ألف ليلة وليلة الجزء الخامس


ألف ليلة وليلة

الجزء الخامس





وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الثلاثمائة


قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن خالداً بعد أن تحدث مع الشاب أمر به إلى السجن فمكث فيه ليلته فلما أصبح الصباح حضر الناس يقطعون يد الشاب ولم يبق أحد في البصرة من رجل وامرأة إلا وقد حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى، وركب خالد ومعه وجوه اهل البصرة وغيرهم ثم استدعى بالقضاة وأمر بإحضار الفتى فأقبل يحجل في قيوده، ولم يره أحد من الناس إلا وبكى عليه. وارتفعت أصوات النساء بالنحيب فأمر القاضي بتسكيت النساء، ثم قال له: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم وسرقت مالهم فلعلك سرقت دون النصائب? قال: بل سرقت نصاباً كاملاً، قال: لعلك شريك القوم في شيء منه? قال: بل هو جميعه لهم ولا حق لي فيه، فغضب خالد وقام إليه بنفسه وضربه على وجهه بالسوط وقال متمثلاً بهذا البيت:
يريد المرء أن يعطى مناه                  ويأبى اللـه إلا مـا يريد

ثم دعا باجزار ليقطع يده وأخرج السكين ومد يده ووضع عليها السكين فبادرت جارية من وسط النساء عليها أطوار وسخة فصرخت ورمت نفسها عليه ثم أسفرت عن وجه كأنه القمر وارتفع في الناس ضجة عظيمة وكاد أن يقع بسبب ذلك فتنة طائرة الشر، ثم نادت تلك الجارية بأعلى صوتها: ناشدتك الله أيها الأمير لا تعجل بالقطع حتى تقرأ هذه الرقعة، ثم دفعت إليه رقعة ففتحها خالد وقرأها فإذا مكتوب فيها هذه الأبيات:
أخالد هـذا مـسـتـهـام مـتـيم                رمته لحاظي عن قسي الحمـالـق
فأصماه سيف اللحظ مـنـي لأنـه           حليف جوري من دائه غير فـائق
أقر بمـا لـم يقـتـرفـه كـأنـه                 رأى ذلك خيراً من هتيكة عاشـق
فمهلاً عن الصب الكـئيب فـإنـه            كريم السجايا في الورى غير سارق

فلما قرأ خالد هذه الأبيات تنحى وانفرد عن الناس وأحضر المرأة ثم سألها عن القصة فأخبرته بأن هذا الفتى عاشق لها وهي عاشقة له وإنما أراد زيارتها فتوجه إلى دار أهلها ورمى حجراً في الدار ليعلمها بمجيئه فسمع أبوها وأخوها صوت الحجر فصعدوا إليه فلما أحس بهم جمع قماش البيت كله وأراهم أنه سارق ستراً على معشوقته، فلما رأوه على هذه الحالة أخذوه وقالوا: هذا سارق وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة وأصر على ذلك حتى لا يفضحني وقد ارتكب هذه الأمور واتهم نفسه بالسرقة لفرط مرؤته وكرم نفسه. فقال خالد: إنه لخليق أن يسعف بمراده، ثم استدعى الفتى إليه وقبله بين عينيه وامر بإحضار أبي الجارية وقال له: يا شيخ إنا كنا عزمنا على إنفاذ الحكم في هذا الفتى بالقطع ولكن الله عز وجل قد حفظه من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يده حفظاً لعرضك عرض ابنتك وصيانتكما من العار، وقد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم حيث أخبرتني بحقيقة الأمر، وأنا أسألك أن تأذن لي في تزويجها منه، فقال الشيخ: أيها الأمير قد أذنت ك في ذلك، فحمد الله خالد وأثنى عليه وخطب خطبة حسنة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن خالداً حمد الله وخطب خطبة حسنة وقال للفتى: قد زوجتك هذه الجارية فلانة الحاضرة بإذنها ورضاها وإذن أبيها على هذا المال وقدره عشرة آلاف درهم. فقال الفتى: قبلت منك هذا التزويج، ثم إن خالداً أمر بحمل المال إلى دار الفتى مزفوفاً في الصواني وانصرف الناس وهم مسرورون، فما رأيت يوماً أعجب من ذلك اليوم أوله بكاء وشرور وآخره فرح وسرور.
حكاية أبي محمد الكسلان مع الرشيد و مما يحكى أن هارون الرشيد كان جالساً ذات يوم في تخت الخلافة إذ دخل عليه غلام من الطواشية ومعه تاج من الذهب الأحمر مرصع بالدر والجواهر وفيه من سائر اليواقيت والجواهر ما لا يفي به مال، ثم إن الغلام قبل الأرض بين يدي الخليفة وقال له: يا أمير المؤمنين إن السيدة زبيدة.
فقالت لها أختها: ما أحسن حديثك وأطيبه وأحلاه واعذبه، فقالت: وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القادمة إن عشت وأبقاني الملك، فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الأربعين بعد الثلاثمائة

قالت لها أختها: يا أختي أتمي لنا حديثك، قالت: حباً وكرامة إن أذن لي الملك فقال الملك: احكي يا شهرزاد، فقالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام قال للخليفة إن السيدة زبيدة تقبل الأرض بين يديك وتقول لك: أنت تعرف أنها قد عملت هذا التاج وأنه محتاج إلى جوهرة كبيرة تكون في رأسه وفتشت ذخائرها فلم تجد فيها جوهرة كبيرة على غرضها فقال الخليفة للحجاب والنواب: فتشوا على جوهرة كبيرة على غرض زبيدة ففتشوا فلم يجدوا شيئاً يوافقها فاعلموا الخليفو بذلك فضاق صدره وقال: كيف أكون خليفة وملك ملوك الأرض وأعجزعن جوهرة? ويلكم اسألوا التجار فسألوا التجار فقالوا لهم: لا يجد مولانا الخليفة إلا عند رجل من البصرة يسمى أبا محمد الكسلان.
فأخبروا الخليفة بذلك فأمر وزيره جعفر أن يرسل بطاقة إلى الأمير محمد الزبيدي الميولي على البصرة أن يجهز أبا محمد الكسلان ويحضره بين يدي أمير المؤمنين فكتب الوزير بطاقة بمضمون ذلك وأرسلها مع مسرور، ثم توجه مسرور بالبطاقة إلى مدينة البصرة ودخل على المير محمد الزبيدي ففرح به وأكرمه غاية الإكرام ثم قرأ عليه بطاقة أمير المؤمنين هارون الرشيد فقال: سمعاً وطاعة، ثم أرسل مسرور مع جماعة من اتباعه إلى أبي محمد الكسلان فذهبوا إليه وطرقوا عليه الباب فخرج عليهم بعض الغلمان. فقال له مسرور: قل لسيدك أن أمير المؤمنين يطلبك فدخل الغلام وأخبره بذلك فخرج فوجد مسرور حاجب الخليفة ومعه أتباع الأمير محمد الزبيدي فقبل الأرض بين يديه وقال: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين ولكن ادخلوا عندنا فقالوا: ما نقدر على ذلك لأننا على عجل كما أمرنا أمير المؤمنين فإنه ينتظرنا قدومك، فقال: اصبروا علي يسيراً حتى أجهز أمري.
ثم دخلوا معه إلى الدار بعد استعطاف زائد فرأوا في الدهليز ستاراً من الديباج الأزرق المطرز بالذهب الأحمر، ثم إن أبا محمد الكسلان أمر بعض غلمانه أن يدخلوا مع مسرور الحمام الذي في الدار ففعلوا فرأوا حيطانه ورخامه من الغرائب وهو مزركش بالذهب والفضة وماؤه ممزوج بماء الورد واحتفل الغلمان بمسرور ومن معه وخدموهم أتم الخدمة، ولما خرجوا من الحمام ألبسوهم خلعاً من الديباج منسوجة بالذهب. ثم دخل مسرور وأصحابه فنظروا أبا محمد الكسلان جالساً في قصره وقد علق على رأسه ستور من الديباج المنسوج بالذهب المرصع بالدر والجوهر والقصر مفروش بمساند مزركشة بالذهب الأحمر وهو جالس على مرتبة والمرتبة على سرير مرصع بالجواهر، فلما دخل عليه مسرور ورحب به تلقاه وأجلسه بجانبه ثم أمر بإحضار السماط، فلما رأى مسرور ذلك السماط قال: والله ما رأيت عند أمير المؤمنين مثل هذا السماط أبداً، وكان في ذلك السماط أنواع الأطعمة وكلها موضوعة في أطباق صينينة مذهبة. قال مسرور: فاكلنا وشربنا وفرحنا إلى آخر النهار ثم أعطى كل واحد منا خمسة آلاف دينار، ولما كان اليوم الثاني ألبسونا خلعاً خضراء مذهبة وأكرمونا غاية الإكرام.
ثم قال مسرور: لا يمكننا أن نقعد زيادة على تلك المدة خوفاً من الخليفة فقال له أبو محمد الكسلان: يا مولانا اصبر علينا إلى غد حتى نتجهز ونسير معكم فقعدوا ذلك اليوم وباتوا إلى الصباح، ثم إن الغلمان شدوا لأبي محمد الكسلان بغلة بسرج من الذهب مرصع بأنواع الدر والجوهر فقال مسرور في نفسه: يا ترى إذا حضر أبو محمد بين يدي الخليفة بتلك الصفة هل يسأله عن سبب تلك الأموال? ثم بعد ذلك ودعوا محمد الزبيدي وطلعوا من البصرة وساروا ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى مدينة بغداد فلما دخلوا على الخليفة ووقفوا بين يديه أمره بالجلوس فجلس، ثم تكلم بأدب وقال: يا أمير المؤمنين إني جئت معي بهدية على وجه الخدمة فهل أحضرها عن إذنك، قال الرشيد: لا بأس بذلك، فأمر بصندوق وفتحه وأخرج منه تفاحاً من جملتها أشجار من الذهب وأوراقها من الزمرد الأبيض وثمارها ياقوت أحمر وأصفر ولؤلؤ أبيض فتعجب الخليفة من ذلك، ثم أحضر صندوقاً ثانياً وأخرج منهخيمة من الديباج مكللة باللؤلؤ واليواقيت والزمرد والزبرجد وانواع الجوهر وقوائمها من عود هندي رطب وأذيال تلك الخيمة مرصعة بالزمرد الأخضر وفيها تصاوير كل الصور من سائر الحيوانات كالطيور والوحوش وتلك الصور مكللة بالجواهر واليواقيت والزمرد والزبرجد والبلخش وسائر المعادن. فلما رأى الرشيد ذلك فرح فرحاً شديداً ثم قال أبو محمد الكسلان: يا أمير المؤمنين لا تظن اني حملت لك هذا فزعاً من شيء ولا طمعاً في شيء وإنما رأيت نفسي رجلاً عامياً ورأيت هذا لا يصلح إلا لأمير المؤمنين وإن أذنت لي فرجتك على بعض ما أقدر عليه فقال الرشيد: افعل ما شئت حنى ننظر فقال سمعاً وطاعة ثم حرك شفتيه وأومأ إلى شراريف القصر فمالت إليه ثم أشار إليها فرجعت إلى موضعها ثم أشار بعينه فظهرت إليه مقفل الأبواب، ثم تكلم عليها وإذا بأصوات طيور تجاوبه فتعجب الرشيد من ذلك غاية العجب وقال له: من أين لك هذا كله وانت ما تعرف إلا بأبي محمد الكسلان وأخبروني أن أباك كان حلاقاً يخدم في حمام وما خلف لك شيئاً? فقال: يا أمير المؤمنين اسمع حديثي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والربعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا محمد الكسلان قال للخليفة: يا أمير المؤمنين اسمع حديثي فإنه عجيب وامره غريب لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، فقال الرشيد: حدث بما عندك وأخبرني به يا أبا محمد، فقال: يا أمير المؤمنين أدام الله لك العز والتمكين إن أخبار الناس بأني أعرف بالكسلان وأن أبي لم يخلف لي مالاً صدق لأن أبي لم يكن إلا كما ذكرت فإنه كان حلاقاً في حمام وكنت أنا في صغري أكسل من يوجد على وجه الأرض وقد بلغ من كسلي أني كنت نائماً في أيام الحر وطلعت علي الشمس أكسل عن أن أقوم وانتقل من الشمس إلى الظل.
و أقمت على ذلك خمسة عشر عاماً، ثم إن أبي توفي إلى رحمة الله تعالى ولم يخلف لي شيئاً، وكانت أمي تخدم الناس وتطعمني وتسقيني وانا راقد على جنبي، فاتفق أن أمي دخلت علي في بعض الأيام ومعها خمسة دراهم من الفضة وقالت لي يا ولدي بلغني أن الشيخ أبا المظفر عزم على أن يسافر إلى الصين وكان ذلك الشيخ يحب الفقراء وهو من أهل الخير، فقالت أمي يا ولدي خذ هذه الخمسة دراهم وامض بنا إليه، واسأله أن يشتري لك بها شيئاً من بلاد الصين لعله يحصل لك فيه ربح من فضل الله تعالى فكسلت عن القيام معها فأقسمت بالله إن لم أقم معها لا تطعمني ولا تسقيني ولا تدخل علي بل تتركني اموت جوعاً وعطشاً، فلما سمعت كلامها يا أمير المؤمنين علمت انها تفعل ذلك لما تعلم من كسلي فقلت لها: اقعديني فأقعدتني وأنا باكي العين وقلت لها: ائتيني بمداسي فأتتني به فقلت ضعيه في رجلاي فوضعته فيهما. فقلت لها احمليني حتى ترفعيني من الرض ففعلت ذلك فقلت: اسنديني حتى أمشي فصارت تسندني وما زلت أمشي وأتعثر في أذيالي إلى أنوصلنا إلى ساحل البحر فسلمنا على الشيخ وقلت له يا عم أنت أبو المظفر? قال: لبيك قلت: خذ هذه الدراهم واشتر لي بها شيئاً من بلاد الصين عسى الله يربحني فيه فقال الشيخ أبو المظفر لأصحابه: أتعرفون هذا الشاب? قالوا: نعم، هذا يعرف بأبي محمد الكسلان ما رأيناه قط خرج من دار إلا في هذا الوقت.
فقال الشيخ أبو المظفر: يا ولدي هات الدراهم على بركة الله، ثم أخذ مني الدراهم وقال باسم الله ثم رجعت مع أمي إلى البيت وتوجه الشيخ أبو المظفر إلى السفر ومعه جماعة من التجار ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى بلاد الصين ثم إن الشيخ باع واشترى وبعد عزم على الرجوع هو ومن معه بعد قضاء أغراضهم وساروا في البحر ثلاثة أيام فقال الشيخ لأصحابه: قفوا بالمركب فقال التجار: ما حاجتك فقال: اعلموا أن الرسالة التي معي لأبي محمد الكسلان نسيتها فارجعوا بنا حتى نشتري له شيئاً حتى ينتفع به.
فقالوا له: سألناك بالله تعالى أن لا تردنا فإننا قطعنا مسافة طويلة زائدة وحصل لنا في ذلك أهوال عظيمة ومشقة زائدة فقال: لا بد لنا الرجوع فقالوا: خذ منا أضعاف ربح الخمسة دراهم ولا تردنا فسمع مهم وجمعوا له مالاً جزيلاً ثم ساروا حتى أشرفوا على جزيرة فيها خلق كثير فأرسوا عليها وطلع التجار يشترون منها متجراً من معادن وجواهر ولؤلؤ وغير ذلك. ثم رأى أبو المظفر رجلاً جالساً وبين يديه قرود كثيرة وبينهم قرد منتوف الشعر وكانت تلك القرود كلما غفل صاحبهم يمسكون ذلك القرد المنتوف ويضربونه ويرمونه على صاحبهم فيقوم ويضربهم ويقيدهم ويعذبهم على ذلك فتغتاظ القرود كلها من ذلك القرد ويضربونه.
ثم إن الشيخ أبا المظفر لم رأى ذلك القرد حزن عليه ورفق به فقال لصاحبه: أتبيعني هذا القرد قال اشتر قال: إن معي لصبي يتيم خمسة دراهم هل تبيعني إياه بها قال له بعتك بارك الله لك فيه، ثم تسلمه وأقبضه الدراهم وأخذ عبيد الشيخ القرد وربطوه في المركب.
ثم حلوا وسافروا إلى جزيرة أخرى فارسوا عليها فنزل الغطاسون الذين يغطسون على المعادن واللؤلؤ والجوهر وغير ذلك فأعطاهم التجار دراهم أجرة على الغطاس فغطسوا فرآهم القرد يفعلون ذلك فحل نفسه من رباطه ونط من المركب وغطس معهم، فقال أبو المظفر لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد عدم القرد منا ببخت هذا المسكين الذي أخذناه له ويأسوا على القرد، ثم طلع جماعة من الغطاسين وإذا بالقرد طالع معهم وفي يده نفائس الجواهر فرماها بين يدي أبي المظفر فتعجب من ذلك وقال: إن هذا القرد فيه سر عظيم، ثم حلوا وسافروا إلى أن وصلوا إلى جزيرة الزنوج وهم قوم من السودان يأكلون لحم بني آدم، فلما رأوهم السودان ركبوا عليهم في المراكب وكتفوهم واتوا بهم إلى الملك فأمر بذبح جماعة من التجار فذبحوهم وأكلوا لحومهم ثم عن بقية التجار باتوا محبوسين وهم في نكد عظيم فلما كان وقت الليل قام القرد إلى أبي المظفر وحل قيده، فلما رأى التجار أبا المظفر قد انحل قالوا عسى الله أن يكون خلاصنا على يديك يا أبا المظفر، فقال لهم اعلمو ا أنه ما خلصني بإرادة الله تعالى إلا هذا القرد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا المظفر قال: ما خلصني بإرادة الله تعالى إلا هذا القرد، وقد خرجت لهعن ألف دينار، فقال التجار: ونحن كذلك كل واحد منا خرج له عن ألف دينار إن خلصنا فقام القرد إليهم وصار يحل واحد بعد واحد حتى حل الجميع من قيودهم وذهبوا إلى المركب وطلعوا فيها فوجدوها سالمة ولم ينقص منها شيء ثم حلوا وسافروا. فقال أبو المظفر يا تجار أوفوا بالذي قلتم عليه للقرد قالوا: سمعاً وطاعة ودفع كل واحد منهم ألف دينار وأخرج أبو المظفر من ماله ألف دينار فاجتمع للقرد من المال شيء عظيم، ثم سافروا حتى وصلوا إلى مدينة البصرة فتلقاهم أصحابهم حين طلعوا من المركب.
فقال أبو المظفر أين ابو محمد الكسلان فبلغ الخبر إلى أمي فبينما أنا نائم إذ أقبلت علي أمي وقالت: يا ولدي إن الشيخ أبا المظفر قد أتى ووصل إلى المدينة فقم وتوجه إليه وسلم عليه واسأله عن الذي جاء به فلعل الله تعالى يكون قد فتح عليه بشيء فقلت لها احمليني من الأرض واسنديني حتى أخرج وأمشي إلى ساحل البحر، ثم مشيت وأنا أتعثر في أذيالي حتى وصلت إلى الشيخ أبا المظفر.
فلما رآني قال لي: أهلاً بمن كانت دراهمه سبباً لخلاصي وخلاص هؤلاء التجار بإرادة الله تعالى ثم قال لي: خذ هذا القرد فإني اشتريته لك وامض به إلى بيتك حتى أجيء إليك، فأخذت القرد ين يدي وقلت في نفسي والله ما هذا إلا متجر عظيم، ثم دخلت وقلت لأمي كلما أنام تأمريني بالقيام لأتجر فانظري بعينك هذا المتجر. ثم جلست، فبينما أنا جالس وإذا بعبيد أبي المظفر قد أقبلوا علي وقالوا لي: هل أنت أبو محمد الكسلان? فقلت لهم: نعم. وإذا بأبي المظفر أقبل خلفهم فقمت إليه وقبلت يديه فقال لي: سر معي إلى داري فقلت: سمعاً وطاعة وسرت معه إلى أن دخلت، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا محمد الكسلان قال ثم سرت معه ودخلت الدار فأمر عبيده أن يحضروا به فقال: يا ولدي لقد فتح الله عليك بهذا المال من ربح الخمسة دراهم ثم حملوه في صناديقه على رؤوسهم وأعطاني مفاتيح تلك الصناديق وقال لي: امض قدام العبيد إلى دارك فإن هذا المال كله لك، فمضيت إلى أمي ففرحت بذلك وقالت يا ولدي لقد فتح الله عليك بهذا المال الكثير فدع عنك هذا الكسل وانزل إلى السوق وبع واشتر فتركت الكسل وفتحت دكاناً في السوق وصار القرد يجلس معي على مرتبتي فإذا أكلت يأكل معي وإذا شربت يشرب معي وصار كل يوم من بكرة النهار يغيب إلى وقت الظهر ثم يأتي ومعه كيس فيه ألف دينار فيضعه في جانبي ويجل ولم يزل على هذه الحالة مدو من الزمان، حتى اجتمع عندي مال كثير فاشتريت يا أمير المؤمنين الأملاك والربوع وغرست البساتين، واشتريت المماليك والعبيد والجوار فاتفق في بعض الأيام أنني كنت جالساً والقرد جالس معي على المرتبة وإذا به تلفت يميناً وشمالاً فقلت في نفسي: أي شيء خبر هذا فأنطق الله القرد بلسان فصيح وقال: يا أبا محمد، فلما سمعت كلامه فزعت فزعاً شديداً فقال لي: لا تفزع أنا أخبرك بحالي إني مارد من الجن ولكن جئت بسبب ضعف حالك، وانت اليوم لا تدري قدر مالك وقد وقعت لي عندك حاجة وهي خير لك فقلت: ما هي? قال: أريد أن أزوجك بصبية مثل البدر، فقلت له: وكيف ذلك? فقال لي: في غد ألبسك قماشك الفاخر وأركب بغلتك بالسرج المذهب وامض إلى سوق العلافين واسأل عن دكان الشريف واجلس عنده، وقل له إني جئتخاطباً راغباً في ابنتك فإن قال لك: أنت ليس لك مال ولا حسب ولا نسب فادفع له ألف دينار، فإن قال زدني فزده ورغبه فقال: سمعاً وطاعة في غد أفعل ذلك إن شاء الله تعالى.قال أبو محمد: فلما أصبحت لبست أفخر قماشي وركبت البغلة بالسرج المذهب ثم مضيت إلى سوق العلافين وسألت عن دكان الشريف فوجدته جالساً في دكانه، فنزلت وسلمت عليه وجلست عنده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا محمد الكسلان قال فنزلت وسلمت عليه وجلست عنده وكان معي عشرة من العبيد والمماليك فقال الشريف: لعل لك عندنا حاجة نفوز بقضائها، فقلت: نعم لي عندك حاجة قال: وما هي حاجتك فقلت: جئتك خاطباً راغباً في ابنتك فقال لكن أنت ليس لك مال ولا حسب ولا نسب، فأخرجت له كيساً فيه ألف دينار ذهباً أحمر وقلت له: هذا حسبي ونسبي وقد قال صلى الله عليه وسلم: نعم الحسب المال وما أحسن قول من قال:
من كان يملك درهمين تعلمت              شفتاه أنواع الكـلام فـقـالا
وتقدم الأخوان فاستمعـوا لـه              ورأيته بين الورى مخـتـالا
لولا دراهمه التي يزهو بهـا               لوجدته في الناس أسوأ حـالا
إن الغني إذا تكلم بالـخـطـأ                  قالوا صدقت وما نطقت محالا
أما الفقير إذا تكلـم صـادقـا                 قالوا كذبت وأبطلوا ما قـالا
إن الدراهم في المواطن كلهـا              تكسوا الرجال مهابة وجمـالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة              وهي السلاح لمن أراد قتـالا

فلما سمع الشريف مني هذا الكلام وفهم الشعر والنظام أطرق برأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه وقال لي: إن كان ولابد فإني أريد منك ثلاثة آلاف دينار أخرى، فقلت: سمعاً وطاعة، ثم أرسلت بعض المماليك إلى منزلي فجاءني بالمال الذي طلبه فلما رأى ذلك وصل إليه قام من الدكان وقال لغلمانه: أقفلوها.
ثم دعا أصحابه من السوق إلى داره وكتب كتابي على ابنته وقال لي: بعد عشرة أيام أدخلك عليها، ثم مضيت إلى منزلي وأنا فرحان فخلوت مع القرد وأخبرته بما جرى لي، فقال: نعم ما فعلت.
فلما قرب ميعاد الشريف قال القرد: إن لي عندك حاجة إن قضيتها لي فلك عند ما شئت، قلت: وما حاجتك? قال لي: إن في صدر القاعة التي تدخل فيها على بنت الشريف خزانة وعلى بابها حلقة من نحاس والمفاتيح تحت الحلقة فخذها وافتح الباب تجد صندوقاً من حديد على أركانه أربع رايات من الطلسم وفي وسط ذلك طشت ملآن من المال وفي جانبه إحدى عشر حية وفي وسط الطشت ديك أفرق أبيض مربوط هناك سكين بجنب الصندوق فخذ السكين واذبح بها الديك واقطع الرايات واقلب الصندوق وبعد ذلك أخرج للعروسة وأزل بكارتها فهذه حاجتي عندك.
فقلت: سمعاً وطاعة ثم مضيت إلى دار الشريف فدخلت القاعة ونظرت إلى الخزانة التي وصفها لي القرد فلما خلوت بالعروسة تعجبت من حسنها وجمالها وقدها واعتدالها لأنها لا تستطيع الألسن أن تصف حسنها وجمالها ففرحت بها فرحاً شديداً، فلما كان نصف الليل ونامت العروسة قمت وأخذت المفاتيح وفتحت الخزانة وأخذت السكين وذبحت الديك وقطعت الرايات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه قال لما ذبحت الديك وقطعت الرايات وقلبت الصندوق فاستيقظت الصبية فرأت الخزانة قد فتحت والديك قد ذبح فقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد أخذني المارد فما استتمت كلامها إلا وقد أحاط المارد بالدار وخطف العروسة فعند ذلك وقعت الضجة وإذا بالشريف قد أقبل وهو يلطم على وجهه وقال: يا أبا محمد ما هذا الفعل الذي فعلته معنا هل هذا جزاؤنا منك وأنا قد عملت هذا الطلسم في هذه الخزنة خوفاً على ابنتي من هذا الملعون فإنه كان يقصد أخذ الصبية منذ ست سنين ولا يقدر على ذلك ولكن ما بقي لك عندنا مقام فامض إلى حال سبيلك.
فخرجت من دار الشريف وجئت إلى داري وفتشت على القرد فلم أجده ولم أر له أثراً، فعلمت أنه هو المارد الذي أخذ زوجتي وتحيل علي حتى فعلت ذلك بالطلسم والديك اللذين كانا يمنعانه من أخذها فندمت وقطعت أثوابي ولطمت على وجهي ولم تسعني الأرض فخرجت من ساعتي وقصدت البرية، ولم أزل سائراً إلى أن أمسى علي المساء ولم أعلم أين أروح فبينما أنا مشغول الفكر إذ أقبل علي حيتان واحدة سمراء والخرى بيضاء وهما يقتتلان فأخذت حجراً من الأرض وضربت به الحية السمراء فقتلتها فإنها كانت باغية على البيضاء فغابت ساعة وعادت ومعها عشر حيات بيض فجاؤوا إلى الحية التي ماتت وقطعوها قطعاً حتى لم يبق إلا رأسها، ثم مضوا إلى حال سبيلهم واضطجعت في مكاني من التعب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والأربعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا محمد الكسلان قال: ثم اضطجعت من التعب، فبينما أنا مضطجع متفكر في أمري وإذا بهاتف أسمع صوته ولم أر شخصه وهو يقول هذين البيتين:
دع المقادير تجري في أعنتها              ولا تبتن إلا خالي الـبـال
ما بين طرفة عين وانتباهتها              يغير الله من حال إلى حال
فلما سمعت ذلك لحقني يا أمير المؤمنين أمر شديد وفكر ما عليه من مزيد وإذا بصوت من خلفي أسمعه ينشد هذين البيتين:
يا مسلماً أمامه الـقـرآن           أبشر به قد جاءك الأمان
ولا تخف ما سول الشيطان                فنحن قوم ديننـا الإيمـان

فقلت له: بحق معبودك أن تعرفني من أنت فانقلب ذلك الهاتف في صورة إنسان وقال لي: لا تخف فإن جميلك قد وصل إلينا ونحن قوم من جن المؤمنين فإن كان لك حاجة أخبرنا بها حتى نفوز بقضائها فقلت له: إن لي حاجة عظيمة لأني أصبت بمصيبة جسيمة ومن الذي حصل له مثل مصيبتي فقال: لعلك أبو محمد الكسلان، فقلت: نعم.
فقال: يا أبا محمد أنا أخو الحية البيضاء التي قتلت أنت عدوها ونحن أربع أخوة من أم وأب وكلنا شاكرون لفضلك واعلم أن الذي كان على صورة القرد وفعل معك المكيدة مارد من مردة الجن ولولا أنه تحيل بهذه الحيلة ما كان يقدر على أخذها أبداً لأن له مدة طويلة وهو يريد أخذها فيمنعه من ذلك الطلسم ولو بقي ذلك الطلسم ما كان يمكنه الوصول إليها ولكن لا تجزع من هذا الأمر فنحن نوصلك إليها ونقتل المارد فإن جميلك لا يضيع عندنا، ثم إنه صاح صيحة عظيمة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والأربعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العفريت قال: فإن جميلك لا يضيع عندنا، ثم إنه صاح صيحة عظيمة بصوت هائل وإذا بجماعة قد أقبلوا عليه فسألهم عن القرد فقال واحد منهم: أنا أعرف مستقره، قال: أين مستقره? قال: في مدينة النحاس التي لا تطلع عليها الشمس، فقال: يا أبا محمد خذ عبد من عبيدنا وهو يخملك على ظهره ويعلمك كيف تأخذ الصبية واعلم أن ذلك العبد مارد من المردة فإذا حملك لا تذكر اسم الله وهو حاملك فإنه يهرب منك فتقع وتهلك، فقلت: سمعاً وطاعة.
فأخذت عبداً من عبيدهم فانحنى وقال:: اركب فركبت ثم طار بي في الجو حتى غاب عن الدنيا ورأيت النجوم كالجبال الرواسي وسمعت تسبيح الملائكة في السماء، كل ذلك والمارد يحدثني ويفرجني وينهيني عن ذكر الله.
فبينما أنا كذلك وإذا بشخص عليه لباس أخضر وله ذوائب ووجهه منير وفي يده حربة يطير منه الشرر قد أقبل علي وقال لي: يا أبا محمد قل لا إله إلا الله محمد رسول الله وإلا ضربتك بهذه الحربة، وكانت مهجتي قد تقطعت من سكوتي عن ذكر الله، فقلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم إن ذلك الشخص ضرب المارد بالحربة فذاب وصار رماداً فسقطت من فوق ظهره وصرت أهوي إلى الأرض حتى وقعت في بحر عجاج متلاطم بالأمواج وإذا بسفينة فيها خمسة أشخاً بحرية، فلما رأوني أتوا إلي وحملوني في السفينة وصاروا يكلموني بكلام لا أعرفه فأشرت لهم أني لا أعرف كلامكم، فساروا إلى آخر النهار ثم رموا شبكة واصطادوا حوتاً وشووه وأطعموني.
ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا بي إلى مدينتهم فدخلوا بي إلى ملكهم وأوقعوني بين يديه فقبلت الأرض فخلع علي خلعة، وكان ذلك الملك يعرف اللغة العربية فقال: قد جعلتك من أعواني فقلت: ما اسم هذه المدينة? قال: اسمها هناد وهي من بلاد الهند، ثم إن الملك سلمني إلى وزير المدينة وأمره أن يفرجني في المدينة وكان أهل تلك المدينة في الزمن الأول كفار فمسخهم الله تعالى حجارة، فتفرجت فيها فلم أر أكثر من أشجارها وأثمارها فأقمت فيها مدة شهر ثم أتيت إلى نهر وجلست على شاطئه.
فبينما أنا جالس وإذا بفارس قد أتى وقال: هل أنت أبو محمد الكسلان? فقلت له: نعم. قال: لا تخف فإن جميلك وصل إلينا، فقلت له: من أنت? قال: أنا أخو الحية وأنت قريب من مكان الصبية التي تريد الوصول إليها، ثم خلع أثوابه وألبسني إياها وقال لي: لا تخف فإن العبد الذي هلك من تحتك بعض عبيدنا نائم، ثم إن ذلك الفارس أردفني خلفه وسار بي إلى البرية وقال: انزل من خلفي وسر بين هذين الجبلين حتى ترى مدينة النحاس فقف بعيداً عنها ولا تدخلها حتى أعود إليك وأقول لك كيف تصنع، فقلت له: سمعاً وطاعة. ونزلت من خلفه ومشيت حتى وصلت إلى المدينة فرأيت سورها فأخذت أدور حولها وإذا بأخ الحية قد أقبل علي وأعطاني سيفاً مطلسماً حتى لا يراني أحد، ثم إنه مضى في حال سبيله فلم يغب عني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا محمد الكسلان قال: لم يغب عني إلا قليلاً فإذا بصياح قد علا ورأيت خلقاً كثيراً وأعينهم في صدورهم، فلما رأوني قالوا: من أنت وما الذي في هذا المكان فأخبرتهم بالواقعة فقالوا: الصبية التي ذكرتها مع المارد في هذه المدينة وما ندري ما فعل بها ونحن أخوة الحية ثم قالوا: امض إلى تلك العين من أين يدخل الماء وادخل معه فإنه يوصلك إلى المدينة ففعلت ذلك ودخلت مع الماء في سرداب تحت الأرض ثم طلعت معه فرأيت نفسي في وسط المدينة ووجدت الصبية جالسة على سرير من ذهب وعليها ستارة ديباج وحول الستارة بستان فيه أشجار من الذهب وأثمارها من نفيس الجواهر كالياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان.
فلما رأتني الصبية عرفتني وابتدأتني بالسلام وقالت لي: يا سيدي من أوصلك إلى هذا المكان? فأخبرتها بما جرى فقالت لي: اعلم أن هذا الملعون من كثرة محبته لي أعلمني بالذي يضره والذي ينفعه وأعلمني أن في هذه المدينة طلسمان إن شاء هلاك جميع من في المدينة أهلكهم به، ومهما أمر العفاريت فإنهم يمتثلون أمره وذلك الطلسم في عمود، فقلت لها: وأين العمود? فقالت: في المكان الفلاني. فقلت: وأي شيء يكون ذلك الطلسم قالت: هو صورة عقاب وعليه كتابة لا أعرفها فخذه بين يديك وخذ مجمرة نار وارمِ فيه شيئاً من المسك فيطلع دخان يجذب العفاريت فإذا فعلت ذلك فإنهم يحضرون بين يديك كلهم ولا يغيب منهم احد ويمتثلون أمرك ومهما أمرتهم فإنهم يفعلونه فقم وافعل ذلك على بركة الله تعالى.
فقلت لها: سمعاً وطاعة ثم قمت وذهبت إلى ذلك العمود وفعلت جميع ما أمرتني به فجاءت العفاريت وحضرت بين يدي وقالوا: لبيك يا سيدي فمهما أمرتنا به فعلناه فقلت لهم: قيدوا المارد الذي جاء بهذه الصبية من مكانها فقالوا: سمعاً وطاعة ثم ذهبوا إلى ذلك المارد وقيدوه وشدوا وثاقه ورجعوا إلي وقالوا قد فعلنا ما أمرتنا به فأمرتهم بالرجوع ثم رجعت إلى الصبية وأخبرتها بما حصل وقلت: يا زوجيت هل تروحين معي? فقالت: نعم ثم إني طلعت بها من السرداب حتى وصلنا إلى القوم الذي كانوا دلوني عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه قال: وسرنا حتى وصلنا إلى القوم الذين كانوا دلوني عليها ثم قلت: دلوني على طريق توصلني إلى بلادي فدلوني ومشوا معي إلى ساحل البحر وأنزلوني في مركب وطاب لنا الريح فسارت بنا تلك المركب حتى وصلنا إلى مدينة البصرة فلما دخلت الصبية دار أبيها رأوها أهلها ففرحوا فرحاً شديداً ثم إني بخرت العقاب بالمسك وإذا بالعفاريت قد أقبلوا من كل مكان وقالوا: لبيك فما تريد أن تفعل فأمرتهم أن ينقلوا كل ما في مدينة النحاس من المال والمعادن والجواهر إلى داري في البصرة ففعلوا ذلك ثم أمرتهم أن يأتوا بالقرد فأتوا به ذليلاً حقيراً. فقلت له: يا ملعون لأي شيء غدرت بي ثم أمرتهم أن يدخلوه في قمقم نحاس فأدخلوه في قمقم ضيق من نحاس وسدوا عليه بالرصاً وأقمت أنا وزوجتي في هناء وسرور وعندي الآن يا أمير المؤمنين من نفائس الذخائر والجواهر وكثير الأموال ما لا يحيط به عد ولا يحصره حد وإذا طلبت شيئاً من المال وغيره أمرت الجن أن يأتوا لك به في الحال وكل ذلك هو من فضل الله تعالى، فتعجب أمير المؤمنين من ذلك غاية العجب ثم أعطاه مواهب الخلافة عوضاً عن هديته وأنعم عليه إنعاماً يليق به.

حكاية علي شار مع زمرد الجارية

وحكي أنه كان في ذلك الزمان وسالف العصر والأوان تاجر من التجار في بلاد خراسان اسمه مجد وله مال كثير وعبيد ومماليك وغلمان، إلا أنه بلغ من العمر ستين سنة ولم يرزق ولداً وبعد ذلك رزقه الله تعالى ولداً فسماه علياً، فلما نشأ الغلام صار كالبدر ليلة التمام. ولما بلغ مبلغ الرجال وحازصفات الكمال ضعف والده بمرض الموت فدعا بولده وقال له: يا ولدي إنه قد قرب وقت المنية وأريد أن أوصيك بوصية فقال له: وما هي يا والدي فقال له: اوصيك أنك لا تعاشر أحد من الناس وتجنب ما يجلب الضر واليأس وجليس السوء فإنه كالحداد إن لم تحرقك ناره يضره دخانه ومن أحسن قول الشاعر:
ما في زمانك من ترجو مودتـه            ولا صديق إذا خان الزمان وفى
فعش فريداً ولا تركن إلى أحـد             ها قد نصحتك فيما قلته وكفى

فقال: يا أبي سمعت وأطعت ثم ماذا أفعل? فقال: افعل الخير إذا قدرت ودم على صنع الجميل من الناس واغتنم بذل المعروف فما في كل وقت ينجح الطلب وما أحسن قول الشاعر:
ليس في كل ساعة وأوان                  تأتي صنائع الإحسـان
فإذا أمسكتك بادر إليهـا           حذر من تعذر الإمكان
فقال: سمعت وأطعت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبي قال لأبيه: سمعت وأطعت ثم ماذا? قال: يا ولدي احفظ الله يحفظك وصن مالك ولا تفرط فيه فإنك إن فرطت فيه تحتاج إلى أقل الناس واعلم أن قيمة المرء ما ملكت يمينه وما أحسن قول الشاعر:
إن قل مالي فلا خل يصاحبنـي             وإن زاد مالي فكل الناس خلاني
فكم عدو لأجل المال صاحبنـي             وكم صديق لفقد المال عادانـي

فقال: ثم ماذا قال: يا ولدي شاور من هو أكبر منك سناً ولا تجعل في الأمر الذي تريده وارحم من هو دونك يرحمك من هو فوقك ولا تظلم أحداً فيسلط الله عليك من يظلمك وما أحسن قول الشاعر:
أقرن برأيك غيرك واستشر                فالرأي لا يخفى على الاثنين
فالمرء مرآة تريه وجـهـه                  ويرى قفاه بجمع مرآتـين
وقول الآخر:
تأن ولا تعجـل لأمـر تـريده                 و كن راحماً للناس تبلى براحم
فما من يد إلا يد الله فوقـهـا                ولا ظالم إلا سيبلى بـظـالـم
وقول الآخر:
ولاتظلمن إذا كنت مقتـدراً                  إن الظلوم على حدً من النقم
تنام عيناك والمظلوم منتبـه                يدعو عليك وعين الله لم تنم
وإياك وشرب الخمر فهو رأس كل شر وشربه مذهب العقول ويزري بصاحبه وما أحسن قول الشاعر:
تالله لا خامرتني الخمر ما عـلـقـت                  روحي بجسمي وأقوالي بإفصاحـي
ولا صبوت إلـى مـشـمـولة أبـداً                    يوماً ولا اخترت ندماناً سوى الصاحي

فهذه وصيتي لك فاجعلها بين عينيك والله خليفتي عليك ثم غشي عليه فسكت ساعة واستفاق فاستغفر الله وتوفي إلى رحمة الله تعالى فبكى عليه ولده وانتحب ثم أخذ في تجهيزه على ما يجب ومشيت في جنازته الأكابر والأصاغر وصار القراء يقرؤن حول تابوته وما ترك من حقه شيئاً إلا وفعله ثم صلوا عليه وواروه التراب وكتبوا على قبره هذين البيتين:
خلقت من التراب فصرت حياً               وعلمت الفصاحة في الخطاب
وعدت إلى التراب فصرت ميتاً             كأنك ما برحت من التـراب

حزن عليه ولده علي شار حزناً شديداً وعمل عزاءه على عادة الأعيان واستمر حزيناً على أبيه إلى أن ماتت أمه بعده بمدة يسيرة ففعل بوالدته مثل ما فعل بأبيه ثم بعد ذلك جلس في الدكان يبيع ويشتري ولا يعاشر أحداً من خلق الله تعالى عملاً بوصية أبيه واستمر على ذلك مدة سنة وبعد السنة دخلت عليه النساء الزواني بالحيل وصاحبوه حتى مال معهم إلى الفساد وأعرض عن طريق الرشاد وشرب الراح بالأقداح أو رواح وقال في نفسه إن والدي جمع لي هذا المال وأنا إن لم أتصرف فيه فلمن أخليه والله لا أفعل إلا كما قال الشاعر:
إن كنت دهره كله                  تحوي إليك تجمع
فمتى بما حصلته                   وحويته تتمـتـع

وما زال علي شار يبذل في المال إناء الليل وأطراف النهار حتى ذهب ماله كله وافتقر حاله وتكدر باله وباع الدكان والأماكن وغيرها ثم بعد ذلك باع ثياب بدنه ولم يترك لنفسه غير بدلة واحدة فلما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة وقع في الحسرة وقعد يوماً من الصبح إلى العصر بغير إفطار فقال في نفسه أنا أدور على الذين كنت أنفق مالي عليهم لعل أحداً منهم يطعمني في هذا اليوم فدار عليهم جميعاً وكلما طرق باب واحد منهم ينكر نفسه ويتوارى منه حتى أحرقه الجوع ثم ذهب إلى سوق التجار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الثلاثمئة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار أحرقه الجوع فذهب إلى سوق التجار فوجد حلقة إزدحام والناس مجتمعون فيها فقال في نفسه يا ترى ما سبب اجتماع هؤلاء الناس والله لا أنتقل من هذا المكان حتى أتفرج على هذه الحلقة ثم تقدم فوجد جارية خماسية معتدلة القد موردة الخد قاعدة النهد قد فاقت أهل زمانها في الحسن والجمال والبهاء والكمال كما قال بعض واصفيها:
كما اشتهت خلقت حتى إذا كملـت                   في قالب الحسن لا طول ولا قصر
و الحسن أصبح مشغوفاً بصورتهـا                والصد أبعد لها والتيه والـخـفـر
فالبدر طلعتها والغصن قامـتـهـا           والمسك نكهتها ما مثلهـا بـشـر
كأنها أفرغت مـن مـاء لـؤلـؤة             في كل جارحة من حسنها قـمـر

وكانت تلك الجارية اسمها زمرد فلما نظرها علي شار تعجب من حسنها وجمالها وقال والله لا أبرح حتى انظر القدر الذي يبلغه ثمن هذه الجارية وأعرف الذي يشتريها، ثم وقف بجملة التجار فظنوا أنه يشتري لما يعلمون من غناه بالمال الذي ورثه من والده ثم إن الدلال وقف على رأس الجارية وقال: يا تجار يا أرباب الأموال من يفتح باب السعر في هذه الجارية سيدة الأقمار الدرة السنية زمرد السنورية بغية الطالب ونزهة الراغب فافتحوا الباب فليس على من فتحه لوم ولا عتاب فقال بعض التجار علي بخمسمائة دينار.
وقال آخر: وعشرة فقال شيخ يسمى رشيد الدين وكان أزرق العين قبيح المنظر: ومائة وقال آخر: وعشرة قال الشيخ: بألف دينار، فحبس التجار ألسنتهم وسكتوا فشاور الدلال سيدها فقال: أنا حالف أني لا أبيعها إلا لمن تختاره فشاورها فجاء الدلال إليها وقال: يا سيدة الأقمار إن هذا التاجر يريد أن يشتريك فنظرت إليه فوجدته كما ذكرنا فقالت للدلال: ألا أباع لشيخ أوقعته الهموم في أسوأ حال ولله در من قال:
سألتها قبـلة يومـاً وقـد نـظـرت           شيبي وقد كنت ذا مـال وذا نـعـم
فأعرضت عن مرامي وهـي قـائلة                  لا والذي خلق الإنسـان مـن عـدم
ما كان لي في بياض الشيب من أرب               أفي الحياة يكون القطن حشو فمـي

فلما سمع الدلال قولها قال لها: والله أنك معذورة وقيمتك عشرة آلاف دينار ثم أعلم سيدها أنها ما رضيت بذلك الشيخ فقال: شاورها في غيره فتقدم إنسان آخر وقال: علي بما أعطى فيها الشيخ الذي لم ترض به فنظرت إلى ذلك الرجل فوجدته مصبوغ اللحية فقالت ما هذا العيب والريب وسواد وجه الشيب وأنشدت هذين البيتين:
قالت أراك خضبت الشيب قلت لها                   سترته عنك يا سمعي ويا بصري
فقهقهت ثم قالت إن ذا عـجـب             تكاثر الغش حتى صار بالشعـر

