صير: لا أدري له خواصاً، قال القبطان: اعلم أن عسكر ملكنا ما أطاعوه إلا خوفاً من هذا الخاتم لأنه مرصودٌ فإذا غضب الملك على أحدٍ وأراد قتله يشير به عليه فيقع رأسه من بين كتفيه، فإن بارقةً تحرج من هذا الخاتم ويتصل شعاعها بالمغضوب عليه فيموت لوقته.
فلما سمع أبو قير هذا الكلام فرح فرحاً شديداً وقال للقبطان: ردني إلى المدينة، فقال له القبطان: أردك فأني ما بقيت أخاف عليك من الملك فأنك متى أشرت بيدك وأضمرت على قتله فإن رأسه يقع بين يديك ولو كنت تطلب قتل الملك وجميع عسكره فأنك تقتلهم من غير عاقة ثم أنزله في الزورق وتوجه به إلى المدينة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد التسعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القبطان لما أنزل أبا صير في الزورق توجه به إلى المدينة فلما وصل إليها طلع إلى قصر الملك ثم دخل الديوان فرأى الملك جالساً والعسكر بين يديه وهو في غمٍ عظيمٍ من شأن الخاتم ولم يقدر أن يخبر أحد من العسكر بضياع الخاتم.
فلما رآه الملك قال: أما رميناك في البحر كيف فعلت حتى خرجت منه? فقال له: يا ملك الزمان لما أمرت برميي في البحر أخذني قبطانك وسار بي إلى جزيرةٍ وسألني عن سبب غضبك علي وقال لي: أي شيءٍ صنعت مع الملك حتى أمر بموتك? فقلت له: والله ما أعلم أني عملت معه شيئاً قبيحاً فقال لي: إن لك مقاماً عظيماً عند الملك فلعل أحداً حسدك ورمى فيك كلاماً عند الملك حتى غضب عليك ولكن أنا جئتك في حمامك فأكرمتني ففي نظير إكرامك إياي في حمامك أنا أخلصك وأرسلك إلى بلادك.
ثم حط في الزورق حجراً عوضاً عني ورماه في البحر ولكن حين أشرت له علي وقع الخاتم من يدك في البحر فابتلعته سمكة وكنت أنا في الجزيرة اصطاد السمك فطلعت تلك السمكة في جملة السمكات فأخذتها وأردت أن أشويها فلما فتحت جوفها رأيت الخاتم فيه فأخذته وجعلته في إصبعي فأتاني اثنان من خدام المشايخ وطلبا السمكة فأشرت إليهما وأنا لا أدري خاصية الخاتم فوقع رأسيهما. ثم أتى القبطان فعرف الخاتم وهو في إصبعي وأخبرني برصده فأتيت به إليك لأنك عملت معي معروفا وأكرمتني غاية الإكرام وما عملته معي من الجميل لم يضع عندي وهذا خاتمك فخذه وإن كنت فعلت معك شيئاً يوجب القتل فعرفني بذنبي واقتلني وأنت في حلٍ من دمي.
ثم خلع الخاتم من إصبعه وناوله للملك فلما رأى الملك ما فعل أبو صير من الإحسان أخذ الخاتم منه وتختم به فردت له روحه وقام على أقدامه واعتنق أبا صير وقال: أنت يا رجل من خواص أولاد الحلال فلا تؤاخذني وسامحني عما صدر مني في حقك ولو كان أحدٌ غيرك ملك هذا الخاتم لما كان أعطاني إياه فقال: يا ملك الزمان أن أردت أن أسامحك فعرفني بذنبي الذي أوجب غضبك علي حتى أمرت بقتلي? فقال له: والله أنه ثبت عندي أنك بريءٌ وليس لك ذنبٌ في شيءٍ حيث فعلت هذا الجميل وإنما الصباغ قال لي كذا وكذا وأخبره بما قاله الصباغ فقال له أبو صير: والله يا ملك الزمان أنا لا أعرف ملك النصارى ولا عمري رحت بلاد النصارى ولا خطر ببالي أني أقتلك ولكن هذا الصباغ كان رفيقي وجاري في مدينة الإسكندرية وضاق بنا العيش هناك فخرجنا منها لضيق المعاش وقرأنا مع بعضنا فاتحة على أن العمال يطعم البطال وجرى لي معه كذا وكذا وأخبره بجميع ما جرى له مع أبي قير الصباغ وكيف أخذ دراهمه وتركه ضعيفاً في الحجرة التي في الخان وأن بواب الخان كان ينفق عليه وهو مريض حتى شفاه الله تم طلع وسرح في المدينة حسب العادة فبينما هو في الطريق إذا رأى مصبغة عليها ازدحام فنظر في باب المصبغة فرأى أبا قير جالساً على مصطبة هناك فدخل ليسلم عليه فوقع منه ما وقع من الضرب والإساءة وادعى عليه أنه حرامي وضربه ضرباً مؤلماً وأخبر الملك بجميع ما جرى من أوله إلى آخره.
ثم قال: يا ملك الزمان هو الذي قال لي اعمل الدواء وقدمه للملك فإن الحمام كاملٌ من جميع الأمور إلا أن هذا الدواء مفقود منه واعلم يا ملك الزمان إن هذا الدواء لا يضر ونحن نصنعه في بلادنا وهو من لوازم الحمام وأنا كنت نسيته فلما أتاني الصباغ وأكرمته ذكرني به وقال لي: اعمل الدواء وأرسل يا ملك الزمان هات بواب الخان الفلاني وصنايعية المصبغة فلما حضر الجميع سألهم فأخبروه بالواقع فأرسل إلى الصباغ وقال: هاتوه حافياً مكشوف الرأس مكتفاً وكان الصباغ جالساً في بيته مسروراً بقتل أبو صير فلم يشعر إلا وأعوان الملك هجموا عليه وأوقعوا الضرب في قفاه ثم كتفوه وحضروا به قدام الملك فرأى أبا صير جالساً جنب البواب وبواب الخان وصنايعية المصبغة واقفين أمامه، فقال بواب الخان: أما هذا رفيقك الذي سرقت دراهمه وتركته عندي في الحجرة ضعيفاً وفعلت معه ما كذا وكذا? وقال له صنايعية المصبغة: أما هذا الذي أمرتنا بالقبض عليه وضربناه فتبين للملك قباحة أبا قير وأنه يستحق ما هو أشد من تشديدٍ منكرٍ ونكير? فقال الملك: خذوه وجرسوه في المدينة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


ألف ليلة وليلة الجزء العاشر والأخير