فلما سمع الدلال شعرها قال لها: والله إنك صدقت فقال التاجر: ما الذي قالت فأعاد عليه الأبيات فعرف أن الحق على نفسه وامتنع من شرائها فتقدم تاجر آخر وقال: شاورها على الثمن الذي سمعته فشاورها فنظرت إليه فوجدته أعور فقالت: هذا أعور فقال لها الدلال: يا سيدتي انظري من يعجبك من الحاضرين وقولي عليه حتى أبيعك له، فنظرت إلى حلقة التجار وتفرستهم واحداً بعد واحد فوقع نظرها على علي شار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما وقع نظرها على علي شار، نظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة وتعلق قلبها به لأنها كان بديع الجمال وألطف من نسيم الشمال، فقالت: يا دلال أنا لا أباع إلا لسيدي صاحب هذا الوجه المليح والقد الرجيح الذي قال فيه بعض واصفيه:
أبرزوا وجهك الجميل             ولاموا من افتـتـن
لو أرادوا صيانـتـي                ستروا وجهك الحسن
فلا يمكنني إلا هو لأن خده أسيل ورضابه سلسبيل وريقه يشفي العليل ومحاسنه تحير الناظم والناثر كما قال فيه الشاعر:
فريق خمر وأنـفـاسـه             مسك وذاك الثغر كافور
أخرجه رضوان من داره                   مخافة أن تفتن الحـور
يلومه الناس على تيهـه                    والبدر مهما تاه معذور
صاحب الشعر الأجعد والخد المورد واللحظ الساحر الذي قال فيه الشاعر:
وشادن بوصال منـه واعـدنـي            فالقلب في قلـق مـنـتـظـره
أجفانه ضمنت لي صدق موعـده                   فكيف توفي ضماناً وهي منكسره

فلما سمع الدلال ما أنشدته من الأشعار في محاسن علي شار تعجب من فصاحتها وإشراق بهجتها فقال له صاحبها: لا تعجب من بهجتها التي تفضح شمس النهار ولا من حفظها لرقائق الأشعار فإنها مع ذلك تقرأ القرآن العظيم بالسبع قراآت وتروي الحديث بصحيح الروايات وكتب بالسبعة أقلام وتعرف العلوم ما لا يعرفه العالم العلام ويداها أحسن من الذهب والفضة فإنها تعمل الستور الحرير وتبيعها فتكسب في كل واحدة خمسين ديناراً أو تشتغل الستر في ثمانية أيام فقال الدلال: يا سعادة من تكون هذه في داره ويجمعها من ذخائر أسراره.
ثم قال له سيدها: بعها لكل من أرادته فرجع الدلال إلى علي شار وقبل يديه وقال: يا سيدي اشتر هذه الجارية فإنها اختارتك وذكر له صفاتها وما تعرفه وقال له: هنيئاً لك إذا اشتريتها فإنه قد أعطاك من لا يبخل بالعطاء فأطرق علي شار برأسه ساعة إلى الأرض وهو يضحك على نفسه ويقول في سره: أنا لي هذا الوقت من غير إفطار ولكن أختشي من التجار أن أقول ما عندي مال أشتريها.
فنظرت الجارية إلى إطراقه وقالت للدلال خذ بيدي وامض بي إليه حتى أعرض نفسي عليه وأرغبه في أخذي فإني لا أباع إلا له فأخذها الدلال، وأوقفها قدام علي شار وقال له: ما رأيك يا سيدي فلم يرد له جواباً، فقالت الجارية: يا سيدي وحبيب قلبي مالك لا تشتريني، فاشترني بما شئت وأكون سبب سعادتك فرفع رأسه إليها وقال: هل الشراء بالغصب فأنت غالية بألف دينار فقالت له: ياسيدي اشترني بتسعمائة قال: لا، قالت: بثمانمائة قال: لا فما زالت تنقص من الثمن إلى أن قالت له: بمائة دينار قال: ما معي مائة كاملة فضحكت وقالت له: كم تنقص مائتك? قال: ما معي لا مائة ولا غيرها والله ما أملك لا أبيض ولا أحمر من درهم، ولا دينار فانظري لك زبوناً غيري.
فلما علمت أنه ما معه شيء قالت له خذ بيدي على أنك تقبلني في عطفة ففعل ذلك فأخرجت من جيبها كيساً فيه ألف دينار وقالت زن منه تسعمائة في ثمني وابق المائة معك تنفعنا ففعل ما أمرته به واشتراها بتسعمائة ودفع ثمنها من ذلك الكيس ومضى بها إلى الدار فلما وصلت إلى الدار وجدتها قاعاً صفصفاً لا فرش بها ولا أواني فأعطته ألف دينار وقالت له: امض إلى السوق واشتر لنا بثلثمائة دينار فرشاً وأواني للبيت ففعل، ثم قالت له: اشتر لنا مأكلاً ومشروباً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد الثلاثمئة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت له: اشتر لنا مأكولاً ومشروباً بثلاثة دنانير ففعل ثم قالت له: اشتر لنا خرقة حرير قدر ستر واشتر قصباً أصفر وأبيض وحريراً ملوناً سبعة ألوان ففعل، ثم إنها فرشت البيت وأوقدت الشمع وجلست تأكل وتشرب هي وإياه وبعد ذلك قاموا إلى الفراش وقضوا الغرض من بعضهما ثم باتا متعانقين خلف الستائر وكان كما قال الشاعر:
زر منتحب ودع كلام الحـاسـد             ليس الحسود على الهوى بمساعد
إني نظرتك في المنام مضاجعـي                    ولثمت من شفتيك أحلـى بـارد
حق صحيح كـل مـا عـينـتـه               و لسوف أبلغه برغم الحـاسـد
لم تنظر العينان أحسن منـظـراً             من عاشقين على فـراش واحـد
متعانقين عليهما حللي بالـرضـا            متوسدين بمعصـم وبـسـاعـد
وإذا تألفت القلوب على الـهـوى           فالناس تضرب في حـديد بـارد
يا من يلوم على الهوى أهل الهوى                 فهو المراد وعش بذاك الواحـد

واستمرا متعانقين إلى الصباح وقد سكنت محبة كل واحد منهما في قلب صاحبه ثم أخذت الستر وطرزته بالحرير الملون وزركشته بالقصب وجعلت فيه منطقة بصور طيور وصورت في دائرها صور الوحوش ولم تترك وحشاً في الدنيا إلا وصورت صورته فيه ومكثت تشتغل فيه ثمانية أيام فلما فرغ صقلته وطوته ثم أعطته لسيدها وقالت له: اذهب به إلى السوق وبعه بخمسين ديناراً للتاجر واحذر أن تبيعه لأحد عابر طريق، فإن ذلك يكون سبباً للفراق بيني وبينك أن لنا أعداء لا يغفلون عنا. فقال: سمعاً وطاعة ثم ذهب إلى السوق وباعه لتاجر كما أمرته وبعد ذلك اشترى الخرقة والحرير والقصب على العادة وما يحتاجان إليه من الطعام وحضر لها ذلك وأعطاها بقية الدراهم، فصارت كل ثمانية أيام تعطيه ستراً يبيعه بخمسين دينار ومكثت على ذلك سنة كاملة وبعد سنة راح إلى السوق بالستر على العادة وأعطاه للدلال فعرض له نصراني فدفع له ستين ديناراً، فامتنع فما زال يزيده حتى عمله بمائة دينار وبرطل الدلال بعشرة دنانير فرجع الدلال على علي شار وأخبره بالثمن وتحيل عليه في أن يبيع الستر للنصراني بذلك المبلغ وقال له سيدي: لا تخف من هذا النصراني وما عليك منه بأس وقمت التجار عليه فباعه للنصراني وقلبه مرعوب ثم قبض المال ومضى إلى البيت فوجد النصراني ماشياً خلفه. فقال له: يا نصراني مالك ماشياً خلفي? فقال له: يا سيدي إن لي حاجة في صدر الزقاق الله لا يحوجك فما وصل علي شار إلى منزله إلا والنصراني لاحقه فقال: يا ملعون ما لك تتبعني أينما أسير? فقال: يا سيدي اسقني شربة ماء فإني عطشان وأجرك على الله تعالى فقال علي شار في نفسه: هذا رجل ذمي وقصدني في شربة ماء والله لا أخيبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار قال في نفسه: هذا رجل ذمي وقصدني في شربة ماء والله لا أخيبه ثم دخل البيت وأخذ كوز ماء فرأته جاريته زمرد فقالت: يا حبيبي هل بعت الستر? قال: نعم. قالت: لتاجر أو لعابر سبيل قد أحس قلبي بالفراق. قال: ما بعته إلا لتاجر قالت: أخبرني بحقيقة الأمر حتى أتدارك شأني وما بالك أخذت كوز الماء قال: لأسقي الدلال. فقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم أنشدت هذين البيتين:
يا طالباً للفراق مهـلاً              فلا يغرنك العـنـاق
مهلاً فطبع الزمان غدر           وآخر الصحبة الفراق

ثم خرج بالكوز فوجد النصراني داخلاً في دهليز البيت فقال له: هل وصلت إلى هنا يا كلب? كيف تدخل بلا أذني? فقال: يا سيدي لا فرق بين الباب والدهليز وما بقيت أنتقل من مكاني هذا إلا للخروج وأنت لك الفضل والإحسان والجود والإمتنان ثم إنه تناول كوز الماء وشرب منه وبعد ذلك ناوله إلى علي شار فأخذه وانتظره أن يقوم فما قام فقال له: لأي شيء لم تقم وتذهب في حال سبيلك? فقال: يا مولاي إني قد شربت ولكن أريد منك تطعمني مهما كان في البيت حتى إذا كان كسرة قرقوشة وبصلة، فقال له: قم بلا مماحكة ما في البيت شيء، فقال: يا مولاي إن لم يكن في البيت شيء فخذ هذه المائة دينار وائتني بشيء من السوق ولو برغيف واحد ليصير بيني وبينك خبز وملح.
فقال علي شار في سره إن هذا النصراني مجنون فأنا آخذ منه المائة دينار آتي له يساوي درهمين وأضحك عليه فقال النصراني: يا سيدي إنما أريد شيئاً يطرد الجوع ولو رغيفاً واحداً وبصلة فخير الزاد ما دفع الجوع. فقال علي شار: اصبر هنا حتى أقفل القاعة وآتيك بشيء من السوق، فقال: سمعاً وطاعة ثم خرج وقفل القاعة وحط على الباب كيلو وأخذ المفتاح معه وذهب إلى السوق واشترى جبناً مقلياً وعسلاً أبيض وموزاً وخبزاً وأتى به إليه فلما نظر النصراني إلى ذلك قال: يا مولاي هذا شيء كثير يكفي عشرة رجال وأنا وحدي فلعلك تأكل معي فقال له: كل وحدك فإني شبعان فقال له: يا مولاي قالت الحكماء: من لم يأكل مع ضيفه فهو ولد زنا. فلما سمع علي شار من النصراني هذا الكلام جلس وأكل معه شيئاً قليلاً وأراد أن يرفع يده وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار جلس وأكل معه شيئاً قليلاً وأراد أن يرفع يده فأخذ النصراني موزة وقشرها وشقها نصفين وجعل في نصفها بنجاً مكرراً ممزوجاً بأفيون الدرهم منه يرمي الفيل، ثم غمس نصف الموزة في العسل وقال: يا مولاي وحق دينك أن تأخذ هذه فاستحى علي شار أن يحنثه في يمينه فأخذها منه وابتلعها فما استقرت في بطنه، حتى سبقت رأسه رجليه وصار كأنه له سنة وهو راقد.
فلما رأى النصراني ذلك قام على قدميه كأنه ذئب معط أو قضاء مسلط وأخذ منه مفتاح القاعة وتركه مرمياً وذهب يجري إلى أخيه وأخبره بالخبر وسبب ذلك أن أخا النصراني هو الشيخ الهرم الذي أراد أن يشتريها بألف دينار فلم ترض به وهجته بالشعر وكان كافراً في الباطن ومسلماً في الظاهر وسمى نفسه رشيد الدين ولما هجته ولم ترض به شكا إلى أخيه النصراني الذي تحيل في أخذها من سيدها علي شار وكان اسمه برسوم. فقال له: لا تحزن فأنا أتحيل لك أخذها بلا درهم ولا دينار لأنه كان كاهناً ماكراً مخادعاً فاجراً ثم إنه لم يزل يمكر ويتحيل حتى عمل الحيلة التي ذكرناها وأخذ المفتاح وذهب إلى أخيه وأخبره بما حصل وركب بغلته وأخذ غلمانه وتوجه مع أخيه إلى بيت علي شار وأخذ معه كيساً فيه ألف دينار إذا صادفه الوالي فيعطيه إياه ففتح القاعة وهجمت الرجال الذين معه على زمرد وأخذوها قهراً وهددوها بالقتل إن تكلمت وتركوا المنزل على حاله ولم يأخذوا منه شيئاً وتركوا علي شار راقداً في الدهليز ثم ردوا الباب عليه وتركوا مفتاح القاعة في جانبه ومضى بها النصراني إلى قصره ووضعها بين جواريه وسراريه وقال لها: يا فاجرة أنا الشيخ الذي ما رضيت به وهجوتيني وقد أخذتك بلا درهم ولا دينار.
فقالت له وقد تغرغرت عيناها بالدموع: حسبك الله يا شيخ السوء حيث فرقت بيني وبين سيدي فقال لها: يا فاجرة يا عشاقة سوف تنظرين ما أفعل بك من العذاب وحق المسيح والعذراء إن لم تطاوعيني وتدخلي في ديني لأعذبنك بأنواع العذاب فقالت له: لو قطعت لحمي قطعاً ما أفارق دين الإسلام ولعل الله تعالى يأتيني بالفرج القريب إنه على ما يشاء قدير وقد قالت العقلاء: مصيبة في الأبدان ولا مصيبة في الأديان.
فعند ذلك صاح على الخدم والجواري وقال لهم: اطرحوها فطرحوها وما زال يضربها ضرباً عنيفاً وصارت تستغيث فلا تغاث ثم أعرضت عن الإستغاثة وصارت تقول: حسبي الله وكفى إلى أن انقطع نفسها وخفي أنينها واشتفى قلبه منها ثم قال للخدم: اسحبوها من رجليها وارموها في المطبخ ولا تطعموها شيئاً ثم بات الملعون تلك الليلة ولما أصبح الصباح طلبها وكرر عليها الضرب وأمر الخدم أن يرموها في مكانها ففعلوا فلما رد عليها الضرب قالت: لا إله إلا الله محمد رسول الله حسبي الله ونعم الوكيل ثم اسغاثت بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زمرد استغاثت بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذا ما كان من أمرها وأما ما كان علي شار فإنه لم يزل راقداً إلى ثاني يوم ثم طار البنج من رأسه ففتح عينيه وصاح قائلاً: يا زمرد فلم يجبه أحد فدخل القاعة فوجد الجو قفراً والمزار بعيداً فعلم أنه ما جرى عليه هذا الأمر إلا من النصراني فحن وبكى وأن واشتكى وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
يا وجد لا تبقى عـلـي ولا تـذر             ها مهجتي بين المشقة والخطـر
يا سادتي رقوا لـعـبـدٍ ذل فـي              شرع الهوى وغني قوم افتـقـر
ما حيلة الرامي إذا التقت الـعـدا           وأراد يرمي السهم فانقطع الوتـر
وإذا تكاثرت الهموم على الفـتـى                    وتراكمت أين المفر من الـقـدر
ولكم أحاذر من تفرق شـمـلـنـا            ولكن إذا نزل القضاء عمي البصر

وندم حيث لا ينفعه الندم وبكى ومزق أثوابه وأخذ بيديه حجرين ودار حول المدينة وصار يدق بهما في صدره ويصيح قائلاً: يا زمرد فدارت الصغار حوله وقالوا مجنون فكل من عرفه بكى عليه ويقول هذا فلان ما الذي جرى له ولم يزل على هذه الحالة إلى آخر النهار فلما جن عليه الليل نام في بعض الأزقة إلى الصباح ثم أصبح دائراً بالأحجار حول المدينة إلى آخر النهار وبعد ذلك رجع إلى قاعته ليبيت فيها فنظرته جارية وكانت امرأة عجوز من أهل الخير فقالت له: يا ولدي سلامتك متى جننت فأجابها بهذين البيتين:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهـم                   ما لذ العيش إلا للـمـجـانـين
دعوا جنوني وهاتوا من جننت بـه                 إن كان يشفي جنوني ولا تلوموني

فعلمت الجارية العجوز أنه عاشق مفارق فقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يا ولدي أشتهي منك أن تحكي خبر مصيبتك عسى الله أن يقدرني على مساعدتك عليها بمشيئتة فحكى لها جميع ما وقع له مع برسوم النصراني أخي الكاهن الذي سمى نفسه رشيد الدين فلما علمت ذلك قالت له: يا ولدي إنك معذور ثم أفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:
كفى المحبين في الدنيا عذابهم            تالله لا عذبتهم بعدها سقـر
لأنهم هلكوا عشقاً وقد كتموا              مع العفاف بهذا يشهد الخبر

فلما فرغت من شعرها قالت له: يا ولدي قم واشتر قفصاً مثل أقفاص أهل الصاغة واشتر أساور وخواتم وحلقاً يصلح للنساء ولا تبخل بالمال وضع جميع ذلك في القفص وهات القفص وأنا أضعه على رأسي في صورة دلالة وأدور وأفتش عليها في البيوت حتى أقع على خبرها إن شاء الله تعالى.
ففرح علي شار بكلامها وقبل يدها ثم ذهب بسرعة وأتى بما طلبته فلما حضر ذلك عندها قامت ولبست مرقعة ووضعت على رأسها آزاراً عسلياً وأخذت في يدها عكازاً وحملت القفص ودارت في العطف والبيوت ولم تزل دائرة من مكان إلى مكان ومن حارة إلى حارة ومن درب إلى درب إلى أن دلها الله تعالى على قصر الملعون رشيد الدين النصراني فسمعت من داخله أنيناً فطرقت الباب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز سمعت من داخل البيت أنيناً فنزلت لها جارية ففتحت لها الباب وسلمت عليها فقالت لها العجوز: معي هذه الحويجات للبيع هل عندكم من يشتري منها شيئاً فقالت لها الجارية: نعم ثم أدخلتها الدار وأجلستها وجلس الجواري حولها وأخذت كل واحدة شيئاً منها وصارت العجوز تلاطف الجواري وتتساهل معهن في الثمن ففرح بها الجواري بسبب معروفها ولين كلامها وهي تتأمل من جهات المكان على صاحب الأنين فلاحت منها التفاتة إليها فحابتهم وأحسنت إليهم وتأملت فوجدت زمرد مطروحة فعرفتها فبكت وقالت لهم: يا أولادي ما بال هذه الصبية في هذا الحال? فحكى الجواري كل القصة وقلن لها: الأمر ليس باختيارنا ولكن سيدنا أمر بهذا وهو مسافر الآن، فقالت لهم: يا أولادي لي عندكم حاجة وهي أنكم تحلون هذه المسكينة من الرباط إلى أن تعلموا بمجيء سيدكم فتربطوها كما كانت وتكسبوا الأجر من رب العالمين فقلن لها: سمعاً وطاعة ثم إنهم حلوها وأطعموها وسقوها، ثم قالت العجوز: يا ليت رجلي انكسرت ولا دخلت لكم. وبعد ذلك ذهبت إلى زمرد وقالت لها: يا ابنتي سلامتك سيفرج الله عنك ثم ذكرت لها إنها من عند سيدها علي شار وواعدتها أنها في ليلة غد تكون حاضرة وتلقي سمعها للحس وقالت لها: إن سيدك ياتي إليك تحت مصطبة القصر ويصفر لك فإذا سمعت ذلك فانزلي له من الطاقة بحبل وهو يأخذك ويمضي فشكرتها على ذلك. ثم خرجت العجوز وذهبت إلى علي شار وأعلمته وقالت له: توجه في الليلة القابلة نصف الليل إلى الحارة الفلانية فإن بيت الملعون هناك وعلامته كذا وكذا فقف تحت قصره وصفر فإنها تتدلى إليك فخذها وامضِ بها إلى حيث شئت، فشكرها على ذلك، ثم إنه صبرإلى أن جن الليل وجاء وقت الميعاد فذهب إلى تلك الحارة التي وصفتها له جارته ورأى القصر فعرفه وجلس على مصطبة تحته وغلبه النوم فنام وجل من لا ينام، واكن له مدة لم ينم من الوجد الذي به، فبينما هو نائم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه بينما هو نائم وإذا بلص من اللصوص خرج تلك الليلة في أطراف المدينة ليسرق شيئاً فرمته المقادير تحت قصر ذلك النصراني فدار حوله فلم يجد سبيلاً إلى الصعود إليه فرأى علي شار نائماً فأخذ عمامته وبعد أن أخذها لم يشعر إلا وزمرد طلعت في ذلك الوقت فرأته واقفاً في الظلام فحسبته سيدها فصفرت له فصفر لها الحرامي فتدلت بالحبل وصحبتها خرج ملآن ذهباً، فلما رآه اللص قال في نفسه: ما هذا إلا أمر عجيب له سبب غريب.
ثم حمل الخرج وحملها على أكتافه وذهب بهما مثل البرق الخاطف فقالت له: العجوز أخبرتني أنك ضعيف بسببي وها أنت أقوى من الفرس فلم يرد عليها جواباً فحسبت على وجهه فوجدت لحيته مثل مقشة الحمام وكأنه خنزيراً ابتلع ريشاً فطلع زغبه من حلقه ففزعت منه وقالت له: أي شيء أنت فقال لها: يا عاقرة أنا جوان الكردي من جماعة أحمد الدنف ونحن أربعون شاطراً وكلهم في هذه الليلة يفسقون في رحمك من العشاء إلى الصباح.
فلما سنعت كلامه بكت ولطمت وجهها وعلمت أن القضاء غلب عليها وأنه لا حيلة إلا التفويض إلى الله تعالى، فصبرت وسلمت الحكم إلى الله تعالى وقالت: لا إله إلا الله كلما خلصنا من هم وقعنا في هم أكبر، وكان السبب في مجيء جوان إلى هذا المحل أنه قال لأحمد الدنف: يا شاطر أنا دخلت هذه المدينة قبل الآن وأعرف فيها غاراً خارج البلد يسع أربعين نفساً وأنا أريد أن أسبقكم إليه وأخلي أمي من ذلك الغار ثم أعود إلى المدينة وأسرق منها شيئاً على بختكم وأحفظه على اسمكم إلى أن تحضروا فتكون ضيافتكم في هذا النهار من عندي.
فقال له أحمد الدنف: افعل ما تريد فخرج قبلهم وسبقهم إلى ذلك المحل ووضع أمه في ذلك الغار، ولما خرج من الغار رأى جندياً راقداً وعنده فرس مربوط فذبحه وأخذ فرسه وسلاحه وثيابه وأخفاها في الغار عند أمه وربط الحصان هناك ثم رجع إلى المدينة ومشى حتى وصل إلى قصر النصراني وفعل ما تقدم ذكره من أخذ زمرد الجارية، ولم يزل يجري بها إلى أن حطها عند أمه وقال لها: احتفظي عليها إلى حين أعود إليك في بكرة النهار ثم ذهب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن جوان الكردي قال لأمه: احتفظي عليها حتى أرجع إليك في بكرة النهار ثم ذهب فقالت زمرد في نفسها: وما هذه القفلة عن خلاص روحي بالحيلة كيف أصبر إلى أن يجيء هؤلاء الأربعون رجلاً فيتعاقبون علي حتى يجعلوني كالمركب الغريقة في البحر ثم إنها التفتت إلى العجوز أم جوان وقالت لها: يا خالتي أما تقومين بنا إلى الخارج حتى أفليك في الشمس فقالت: أي والله يا ابنتي فإن لي مدة وأنا بعيدة عن الحمام لأن هؤلاء الخنازير لم يزالوا دائرين بي من مكان إلى مكان فخرجت معها فصارت تفليها وتقتل القمل من رأسها إلى أن استلذت بذلك ورقدت فقامت زمرد ولبست ثياب الجندي الذي قتله جوان الكردي وشدت سيفه في وسطها وتعممت بعمامته حتى صارت كأنها رجل وركبت الفرس وأخذت الخرج الذهب معها وقالت: يا جميل الستر استرني بجاه محمد صلى الله عليه وسلم ثم إنها قالت في نفسها: إن رحت إلى البلد ربما يراني أحداً من أهل الجندي فلا يحصل لي خير ثم اعرضت عن دخول المدينة وسارت في البر الأقفر، ولم تزل سائرة بالخروج والفرس وتأكل من نبات الأرض وتطعم الفرس منه وتشرب وتعقبها من الأنهار مدة عشرة أيام وفي اليوم الحادي عشر أقبلت على مدينة طيبة أمينة بالخير مكينة قد ولى عنها فصل الربيع بزهره وورده فزهت أزهارها وتدفقت أنهارها وغردت أطيارها فلما وصلت إلى المدينة وقربت من بابها وجدت العساكر والأمراء وأكابر أهل المدينة كلهم مجتمعون ببابها ولا بد لذلك من سبب. ثم إنها قصدتهم فلما قربت منهم تسابق العساكر وترجلوا وقبلوا الأرض بين يديها وقالوا: الله ينصرك يا مولانا السلطان واصطفت بين يديها أرباب المناصب العساكر يرتبون الناس ويقولون لها: الله ينصرك، ويجعل قدومك مباركاً على المسلمين يا سلطان العالمين تبتك الله يا ملك الزمان يا فريد العصر والأوان فقالت لهم زمرد: ما خبركم يا أهل هذه المدينة? فقال الحاجب: إنه أعطاك من لا يبخل بالعطاء وجعلك سلطاناً على هذه المدينة وحاكماً على رقاب جميع من فيها واعلم أن عادة أهل هذه المدينة إذا مات ملكهم ولم يكن له ولد تخرج العساكر إلى ظاهر المدينة ويمكثون ثلاثة أيام فأي إنسان جاء من طريقك التي جئت منها يجعلونه سلطاناً عليهم والحمد لله الذي ساق لنا إنساناً من أولاد الترك جميل الوجه فلو طلع علينا أقل منك كان سلطاناً وكانت زمرد صاحبة رأي في جميع أفعالها فقالت: لا تحسبوا أنني من أولاد عامة الأتراك بل أنا من أولاد الأكابر لكنني غضبت من أهلي فخرجت من عندهم وتركتهم وانظروا إلى هذا الخرج الذهب الذي جئت به تحتي لأتصدق منه على الفقراء والمساكين طول الطريق فدعاو لها وفرحوا بها غاية الفرح وكذلك زمرد فرحت بهم، ثم قالت في نفسها بعد أن وصلت إلى هذا الأمر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زمرد قالت في نفسها: بعد أن وصلت إلى هذا الأمر لعل الله يجمعني بسيدي في هذا المكان إنه على ما يشاء قدير، ثم سارت العسكر حتى دخلوا المدينة وترجل العسكر بين يديها حتى أدخلوها القصر فنزلت وأخذها الأمراء والأكابر من تحت إبطيها حتى أجلسوها على الكرسي وقبلوا الأرض بين يديها.
فلما جلست على كرسي الحكم أمرت بفتح الخزائن ففتحت وأنفقت على جميع العسكر فدعوا لها بدوام الملك وأطاعها العباد وسائر أهل البلاد واستمرت على ذلك مدة من الزمان وهي تأمر وقد صار لها في قلوب الناس هيبة عظيمة من أجل الكرم والعفة وأبطلت المكوس وأطلقت من في الحبوس ورفعت المظالم فأحبها جميع الناس وكلما تذكرت سيدها تبكي وتدعو الله أن يجمع بينها وبينه واتفق أنها تذكرته في بعض الليالي وتذكرت أيامها التي مضت لها معه لإ فأفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:
شوقي إليك على الزمان جديد             والدمع قرح مقلتـي ويزيد
وإذا بكيت من ألم الـجـوى                 إن الفراق على المحب شديد
فلما فرغت من شعرها مسحت دموعها وطلعت القصر ودخلت الحريم وأفردت للجواري والسراري منازل ورتبت لهن الرواتب والجرايات وزعمت أنها تريد أن تجلس في مكان وحدها عاكفة على العبادة وصارت تصوم وتصلي حتى قالت الأمراء: إن هذا السلطان له ديانة عظيمة.
ثم إنها لم تدع عندها أحداً من الخدم غير طواشين صغيرين لأجل الخدمة وجلست في تخت الملك سنة وهي لم تسمع بسيدها خبراً ولم تقف له على أثر فقلقت من ذلك، فلما اشتد قلقها دعت بالوزراء والحجاب وامرتهم أن يحضروا لها المهندسين والبنائين وأن يبنوا لها تحت القصر ميداناً طوله فرسخ وعرضه فرسخ ففعلوا ما أمرتهم به في أسرع وقت فجاء الميدان على طبق مرادها، فلما تم ذلك الميدان نزلت فيه وضربت لها فيه قبة عظيمة وصفت فيه كراسي الأمراء وأمرت أن يمدوا سماطاً من سائر الأطعمة الفاخرة في ذلك الميدان ففعلوا ما أمرتهم به ثم أمرت أرباب الدولة أن يأكلوا ثم قالت للأمراء: أريد إذا هل الشهر الجديد أن تفعلوا هكذا وتنادوا في المدينة لا يفتح أحد دكانه بل يحضرون جميعاً ويأكلون من سماط الملك، وكل من خالف منهم يشنق على باب داره.
فلما هل الشهر الجديد فعلوا ما أمرتهم به واستمروا على هذه العادة إلى أن هل أول شهر من السنة الثانية فنزلت إلى الميدان ونادى المنادي يا معشر الناس كافة كل من فتح دكانه أو حاصله أو منزله شنق في الحال على باب دكانه بل يجب عليكم أن تحضروا جميعاً لتأكلوا من سماط الملك، فلما فرغت المناداة ووضع السماط جاءت الخلق أفواجاً أفواجاً، فأمرتهم بالجلوس على السماط ليأكلوا حتى يشبعوا من سائر الألوان فجلسوا يأكلون كما أمرتهم على كرسي المملكة تنظر إليهم فصار كل من جلس على السماط يقول في نفسه: إن الملك لا ينظر إلا إلي، وجلسوا يأكلون وصار الأمراء يقولون للناس كلوا ولا تستحوا فإن الملك يحب ذلك فأكلوا حتى شبعوا وانصرفوا داعين للملك وصار بعضهم يقول لبعض عمرنا ما رأينا سلطاناً يحب الفقراء، مثل هذا السلطان ودعوا له بطول البقاء وذهبت إلى قصرها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة زمرد ذهبت إلى قصرها وهي فرحانة بما رتبته وقالت في نفسها: إن شاء الله تعالى بسبب ذلك أقع على خبر سيدي علي شار ولما هل الشهر الثاني فعلت ذلك الأمر على جري العادة ووضعوا السماط ونزلت زمرد وجلست على كرسيها وأمرت الناس أن يجلسوا ويأكلوا فبينما هي جالسة على رأس السماط والناس يجلسون عليه جماعة بعد جماعة وواحد بعد واحد إذ وقعت عينها على برسوم النصراني، الذي كان اشترى الستر من سيدها فعرفته فصاحت على بعض الجند وقالت له: هاتوا هذا الذي قدامه الصحن الأرز الحلو ولا تدعوه يأكل اللقمة التي في يده بل ارموها من يده فجاء أربعة من العساكر وسحبوه على وجهه بعد أن رموا اللقمة من يده وأوقفوه قدام زمرد فامتنعت الناس عن الأكل وقال بعضهم لبعض: والله إنه ظالم لأنه لم يأكل من طعام أمثاله فقال واحد: أنا قنعت بهذا الكشك الذي قدامي فقال الحشاش: الحمد لله الذي منعني من أن آكل من الصحن الأرز الحلو شيئاً لأني كنت أنتظر أن يستقر قدامه ويتهنى عليه ثم آكل معه فحصل له ما رأينا.
فقال الناس لبعضهم: اصبروا حتى ننظر ما يجري عليه فلما قدموه بين يدي الملكة زمرد، قالت له: ويلك يا أزرق العينين ما اسمك وما سبب قدومك إلى بلادنا فأنكر الملعون وكان متعمماً بعمامة بيضاء فقال: يا ملك اسمي على صنعتي حباك وجئت إلى المدينة من أجل التجارة فقالت زمرد: ائتوني بتخت زمل وقلم نحاس فجاؤوا بما طلبته في الحال فأخذت التخت الرمل والقلم وضربت تخت رمل وخطت بالقلم صورة مثل صورة قرد ثم بعد ذلك رفعت رأسها وتأملت برسوم ساعة زمانية وقالت له: يا كلب كيف تكذب على الملوك، أما أنت نصراني واسمك برسوم وقد أتيت إلى حاجة تفتش عليها فأصدقني الخبر وإلا وعزة الربوبية لأضربن عنقك فتلجلج النصراني. فقال الأمراء والحاضرون: إن هذا الملك يعرف ضرب الرمل سبحان من أعطاه ثم صاحت على النصراني وقالت له: أصدقني الخبر وإلا أهلكتك فقال النصراني: العفو يا ملك الزمان إنك صادق في ضرب الرمل فأنا نصراني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن النصراني قال: العفو يا ملك الزمان إنك صادق في ضرب الرمل فأنا نصراني. فتعجب الحاضرون من الأمراء وغيرهم من إصابة الملك في ضرب الرمل وقالوا إن هذا الملك منجم ما في الدنيا مثله، ثم إن الملكة أمرت بأن يسلخ النصراني ويحشى جلده تبناً ويعلق على باب الميدان وأن يحفروا حفرة في خارج البلد ويحرق فيها لحمه وعظمه وترمى عليه الأوساخ والأقذار، فقالوا ك سمعاً وطاعة، وفعلوا ما أمرتهم به.
فلما نظر الخلق ما حل بالنصراني قالوا: جزاؤه ما حل به فما كان أشأمها لقمة عليه فقال واحد منهم: على البعيد الطلاق عمري ما بقيت آكل أرز حلو فقال الحشاش: الحمد لله الذي عافاني مما حل بهذا حيث حفظني من أكل ذلك الأرز، ثم خرج الناس جميعهم وقد حرموا الجلوس على الأرز الحلو في موضع ذلك النصراني ولما كان الشهر الثالث مدوا السماط على جري العادة وهم خائفون وقعدت الملكة زمرد على الكرسي ووقف العسكر على جري العادة وهم خائفون من سطوتها ودخلت الناس من أهل المدينة على العادة وداروا حول السماط إلى موضع الصحن.
فقال واحد منهم للآخر: يا حج خلف قال له: لبيك يا حج خالد قال: تجنب الصحن الأرز الحلو واحذر أن تأكل منه وإن أكلت منه تصبح مشنوقاً ثم إنهم جلسوا حول السماط للأكل فبينما هم يأكلون والملكة زمرد جالسة إذ حانت منها التفاتة إلى رجل يهرول من باب المدينة فتأملته فوجدته جوان الكردي اللص الذي قتل الجندي وسبب مجيئه أنه كان ترك أمه ومضى إلى رفقائه وقال لهم: إني كسبت البارحة طيباً وقتلت جندياً وأخذت فرسه وحصل لي في تلك الليلة خرج ملآن ذهباً وصبية قيمتها أكثر من الذهب الذي في الخرج ووضعت جميع ذلك في الغار عند والدتي ففرحوا بذلك وتوجهوا إلى الغار في النهار ودخل جوان الكردي قدامهم وهم خلفه وأراد أن يأتي لهم بما قال لهم فوجد المكان قفراً فسأل أمه عن حقيقة الأمر فأخبرته بجميع ما جرى فعض على كفيه ندماً وقال: والله لأدورن على هذه الفاجرة وآخذها من المكان الذي هي فيه ولو كانت في قشور الفستق وأشفي غليلي منها. وخرج يفتش عليها، ولم يزل دائراً في البلاد حتى وصل إلى مدينة الملكة زمردة.
فلما دخل المدينة لم يجد فيها احد، فسأل بعض النساء الناظرات من الشبابيك فأعلمنه أن أول كل شهر يمد السلطان سماطاً وتروح الناس وتأكل منه ودلوه على الميدان الذي فيه السماط فجاء وهو يهرول فلم يجد مكاناً خالياً يجلس فيه إلا عند الصحن المتقدم ذكره فقعد وصار الصحن قدامه، فمد يده إليه فصاحت عليه الناس وقالوا له: يا أخانا ما تريد أن تعمل قال: أريد أن آكل من هذا الصحن حتى أشبع، فقال له واحد: إن أكلت تصبح مشنوقاً. فقال له: اسكت ولا تنطق بهذا الكلام، ثم مد يده إلى الصحن وجره قدامه وكان الحشاش المتقدم ذكره جالساً في جنبه فلما رآه جر الصحن قدامه هرب من مكانه وطارت الحشيشة من رأسه وجلس بعيداً وقال أنا مالي حاجة بهذا الصحن إن الكردي مد يده إلى الصحن وهي في صورة رجل الغراب وغرف بها وأطلعها منه وهي مثل خف الجمل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جوان الكردي أطلع يده من الصحن وهي مثل خف الجمل ودور اللقمة في كفه حتى صارت مثل النارنجة الكبيرة، ثم رماها في فمه بسرعة فانحدرت في حلقه ولها فرقعة مثل الرعد وبان قعر الصحن من موضعها، فقال له من بجانبه: الحمد لله الذي لم يجعلني طعاماً بين يديك لأنك خسفت الصحن بلقمة واحدة فقال الحشاش: دعوه يأكل فإني تخيلت فيه صورة المشنوق. ثم التفت إليه وقال له: لا هنأك الله، فمد يده إلى اللقمة الثانية وأراد أن يدورها في يده مثل اللقمة الأولى وإذا بالملكة صاحت على بعض الجند وقالت لهم: هاتوا ذلك الرجل بسرعة ولا تدعوه يأكل اللقمة التي في يده فتجارت عليه العسكر وهو مكب على الصحن وقبضوا عليه وأخذوه قدام الملكة زمرد فشمتت الناس فيه وقالوا لبعضهم: إنه يستاهل لأننا نصحناه فلم ينتصح وهذا المكان مشؤوم على كل من يأكل منه ثم إن الملكة زمرد قالت له: ما اسمك وما صنعتك وما سبب مجيئك مدينتنا قال: يا مولانا السلطان اسمي عثمان وصنعتي خولي بستان وسبب مجيئي إلى هذه المدينة أنني دائراً أفتش على شيء ضاع مني.
فقالت الملكة: علي بتخت الرمل فأحضروه بين يديها، فأخذت القلم وضربت تخت رمل ثم تأملت فيه ساعة وبعد ذلك رفعت رأسها وقالت له: ويلك يا خبيث كيف تكذب على الملوك هذا الرمل يخبرني أن اسمك جوان الكردي وصنعتك أنك لص تأخذ أموال الناس بالباطل وتقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ثم صاحت عليه وقالت: يا خنزير أصدقني بخبرك وإلا قطعت رأسك فلما سمع كلامها اصفر لونه واصطكت أسنانه وظن أنه إن نطق بالحق ينجو فقال: صدقت أيها الملك ولكنني أتوب على يديك من الآن وأرجع إلى الله تعالى.
فقالت له الملكة: لا يحل لي أن أترك آفة في طريق المسلمين، ثم قالت لبعض أتباعها: خذوه واسلخوا جلده وافعلوا به مثل ما فعلتم بنظيره في الشهر الماضي وفعلوا ما امرتهم به ولما رأى الحشاش العسكر حين قبضوا على ذلك الرجل أدار ظهره إلى ذلك الصحن الأرز وقال: إن استقبالك بوجهي حرام ولما فرغوا من الأكل تفرقوا وذهبوا إلى أماكنهم وطلعت الملكة إلى قصرها وأذنت للماليك بالإنصراف، ولما هل الشهر الرابع نزلوا إلى الميدان على جري العادة وأحضروا الطعام وجلس الناس ينتظرون الإذن وإذا بالملكة قد أقبلت وجلست على الكرسي وهي تنظر إليهم فوجدت موضع صحن الأرز خالياً وهو يسع أربعة أنفس فتعجبت من ذلك فبينما هي تجول بنظرها إذ حانت منها التفاتة فنظرت إنساناً داخلاً من باب الميدان يهرول حتى وقف على السماط فلم يجد مكاناً خالياً إلا عند الصحن فتأملته فوجدته الملعون النصراني الذي سمى نفسه رشيد الدين فقالت في نفسها: ما أبرك هذا الطعام الذي وقع في حبائله هذا الكافر وكان لمجيئه سبب عجيب وهو أنه لما رجع من سفره. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملعون الذي سمى نفسه رشيد الدين لما رجع من سفره أخبره أهل بيته أن زمرد قد فقدت ومعها خرج مال فلما سمع ذلك الخبر شق أثوابه ولطم على وجهه ونتف لحيته وأرسل أخاه برسوماً يفتش في البلاد. فما أبطأ عليه خبره خرج هو بنفسه ليفتش على أخيه وعلى زمرد في البلاد فرمته المقادير إلى مدينة زمرد ودخل تلك المدينة في أول يوم من الشهر. فلما مشى في شوارعها وجدها خالية ودكاكينها مقفولة ونظر النساء مطلات من النوافذ، فسأل بعضهن عن هذا الحال فقلن له: إن الملك يعمل سماطاً لجميع الناس في أول كل شهر وتأكل منه الخلق جميعاً وما يقدر أحد أن يجلس في بيته ولا في دكانه ودلوه على الميدان فلما دخل الميدان وجد الناس مزدحمين على الطعام ولم يجد موضعاً إلا الموضع الذي فيه الصحن الأرز المعهود فجلس فيه ومد يده ليأكل فصاحت الملكة على بعض العسكر وقالت لهم: هاتوا الذي قعد على الصحن الأرز فعرفوه بالعادة وقبضوا عليه وأوقفوه قدام الملكة زمرد فقالت له: ويلك ما اسمك وما صنعتك وما سبب مجيئك إلى مدينتنا فقال: يا ملك الزمان اسمي رستم ولا صنعة لي لأنني فقير ودرويش. فقالت لجماعتها هاتوا تخت الرمل والقلم النحاس فأتوها بما طلبته على العادة فأخذت القلم وخطت به تخت رمل ومكثت تتأمل فيه ساعة ثم رفعت رأسها إليه وقالت: يا كلب كيف تكذب على الملوك أنت اسمك رشيد الدين النصراني وصنعتك أنك تنصب الحيل لجواري المسلمين وتأخذهن وأنت مسلم في الظاهر ونصراني في الباطن فانطق الحق وإن لم تنطق بالحق فإني أضرب عنقك فتلجلج في كلامه ثم قال: صدقت يا ملك الزمان فأمرت به أن يمد على كل رجل مائة سوط وعلى جسده ألف سوط وبعد ذلك يسلخ جلده ويحشى ساساً ثم تحفر له حفرة في خارج المدينة ويحرق وبعد ذلك يضعون عليه الأوساخ والأقذار ففعلوا ما أمرتهم به ثم أذنت للناس بالأكل فأكلوا ولما فرغ الناس من الأكل وانصرفوا إلى حال سبيلهم طلعت الملكة زمرد إلى قصرها وقالت: الحمد لله الذي أراحني من الذين آذوني ثم إنها شكرت ناظر السموات والأرض وأنشدت هذه الأبيات:
تحكموا فاستطالوا في تحكمهـم           وبعد حين كان الحكم لم يكـن
لو أنصفوا أنصفوا لكن بغوا فأ            تى عليه الدهر بالآفات والمحن
فأصبحوا ولسان حالهم ينشدهـم                    هذا بذاك ولا عتب على الزمن

ولما فرغت من شعرها خطر ببالها سيدها علي شار فبكت بالدموع الغزار وبعد ذلك رجعت إلى عقلها وقالت في نفسها: لعل الله الذي مكنني من أعدائي يمن علي برجوع أحبائي فاستغفرت الله عز وجل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة استغفرت الله عز وجل وقالت لعل الله يجمع شملي بحبيبي علي شار قريباً إنه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير ثم حمدت الله ووالت الإستغفار وسلمت لمواقع الأقدار وأيقنت أنه لا بد لكل أول من آخر وأنشدت قول الشاعر:
كن حليم إذا ابتليت بغيظ                    وصبوراً إذا أتتك مصيبة
فالليالي من الزمان حبالى                   مثقلات يلدن كل عجيبة
وقول الآخر:
اصبر ففي الصبر خير لو علمت به                 لطبت نفساً ولم تجزع مـن الألـم
واعلم بأنك لو لم تصطبر كـرمـاً           صبرت رغماً على ما خط بالقلـم

فلما فرغت من شعرها مكثت بعد ذلك شهراً كاملاً وهي بالنهار تحكم بين الناس وتنهي وبالليل تبكي وتنتحب على فراق سيدها علي شار ولما هل الشهر الجديد أمرت بمد السماط في الميدان على جري العادة وجلست فوق الناس وصاروا ينتظرون الإذن في الأكل وكان موضع الصحن الأرز خالياً وجلست على رأس السماط وجعلت عينها على باب الميدان لتنظر كل من يدخل وصارت تقول في سرها: من رد يوسف على يعقوب وكشف البلاء عن أيوب أمنن علي برد سيدي علي شار بقدرتك وعظمتك إنك على كل شيء قدير يا رب العالمين فلم يتم دعاؤها إلا وشخص داخل من باب الميدان كأن قوامه غصن بان إلا أنه نحيل البدن يلوح عليه الإصفرار وهو أحسن ما يكون من الشباب كامل العقل والآداب فلما دخل لم يجد موضعاً خالياً إلا الموضع الذي عند الصحن الأرز فجلس فيه ولما رأته زمرد خفق قلبها فحققت النظر فيه فتبين أنه سيدها علي شار فأرادت أن تصرخ من الفرح فثبتت نفسها وخشيت من الفضيحة بين الناس ولكن تقلقلت أحشاؤها واضطرب قلبه فكتمت ما بها وكان السبب في مجيء علي شار لما انه رقد على المصطبة ونزلت زمرد وأخذها جوان الكردي استيقظ بعد ذلك فوجد نفسه مكشوف الرأس فعرف أن إنساناً تعدى عليه وأخذ عمامته وهو نائم فقال الكلمة التي لا يخجل قائلها وهي إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إنه رجع إلى العجوز التي كانت أخبرته بمكان زمرد وطرق عليها الباب فخرجت إليه فبكى بين يديها حتى وقع مغشياً عليه فلما أفاق أخبرها ما حصل له فلامته وعنفته هلى ما وقع منه وقالت له: إن مصيبتك وداهيتك من نفسك ولا زالت تلومه حتى طفح الدم من منخريه ووقع مغشياً عليه فلما أفاق من غشيته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار لما افاق من غشيته رأى العجوز تبكي من أجله وتفيض دمع العين فتضجر وأنشد هذين البيتين:
ما أمر الفراق للأحبـاب            وألذ الوصال للعـشـاق
جمع الله شمل كل محـب                   ورعاني لأنني في اشتياق

فحزنت عليه العجوز وقالت: يا ولدي هذا الذي أنت فيه من الكآبة والحزن لا يرد عليك محبوبتك فقم وشد حيلك وفتش عليها في البلاد لعلك أن تقع على خبرها.
ولم تزل تجلده وتقويه حتى نشطته وأدخلته الحمام وسقته الشراب وأطعمته الدجاج وصارت كل يوم تفعل معه كذلك مدة شهر حتى نقوى وسافر، ولم يزل مسافراً إلى أن وصل إلى مدينة زمرد ودخل الميدان وجلس على الطعام ومد يده ليأكل فحزن عليه الناس وقالوا له: يا شاب لا تأكل من هذا الصحن لأن من أكل منه يحصل له ضرر، فقال ك دعوني آكل منه ويفعلون بي ما يريدون لعلي أستريح من هذه الحياة المتعبة، ثم أكل أول لقمة وأرادت زمرد أن تحضره بين يديها فخطر ببالها أنه جائع فقالت في نفسها: المناسب اني أدعه يأكل حتى يشبع فصار يأكل والخلق باهتون ينتظرون الذي يجري له.
فلما أكل وشبع قالت لبعض الطواشية: امضوا إلى ذلك الشاب الذي يأكل من الأرز وهاتوه برفق وقولوا له كلم الملك لسؤال لطيف وجواب، فقالوا: سمعاً وطاعة، ثم ذهبوا إليه إليه حتى وقفوا قباله وقالوا له: يا سيدي تفضل كلم الملك وأنت منشرح الصدر فقال: سمعاً وطاعة، ثم مضى الطواشية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار قال: سمعاً وطاعة، ثم ذهب مع الطواشية فقال الخلق لبعضهم: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا ترى لم الذي يفعله به الملك? فقال بعضهم: لا يفعل به إلا الخير لأنه لو كان يريد ضره ما كان تركه حتى يشبع، فلما وقف قدام زمرد سلم عليها وقبل الأرض بين يديها فردت عليه السلام وقابلته بالإكرام وقالت له: ما اسمك وما صنعتك? وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة? 
فقال لها: اسمي علي شار وأنا من أولاد التجار وبلدي خراسان وسبب مجيئي إلى هذه المدينة التفتيش على جارية ضاعت مني وكانت عندي أعز من سمعي وبصري فروحي متعلقة من حين فقدتها وهذه قصتي، ثم بكي حتى غشي عليه فأمرت أن يرشوا على وجهه ماء الورد حتى أفاق فلما أفاق من غشيته قالت: علي بتخت الرمل والقلم النحاس فجاؤوا به فأخذت القلم وضربت تخت رمل وتأملت فيه ساعة من الزمان ثم بعد ذلك قال: صدقت في كلامك والله يجمعك بها قريباً فلا تقلق.
ثم أمرت الحاجب أن يمضي به إلى الحمام ويلبسه بدلة حسنة من ثياب الملوك ويركبه فرساً من خواً خيل الملك ويمضي به بعد ذلك إلى القصر في آخر النهار، فقال الحاجب: سمعاً وطاعة، ثم أخذه من قدامها وتوجه به فقال الناس لبعضهم: ما بال السلطان لاطف الغلام هذه الملاطفة، وقال بعضهم: أما قلت لكم لا يسيئه فإن شكله حسن ومن حين صبر عليه لما شبع عرفت ذلك وصار كل واحد منهم يقول مقالة، ثم تفرق الناس، وما صدقت زمرد أن الليل أقبل حتى تختلي بمحبوب قلبها.
فلما اتى الليل دخلت محل نومها وأظهرت أنه غلب عليها النوم ولم يكن لها عادة بأن ينام عندها أحد غير خادمين برسم الخدمة فلما استقرت في ذلك المحل أرسلت إلى محبوبها علي شار وقد جلست على السرير والشمع يضيء فوق رأسها وتحت رجليها والتعاليق الذهب مشرقة في المحل، فلما سمع الناس بإرساله إليه تعجبوا من ذلك وصار كل واحد منهم يظن ظناً ويقول مقالة، وقال بعضهم: إن الملك على كل حال تعلق بهذا الغلام وفي غد يجعله قائد عسكر.
فلما دخلوا به عليه قبل الأرض بين يديها ودعا لها فقالت في نفسها: لا بد أن أمزح معه ولا أعلمه بنفسي، ثم قالت: يا علي هل ذهبت إلى الحمام قال: نعم يا مولاي قالت: قم كل من هذا الدجاج واللحم واشرب من هذا السكر الشراب فإنك تعبان وبعد ذلك تعال هنا فقال: سمعاً وطاعة، ثم فعل ما أمرته به.
ولما فرغ من الأكل والشرب قالت له اطلع عندي على السرير واكبسني، فشرع يكبس رجليها وسيقانها فوجدها أنعم من الحرير، فقالت له: اطلع بالتكبيس إلى فوق فقال: العفو يا مولاي من عند الركبة ما أتعدى، قالت: أتخالفني فتكون ليلة مشؤومة عليك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زمرد قالت لسيدها علي شار أتخالفني فتكون ليلة مشؤومة عليك بل ينبغي لك أن تطاوعني وأنا أعملك معشوقي وأجعلك أميراً من أمرائي، فقال علي شار: يا ملك الزمان ما الذي أطيعك فيه? قالت: حل لباسك ونم على وجهك فقال: هذا شيء عمري ما فعلته وإن قهرتني على ذلك فإني أخاصمك فيه عند الله يوم القيامة، فخذ كل شيء أعطيتني إياه ودعني أروح من مدينتك، ثم بكى وانتحب.
فقالت: حل لباسك ونم على وجهك وإلا ضربت عنقك ففعل، فطلعت على ظهره فوجد شيئاً أنعم من الحرير وألين من الزبد فقال في نفسه: إن هذا الملك خير من جميع النساء، ثم إنها صبرت قليلاً وهي على ظهره وبعد ذلك انقلبت على الأرض فقال علي شار الحمد لله كأن ذكره لم ينتصب، فقالت: إن من عادة ذكري أن لا ينتصب إلا إذا عركوه بأيديهم فقم واعركه بيدك حتى ينتصب وإلا قتلتك، ثم رقدت على ظهرها وأخذت بيده ووضعتها على فرجها فوجد فرجاً أنعم من الحرير وهو أبيض مربرب يحكي في السخونة حرارة الحمام وقلب صب أضناه الغرام فقال علي شار في نفسه إن الملك له كس فهذا من العجب العجاب.
وأدركته الشهوة فصار ذكره في غاية الإنتصاب، فلما رأت منه ذلك ضحكت وقهقهت وقالت له: يا سيدي قد حصل هذا كله وما تعرفني? فقال ومن أنت أيها الملك? قال: أنا جاريتك زمرد، فلما علم ذلك قبلها وعانقها وانقض عليها مثل الأسد على الشاة وتحقق أنها جاريته بلا اشتباه فأغمد قضيبه في جرابها ولم يزل بواباً لبابها وإماماً لمحرابها وهي معه في ركوع وسجود وقيام وقعود، إلا أنها صارت تتبع التسبيحات بغنج في ضمنه حركات حتى سمع الطواشية فجاءوا ونظروا من خلف الأستار فوجدوا الملك راقداً وفوقه علي شار وهو يرصع ويزهر وهي تشخر وتغنج فقال الطواشية: إن هذا الغنج ما هو غنج رجل لعل هذا الملك امرأة، ثم كتموا أمرهم ولم يظهروه على أحد.
فلما أصبحت زمرد أرسلت إلى كامل العسكر وأرباب الدولة وأحضرتهم وقالت لهم: أنا أريد أن أسافر إلى بلد هذا الرجل فاختاروا نائباً يحكم بينكم حتى أحضر عندكم فأجابوا زمرد بالسمع والطاعة، ثم شرعت في تجهيز آلة السفر من زاد وأموال وأرزاق وتحف وبغال وسافرت، ولم تزل مسافرة إلى أن وصلت إلى بلد علي شار ودخل منزله وأعطى وتصدق ووهب ورزق منها الأولاد وعاشا في أحسن المسرات إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات. فسبحان الباقي بلا زوال والحمد لله على كل حال.

حكاية بدور بنت الجوهري مع جبير بن عمير الشيباني

ومما يحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق ليلة من الليالي وتعذر عليه النوم ولم يزل ينقلب من جنب إلى جنب لشدة أرقه فلما أعياه ذلك أحضر مسروراً وقال: يا مسرور انظر إلى من يسليني على هذا الأرق فقال له: يا مولاي هل لك أن تدخل البستان الذي في الدار وتتفرج على ما فيه من الأزهار وتنظر إلى الكواكب وحسن ترصيعها والقمر بينها مشرف على الماء قال له: يا مسرور إن نفسي لا تهفو إلى شيء من ذلك قال: يا مولاي إن في قصرك ثلاثمائة سرية لكل سرية مقصورة فأنت تأمر كل واحدة منهن أن تختلي بنفسها في مقصورتها وتدور أنت تتفرج عليهن وهن لا يدرين قال: يا مسرور القصر قصري والجواري ملكي غير أن نفسي لا تهفو إلى شيء من ذلك، قال: يا مولاي مر العلماء والحكماء والشعراء أم يحضروا بين يديك ويفيضوا في المباحث وينشدون الأشعار ويقصون عليك الأشعار ويقصون عليك الحكايات والأخبار قال: ما تهفو نفسي إلى شيء من ذلك قال: يا مولاي مر العلماء والندماء والظرفاء أن يحضروا بين يديك ويتحفوك بغريب النكات قال: يا مسرور إن نفسي ما تهفو إلى شيء من ذلك قال: يا مولاي فاضرب عنقي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والستين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور قال للخليفة: يا مولاي فاضرب عنقي لعله يزيل أرقك ويذهب القلق عنك، فضحك الرشيد وقال: يا مسرور انظر من بالباب من الندماء فخرج مسرور ثم عاد وقال: يا مولاي الذي على الباب علي بن منصور الخليع الدمشقي قال علي به فذهب وأتى به، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فرد عليه السلام وقال: يا ابن منصور حدثني بشيء من أخبارك. فقال: يا أمير المؤمنين هل أحدثك بشيء رأيته عياناً أو شيء سمعت به فقال أمير المؤمنين: إن كنت عاينت شيئاً غريباً فحدثنا به فإنه ليس الخبر كالعيان قال: يا أمير المؤمنين اجل لي سمعك وقلبك قال: يا ابن منصور هاأنا سامع لك بأذني ناظر لك بعيني مصغ لك بقلبي قال: يا أمير المؤمنين إن لي كل سنة رسماً على محمد بن سليمان الهاشمي سلطان البصرة فمضيت إليه على عادتي فلما وصلت إليه وجدته متهيئاً للركوب إلى الصيد والقنص فسلمت عليه وسلم علي وقال لي: يا ابن منصور اركب معنا إلى الصيد فقلت له: يا مولاي ما لي قدرة على الركوب فأجلسني في دار الضيافة وأوصى علي الحجاب والنواب ففعلوا. ثم توجه إلى الصيد فأكرموني غاية الإكرام وضيفوني أحسن الضيافة فقلت في نفسي: يا لله العجب إن لي مدة أقدم من بغداد إلى البصرة ولم أعرف أن في البصرة سوى من القصر إلى البستان ومتى يكون لي فرصة أنتهزها في الفرجة على جهات البصرة مثل هذه النوبة فأنا أقوم هذه الساعة وأتمشى وحدي لأتفرج وينهضم عني الأكل.
فلبست ثيابي وتمشيت في جانب البصرة ومعلومك يا أمير المؤمنين أن فيها سبعين درباً طول كل درب سبعين فرسخاً بالعراقي فتهت في أزقتها ولحقني العطش، فبينما أنا ماش يا أمير المؤمنين وإذا بباب كبير له حلقتان من النحاس الأصفر ومرخي عليه ستور من الديباج الأحمر وفي جانبه مصطبتان وفوقه مكعب لدوالي العنب وقد ظللت على ذلك الباب فوقفت أتفرج على هذا المكان، فبينما أنا واقف سمعت صوت أنين ناشيء عن قلب حزين يقلب النغمات وينشد هذه الأبيات:
جسمي غدا منزل الأسقام والمحن                  من أجل ظبي بعيد الدار والوطن
فيا نسيمي قد هيجتماه شجـنـي           بالله ربكما عرجا عن سكـنـي
وعاتباه لعل العتب يعـطـفـه
وحسناً القول إذ يصغي لقولكما           واستدرجا خبر العشاق بينكـمـا
وأولياني جميلاً من صنيعكمـا              وعرضا بي وقولاً في حديثكما
ما بال عبد بالهجران تتلفـه

فقلت في نفسي: إن كان صاحب النغمة مليحاً فقد جمع بين الملاحة وحسن الصوت ثم دنوت من الباب وجعلت أرفع الستر قليلاً قليلاً وإذا بجارية بيضاء كأنها البدر في ليلة أربعة عشر بحاجبين مقرونين وجفنين ناعسين ونهدين كرمانتين رقيقتان أقحونتان وفم كأنه خاتم سليمان ونضيد أسنان يلعب بعقل الناظم والناثر كما قال فيه الشاعر:
يا در ثغر الحبيب من نظمك                وأودع الراح والأقاح فمك
ومن أعار الصباح مبتسمـك               ومن بقفل العقيق قد ختمك
أصبح من قد رآك من طرب                يتيه عجباً فكيف من لثمـك

وبالجملة قد حازت أنواع الجمال وصارت فتنة للنساء والرجال لا يشبع من رؤية حسنها الناظر وهي كما قال فيها الشاعر:
إن أقبلت قتلت وإن هي أدبرت             جعلت جميع الناس من عشاقها
شمسـية بـدرية لـكـنـهـا                    ليس الجفا والصد من أخلاقها

فبينما أنا انظر إليها من خلال الستارة وإذا هي التفتت فرأتني واقفاً على الباب فقالت لجاريتها: انظري من بالباب فقامت الجارية وأتت إلي وقالت: يا شيخ أليس عندك حياء وعيب فقلت لها: يا سيدتي أما الشيب فقد عرفناه وأما العيب فما أظن أني أتيت بعيب، فقالت سيدتها: وأي عيب أكثر من تهجمك على دار غيرك ونظرك إلى حريم غير حريمك، فقلت لها: يا سيدتي لي عذر في ذلك فقالت: وما عذرك فقلت لها: إني رجل غريب عطشان وقد قتلني العطش فقالت قبلنا عذرك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: قبلنا عذرك ثم نادت بعض جواريها وقالت: يا لطف اسقيه شربة بالكوز الذهب فجاءتني بكوزمن الذهب الأحمر مرصع بالد والجوهر ملآن ماء ممزوج بالمسك الأذفر وهو مغطى بمنديل من الحرير الأخضر فجعلت أشرب وأطيل في شربي وانا سارق النظر إليها حتى طال وقوفي ثم رددت الكوز على الجارية ووقفت فقالت: يا شيخ امض إلى حال سبيلك فقلت لها: يا سيدتي أنا مشغول الفكر فقالت: فبم? فقلت: في تقلب الزمان وتصرف الحدثان، قالت: يحق لك لأن الزمان ذو عجائب ولكن ما الذي رأيته من عجائبه حتى تفكر فيه فقلت لها: أفكر في صاحب هذا الدار لأنه كان صديقي في حال حياته فقالت لي: ما اسمه فقلت: محمد بن علي الجوهري وكان ذا مال جزيل فهل خلف أولاداً فقالت: نعم بنتاً يقال لها: بدور وقد ورثت أمواله جميعها فقلت لها: كأنك ابنته قالت: نعم وضحكت ثم قالت: يا شيخ قد أطلت الخطاب فاذهب إلى حال سبيلك فقلت لها: لا بد من الذهاب ولكني أرى محاسنك متغيرة فأخبريني بشأنك لعل الله يجعل لك على يدي فرجاً فقالت لي: يا شيخ إن كنت من أهل الأسرار كشفنا لك سرنا فأخبرني من أنت حتى أعرفك هل أنت محل للسر أولا، فقد قال الشاعر:
لا يكتم السر إلا كـل ذي ثـقة               والسر عند خيار الناس مكتـوم
قد صنت سري في بيت له غلق           وقد ضاع مفتاحه والبيت مختوم

فقلت لها: يا سيدتي إن كان قصدك أن تعلمي من أنا فأنا علي بن منصور والخليع الدمشقي نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد، فلما سمعت باسمي نزلت من على كرسيها وسلمت علي وقالت لي: مرحباً بك يا ابن منصور والآن أخبرك بحالي وأستأمنك على سري: أنا عاشقة مفارقة فقلت: يا سيدتي أنت مليحة ولا تعشقين إلا كل مليح فمن الذي تعشقينه قالت: أعشق جبير بن عمير الشيباني أمير بني شيبان وقد وصفت لي شاباً لم يكن بالبصرة أحسن منه فقلت لها: يا سيدتي هل جرى بينكما مواصلة أو مراسلة? قالت: نعم إلا أنه قد عشنا باللسان لا بالقلب والجنان لأنه لم يوف بوعد ولم يحافظ لي على عهد فقلت لها: يا سيدتي وما سبب الفراق بينكما قالت: سببه إني كنت يوماً جالسة وجاريتي هذه تسرح شعري فلما فرغت من تسريحه جدلت ذوائبي فأعجبها حسني وجمالي فطأطأت علي وقبلت خدي وكان في ذلك الوقت داخلاً على غفلة فرأى ذلك فلما رأى الجارية تقبل خدي ولى من وقته غضبان عازماً على دوام البين وأنشدت هذين البيتين:
إذا كان لي فيمن أحب مشـارك             تركت الذي أهوى وعشت وحيدا
فلا خير في المعشوق إن كان في الهوى                    لغير الذي يرضى الـمـحـب مـزيدا

ومن حين ولى معرضاً إلى الآن لم يأتنا من عنده كتاب ولا جواب يا ابن منصور فقلت لها: فما تريدين قالت: أريد أن أرسل إليه معك كتاباً فإن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمائة دينار وإن لم تأتني بجوابه فلك حق مشيك مائة دينار فقلت لها: افعلي ما بدا لك فقالت: سمعاً وطاعة ثم نادت بعض جواريها وقالت: آتيني بدواة وقرطاس فأتتها بدواة وقرطاس فكتبت هذه الأبيات:
حبيبي ما هذا التبـاعـد والـقـلا             فأين التغاضي بيننا والتـعـطـف
وما لك بالهجران عني معـرضـاً           فما وجهك الوجه الذي كنت أعرف
نعم نقل الواشون عـنـي بـاطـلاً            فملت لما قالوا فزادوا وأسـرفـوا
فإن تك قد صدقتهم في حـديثـهـم                   فحاشاك من هـذا ورأيك أعـرف
بعيشك قل لي ما الذي قد سمعـت                   فإنك تدري ما يقال وتـنـصـف
فإن كان قولاً صح أنـي قـلـتـه             فللقول تأويل وللقـول مـصـرف
وهب أنه قول من الـلـه مـنـزل            فقد بدل التوراة قـوم وحـرفـوا
وبالزور قد قيل في الناس قبـلـنـا                   فها عند يعقـوب تـلـوم يوسـف
وهاأنا والواشي وأنـت جـمـيعـاً           يكون لنا يوم عـظـيم مـوقـف

ثم بعد ذلك ختمت الكتاب وناولتني إياه فأخذته ومضيت إلى دار جبير بن عمير الشيباني فوجدته في الصيد فجلست أنتظره فبينما أنا جالس وإذا به قد أقبل من الصيد فلما رأيته يا أمير المؤمنين على فرسه ذهل عقلي من حسنه وجماله فالتفت فرآني جالساً بباب داره فلما رآني نزل عن جواده وأتى إلى واعتنقني وسلم علي فخيل لي أني اعتنقت الدنيا وما فيها ثم دخل بي إلى داره وأجلسني على فراشه وأمر بتقديم مائدة من الخولنج الخراساني وقوائمها من الذهب عليها جميع الأطعمة وأنواع اللحم من مقلي ومشوي وما أشبه ذلك، فلما جلست على المائدة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي بن منصور قال لما جلست على مائدة جبير بن عمير الشيباني قال: مد يدك إلى طعامنا واجبر خاطرنا بأكل زادنا فقلت له: والله ما آكل من طعامك لقمة واحدة حتى تقضي حاجتي قال: فما حاجتك? فأخرجت إليه الكتاب فلما قرأه وفهم ما فيه مزقه ورماه في الأرض وقال لي: يا ابن منصور مهما كان ذلك من الحوائج قضيناه إلا هذه الحاجة التي تتعلق بصاحبة هذا الكتاب فإن كتابها ليس له عندنا جواب فقمت من عنده غضبان فتعلق بأذيالي وقال: يا ابن منصور أنا أخبرك بالذي قالته لك وإن لم أكن حاضراً معكما فقلت: ما الذي قالته? قال: أما قالت لك صاحبة هذا الكتاب أن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمائة دينار وإن لم تأتني بجوابه فلك حق مشيتك مائة دينار قلت: نعم قال: اجلس عندي اليوم وكل واشرب وتلذذ واطرب وخذ لك خمسمائة دينار فجلست عنده وأكلت وشربت وتلذذت وطربت وسامرته ثم قلت: يا سيدي ما في دارك سماع قال لي: إن لنا مدة نشرب من غير سماع ثم نادى بعض جواريه وقال: يا شجرة الدر فأجابته جارية من مقصورتها ومعها عود من صنع الهنود ملفوف في كيس من الإبريسم ثم جاءت وجلست ووضعته في حجرها وضربت عليه إحدى وعشرين طريقة ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
من لم يذق حلو الهوى مع مـره                    لم يدر وصل حبيبه من هجـره
وكذاك من قد حاد عن سنن الهوى                 لم يدر سهل طريقه من وعـره
مازلت معترضاً على أهل الهوى                    حتى بليت بـحـلـوه وبـمـره
شربت كأس مراره متـجـرعـاً              وخضعت فيه لعبـده ولـحـره
وكم ليلة بات الحبيب منـادمـي             ورشفت حلو رضابه من ثغـره
ما كان أقصر عمر ليل وصالنـا            قد جاء وقت عشائه مع فجـره
نذر الزمان بأن يفرق شمـلـنـا             والآن قد أوفى الزمان بـنـذره
حكم الزمان فلا مرد لحـكـمـه              من ذا يعارض سيداً في أمـره

فلما فرغت الجارية من شعرها صرخ بها سيدها صرخة عظيمة ووقع مغشياً عليه فقالت الجارية: لا آخذك الله يا شيخ، إن لنا مدة نشرب بلا سماع مخافة على سيدنا من مثل هذه الصرعة ولكن اذهب إلى المقصورة ونم فيها فتوجهت إلى المقصورة التي أشارت إليها ونمت فيها إلى الصباح وإذا أنا بغلام أتاني ومعه كيس فيه خمسمائة دينار وقال: هذا الذي وعدك به سيدي ولكنك لا تعد إلى هذه الجارية التي أرسلتك وكأنك ما سمعت بهذا الخبر ولا سمعنا فقلت: سمعاً وطاعة.
ثم أخذت الكيس ومضيت إلى حال سبيلي وقلت في نفسي: إن الجارية في انتظاري من أمس والله لا بد أن أرجع إليها وأخبرها بما جرى بيني وبينه لأنني إن لم أعد إليها فربما تشتمني وتشتم كل من طلع من بلادي فمضيت إليها فوجدتها واقفة فلما رأتني قالت: يا ابن منصور إنك ما قضيت لي حاجة، فقلت لها: من أعلمك بهذا فقالت: يا ابن منصور إن معي مكاشفة أخرى وهو أنك لما ناولته الورقة مزقها ورماها وقال لك: يا ابن منصور مهما كان لك من الحوائج قضيناه لك إلا حاجة صاحبة هذه الورقة فإنها ليس لها عندي جواب فقمت أنت من عنده مغضباً فتعلق بأذيالك وقال: يا ابن منصور اجلس عندي اليوم فإنك ضيفي فكل واشرب وتلذذ واطرب، وخذ لك خمسمائة دينار فجلست عنده وأكلت وشربت وتلذذت وطربت وسامرته وغنت الجارية بالصوت الفلاني والصوت الفلاني فوقع مغشياً عليه فقلت لها يا أمير المؤمنين: هل أنت معنا فقالت لي: يا ابن منصور أما سمعت قول الشاعر:
قلوب العاشقين لها عيون                  ترى ما لا يراه الناظرون

ولكن يا ابن منصور ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلا وغيراه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: يا ابن منصور ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلا غيراه ثم رفعت طرفها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي ومولاي كما بليتني بمحبة جبير بن عمير أن تبليه بمحبتي وأن تنقل المحبة من قلبي إلى قلبه.
ثم إنها أعطتني مائة دينار حق طريقي فأخذتها ومضيت إلى سلطان البصرة فوجدته قد جاء من الصيد فأخذت رسمي منه ورجعت إلى بغداد، فلما أقبلت السنة الثانية توجهت إلى مدينة البصرة لأطلب رسمي على عادتي ودفع السلطان إلي رسمي ولما أردت الرجوع إلى بغداد تفكرت في نفسي أمر الجارية بدور وقلت مر أمر: والله لا بد أن أذهب إليها وأنظر ما جرى بينها وبين صاحبها فجئت دارها فرأيت على بابه كنساً ورشاً وخدماً وحشماً وغلماناً فقلت لعل الجارية طفح الهم على قلبها فماتت ونزل في دارها أمير من الأمراء فتركتها ورجعت إلى دار جبير بن عمير الشيباني فوجدت مصاطبها قد هدمت ولم أجده على باب داره وجعلت أفيض العبرات وأندبه بهذه الأبيات:
يا سادة رحلوا والقلب يتـبـعـهـم                    عودوا تعد لي اعيادي بـعـودكـم
وقفت في دراكم أنعي مساكنـكـم                    والدمع يدفق والأجفان تلـتـطـم
أسائل الـدار والأطـلال بـاكـية              أين الذي كان منه الجود والنـعـم
اقصد سبيلك فالأحباب قد رحـلـوا                   من الربوع وتحت الترب قد ردموا
لا أوحش الله من رؤيا محاسنـهـم                  طولاً ولا عرضاً ولا غابت لهم شيم

فبينما أنا أندب أهل هذه الدار بهذه الأبيات يا أمير المؤمنين وإذا بعبد أسود قد خرج إلي من الدار فقال: يا شيخ اسكت ثكلتك أمك ما لي أراك ندب هذه الدار بهذه الأبيات فقلت له: إني كنت أعهدها لصديق من أصدقائي فقال: وما اسمه? فقلت: جبير بن عمير الشيباني قال: وأي شيء جرى له الحمد لله هاهو على حاله من الغنى والسعادة والملك لكن ابتلاه بمحبة جارية يقال لها السيدة بدور وهو في محبتها مغور من شدة الوجد والتبريح فهو كالحجر الجلمود والطريح فإن جاع لا يقول لهم أطعموني وإن عطش لا يقول اسقوني فقلت: استأذن لي في الدخول عليه. فقال: يا سيدي أتدخل على من لا يفهم فقلت: لا بد أن أدخل إليه على كل حال مستأذناً ثم عاد إلي آذناً فدخلت عليه فوجدته كالحجر الطريح لا يفهم بإشارة ولا بصريح وكلمته فلم يكلمني فقال لي بعض أتباعه: يا سيدي إن كنت تحفظ شيئاً من الشعر فأنشده إياه وارفع صوتك به فإنه ينتبه لذلك ويخاطبك فأنشدت هذين البيتين: 
أسلوت حب بدور أم تتجـلـد                وسهرت ليلك أم جفونك ترقد
إن كان دمعك سائلاً مهمـولة              فاعلم بأنك في الجنان مخلـد

فلما سمع هذا الشعر فتح عينيه وقال: مرحباً يا ابن منصور قد صار الهزل جداً فقلت له: يا سيدي ألك بي حاجة، قال: نعم أريد أن اكتب إليها ورقة وارسلها معك فإن تأتيني بجوابها فلك علي ألف دينار وإن لم تأتني بجوابها فلك علي حق مشيتك مائة دينار فقال له: افعل ما بدا لك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن منصور قال فقلت له: افعل ما بدا لك فنادى بعض جواريه وقال ائتيني بدواة وقرطاس فأتته بما طلبه فكتب هذه الأبيات:
سألتكم بالله يا سـادتـي مـهـلاً              علي فإن الحب لم يبق لي عقـلا
تمكن مني حـبـكـم وهـواكـم               فألبسني سقمـاً وأورثـنـي ذلا
لقد كنت قبل اليوم أستصغر الهوى                 وأحسبه يا سادتي هينـاً سـهـلا
فلما أراني الحب أمواج بـحـره            رجعت لحكم الله أعذر من يبلـى
فإن شئتم أن ترحموني بوصلكـم                    وإن شئتم قتلي فلا تنسوا الفضلا

ثم ختم الكتاب وناولني إياه فأخذته ومضيت به إلى دار بدور وجعلت أرفع الستر قليلاً قليلاً على العادة وإذا بعشر جوار نهد أبكار كأنهن الأقمار والسيدة بدور جالسة في وسطهن كأنها البدر في وسط النجوم أو الشمس إذا دخلت علي الغيوم وليس بها ألم ولا وجع فبينما أنا أنظر إليها وأتعجب من هذا الحال إذ لاحت بها التفاتة لي فرأتني واقفاً بالباب فقالت لي: أهلاً وسهلاً بك يا ابن منصور ادخل فدخلت وسلمت عليها وناولتها الورقة فلما قرأتها وفهمت ما فيها ضحكت وقالت يا ابن منصور ما كذب الشاعر حيث قال:
فلأصبرن على هواك تجلداً                 حتى يجيء إلي منك رسول

يا ابن منصور هاأنا أكتب لك جواباً حتى يعطيك الذي وعدك به فقلت لها: جزاك الله خيراً فنادت بعض جورايها وقالت: آتيني بدواة وقرطاس فلما أتتها بما طلبت كتبت إليه هذه الأبيات:
ما لي وفيت بعهدكم فغـدرتـم              ورأيتموني منصفاً فظلمـتـم
باديتموني بالقطيعة والـجـفـا               وغدرتم والغدر باد مـنـكـم
ما زلت أحفظ في البرية عهدكم            وأصون عرضكم وأحلف عنكم
حتى رأيت بناظري ما ساءنـي             وسمعت أخبار القبائح عنـكـم
أيهون قدري حين أرفع قدركم             والله لو أكرمتم لـكـرمـتـم
فلأصرفن القلب عنكم سـلـوة              ولأنفضن يدي يأساً مـنـكـم

فقلت لها: والله يا سيدتي أنه ما يقرأ هذه الأبيات إلا وتفارق روحه من جسده فقالت لي: يا ابن منصور بلغ بي الوجد إلى ها الحد حتى قلت ما قلت فقلت لها: لو قلت أكثر من ذلك الحق لك ولكن العفو من شيم الكرام فلما سمعت كلامي تغرغرت عيناها بالدموع وكتبت إليه رقعة يا أميرالمؤمنين ما في ديوانك من يحسن أن يكتب مثلها وكتبت فيها هذه الأبيات:
إلى كم ذا الدلال وذا التجنـي               شفيت وحقك الحساد منـي
لعلي قد أسأت ولسـت أدري               فقل لي ما الذي بلغت عني
مرادي لو وضعتك يا حبيبي               مكان النوم من عيني وجفني
شربت كؤوس حبك مترعات               فأن تراني سكرت فلا تلمني
فلما فرغت من كتابة المكتوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بدور لما فرغت من كتابة المكتوب وختمته ناولتني إياه فقلت لها: يا سيدتي إن هذه الرقعة تداوي العليل وتشفي الغليل ثم أخذت المكتوب فنادتني بعدما خرجت من عندها وقالت لي: يا ابن منصور قل له: إنها في هذه الليلة ضيفتك ففرحت أنا بذلك ومضيت بالكتاب إلى جبير بن عمير.
فلما دخلت عليه وجدت عينه شاخصة إلى الباب ينتظر الجواب، فلما ناولته الورقة فتحها وقراها وفهم معناها فصاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق قال: يا ابن منصور هل كتبت هذه الرقعة بيدها ولمستها بأناملها قلت: يا سيدي وهل الناس يكتبون بأرجلهم فوالله يا أمير المؤمنين ما استتم كلامي أنا وإياه إلا وقد سمعنا شن خلاخلها في الدهليز وهي داخلة، فلما رآها قام على أقدامه كأنه لم يكن به ألم قط وعانقها عناق اللام للألف وزالت عنه علته التي لا تنصرف.
ثم جلس ولم تجلس هي فقلت لها: يا سيدتي لأي شيء لم تجلسي، قالت: يا ابن منصور لا أجلس إلا بالشرط الذي بيننا فقلت لها: وما ذلك الشرط الذي بينكما قالت: إن العشاق لا يطلع أحد على أسرارهم، ثم وضعت فمها على أذنه وقالت له كلاماً سراً فقال: سمعاً وطاعة، ثم قام جبير ووشوش بعض عبيده فغاب العبد ساعة ثم أتى ومعه قاض وشاهدان فقام جبير وأتى بكيس فيه مائة ألف دينار وقال: أيها القاضي اعقد عقدي على هذه الصبية بهذا المبلغ.
فقال لها القاضي:قولي رضيت بذلك فقالت: رضيت بذلك، فعقدوا العقد ثم فتجت الكيس وملأت يدها منه وأعطت القاضي والشهود ثم ناولته بقية الكيس فانصرف القاضي والشهود وقعدت أنا وإياها في بسط وانشراح إلى أن مضى من الليل أكثره فقلت في نفسي إنهما عاشقان مضت عليهما مدة من الزمان وهما متهاجران، فأنا أقوم في هذه الساعة لأنام في مكان بعيد عنهما وأتركهما يختليان ببعضهما، ثم قمت فتعلقت بأذيالي وقالت: ما الذي حدثتك به? فقلت ما هو كذا وكذا فقالت: اجلس فإذا أردنا انصرافك صرفناك فجلست معهما إلى أن قرب الصبح فقالت: يا ابن منصور امض إلى تلك المقصورة لأننا فرشناها لك وهي محل نومك فقمت ونمت إلى الصباح فلما أصبحت جاءني غلام بطشت وإبريق فتوضأت وصليت الصبح ثم جلست فبينما أنا جالس وإذا بجبير ومحبوبته خرجا من حمام الدار وكل منهما يعصر ذوائبه فصبحت عليهما وهنيتهما بالسلامة وجمع الشمل، ثم قلت له: الذي أوله شرط آخره رضا فقال لي: صدقت وقد وجب لك الإكرام، ثم نادى خازنداره وقال له ائتني بثلاثة آلاف دينار فأتاه بكيس فيه ثلاثة آلف دينار. فقال لي: تفضل علينا بقبول فقلت له: لا أقبله حتى تحكي سبب انتقال المحبة منها إليك بعد ذلك الصد العظيم قال: سمعاً وطاعة اعلم أن عندنا عيداً يقال له عيد النواريز، يخرج الناس فيه وينزلون في الزورق ويتفرجون في البحر فخرجت أتفرج أنا وأصحابي فرأيت زورقاً فيه عشر جوار كأنهن الأقمار والسيدة بدور وعودها معها فضربت عليه إحدى عشر طريقة ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأنشدت هذين البيتين:
النار أبرد مـن نـيران أحـشـائي            والصخر أليم من قلبي لمـولاتـي
إني لأعجب من تألف خـلـقـتـه             قلب من الصخر في جسم من الماء

فقلت لها: أعيدي البيتين والطريقة فما رضيت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جبير قال لها: أعيدي البيتين فما رضيت فأمرت التونية أن يرجموها فرجموها بالنارنج حتى خشيت الغرق على الزورق الذي هي فيه ثم مضت إلى حال سبيلها وهذا سبب انتقال المحجبة من قلبها إلى قلبي فهنأتهما بجمع الشمل وأخذت الكيس بما فيه وتوجهت إلى بغداد. فانشرح صدر الخليفة وزال عنه ما كان يجده من الأرق وضيق الصدر.

حكاية الجواري المختلفة الألوان وما وقع بينهن من المحاورة

ومما يحكى أن أمير المؤمنين المأمون جلس يوماً من الأيام في قصره وأحضر رؤساء دولته وأكابر مملكته جميعاً وكذلك أحضر الشعراء والندماء بين يديه، وكان من جملة ندمائه نديم يسمى محمد البصري فالتفت إليه المأمون وقال له: يا محمد أريد منك في هذه الساعة أن تحدثني بشيء ما سمعته قط. قال له: يا أمير المؤمنين تريد أحدثك بحديث سمعته بأذني أو بأمر عاينته ببصري فقال المأمون: حدثني يا محمد بالأغرب منهما، فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان في الأيام الماضية رجل من أرباب النعم وكان موطنه باليمن، ثم إنه ارتحل من اليمن إلى مدينة بغداد هذه فطاب له مسكنها فنقل أهله وماله وعياله وكان له ست جوار كانهن الأقمار الأولى بيضاء والثانية سمراء والثالثة سمينة والرابعة هزيلة والخامسة صفراء والسادسة سوداء وكن حسان الوجوه كاملات الأدب عارفات بصناعة الغناء وآلات الطرب، فاتفق أنه أحضر هؤلاء الجواري بين يديه يوماً من الأيام وطلب الطعام والمدام فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ثم ملأ الكأس وأخذه في ديه وأشار للجارية البيضاء وقال لها: يا وجه الهلال أسمعينا من لذيذ المقال فأخذت العود وأصلحته ورجعت عليه الألحان حتى رقص المكان ثم أطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
لي حبيب خياله نصب عيني                واسمه في جوارحي مكنون
إن تذكرته فكلـي قـلـوب                    أو تأملته فكـلـي عـيون
قال لي عاذلي أتسلو هـواه                 قلت ما لا يكون كيف يكون
يا عاذلي امض عني ودعني               لا تهون على ما لا يهـون

فطرب مولاهن وشرب قدحه وسقى الجواري ثم ملأ الكأس وأخذه في يده وأشار إلى الجارية وقال لها: يا نورالمقباس وطيبة الأنفاس أسمعينا صوتك الحسن الذي من سمعه افتتن فأخذت العود ورجعت عليه اللحان حتى طرب المكان وأخذت القلوب باللفتات وأنشدت هذه الأبيات:
وحياة وجهك لا أحب سواكا               حتى أموت ولا أخون هواكا
يا بدر تم بالجميل مبرقـعـاً                  كل الملاح تسير تحت لواكا
أنت الذي فقت الملاح لطافة                والله رب العالمين حبـاكـا

فطرب مولاهن وشرب كأسه وسقى الجواري ثم ملأ القدح وأخذه في يده واشار إلى الجارية السمينة وأمرها بالغناء وتقليب الأهواء فأخذت العود وضربت عليه ضرباً يذهب الحسرات وأنشدت هذه الأبيات:
إن صح منك الرضا يا من هو الطلب               فلا أبالي بكل الناس إن غضـبـوا
وإن تبدي محياك الـجـمـيل فـلـم                    أعبأ بكل ملوك الأرض إن حجبـوا
قصدي رضاك من الدنيا بأجمعـهـا                  يا من إليه جميع الحسن ينـتـسـب

فطرب مولاهن وأخذ الكأس وسقى الجواري، ثم ملأالكأس واخذه بيده وأشار إلى الجارية الهزيلة وقال: يا حوراء الجنان أسمعينا الألفاظ الحسان فأخذت العود وأصلحته ورجعت عليه الألحان وأنشدت هذين البيتين:
ألا في سبيل الله ما حل بي منكما                   بصدكما حيث لا أصبر عنكمـا
إلا حاكم في الحب يحكم بينـنـا             فيأخذ لي حقي وينصفني منكما
فطرب مولاهن وشرب القدح وأخذت بيده وأشار إلى الجارية الصفراء وقال: يا شمس أسمعينا من لطيف الأشعار، فأخذت العود عليه أحسن الضربات وأنشدت هذه الأبيات:
لي حبيب إذا ظهرت إلـيه                   سل سيفاً علي من مقلتـيه
أخذ الله بعض حقي مـنـه                   إذ جفاني ومهجتي في يديه
كلما قالت يا فؤادي دعـه                   لا يميل الفـؤاد إلا إلـيه
هو سؤلي من الأنام ولكـن                 حسدتني عين الزمان عليه

فطرب مولاهن وشرب وسقى الجواري، ثم ملأ الكأس وأخذه في يده وأشار إلى الجارية السوداء وقال: يا سوداء العينين أسمعينا ولو كلمتين فأخذت العود وأصلحته وشدت أوتاره وضربت عليه عدة ضربات ثم رجعت إلى الطريقة الأولى وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
ألا يا عين بالعبرات جـودي                فوجدي قد عدمت به وجودي
أكابد كل وجدي من حـبـيب                ألفت به ويشمت بي حسودي
وتمنعني العـواذل ورد خـد                ولي قلب يحن إلى الـورود
لقد دارت هناك كؤوس راع                بأفراح لذي ضرب وعـود
ووافاني الحبيب فهمت فـيه                وأشرق بالوفا نجم السعـود
تصدى للصدود بغير ذنـب                 وهل شيء أمر من الصدود
وفي وجناتـه ورد جـنـي                   فيا لله مـن ورد الـخـدود
فلو أن السجود يحل شرعـاً                لغير الله كان له سجـودي

ثم بعد ذلك قامت الجواري وقبلن الأرض بين يدي مولاهن وقلن له: أنصف بيننا يا سيدنا، فنظر مولاهن إلى حسنهن وجمالهن واختلاف ألوانهن فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال لهن: ما منكن إلا وقد قرأت القرآن وتعلمت الألحان وعرفت أخبار المتقدمين واطلعت على سير الأمم الماضيين وقد اشتهيت أن تقوم كل واحدة منكن وتشير بيدها إلى ضرتها يعني تشير البيضاء إلى السوداء والسمينة إلى الهزيلة والصفراء إلى السوداء وتمدح كل واحدة منكن نفسها وتذم ضرتها ثم تقوم ضرتها وتفعل معها مثلها ولكن يكون ذلك بدليل من القرآن الشريف وشيء من الأخبار والأشعار لننظر أدبكن وحسن ألفاظكن، فقلن سمعاً وطاعة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرجل اليمني قالت له جواريه: سمعاً وطاعة، ثم قامت أولاهن وهي البيضاء وأشارت إلى السوداء وقالت لها: ويحك يا سوداء، قد ورد أن البياض قال أنا النور اللامع أنا البدر الطالع لوني ظاهر وفي حسني قال الشاعر:
بيضاء مصقولة الخدين نـاعـمة                    كأنها لؤلؤة في الحسن مكنـون
فقدها ألف يزهو ومبسـمـهـا               ميم وحاجبها من فـوقـه نـون
كأن ألحاظها نبل وحـاجـبـهـا               قوس على أنه بالموت مقـرون
بالخد والقد إن تبدو فوجنـتـهـا           ورد وآس وريحان ونـسـرين
والغصن يعهد في البستان مغرسة                 وغصن قدك كم فيه بـسـاتـين

فلوني مثل النهار الهني والزهر الجني والكوكب الدري، وقد قال الله في كتابه العزيز لنبيه موسى عليه السلام: وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء، وقال الله تعالى: وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون، فلوني آية وجمالي غاية وحسني نهاية وعلى مثلي يحسن الملبوس وإليه تميل النفوس، وفي البياض فضائل كثيرة منها أن الثلج ينزل من السماء وقد ورد أن أحسن الألوان البياض، ويفتخر المسلمون بالعمائم البيض، ولو ذهبت أذكر ما فيه من المديح لطال الشرح ولكن ما قل وكفى خير مما كثر وما وفى، وسوف أبتدي بذمك يا سوداء يا لون المداد وهباب الحداد ووجه الغراب المفرق بين الأحباب، وفي المثل يقول القائل: كيف يوجد أسود عاقل.
فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية فقد أسرفت، ثم أشار إلى السوداء فقامت وأشارت إلى البيضاء وقالت: أما علمت أنه ورد في القرآن المنزل على نبي الله المرسل قوله تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، ولولا أن الليل أجل لما أقسم الله به وقدمه على النهار وقبلته أولو البصائر والأبصار، أما علمت أن السواد زينة الشباب، فإذا نزل المشيب ذهبت اللذات أوقات الممات ولو لم يكن أجل الأشياء ما جعله الله في حبة القلب والناظر، وام أحسن قول الشاعر:
لم أعشق السمر إلا من حيازتـهـم                  لون الشباب وحب القلب والحـدق
ولا سلوت بياض البيض عن غلـط                  إني من المشيب والأكفان في فرق
وقول الآخر:
السمر دون البيض هـم           أولى بعشقـي وأحـق
السمر في لون اللمـى             و البيض في لون البهق
وقول الآخر:
سوداء بيضاء الفعال كأنـهـا               مثل العيون تحص بالأضواء
أنا إن جننت بحبها لا تعجبـوا              أصل الجنون يكون بالسوداء
فكأن لوني في الدياجي غيهب             لولاه ما قمر أتى بـضـياء

وأيضاً فلا يحسن اجتماع الأحباب إلا بالليل فيكفيك هذا الفضل والنيل فما ستر الأحباب عن الواشين واللوام مثل سواد الظلام، ولا خوفهم من الإفتضاح مثل بياض الصبح، فكم للسواد من مآثر وما أحسن قول الشاعر:
أزورهم وسواد الليل يشفع لـي           وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وقول الآخر:
وكم ليلة بات الحبيب مؤانسني            وقد سترتنا من دجـاه ذوائب
فلما بدا نور الصباح أخافني               فقلت له إن المجوس كواذب

ولو ذهبت أذكر في السواد من المدح لطال الشرح ولكن ما قل وكفى خير مما كثر وما وفى وأما أنت يا بيضاء فلونك لون البرص ووصالك من الغصص وقد ورد أن البرد والزمهرير في جهنم لعذاب أهل النكير ومن فضيلة السواد أن منه المواد الذي يكتب به كلام الله ولولا سواد المسك والعنبرما كان الطيب يحمل للملوك ولا يذكر وكم من للسواد من مفاخر وما أحسن قول الشاعر:
ألم تر أن المسك يعظم قـدره               وإن بياض الجير حمل بدرهم
وغن بياض العين يقبح بالفتى             وإن سواد العين يرمي بأسهم

فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست ثم أشار إلى السمينة فقامت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اليمني سيد الجواري أشار إلى الجارية السمينة فقامت وأشارت بيدها إلى الهزيلة وكشفت سيقانها ومعاصمها وكشفت عن بطنها فبانت طياته وظهر تدوير سرتها ثم لبست قميصاً رفيعاً فبان منه جميع بدنها وقالت: الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي وسمنني وشبهني بالأغصان وزاد من حسني وبهجتي فله الحمد على ما أولاني وشرفني في كتابه العزيز فقال تعالى: وجاء بعجل سمين وجعلني كالبستان المشتمل على خوخ ورمان واهل المدن يشتهونالطير السمين فيأكلون منه ولا يحبون طيراً هزيلاً وبنو آدم يشتهون اللحم السمين ويأكلونه وكم للسمن من مفاخر وما أحسن قول الشاعر:
ودع حبيبك إن الركب مرتحل              وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
كأن مشيتها في بيت جارتهـا               مشي السمينة عيب ولا ملل

وما رأيت أحداً يقف على الجزار إلا ويطلبمنه اللحم السمين وقالت الحكماء اللذة في ثلاثة أشياء أكل اللحم والركوب على اللحم ودخول اللحم في اللحم وأما أنت يا رفيعة فسيقانك كسيقان العصفور ومحراك التنور وأنت خشبة المسلوب ولحم المعيوب وليس فيك شيء يسر الخاطر كما قال فيك الشاعر:
أعوذ بالله من أشياء تحوجـنـي            إلى مضاجعة كالدلك بالمسـد
في كل عضو لها قرن يناطحني           عند المنام فأمسي وهي الجلـد

فقال لها سيدها اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست ثم أشار إلى الهزيلة فقامت كأنها غصن بان أو قضيب خيزران أو عود ريحان وقالت: الحمد لله الذي خلقني فأحسنني وجعل وصلي غاية المطلوب وشبهني بالغصن الذي تميل إليه القلوب فإن قمت خفيفة وإن جلست جلست ظريفة فأنا خفيفة الروح عند المزاح طيبة النفس من الإرتياح وما رأيت أحداً يصف حبيبه فقال حبيب قدر الفيل ولا مثل الجبل العريض الطويل وإنما حبيبي له قد أهيف وقوام مهفهف فاليسير من الطعام يكفيني والقليل من الماء يرويني نفسي خفيف ومزاجي ظريف فأنا أنشط من العصفور وأخف حركة من الزرزور ووصلي منية الراغب ونزهة الطالب وأنا ملية القوام حسنة الإبتسام كأني غصن بان أو قضيب خيزران أو عود ريحان وليس لي في الجمال مماثل كما قال في الشاعر:

شبهت قدك بالـقـضـيب            وجعلت شكلك من نصيبي
وغدوت خلفـك هـائمـاً             خوفاً عليك من الرقـيب

وفي مثلي تهيم العشاق ويتوله المشتاق وإن جذبني حبيبي انجذبت إليه وإن استمالني ملت له لا عليه وها أنت يا سمينة البدن فإن أكلك أكل للفيل ولا يشبعك كثير ولا قليل وعند الإجتماع لا يستريح معك خليل ولا يوجد لراحته معك سبيل فكبر بطنك يمنعه من جماعك وعند التمكن من فرجك يمنعه من غلظ أفخاذك أي شيء في غلظك من الملاحة أو في فظاظتك من اللطف والسماحة ولا يليق باللحم السمين غير الذبح وليس فيه شيء من موجبات المدح إن مازحك أحد غضبت وإن لاعبك حزنت فإن غنجت شخرت وإن مشيت لهثت وإن أكلت ما شبعت وأنت أثقل من الجبال وأقبح من الخيال والوبال مالك حركة ولا فيك بركة وليس لك شغل إلا الأكل والنوم وإن بلت شرشرت وإن تغوطت بطبطت كأنك زق منفوخ أو فيل ممسوخ إن دخلت بيت الخلاء تريدين من يغسل لك فرجك وينتف من فوقه شعرك وهذا غاية الكسل وعنوانه الخبل وبالجملة ليس فيك شيء من المفاخر وقد قال الشاعر:
ثقيلة مثل زق البول منتفـخ                أو راكبها كعواميد من الجبل
إذا مشت في بلاد العرب أو خطرت                 سرى إلى الشرق ما تبدى من الهبل

فقال لها سيدها: احلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست ثم أشار إلى الصفراء فقامت على قدميها وحمدت الله تعالى واتت عليه بالصلاة والسلام على خيار خلقه لديه ثم أشارت بيدها إلى السمراء وقالت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية الصفراء قامت على قدميها فحمدت الله تعالى وأثنت عليه ثم أشارت بيدها إلى السمراء وقالت لها: أنا المنعوت في القرآن ووصف لوني الرحمن وفضله على سائر الألوان بقوله تعالى في كتابه المبين صفراء فاقع لونها يسر الناظرين فلوني آية وجمالي غاية وحسني نهاية لأن لوني لون الدينار ولون النجوم والأقمار ولون التفاح وشكلي شكل الملاح ولون الزعفران يزهو على سائر الألوان فشكلي غريب ولوني عجيب وأنا ناعمة البدن غالية الثمن وقد حويت من كل معنى حسن ولوني في الوجود مثل الذهب الإبريز وكم من مآثر وفي مثلي قال الشاعر:
لها اصفرار كلون الشمس مبتهج                   وكالدنانير في حسن من النظـر
ما الزعفران تحاكي بعض بهجتها                  كلا ومنظرها يعلو من القـمـر

وسوف أبتدي بذمك يا سمراء اللون فإنك في لون الجاموس تشمئز عند رؤيتك النفوس إن كان لون في شيء فهو مذموم وإن كان في طعام فهو مسموم فلونك لون الذباب وفيه بشاعة الكلاب وهو محير بين الألوان ومن علامات الأحزان وما سمعت قط بذهب أسمر ولا در ولا جوهر إن دخلت الخلاء يتغير لونك وإن خرجت ازددت قبحاً على قبحك فلا أنت سوداء فتعرفي ولا أنت بيضاء فتوصفي وليس لك شيء من المآثر كما قال فيك الشاعر:
لون الهباب لون غـبـرتـهـا                 كالتراب تدهس في أقدام قصاد
فلما نظرت لها بالعين أرمقتها             إلا تزايد من همي وأنـكـادي

فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست، ثم أشار إلى السمراء وكانت ذات حسن وجمال وقد واعتدال وبهاء وكمال. لها جسم ناعم وشعر فاحم معتدلة القد موردة الخد ذات طرف كحيل وخد أسيل ووجه مليح ولسان فصيح وخصر نحيل وردف ثقيل فقالت: الحمد لله الذي خلقني لا سمينة مذمومة ولا هزيلة مهضومة ولا بيضاء كالبرق ولا صفراء كالمغص ولا سوداء بلون الهباب بل جعل لوني معشوقاً لأولي الألباب وسائر الشعراء يمدحون السمر بكل لسان ويفضلون ألوانهم على سائر الألوان، فأسمر اللون حميد الخصال، ولله در من قال:
وفي السمر معنى لو علمت بيانه                   لما نظرت عيناك بيضاً ولا حمرا
لياقة ألفـاظ وغـنـج لـواحـظ                يعلمن هاروت الكهانة والسحرا

فشكلي مليح وقدي رجيح ولوني ترغب فيه الملوك ويعشقه كل غني وصعلوك، مليحة ظريفة ناعمة البدن غالية الثمن وقد كملت في الملاحة والأدب والفصاحة مظاهري ولساني فصيح ومزاجي خفيف ولعبي ظريف وأما أنت فمثل ملوخية باب اللوق صفراء وكلها عروق فتعساً لك يا قذرة الرواس ويا صدأ النحاس وطلعة البوم وطعام الزقوم، ففضجيجك يضيق النفوس مقبور في الأرماس وليس لك في الحسن مآثر وفي مثلك قال الشاعر:
عليها اصفرار زاد من غير عـلة                    يضيق له صدري وتوجعني رأسي
إذا لم تتب نفسي فإنـنـي أذلـهـا            بلثم محياها فتقلـع أضـراسـي

فلما فرغت من شعرها قال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية، ثم بعد ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما فرغت من شعرها قال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية، ثم بعد ذلك أصلح بينهن وألبسهن الخلع السنية ونقطهن بنفيس الجواهر البرية والبحرية فما رأيت يا أمير المؤمنين في مكان ولا زمان أحسن من هؤلاء الجواري الحسان.
فلما سمع المأمون هذه الحكاية من محمد البصري أقبل عليه وقال له: يا محمد هل تعرف لهؤلاء الجواري وسيدهن محلاً وهل يمكنك أن تشتريهن لنا من سيدهن فقال له محمد: يا أمير المؤمنين قد بلغني أن سيدهن مغرم بهن ولا يمكنه مفارقتهن، فقال المأمون: خذ معك إلى سيدهن في في كل جارية عشرة آلاف دينار فيكون مبلغ ذلك الثمن ستين ألف دينار فاحملها صحبتك وتوجه إلى منزله واشترهن منه.
فأخذ محمد البصري منه ذلك القدر وتوجه، فلما وصل إلى سيد الجواري أخبره بأن أمير المؤمنين يريد اشتراءهن منه بذلك المبلغ فسمح ببيعهن لأجل خاطر أمير المؤمنين وأرسلهن إليه، فلما وصلت الجواري إلى أمير المؤمنين هيأ لهن مجلساً لطيفاً يجلس فيه معهن وينادمنه وقد تعجب من حسنهن وجمالهن واختلاف ألوانهن وحسن كلامهن وقد استمر على ذلك مدة من الزمان، ثم إن سيدهن الأول الذي باعهن لما لم يكن له صبر على فراقهن أرسل كتاباً إلى أمير المؤمنين المأمون يشكو فيه ما عنده من الصبابات ومن ضمنه هذه الأبيات:
سلبتني ست ملاح حـسـان                 فعلى الستة الملاح سلامي
هن سمعي وناظري وحياتي               وشرابي ونزهتي وطعامي
لست أسلو من حسنهن وصالاً            ذاهب بعدهن طيب منامـي
آه يا طول حسرتي وبكـائي                ليتني ما خلقت بـين الأنـام
من عيون قد زانهن جفـون                كقسي رميننـي بـسـهـام

فلما وقع الكتاب في يد المأمون كسا الجواري من الملابس الفاخرة وأعطاهن ستين ألف دينار وأرسلهن إلى سيدهن فوصلن إليه وفرح بهن غاية الفرح أكثر مما أتى إليه من المال وأقام معهن في أطيب عيش وأهنأه إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات.

حكاية وردان الجزار

ومما يحكى أنه في زمان الحاكم بأمر الله رجل بمصر يسمى وردان وكان جزاراً في اللحم الضاني، وكانت امرأة تأتيه كل يوم بدينار يقارب وزنه وزن دينارين ونصف من الدنانير المصرية وتقول له أعطني خروفاً وتحضر معها حمالاً بقفص فيأخذ الدينار ويعطيها خروفاً فيحمله الحمال وتأخذه وتروح به إلى مكانها، وفي ثاني يوم وقت الضحى تأتي، وكان ذلك الجزار يكتسب منها كل يوم ديناراً وأقامت مدة طويلة على ذلك.
فتفكر وردان الجزار ذات يوم في أمرها وقال في نفسه: هذه المرأة كل يوم تشتري مني بدينار ولم تغلط يوماً واحداً وتشتري مني بدراهم هذا أمر عجيب. ثم أن وردان سأل الحمال في غيبة المرأة فقال له: أنا في غاية العجب منها فإنها كل يوم تحملني الخروف من عندك وتشتري حوائج الطعام والفاكهة والنقل بدينار آخر وتأخذ من شخص نصراني مروقتين نبيذ وتعطيه ديناراً وتحملني الجميع وأسير معها إلى بساتين الوزير، ثم تعصب عيني بحيث أني لا أنظر موضعاً من الأرض أحط فيه قدمي وتأخذ بيدي فما أعرف أين تذهب بي ثم تقول: حط هنا، وعندها قفص آخر فتعطيني الفارغ ثم تمسك يدي وتعود بي إلى الموضع الذي شدت عيني فيه بالعصابة فتحلها وتعطيني عشرة دراهم.
فقال له الجزار: كان الله في عونها، ولكن ازداد فكراً في أمرها وكثرت عندها الوساوس وبات في قلق عظيم، ثم قال وردان الجزار: فلما أصبحت أتتني على العادة وأعطتني الدينار وأخذت الخروف وحملته للحمال وراحت فأوصيت صبي على الدكان وتبعتها بحيث لا تراني.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن وردان الجزار قال: فأوصيت صبي على الدكان وتبعتها بحيث لا تراني، ولم أزل أعاينها إلى أن خرجت من مصر وأنا أتوارى خلفها حتى وصلت إلى بساتين الوزير فاختفيت حتى عصبت عيني الحمال وتبعتها من مكان إلى مكان إلى أن أتت الجبل فوصلت إلى مكان فيه حجر كبير وحطت القفص عن الحمال فصبرت إلى أن عادت بالحمال ورجعت ونزعت جميع ما كان في القفص وغابت ساعة، فأتيت إلى ذلك الحجر فزحزحته ودخلت فوجدت خلفه طابقاً من نحاس مفتوحاً ودرجاً نازلة فنزلت في تلك الدرج قليلاً قليلاً حتى وصلت إلى دهليز كثير النور فمشيت فرأيت هيئته باب قلعة فارتكنت في زوايا في زوايا الباب فوجدت صفة بها سلالم خارج باب القاعة فتعلقت فيها فوجدت صفة صغيرة بها طاقة تشرف على قاعة فنظرت في القاعة فوجدت المرأة قد أخذت الخروف وقطعت منه مطايبه وعملته في قدر ورمت الباقي قدام دب كبير عظيم الخلقة فأكله عن آخره وهي تطبخ.
فلما فرغت أكلت كفايتها ووضعت الفاكهة والنقل وحطت النبيذ وصارت تشرب بقدح وتسقي الدب بطاسة من ذهب حتى حصل لها نشوة السكر، فنزعت ثيابها ونامت فقام الدب وواقعها وهي تعاطيه أحسن ما يكون لبني آدم حتى فرغ وجلس واستراح ولم يزل كذلك حتى فعل ذلك عشر مرات ثم وقع كل منهما مغشياً عليه وصارا لا يتحركان.
فقلت في نفسي هذا وقت انتهاز الفرصة، فنزلت ومعي سكين تبري العظم قبل اللحم فلما صرت عندهما وجدتهما لا يتحرك فيهما عرق لما حصلت لهما من المشقة فجعلت السكين في منحر الدب واتكأت عليه حتى خلصته وانعزلت رأسه عن بدنه فصار له شخير عظيم مثل شخير الرعد، فانتبهت المرأة مرعوبة فلما رأت الدب مذبوحاً وأنا واقف والسكين في يدي زعقت زعقة عظيمة حتى ظننت أن روحها قد خرجت وقالت لي: يا وردان أيكون هذا جزاء الإحسان فقلت لها: يا عدوة نفسهاهل عدمت الرجال حتى تفعلي الفعل الذميم، فأطرقت رأسها إلى الأرض لا ترد جواباً وتأملت الدب وقد نزعت رأسه عن جثته ثم قالت: يا وردان أي شيء أحب إليك أن تسمع الذي أقوله لك ويكون سبب لسلامتك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المرة قالت: يا وردان أي شيء أحب إليك أن تسمع الذي أقوله لك ويكون سبباً لسلامتك وغناك إلى آخر الدهر أو تخالفني ويكون سبباً لهلاكك، فقلت: أختار أن أسمع كلامك فحدثيني بما شئت، فقالت اذبحني كما ذبحت الدب وخذ من هذا الكنز حاجتك وتوجه إلى حال سبيلك، فقلت لها: أنا خير من هذا الدب فارجعي إلى الله تعالى وتوبي وأتزوج بك ونعيش باقي عمرنا بهذا الكنز قالت: أيا وردان إن هذا بعيداً كيف أعيش بعده والله إن لم تذبحني لأتلفن روحك فلا تراجعني تتلف وهذا ما عندي من الرأي والسلام فقلت: أذبحك وتروحين إلى لعنة الله ثم جذبتها من شعرها وذبحتها وراحت إلى لعنة الله والملائكة والناس جميعاً.
وبعد ذلك نظرت في المحل فوجدت فيه قبة من الذهب والفصوص واللؤلؤ ما لا يقدر على جمعه أحد من الملوك فأخذت قفص الحمال وملأته على قدر ما أطيق وسترته بقماشي الذي كان علي وحملته وطلعت من الكنز وسرت ولم أزل سائراً إلى باب مصر وإذا بعشرة من جماعة الحاكم بأمر الله مقبلون والحاكم خلفهم فقال: يا وردان، قلت: لبيك أيها الملك. قال: هل قتلت الدب والمرأة? قلت: نعم. قال: حط عن رأسك وطب نفساً فجميع ما معك من المال لك لا ينازعك أحد عليه. فحطيت القفص بين يديه فكشفه ورآه وقال: حدثني بخبرهما وإن كنت أعرفه كأني حاضر معكم فحدثته بجميع ما جرى وهو يقول: صدقت. فقال: يا وردان قم سر بنا. فتوجهت إليه معه فوجدت الطابق مغلقاً فقال: ارفعه يا وردان فإن هذا الكنز لا يقدر أحد أن يفتحه غيرك فإنه مرصود باسمك وصفتك. فقلت: والله لا أطيق فتحه. فقال: تقدم أنت في بركة الله. فتقدمت إليه وسميت اللله تعالى ومددت يدي إلى الطابق فارتفع كأنه أخف ما يمون فقال الحاكم: انزل وأطلع ما فيه فإنه لا ينزله إلا من باسمك وصورتك وصفاتك من حين وضع وقتل الدب هذا الدب وهذه المرأة على يديك وهو عندي مؤرخ وكنت أنتظر وقوعه حتى وقع. قال وردان: فنزلت ونقلت له جميع ما في الكنز ثم دعا بالدواب وحمله وأعطاني قفصي بما فيه فأخذته وعدت إلى بيتي وفتحت لي دكاناً في السوق وهذا السوق موجود إلى الآن ويعرف بسرق وردان.

حكاية تتضمن داء غلبة الشهوة في النساء ودواءها

ومما يحكى أيضاً أنه كان لبعض السلاطين ابنة وقد تعلق قلبها بحب عبد أسود فافتض بكارتها وأولعت بالنكاح فكانت لا تصبر عنه ساعة واحدة فكشفت أمرها إلى بعض القهرمانات فأخبرتها أنه لا شيء ينكح أكثر من القرد فاتفق أن قرداً مر من تحت طاقتها فأسفرت عن وجهها ونظرت إلى القرد وغمزته بعيونها فقطع القرد وثاقه وسلاسله وطلع لها فخبأته في مكان وصار ليلاً ونهاراً على أكل وشرب وجماع ففطن أبوها بذلك وأراد قتلها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السلطان لما فطن بأمر ابنته وأراد قتلها شعرت بذلك فتزيت بزي المماليك وركبت فرساً وأخذت لها بغلاً وحملته من الذهب والمعادن والقماش ما لا يوصف وحملت القرد معها وسارت حتى وصلت إلى مصر فنزلت في بعض بيوت الصحراء وصارت كل يوم تشتري لحماً من شاب جزار ولكن لا تأتيه إلا بعد الظهر وهي مصفرة اللون متغيرة الوجه. فقال الشاب في نفسه: لا بد أن لهذا المملوك من سبب عجيب فلما جاءت على العادة وأخذت اللحم تبعها من حيث لا تراه قال: ولم أزل خلفها من حيث لا تراني حتى وصلت إلى مكانها الذي بالصحراء ودخلت هناك فنظرت إليها من بعض جهاته فرأيتها استقرت بمكانها وأوقدت النار وطبخت اللحم وأكلت كفايتها وقدمت باقيه إلى القرد الذي معها فأكل كفاية ثم إنها نزعت ما عليها من الثياب ولبست أفخر ما عندها من ملابس النساء فعلمت أنها أنثى، ثم أحضرت خمراً وشربت وسقت القرد ثم واقعها القرد نحو عشر مرات حتى غشي عليها. وبعد ذلك نشر القرد عليه ملاءة من حرير وراح إلى محله فنزلت إلى وسط المكان فأحس بي القرد وأراد افتراسي فبادرته بسكين كانت معي فضربت بها كرشه فانتبهت الصبية فزعة مرعوبة فرأت القرد على هذه الحالة فصرخت صرخة عظيمة حتى كادت أن تزهق روحها ثم وقعت مغشياً عليها.
فلما أفاقت من غشيتها قالت لي: ما حملك على ذلك لكن بالله عليك أن تلحقني به فلا زلت ألاطفها وأضمن لها أني أقوم بما قام القرد من كثرة النكاح إلى أن سكن روعها وتزوجت بها فعجزت عن ذلك ولم أصبر عليه فشكوت حالي إلى بعض العجائز وذكرت لها ما كان من أمرها فالتزمت لي بتدبير هذا الأمر وقالت لي: لا بد أن تأتيني بقدر وتملأه من الخل البكر وتأتيني بقدر رطل من العود فأتيت لها بما طلبته فوضعته في القدر ووضعت القدر على النار وغلته غلياناً قوياً ثم أمرتني بنكاح الصبية فنكتها إلى أن غشي عليها فحملتها العجوز وهي لا تشعر وألقت فرجها على فم القدر بعد أن صعد دخانه حتى دخل فرجها فنزل منه شيء تأملته فإذا هو دودتان إحداهما سوداء والأخرى صفراء، فقالت العجوز الأولى تربت من نكاح العبد والثانية من نكاح القرد فلما أفاقت من غشيتها استمرت معي مدة وهي لا تطلب النكاح وقد صرف الله عنها تلك الحالة وتعجبت من ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال: وقد صرف الله عنها تلك الحالة وقد تعجبت من ذلك فأخبرها بالقصة واستمرت معه في أرغد عيش وأحسن لذة واتخذت عندها العجوز مكان والدتها وما زالت هي وزوجها في هناء وسرور إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات الحي الذي لا يموت وبيده الملك والملكوت.

حكاية الحكماء أصحاب الطاووس والبوق والفرس

ومما يحكى أنه كان في قديم الزمان ملك عظيم ذو خطر جسيم وكأن له ثلاث بنات مثل الدور السافرة والرياض الزاهرة وولد ذكر كأنه القمر فبينما الملك جالس على كرسي مملكته يوماً من الأيام إذ دخل عليه ثلاثة من الحكماء مع أحدهم طاووس من ذهب ومع الثاني بوق من نحاس ومع الثالث فرس من عاج وآبنوس فقال لهم الملك: ما هذه الأشياء وما منافعها? فقال صاحب الطاووس: إن منفعة هذا الطاووس أنه كلما مضت ساعة من ليل أو نهار يصفق بأجنحته ويزعق وقال صاحب البوق: إنه إذا وضع هذا البوق على باب المدينة يكون كالمحافظ عليها فإذا دخل تلك المدينة عدو يزعق عليه هذا البوق فيعرف ويمسك باليد، وقال صاحب الفرس: يا مولاي إن منفعة هذا الفرس أنه إذا ركبها إنسان توصله إلى أي بلاد أراد.
فقال الملك: لا انعم عليكم حتى أجرب منافع هذه الصور ثم إنه جرب الطاووس فوجده كما قال صاحبه وجرب البوق فوجده كما قال صاحبه فقال الملك للحكيمين: تمنيا علي فقالا نتمنى عليك أن تزوج كل واحد منا بنتاً من بناتك ثم تقدم الحكيم الثالث صاحب الفرس وقبل الأرض بين يدي الملك وقال له: يا ملك الزمان أنعم علي كما أنعمت على أصحابي فقال له الملك: حتى أجرب ما أتيت به فعند ذلك تقدم ابن الملك وقال: يا والدي أنا أركب هذه الفرس وأجربها وأختبر منفعتها فقال الملك: يا ولدي جربها كما تحب فقام ابن الملك وركب الفرس وحرك رجليه فلم تتحرك من مكانها فقال: يا حكيم أين الذي ادعيته من سيرها? فعند ذلك جاء الحكيم إلى ابن الملك وأراه لولب الصعود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحكيم عرف ابن الملك لولب الصعود وقال له: افرك هذا اللولب ففركه ابن الملك وإذا بالفرس قد تحرك وطار بابن الملك إلى عنان السماء ولم يزل طائراً حتى غاب عن الأعين فعند ذلك احتار ابن الملك في أمره وندم على ركوبه الفرس ثم قال: إن الحكيم قد عمل حيلة على هلاكي فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم إنه جعل يتأمل في جميع أعضاء الفرس. فبينما هو يتأمل وقع نظره على شيء مثل رأس الديك على كتف الفرس الأيمن وكذلك الأيسر فقال ابن الملك: ما أرى فيه أثراً غير هذين الزرين ففرك الزر الذي على الكتف الأيمن فازدادت به الفرس طيراً طالعة إلى الجو. فتركه ثم نظر إلى الكتف الأيسر فرأى ذلك الزر ففركه فتناقصت حركات الفرس من الصعود إلى الهبوط ولم تزل هابطة به إلى الأرض قليلاً قليلاً وهو محترس على نفسه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك لما فرك الزر الأيسر تناقصت حركات الفرس من الصعود إلى الهبوط ولم تزل هابطة إلى الأرض قليلاً قليلاً وهو محترس على نفسه فلما نظر ابن الملك ذلك وعرف منافع الفرس امتلأ قلبه فرحاً وسروراً وشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه حيث أنقذه من الهلاك ولم يزل هابطاً طول نهاره لأنه كان حال صعوده بعدت عنه الأرض وجعل يدور وجه الفرس كما يريد وهي هابطة به وإذا شاء نزل بها وإذا شاء طلع بها. فلما أتم له من الفرس ما يريد أقبل بها إلى جهة الأرض وصار ينظر إلى ما فيها من البلاد والمدن التي لا يعرفها لأنه لم يرها طول عمره وكان من جملة ما رآه مدينة مبنية بأحسن البنيان وهي في وسط الأرض خضراء ناضرة ذات أشجار وأنهار فتفكر في نفسه وقال: يا ليت شعري ما اسم هذه المدينة وفي أي الأقاليم هي ثم جعل يطوف حول تلك المدينة ويتأملها يميناً وشمالاً وكان النهار قد ولى ودنت الشمس للمغيب فقال في نفسه: إني لا أجد موضعاً للمبيت أحسن من هذه المدينة فأنا أبيت فيها الليلة وعند الصباح أتوجه إلى أهلي ومحل ملكي وأعلم أهلي ووالدي بما جرى لي وأخبره بما نظرت عيناي وصار يفتش على موضع يأمن فيه على نفسه ولا يراه أحد.
فبينما هو كذلك وإذا به قد نظر في وسط المدينة قصراً شاهقاً في الهواء وقد أحاط بذلك القصر سور متسع بشرفات عاليات فقال ابن الملك في نفسه: إن الموضع مليح وجعل يحرك الزر الذي يهبط به الفرس ولم يزل هابطاً به حتى نزل مستوياً على سطح القصر ثم نزل من فوق الفرس وحمد الله تعالى وجعل يدور الفرس ويتأملها ويقول: والله إن الذي عملك بهذه الصفة لحكيم ماهر فإن مد الله تعالى في أجلي وردني إلى بلادي وأهلي سالماً وجمع بيني وبين والدي لأحسنن إلى هذا الحكيم كل الإحسان ولأنعمن عليه غاية الإنعام ثم جلس فوق سطح القصر حتى علم أن الناس قد ناموا وقد أضر به الجوع والعطش لأنه منذ فارق والده لم يأكل طعاماً.
فقال في نفسه: إن مثل هذا القصر لا يخلو من الرزق فترك الفرس في مكان ونزل يتمشى لينظر شيء يأكله فوجد سلم فنزل منه إلى أسفل فوجد ساحة مفروشة بالرخام فتعجب من ذلك المكان ومن حسن بنيانه لكنه لم يجد في ذلك القصر حس حسيس ولا أنس فوقف متحيراً وصار ينظر يميناً وشمالاً وهو لا يعرف أين يتجه ثم قال في نفسه: ليس لي أحسن من أرجع إلى المكان الذي فيه فرسي وأبيت عندها فإذا أصبح الصباح ركبتها وسرت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك قال في نفسه: ليس لي أحسن من البيات عند فرسي فإذا أصبح الصباح ركبتها وسرت فبينما هو واقف يحدث نفسه بهذا إذ نظر إلى نور مقبل إلى ذلك المحل الذي الذي هو فيه فتأمل ذلك النور فوجده مع جماعة من الجواري وبينهن صبية ألفية بهية تحاكي البدر الزاهر كما قال الشاعر:
جاءت بلا موعد في ظلمة الغـسـق                 كأنها البدر فـي داج مـن الأفـق
هيفاء من البرايا من يشـابـهـهـا                    في بهجة الحسن أو في رونق الخلق
ناديت لما رأت عيني محـاسـنـهـا                   سبحان من خلق الإنسان من علـق
أعيذها من عيون النـاس كـلـهـم                    بقول أعوذ برب الناس والـفـلـق

وكانت تلك الصبية بنت ملك هذه المدينة وكان أبوها يحبها حباً شديداً ومن محبته إياها بنى لها هذا القصر فكانت كلما ضاق صدرها تجيء إليه وجواريها تقيم فيه يوماً أو يومين أو أكثر ثم تعود إلى سرايتها فاتفق أنها قد أتت الليلة من أجل الفرجة والانشراح وصارت ماشية بين الجواري ومعها خادم مقلد بسيف فلما دخلوا ذلك القصر فرشوا الفرش وأطلقوا مجامر البخور ولعبوا وانشرحوا فبينما هم في لعب وانشراح إذ هجم ابن الملك على ذلك الخادم ولطمه لطمة فبطحه وأخذ السيف من يده وهجم على الجواري اللاتي مع ابنة الملك فشتتهم يميناً وشمالاً.
فلما نظرت ابنة الملك حسنه وجماله قالت: لعلك أنت الذي خطبتني من والدي بالأمس وردك وزعم انك قبيح المنظر والله لقد كذب أبي كيف قال ذلك الكلام فما أنت إلا مليح وكان ابن ملك الهند قد خطبها من أبيها فرده لأنه بشع المنظر فظنت أنه هو الذي خطبها ثم أقبلت عليه وعانقته وقبلته ورقدت هي وإياه.
فقالت لها الجواري: يا سيدتي هذا ما هو الذي خطبك من أبيك لأن ذلك قبيح وهذا مليح وما يصلح الذي خطبك من أبيك ورده أن يكون خادماً لهذا ولكن يا سيدتي إن هذا الفتى له شأن عظيم ثم توجهت الجواري إلى الخادم المبطوح وأيقظنه فوثب مرعوباً وفتش على سيفه فلم يجده بيده فقالت له الجواري: الذي أخذ سيفك وبطحك جالس مع ابنة الملك، وكان ذلك الخادم قد وكله الملك بالمحافظة على ابنته خوفاً عليها من نوائب الزمان وطوارق الحدثان فقام ذلك الخادم وتوجه إلى الستر ورفعه فرأى ابنة الملك جالسة مع ابن الملك وهما يتحدثان.
فلما نطرهما الخادم قال لابن الملك: يا سيدي هل أنت إنسي أو جني فقال له ابن الملك: ويلك يا أنجس العبيد كيف تجعل أولاد الملوك الأكاسرة من الشياطين الكافرة ثم إنه أخذ السيف بيده وقال له: أنا صهر الملك وقد زوجني بابنته وأمرني بالدخول عليها فلما سمع الخادم منه ذلك الكلام قال له: يا سيدي إن كنت من الإنس كما زعمت فإنها ما تصلح إلا لك وأنت أحق بها من غيرك. ثم إن الخادم توجه إلى الملك وهو صارخ وقد شق ثيابه وحثا التراب على رأسه.
فلما سمع الملك صياحه قال له: ما الذي دهاك فقد رجفت فؤادي أخبرني بسرعة وأوجز في الكلام فقال له الخادم: أدرك ابنتك فإنها قد استولى عليا شيطان من الجن في زي الإنس مصور بصورة أولاد الملوك، فدونك وإياه فلما سمع الملك منه هذا الكلام هم بقتله، وقال له: كيف تغافلت عن ابنتي حتى لحقها هذا العارض ثم إن الملك توجه إلى القصر الذي فيه ابنته، فلما وصل إليه وجد الجواري قائمات فقال لهن: ما الذي جرى لابنتي? قلت له: أيها الملك بينما نحن جالسات معها لم نشعر إلا وقد هجم علينا هذا الغلام كأنه البدر التمام ولم نر أحسن منه وجهاً وبيده سيف مسلول فسألناه عن حاله فزعم أنك قد زوجته ابنتك ونحن لا نعلم شيئاً غير هذا ولا نعرف هل هو إنسي أو جني ولكنه عفيف أديب لا يتعاطى القبيح.
فلما سمع الملك مقالتهن برد ما به ثم أنه رفع الستر قليلاً ونظر فرأى ابن الملك جالساً مع ابنته يتحدثان وهو في أحسن التصوير ووجهه كالبدر المنير فلم يقدر أن يمسك نفسه من غيرته على ابنته فرفع الستر ودخل وبيده سيف مسلول وهجم عليهما كأنه الغول فلما نظره ابن الملك قال لها: أهذا أبوك? قالت: نعم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك لما رأى الملك بيده سيف مسلول وقد هجم عليهما كأنه الغول قال لها: أهذا أبوك? قالت: نعم فعند ذلك وثب قائماً على قدميه وتناول سيفه بيده وصاح على الملك صيحة منكرة فأدهشه وهم أن يجمل عليه بالسيف فعلم الملك أنه أوثب منه فأغمد سيفه ثم وقف حتى انتهى إليه ابن الملك فقابله بملاطفة وقال: يا فتى هل أنت إنسي أم جني? فقال ابن الملك: لولا أني أرعى ذمامك وحرمة ابنتك لسفكت دمك كيف تنسبني إللى الشياطين وأنا من أولاد الملوك الأكاسرة الذي لو شاءوا لأخذوا ملكك وزلزلوك عن عزك وسلطانك، وسلبوا عنك جميع ما في أوطانك.
فلما سمع الملك كلامه هابه وخاف على نفسه منه وقال له: إن كنت من أولاد الملوك، كما زعمت فكيف دخلت قصري بغير إذني وهتكت حرمتي، ووصلت إلى بنتي وزعمت أنك بعلها وادعيت أني قد زوجتك بها وأنا قد قتلت الملوك وأبناء الملوك حين خطبوها مني ومن ينجيك من سطوتي وأنا إن صحت على عبيدي وغلماني وأمرتهم بقتلك لقتلوك في الحال فمن يخلصك من يدي فلما سمع ابن الملك منه ذلك الكلام قال للملك: إني لأعجب منك ومن قلة بصيرتك هل تطمع لابنتك في بعل أحسن مني، وهل رأيت أحداً أثبت جناناً وأكثر مكافأة وأعز سلطاناً وجنوداً وأعواناً مني.
فقال له الملك: لا والله ولكن وددت يا فتى أن تكون خاطباً لها على رؤوس الأشهاد حتى أزوجك بها وأما إذا زوجتك بها خفية فإنك تفضحني فيها فقال له ابن الملك: لقد أحسنت في قولك ولكن أيها الملك إذا اجتمعت عبيدك وخدمك وجنودك علي وقتلوني كما زعمت فإنك تفضح نفسك وتبقى الناس فيك بين مصدق ومكذب ومن الرأي عندي أن ترجع أيها الملك إلى ما أشير به عليك.
فقال له الملك: هات حديثك فقال له ابن الملك: الذي أحدثك به إما أن تبارزني أنا وأنت خاصة فمن قتل صاحبه كان أحق وأولى بالملك وأما أن تتركني في هذه الليلة وإذا كان الصباح فأخرج إلى عسكرك وجنودك وغلمانك وأخبرني بعدتهم، فقال له الملك إن عدتهم أربعون ألف فارس غير العبيد الذين لي وغير أتباعهم وهم مثلهم في العدد، فقال ابن الملك إذا كان طلوع النهار فأخرجه إلي وقل لهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك قال له: إذا كان طلوع النهار فأخرجهم إلي وقل لهم هذا خطيب ابنتي على شرط أن يبارزكم جميعاً وادعى أنه يغلبكم ويقهركم وأنكم لا تقدرون عليه ثم اتركني معهم أبارزهم، فإذا قتلوني فذلك أخفى لسرك وأصون لعرضك وإن غلبتهم وقهرتهم فمثلي يرغب الملك في مصاهرته فلما سمع الملك كلامه استحسن رأيه وقبل رأيه، مع ما استعظمه من قوله وما هاله من أمره في عزمه على مبارزة جميع عسكره الذين وصفهم له. ثم جلسا يتحدثان وبعد ذلك دعا الملم بالخادم وأمره أن يخرج من وقته وساعته إلى وزيره ويأمره أن يجمع العساكر ويأمرهم بحمل أسلحتهم وأن يركبوا خيولهم فسار الخادم إلى الوزير وأعلمه بما أمره به الملك فعند ذلك طلب الوزير نقباء الجيش وأكابر الدولة وأمرهم أن يركبوا خيولهم ويخرجوا لابسين آلات الحرب. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر الملك فإنه ما زال يتحدث مع الغلام حيث أعجبه حديثه وعقله وأدبه فبينما يتحدثان وإذا بالصبح قد أصبح فقام الملك وتوجه إلى يخته وأمر جيشه بالركوب وقدم لابن الملك فرساً جيداً من خيار خيله فقال له: لا يعجبني شيء من خيلك ولا أركب إلا الفرس التي جئت راكباً عليها فقال له الملك: وأين فرسك? فقال له: هي فوق قصرك فقال له: في أي موضع في قصري فقال: على السطح. فلما سمع كلامه قال له: هذا أول ما ظهر من خيالك يا ويلك كيف تكون الفرس فوق السطح ولكن في هذا الوقت يظهر صدقك من كذبك ثم إن الملك التفت إلى بعض خواصه وقال له: امض إلى قصري واحضر الذي تجده فوق السطح فصار الناس متعجبين من قول الفتى ويقول بعضهم لبعض: كيف ينزل هذا الفرس من سلالم السطح إن هذا شيء ما سمعنا بمثله، ثم إن الذي أرسله الملك إلى القصر صعد إلى أعلاه فرأى الفرس قائماً ولم ير أحسن منه فتقدم إليه وتأمله فوجده من الآبنوس والعاج وكان بعض خواً الملك طلع معه أيضاً، فلما نظروا إلى الفرس تضاحكوا وقالوا وعلى مثل هذا الفرس يكون ما ذكره الفتى فما أظنه إلا مجنوناً ولكن سوف يظهر لنا أمره.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن خواً الملك لما نظروا الفرس تضاحكوا وقالوا وعلى مثل هذا الفرس يكون ما ذكره الفتى فما أظنه إلا مجنوناً ولكن سوف يظهر لنا أمره وربما يكون له شأن عظيم ثم إنهم رفعوا الفرس على أيديهم ولم يزالوا حاملين لها حتى وصلوا إلى قدام الملك وأوقفوها بين يديه فاجتمع عليها الناس ينظرون من حسن صنعتها، وحسن سرجها ولجامها واستحسنها الملك أيضاً وتعجب منها غاية العجب، ثم قال لبن الملك: يا فتى أهذه فرسك فقال: نعم أيها الملك هذه فرسي وسوف ترى منها العجب.
فقال له الملك: خذ فرسك واركبها قال: لا أركبها إلا إذا بعد عنها العساكر فأمر الملك العسكر الذين حوله أن يبتعدوا عنها مقدار رمية السهم فقال له: أيها الملك هاأنا رائح أركب فرسي وأحمل على جيشك فأفرقهم يميناً وشمالاً وأصدع قلوبهم فقال له الملك: افعل ما تريد ولا تبق عليهم فإنهم لا يبقون عليك ثم إن ابن الملك توجه إلى فرسه وركبها واصطفت له الجيوش وقال بعضهم لبعض: إذا وصل الغلام بين الصفوف نأخذه بأسنة الرماح وشفار الصفاح. فقال واحد منهم: والله غنها مصيبة كيف نقتل هذا الغلام صلحب الوجه المليح والقد الرجيح فقال واحد آخر: والله لن تصلوا إليه إلا بعد أمر عظيم وما فعل الفتى هذه الفعال إلا لما علم من شجاعة نفسه وبراعته، فلما استوى ابن الملك على فرسه فرك لولب الصعود فتطاولت إليه الأبصار لينظروا ماذا يريد أن يفعل فماجت فرسه واضطربت حتى عملت أغرب حركات تعملها الخيل وامتلأ جوفها بالهواء ثم ارتفعت وصعدت في الجو.
فلما رآه الملك قد ارتفع وصعد على جيشه قال: ويلكم خذوه قبل أن تفوتكم فعند ذلك قال له وزرائه ونوابه: أيها الملك هل أحد يلحق الطير الطائر وما هذا إلا سحر عظيم قد نجاك الله منه فاحمد الله تعالى على خلاصك من يده فرجع الملك إلى قصره بعدما رأى من ابن الملك ما رأى ولما وصل إلى قصره ذهب إلى ابنته وأخبرها بما جرى له مع ابن الملك في الميدان فوجدها كثيرة التأسف عليه وعلى فراقه ثم أنها مرضت مرضاً شديداً، ولزمت الوساد.
فلما رآها أبوها على تلك الحالة ضمها وقبلها بين عينيها وقال لها: يا ابنتي احمدي الله تعالى واشكريه حيث خلصنا من هذا الساحر الماكر وجعل يكرر عليها ما رآه من ابن الملك ويذكر لها صفة صعوده في الهواء وهي لا تصغي إلى شيء من قول أبيها واشتد بكاؤها ونحيبها ثم قالت في نفسها: والله لا آكل طعاماً وأشرب شراباً حتى يجمع الله بيني وبينه فحصل لأبيها الملك هم عظيم من أجل ذلك وشق عليه حال ابنته وصار حزين القلب عليها وكلما يلاطفها لا تزداد إلا شغفاً به. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك صار حزين القلب على ابنته وكلما يلاطفها لا تزداد إلا شغفاً به هذا ما كان من أمر الملك وابنته.
وأما ما كان من أمر ابن الملك فإنه لما صعد في الجو اختلى بنفسه وتذكر حسن الجارية وجمالها وكان قد سأل أصحاب الملك عن اسم المدينة واسم الملك واسم ابنته وكانت تلك المدينة صنعاء ثم أنه جد في السيرحتى أشرف على مدينة أبيه ودار حول المدينة ثم توجه إلى قصر أبيه ونزل فوق السطح وترك فرسه هناك ونزل إلى والده ودخل عليه فوجده حزيناً كئيباً لأجل فراقه فلما رآه والده قام إليه واعتنقه وضمه إلى صدره وفرح به فرحاً شديداً ثم أنه لما اجتمع بوالده وسأله عن الحكيم الذي عمل الفرس وقال: يا والدي ما فعل الدهر به فقال له والده: لا بارك الله في الحكيم ولا في الساعة التي رأيته فيها لأنه هو الذي كان سبباً لفراقك منا وهو مسجون يا ولدي من يوم غبت عنا فأمر ابن الملك بالإفراج عنه وإخراجه من السجن وإحضاره بين يديه.
فلما حضر بين يديه خلع عليه وأحسن إليه غاية الإحسان إلا أنه لم يزوجه ابنته فغضب الحكيم من أجل ذلك غضباً شديداً وندم على ما فعل وعلم أن ابن الملك قد عرف سر الفرس وكيفية سيرها ثم أن الملك قال لابنه: الرأي عندي أنك لا تقرب هذا الفرس بعد ذلك ولا تركبها أبداً بعد يومك هذا لأنك لا تعرف أحوالها فأنت منها على غرور وكان ابن الملك قد حدث أباه بما جرى له مع ابنة الملك صاحب نلك المدينة وما جرى له مع أبيها.
فقال له أبوه: لو أراد الملك قتلك لقتلك ولكن في أجلك تأخير ثم إن ابن الملك هاجت بلابله بحب الجارية ابنة الملك صاحب صنعاء فقام إلى الفرس وركبها وفرك لولب الصعود فطارت به في الهواء وعلت به إلى عنان السماء فلما أصبح الصباح افتقده أبوه فلم يجده فطلع إلى أعلى القصر وهو ملهوف فنظر إلى ابنه وهو صاعد في الهواء فتأسف على فراقه وندم كل الندم حيث لم يأخذ الفرس ويخفي أمره، ثم قال في نفسه: والله إن رجع إلي ولدي ما بقيت أخلي هذا الفرس لأجل أن يطمئن قلبي على ولدي ثم إنه عاد إلى بكائه ونحيبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك عاد إلى بكائه ونحيبه من حزنه على ولده، هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر ابنه فإنه لم يزل سائراً في الجو حتى وقف على مدينة صنعاء ونزل في المكان الذي كان فيه أولاً ومشى مستخفياً حتى وصل إلى محل ابنة الملك فلم يجدها لا هي ولا جواريها ولا الخادم الذي كان محافظاً عليها فعظم عليه ذلك ثم إنه دار يفتش عليها في القصر فوجدها في مجلس آخر غير محلها الذي اجتمع معها فيه وقد لزمت الوساد وحولها الجواري والدايات فدخل عليهن وسلم عليهن.
فلما سمعت الجارية كلامه قامت إليه واعتنقته وجعلت تقبله بين عينيه وتضمه إلى صدرها فقال لها: يا سيدتي أوحشتيني هذه المدة فقالت له: أنت الذي أوحشتني ولو طالت غيبتك عني لكنت هلكت بلا شك، فقال لها: يا سيدتي كيف رأيت حالي مع أبيك وما صنع بي ولولا محبتك يا فتنة العالمين لقتلته وجعلته عبرة للناظرين ولكن أحبه من أجلك فقالت له: كيف تغيب عني وهل تطيب حياتي بعدك فقال لها: أتطيعيني وتصغي إلى قولي، فقالت له: قل ما شئت فإني أجيبك إلى ما تدعوني إليه ولا أخالفك في شيء فقال لها: سيري معي إلى بلادي وملكي فقالت له: حباً وكرامة.
فلما سمع ابن الملك كلامها، فرح فرحاً شديداً وأخذ بيدها وعاهدها بعهد الله تعالى على ذلك، ثم صعد بها إلى أعلى سطح القصر وركب فرسه وأركبها خلفه، ثم ضمها إليه وشدها شداً وثيقاً وحرك لولب الصعود الذي في كتف الفرس فصعدت بهما إلى الجو، فعند ذلك زعقت الجواري وأعلمن الملك أباها وأمها فصعدا مبادرين إلى سطح القصر، والتفت الملك إلى الجو فرأى الفرس الآبنوس وهي طائرة بهما في الهواء فعند ذلك انزعج الملك وزاد انزعاجه وقال: يا ابن الملك سألتك بالله أن ترحمني وترحم زوجتي، ولا تفرق بيننا وبين بنتنا فلم يجبه ابن الملك.
ثم أن ابن الملك ظن في نفسه أن الجارية ندمت على فراق أمها وأبيها، فقال لها: يا فتنة الزمان هل لك أن أردك إلى أمك وأبيك فقالت له: يا سيدي والله ما مرادي ذلك إنما مرادي أن أكون معك أينما تكون لأنني مشغولة بمحبتك عن كل شيء حتى أبي وأمي.
فلما سمع ابن الملك كلامها فرح بذلك فرحاً شديداً وجعل يسير الفرس بهما سيراً لطيفاً لكيلا يزعجها ولم يزل يسير بها حتى نظر إلى مرج أخضر وفيه عين جارية فنزلا هناك وأكلا وشربا ثم أن ابن الملك ركب فرسه وأردفها خلفه وأوثقها بالرباط خوفاً عليها وسار بها ولم يزل في الهواء حتى وصل إلى مدينة أبيه فاشتد فرحه.
ثم أراد أن يظهر للجارية محل سلطانه وملك أبيه ويعرفها أن ملك أبيه أعظم من ملك أبيها فأنزلها في بعض البساتين التي يتفرج فيها والده وأدخلها في المقصورة المعدة لأبيه واوقف الفرس الآبنوس على باب تلك المقصورة، وأوصى الجارية بالمحافظة على الفرس وقال لها اقعدي ههنا حتى أرسل إليك رسولي فإني متوجه إلى أبي لأجل أن أهيء لك قصراً وأظهر لك ملكي ففرحت الجارية عندما سمعت منه هذا الكلام، وقالت له: افعل ما تريد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية فرحت عندما سمعت منه هذا الكلام، وقالت له: افعل ما تريد، ثم خطر ببالها أنها لا تدخل إلا بالتبجيل والتشريف كما يصلح لأمثالها، ثم أن ابن الملك تركها وسار حتى وصل إلى المدينة ودخل على أبيه فلما رأى أبوه فرح بقدومه وتلقاه ورحب به، ثم أن ابن الملك قال لوالده: اعلم أنني أتيت ببنت الملك التي كنت أعلمتك بها وقد تركتها خارج المدينة في بعض البساتين وجئت أعلمك بها لأجل أن تهيء الموكب وتخرج لملاقاتها وتظهر لها ملكك واعوانك وجنودك. فقال له الملك: حباً وكرامة، ثم أمر من وقته وساعته أهل المدينة أن يزينوا المدينة أحسن زينة وركب في أكمل هيبة وأحسن زينة هو وجميع عساكره وأكابر دولته وسائر مملكته وخدمه، وأخرج ابن الملك من قصره الحلي والحلل وما تدخره الملوك وهيأ لها عمارة من الديباج الأخضر والأحمر والأصفر وأجلس على تلك العمارة الهنديات والروميات والحبشيات وأظهر من الذخائر شيئاً عجيباً.
ثم أن ابن الملك ترك العمارة بمن فيها وسبق إلى البستان ودخل المقصورة التي تركها فيها وفتش فيها فلم يجدها ولم يجد الفرس، فعند ذلك لطم على وجهه ومزق ثيابه وجعل يطوف في البستان وهو مدهوش العقل، ثم بعد ذلك رجع إلى عقله وقال في نفسه: كيف علمت بسر هذا الفرس وأنا لم أعلمها بشيء من ذلك ولعل الحكيم الفارسي الذي عمل الفرس قد وقع عليها وأخذها جزاء ما عمله والدي معه، ثم أن ابن الملك طلب حراس البستان وسألهم عمن مر بهم وقال لهم: هل نظرتم أحداً مر بكم ودخل هذا البستان? فقالوا: ما رأينا أحداً دخل البستان سوى الحكيم الفارسي فإنه دخل ليجمع الحشائش النافعة، فلما سمع كلامهم صح عندهم أن الذي أخذ الجارية هو ذلك الحكيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك لما سمع كلامهم صح عنده أن الذي أخذ الجارية هو ذلك الحكيم، وكان بالأمر المقدر أن ابن الملك لما ترك الجارية في المقصورة التي فيها البستان وذهب إلى قصر أبيه ليهيء أمره دخل الحكيم الفارسي البستان ليجمع شيئاً من الحشيش النافع فشم رائحة المسك الطيب التي عبق منها المكان وكان ذلك الطيب من رائحة ابنة الملك فقصد الحكيم تلك الرائحة حتى وصل إلى تلك المقصورة فرأى الفرس التي صنعها بيده على باب المقصورة.
فلما رأى الحكيم الفرس امتلأ قلبه فرحاً وسروراً إلا أنه كان كثير التأسف على الفرس حيث خرجت من يده فتقدم إلى الفرس وافتقد جميع أجزائها فوجدها سالمة، ولما أراد أن يركبها ويسير قال في نفسه: لا بد أن أنظر ما جاء به ابن الملك وتركه مع الفرس ههنا، فدخل المقصورة فوجد الجارية جالسة وهي كالشمس الصاحية في السماء الصافية، ثم توجه إلى المدينة ليجيء لها بموكب ويدخلها المدينة فقالت له: من أنت فقال لها: يا سيدتي أنا رسول الملك قد أرسلني إليك وأمرني أن أنقلك إلى بستان آخر قريب من المدينة. فلما سمعت الجارية منه ذلك الكلام دخل في عقلها فصدقته وقامت معه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحكيم الفارس لما أخبر الجارية بأحوال ابن الملك صدقت كلامه ودخل في عقلها وقامت معه ووضعت يدها في يده ثم قالت له: يا والدي ما الذي جئت لي به معك حتى أركبه فقال: يا سيدتي الفر سالتي جئت عليها تركبينها فقالت له: أنا لا أقدر على ركوبها وحدي، فتبسم الحكيم عندما سمع ذلك وعلم أنه قد ظفر بها فقال لها: أنا أركب معك بنفسي، ثم ركب وأركب الجارية خلفه وضمها إليه وشد وثاقها وهي لا تعلم ما يريد بها، ثم إنه حرك لولب الصعود فامتلأ جوف الفرس بالهواء وتحركت وماجت ثم ارتفعت صاعدة في الجو ولم تزل سائرة بهما حتى غابت عن المدينة. فقالت له الصبية: يا هذا أين الذي قلته عن ابن الملك حيث زعمت أنه أرسلك إلي، فقال لها الحكيم: قبح الله ابن الملك فإنه خبيث لئيم، فقالت له: يا ويلك كيف تخالف أمر مولاك فيما أمرك به فقال لها: ليس هو مولاي فهل تعرفين من أنا? فقالت: لا أعرفك إلا بما عرفتني به عن نفسك فقال لها: إنما إخباري لك بهذا الخبر حيلة مني عليك وعلى ابن الملك، ولقد كنت متأسفاً طول عمري على هذه الفرس التي تحتك فإنها صناعتي وكان قد استولى عليها والآن قد ظفرت بها وبك أيضاً، وقد أحرقت قلبه كما أحرق قلبي ولا يتمكن منها بعد ذلك أبداً فطيبي قلباً وقري عيناً فأنا لك أنفع منه.
فلما سمعت الجارية كلامه لطمت على وجهها ونادت: يا أسفاه لا حصلت حبيبي ولا بقيت عند أبي وأمي، وبكت بكاءً شديداً على ما حل بها ولم يزل الحكيم سائراً بها إلى بلاد الروم حتى نزل بها في مرج أخضر ذي أنهار وأشجار واكن ذلك المرج بالقرب من مدينة وفي تلك المدينة ملك عظيم الشأن، فاتفق في ذلك اليوم أن ملك تلك المدينة خرج إلى الصيد والنزهة فجاز على ذلك المرج فرأى الحكيم واقفاً والفرس والجارية بجانبه، فلم يشعر الحكيم إلا وقد هجم عليه عبيد الملك وأخذوه هو والجارية والفرس وأوقفوا الجميع بين يدي الملك، فلما نظر إلى قبح منظره وبشاعته ونظر إلى حسن الجارية وجمالها قال لها: يا سيدتي ما نسبة هذا الشيخ منك، فبادر الحكيم بالجواب وقال: هي زوجتي وابنة عمي، كذبته الجارية عندما سمعت قوله وقالت: أيها الملك والله لا أعرفه ولا هو بعلي بل أخذني قهراً بالحيلة.
فلما سمع الملك مقالها أمر بضربه فضربوه حتى كاد أن يموت، ثم أمر الملك أن يحملوه إلى المدينة ويطرحوه في السجن ففعلوا به ذلك، ثم إن الملك أخذ الجارية والفرس منه ولكنه لم يعلم بأمر الفرس ولا بكيفية سرها. هذا ما كان من أمر الحكيم والجارية.
وأما ما كان من أمر ابن الملك فإنه لبس ثياب السفر وأخذ ما يحتاج إليه من المال وسافر وهو في أسوأ حال وسار مسرعاً يقتص الأثر في طلبهما من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة ويسأل عن الفرس الآبنوس وكل من سمع منه خبر الفرس الآبنوس يتعجب منه ويستعظم ذلك منه، فأقام على هذا الحال مدة من الزمان ومع كثرة السؤال والتفتيش عليهما لم يقع لهما على خبر، ثم إنه سار إلى مدينة أبي الجارية وسأل هناك فلم يسمع لها بخبر ووجد أباها حزيناً على فقدها فرجع وقصد بلاد الروم وجعل يقتص أثرهما ويسأل عنهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك قصد بلاد الروم وجعل يقتص أثرهما ويسأل عنهما، فاتفق أنه نزل في خان من الخانات فرأى جماعة من التجار جالسين يتحدثون فجلس قريباً منهم فسمع أحدهم يقول: لقد رأيت عجباً من العجائب فقالوا: وما هو? قال: إني كنت في بعض الجهات من مدينة كذا وذكر اسم المدينة التي فيها الجارية فسمعت أهلها يتحدثون بحديث غريب وهو أن ملك المدينة خرج يوماً من الأيام إلى الصيد والقنص ومعه جماعة من أصحابه وأكابر دولته. فلما طلعوا إلى البرية جازوا على مرج أخضر فوجدوا هناك رجلاً واقفاً وإلى جانبه امرأة جالسة ومعه فرس من آبنوس فاما الرجل فإنه قبيح المنظر مهول الصورة جداً وأما المرأة فإنها صبية ذات حسن وجمال وبهاء وكمال وقد واعتدال وأما الفرس فإنها من العجائب التي لم ير الراؤون أحسن منها ولا أجمل من صنعتها فقال له الحاضرون: فما فعل الملك بهم? فقال: أما الرجل فإنه أخذه الملك وسأله عن الجارية فادعى أنها زوجته وابنة عمه واما الجارية فإنها كذبته في قوله فاخذها الملك منه وامر بضربه وطرحه السجن وأما الفرس الآبنوس فما لي بها علم.
فلما سمع ابن الملك هذا الكلام من التاجر دنا منه وصار يسأله برفق وتلطف حتى أخبره اسم المدينة واسم ملكها فلما عرف ابن الملك اسم المدينة واسم ملكها بات ليلته مسرور فلما أصبح الصباح خرج وسافر ولم يزل مسافراً حتى وصل إلى تلك المدينة فلما أراد أن يدخلها أخذه البوابون وأرادوا إحضاره قدام الملك ليسأله عن حاله وعن سبب مجيئه إلى تلك المدينة وعما يحسنه من الصنائع وكانت هذه عادة الملك من سؤال الغرباء عن أحوالهم وصنائعهم وكان وصول ابن الملك إلى تلك المدينة في وقت لا يمكن الدخول فيه على الملك ولا المشاورة عليه فأخذه البوابون وأتوا به إلى السجن ليضعوه فيه.
فلما نظر السجانون إلى حسنه وجماله لم يهن عليهم أن يدخلوه السجن بل أجلسوه معهم خارج السجن فلما جاءهم الطعام أكل معهم بحسب الكفاية فلما فرغوا من الأكل جعلوا يتحدثون ثم أقبلوا على ابن الملك وقالوا له: من أي البلاد أنت? فقال: أنا من بلاد فارس بلاد الكاسرة فلما سمعوا كلامه ضحكوا وقال بعضهم: يا كسروى لقد سمعت حديث الناس وأخبارهم وشاهدت احوالهم فما رأيت أكذب من هذا الكسروى الذي عندنا في السجن فقال آخر: ولا رأيت أقبح من خلقته ولا أبشع من صورته فقال لهم: ما الذي بان لكم من كذبه. فقالوا: زعم أنه حكيم وكان الملك قد رآه في طريقه وهو ذاهب إلى الصيد ومعه امرأة بديعة الحسن والجمال والبهاء والكمال والقد والإعتدال ومعه أيضاً فرس من الآبنوس الأسود مارأينا قط أحسن منها، فأما المرأة فهي عند الملك وهو لها محب ولكن تلك المرأة مجنونة ولو كان ذلك الرجل حكيماً لداواها والملك مجتهد في علاجها وغرضه مداواتها مما هي فيه، وأما الفرس الآبنوس فإنها في خزانة الملك، واما الرجل القبيح المنظر الذي كان معها فإنه عندنا في السجن فإذا جن الليل يبكي وينتحب أسفاً على نفسه ولا يدعنا ننام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المزكلين في السجن لما اخبروه بخبر الحكيم الفارسي الذي عندهم في السجن وبما هو فيه من البكاء والنحيب خطر بباله أن يدبر تدبيراً ليبلغ غرضه فلما أراد البوابون النوم أدخلوهالسجن وأغلقوا عليه الباب فسمع الحكيم يبكي وينوح على نفسه بالفارسية ويقول في نوحه: الويل لي بما جنيت على نفسي وعلى ابن الملك وبما فعلت بالجارية حيث لم أتركها ولم أظفر بمرادي وذلك كله من سوء تدبيري فإني طلبت لنفسي ما لا أستحقه وما لا يصلح لمثلي ومن طلب ما لا يصلح له وقع في مثل ما وقعت فيه.
فلما سمع ابن الملك كلام الحكيم كلمه بالفارسية وقال له: إلى كم هذا البكاء والعويل هل ترى أنه أصابك ما لم يصب غيرك فلما سمع الحكيم كلامه أنس به وشكا إليه حاله مما يجده من المشقة فلما أصبح الصباح أخذ البوابون ابن الملك واتوا به إلى ملكهم وأعلموه أنه وصل إلى المدينة بالأمس في وقت لا يمكن الدخول فيه على الملك فسأله الملك وقال له: من أي البلاد وما اسمك وما صنعتك وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة? فقال ابن الملك أما اسمي فإنه بالفارسية حرجة وأما بلادي فهي بلاد فارس وانا من اهل العلم وخصوصاً علم الطب فإني أداوي المرضى والمجانين ولهذا أطوف في الأقاليم والمدن لأستفيد علماً على علمي وإذا رأيت مريضاً فإني أداويه فهذه صنعتي.
فلما سمع الملك كلامه فرح به فرحاً شديداً وقال له: أيها الحكيم الفاضل لقد وصلت إلينا في وقت الحاجة إليك ثم أخبره بخبر الجارية وقال له: إن داويتها وأبرأتها من جنونها فلك عندي جميع ما تطلبه فلما سمع كلام الملك قال له: أعز الله الملك صف لي كل شيء رأيته من جنوني وأخبرني منذ كم يوم عرض لها هذ الجنون وكيف أخذتها هي والفرس والحكيم، فأخبره بالخبر من أوله إلى آخره ثم قال له: إن الحكيم في السجن فقال له: أيها الملك السعيد ما فعلت بالفرس التي كانت معهما? فقال له: باقية عندي إلى الآن في بعض المقاصير.
فقال ابن الملك في نفسه: إن من الرأي عندي أن اتفقد الفرس وأنظرها قبل كل شيء فإن كانت سالمة لم يحدث فيها أمر فقد تم لي كل ما أريد وإن رأيتها قد بطلت حركتها تحيلت بحيلة في خلاص مهجتي ثم التفت إلى الملك وقال له: ينبغي أن أنظر الفرس المذكور لعلي أجد شيئاً يعينني على برء الجارية فقال له الملك: حباً وكرامة ثم قام الملك وأخذه بيده ودخل معه إلى الفرس فجعل ابن الملك يطوف حول الفرس ويتفقدها وينظر أحوالها فوجدها سالمة لم يعبها شيء ففرح ابن الملك بذلك فرحاً شديداً وقال: أعز الله الملك إني أريد الدخول على الجارية حتى أنظر ما يكون منها وأرجو الله أن يكون برؤها على يدي بسبب الفرس إن شاء الله تعالى ثم أمر بالمحافظة على الفرس ومضى به الملك إلى البيت الذي فيه الجارية.
فلما دخل عليها ابن الملك وجدها تتخبط وتنصرع على عادتها ولم يكن بها جنون وإنما تفعل ذلك حتى لا يقربها أحد فلما رآها ابن الملك على هذه الحالة قال لها: لا بأس عليك يا فتنة العالمين ثم أنه جعل يرفق بها ويلاطفها إلى أن عرفها بنفسه فلما عرفته صاحت صيحة عظيمة حتى غشي عليها من شدة ما حصل لها من الفرح فظن الملك أن هذه الصرعة من فزعها منه ثم إن ابن الملك وضع فمه على أذنها وقال لها: يا فتنة العالمين احقني دمي ودمك واصبري وتجلدي فقالت له: سمعاً وطاعة، ثم إنه خرج من عندها وتوجه إلى الملك فرحاً مسروراً وقال: أيها الملك السعيد قد عرفت بسعادتك داءها ودواءها وقد داويتها لك فقم الآن وادخل إليها ولين كلامك لها وترفق بها وعدها بما يسرها فإنه يتم لك كل ما تريد منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك لما جعل نفسه حكيماً، ودخل على الجارية وأعلمها بنفسه وأخبرها بالتدبير الذي يدبره فقالت له: سمعاً وطاعة ثم خرج من عندها وتوجه إلى الملك وقال له: قم ادخل عليها ولين كلامك لها وترفق بها وعدها بما يسرها فإنه يتم لك كل ما تريد منها فقام الملك ودخل عليها، فلما رأته قامت إليه وقبلت الأرض بين يديه ورحبت به ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً ثم أمر الجواري والخدم أن يقوموا بخدمتها ويدخلوها الحمام ويجهزوا لها الحلي والحلل فدخلوا إليها وسلموا عليها فردت عليهم السلام بألطف منطق وأحسن كلام ثم ألبسوها حللاً منملابس الملوك ووضعوا في عنقها عقداً من الجواهر وساروا بها إلى الحمام وخدموها ثم أخرجوها من الحمام كأنها بدر التمام ولما وصلت إلى الملك سلمت عليه وقلبت الأرض بين يديه فحصل للملك بها سرور عظيم وقال لابن الملك كل ذلك ببركتك زادنا الله من نفحاتك. فقال له ابن الملك: إن تمام برئها وكمال أمرها أنك تخرج أنت وكل من معك من أعوانك وعسكرك إلى المحل الذي كنت وجدتها فيه وتكون صحبتك الفرس الآبنوس التي كانت معها لأجل أن أعقد عنها العارض هناك وأسجنه وأقتله فلا يعود إليها أبداً فقال له الملك: حباً وكرامة، ثم أخرج الفرس الآبنوس إلى المرج الذي وجدها فيه هي والجارية والحكيم الفارسي وركب الملك مع جيشه وأخذ الجارية معه وهم لا يدرون ما يريد أن يفعل، فلما وصل إلى ذلك المرج أمر ابن الملك الذي جعل نفسه حكيماً أن توضع الجارية والفرس بعيداً عن الملك والعساكر بمقدار مد البصر وقال للملك: دستور عن إذنك أنا أريد أن أطلق البخور، وأتلو العزيمة وأسجن العارض هنا حتى لا يعود إليها أبداً، ثم بعد ذلك أركب الفرس الآبنوس وأركب الجارية خلفي فإذا فعلت ذلك الفرس تضطرب وتمشي حتى تصل إليك وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك لما قال لملك الروم: حتى تصل إليك فعند ذلك يتم الأمر فافعل بها بعد ذلك ما تريد فلما سمع الملك كلامه فرح فرحاً شديداً ثم أن ابن الملك ركب الفرس ووضع الصبية خلفه وصار الملك وجميع عساكره ينظرون إليه ثم إنه ضمها إليه وشد وثاقها وبعد ذلك فرك ابن الملك لولب الصعود فصعدت بهما الفرس في الهواء والعساكر تنظر إليه حتى غاب عن اعينهم ومكث الملك نصف يوم ينتظر عودته إليه، فلم يعد فيئس منه وندم ندماً عظيماً وتأسف على فراق الجارية ثم أخذ عسكره وعاد إلى مدينته. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر ابن الملك فإنه قصد مدينة أبيه فرحاً مسروراً ولم يزل سائراً إلى أن نزل على قصره وأنزل الجارية في القصر وامن عليها ثم ذهب إلى أبيه وأمه فسلم عليهما وأعلمهما بقدوم الجارية ففرحا بذلك فرحاً شديداً. هذا ما كان من أمر ابن الملك والفرس والجارية.
وأما ماكان من أمر ملك الروم فإنه لما عاد إلى مدينته احتجب في قصره حزيناً كئيباً فدخل عليه وزراؤه وجعلوا يسلونه ويقولون له أن الذي أخذ الجارية ساحراً والحمد لله الذي نجاك من سحره ومكره وما زالوا به حتى تسلى عنها، وأما ابن الملك فإنه عمل الولائم العظيمة لأهل المدينة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الثلاثمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك عمل الولائم العظيمة لأهل المدينة وأقاموا في الفرح شهراً كاملاً، ثم دخل على الجارية وفرحا ببعضهما فرحاً شديداً هذا ما كان من أمره وأما ما كان من أمر والده فإنه كسر الفرس الآبنوس وأبطل حركاتها، ثم إن ابن الملك كتب كتاباً إلى أبي الجارية وذكر له فيها حالها وأخبره أنه تزوج بها، وهي عنده في أحسن حال وأرسله إليه مع الرسول وصحبته هدايا وتحفاً نفيسة فلما وصل الرسول إلى مدينة أبي الجارية وهي صنعاء اليمن اوصل الكتاب والهدايا إلى ذلك الملك. فلما قرأ الكتاب فرح فرحاً شديداً وقبل الهدايا واكرم الرسول ثم جهز هدية سنية لصهره ابن الملك وأرسلها إليه مع ذلك الرسول فرجع بها إلى ابن الملك وأعلمه بفرح الملك أبي الجارية حين بلغه خبر ابنته فحصل له سرور عظيم وصار ابن الملك في كل سنة يكاتب صهره ويهاديه ولم يزالوا كذلك حتى توفي الملك أبو الغلام وتولى هو بعده في المملكة فعدل في الرعية وسار فيهم بسيرة مرضية فدانت له البلاد واطاعته البلاد واستمروا على هذه الحالة في ألذ عيش وأهنأه وأرغده إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب القصور ومعمر القبور فسبحان الذي لا يموت وبيده الملك والملكوت.

حكاية أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام

ومما يحكى أيضاً أنه في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك عظيم الشأن ذو عز وسلطان وكان له وزير يسمى ابراهيم وكانت له ابنة بديعة الحسن والجمال فائقة في البهجة والكمال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد بأن بنت الملك كانت فائقة البهجة والكمال ذات عقل وافر وأدب باهر، إلا أنها تهوى المنادمة والراح والوجوه الملاح ورقائق الأشعار ونوادر الأخبار تدعو العقول إلى الهوى رقة معانيها كما قال فيها بعض واصفيها:
كلفت بها فتانة الـتـرك والـعـرب                    تجادلني في الفقه والنـحـو والأدب
تقول أنا المفعول بي وخفضـتـنـي                  لماذا وهذا فاعل فلـم أنـتـصـب
فقلت لها نفسي وروحي لك الـفـدا                  ألم تعلمي أن الزمان قد انـقـلـب
وإن كنت يوماً تنكـرين انـقـلابـه                    فها انظري ما عقدة الرأس في الذنب

وكان اسمها الورد في الأكمام، وسبب تسميتها بذلك فرط رقتها وكمال بهجتها وكان الملك محباً منادماً لكمال أدبها، ومن عادة الملك أنه في كل عام يجمع أعيان مملكته ويلعب بالكرة فلما كان ذلك اليوم الذي يجمع فيه الناس للعب بالكرة جلست ابنة الوزير في الشباك لتتفرج فبينما هم في اللعب إذ لاحت منها التفاتة فرأت بين العسكر شاباً لم يكن أحسن منه منظراً ولا أبهى طلعة، نير الوجه ضاحك السن طويل الباع واسع المنكب فكررت فيه مراراً فيه النظر فلم تشبع منه النظر فقالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب المليح الشمائل الذي بين العسكر? فقالت لها: يا بنتي الكل ملاح فمن هو فيهم? فقالت لها: اصبري حتى أشير لك عليه، ثم أخذت تفاحة ورمتها عليه فرفع رأسه فرأى ابنة الوزير في الشباك كأنها البدر في الأفلاك، فلم يرد إليه طرفه وهو بعشقها مشغول الخاطر فأنشد قول الشاعر:
أرماني القواس أم جفنـاك                  فتكا بقلب الصب حين رآك
وأتاني السهم المفوق برهة                من جحفل أم جاء من شباك

فلما فرغ اللعب قالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب الذي أريته لك? قالت اسمه أنس الوجود، فهزت رأسها ونامت في مرتبتها وقدحت فكرتها، ثم صعدت الزفرات وانشدت هذه الأبيات:
ما خاب من سماك أنس الوجود           يا جامعاً ما بين أنس الوجـود
يا طلعة البدر الذي وجـهـه                 قد نور الكون وعم الـوجـود
ما أنت إلا مفرد في الـورى                سلطان ذي حسن وعنده شهود
حاجبك النون التـي حـررت                 ومقلتاك الصاد صنع الـودود
وقدك الغصن الرطيب الـذي                إذا دعي في كل شيء يجـود
قد فقت فرسان الورى سطوة              ولم تزل بفرط حسنك تسـود
فلما فرغت من شعرها كتبته في قرطاس ولفته في خرقة الحرير مطرزة بالذهب ووضعته تحت المخدة وكانت واحدة من داياتها تنظر إليها فجاءتها وصارت تمارسها حتى فاقت وسرقت الورقة من تحت المخدة وقرأتها، فعرفت أنها حصل لها وجد بأنس الوجود وبعد أن قرأت الورقة وضعتها في مكانها فلما استفاقت سيدتها الورد في الأكمام من نومها قالت لها: يا سيدتي إني لك من الناصحات وعليك من الشفيقات اعلمي أن الهوى شديد وكتمانه يذيب الحديد ويورث الأمراض والأسقام وما على من يبوح بالهوى ملام فقالت لها الورد في الأكمام: يا دايتي وما دواء الغرام? قالت: دواؤه الوصال قالت: وكيف يوجد الوصال? قالت: يا سيدتي يوجد بالمراسلة ولين الكلام، وإكثار التحية والسلام فهذا يجمع بين الأحباب وبه تسهل الأمور والصعاب وإن كان ذلك أمر يا مولاتي فانا اولى بكتم سرك وقضاء حاجتك وحمل رسالتك.
فلما سمعت منها الورد في الأكمام ذلك طار عقلها من الفرح لكن أمسكت نفسها عن الكلام حتى تنظر عاقبة أمرها وقالت في نفسها: إن هخذا الأمر ما عرفه أحد مني فلا أبوح به لهذه المرأة إلا بعد أن أختبرها فقالت المرأة: يا سيدتي إني رأيت في منامي كأن رجلاً جاءني وقال لي: أن سيدتك وأنس الوجود متحابان فمارسي أمرهما واحملي رسائلهما واقضي حوائجهما واكتمي أمرهما وأسرارهما يحصل لك خير كثير وهاأنا قد قصصت ما رأيت عليك والأمر إليك فقالت الورد في الأكمام لدايتها لما أخبرتها بالمنام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الورد في الأكمام قالت لدايتها لما أخبرتها بالمنام الذي رأته: هل تكتمين الأسرار يا دايتي فقالت لها: كيف لا أكتم الأسرار وأنا من خلاصة الحرار فأخرجت لها الورقة التي كتبت فيها الشعر وقالت لها: اذهبي برسالتي هذه إلى أنس الوجود، فلما دخلت عليه قبلت يديه وحيته بألف سلام ثم أعطته القرطاس فقرأه وفهم معناه ثم كتب في ظهره هذه الأبيات:
أعلل قلبي في الـغـرام وأكـتـم              ولكن حالي عن هـواي يتـرجـم
وإن فاض دمعي قلت جرح بمقلتي                 لئلا يرى حالي العذول فـيفـهـم
وكنت خالياً لست أعرف ما الهوى                  فأصبحت صباً والـفـؤاد مـتـيم
رفعت إليكم قصتي أشتكـي بـهـا                    غرامي ووجدي كي ترقواوترحموا
وسطرتها من دمع عيني لعـلـهـا                    بما حل بي منكم إليكم تـتـرجـم
رعى الله وجهاً بالجمال مـبـرقـاً           له البدر عبد والكواكـب تـخـدم
على حسن ذات ما رأيت مثيلـهـا                    ومن ميلها الأغصان عطفاً تتعلـم
وأسألكم من غير حمـل مـشـقة            زيارتنا إن الوصـال مـعـظـم
وهبت لكم روحي عسى تقبلونـهـا                  فلي الوصل خلد والصدود جهنـم

ثم طوى الكتاب وقبله واعطاه لها وقال للها: يا داية استعطفي خاطر سيدتك فقالت له: سمعاً وطاعة ثم أخذت منه المكتوب ورجعت إلى سيدتها وأعطتها الققرطاس فقبلته ورفعته فوق رأسها ثم فتحته وقرأته وفهمت معناه وكتبت في أسفله هذه الأبيات:
يا من تولع قلبـه بـجـمـالـنـا                أصبر لعلك في الهوى تحظى بنـا
لما علمـنـا أن حـبـك صـادق               وأصاب قلبك ما أصاب فـؤادنـا
زدناك فوق الوصل وصلاً مثـلـه                    لكن منع الوصل من حجـابـنـا
وإذا تجلى الليل من فرط الـهـوى                   تتوقد النـيران فـي أحـشـائنـا
رجعت مضاجعنا الجنوب وربمـا                    قد برح التبريح في أجسـامـنـا
الفرض في شرع الهوى كتم الهوى                لا ترفعوا المسبول من أستـارنـا
وقد انحشى مني الحشا بهوى الرشا               يا ليته ما غاب عـن أوطـانـنـا
فلما فرغت من شعرها طوت القرطاس وأعطته للداية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الورد في الأكمام طوت القرطاس وأعطته للداية فأخذته وخرجت من عند الورد في الأكمام بنت الوزير فصادفها الحاجب وقال لها: أين تذهبين? فقالت: إلى الحمام وقد انزعجت منه فوقعت الورقة حين خرجت من الباب وقت انزعاجها. هذا ما كان من امرها. وأما ما كان من أمر الورقة فإن بعض الخدام رآها مرمية في الطريق فأخذها ثم أن الوزير خرج من باب الحريم وجلس على سريره فقصد الخادم الذي التقط الورقة فبينما الوزير جالس على سريره وإذا بذلك الخادم تقدم إليه وفي يده الورقة وقال له: يا مولاي إني وجدت هذه الورقة مرمية في الدار فاخذتها فتناولها الوزير من يده وهي مطوية فرأى فيها الأشعار التي تقدم ذكرها فقرأها وفهم معناها ثم تأمل كتابتها فرآها بخط ابنته فدخل على أمها وهو يبكي بكاءً شديداً حتى ابتلت لحيته. فقالت له زوجته: ما أبكاك يا مولاي? فقال لها: خذي هذه الورقة وانظري ما فيها فأخذت الورقة وقرأتها فوجدتها مشتملة على مراسلة من بنتها الورد في الأكمام إلى أنس الوجود فجاءها البكاء لكنها غلبت في نفسها وكفكفت دموعها وقالت للوزير: يا مولاي إن البكاء لا فائدة فيه وإنما الرأي الصواب أن تبصر أن تتبصر في أمر يكون فيه صون عرضك وكتمان أمر ابنتك وصارت تسليه وتخفف عنه الأحزان فقال لها: إني خائف على ابنتي من العشق اما تعلمين أن السلطان يحب أنس الوجود محبة عظيمة ولخوفي من هذا الأمر سببان: الأول من جهتي وهو أنها ابنتي والثاني من جهة السلطان وهو أن أنس الوجود محظي عند السلطان وربما يحدث من هذا أمر عظيم فما رأيك في ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما أخبر زوجته بخبر ابنته وقال لها: فما رأيك في ذلك? قالت له: اصبر علي حتى أصلي صلاة الإستخارة ثم إنها صلت ركعتين سنة الإستخارة فلما فرغت من صلاتها قالت لزوجها: في وسط بحر الكنوز جبلاً يسمى جبل الثكلى وسبب تسميته بذلك سيأتي وذاك الجبل لا يقدر على الوصول إليه أحد إلا بالمشقة فاجعل لها موضعاً هناك فاتفق الوزير مع زوجته على أن يبني فيه قصراً منيعاً ويجعلها فيه ويضع عندها مؤونتها عاماً بعد عام ويجعل عندها من يؤنسها ويخدمها ثم جمع النجارين والبنائين والمهندسين وأرسلهم إلى ذلك الجبل فبنوا لها قصر منيعاً لم ير الراؤون ثم هيأ الزاد والراحلة ودخل على ابنته في الليل وأمرها بالسير فأحس قلبها بالفراق فلما خرجت ورأت هيئة الأسفار بكت بكاءً شديداً وكتبت على الباب تعرف أنس الوجود بما جرى لها من الوجد الذي تقشعر منه الجلود ويذيب الجلمود ويجري العبرات والذي كتبته هذه الأبيات:
بالـلـه يا دار إن مـر ضـحـى               مسلـمـاً بـإشـارات يحـيينـا
اهديه منا سلاماً زاكـياً عـطـراً             لأنه لـيس يدري أين أمـسـينـا
ولست أدري إلى أين الرحيل بنـا                    لما مضوا بي سريعاً مستخـفـياً
في جنح ليل وطير الأيل قد عكفت                  على الغصن تباكينا وتـنـعـينـا
وقال عنها لسان الحال واحـربـاه                   من التفرق ما بين المـحـبـينـا
لما رأيت كؤوس البعدقد مـلـئت           والدهر من صرفها بالقهر يسقينا
مزجتها بجميل الصبر معـتـذراً            وعنكم الآن ليس الصبر يسلـينـا

فلما فرغت من شعرها ركبت وساروا بها يقطعون البراري والقفار والأوعار حتى وصلوا إلى بحر الكنوز ونصبوا الخيام على شاطئ البحر ومدوا لها مركباً عظيمة وأنزلوها فيها هي وعائلتها وقد أمرهم أنهم إذا وصلوا إلى الجبل وأدخلوها في القصر هي وعائلتها يرجعون بالمركب وبعد أن يطلعوا من المركب يكسرونها فذهبوا وفعلوا جميع ما أمرهم به ثم رجعوا وهم يبكون على ما جرى. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر أنس الوجود فإنه قام من نومه وصلى الصبح ثم ركب وتوجه إلى خدمة السلطان فمر في طريقه على باب الوزير على جري العادة لعله يرى أحداً من أتباع الوزير الذين كان يراهم ونظر إلى الباب فرأى الشعر المتقدم ذكره مكتوباً علي.فلما غاب عن وجوده واشتعلت النار في أحشائه ورجع إلى داره ولم يقر له قرار ولم يزل في قلق ووجد إلى أن دخل فكتم أمره وتنكر وخرج في جوف الليل هائماً على غير طريق وهو لا يدري أين يسير فسار الليل كله وثاني يوم إلى أن اشتد الحر وتلهبت الجبال واشتد عليه العطش فنظر إلى شجرة فوجد بجانبها جدول ماء يجري فقصد تلك الشجرة وجلس في ظلها على شاطئ ذلك الجدول وأراد أن يشرب فلم يجد للماء طعم في فمه وقد تغير لونه واصفر وجهه وتورمت قدما من المشي والمشقة فبكى بكاءً شديداً وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
سكر العاشق في حب الـحـبـيب            كلـمـا زاد غـرامـاً ولـهـيب
هائم فـي الـحـب صـب تــائه               ما لـه مـأوى ولا زاد يطــيب
كيف يهنأ العيش لـلـصـب الـذي           فارق الأحباب ذا شيء عـجـيب
ذبـت لـمـا ذكـــا وجـــدي                   بهم وجرى دمعي على خدي صبيب
هل أراهـم أو أرى ربـعـهــم               أحداً يبرى به القـلـب الـكـئيب

فلما فرغ من شعره بكى حتى بل الثرى ثم قام من وقته وساعته وسار من ذلك المكان فبينما هو سائر في البراري والقفار إذ خرج عليه سبع رقبته مختنقة بشعره ورأسه قدر القبة وفمه أوسع من الباب وأنيابه مثل أنياب الفيل فلما رآه أنس الوجود أيقن بالموت واستقبل القبلة وتشهد واستعد للموت وكان قد قرأ في الكتب أن من خادع السبع انخدع له له لأنه ينخدع بالكلام الطيب وينتحي بالمديح فشرع يقول له: يا أسد الغابة يا ليث الفضاء يا ضرغام يا أبا الفتيان يا سلطان الوحوش إنني عاشق مشتاق وقد أتلفني العشق والفراق وحين فارقت الأحباب غبت عن الصواب فاسمع كلامي وارحم لوعتي وغربتي. فلما سمع الأسدمقالته تأخر عنه وجلس مقعياً على ذنبه ورفع رأسه إليه وصار يلعب ذنبه ويديه، فلما رأى أنس الوجود هذه الحركات أنشد هذه الأبيات:
أسد البيداء هل تفـلـتـنـي                   قبل ما ألقى الذي تـيمـنـي
لست صيداً لا ولا بي سمـن                فقد من أهواه قد أسقمـنـي
وفراق المحب أضنى مهجتي              فمثالي صورة فـي كـفـن
يا أبا الحرث يا ليث الوغـى                 لا تشمت عاذلي في شجنـي
أنا صب مدمعي غـرقـنـي                  وفراق الحب قد أقلـقـنـي
واشتغالي في دجى الليل بهـا              عن وجودي في الهوى غيبني

فلما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود لما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه بلطف وعيناه مغرغرتان بالدموع، ولما وصل إليه لحسه بلسانه ومشى قدامه وأشار إليه أن اتبعني ولم يزل سائراً وهو معه ساعة من الزمان حتى طلع به فوق جبل، ثم نزل به من فوق ذلك الجبل فرأى أثر المشي في البراري فعرف أن ذلك الأثر أثر مشي قوم بالورد في الأكمام فتبع الأثر ومشى فيه، فلما رآه الأسد يتبع الأثر وعرف أنه أثر مشي محبوبته رجع الأسد إلى حال سبيله.
وأما أنس الوجود فإنه لم يزل ماشياً في الأثر أياماً وليالي حتى أقبل على بحر عجاج متلاطم الأمواج ووصل الأثر إلى شاطئ البحر وانقطع فعلم أنهم ركبوا البحر وساروا فيه وانقطع رجاؤه منهم، والتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً في البرية فخشي على نفسه من الوحوش فصعد على جبل عال فبينما هو في الجبل إذ سمع صوت آدمي يتكلم من مغارة فصغى إليه وإذا هو عابد قد ترك الدنيا واشتغل بالعبادة، فطرق عليه المغارة ثلاث مرات فلم يجبه العابد فصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
كيف السبيل إلى أن أبلـغ الـربـا            وأترك الهم والتكدير والتـعـبـا
وكل هول من الأهوال شـيبـنـي           قلباً ورأساً مشيباً في زمان صبـا
ولم أجد لي معيناً في الغـرام ولا                    خلاص يخفف عني الوجد والنصبا
وكم أكابد في الأشواق مـن ولـه                    كأن دهري علي الآن قد انقلـبـا
وارحمتاه لصب عـاشـق قـلـق             كأس التفرق والهجران قد شربـا
فالنار في القلب والأحشاء قد محيت                والعقل من لوعة التفريق قد سلبـا
ما كان أعظم يوم جئت منزلـهـم                    وقد رأيت على الأبواب ما كتـبـا
بكيت حتى سقيت الأرض من حرق                 لكن كتمت على الدانين والغـربـا
يا عابداً قد تغاضى في مغـارتـه           كأن ذلك طعم العشق وانسـلـبـا
وبعـد هـذا وهـذا كـلـه فـإذا                بلغت قصدي فلا هماً ولا تعـبـا

فلما فرغ من شعره وإذا بباب المغارة قد انفتح وسمع قائلاً يقول: وارحمتاه، فدخل الباب وسلم على العابد وقال له: ما اسمك? قال: اسمي أنس الوجود، فقال له: ما سبب مجيئك إلى هذا المكان? فقص عيه قصته من أولها إلى آخرها وأخبره ما جرى له فبكى العابد وقال له: يا أنس الوجود إن لي في هذا المكان عشرين عاماً ما رأيت فيه أحداً إلا بالأمس، فإني سمعت بكاءً وغواشاً فنظرت إلى جهة الصوت فرأيت ناساً كثيرين وخياماً منصوبة على شاطئ البحر وأقاموا مركباً ونزل فيه قوم منهم وساروا به في البحر ثم رجع بالمركب بعض من نزل فيه وكسروه وتوجهوا إلى حال سبيلهم، وأظن أن الذين ساروا على ظهر البحر ولم يرجعوا هم الذين أنت في طلبهم يا أنس الوجود وحينئذٍ يكون همك عظيماً وأنت معذور، ولكن لا يوجد محب إلا وقد قاسى الحسرات، ثم أنشد العابد هذه الأبيات:
أنس الوجود خلي البال تحـسـبـنـي                 والشوق والوجد يطويني وينشـرنـي
إني عرفت الهوى والعشق من صغري            من حين كنت صبياً راضع الـلـبـن
مارسته زمناً حـتـى عـرفـت بـه           إن كنت تسأل عني فهو يعـرفـنـي
شربت كأس الجوى من لوعةٍ وضنـى             فصرت محواً بهـمـن رقة الـبـدن
قد كنت ذا قوة لكـن هـي جـلـدي                    وجيش صبري بأسياف اللحاظ فـنـي
لا ترتجي في الهوى وصلاً بغير جفـا              فالضد بالضد مقرون مدى الـزمـن
قضى الغرام على العشاق أجمعـهـم                إن السلـو حـرام بـدعة الـفـنـن

فلما فرغ العابد من إنشاد شعره قام إلى أنس الوجود وعانقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن العابد لما فرغ من إنشاد شعره قام إلى أنس الوجود وعانقه وتباكيا حتى دوت الجبال من بكائهما. ولم يزالا يبكيان حتى وقعا مغشياً عليهما، ثم أفاقا وتعاهدا على أنهما أخوان في عهد الله تعالى، ثم قال العابد لأنس الوجود: أنا في هذه الليلة أصلي وأستخير الله على شيء تعمله فقال له أنس الوجود: سمعاً وطاعة.
هذا ما كان من أنس الوجود، واما ما كان من أمر الورد في الأكمام فإنها لما وصلوا بها إلى الجبل وأدخلوها القصر ورأته ورأت ترتيبه بكت وقالت: والله إنك مكان مليح غير أنك ناقص وجود الحبيب فيك ورأت في تلك الجزيرة أطياراً فأمرت بعض أتباعها أن ينصب لها فخاً ويصطاد به منها وكل ما اصطاده يضعه في أقفاص من داخل القصر ففعل ما أمرته به، ثم قعدت في شباكالقصر وتذكرت ما جرى لها وزاد بها الغرام والوجد والهيام فبكت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
يا لمن أشتكي الغرام الـذي بـي            وشجوني وفرقتني عن حبـيبـي
ولهيباً بين الـضـلـوع ولـكـن               لست أبديه خفـية مـن رقـيب
ثم أصبـحـت رق عـود خـلال              من بـعـاد وحـرقة ونـحـيب
أين عين الحبيب حتـى تـرانـي             كيف أصبحت مثل حال السلـيب
قد تعدو علـي إذ حـجـبـونـي               في مكان لم يستطعه حـبـيبـي
أسأل الشمس حمل ألـف سـلام            عند وقت الشروق ثم الـغـروب
أحبيب قد أخجل البدر حـسـنـاً             منذ تبدى وفاق قد الـقـضـيب
إن حكى الورد خده قـلـت فـيه             لست تحكي إن لم تكن من نصيبي
إن في ثغره لـسـلـسـال ريق               يجلب البرد عند حر الـلـهـيب
كيف أسلوه وهو قلبـي وروحـي                    مسقمي ممرضي حبيبي طبيبـي

هذا ما كان من أمر الورد في الأكمام، وأما ما كان من أنس الوجود فإن العابد قال له: انزل إلى الوادي وائتني من الفخيل بليف فنزل وجاء له بليف فأخذه العابد وقتله وجعله شنفاً مثل أشناف التبن وقال له: يا أنس الوجود إن في جوف الوادي فرعاً يطلع وينشف على أصوله فانزل إليه واملأ هذا الشنف منه واربطه وارمه في البحر واركب عليه وتوجه به وسط البحر لعلك تبلغ قصدك، فإن من لم يخاطر بنفسه لم يبلغ المقصود، فقال: سمعاً وطاعة ثم ودعه وانصرف من عند إلى ما أمره به بعد أن دعا له العابد، ولم يزل أنس الوجود سائر إللا جوف الوادي وفعل كما قال له العابد، ولما وصل بالشنف إلى وسط البحر هبت عليه ريح فزقه الشنف حتى غاب عن عين العابد، ولم يزل سابحاً في لجة البحر ترفعه موجة وتحطه أخرى وهو يرى ما في البحر من العجائب والأهوال إلى أن رمته المقادير على جبل الثكلى بعد ثلاثة أيام من فنزل إلى البر مثل الفرخ الدايخ لهفان من الجوع والعطش فوجد في ذلك المكان أنهاراً جارية وأطياراً مغردة على الأغصان وأشجاراً مثمرة صنواناً وغير صنوان فأكل من الأثمار وشرب من الأنهار وقام يمشي فرأى بياضاً على بعد فمشى جهته حتى وصل إليه فوجده قصراً منيعاً حصيناً فأتى إلى باب القصر فوجده مقفولاً فجلس عنده ثلاثة أيام.
فبينما هو جالس وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه شخص من الخدم فرأى أنس الوجود قاعداً فقال له: من أين أتيت ومن أوصلك إلى هنا? فقال أنس الوجود: من أصبهان وكنت مسافراً في البحر بتجارة فانكسر المركب الذي كنت فيه فرمتني الأمواج على ظهر هذه الجزيرة، فبكى الخادم وعانقه وقال: حياك الله يا وجه الأحباب أن أصبهان بلادي ولي فيها بنت عم كنت أحبها وأنا صغير وكنت مولعاً بها فغزى بلادنا قوم أقوى منا وأخذوني في جملة الغنائم وكنت صغيراً فقطعوا إحليلي ثم باعوني خادماً وهاأنا في تلك الحالة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم الذي خرج من قصر الورد في الأكمام حدث أنس الوجود بجميع ما حصل وقال له أن القوم الذين أخذوني قطعوا إحليلي وباعوني خادماً وهاأنا في تلك الحالة، وبعدما سلم عليه وحياه أدخله ساحة القصر، فلما دخل رأى بحيرة عظيمة وحولها أشجار وأغصان وفيها أطيار في أقفاص من فضة وأبواباها من الذهب وتلك الأقفاص معلقة على الأغصان والأطيار فيها تناغي وتسبح الديان، فلما وصل إلى أولها تأمله فإذا هو قمري فلما رآه الطير مد صوته وقال: يا كريم فغشي على أنس الوجود، فلما أفاق من غشيته صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
أيها القمري هل بمثلي تـهـيم              فاسأل المولى وغرد يا كـريم
يا ترى نوحـك هـذا طـرب                  أو غرام منك في القلوب مقيم
أن تنح وجداً لأحباب مـضـوا              أو خلفت بهم مضنى سـقـيم
أو فقدت الحب مثلي في الهوى            فالتجافي يظهر الوجد القـديم
يا رعى الله محبـاً صـادقـاً                  لست أسلوه ولو عظمي رميم
فلما فرغ من شعره بكى حتى وقع مغشياً عليه، وحين أفاق من غشيته مشى حتى وصل إلى ثاني قفص فوجده فاختاً، فلما رآه الفاخت غرد وقال: يا دايم أشكرك، فصعد أنس الوجود الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
وفاخت قد طال فـي نـوحـه                يا دائماً شكراً على بـلـوتـي
عسى لعل الله مـن فـضـلـه                 يقضي بوصل الحب في سفرتي
ورب معسول اللمـى زارنـي               فزادني عشقاً على صبـوتـي
قلت والنيران قـد أضـرمـت                في القلب حتى أحرقت مهجتي
والدمع مسفوك يحـاكـي دمـاً              قد فاض يجري على وجنـتـي
ما تم مخـلـوق بـلا مـحـنة                 لكن لي صبراً على محنـتـي
بقدرة اللـه مـتـى لـمـنـي                   وقت الصفا يوماً على سادتـي
جعلت للعشاق مـالـي قـرى                 لأنهم قوم عـلـى سـنـتـي
وأطلق الأطيار من سجـنـهـا               واترك الأحزان من فرحـتـي
فلما فرغ من شعره تمشى إلى ثالث قفص فوجده هزاراً، فزعق الهزار عند رؤيته، فلم سمعه أنشد هذه الأبيات: 
إن الهزار لطيف الصوت يعجبنـي                   كأنه صوت صب في الغرام فنـي
وارحمتاه على العشاق ثم قلـقـوا                   من ليلة بالهوى والشوق والمحـن
كأنهم من عظيم الشوق قد خلـفـوا                 بلا صباح ولا نوم من الـشـجـن
لما جننت بمـن أهـواه قـيدنـي             فيه الغرام ولمـا فـيه قـيدنـي
تسلسل الدمع من عيني فقلـت لـه                  سلاسل الدمع قد طالت فسلسلنـي
زاد اشتياقي وطال البعد وانعدمـت                 كنوز صبري وفرط الوجد أتلفنـي
إن كان في الدهر أنصاف ويجمعني                بمن أحب وستر الله يشمـلـنـي
قلعت ثوبي لحبي كي يرى جسـدي                 بالصد والبعد والهجران كيف ضني
فلما فرغ من شعره تمشى إلى رابع قفص فوجده بلبلاً، فناح وغرد عند رؤية أنس الوجود، فلما سمع تغريده سكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
إن للبلبل صوتاً في الـسـحـر               شعل العاشق من حسن التوتر
في الهوى أنس الوجود المشتكي                   من غرام قد محا منـه الأثـر
كم سمعنا صوت ألحان محـت              طرباً صلد الحديد والحـجـر
ونسيم الصبح قـد يروي لـنـا              عن رياض يانعات بالـزهـر
فطربـنـا بـسـمـاع وشـذا                   من نسيم وطيور في السحـر
وتذكـرنـا حـبـيبـاً غـائبـاً                    فجرى الدمع سيولاً ومـطـر
ولهيب النار فـي أحـشـائنـا                 مضمر ذاك كجمر بالـشـرر
متع الله مـحـبـاً عـاشـقـاً                    من حبيب بوصـال ونـظـر
إن للعشاق عـذراً واضـحـاً                 ليس يدري العذر إلا ذو النظر

فلما فرغ من شعره مشى قليلاً فرأى قفصاً حسناً لم يكن هناك أحسن منه فلما قرب منه وجده حمام الأيك وهو اليمام المشهور من بين الطيور فوجده ذاهلاً باطلاً ينوح الغرام وفي عنقه عقد من جوهر بديع النظام ونأمله فوجده ذاهلاً باطلاً باهتاً في قفصه فلما رآه بهذا الحال أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
يا حمام الأيك أقرئك الـسـلام               يا أخا العشاق من أهل الغـرام
إنني أهـوى غـزالاً أهـيفـاً                  لحظة أقطع من حد الحـسـام
في الهوى أحرق قلبي والحشى           وعلا جسمي تحول وسـقـام
ولذيذ الـزاد قـد أحـرمـتـه                  مثل ما احرمت من طيب المنام
واصطباري وسـلـوى رحـلا               والهوى بالوجد عندي قد أقـام
كيف يهنأ العيش لي من بعدهـم           وهم روحي وقصدي والمـرام

فلما فرغ أنس الوجود من شعره. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود لما فرغ من شعره التفت إلى صاحبه الأصبهاني وقال له: ما هذا القصر ومن هو الذي بناه? قال له: بناه وزير الملك الفلاني لابنته خوفاً عليها من عوارض الزمان وطوارق الحدثان وأسكنها فيه هي وأتباعها ولا تفتحه إلا في كل سنة مرة لما تأتي إليهم مؤونتهم فقال في نفسه: قد حصل المقصود ولكن المدة طويلة، هذا ما كان من أمر أنس الوجود وأما ما كان من أمر الورد في الأكمام فإنها لم يهنأ لها شراب ولا طعام ولا قعود ولا منام فقامت وقد زاد بها الغرام والهيام ودارت في أركان القصر فلم تجد لها مصرفاً فسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
حبسوني عن حبـيبـي قـوة                 وأذاقوني بسجني لوعـتـي
أحرقوا قلبي بنيران الـهـوى               حيث ردوا عن حبيبي نظرتي
حبسوني في قصـور شـيدت               في جبال خلقت فـي لـجة
إن يكونوا قد رأوا ستـرتـي                لم تزد في الحب إلا محنتـي
كيف أسلو والذي بي كـلـه                 أصله في وجه حبي نظرتي
فنهاري كـلـه فـي أسـف                    أقطع الليل بهم في فكرتـي
وأنيسي ذكرهم في وحـدتـي               حين ألقى منم لقاهم وحشتي
يا ترى هل بعد هـذا كـلـه                   يسمح الدهر بلقيا مـنـيتـي

فلا فرغت من شعرها طلعت إلى سطح القصر وأخذت أثواباً بعلبكية وربطت نفسها فيها حتى وصلت إلى الأرض وقد كانت لابسة أفخر ما عندها من اللباس وفي عنقها عقد من الجواهر وسارت في تلك البراري والقفار حتى وصلت إلى شاطئ البحر فرأت صياداً في مركب دائر في البحر يصطاد فرماه الريح على تلك الجزيرة فالتفت فرأى الورد في الأكمام في تلك الجزيرة، فلما رآها فزع منها وخرج بالمركب هارباً فنادته وأكثرت إليه الإشارات وأنشدت هذه الأبيات:
يا أيها الصياد لا تخشى الـكـدر            غنني إنسية مـثـل الـبـشـر
أريد منك أن تجـيب دعـوتـي               وتسمعن قولي بإسناد الـخـبـر
فارحم وقال الله حر صبـوتـي              إن أبصرت عيناك محبوباً نفـر
فإنني أهوى ملـيحـاً وجـهـه               فاق وجه الشمس نور القـمـر
والظبي لمـا رأى ألـحـاظـه                 قد قال إني عبده ثـم اعـتـذر
قد كتب الحسن على وجـنـتـه              سطراً بديعاً في المعاني مختصر
فمن رأى نور الهوى قد اهتـدى                    أما الذي ضل تعـدى وكـفـر
إن شاء تعذيبـي بـه يا حـبـذا              فكل ما ألـقـاه أجـراً وأجـر
ومن يواقيت ومـا أشـبـهـهـا               ولؤلؤ رطـب وأنـواع الـدرر
عسى حبيبي أن يوحي بالمـنـى           فإن قلبي ذاب شوقاً وانفـطـر

فلما سمع الصياد كلامها أرسى مركبه على البر وقال لها: انزلي في المركب حتى أعدي بك إلى أي موضع تريدين فنزلت في المركب وعوم بها فلما فارق البر بقليل هبت على المركب ريح من خلفها فسارت المركب بسرعة حتى غاب البر عن أعينهما، وصار الصياد لا يعرف أن يذهب ومكث اشتداد الريح مدة ثلاثة أيام ثم سكن الريح بإذن الله تعالى ولم تزل المركب تسير بهما حتى وصلت إلى مدينة على شاطئ البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المركب لما وصلت بالصياد والورد في الأكمام إلى مدينة على شاطئ البحر أراد الصياد أن يرسي مركبه على تلك المدينة وكان فيها ملك عظيم السطوة يقال له درباس وكان في ذلك الوقت جالساً هو وابنه في قصر مملكته وصارا ينظران من شباك القصر فالتفتا إلى جهة البحر فرأيا تلك المركب فتأملاها فوجدا فيها صبية كأنها البدر في أفق السماء وفي أذنيها حلق من البلخش الغالي وفي عنقها عقد من الجوهر النفيس فعرف الملك أنها من بنات الأكابر والملوك فنزل الملك من قصره وخرج من باب القيطون فرأى المركب قد رست على الشاطئ وكانت البنت نائمة والصياد مشغولاً بربط المركب فأيقظها الملك من منامها فاستيقظت وهي تبكي فقال لها الملك: من أين أنت وابنة من أنت وما سبب مجيئك هنا? فقالت له الورد في الأكمام: أنا ابنة إبراهيم وزير الملك الشامخ وسبب مجيئي هنا أمر عجيب وحكت له جميع قصتها من أولها إلى آخرها ولم تخف عنه شيئاً ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
قد قرح الدمع جفني فاقتضى عجبـاً                من التكدر لما فاض وانـسـكـبـا
من أجل خل سوى في مهجتي أبـداً                ولم أنل في الهوى من وصله أربـا
له محيا جـمـيل بـاهـر نـضـر              وفي الملاحة فاق الترك والعـربـا
والشمس والبدر قد مالا لطلـعـتـه                   كالصب والتزما في حـبـه الأدبـا
وطرفه بعجيب السحر مكـتـحـل           يريك قوساً لرمي السهم منتصـبـا
يا من له حالتي أوضحت معـتـذراً                   ارحم محباً به صرف الهوى لعـبـا
إن الهوى قد رماني في وسط ساحتكم             ضعيف عزم ومنكم ارتجى حسـبـا
إن الكرام إذا ما حل سـاحـتـهـم            مستحسب فحماهم يرفع الحـسـبـا
فاستر فضائح أهل العشق يا أمـلـي                وكن لوصلتـهـم يا سـيدي سـبـا

فلما فرغت من شعرها حكت للملك قصتها من أولها إلى آخرها فقال لها: لا خوف عليك ولا فزع قد وصلت إلى مرادك، فلا بد أن أبلغك ما تريدينه وأوصل إليك ما تطلبينه فاسمعي مني هذه الكلمات ثم أنشد هذه الأبيات:
بنت الكرام بلغت القصد والأربا            لك البشارات لا تخشى هنا نصبا
اليوم أجمع أمـوالاً وأرسـلـهـا             لشامخ صحبة الفرسان والنجـبـا
نوافح المسك والديباج أرسـلـهـا                    وأرسل الفضة البيضاء والذهبـا
نعم وتخبره عني مـكـاتـبـتـي              أني مريداً له صهراً ومنتـسـبـا
وأبذل اليوم جهدي في معـاونـه                    حتى يكون الذي تهوين مقتـربـا
قد ذقت طعم الهوى دهراً وأعرفه                  وأعذر اليوم من كأس الهوى شربا

فلما فرغ من شعره خرج إلى عسكره ودعا بوزيره وحزم له مالاً لا يحصى وأمره أن يذهب بذلك إلى الملك الشامخ وقال له: لا بد أن تأتيني بشخص اسمه أنس الوجود وقل له: أنه يريد مصاهرتك بأن يزوج ابنته لأنس الوجود تابعك فلا بد من إرساله معي حتى نعقد عقده عليها في مملكة أبيها ثم أن الملك درباس كتب مكتوباً للملك الشامخ بمضمون ذلك وأعطاه لوزيره وأكد عليه في الإتيان بأنس الوجود وقال له: إن لم تأتني به تكون معزولاً عن مرتبتك فقال له: سمعاً وطاعة ثم توجه بالهدية إلى الملك الشامخ فلما وصل إليه بلغه السلام عن الملك درباس وأعطاه المكاتبة والهدية التي معه فلما رآه الملك الشامخ وقرأ المكاتبة ونظر اسم أنس الوجود بكى بكاءً شديداً وقال للوزير المرسل إليه: وأين أنس الوجود فإنه ذهب ولا نعلم مكانه فأتني به وأنا أعطيك أضعاف ما جئت به من الهدية، ثم بكى وأنّ واشتكى وافاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
ردوا علي حـبـيبـي                لا حاجة لي بـمـال
ولا أريد هــــدايا                   من جواهـر ولآلـي
قد كان عنـدي بـدراً               سما بأفـق جـمـال
وفاق حسناً ومعـنـى              ولم يقـس بـغـزال
وقـد غـصـن بـان                  أثـمـاره مـن دلال
وليس في الغصن طبع            يسبي عقول الرجـال
ربيبه وهـو طـفـل                 على مهـاد الـدلال
وإنـنـي لـحــزين                   عليه مشغول البـال

ثن التفت إلى الوزير الذي جاء بالهدية والرسالة وقال له: اذهب إلى سيدك وأخبره أن أنس الوجود مضى عام وهو غائب وسيده لم يدر أين ذهب ولا يعرف له خبر فقال له الوزير: يا مولاي إن سيدي قال لي إن لم تأتني به تكن معزولاً عن الوزارة ولا تدخل مدينتي فكيف أذهب إليه بغيره فقال الملك الشامخ لوزيره ابراهيم: اذهب معه صحبة جماعة وفتشوا على أنس الوجود في سائر الأماكن فقال له: سمعاً وطاعة ثم أخذ من أتباعه واصطحب وزير الملك درباس وساروا في طلب أنس الوجود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابراهيم وزير الملك الشامخ أخذ جماعة من أتباعه واصطحب وزير الملك درباس وساروا في طلب أنس الوجود فكانوا كلما مروا بعرب أو قوم يسألونهم عن أنس الوجود فيقولون لهم: هل مر بكم شخص اسمه كذا وصفته كذا وكذا? فيقولون: لا نعلمه وما زالوا يسألون المدائن والقرى ويفتشون في السهول والأوعار والبراري والقفار حتى وصلوا إلى شاطئ البحر وطلعوا في مركب ونزلوا فيها وساروا بها حتى أقبلوا على جبل الثكلى. فقال وزير الملك درباس لوزير الملك الشامخ: لأي شيء سمي هذا الجبل بذلك الاسم? فقال له: لأنه نزلت به جنية في قديم الزمان وكانت نلك الجنية من جن الصين وقد أحبت إنساناً ووقع له معها غرام وخافت على نفسها من أهلها فلما زاد بها الغرام فتشت في الأرض على مكان تخفيه فيه عن أهلها فوجدت هذا الجبل منقطعاً من الإنس والجن بحيث لا يهتدي إلى طريقه أحد من الإنس والجن فاختطفت محبوبها ووضعته فيه وصارت تذهب إلى أهلها وتأتيه في خفية ولم تزل على ذلك زمناً طويلاً حتى ولدت منه في ذلك الجبل أطفالاً متعددة وكا كل من يمر على هذا الجبل من التجار والمسافرين في البحر يسمع بكاء الأطفال كبكاء المرأة التي ثكلت أولادها أي فقدتهم فقيقول: هل هنا ثكلى فتعجب وزير الملك درباس من هذا الكلام.
ثم إنهم ساروا حتى وصلوا إلى القصر وطرقوا الباب فانفتح الباب فخرج لهم خادم فعرف ابراهيم وزير الملك الشامخ فقبل يده ثم دخل القصر فوجد في فسحته رجلاً فقيراً بين الخدامين وهو أنس الوجود فقال لهم: من أين هذا? فقالوا له: إنه رجل تاجر غرق ماله ونجا بنفسه وهو مجذوب فتركه، ثم مشى إلى داخل القصر فلم يجد لابنته أثراً فسأل الجواري التي هناك فقلن له: ما عرفنا كيف راحت ولا أقامت معنا سوى مدة يسيرة فسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:
أيها الدار الـتـي أطـيارهـا                  قد تغنت وازدهت أعتابـهـا
فأتاها الصب ينعـي شـوقـه                 ورآها فتـحـت أبـوابـهـا
ليت شعري أين ضاعت مهجتي           عند دار قد نـأى أربـابـهـا
كان فيها كل شـيء فـاخـر                 واستطاعت واعتلى حجابـهـا
وكسوها حلل مـن سـنـدس                يا ترى أين غدت أصحابـهـا

فلما فرغ من شعره بكى وأنّ واشتكى وقال: لا حيلة في قضاء الله ولا مفر مما قدره وقضاه، ثم طلع إلى سطح القصر فوجد الثياب البعلبكية مربوطة في شرارف واصلة إلى الأرض فعرف أنها نزلت من ذلك المكان وراحت كالهائج الولهان والتفت فرأى هناك طيرين غراباً وبومة فتشاءم من ذلك وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
أتيت إلـى دار الأحـبة راجـياً               بآثارهم اطفاء وجدي ولوعتـي
فلم أجد الأحباب فيها ولـم أجـد            بها غير مشؤمي غراب وبومة
وقال لسان الحال قد كنت ظالماً            وفرقت بين المغرمين الأحـبة
فذق طعم ما ذاقوه من ألم الجوى                  وعش كمداً ما بين دمع وحرقة

ثم نزل من فوق القصر وهو يبكي وقد أمر الخدام أن يخرجوا إلى الجبل ويفتشوا على سيدتهم ففعلا ذلك فلم يجدوها. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر أنس الوجود فإنه لما تحقق أن الورد في الأكمام قد ذهبت صاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه واستمر في غشيته فظنوا أنه أخذته جذبة من الرحمن واستغرق في جمال هيبة الديان ولما يئسوا من وجود أنس الوجود واشتغل قلب الوزير ابراهيم بفقد ابنته الورد في الأكمام أرارد وزير الملك درباس أن يتوجه إلى بلاده وإن لم يفز من سفره بمراده. فأخذ يودعه الوزير ابراهيم والد الورد في الأكمام فقال له وزير الملك درباس: إني أريد أن آخذ هذا الفقير معي عسى الله أن يعطف على الملك ببركته لأنه مجذوب، ثم بعد ذلك أرسله إلى بلاد أصبهان لأنها قريبة من بلادنا، فقال: افعل ما تريد، ثم انصرف كل منهما متوجه إلى بلاده وقد أخذ وزير الملك درباس أنس الوجود معه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العاشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن وزير الملك درباس أخذ أنس الوجود وهو مغشي عليه وسار ثلاثة أيام وهو في غشيته محمولاً على البغال ولا يدري هل هو محمول أو لا، فلما أفاق من غشيته قال: في أي مكان أنا? فقالوا له: أنت صحبة وزير الملك درباس، ثم ذهبوا إلى الوزير وأخبروه أنه قد أفاق فأرسل إليه ماء الورد والسكر فيقوه وأنعشوه ولم يزالوا مسافرين حتى قربوا من مدينة الملك درباس فأرسل الملك إلى الوزير يقول له: إن لم يكن أنس الوجود معك فلا تأتي أبداً.
فلما قرأ مرسوم الملك عسر عليه ذلك وكان الوزير لا يعلم أن الورد في الأكمام عند ولا يعلم سبب إرسال الملك إياه إلى أنس الوجود ولا يعلم أن الوزير مرسل في طلبه والوزير لا يعلم أن هذا هو أنس الوجود فلما رأى الوزير أن أنس الوجود قد استفاق قال له: إن الملك أرسلني في حاجة وهي لم تقض ولما علم بقدومي أرسل إلي مكتوباً يقول لي فيه: إن لم تكن الحاجة قضيت فلا تدخل مدينتي، فقال له: وما حاجة الملك? فحكى له جميع الحكاية فقال له أنس الوجود: لا تخف واذهب إلى الملك وخذني معك وأنا أضمن مجيء أنس الوجود. ففرح الوزير بذلك وقال له: أحق ما تقول? فقال: نعم، فركب وأخذه معه وسار به إلى الملك فلما وصلا إلى الملك قال له: أين أنس الوجود? فقال له أنس الوجود: أيها الملك أنا أعرف مكان أنس الوجود فقربه الملك إليه وقال له: في أي مكان هو? قال: في مكان قريب جداً ولكن أخبرني ماذا تريد منه وأنا أحضره بين يديك فقال له: حباً وكرامة ولكن هذا الأمر يحتاج إلى خلوة. ثم أمر الناس بالإنصراف ودخل معه خلوة وأخبره الملك بالقصة من أولها إلى آخرها فقال له أنس الوجود: ائتيني بثياب فاخرة وألبسني إياها وأنا آتيك بأنس الوجود سريعاً فأتاه ببدلة فاخرة فلبسها وقال: أن أنس الوجود وكمد الحسود، ثم رمى القلوب باللحظات وأنشد هذه الأبيات:
يؤانسني ذكر الحبيب بـخـلـوتـي                    ويطرد عني في التباعد وحشـتـي
وما لي غير الدمع عـين وإنـمـا           إذا فاض من عيني يخفف زفرتي
وشوقي شديد ليس يوجـد مـثـلـه                  وأمري عجيب في الهوى والمحبة
فأقطع ليلي ساهر الجفن لـم أنـم                    وفي العشق أسعى بين نـاروجـنة
وقد كان لي صبر جميل عدمـتـه                    وما منحني في الحب إلا بمحنتـي
وقد رق جسمي من أليم بعـادهـم                   وغيرت الأشواق وصفي وصورتي
وأجفان عيني بالدموع تـقـرحـت                    ولم أستطع أني أرجع دمـعـتـي
وقد قل حيلي والفـؤاد عـدمـتـه           وكم ذا لاقى لوعة بـعـد لـوعة
وقلبي ورأسي بالمشيب تشـابـهـا                   على سادة بالحسن أحسـن سـادة
على زعمهم كان التفرق بـينـنـا           وما قصدهم إلا لقائي ووصلـتـي
فيا هل ترى بعد التقاطع والـنـوى                   أيمنعني دهري بوصل أحـبـتـي
ويطوي كتاب البعد من بعد نشـره                  وتمحى براحات الوصال مشقتـي
ويبقى حبيبي في الديار منـادمـي                   وتبدل أحزاني بصفو سـريرتـي

فلما فرغ من شعره قال له الملك: والله إنكما لمحبان صادقان وفي سماء الحسن كوكبان نيران وأمركما عجيب وشأنكما غريب، ثم حكى له حكاية الورد في الأكمام إلى آخرها فقال له: وأين هي يا ملك الزمان? قال: هي عندي الآن، ثم أحضر الملك القاضي والشهود وعقد عقدها عليه وأكرمه وأحسن إليه، ثم أرسل الملك درباس إلى الملك الشامخ وأخبره بجميع ما اتفق له من أمر أنس الوجود والورد في الأكمام، ففرح الملك الشامخ بذلك غاية الفرح وأرسل إليه مكتوباً مضمونه حيث حصل عقد العقد عندك ينبغي أن يكون الفرح والدخول عندي.
ثم جهز الجمال والخيل والرجال وأرسل في طلبهما، فلما وصلت الرسالة إلى الملك درباس أمدهما بمال عظيم وأرسلهما مع جملة عسكره فساروا بهما جتى دخلوا مدينتهما وكان يوماً مشهوداً لم ير أعظم منه، وجمع الملك الشامخ سائر المطربات من آلات المغاني وعمل الولائم ومكثوا على ذلك سبعة أيام، وفي كل يوم يخلع الملك الشامخ على الناس الخلع السنية ويحسن إليهم، ثم إن أنس الوجود دخل على الورد في الأكمام فعانقها وأخذا يبكيان من فرط الفرح والمسرات وأنشد هذه الأبيات:
جاء السرور أزال الهم والحزنـا           ثم اجتمعنا وأكمدنا حواسـدنـا
ونسمة الوصل قد هبت معطرة            فأحيت القلب والأحشاء والبدنـا
وبهجة الأنس قد لاحت مخلـقة            وفي الخوافق قد دقت بشائرنـا
لا تحسبوا اننا باكون من حـزن            لكن من فرح فاضت مدامعنـا
فكم رأينا من الأهوال وانصرفت                    وقد صبرنا على من هيج الشجنا
فساعة من وصال قد نسيت بها           ما كان من شدة الأهوال شيبنا

فلما فرغ من شعره تعانقا ولم يزالا متعانقين حتى وقعا مغشياً عليهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود والورد في الأكمام لما اجتمعا متعانقين ولم يزالا متعانقين حتى وقعا مغشياً عليهما من لذة الإجتماع فلما أفاقا من غشيتهما أنشد أنس الوجود هذه الأبيات:
ما أحلاهـا لـيلات الـوفـا                    حيث أمسى لي حبيبي منصفا
وتوالى الوصل فيما بـينـنـا                 وانفصال الهجر عنا قد وفى
وإلينا الدهر يسعى مـقـبـلاً                 بعد ما مال وعنا انحـرفـا
نصب السعد لنـا أعـلامـه                   وشربنا منه كأساً قد صـفـا
واجتمعنا وتشاكـينـا الآسـى                ولليلات تقضت بالـجـفـا
ونسينا ما مضى يا سـادتـي                وعفا الرحمن عما سـلـفـا
ما ألذ العـيش مـا أطـيبـه                   لم يزدني الوصل إلا شغفـا

فلما فرغ من شعره تعانقا واضطجعا في خلوتهما، ولم يزالا في منادمة وأشعار ولطف وحكايات وأخبار حتى غرقا في بحر الغرام ومضت عليهما سبعة أيام وهما لا يدريان ليلاً من نهار لفرط ما هما فيه من لذة وسرور وصفو وحبور، فكأن السبعة أيام يوم واحد ليس له ثاني، وما عرفا يوم الأسبوع إلا بمجيء آلات المغاني، فأكثرت الورد في الأكمام المتعجبات وأنشدت هذه الأبيات:
على غيظ الحواسد والرقـيب               بلغنا ما نريد من الـحـبـيب
وأسعفنا التوصل باعـتـنـاق                على الديباج والقز القـشـيب
وفرش من أديم قد حـشـونـا               بريش الطير من شكلٍ غريب
وعن شرب المدام قد اغتنـينـا             بريق الحب جل عن الضريب
ومن طيب الوصال فليس ندري           بأوقات البعيد من الـقـريب
ليالي سبعة مـرت عـلـينـا                   ولم نشعر بها كم من عجـيب
فهنوني بأسـبـوع وقـولـوا                 أدام الله وصلك بالـحـبـيب
فلما فرغت من شعرها قبلها أنس الوجود ما ينوف عن المئات ثم أنشد هذه الأبيات:
أتى يوم الشرور مع التهانـي              وجاء الحب من صدوفـانـي
فآنسني بطيب الوصل مـنـه                ونادمني بألطاف المعـانـي
وأسقاني شراب الأنس حتـى               ذهلت عن الوجود بما سقاني
فطربنا وانشرحنا واضطجعنـا             وصرنا في شراب مع أغاني
ومن فرط السرور فليس ندري            من الأيام أولـهـا وثـانـي
ولا يدري لمر الصد طعـمـاً                 وربي قد حباه بما حـبـانـي

فلما فرغ من شعره قاما وخرجا من مكانهما وأنعما على الناس بالمال والخلع وأعطيا ووهبا إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان من لا يحول ولا يزول وإليه كل الأمور تؤول.
ومما يحكى أن الخليفة هارون الرشيد كان يحب السيدة زبيدة محبة عظيمة وخصص لها مكاناً للتنزه وعمل لها سياجاً من الأشجار وأرسل إليها الماء من كل جانب فالتفت عليها الأشجار حتى لو دخل أحد يغتسل في تلك البحيرة لم يره أحد من كثرة أوراق الشجر، فاتفق أن السيدة زبيدة دخلت ذلك المكان يوماً وأتت إلى البحيرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة زبيدة لما دخلت ذلك المكان يوماً وأتت إلى البحيرة وتفرجت على حسنها وجمالها فأعجبها رونقها والتفاف الأشجار عليها وكان ذلك في يوم الحر فقلعت أثوابها ونزلت إلى البحيرة ووقفت وكانت البحيرة لا تستر من يقف فيها فجعلت تملأ بإبريق من عين وتصب على بدنها فعلم الخليفة بذلك فنزل من قصره يتجسس عليها من خلف أوراق الأشجار فرآها عريانة وقد بان منها ما كان مستور، فلما أحست بأمير المؤمنين خلف أوراق الأشجار وعرفت أنه رآها عريانة التفتت إليه ونظرته فاستحسنت منه ووضعت يدها على فرجها ففاض من بين يديها لفرط كبره وغلظه، فولى من ساعته وهو يتعجب من ذلك وينشد هذا البيت:
نظرت عيني لحيني                وزكا وجدي لبيني

ولم يدر بعد ذلك ما يقول، فأرسل خلف أبي نواس يحضره، فلما حضر بين يديه قال له الخليفة: أنشدني شعراً في أوله:
نظرت عيني لحيني                وزكا وجدي لبيني
فقال أبو نواس: سمعاً وطاعة، وارتجل في أقرب اللحظات وأنشد هذه الأبيات:
نظرت عيني لحيني                وزكا وجدي لبينـي
من غزال قد سباني                تحت ظل الدرتـين
سكب الماء عـلـيه                 بأباريق اللـجـين
نظرتني سـتـرتـه                   فاض من بين اليدين
ليتني كنت عـلـيه                   ساعة أو ساعتـين

فتبسم أمير المؤمنين من كلامه وأحسن إليه وانصرف من عنده مسروراً.
ومما يحكى أن الملك العادل كسرى أنوشروان ركب يوماً إلى الصيد فانفرد عن عسكره ظبي فبينما هو ساع خلف الظبي إذ رأى ضيعة قريبة منه وكان قد عطش عطشاً شديداً فتوجه إلى تلك الضيعة وقصد دار باب قوم في طريقه فطلب ماء ليشرب فخرجت صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت وعصرت له عوداً من قصب السكر ومزجت ما عصرته منه بالماء ووضعته في قدح ووضعت عليه شيئاً من الطيب يشبه التراب ثم سلمته إلى أنوشروان فنظر في القدح فرأى فيه شيئاً يشبه التراب فجعل يشرب منه قليلاً حتى انتهى إلى آخره ثم قال للصبية: أيتها الصبية نعم الماء ما أحلاه لولا ذلك القذي الذي فيه فإنه كدره فقالت الصبية: أيها الضيف أنا عمداً ألقيت فيه ذلك القذي الذي كدره فقال الملك: ولم فعلت ذلك? فقالت: لأني رأيتك شديد العطش وخفت أن تشربه نهلة واحدة فيضرك فلو لم يكن فيه قذي لكنت شربته بسرعة نهلة واحدة وكان يضرك شربه على هذه الطريقة فتعجب الملك العادل أنوشروان من كلامها وذكاء عقلها وعلم أن ما قالته ناشئ عن ذكاء وفطنة وجودة عقل فقال لها: من أي عود عصرت ذلك الماء? فقالت: من عود واحد فتعجب أنوشروان وطلب جريدة الخراج الذي يحصل من تلك القرية فرأى خراجها قليلاً فأضمر في نفسه أنه إذا عاد إلى تخته يزيد في خراج تلك القرية وقال: قرية يكون في عود واحد منها هذا الماء كيف يكون خراجها هذا القدر القليل ثم انصرف عن تلك القرية إلى الصيد وفي آخر النهار رجع إليها، واجتاز على ذلك الباب منفرداً وطلب الماء ليشرب فخرجت تلك الصبية بعينها فرأته فعرفته ثم عادت لتخرج له الماء فأبطأت عليه فاستعجلها أنوشروان وقال: لأي شيء أبطأت? وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أنوشروان لما استعجل الصبية قال لها: لأي شيء أبطأت? فقالت: لأنه لم يخرج من عود واحد قد تغيرت فقال لها: وما سبب ذلك? فقالت: سببه أن نية السلطان قد تغيرت فقال لها: من أين جاءك? قالت: سمعنا من العقلاء أنه إذا تغيرت نية السلطان على قوم زالت بركتهم وقلت خيراته فضح أنوشروان وأزال من نفسه ما كان أضمر لهم عليه، وتزوج بتلك الصبية حالاً حيث أعجبه فرط ذكائها وفطنتها وحسن كلامها.
ومما يحكى أنه كان رجل بخاري بمدينة سقا يحمل بالماء إلى دار رجل صائغ ومضى له على تلك الحالة ثلاثون سنة وكان لذلك الصائغ زوجة في غاية الحسن والجمال والبهاء والكمال موصوفة بالديانة والحفظ فجاء السقا على عادته يوماً وصب الماء في الخباب وكانت قائمة في وسط الدار فدنا منها السقا وأخذ بيدها وفركها وعصرها ثم مضى وتركها، فلما جاء زوجها من السوق قالت له: إني أريد أن تعرفني أي شيء صنعت هذا اليوم في السوق ما يغضب الله تعالى? فقال الرجل: ما صنعت شيئاً يغضب الله تعالى فقالت المرأة: بلى والله إنك فعلت شيئاً يغضب الله تعالى وإن لم تحدثني بما صنعت وتصدقني في حديثك لا أقعد في بيتك ولا تراني ولا أراك فقال: أخبرك بما فعلته في يومي هذا على وجه الصدق اتفق لي أنني جالس في الدكان على عادتي إذا جاءت امرأة إلى دكاني وأمرتني أن أصوغ لها إسواراً وانصرفت فصغت لها سواراً من ذهب ورفعته فلما حضرت أتيتها به فأخرجت يدها ووضعت السوار في ساعدها فتحيرت من بياض يدها وحسن زندها الذي يسبي الناظر وتذكرت قول الشاعر:
وسواعد تزهو بحسن أساور              كالنار تضرم فوق ماء جار
فكأنما والتبر محتاط بـهـا                   ماء تمنطق معجباً بالنـار

فأخذت يدها وعصرتها ولويتها فقال له المرأة: الله أكبر لم فعلت هذا الجرم إن ذلك السقا الذي كان يدخل بيتنا منذ ثلاثين سنة ولم نر فيه خيانة أخذ اليوم يدي وعصرها ولواها فقال الله: نسأل الله الأمان أيتها المرأة إني تائب مما كان مني فاستغفري الله فقالت المرأة: غفر الله لي ولك ورزقنا حسن العاقبة فلم كان الغد جاء الرجل السقا وألقى نفسه بين يدي المرأة وتمرغ على التراب واعتذر إليها، وقال: يا سيدتي اجعليني في حل مما أغراني به الشيطان حيث أضلني وأغواني. فقالت له المرأة: امض إلى حال سبيلك فإن ذلك الخطأ لم يكن منك وإنما كان سببه من زوجي حيث فعل ما فعل في الدكان فاقتص الله منه في الدنيا وقيل أن الرجل الصائغ لما أخبرته زوجته بما فعل السقا معها قال: دقة بدقة ولو زدت لزاد السقا فصار هذا الكلام مثلاً سائراً بين الناس فينبغي للمرأة مع زوجها ظاهراً وباطناً وتقنع منه بالقليل إن لم يقدر على الكثير وتقتدي بعائشة الصديقة وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما لتكون مع حواشي السلف.
ومما يحكى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان امرأة صالحة في بني إسرائيل وكانت تلك المرأة دينة عابدة تخرج كل يوم إلى المصلى بستان فإذا خرجت إلى المصلى تدخل ذلك البستان وتتوضأ منه، وكان في البستان شيخان يحرسانه فتعلق الشيخان بتلك المرأة وراوداها عن نفسها فأبت، فقالا لها: إن لم تمكنينا من نفسك لنشهدن عليك بالزنا فقالت لهما الجارية: الله يكفيني شركما ففتحا باب البستان وصاحا فأقبل عليهما الناس من كل مكان وقالوا: ما خبركما? فقالا: إنا وجدنا هذه الجارية مع شاب يفجر بها وانفلت الشاب من أيدينا وكان الناس في ذلك الوقت ينادون بفضيحة الزاني ثلاثة أيام، ثم يرجمونه فنادوا عليها ثلاثة أيام من أجل الفضيحة وكان الشيخان في كل يوم يدانون منها ويضعان أيديهما على رأسها ويقولان لها: الحمد لله الذي أنزل بك نقمته. فلما أرادوا رجمها تبعهم دانيال وهو ابن اثنتي عشرة سنة وهذه أول معجزة على نبينا عليه الصلاة والسلام ولم يزل تابعاً لهم حتى لحقهم وقال: لا تعجلوا عليها بالرجم حتى أقضي بينهم فوضعوا له كرسياً.
ثم جلس وفرق الشيخين وهو أول من فرق بين الشهود فقال لأحدهما: ما رأيت? فذكر له ما جرى فقال له: حصل ذلك في أي مكان في البستان? فقال: في الجانب الشرقي تحت شجرة كمثري ثم سأل الثاني عما رأى، فأخبره بما جرى فقال له: في أي مكان في البستان? فقال: في الجانب الغربي تحت شجرة تفاح هذا والجارية واقفة رافعة رأسها ويديها إلى السماء، وهي تدعو الله بالخلاص فأنزل الله تعالى صاعقة من العذاب فأحرقت الشيخين وأظهر الله تعالى براءة الجارية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصاعقة نزلت على الشيخين فأحرقتهما وأظهر الله براءة الجارية وهذا أول ما جرى من المعجزات لنبي الله دانيال عليه السلام.
ويحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد خرج يوماً من الأيام هو وأبا إسحاق النديم وجعفر البرمكي وأبو نواس وساروا في الصحراء فرأوا شيخاً متكئاً على حمار له فقال هارون الرشيد لجعفر: اسأل هذا الشيخ من أين هو? فقال له جعفر: من أين جئت? قال: من البصرة فقال له جعفر: وإلى أين سيرك? قال إلى بغداد قال: وما تصنع فيها? قال: ألتمس دواء لعيني فقال هارون الرشيد: يا جعفر مازحه فقال: إذا مازحته أسمع منه ما أكره فقال: بحقي عليك أن تمازحه فقال جعفر للشيخ: إن وصفت لك دواء ينفعك ما الذي تكافئني به? فقال له: إن الله تعالى يكافئك عني ما هو خير لك من مكافئتي فقال: انصت إلي حتى أصف لك هذا الدواء الذي لا أصفه لأحد غيرك فقال له: وما هو? فقال جعفر: خذ لك ثلاث أواق من هبوب الريح وثلاث أواق من شعاع الشمس وثلاث أواق من زهر القمر وثلاث أواق من نور السراج واجمع الجميع وضعها في الريح ثلاثة أشهر ثم بعد ذلك ضعها في هون بلا قعر ودقها ثلاثة أشهر فإذا دققتها تضعها في جفنك مشقوقة وضع الجفة في الريح ثلاثة أشهر ثم استعمل من هذا الدواء في كل يوم ثلاثة دراهم عند النوم واستمر على ذلك ثلاثة أشهر فإنك تعافى إن شاء الله تعالى، فلما سمع الشيخ كلام جعفر انسطح على حماره وضرط ضرطة منكرة وقال: خذ هذه الضرطة مكافأة لك على وصفك هذا الدواء فإذا استعملته ورزقني الله العافية أعطيتك جارية تخدمك في حياتك خدمة يقطع الله بها أجلك فإذا مت وعجل الله بروحك إلى النار وسخمت وجهك بخراها من حزنها عليك وتندب وتلطم وتنوح وتقول في نياحها: يا ساقع الذقن ما أسقع ذقنك فضحك هارون الرشيد حتى استلقى على قفاه وأمر لذلك الرجل بثلاثة آلاف دينار.
وحكى الشريف حسين بن ريان أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان جالساً في بعض الأيام للقضاء بين الناس والحكم بين الرعايا وعنده أكابر الصحابة من أهل الرأي والإصابة، فبينما هو جالس إذ أقبل عليه شاب من أحسن الشباب نظيف الثياب وقد تعلق به شابان من أحسن الشباب وقد جذبه الشابان من طوقه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فنظر أمير المؤمنين إليهما وإليه فأمرهما بالكف عنه وأدناه منه وقال للشابان: ما قصتكما معه? فقالا: يا أمير المؤمنين نحن أخوان شقيقان وباتباع الحق حقيقان كان لنا أب شيخ كبير حسن لتدبير معظم في القبائل منزه عن الرذائل، معروف بالفضائل ربانا صغاراً واولانا كباراً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشابين قالا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب إن أبانا كان معظماً في القبائل منزه عن الرذائل معروفاً بالفضائل ربانا صغاراً وأولانا كباراً جم المناقب والمفاخر حقيقاً بقول الشاعر:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم                كلا لعمري ولكن منـه شـيبـان
فكم أب قد علا بابن ذوي شـرف                    كما علت برسول اللـه عـدنـان
فخرج يوماً إلى حديقة له ليتنزه في أشجارها ويقتطف يانع ثمارها فقتله هذا الشاب وعدل عن طريق الرشاد ونسألك القصاً كما جاء والحكم فيه بما أمرك الله فنظر عمر إلى الشاب نظرة مرهبة وقال له: قد سمعت من هذين الغلامين الخطاب فما تقول أنت في الجواب? وكان ذلك الغلام ثابت الجنان جريء اللسانقد خلع ثياب الهلع ونزع لباس الجزع فتبسم وتكلم بأفصح لسان وحيا أمير المؤمنين بكلمات حسان ثم قال: والله يا أمير المؤمنين لقد وعيت ما ادعوا صدقاً فيما قالاه حيث أخبرا بما جرى وكان أمر الله قدراً مقدوراً ولكن سأذكر قصتي بين يديك والأمر فيها إليك اعلم يا أمير المؤمنين أني من صميم العرب العرباء الذين هم أشرف من تحت الجرباء نشأت في منازل البادية فأصابت قومي سود السنين العادية فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد وسلكت بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها بنياق كريمة عزيزات علي بينهن فحل كريم الأصل كثير النسل مليح الشكل، يكثر منهن النتاج ويمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج فندت بعض النياق إلى حديقة أبيهم وقد ظهر من الحائط أشجارها فتناولته بمشفرها فطردتها عن تلك الحديقة وإذا بشيخ من الحائط قد ظهر وزفير غيظه يرمي الشرر وفي يده اليمنى حجر وهو يهادى كالليث إذا حضر فضرب الفحل بذلك الحجر فقتله لأنه أصاب مقتله فلما رأيت الفحل قد سقط بجانبي آنست إلى قلبي قد توقدت فيه جمرات الغضب قتناولت ذلك الحجر بعينه وضربته به فكان سبباً لحينه ولقي سوء مقبله والمرء مقتول بما قتل وعند إصابته بالحجر صاح صيحة عظيمة وصرخ صرخة أليمة فأسرعت بالسير من مكاني فأسرع هذا الشابان وأمسكاني وإليك أحضراني وبين يديك أوقفاني فقال عمر رضي الله تعالى عنه: قد اعترفت بما اقترفت وتعذر الخلاص ووجب القصاً ولات حين مناً فقال الشاب: سمعاً وطاعة لما حكم به الإمام ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام ولكن لي أخ صغير كان له أب كبير خصه قبل وفاته بمال جزيل وذهب جليل وقد سلم أمره لي وأشهد الله علي وقال: هذا لأخيك عندك فاحفظه جهدك فأخذت ذلك المال ودفنته ولا أحد يعلم به إلا أنا فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الملا وكنت السبب في ذهابه وطالبك الصغير بحقه يوم يقضي الله بين خلقه وإن أنت انتظرتني ثلاثة أيام أقمت من يتولى أمر الغلام وعدت وافياً بالذمام ولي من يضمنني على هذا الكلام. فأطرق أمير المؤمنين رأسه ثم نظر إلى من حضره وقال: من يقوم بضمانه والعود إلى مكانه? فنظر الغلام إلى وجوه من في المجلس وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين وقال: هذا يكفلني ويضمنني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما أشار إلى أبي ذر وقال: هذا يكفلني ويضمنني قال عمر رضي الله عنه: يا أبا ذر أسمعت هذا الكلام وتضمن لي حضور هذا الغلام? قال: نعم يا أمير المؤمنين أضمنه إلى ثلاثة أيام فرضي بذلك وأذن للغلام في الإنصراف فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها أن يزول أو زال ولم يحضر الشاب إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر وأبو ذر قد حضر والخصمان ينتظران فقالا: أين الغريم يا أبا ذر كيف رجوع من فر، ولكن نحن لا نبرح من مكاننا حتى تأتينا للأخذ بثأرنا به. فقال أبو ذر: وحق الملك العلام أن انقضت الثلاثة أيام ولم يحضر الغلام وفيت بالضمان وسلمت نفسي للإمام فقال عمر رضي الله عنه: والله إن تأخر الغلام لأقضين في أبي ذر ما اقتضته شريعة الإسلام فهملت عبرات الحاضرين وارتفعت زفرات الناظرين وعظم الضجيج فعرض أكابر الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الاثنية فأبيا ولم يقبلا إلا الأخذ بالثأر، فبينما الناس يموجون ويضجون تأسفاً على أبي ذر إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه بأحسن سلام ووجهه مشرق يتهلل وبالعرق يتكلل وقال له: قد أسلمت الصبي إلى أخواله وعرفتهم بجميع أحواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرة الحر ووفيت فاه الحر فتعجب الناس من صدقه ووفائه وإقدامه على الموت واجترائه فقال له بعضهم: ماأكرمك من غلام وأوفاك بالعهد والزمام فقال الغلام: أما تحققتم أن الموت إذا حضر لا ينجو منه أحد وغنما وفيت كيلا يقال ذهب الوفاء من الناس فقال أبو ذر: والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم ولا رأيته قبل ذلك اليوم ولكن لما أعرض عمر حضر وقصدني وقال: هذا يضمنني ويكفلني لم أستحسن رده، وأبت المروة أن تخيب قصده إذ ليس في إجابة القصد من باس كيلا يقال ذهب الفضل من الناس فعند ذلك قال الشابان: يا أمير المؤمنين قد وهبنا لهذا الشاب دم أبينا حيث بدل الوحشة بالإيناس كيلا يقال ذهب المعروف من الناس فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه بالذمام واستكبر مروءة إبي ذر دون جلسائه واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف وأثنى عليهما ثناء الشاكر وتمثل بقول الشاعر:
من يصنع الخير بين الـورى               لا يذهب الخير بين الله والناس

ثم عرض عليهما أن يصرف دية أبيهما من بيت المال فقالا: إنما عفونا عنه ابتغاء وجه الله الكريم المتعال ومن بيته كذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى.
ومما يحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان له ولد قد بلغ من العمر ستة عشرة عاماً، وكان معرض عن الدنيا وسالكاً طريقة الزهاد والعباد فكان يخرج لإلى المقابر ويقول: قد كنتم تملكون الدنيا فما ذلكم بمنجيكم وقد صرتم إلى قبوركم فيا ليت شعري ما قلتم وما قيل لكم ويبكي بكاء الخائف الوجل وينشد قول القائل:
تروعني الجنائز في كل وقت              ويحزنني بكاء النـائحـات

فاتفق أن أباه مر عليه في بعض الأيام وهو في موكبه وحوله وزرائه وكبراء دولته وأهل مملكته فرأوا ولد أمير المؤمنين وعلى جسد جبة من صوف وعلى رأسه مئزر من صوف فقال بعضهم لبعض: لقد فضح هذا الولد أمير المؤمنين بين الملوك فلو عاتبه لرجع عما هو فيه، فسمع أمير المؤمنين كلامهم فكلمه في ذلك وقال له: لقد فضحتني بما أنت عليه فنظر إليه ولم يجبه. ثم نظر إلى طائر على شرفة من شرفات القصر فقال له: أيها الطائر بحق الذي خلقك أن تسقط على يدي فانقض الطائر على يد الغلام ثم قال له: ارجع إلى موضعك فرجع إلى موضعه ثم قال له: اسقط على يد أمير المؤمنين فأبى أن يسقط على يده، فقال الغلام لأبيه: يا أمير المؤمنين أنت الذي فضحتني بين الأولياء بحبك الدنيا، وقد عزمت على مفارقتك مفارقة لا أعود إليك بعدها إلا في الآخرة.
ثم انحدر في البصرة فكان يعمل مع الفعلة في الطين وكان لا يعمل في كل يوم إلا بدرهم ودانق فيتقوت بالدانق ويتصدق بالدرهم قال أبو عامر البصري وكان قد وقع في داري حائط فخرجت إلى موقف الفعلة لأنظر رجلاً يعمل لي فيه فوقعت عيني على شاب مليح ذي وجه صبيح فجئت إليه وسلمت عليه وقلت له: يا حبيبي أتريد الخدمة? فقال: نعم فقلت: قم معي إلى بناء الحائط فقال لي: بشروط أشترطها عليك قلت: يا حبيبي ما هي? قال: الأجرة درهم ودانق وإذا أذن المؤذن تتركني حتى أصلي مع الجماعة قلت: نعم.
ثم أخذته وذهبت به إلى المنزل فخدم خدمة لم أر مثلها، وذكرت له الغداء فقال: لا فعلمت أنه صائم فلما سمع الآذان قال لي: قد علمت الشرط فقلت: نعم فحل حزامه وتفرغ للوضوء وتوضأ وضوءاً لم أر أحسن منه. ثم خرج إلى الصلاة فصلى مع الجماعة ثم رجع إلى خدمته فلما أذن العصر توضأ وذهب إلى الصلاة ثم عاد إلى الخدمة فقلت له: يا حبيبي قد انتهى وقت الخدمة فإن خدمة الفعلة إلى العصر فقال: سبحان الله إنما خدمتي إلى الليل ولم يزل يخدم إلى الليل فأعطيته درهمين. فلما رآهما قال: ما هذا? قلت: والله إن هذا بعض أجرتك لاجتهادك في خدمتي، فرمى بهما إلي وقال: لا أريد زيادة على ما كان بيني وبينك فرغبته فلم أقدر عليه فأعطيته درهماً ودانقاً وسار، فلما أصبح الصباح بكرت إلى الموقف فلم أجده فسألت عنه فقيل لي: أنه لا يأتي ههنا إلا في يوم السبت فقط، فلما كان يوم السبت الثاني ذهبت إلى ذلك المكان فوجدته فقلت له: باسم الله تفضل إلى الخدمة. فقال لي: على الشروط التي تعلمها قلت: نعم فذهبت به إلى داري ووقفت وهو لا يراني فأخذ كفاً من الطين ووضعه على الحائط فإذا الحجارة يتركب بعضها على بعض فقلت: هكذا أولياء الله فخدم يومه ذلك وزاد فيه على ما تقدم فلما كان الليل دفعت له أجرته فأخذها وسار فلما جاء يوم السبت الثالث أتيت إلى الموقف فلم أجده فسألت عنه فقيل لي: هو مريض راقد في خيمة فلانة وكانت تلك المرأة مشهورة بالصلاح ولها خيمة من قصب الجبانة فسرت إلى الخيمة ودخلتها فإذا هو مضطجع على الأرض وليس تحته شيء وقد وضع رأسه على لبنة ووجهه يتهلل نوراً فسلمت عليه فرد علي السلام، فجلس عند رأسه أبكي على صغر سنه وغربته وتوفيقه لطاعة ربه.
ثم قلت له: ألك حاجة? قال: نعم قلت: وما هي? قال: إذا كان الغد تجيء إلي في وقت الضحى فتجدني ميتاً فتغسلني وتحفر قبري ولا تعلم بذلك أحداً وتكفنني في هذه الجبة التي علي بعد أن تفتقها وتفتش جيبها وتخرج ما فيه وتحفظه عندك فإذا صليت علي وواريتني في التراب فاذهب إلى بغداد وارتقب الخليفة هارون الرشيد حتى يخرج وادفع له ما تجده في جيبي، واقرئه من السلام، ثم تشهد وأثنى على ربه بأبلغ الكلمات وأنشد هذه الأبيات:
بلغ أمانة من وافت مـنـيتـه                إلى الرشيد فإن الأجر في ذاكا
وقل غريب له شوق لرؤيتكـم             على تمادي الهوى والبعد لباكا
ما صده عنك لا بغض ولا ملل             لأن قربته من لثم يمـنـاكـا
وإنما أبعدته عنـك يا أبـتـي                 نفس لها عفة عن نيل دنياكـا

ثم أن الغلام بعد ذلك اشتغل بالإستغفار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام بعد ذلك اشتغل بالإستغفار والصلاة والسلام على سيد الأبرار وتلاوة بعض الآيات، ثم أنشد هذه الأبيات:
يا والدي لا تفتر بتـنـعـم                    فالعمرينفد والنـعـيم يزول
وإذا علمت بحال قوم ساءهم              فاعلم بأنك عنهمو مسـؤول
وإذا حملت إلى القبور جنازة               فاعلم بأنك بعدها محمـول

قال أبو عامر البصري: فلما فرغ الغلام من وصيته وإنشاده ذهبت عنه وتوجهت إلى بيتي فلما أصبح الصباح ذهبت إليه من الغد وقت الضحى فوجدته قد مات رحمة الله عليه فغسلته وفتقت جبته فوجد في جيبه ياقوتة تساوي آلافاً من الدنانير فقلت في نفسي: والله إن هذا الفتى لقد زهد في الدنيا غاية الزهد ثم بعد أن دفنته توجهت إلى بغداد ووصلت إلى دار الخلافة وصرت أترقب خروج الرشيد إلى أن خرج فتعرضت له في بعض الطرق ودفعت إليه الياقوتة فلما رآها عرفها فخر مغشياً عليه فقبض علي الخدم فلما أفاق قال للخدم: أفرجوا عنه وأرسلوه برفق إلى القصر ففعلوا مأمرهم به فلما دخل قصره طلبني وأدخلني محله وقال لي: ما فعل صاحب هذه الياقونة? فقلت: قد مات ووصفت له حاله فجعل يبكي ويقول: انتفع الولد وخاب الوالد ثم نادى: يا فلانة فخرجت امرأة فلما رأتني أرادت أن ترجع فقال لها: تعالي وما عليك منه فدخلت وسلمت فرمى إليها الياقوتة فلما رأتها صرخت صرخة عظيمة ووقعت مغشياً عليها فلما أفاقت من غشيتها قالت: يا أمير المؤمنين ما فعل الله بولدي? فقال لي: أخبرها بشأنه وأخذته العبرة فأخبرتها بشأنه فجعلت تبكي وتقول بصوت ضعيف: ما أشوقني إلى لقائك يا قرة عيني ليتني كنت أسقيك إذا لم تجد من يسقيك ليتني كنت أؤانسك إذا لم تجد مؤانساً، ثم سكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:
أبكي غريباً أتاه الموت منـفـرداً            لم يلق ألفاً له يشكو الذي وجـدا
من بعد عز وشمل كان مجتمعـاَ           أضحى فريداً وحيداً لا يرى أحدا
يبين للناس ما الأيام تـضـمـره             لم يترك الموت منا واحداً أبـدا
يا غائباً قد قضى ربي بغربـتـه             وصار منيبعد القرب مبتـعـدا
إن أيأس الموت من لقياك يا ولدي                  فإننا نلتقي يوم الحـسـاب غـدا

فقلت: يا أمير المؤمنين أهو ولدك? قال: نعم وقد كان قبل ولايتي هذا الأمر يزور العلماء ويجالس الصالحين فلما وليت هذا الأمر نفر مني وباعد نفسه عني فقلت لأمه: إن هذا الولد منقطع إلى الله تعالى وربما تصيبه الشدائد ويكابد الإمتحان فادفعي إليه هذه الياقوتة ليجدها وقت الإحتياج إليها، فدفعتها إليه وعزمت عليه أن يمسكها فامتثل لأمرها وأخذها منها ثم ترك لنا دنيانا وغاب عنا ولم يزل غائباً عنا حتى لقي الله عز وجل تقياً نقياً ثم قال: قم فأرني قبره فخرجت معه وجعلت أسير إلى أن أريته إياه فجعل يبكي وينتحب حتى وقع مغشياً عليه فلما أفاق من غشيته استغفر الله وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ودعا له بخير ثم سألني الصحبة فقلت له: يا أمير المؤمنين إن لي في ولدك أعظم العظات، ثم انشدت هذه الأبيات:
أنا الغريب فلا آوي إلـى أحـد              أنا الغريب وإن أمسيت في بلدي
أنا الغريب فلا أهـل ولا ولـد                وليس لي أحد يأوي إلـى أحـد
إلى المساجد آوي بل وأعمرهـا           فما يفارقها قلبي مـدى الأبـد
فالحمد لله رب العالمين عـلـى              أفضاله لبقاء الروح في الجسد

ومما يحكى عن بعض الفضلاء أنه قال: مررت بفقيه في كتاب وهويقريء الصبيان فوجدته في هيئة حسنة وقماش مليح فأقبلت عليه فقام لي وأجلسني معه فمارسته في القراءات والنحو والشعر واللغة فإذا هو كامل في كل ما يراد منه فقلت له: قوى الله عزمك فإنك عارف بكل مايراد منك ثم عاشرته مدة وكل يوم يظهر فيه حسن فقلت في نفسي: إن هذا شيئ عجيب من فقيه يعلم الصبيان مع أن العقلاء اتفقوا على نقص عقل معلم الصبيان ثم فارقته وكنت كل أيام قلائل أتفقده وأزوره فأتيت إليه في بعض الأيام على عادتي من زيارته فوجدت الكتاب مغلقاً فسألت جيرانه فقالوا: أنه مات عنده ميت فقلت في نفسي: وجب علينا أن نعزيه فجئت إلى بابه وطرقته فخرجت لي جارية وقالت: ما تريد? فقلت: أريد مولاك فقالت: إن مولاي قاعداً في العراء وحده فقلت لها: قولي له أن صديقك فلاناً يطلب أن يعزيك فراحت وأخبرته فقال لها: دعيه يدخل فأذنت لي في الدخول فدخلت إليه فرأيته جالساً وحده ومعصباً رأسه فقلت له: عظم الله أجرك وهذا سبيل لا بد لكل أحد منه فعليك بالصبر ثم قلت له: من الذي مات لك? فقال: أعز الناس علي وأحبهم إلي فقلت: لعله والدك فقال: لا قلت: والدتك قال: لا. قلت: أخوك قال: لا. قلت: أحد من اقاربك قال: لا. قلت فما نسبته إليك? قال: حبيبتي. فقلت في نفسي: هذا أول المباحث في قلة عقله ثم قلت له: قد يوجد غيرها مما هو أحسن منها فقال: أنا ما رأيتها حتى أعرف إن كان غيرها أحسن منها أو لا فقلت في نفسي: وهذا مبحث ثان فقلت له: وكيف عشقت من لا تراها? فقال: اعلم أني كنت جالساً في الطاقة وإذا برجل عابر طريق يغني هذا البيت:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة              ردي علي فؤادي أينما كانـا

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفقيه قال: لما غنى الرجل المار في الطريق بالشعر الذي سمعته منه قلت في نفسي أولاً أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها ما كان يتغزلون فيها فتعلقت بحبها فلما كان بعد يومين عبر ذلك الرجل وهو ينشد هذا البيت:
إذا ذهب الحمار بأم عمـرو                 فلا رجعت ولا رجع الحمار

فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها ومضى لي ثلاثة أيام وأنا في العزاء فتركته وانصرفت بعدما تحققت قلة عقله.
ومما يحكى من قلة عقل معلم الصبيان أنه كان رجل فقيه في مكتب فدخل عليه رجل ظريف، وجلس عنده ومارسه فرآه فقيهاً نحوياً لغوياً شاعراً أديباً فهيماً لطيفاً فتعجب من ذلك وقال: إن الذين يعلمون الصبيان في المكاتب ليس لهم عقل كامل فلما هم بالإنصراف من عند الفقيه قال له: أنت ضيفي في هذه الليلة فأجابه إلى الضيافة وتوجه صحبته إلى منزله فأكرمه وأتى له بالطعام فأكلا وشربا ثم جلسا بعد ذلك يتحدثان إلى ثلث الليل وبعد ذلك جهز له الفراش وطلع إلى حريمه فاضطجع الضيف وأراد النوم، وإذا بصراخ كثير ثار في حريمه فسأل: ما الخبر? فقالوا له: أن الشيخ حصل له أمر عظيم وهو في آخر رمق فقال: أطلعوني له فطلعوه له ودخل عليه فرآه مغشياً عليه ودمه سائل فرش الماء على وجهه. فلما أفاق قال له: ما هذا الحال أنت طلعت من عندي في غاية ما يكون من الحظ وأنت صحيح البدن فما أصابك? فقال له: يا أخي بعدما طلعتمن عندك جلست أتذكر في مصنوعات الله تعالى وقلت في نفسي: كل شيء خلقه الله للإنسان فيه نفع لأن الله سبحانه وتعالى خلق اليدين للبطش والرجلين للمشي والعينين للنظر والأذنين للسماع والذكر للجماع وهلم جرا، إلا هاتين البيضتين ليس لهما نفع فأخذت موس كان عندي وقطعتهما فحصل لي هذا الأمر فنزل من عنده وقال: صدق من قال أن كل فقيه يعلم الصبيان ليس له عقل كامل ولو كان يعرف جميع العلوم.
ومما يحكى أيضاً أن بعض المجاورين كان لا يعرف الخط ولا القراءة وإنما يحتال على الناس بحيل يأكل منها الخبز فخطر بباله يوماً من الأيام أنه يفتح له مكتباً ويقريء فيه الصبيان فجمع ألواحاً وأوراقاً مكتوبة وعلقها في مكان وكبر عمامته وجلس على باب المكتب فصار الناس يمرون عليه وينظرون إلى عمامته وإلى الألواح فيظنون أنه فقيه جيد فيأتون إليه بأولادهم فصار يقول لهذا: اكتب ولهذا: اقرأ فصار الأولاد يعلم بعضهم بعضاً فبينما هو ذات يوم جالس على باب المكتب على عادته، وإذا بامرأة مقبلة من بعيد وبيدها مكتوب فقال في باله: لا بد أن هذه المرأة تقصدني لأقرأ لها المكتوب الذي معها فكيف يكون حالي معها وانا لا أعرف قراءة الخط وهم بالنزول ليهرب منها فلحقته قبل أن ينزل وقالت له: إلى أين? فقال لها: أريد أن أصلي الظهر وأعود فقالت له: الظهر بعيد فاقرأ لي هذا الكتاب فأخذه وجعل أعلاه أسفله وصار ينظر إليه ويهز عمامته تارة ويرقص حواجبه أخرى ويظهر غيظاً وكان زوج المرأة غائباً والكتاب مرسل إليها من عنده فلما رأت الفقيه على تلك الحالة قالت في نفسها: لا شك أن زوجي مات وهذا الفقيه يستحي أن يقول لي أنه مات فقالت له: هل أشق ثيابي? فقال لها: شقي فقالت له:هل ألطم على وجهي فقال لها: الطمي فأخذت الكتاب من يده وعادت إلى منزلها وصارت تبكي هي وأولادها فسمع بعض جيرانها البكاء فسألوا عن حالها فقيل لهم: أنه جاءها كتاب بموت زوجها فقال رجل: إن هذا الكلام كذب لأن زوجها أرسل لي مكتوباً بالأمس يخبرني فيه أن طيب بخير وعافية وأنه بعد عشرة أيام يكون عندها، فقام من ساعته وجاء إلى المرأة وقال لها: أين الكتاب الذي جاء? فجاءت به إليه وأخذه منها وقرأه وإذا فيه: أما بعد فإني طيب بخير وعافية وبعد عشرة أيام أكون عندكم وقد أرسلت إليكم ملحفة ومكمرة، فأخذت الكتاب وعادت فيه إلى الفقيه وقالت له: ما حملك على الذي فعلته معي وأخبرته بما قاله جارها منس سلامة زوجها وأنه أرسل إليها ملحفة ومكمرة فقال لها: لقد صدقت ولكن يا حرمة اعذريني فإني كنت في تلك الساعة مغتاظاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة عشرة بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المرأة قالت للفقيه: ما حملك على الذي فعلته معي? فقال لها: إني كنت في تلك الساعة مغتاظاً مشغول الخاطر ورأيت المكمرة ملفوفة في الملحفة فظننت أنه مات وكفنوه، وكانت المرأة لا تعرف الحيلة فقالت له: أنت معذور وأخذت الكتاب منه وانصرفت.
وحكي أن ملكاً من الملوك خرج مستخفياً ليطلع على أحوال رعيته فوصل إلى قرية عظيمة فوقف بباب دار من دور القرية وطلب ماء، فخرجت إليه امرأة جميلة بكوز ماء فناولته إياه فشرب فلما نظر إليها افتتن بها فراودها عن نفسها وكانت المرأة عارفة به فدخلت به وأجلسته وأخرجت لع كتاباً وقالت: انظر في هذا الكتاب إلى أن أصلح أمري وأرجع إليك فجلس يطالع في الكتاب وإذا فيه الزجر عن الزنا، وما أعده الله لأهله من العذاب فاقشعر جلده وتاب إلى الله وصاح بالمرأة واعطاها الكتاب وذهب وكان زوج المرأة غائباً فلما حضر أخبرته بالخبر فتحير وقال في نفسه: أخاف أن يكون وقع غرض الملك فيها، فلم يتجاسر على وطئها بعد ذلك ومكث على ذلك مدة فأعلمت المرأة أقاربها بما حصل لها مع زوجها فعرفوه إلى الملك فلما مثل بين يديه قال أقارب المرأة: أعز الله الملك إن هذا الرجل استأجر منا أرضاً للزراعة فزرعها مدة ثم عطلها فلا هو يتركها حتى نؤجرها لمن يزرعها ولا هو يزرعها وقد حصل الضرر للأرض فنخاف فسادها بسبب التعطيل لأن الأرض إذا لم تزرع فسدت.
فقال الملك: ما الذي يمنعك من زرع أرضك? فقال: أعز الله الملك أنه قد بلغني أن الأسد قد دخل الأرض فهبته ولم أخاف على الدنو منها لعلمي أنه لا طاقة لي بالأسد وأخاف منه ففهم الملك القصة وقال له: يا هذا إن أرضط لم يطاها الأسد وأرضك طيبة الزرع فازرعها بارك الله لك فيها فإن الأسد لا يعدو عليها ثم أمر له ولزوجته بصلة حسنة وصرفهم.
ومما يحكى أن إسحق بن ابراهيم الموصلي قال: اتفق أنني ضجرت من ملازمة دار الخليفة والخدمة بها فركبت وخرجت ببكرة النهار وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرج وقلت لغلماني: غا جاء رسول الخليفة أو غيره فعرفوه أنني بكرت في بعض مهماتي وأنكم لا تعرفون أين ذهبت ثم مضيت وحدي وطفت في المدينة وقد حمي النهار فوقفت في شارع يعرف بالحرم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اسحق بن ابراهيم الموصلي قال: لما حمي النهار وقفت في شارع يعرف بالحرم لأستظل من حر الشمس، وكان للدار جناح بارز على الطريق فلم ألبث حتى جاء خادم أسود يقود حماراً فرأيت جارية راكبة وتحتها منديل مكلل بالجواهر وعليها من اللباس الفاخر ملا غاية بعده ورأيت لها قواماً حسناً وطرفاً فاتراً وشمائل ظريفة فسألت عنها بعض المارين فقال لي: إنها مغنية وقد تعلق بحبها قلبي عند نظري إليها وقد قدرت أن أستقر على ظهر دابتي.
ثم أنها دخلت الدار التي كنت واقفاً على بابها فجعلت أتفكر في حيلة أتوصل بها إليها فبينما أنا واقف إذ أقبل رجلان شابان جميلان فاستأذنا فأذن لهما صاحب الدار فنزلا ونزلت معهما ودخلت صحبتهما فظنا أن صاحب الدار دعاني فجلسنا ساعة فاتى بالطعام فأكلنا، ثم وضع الشراب بين يدينا، ثم خرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا وقمت لأقضي حاجة فسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني فقال: هذا طفيلي ولكنه ظريف فأجملوا عشرته ثم جئت فجلست في مكاني فغنت الجارية بلحنلطيف وأنشدت هذين البيتي:
قل للغزالة وهي غير غـزالة               والجؤذر المكحول غير الجؤذر
لمذكر الخلوات غير مـؤنـث                ومؤنث الخطوات غير مذكـر
فأدته أداءً حسناً وشرب القوم وأعجبهم ذلك ثم غنت طرقاً شتى بألحان غريبة وغنت من جملتها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
الطلول الـدوارس                  فارقتها الـوانـي
أوحشت بعد أنسهـا                فهي قفراء طامس
فكان أمرها أصلح فيها من الأولى ثم غنت طرقاً شتى بألحان غريبة من القديم والحديث وغنت في أثنائها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
قل لمن صد عاتبـاً                 ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي بلغت                وإن كنت لاعبـا

فاستعدته منها لأصححه فأقبل علي أحد الرجلين وقال: ما رأينا طفيلياً أصفق وجهاً منك أما ترضى بالتطفل حتى اقترحت وقد صح فيك المثل: طفيلي فأطرقت حياء فأطرقت حياء ولم أجبه فجعل صاحبه يكفه عني فلا ينكف، ثم قاموا إلى الصلاة فتأخرت قليلاً وأخذت العود وشددت طرفيه وأصلحته إصلاحاً محكماً وعدت إلى موضعي فصليت معهم ولما فرغنا من الصلاة رجع ذلك الرجل إلى اللوم علي والتعنيف ولج في عربدته وأنا صامت فأخذت الجارية العود وجسته فانكرت حاله وقالت: من جس عودي? فقالوا: ما جسه أحد منا.
قالت: بلى والله لقد جسه حاذق متقدم في الصناعة، لأنه أحكم أوتاره وأصلحه إصلاح حاذق في صنعته فقلت لها: أنا الذي أصلحته. فقالت: بالله عليك أن تأخذه وتضرب عليه فأخذته وضربت عليه طريقة عجيبة صعبة تكاد أن تميت الأحياء وتحيي الأموات وانشدت عليه هذه الأبيات:
وكان لي قلـب أعـيش بـه                  فاكتوى بالنار واحـتـرقـا
أنا لم أرزق مـحـبـتـهـا            وإنما للـعـبـد مـا رزقـا
إن لم يكن ما ذقت طعم الهوى             ذاقه لا شك مـن عـشـقـا

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن إسحق بن ابراهيم الموصلي قال: لما فرغت من شعري لم يبق أحد من الجماعة إلا ووثب من موضعه وجلسوا بين يدي وقالوا: بالله عليك يا سيدنا أن تغني لنا صوتاً آخر فقلت: حباً وكرامة، ثم أحكمت الضربات وغنيت بهذه الأبيات:
ألا مـن لـقـب ذوائب بـنــوائب             أناخت به الأحزان من كل جـانـب
حرام على رامي فؤادي بسـهـمـه                  دم صبه بين الـحـشـا والـتـراب
تبـين بـين الـبـين إن اقـتـرابـه             على البين من ضمن الظنون الكواذب
أراق دماً لولا الـهـوى مـا أراقـه                    فهل لدمي من ثـائر ومـطـالـب

فلما فرغ من شعره لم يبق أحد منهم إلا وقام على قدميه ثم رمى بنفسه على الأرض من شدة ما اصابه من الطرب، قال: فرميت العود من يدي فقالوا: بالله عليك أن لا تفعل هذا وزدنا صوتاً آخر زادك الله من نعمته، فقلت لهم: يا قوم أزيدكم صوتاً آخر وآخر وآخر وأعرفكم من انا، أنا إسحق بن ابراهيم الموصلي والله غني لآتيه على الخليفة إذا طلبني وانتم قد أسمعتموني غليظ ما أكرهه في هذا اليوم، فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا العربيد من بينكم فقال له صاحبه: من هذا حذرتك وخفت عليك.
ثم أخذوا بيده وأخرجوه فأخذت العود وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، ثم أسررت إلى صاحب الدار أن الجارية قد وقعت محبتها في قلبي ولا صبر لي عنها فقال الرجل: هي لك بشرط فقلت: وما هو? قال: أن تقيم عندي شهراً فأقمت عنده شهراً ولا يعرف أحد أين أنا والخليفة يفتش علي في كل موضع ولا يعرف لي خبراً.
فلما انقضى الشهر سلم لي الجارية وما يتعلق بها من الأمتعة النفيسة وأعطاني خادماً آخر فجئت بذلك إلى منزلي كاني حزت الدنيا باسرها من شدة فرحي بالجارية، ثم ركبت إلى المأمون من وقتي فلما حضرت بين يديه قال: ويحك يا إسحق وأين كنت فأخبرته بخبري فقال علي بذلك الرجل في هذه الساعة فدللتهم على داره فأرسل إليه الخليفة، فلما حضر سأله عن القصة فأخبره بها فقال له: أنت رجل ذو مروءة والرأي أن تعان على مروءتك فأمر له بمائة ألف درهم وقال لي: يا إسحق أحضر الجارية فأحضرتها وغنت له وأطربته فحصل له منها سرور عظيم، فقال قد جعلت عليها نوبة كل يوم خميس فتحضر وتغني من وراء الستارة، ثم أمر لها بخمسين ألف درهم فوالله لقد ربحت في تلك الركبة.
ومما يحكى أن القاسم بن عدي حكى عن رجل من بني تميم قال: خرجت في طلب ضالة فوردت على مياه بني طي فرأيت فريقين أحدهما قريب من الآخر وإذا في أحد الفريقين كلام مثل كلام الفريق الآخر، فتأملت فرأيت في أحد الفريقين شاباً قد أنهكه المرض وهو في مثل الشنن البالي، فبينما أنا أتأمله وإذا هو ينشد هذه الأبيات:
ألا ما للمـلـيحة لا تـعـود                    أبخل بالملـيحة أم صـدود
مرضت فعادني أهلي جميعاً                فما لك لا تري فيمن يعـود
لو كنت المريضة جئت أسعى              إليك ولم ينبهنـي الـوعـيد
عدمتك منهمو فبقيت وحـدي              وفقد الألف يا سكني شـديد

فسمعت كلامه جارية من الفريق الآخر فبادرت نحوه وتبعها أهلها وجعلت تضاربهم فأحس الشاب فوثب نحوها فبادر إليه أهل فريقه وتعلقوا به فجعل يجذب نفسه وهي تجذب نفسها من فريقها حتى تخلصا وقصد كل واحد منهما صاحبه حتى التقيا بين الفريقين وتعانقا ثم خرا إلى الأرض ميتين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه مما يحكى أن محمد الأنباري قال: خرجت من الأنبار في بعض الأسفار إلى عمورية من بلاد الروم فنزلت في أثناء الطريق بدير الأنوار في قرية من قرى عمورية فخرج إلي صاحب الدير والرئيس على الرهبان وكان اسمه عبد المسيح فأدخلني الدير فوجدت فيه أربعون راهباً فأكرموني في تلك الليلة بضيافة حسنة ثم رحلت عنهم في الغد وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أره من غيرهم فقضيت أربي من عمورية ثم رجعت إلى الأنبار.
فلما كان العام المقبل حججت إلى مكة، فبينما أنا أطوف حول البيت إذ رأيت عبد المسيح يطوف أيضاً ومعه خمسة أنفار من أصحابه الرهبان، فلما تحققت معرفته تقدمت إليه وقلت له: هل أنت عبد المسيح الراهب? قال: بل أنا عبد الله الراغب فجعلت أقبل شيبته وأبكي ثم أخذت بيده وملت إلى جانب الحرم وقلت له: أخبرني سبب إسلامك? فقال: إنه من أعجب العجائب وذلك أن جماعة من زهاد المسلمين مروا في القرية التي فيها ديرنا فأرسلوا شاباً يشتري لهم طعاماً فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز وهي من أحسن النساء صورة فلما نظر إليها فتن بها وسقط على وجهه مغشياً عليه.
فلما أفاق عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه وقال: امضوا إلى شأنكم فلست بذاهب معكم فعدلوه ووعظوه فلم يلتفت إليهم فانصرفوا عنه ودخل القرية وقعد عند باب حانوت تلك المرأة فسألته عن حاجته فاخبرها أنه عاشق لها فأعرضت عنه فمكث في موضعه ثلاثة أيام لم يطعم طعاماً بل صار شاخصاً إلى وجهها، فلما رأته لا ينصرف عنها ذهبت إلى أهلها وأخبرتهم بخبره فسلطوا عليه الصبيان فرموه بالحجارة حتى رضوا أضلاعه وشجوا رأسه وهو مع ذلك لا ينصرف، فعزم أهل القرية على قتله فجاءني رجلاً منهم وأخبرني بحاله فذهبت إليه فرأيته طريحاً فمسحت الدم عن وجهه وحملته إلى الدير وداويت جراحاته وأقام عندي أربعة عشر يوماً، فلما قدر على المشي خرج من الدير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الراهب عبد الله قال: فحملته إلى الدير وداويت جراحاته وأقام عندي أربعة عشر يوماً، فلما قدر على المشي خرج من الدير إلى باب حانوت الجارية وقعد ينظر إليها، فلما أبصرته قامت إليه وقالت له: والله لقد رحمتك فهل لك أن تدخل في ديني وانا أتزوجك? فقال: معاذ الله أن أنسلخ من دين التوحيد وأدخل في دين الشرك، فقالت: قم وادخل معي إلى داري واقض مني أربك وانصرف راشداً فقال: لا ما كنت لأذهب عبادة اثني عشرة سنة بشهوة لحظة واحدة، فقالت: انصرف عني حينئذ قال: لا يطاوعني قلبي، فأعرضت عنه بوجهها. ثم فطن به الصبيان فأقبلوا عليه يرمونه بالحجارة فسقط على وجهه وهو يقول: إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين فخرجت من الدير وطردت عنه الصبيان ورفعت رأسه عن الأرض فسمعته يقول: اللهم اجمع بيني وبينها في الجنة، فحملته إلى الدير فمات قبل أن أصل به إليه، فخرجت به عن القرية وحفرت له قبراً ودفنته. فلما دخل الليل وذهب نصفه صرخت تلك المرأة وهي في فراشها صرخة فاجتمع غليها أهل القرية وسألوها عن قصتها فقالت: بينما أنا إذ دخل علي هذا الرجل المسلم فأخذ بيدي وانطلق بي إلى الجنة فلما صار بي إلى بابها منعني خازنها من دخولها وقال: إنها محرمة على الكافرين فأسلمت على يديه ودخلت معه فرأيت فيها من القصور والأشجار ما لم يمكن أناصفه لكم، ثم غنه أخذني إلى قصر من الجوهر وقال لي: إن هذا القصر لي ولك وانا لا أدخله إلا معك وبعد خمس ليال تكونين عندي فيه إن شاء الله، ثم مد يده إلى شجرة على باب ذلك القصر فقطف منها تفاحتين وأعطانيهما وقال: كلي هذه واخفي الأخرى حتى يراها الرهبان فأكلت واحدة فما رأيت أطيب منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: لما قطف التفاحتين وأعطانيهما وقال: كلي هذه واخفي الأخرى حتى يراها الرهبان فأكلت واحدة فما رأيت أطيب منها، ثم أخذ بيدي حتى أوصلني إلى داري فلما استيقظت من منامي وجدت طعم التفاح في فمي والتفاحة الثانية عندي، ثم أخرجت التفاحة فأشرقت في ظلام الليل كانها كوكب دري فجاؤوا بالمرأة إلى الدير ومعها التفاحة فقصت علينا الرؤيا وأخرجت لنا التفاحة فلم نر شيئاً مثلها في سائر فواكه الدنيا. فأخذت سكيناً وشققتها على عدد أصحابي فلا رأينا ألذ من طعمها ولا أطيب من رائحتها فقلنا: لعل هذا شيطان تمثل إليها ليغويها عن دينها فأخذها أهلها وانصرفوا، ثم أنها امتنعت عن الأكل والشرب، فلما كانت الليلة الخامسة قامت من فراشها وخرجت من بيتها وتوجهت إلى قبر ذلك المسلم وألقت نفسها عليه وماتت ولم يعلم بها أهلها.
فلما كان وقت الصباح أقبل على القرية شيخان مسلمان عليهما ثياب من الشعر ومعهما امرأتان كذلك فقالا: يا أهل القرية إن الله تعالى عندكم ولية من أوليائه قد ماتت مسلمة ونحن نتولاها دونكم فطلب أهل القرية تلك المرأة فوجدوها على القبر ميتة فقالوا: هذه صاحبتنا قد ماتت على ديننا ونحن نتولاها، فقال الشيخان: إنها ماتت مسلمة ونحن نتولاها.
واشتد الخصام والنزاع بينهما فقال أحد الشيخين: إن علامة إسلامها أن يجتمع رهبان الدير الأربعون ويجذبوها عن القبر فإن قدروا على حملها من الأرض فهي نصرانية وإن لم يقدروا على ذلك يتقدم واحد منا ويجذبها فإن جاءت معه فهي مسلمة، فرضي أهل القرية بذلك واجتمع الأربعون راهباً وقوى بعضهم بعضاً وأتوها ليحملوها فلم يقدروا على ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الراهب عبد الله قال: وأتوها ليحملوها فلم يقدروا على ذلك فربطنا في وسطها حبلاً عظيماً وجذبناها فانقطع الحبل ولم تتحرك، فتقدم أهل القرية وفعلوا كذلك فلم تتحرك من موضعها، فلما عجزنا عن حملها بكل حيلة قلنا لأحد الشيخين: تقدم أنت واحملها فتقدم إليها أحدهما ولفها في ردائه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حملها في حضنه وانصرف بها المسلمون إلى غار هناك فوضعوها فيه وجاءت المرأتان فغسلتاها وكفنتاها ثم حملاها الشيخان وصليا عليها ودفناها إلى جانب قبره وانصرفا ونحن نشاهد هذا كله. فلما خلا بعضنا ببعض قلنا: إن الحق أحق أن يتبع وقد وضح لنا الحق بالمشاهدة والعيان ولا برهان لنا على صحة الإسلام أوضح لنا مم رأيناه باعيننا ثم أسلمت وأسلم رهبان الدير جميعهم وكذلك أهل القرية، ثم إننا بعثنا إلى أهل الجزيرة نستدعي فقيهاً يعلمنا شرائع الإسلام وأحكام الدين، فجاءنا فقيه صالح فعلمنا العبادة وأحكام الإسلام، ونحن اليوم على خير كثير ولله الحمد والمنة.
ومما يحكى أن بعض الفضلاء قال: ما رأيت في النساء أذكى خاطراً وأحسن فطنة وأعوز علماً وأجود قريحة وأظرف أخلاقاً من امرأة واعظة من أهل بغداد يقال لها سيدة المشايخ اتفق أنها جاءت إلى مدينة حماة سنة إحدى وستين وخمسمائة فكانت تعظ الناس على الكرسي وعظاً شافياً وكان يتردد على منزلها جماعة من المتفقهين وذوي المعارف والآداب يطارحونها مسائل الفقه ويناظرونها في الخلاف، فمضيت إليها ومعي رفيق من أهل الأدب. فلما جلسنا عندها وضعت بين أيدينا طبقاً من الفاكهة وجلست هي خلف ستر وكان لها أخاً حسن الصورة قائماً على رؤوسنا في الخدمة، فلما أكلنا شرعنا في مطارحة الفقه فسألتها مسألة فقهية مشتملة على خلاف بين الأئمة فشرعت تتكلم في جوابها وانا أصغي إليها، وجعل رفيقي ينظر إلى وجه أخيها ويتأمل في محاسنه ولا يصغي إليها وهي تلحظه من وراء الستر، فلما فرغت من كلامها التفتت إليه وقالت: أظنك ممن يفضل الرجال على النساء? قال: أجل. قالت: ولم ذلك? قال: لأن الله فضل الذكر على الأنثى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ أجابها بقوله: لأن الله فضل الذكر على الأنثى وأنا أحب الفاضل وأكره المفضول فضحكت ثم قالت: انصفني في المناظرة إن ناظرتك في هذا البحث قال: نعم قالت: فما الدليل على تفضيل الذكر على الأنثى? قال: المنقول والمعقول أما المنقول فالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض. وقوله تعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان. وقوله تعالى في الميراث: وإن كانوا أخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين فالله سبحانه وتعالى فضل الذكر على الأنثى في هذه المواضع وأخبر أن الأنثى على النصف من الذكر لأنه أفضل منها وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل دية المرأة على النصف من دية الرجل، وأما المعقول فإن الذكر فاعل والأنثى مفعول بها والفاعل أفضل من المفعول بها.
فقالت له: أحسنت يا سيدي لكنك والله أظهرت حجتي عليك من لسانك ونطقت ببرهان هو عليك لا لك وذلك أن الله سبحانه وتعالى إنما فضل الذكر على الأنثى بمجرد وصف الذكورية وهذا لا نزاع فيه بيني وبينك وقد يستوي في هذا الوصف الطفل والغلام والشاب والكهل والشيخ لا فرق بينهم في ذلك وإذا كانت الفضيلة إنما حصلت له بوصف الذكورية فينبغي أن يميل طبعك وترتاح نفسك إلى الشيخ كما ترتاح إلى الغلام إذ لا فرق بينهما في الذكورية وإنما وقع الخلاف بيني وبينك في الصفات المقصودة من حسن العشرة والإستماع وانت لم تأت ببرهان على فضل الغلام على الأنثى في ذلك، فقال لها: يا سيدتي أما علمت ما اختص به الغلام من اعتدال القد وتوريد الخد وملاحة الإبتسام وعذوبة الكلام فالغلمان بهذا أفضل من النساء والدليل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )لا تدعو النظر إلى المرد فإن فيهم لمحة من الحور العين(، وتفضيل الغلام على الجارية لا يخفى على أحد من الناس وما أحسن قول أبا نواس:
أقل ما فيه من فضـائلـه                    أمنك من طمثه ومن حبله
وقول الشاعر:
قال الإمام أبو نواس وهو في             شرع الخلاعة والمجون يقلد
يا أمة تهوى العذارا تمتعـوا               من لذة الخلد ليست توجـد

ولأن الجارية إذا بالغ الواصف في وصفها وأراد تزويجها بذكر محاسن أوصافها شبهها بالغلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ قال: ولأن الجارية إذا بالغ الواصف في وصفها وأراد تزويجها بذكر محاسن أوصافها شبهها بالغلام لما له من المآثر كما قال الشاعر:
غلامية الأرداف تهتز في الصب                    كما اهتز في ريح الشمال قضيب
فلولا أن الغلام أفضل وأحسن لما شبهت به الجارية واعلمي صانك الله تعالى أن الغلام سهل القياد موافق على المزاد حسن العشرة والأخلاق مائل عن الخلاف للوفاق ولا سيما إن تنمنم هذاره واخضر شاربه وجرت حمرة الشبيبة في وجنته حتى صار كالبدر التمام وما أحسن قول أبي تمام:
قال الوشاة بدا في الخد عارضه                    فقلت لا تكثروا ما ذاك عـابـه
لما استقل بـأرداف تـجـاذبـه               واخضر فوق جمان الدر شاربه
وأقسم الورد أيماناً مـغـلـظة               أن لا يفارق خديه عـجـائبـه
كلمته بجفـون غـير نـاطـقة                فكان من ورده ما نال حاجبـه
الحسن منك على ما كنت تعهده           والشعر أحرزه ممن يطالـبـه
أحلى وأحسن ما كانت شمائلـه            إذا لاح عارضه واخضر شاربه
وصار من كان يلحي في محبته           أن يحك عني وعنه اقل صاحبه

فهذه فضيلة في الغلمان لم تعطها النساء وكفى بذلك للغلمان عليهن فخراً ومزية فقالت له: عافاك الله تعالى إنك قد شرطت على نفسك المناظرة وقد تكلمت وما قصرت واستدللت بهذه الأدلة على ما ذكرت ولكن الآن قد حصل الحق فلا تعدل عن سبيله وإن لم تقنع بإجمال الدليل فأنا آتيك بتفضيله بالله عليك أين الغلام من الفتاة من يقيس السخلة على المهاة إنما الفتاة رخيمة الكلام حسنة القوام فهي كقضيب الريحان بثغر كأقحوان وشعر كالأرسوان وخد كشقائق النعمان ووجه كتفاح وشفة كالراح وثدي كالرمان ومعاطف كالأغصان وهي ذات قد معتدل وجسم متجدل وخد كخد السيف اللائح وجبين واضح وحاجبين مقرونين وعينين كحلاوين إن نطقت فاللؤلؤ الرطب يتناثر من فيها وتجذب القلوب برقة معانيها وغن تبسمت ظننت البدر يتلألأ من بين شفتيها وإن رنت فالسيوف تسل من مقلتيها إليها تنتهي المحاسن وعليها مدار الظاعن والقاطن ولها شفتان حمراوان ألين من الزبد وأحلى مذاقاً من الشهد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المرأة الواعظة لما وصفت الفتاة قالت: ولها شفتان حمراوان ألين من الزبد وأحلى مذاقاً من الشهد ثم قالت بعد ذلك ولها صدر كجادة الفجاج فيه ثديان كأنهما حقان من عاج وبطن لطيف الكشح كالزهر الغض وعكن قد انعطفت وانطوى بعضها على بعض وفخذان ملتفان كأنهما الدر عمودان وأرداف تموج كأنها بحر من بلور أو جبال من نور ولها قدمان لطيفان وكفان كأنهما سبائك العقبان فيا مسكين أين الالأنس من الجان ومن قال: الدنيا عبارة عن النساء كان صادقاً وأما ما ذكرت من الحديث الشريف فهو حجة عليك لا لك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تدعو النظر إلى المرد فإن فيهم لمحة من الحور العين فشبه المرد بالحور العين ولا شك أن المشبه به أفضل من المشبه فلولا أن النساء أفضل وأحسن لما شبه بهن غيرهن وأما قولك: أن الجارية تشبه الغلام فليس الأمر كذلك بل الغلام يشبه بالجارية حتى قالوا: أنها تصلح للأمرين جميعاً عدولاً منهم عن سلوك طريق الحق عند الناس، كما قال كبيرهم أبو نواس:
ممشوقة القصر غلامية                    تصلح للوطي والزاني
وأما ما ذكرته من حسن نيات العذار وخضار الشارب وأن الغلام يزداد به حسناً وجمالاً فوالله لقد عدلت عن الطريق غير التحقيق لأن العذار يبذر حسنات الجمال بالسيئآت ثم أنشدت هذه الأبيات:
بدا الشعر في وجههفانتقم                 لعاشقه منه لما ظـلـم
ولم أر في وجهه كالدخا                    ن إلا وسالفه كالحمـم
إذا اسود فاضل قرطاسه                   فما ظنكم بمكان القلـم
فإن فضلوه على غـيره           فما ذلك إلا لجهل الحكم

فلما فرغت من شعرها قال للرجل: سبحان الله العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المرأة الواعظة لما فرغت من شعرها قالت للرجل: سبحان الله العظيم كيف يخفى عليك كمال اللذة في النساء وان النعيم المقيم لا يكون إلا بهن وذلك أن الله سبحانه وتعالى وعد الأنبياء والأولياء في الجنة بالحور العين وجعلهن جزاء لأعمالهن الصالحة ولو علم الله تعالى أن في غيرهن لذة الإستمتاع لجزاهم به ووعدهم إياه وقال صلى الله عليه وسلم: حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة، وإنما جعل الله الولدان خدماً للأنبياء والأولياء في الجنة لأن الجنة دار نعيم وتلذذ ولا يكمل ذلك إلا بخدمة الولدان واما استعمالهم لغير الخدمة فهو من الخيال والوبال وأنا أستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم. ثم سكتت فلم تجبنا عن شيء بعد ذلك فخرجنا من عندها مسرورين من مناظرتها متأسفين على مفارقتها.
ومما يحكى أن أبا سويد قال: اتفق أنني أنا وجماعة من أصحابي دخلنا بستاناً يوماً من الأيام لنشتري شيئاً من الفواكه فرأينا في جانب ذلك البستان عجوزاً صبيحة الوجه غير أن شعر رأسها أبيض وهي تسرحه بمشط من العاج فوقفنا عندها، فلم تجفل منا ولم تغط رأسها فقلت لها: يا عجوز لو صبغت شعرك أسود لكنت أحسن من صبية فما منعك من ذلك? فرفعت رأسها إلي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا السويد قال: لما قلت للعجوز ذلك رفعت رأسها إلي وحملقت العينين وأنشدت هذين البيتين:
وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم                    صبغي ودامت صـبـغة الأيام
أيام الرفل لي ثياب شيبـتـنـي               وأناك من خلفي ومن قدامـي

فقلت لها: لله درك من عجوز ما أصدقك في اللهج بالحرام وأكذبك في دعوى التوبة من الآثام.
ومما يحكى أن علي بن محمد بن عبد الله بن طاهر استعرض جارية اسمها مؤنس للشراء وكانت فاضلة أديبة شاعرة فقال لها: ما اسمك يا جارية? قالت: أعز الله الأمين اسمي مؤنس وكان قد عرف اسمها قبل ذلك فأطرق ساعة ثم رفع رأسه إليها وأنشد هذا البيت:
ماذا تقولين فيمن شقـه سـقـم             من أجل حبك حتى صار حيرانا
قالت: أعز الله الأمير وأنشدت هذا البيت:
إذا رأينا محباً قد أضر به                   داء الصبابة أوليناه إحسانا
فأعجبته فاشتراها بسبعين ألف درهم وأولدها عبد الله بن محمد صاحب المآثر وقال أبو العيتا: كان عندنا في الدرب امرأتان، إحداهما تعشق رجلاً والأخرى تعشق أمرد فاجتمعتا ليلة على سطح إحاهما وهو قريب من داري وهما لا يعلمان بي فقالت صاحبة الأمرد للأخرى: يا أختي كيف تصبرين على خشونة اللحية حين تقع على صدرك وقت لثمك، وتقع شفتيك وخديك? فقالت لها: يا رعناء وهل يزين الشجر إلا ورقه والخيار إلا زغبه وهل رأيت في الدنيا أقبح من قرع منتوف، أما علمت أن اللحية للرجل مثل الذوائب للمرأة وما الفرق بين الذوائب واللحية، اما علمت أن الله سبحانه وتعالى خلق في السماء ملكاً يقول سبحان من زين ارجال بالذوائب فلولا أن اللحى كالذوائب في الجمال، لما قرن بينهما يا رعناء مالي وفرش نفسي تحت الغلام الذي يعاجلني إنزاله ويسابقني انحلاله وإذا رهز أجاد وكلما خلص عاد فاتعظت صاحبة الغلام بمقالتها وقالت: سلوت صاحبي ورب الكعبة.

حكاية تودد الجارية

ومما يحكى أنه كان ببغداد رجل ذو مقدار وكان موسر بالمال والعقار وهو من التجار الكبار وقد سهل عليه دنياه ولم يبلغه من الذرية ما يتمناه ومضت عليه مدة من الزمان ولم يرزق بأناث ولا ذكور، فكبر سنه ورق عظمه وانحنى ظهره وكثر وهنه وهمه فخاف ذهاب ماله ونسبه إذ لم يكن له ولد يرثه ويذكر به فتضرع إلى الله تعالى وصام النهار، وقام الليل، ونذر النذور لله تعالى الحي القيوم، وزار الصالحين، وأكثر التضرع إلى الله تعالى فاستجاب الله له وقبل دعاؤه ورحم تضرعه وشكواه فما كان إلا قليل من الأيام حتى جامع إحدى نسائه فحملت منه في ليلتها ووقتها وساعتها وأتمت أشهرها ووضعت حملها وجاءت بذكر كأنه فلقة قمر، فأوفى بالنذر وشكر الله عز وجل وصدق وكسا الأرامل والأيتام، وليلة سابع الولادة سماه بأبي الحسن فرضعته المراضع وحضنته الحواضن وحملته المماليك والخدم إلى أنكبر ونشأ وترعرع وانتشى، وتعلم القرآن العظيم وفرائض الإسلام وأمور الدين القويم والخط والشعر والحساب والرمي بالنشاب، فكان فريد دهره وأحسن أهل زمانه وعصره، ذا وجه مليح ولسان فصيح، يتهادى تمايلاً واعتدالاً ويترامى تدللاً واختيالاً بخد أحمر وجبين أزهر وعذار أخضر، كما قال فيه بعض واصفيه:
بدا الربيع العذار للـحـدق                   والورد بعد الربيع كيف بقي
أما ترى النبت فوق عارضه               بنفسجاً طالعاً مـن الـورق

فأقام مع أبيه برهة من الزمن في أحسن حال وأبوه به فرح وسرور إلى أن بلغ مبالغ الرجال فأجلسه أبوه بين يديه يوماً من الأيام وقال له: يا ولدي غنه قد قرب الأجل وحانت وفاتي ولم يبق غير لقاء الله عز وجل وقد خلفت لك ما يكفيك إلى ولد الولد من المال المتين والضياع والأملاك والبساتين فاتق الله تعالى يا ولدي فيما خلفته لك ولا تمتع من رفدك، فلم يكن إلا قليل حتى مرض الرجل ومات فجهزه ولده أحسن تجهيز ودفنه ورجع إلى منزله وقعد للعزاء أياماً وليالي وإذا بأصحابه قد دخلوا عليه وقالوا له: من خلف مثلك ما مات، وكل ما فات فقد فات وما يصلح العزاء إلا للبنات والنساء المخدرات ولم يزالوا به حتى دخل الحمام ودخلوا عليه وفكوا حزنه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن لما دخل عليه أصحابه الحمام وفكوا حزنه نسي وصية أبيه وذهل لكثرة المال وظن أن الدهر يبقى معه على حال، وأن المال ليس له زوال فأكل وشرب ولذ وطرب وخلع ووهب وجاد بالذهب ولازم أكل الدجاج وفض ختم الزجاج وقهقهة القناني واستماع الأغاني، ولم يزل على هذا الحال إلى أن نفذ المال وقعد الحال وذهب ما كان لديه وسقط في يديه، ولم يبق له بعد أن أتلف ما أتلف غير وصيفة خلفها له والده من جملة ما خلف وكانت الوصيفة هذه ليس لها نظير في الحسن والجمال والبهاء والكمال والقد والاعتدال وهي ذات فنون وآداب وفضائل تستطاب قد فاقت أهل عصرها وأوانها، وصارت أشهر من علم في افتتانها وزادت على الملاح بالعلم والعمل والتثني والميل مع كونها خماسية القد مقارنة للسعد بجبينين كأنهما هلال شعبان وحاجبين أزجين، وعيون كعيون غزلان وأنف كخد الحسام، وخد كشقائق النعمان، وفم كخاتم سليمان وأسنان كأنها عقود الجمان، وسرة تسع أوقية دهن بان، وخصر أنحل من جسم من أضناه الهوى وأسقمه الكتمان وردف أثقل من الكثبان، وبالجملة فهي في الحسن والجمال جديرة بقول من قال:
إن أقبلت بحسـن قـوامـهـا                 أو أدبرت قتلت بصد فراقهـا
شمسية بـدرية غـصـنـية                   ليس الجفا والبعد من أخلاقها
جنات عدن تحت جيب قميصها            والبدر في فلك على أطواقها

تسلب من يراها بحسن جمالها وبريق ابتسامتها وترميه بعيونا نبل سهامها وهي مع هذا كله فصيحة الكلام حسنة النظام فلما نفذ جميع ماله وتبين سوء حاله ولم يبق معه غير هذه الجارية أقام ثلاثة أيام، وهو لم يذق طعم طعام ولم يسترح في منام، فقالت له الجارية: يا سيدي احملني إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت لسيدها: يا سيدي احملني إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد الخامس من بني العباس واطلب ثمني منه عشرة آلاف دينار فإن استغلاني فقل له: يا أمير المؤمنين وصيفتي تساوي أكثر من ذلك فاختبرها يعظم قدرها في عينك لأن هذه الجارية ليس لها نظير ولا تصلح إلا لمثلك. ثم قالت له: إياك أن تبيعني بدون ما قلت لك من الثمن فإنه قليل في مثلي وكان سيد الجارية لا يعلم قدرها ولا يعرف أنها ليس لها نظير في زمانها.
ثم أنه حملها إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد وقدمها له وذكر ما قالت، فقال لها الخليفة: ما اسمك? قالت: اسمي تودد قال: يا تودد ما تحسنين من العلوم? قالت: يا سيدي إني أعرف النحو والشعر والفقه والتفسير واللغة وأعرف فن الموسيقى وعلم الفرائض والحساب والقسمة والمساحة وأساطير الأولين، وأعرف القرآن العظيم وقد قرأته بالسبع والعشر وبالأربع عشرة وأعرف عدد سوره وآياته وأحزابه وأنصافه وأرباعه وأثمانه وأعشاره وسجداته وعدد أحرفه وأعرف ما فيه من الناسخ والمنسوخ والمدنية والمكية، وأسباب التنزيل وأعرف الحديث الشريف دراية ورواية المسند منه والمرسل ونظرت في علوم الرياضة والهندسة والفلسفة وعلم الحكمة والمنطق والمعاني والبيان وحفظت كثيراً من العلم وتعلقت بالشعر وضربت العود، وعرفت مواضع النغم فيه ومواقع حركات أوتاره فإن غنيت ورقصت فتنت وإن تزينت وتطيبت قتلت وبالجملة فإني وصلت إلى شيء لم يعرفه إلا الراسخون في العلم.
فلام سمع الخليفة هارون الرشيد كلامها على صغر سنها تعجب من فصاحة لسانها والتفت إلى مولاها وقال: إني أحضر من يناظرها في جميع ما ادعته فإن أجابت دفعت لك ثمنها وزيادة وإن لم تجب فأنت أولى بها فقال مولاها: يا أمير المؤمنين حباً وكرامة فكتب أمير المؤمنين إلى عامل البصرة بأن يرسل إليه إبراهيم بن سيار النظام وكان أعظم أهل زمانه في الحجة والبلاغة والشعر والمنطق وأمره أن يحضر القراء والعلماء والأطباء والمنجمين والحكماء والمهندسين والفلاسفة، وكان ابراهيم أعلم من الجميع فما كان إلا قليل حتى حضروا دار الخلافة وهم لا يعلمون الخبر فدعاهم أمير المؤمنين إلى مجلسه وأمرهم بالجلوس فجلسوا ثم أمر أن تحضر الجارية تودد فحضرت وأظهرت نفسها وهي كأنها كوكب دري فوضع لها كرسي من ذهب فسلمت، ونطقت بفصاحة لسان وقالت: يا أمير المؤمنين مر من حضر من العلماء والقراء والأطباء والمنجمين والحكماء والمهندسين والفلاسفة أن يناظروني. فقال لهم أمير المؤمنين: أريد منكم أن تناظروا هذه الجارية في أمر دينها وأن تدحضوا حجتها في كل ما ادعته فقالوا: السمع والطاعة لله ولك يا أمير المؤمنين فعند ذلك أطرقت الجارية برأسها إلى الأرض وقالت: أيكم الفقيه العالم المقري المحدث? فقال أحدهم: أنا ذلك الرجل الذي طلبت فقالت له: اسأل عما شئت قال لها: أنت قرأت كتاب الله العزيز وعرفت ناسخه ومنسوخه وتدبرت آياته وحروفه قالت: نعم فقال لها: أسألك عن الفرائض الواجبة والسنن القائمة فأخبريني أيتها الجارية عن ذلك ومن ربك ومن إمامك وما قبلتك وأخوانك وما طريقك وما منهاجك? قالت: الله ربي ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي والقرآن إمامي والكعبة قبلتي والمؤمنون أخواني والخير طريقي والسنة منهاجي. فتعجب الخليفة من قولها ومن فصاحة لسانها على صغر سنها ثم قال لها: أيتها الجارية أخبريني بما عرفت الله تعالى? قالت: بالعقل، قال: وما العقل? قالت: العقل عقلان عقل موهوب وعقل مكسوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: قالت: العقل عقلان موهوب ومكسوب، فالعقل الموهوب هو الذي خلقه الله عز وجل يهدي به من يشاء من عباده، والعقل المكسوب هو الذي يكسبه المرء بتأدبه وحسن معروفه فقال لها: أحسنت ثم قال: أين يكون العقل? قالت: يقذفه الله في القلب فيصعد شعاعه في الدماغ حتى يستقر قال لها: أحسنت ثم قال: أخبريني بما عرفت النبي صلى الله عليه وسلم? قالت: بقراءة كتاب الله تعالى وبالآيات والدلالات والبراهين والمعجزات قال: أحسنت فأخبريني عن الفرائض الواجبة والسنن القائمة? قالت: أما الفرائض الواجبة فخمس: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً، وأما السنن فهي أربع: الليل والنهار والشمس والقمر، وهن يدنين العمر والأمل وليس يعلم ابن آدم أنهن يهدمن الأجل.
قال: أحسنت فأخبريني ما شعائر الإيمان? قالت: شعائر الإيمان الصلاة والزكاة والصوم والحج واجتنبا الحرام. وقال: أحسنت أخبريني بأي شيء تقومين إلى الصلاة? قالت: بنية العبودية مقرة بالربوبية قال: فأخبريني كم فرض الله عليك قبل قيامك إلى الصلاة? قالت: الطهارة وستر العورة واجتناب الثياب المتنجسة والوقوف على مكان طاهر والتوجه للقبلة والنية وتكبيرة الإحرام. قال: أحسنت فاخبريني بم تخرجين من بيتك إلى الصلاة? قالت: بنية العبادة قال: فبأي نية تدخلين المسجد? قالت: بنية الخدمة قال: فبماذا تستقبلين القبلة? قالت: بثلاث فرائض وسنة قال: أحسنت فأخبريني ما مبدأ الصلاة وما تحليلها وما تحريمها? قالت: مبدأ الصلاة الطهور وتحريمها تحريمة تكبيرة الإحرام وتحليل السلام من الصلاة قال: فماذا يجب على من تركها? قالت: روي في الصحيح من ترك الصلاة عامداً متعمداً من غير عذر فلا حظ له في الإسلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما ذكرت الحديث الشريف قال لها الفقيه: أحسنت فأخبريني عن الصلاة ما هي? قالت: الصلاة سر بين العبد وربه وفيها عشرة خصال: تنور القلب وتضيء الوجه، وترضي الرحمن وتغضب الشيطان، وتدفع البلاء وتكفي شر الأعداء، وتكثر الرحمة، وتدفع النقمة وتقرب العبد من مولاه وتنهي عن الفحشاء والمنكر وهي من الواجبات المفروضات المكتوبات وهي عماد الدين، قال: أحسنت فأخبريني ما مفتاح الصلاة? قالت: الوضوء قال: ما مفتاح الوضوء? قالت: التسمية قال: فما مفتاح التسمية? قالت: اليقين قال: فما مفتاح اليقين? قالت: التوكل قال: فما مفتاح التوكل? قالت: الرجاء قال: فما مفتاح الرجاء? قالت: الطاعة قال: فما مفتاح الطاعة? قالت: الاعتراف لله تعالى بالوحدانية والإقرار له بالربوبية.
قال: أحسنت فأخبريني عن فروض الوضوء قالت: ستة أشياء على مذهب الإمام الشافعي محمد بن ادريس رضي الله عنه، النية عند غسل الوجه وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح بعض الرأس وغسل الرجلين مع الكعبين والترتيب، وسنته عشرة أشياء: التسمية، وغسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، والمضمضة، والاستنشاق، ومسح بعض الرأس، ومسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد وتخليل اللحية الكثة وتخليل أصابع اليدين والرجلين وتقديم اليمنى على اليسرى والطهارة ثلاثاً ثلاثاً والموالاة فإذا فرغ من الوضوء قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قالها عقب كل وضوء فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. قال: أحسنت فغذا أراد الإنسان الوضوء ماذا يكون عنده من الملائكة والشياطين? قالت: إذا تهيأ الإنسان للوضوء، أتت الملائكة عن يمينه والشياطين عن شماله فإذا ذكر الله تعالى في ابتداء الوضوء فرت منه الشياطين واستولت عليه الملائكة بخيمة من نور لها أربعة أطناب، مع كل طنب ملك يسبح الله تعالى ويستغفر له ما دام في إنصات أو ذكر، فإن لم يذكر الله عز وجل عند ابتداء الوضوء ولم ينصت استولت عليه الشياطين وانصرفت عنه الملائكة ووسوس له الشيطان حتى يدخل عليه الشك والنقص في وضوئه. فقد قال عليه الصلاة والسلام: الوضوء الصالح يطرد الشيطان ويؤمن من جور السلطان وقال أيضاً: من نزلت عليه بلية وهو على غير وضوء فلا يلومن إلا نفسه قال: أحسنت فأخبريني عما يفعل الشخص إذا استيقظ من منامه? قالت: إذا استيقظ الشخص من منامه فليغسل يديه ثلاثاً قبل إدخالهما في الإناء قال: أحسنت فأخبريني عن فروض الغسل وعن سننه? قالت: فروض الغسل النية وتعميم البدن بالماء إلى جميع الشعر والبشرة، وأما سننه فلوضوء قبله، والتدليك وتخليل الشعر وتأخير غسل الرجلين في قول آخر الغسل قال ك أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما أخبرت الفقيه عن فروض الغسل وسننه قال: أحسنت فأخبريني عن أسباب التيمم وفرضه وسننه? قالت: أما أسبابه فسبعة: فقد الماء والخوف والحاجة إليه، وإضلاله في رحلة والمرض والجبيرة والجراح. وأما فروضه فأربعة: النية والتراب وضربة للوجه وضربة لليدين وأما سننه فالتسمية وتقديم اليمنى على اليسرى قال: أحسنت فأخبريني عن شروط الصلاة وعن أركانها وسننها? قالت: أما شروطها فخمسة أشياء: طهارة الأعضاء وستر العورة ودخول الوقت يقيناً أو ظناً واستقبال القبلة والوقوف على مكان طاهر، وأما أركانها فالنية وتكبيرة الإحرام والقيام مع القدرة وقراءة الفاتحة وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها على مذهب الإمام الشافعي والركوع والطمأنينة فيه والاعتدال والطمأنينة فيه والسجود والطمأنينة فيه والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه والتشهد الأخير والجلوس له والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه والتسليمة الأولى ونية الخروج من الصلاة في قول، وأما سننها فالأذان والإقامة ورفع اليدين عند الإحرام ودعاء الإفتتاح والتعوذ والتأمين وقراءة السورة بعد الفاتحة والتكبيرات عند الإنتقالات وقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد والجهر في موضعه والإسرار في موضعه والتشهد الأولى والجلوس له والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه والصلاة على الآل في التشهد الأخير والتسليمة الثانية قال: أحسنت فأخبريني فبماذا تجب الزكاة? قالت: تجب في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والدخن والذرة والفول والحمص والأرز والزبيب والتمر، قال أحسنت فأخبريني في كم تجب الزكاة في الذهب? قالت: لا زكاة فيما دون عشرين مثقالاً فإذا بلغت العشرين ففيها نصف مثقال وما زاد فبحسابه قال: فأخبريني في كم يجب الزكاة في الإبل? قالت: في كل خمس شاة إلى خمس وعشرين فيها بنت مخاض قال: أحسنت فأخبريني في كم تجب الزكاة في الورق قال: ليس فيما دون مائتي درهم فإذا بلغت المائتين فيها خمسة دراهم وان زاد فبحسابه قال: أحسنت فأخبريني في كم تجب الزكاة في الشاة? قالت: إذا بلغت أربعين فيها شاة قال: أحسنت فأخبريني عن الصوم وفرضه قالت: أما فروض الصوم فالنية والإمساك عن الأكل والشرب والجماع وتعم القيء وهو واجب على كل مكلف خال عن الحيض والنفاس ويجب رؤية الهلال أو بإخبار عدل يقع في قلب المخبر صدقه، ومن واجباته تثبيت النية، وأما سننه فتعجيل الفطور وتأخير السحور وترك الكلام إلا في الخير والذكر وتلاوة القرآن قال: أحسنت فأخبريني عن شيء لا يفسد الصوم قالت: الأذهان والإكتحال وغبار الطريق وابتلاع الريق وخروج المني بالإحتلام أو النظر لامرأة أجنبية والفصادة والحجامة هذا كله لا يفسد الصوم. قال: أحسنت فأخبريني عن صلاة العيدين قالت: ركعتان وهما سنة من غير آذان وإقامة ولكن يقول الصلاة جامعة ويكبر في الأولى سبعاً ى تكبيرة الإحرام وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما أخبرت الفقيه عن صلاة العيدين قال لها: أحسنت فأخبريني عن صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر قالت: ركعتان بغير آذان ولا إقامة يأتي ركعة بقيامين وركوعين وسجودين ويجلس وينشد ويسلم ثم يخطب ويستغفر الله تعالى مكان التكبير في خطبتي العيدين ويحول رداءه بأن يجعل أعلاه أسفله ويدعوا ويتضرع قال: أحسنت فأخبريني عن صلاة الوتر قالت: الوتر أقله ركعة واحدة وأكثره إحدى عشر ركعة قال: أحسنت فأخبريني عن صلاة الضحى قالت: أقلها ركعتان وأكثرها اثنتي عشر ركعة قال: أحسنت فأخبريني عن الإعتكاف قالت: هو سنة قال: فما شروطه? قالت: النية وأن لا تخرج من المسجد إلا لحاجة ولا يباشر النساء وأن يصوم ويترك الكلام.
قال: أحسنت فأخبريني بماذا يجب الحج? قالت: بالبلوغ والعقل والإسلام والاستطاعة وهو واجب في العمر مرة واحدة قبل الموت قال: فما فروض الحج? قالت: الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي والحلق والتقصير قال: فما فروض العمرة? قالت: الإحرام بها وطوافها وسعيها قال: فما فروض الإحرام? قالت: التجرد من المخيط واجتناب الطيب وترك حلق الرأس وتقليم الأظافر وقتل الصيد والنكاح قال: فما سنن الحج? قالت: التلبية وطواف القدوم والوداع والمبيت بالمزدلفة ورمي الجمار. قال: أحسنت فما الجهاد وما أركانه? قالت: أما أركانه فخروج الكفار علينا ووجود الإمام والعدة والثبات عند لقاء العدو وأما سننه فهو التحريض على القتال لقوله تعالى: يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، قال: أحسنت فأخبريني عن فروض البيع وسننه قالت: أما فروض البيع فالإيجاب والقبول وأن يكون البيع مملوكاً منتفعاً به مقدوراً على تسليمه وترك الربا وأما سننه فالإقالة والخيار قبل التفريق لقوله صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا قال: أحسنت فأخبريني عن شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض قالت: حفظت في ذلك حديثاً صحيحاً عن نافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع التمر بالرطب والتين باليابس والقديد باللحم والزبد بالسمن وكل ما كان من صنف واحد مأكول فلا يجوز بيع بعضه ببعض.
فلما سمع الفقيه كلامها وعرف أنها ذكية فطنة حاذقة عالمة بالفقه والحديث والتفسير وغير ذلك قال في نفسه: لا بد أن أتحيل عليها حتى أغلبها في مجلس أمير المؤمنين فقال لها: يا جارية ما معنى الوضوء في اللغة? قالت: الوضوء في اللغة النظافة والخلوص من الأدناس قال: فما معنى الصلاة في اللغة? قالت: الدعاء بخير قال: فما معنى الغسل في اللغة? قالت: التطهير قال: فما معنى الصوم في اللغة? قالت: الإمساك قال: فما معنى الزكاة في اللغة? قالت: الزيادة قال: فما معنى الحج في اللغة? قالت: القصد قال: فما معنى الجهاد في اللغة? قالت: الدفاع، فانقطعت حجة الفقيه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفقيه لما انقطعت حجته قام على قدميه وقال: أشهد الله يا أمير المؤمنين بأن الجارية أعلم مني في الفقه فقالت له الجارية: أسألك عن شي فأتني جوابه سريعاً إن كنت عارفاً قال: اسألي قالت: ما سهام الدين? قال: هي عشرة: الأولى الشهادة وهي الملة، الثاني الصلاة وهي الفطرة، الثالث الزكاة وهي الطهارة، الرابع الصوم وهي الجنة، الخامس الحج وهي الشريعة، السادس الجهاد وهي الكفاية، السابع والثامن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما الغيرة، التاسع الجماعة وهي الألفة، العاشر طلب العلم وهي الطريق الجيدة.
قالت: أحسنت وقد بقيت عليك مسألة فما أصول الإسلام? قال: هي أربعة: صحة العقد، وصدق العقد، وحفظ الحد، والوفاء بالعهد.
قالت: بقيت مسألة أخرى فإن أجبت وإلا أخذت ثيابك قال: قولي يا جارية قالت: فما فروع الإسلام? فسكت ساعة ولم يجب بشيء فقالت: انزع ثيابك وأنا أفسرها لك قال أمير المؤمنين: فسريها وأنا أنزع لك ما عليه من الثياب قالت: اثني وعشرون فرعاً التمسك بكتاب الله والإقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم وكف الأذى وأكل الحلال واجتناب الحرام ورد المظالم إلى أهلها والتوبة والفقه في الدين وحب الجليل واتباع التنزيل والتأهب للرحيل وقوة اليقين والعفو عند المقدرة والقوة عند الضعف والصبر عند المصيبة ومعرفة الله تعالى ومعرفة ما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم ومخالفة اللعين إبليس ومجاهدة النفس ومخالفتها والإخلاص لله.
فلما سمع أمير المؤمنين ذلك منها أمر أن تنزع ثياب الفقيه وطيلسانه فنزعهما ذلك الفقيه وخرج مقهوراً منها خجلاً من بين يدي أمير المؤمنين، ثم قام رجل آخر وقال: يا جارية اسمعي مني مسائل قليلة قالت له: قل، قال: فما شرط صحة المسلم? قالت: القدر المعلوم والجنس المعلوم والأجل المعلوم، قال: أحسنت فما فروض الأكل وسننه? قالت: فروض الأكل الإعتراف بان الله تعالى رزقه وأطعمه وسقاه والشكر لله تعالى على ذلك، قال: فما الشكر? قالت: صرف العبد لجميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله قال: فما سنن الأكل? قالت: التسمية وغسل اليدين والجلوس على الورك الأيسر والأكل بثلاث أصابع والكل مما لك قال:: أحسنت فأخبريني ما آداب الأكل? قالت: أن تصغر اللقمة وتقل النظر إلى جليسك قال: أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما سئلت عن آداب الأكل وذكرت الجواب قال لها الفقيه السائل: أحسنت فأخبريني عن عقائد القلب وأضدادها قالت: هن ثلاث وأضدادها ثلاث: الأولى اعتقاد الإيمان وضدها مجانية الكفر، والثانية اعتقاد السنة وضدها مجانية البدعة، والثالثة اعتقاد الطاعة وضدها مجانية المعصية، قال: أحسنت فأخبريني عن شروط الوضوء قالت: الإسلام والتميز وطهور الماء وعدم المانع الحسن وعدم المانع الشرعي قال: أحسنت فأخبريني عن الإيمان قالت: الإيمان ينقسم إلى تسعة أقسام: إيمان بالمعبودة وإيمان بالعبودية وإيمان بالخصوصية وإيمان بالقبضتين وإيمان بالناسخ وإيمان بالمنسوخ وإن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره وحلوه ومره. قال: أحسنت فأخبريني عن ثلاث تمنع ثلاثاً، قالت: نعم. روي عن سفيان الثوري أنه قال: ثلاث تذهب ثلاثاً: الاستخفاف بالصالحين يذهب الآخرة والاستخفاف بالملوك يذهب الروح، والاستخفاف بالنفقة يذهب المال، قال: أحسنت فأخبريني عن مفاتيح السموات وكم لها من باب? قالت: قال الله تعالى: وفتحت السماء فكانت أبواباً. وقال عليه الصلاة والسلام: وليس يعلم عدة أبواب السماء إلا الذي خلق السماء وما من أحد من بني آدم إلا وله بابان في السماء باب ينزل منه رزقه وباب يصعد منه عمله ولا يغلق باب رزقه حتى ينقطع أجله ولا يغلق باب عمله حتى تصعد روحه.
قال: أحسنت فأخبريني عن شيء وعن نصف شيء وعن لا شيء? قالت: الشيء هو المؤمن ونصف الشيء هو المنافق وأن لا شيء هو الكافر قال: أحسنت فأخبريني عن القلوب قالت: قلب سليم وقلب سقيم وقلب منيب وقلب نذير وقلب منير، فالقلب السليم هو قلب الخليل والقلب السقيم هو قلب الكافر والقلب المنيب هو قلب المتقين الخائفين والقلب النذير هو قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والقلب المنير هو قلب من يتبعه وقلوب العلماء ثلاثة: قلب متعلق بالدنيا وقلب متعلق بالآخرة وقلب متعلق بمولاه وقيل: إن القلوب ثلاثة: قلب معلق وهو قلب الكافر، وقلب معدوم وهو قلب المنافق، وقلب ثابت وهو قلب المؤمن، وقيل هي ثلاثة: قلب مشروح بالنور والإيمان وقلب مجروح من خوف الهجران، وقلب خائف من الخذلان، قال: أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما سألها الفقيه الثاني وأجابته وقال لها: أحسنت قالت: يا أمير المؤمنين إنه قد سألني حتى عيي وأنا أسأله مسألتين فإن أتى بجوابهما فذاك وإلا أخذت ثيابه وانصرف بسلام فقال لها الفقيه: سليني ما شئت، قالت: فما تقول في الإيمان? قال: الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح وقال عليه الصلاة والسلام: لا يكمل المرء في الإيمان حتى يكمل فيه خمس خصال التوكل على الله والتفويض إلى الله والتسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله وأن تكون أموره لله فإنه من أحب الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان. قالت: فأخبرني عن فرض الفرض وعن فرض في ابتداء كل فرض وعن فرض يحتاج إليه كل فرض وعن سنة داخلة في الفرض وعن سنة يتم بها الفرض فسكت ولم يجب بشيء فأمرها أمير المؤمنين بأن تفسرها وأمره أن ينزع ثيابه ويعطيها إياها فعند ذلك قالت: يا فقيه أما فرض الفرض فمعرفة الله تعالى وأما الفرض الذي في ابتداء كل فرض فهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأما الفرض الذي يحتاج إليه كل فرض فهو الوضوء وأما الفرض المستغرق كل فرض فهو الغسل من الجنابة وأما السنة الداخلة في الفرض فهي تخليل الأصابع وتخليل اللحية الكثيفة وأما السنة التي يتم بها الفرض فهو الإختتان فعند ذلك تبين عجز الفقيه وقام على قدميه وقال: أشهد الله يا أمير المؤمنين أن هذه الجارية أعلم مني بالفقه وغيره ثم نزع ثيابه وانصرف مقهوراً.
وأما حكايتها مع المقرئ فإنها التفتت إلى من بقي من العلماء الحاضرين وقالت: أيكم الأستاذ المقرئ بالعالم بالقرآن السبع والنحو واللغة? فقام إليها المقرئ وجلس بين يديها وقال لها: هل قرأت كتاب الله تعالى وأحكمت معرفة آياته وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومكيه ومدنيه وفهمت تفسيره وعرفتيه على الروايات والأصول في القرآن? قالت: نعم. قال: أخبريني عن عدد سور القرآن وكم فيه من عشر وكم فيه من آيات وكم فيه من حرف وكم فيه من سجدة وكم فيه من نبي مذكور وكم فيه من سورة مدنية وكم فيه من سورة مكية وكم فيه من طير? قالت: يا سيدي أما سور القرآن فمائة وأربع عشرة سورة المكي منها سبعون والمدني أربع وأربعون وأما أعشاره فستمائة عشر واحد وعشرون عشراً وأما الآيات فست آلاف ومائتان آية وأما أحرفه فثلاثة وعشرون ألفاً وستمائة وسبعون حرفاً وللقارئ بكل حرف عشر حسنات وأما السجدات فأربع عشر سجدة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن لما سألها المقرئ عن القرآن الكريم أجابته وقالت له: وأما الأنبياء الذين ذكرت أسماؤهم في القرآن فخمسة وعشرون نبياً وهم: آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب ويوسف واليسع ولوط وصالح وهود وشعيب وداود وسليمان وذو الكفل وإدريس وإلياس ويحيى وزكريا وأيوب وموسى وهارون ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، وأما الطير فهن تسع، قال: ما اسمهن? قالت: البعوض والذباب والنمل والهدهد والغراب والجراد والأبابيل وطير عيسى عليه السلام وهو الخفاش.
قال: أحسنت أي سورة في القرآن أفضل? قالت: سورة البقرة، قال: فأي آية أعظم? قالت: آية الكرسي وهي خمسون كلمة مع كل كلمة خمسون بركة، قال: فأي آية فيها تسع آيات? قالت قوله تعالى: )إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس( إلى آخر الآية. قال: أحسنت فأخبريني أي آية أعدل? قالت: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، قال: فأي آية أطمع? قالت: قوله تعالى:)أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة النعيم(، قال: فأي جنة أرجى? قالت: قوله تعالى: )قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم(. قال: أحسنت فأخبريني بأي قراءة تقرأين? قالت: بقراءة أهل الجنة وهي قراءة نافع، قال: فأي آية كذب فيها الأنبياء? قالت: قوله تعالى: )وجاؤوا على قميصه بدم كذب( وهم أخوة يوسف، قال: فأخبريني أي آية صدق فيها الكفار? قالت: قوله تعالى: )وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب( فهم صدقوا جميعاً، قال: فما آية قالها الله لنفسه? قالت: قوله تعالى: )وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون(، قال: فأي آية فيها قول الملائكة? قالت: قوله تعالى: )ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك(، قال: فأخبريني عن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وما جاء فيها? قالت: التعوذ واجب أمر الله به عند القراءة والدليل عليه قوله تعالى: )فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم(.
قال: أخبريني ما لفظ الاستعاذة وما الخلاف فيها? قالت: منهم من يستعيذ بقوله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ومنهم من يقول: أعوذ بالله القوي والأحسن ما نطق به القرآن العظيم ووردت به السنة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استفتح القرآن قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وروي عن نافع عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي في الليل قال: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن همزات الشياطين ونزعاتهم.
وروي عن ابن عباس رضي الله قال: أول ما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم علمه الإستعاذة وقال له: قل يا محمد أعوذ بالله السميع العليم ثم قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. فلما سمع المقرئ كلامها تعجب من لفظها وفصاحتها ثم قال لها: يا جارية ما تقولين في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من آيات القرآن? قالت: نعم آية من القرآن في النمل وآية بين كل سورتين والاختلاف في ذلك بين العلماء كثير، قال: أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما أجابت المقرئ وقالت: إن بسم الله الرحمن الرحيم فيها إختلاف كثير بين العلماء قال: أحسنت فأخبريني لم لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم في أول سورة براءة? قالت: لما نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بينه صلى الله عليه وسلم وبين المشتركين وجه لهم النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في يوم موسم بسورة براءة فقرأها عليهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. قال: فاخبريني عن فضل بسم الله الرحمن الرحيم وبركتها قالت: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما قرأت بسم الله الرحمن الرحيم على مريض إلا عوفي من مرضه. وقيل: لما خلق الله العرش اضطرب اضطراباً عظيماً فكتب عليه بسم الله الرحمن الرحيم فسكن اضطرابه. ولما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمنت من ثلاثة: الخسف والمسح والغرق وفضلها عظيم وبركتها كثيرة يطول شرحها، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يؤتى برجل يوم القيامة فيحاسب فلا يلقى له حسنة فيؤمر به إلى النار فيقول: إلهي ما أنصفتني فيقول الله عز وجل: ولم ذلك? فيقول: يا رب لأنك سميت نفسك الرحمن الرحيم وتريد أن تعذبني بالنار فقال الله جل جلاله: أنا سميت نفسي الرحمن الرحيم أمضوا بعبدي إلى الجنة برحمتي وأنا أرحم الراحمين.
قال: أحسنت فاخبريني عن أول بدء بسم الله الرحمن الرحيم قالت: لما أنزل الله تعالى القرآن كتبوا باسمك اللهم فلما أنزل الله تعالى قل ادعوا الله وادعوا الرحمن أيا ما ندعوا فله الأسماء الحسنى كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فلما أنزل وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم.
فلما سمع المقرئ كلامها أطرق رأسه وقال في نفسه: إن هذا لعجب عجيب وكيف تكلمت هذه الجارية في بدء بسم الله الرحمن الرحيم، والله لا بد من أن أتحيل عليها لعلي أغلبها، ثم قال لها: يا جارية هل أنزل الله القرآن جملة واحدة أو أنزله متفرقاً? قالت: نزل به جبريل الأمين عليه السلام من عند رب العالمين على نبيه محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين بالأمر والنهي والوعد والوعيد والأخبار والأمثال في عشرين سنة آيات متفرقات على حسب الوقائع. قال: أحسنت فأخبريني عن أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: في قول ابن عباس سورة العلق وفي قول ابن جابر بن عبد الله سورة المدثر ثم أنزلت السور والآيات بعد ذلك قال: فأخبريني عن آخر آية نزلت عليه قالت: هي آية الربا وقيل: إذا جاء نصر الله والفتح. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لم أجابت المقرئ عن آخر آية نزلت في القرآن قال لها: أحسنت فأخبريني عن عدد الصحابة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: هم أربعة: أبي كعب وزير بن ثابت وأبو عبيدة عامر بن الجراح وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين، قال: أحسنت فأخبريني عن القراء الذين تؤخذ عنهم القراءات قالت: هم أربعة: عبد الله بن مسعود وأبي كعب ومعاذ بن جبل وسالم بن عبد الله، قال: فما تقولين في قوله تعالى: )وما ذبح على النصب(، قالت: هي الأصنام التي تنصب وتعبد من دون الله والعياذ بالله تعالى.
قال: فما تقولين في قوله تعالى: )تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك(، قالت: تعلم حقيقتي وما عندي ولا أعلم ما عندك والدليل على هذا قوله تعالى: )إنك أنت علام الغيوب(، وقيل تعلم عيني ولا أعلم عينك، قال: فما تقولين في قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم(، قالت: حدثني الشيخ رحمه الله تعالى عن الضحاك أنه قال: هم قوم من المسلمين قالوا: أنقطع مذاكيرنا ونلبس المسوح فنزلت هذه الآية وقال قتادة: أنها نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: علي بن أبي طالب وعثمان بن مصعب وغيرهما وقالوا: نخصي أنفسنا ونلبس الشعر ونترهب فنزلت هذه الآية قال: فما تقولين في قوله تعالى: )واتخذ الله إبراهيم خليلاً(، قالت: الخليل المحتاج الفقير وفي قول آخر هو المحب المنقطع إلى الله تعالى الذي ليس لانقطاعه اختلال، فلما رآها المقرئ تمر في كلامها مر السحاب ولم تتوقف في الجواب قام على قدميه وقال: أشهد الله يا أمير المؤمنين أن هذه الجارية أعلم مني في القراءات وغيرها.
فعند ذلك قالت الجارية: أنا أسألك مسألة واحدة فإن أتيت بجوابها فذاك وإلا نزعت ثيابك، قال أمير المؤمنين: سليه فقالت: ما تقول في آية فيها ثلاثة وعشرون كافاً وآية فيها ستة عشر ميماً وآية فيها مائة وأربعون عيناً وحزب ليس فيه جلالة? فعجز المقرئ عن الجواب فقالت: انزع ثيابك فنزع ثيابه ثم قالت: يا أمير المؤمنين إن الآية التي فيها ستة عشر ميماً في سورة هود وهي قوله تعالى: )قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات الله عليك(، وإن الآية التي فيها ثلاثة وعشرون كافاً في سورة البقرة وهي آية الدين، وإن الآية التي فيها مائة وأربعون عيناً في سورة الأعراف وهي قوله تعالى: )واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنتا لكل رجل عينان(، وإن الحزب الذي فيه جلاله هو سورة اقتربت الساعة وانشق القمر والرحمن والواقعة، فعند ذلك نزع المقرئ ثيابه التي عليه وانصرف خجلاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما غلبت المقرئ ونزع ثيابه وانصرف خجلاً تقدم إليها الطبيب الماهر وقال: فرغنا من علم الأديان فتيقظي لعلم الأبدان وأخبريني عن الإنسان وكيف خلقه وكم في جسده من عرق وكم من عظم وكم من فقارة وأين أول العروق ولمي سمي آدم آدم? قالت: سمي آدم لآدمته أي سمرة لونه وقيل: لأنه خلق من أديم الأرض أي ظاهر وجهها صدره من تربة الكعبة ورأسه من تربة المشرق ورجلاه من تربة المغرب وخلق الله له سبعة أبواب في رأسه وهي: العينان والأذنان والمنخران والفم وجعل له منفذين قبله ودبره فجعل العينين حاسة النظر والأذنين حاسة السمع والمنخرين حاسة الشم والفم حاسة الذوق وجعل اللسان ينطق بما ف ضمير الإنسان وخلق آدم مكباً من أربعة عناصر وهي: الماء والتراب والنار والهواء فكانت الصفراء طبع النار وهي حارة يابسة والسوداء طبع التراب وهو بارد يابس، والبلغم طبع الماء وهو بارد رطب والدم طبع الهواء وهو حار رطب، وخلق في الإنسان ثلثمائة وستين عرقاً ومائتين وأربعون عظماً وثلاثة أرواح حيواني ونفساني وطبيعي وجعل لكل منها حكماً وخلق له قلباً وطحالاً ورئتان وستة أمعاء وكبداً وكليتين واليتين ومخاً وعظماً وجلداً وخمس حواس سامعة وباصرة وشامة وفائقة ولامسة وجعل القلب في الجانب الأيسر من الصدر وجعل المعدة أمام الرئة مروحة للقلب وجعل الكبد في الجانب الأيمن محاذية للقلب وخلق ما دون ذلك من الحجاب والمعاء وركب ترائب الصدر وشبكها بالأضلاع، قال: أحسنت فأخبريني كم في رأس ابن آدم من بطن? قالت: ثلاثة بطون وهي تشتمل على خمس قوى تسمى الحواس الباطنية وهي الحس المشترك والخيال والمتصرفة والواهمة والحافظة، قال: أحسنت فأخبريني عن هيكل العظام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما قال لها الطبيب: أخبريني عن هيكل العظام قالت: هو مؤلف من مائتين وأربعون عظمة وينقسم إلى ثلاثة أقسام: رأس وجذع وأطراف، أما الرأس فتنقسم إلى جمجمة ووجه، فالجمجمة مركبة من ثمانية عظام ويضاف إليها عظيمات السمع الأربع والوجه ينقسم إلى فك علوي وفك سفلي، فالعلوي يشتمل على أحد عشر عظماً والسفلي عظم واحد ويضاف إليه الأسنان وهي اثنتان وثلاثون سناً وكذلك العظم اللامي. وأما الجذع فينقسم إلى سلسلة فقارية وصدر وحوض فالسلسلة مركبة من أربعة وعشرون عظماً تسمى الفقار والصدر مركب من القفص والأضلاع التي هي أربع وعشرون ضلعاً في كل جانب اثنتا عشرة والحوض مركب من العظمين الحرقفيين والعجز والعصعص.
وأما الأطراف فتنقسم إلى طرفين علويين وطرفين سفليين، فالعلويان ينقسم كل منهما أولاً منكب مركب من الكتف والترقوة وثانياً إلى عضد وهو عظم واحد وثالثاً إلى ساعد مركب من عظمين هما: الكعبرة والزند ورابعاً إلى كتف ينقسم إلى رسخ ومشط وأصابع فالرسخ مركب من ثمانية عظام مصفوفة صفين كل منهما يشتمل على أربعة عظام والمشط يشتمل على خمسة عظام والأصابع عدتها خمس كل منها مركب من ثلاثة عظام تسمى السلاميات إلا الإبهام فإنها مركبة من اثنين فقط، والطرفان السفليان تنقسم كل منهما أولاً إلى فخذ هو عظم واحد وثانياً إلى ساق مركب من ثلاثة عظام: القصبة والشظية والرضفة وثالثاُ إلى قدم ينقسم كالكف إلى رسغ ومشط وأصابع. فالرسغ مركب من سبعة عظام مصفوفة صفين الأول فيه عظمان والثاني فيه خمسة والمشط مركب من خمسة عظام والأصابع وعدتها خمس كل منها مركبة من ثلاث سلاميات إلا الإبهام فمن سلاميين فقط. قال: أحسنت فأخبريني عن أصل العروق. قالت: أصل العروق الوتين ومنه تتشعب العروق وهي كثيرة لا يعلم عددها إلا الذي خلقها وقيل إنها ثلثمائة وستون عرقاً كما سبق وقد جعل الله اللسان ترجماناً والعينين سراجاً والمنخرين منشقين واليدين جناحين ثم إن الكبد فيه الرحمة والطحال فيه الضحك والكليتين فيهما المكر والخديعة والمعدة خزانة والقلب عماد الجسد فإذا أصلح القلب صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله، قال: أخبريني عن الدلالات والعلامات الظاهرة التي يستدل بها على المرض في الأعضاء الظاهرة والباطنة، قالت: نعم، إذا كان الطبيب ذا فهم نظر في أحوال البدن واستدل واستدل بجس اليدين على الصلابة والحرارة واليبوسة والبرودة والرطوبة وقد توجد في المحسوس دلالات على الأمراض الباطنة كصفرة العينين فإنها تدل على البرقان وتحقق الظهر فإنه يدل الرئة، قال: أحسنت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما وصفت للطبيب العلامات الظاهرة قال لها: أحسنت فما العلامات الباطنة? قالت: إن الوقوف على الأمراض بالعلامات الباطنة يؤخذ من ستة قوانين الأول من الأفعال والثاني مما يستغفر من البدن والثالث من الوجع والرابع من الموضع والخامس من الورم والسادس من الأعراض. قال: أخبريني بم يصل الأذى من الرأس? قالت: بإدخال الطعام على العام قبل هضم الأول والشبع على الشبع فهو الذي أفنى الأمم فمن أراد البقاء فليباكر بالغداء ولا يتمس العشاء وليقلل من مجامعة النساء وليخفف الرداء وأن لا يكثر الفصد ولا الحجامة وأن يجعل بطنه ثلاث أثلاث ثلث للطعام وثلث للماء وثلث للتنفس لأن مصران بني آدم ثمانية عشر شبراً يجب أن يجعل ستة للطعام وستة للشراب وستة للتنفس وإذا مشى برفق كان أوفق له وأجمل لبدنه وأكمل لقول تعالى: )ولا تمش على الأرض مرحاً(.
قال: أحسنت فأخبريني ما علامة الصفراء وماذا يخاف منها? قالت: تعرف بصفرة اللون ومرارة الفم والجفاف وضعف الشهوة وسرعة النبض ويخاف صاحبها من الحمى المحرقة والبرصام والحمرة واليرقان والورم وقروح الأمعاء وكثرة العطش فهذه علامات الصفراء. قال: أحسنت فأخبريني عن علامات السوداء وماذا يخاف على صاحبها إذا غلبت على البدن? قالت: إنها تتولد من الشهوة الكاذبة وكثرة الوسوسة والهم والغم فينبغي حينئذٍ أن تستفرغ وإلا تولد منها الماليخوليا والجذام والسرطان وأوجاع الطحال وقروح الأمعاء. قال: أحسنت فأخبريني إلى كم جزء ينقسم الطب? قالت: ينقسم إلى جزءين: أحدهما علم تدبير الأبدان المريضة والأخر كيفية ردها إلى حال صحتها. قال: فأخبريني أي وقت يمون شرب الأدوية أنفع فيه منه في غيره? قالت: إذا جرى الماء في العود وانعقد الحب في العنقود وطلع السعد سعود فقد دخل وقت نفع شرب الدواء وطرد الداء فقال: أخبريني عن وقت إذا شرب فيه الإنسان من إناء جديد يكون شرابه أهنأ وأمرأ منه في غيره وتصعد له رائحة طيبة ذكية، قالت: إذا صبر بعد أكل الطعام ساعة. قال: فأخبريني عن طعام لا تتسبب عنه أسقام، قالت: هو الذي لا يطعم إلا بعد الجوع وإذا طعم لا تمتلئ منه الضلوع لقول جالينوس الحكيم: من أراد إدخال الطعام فليبطئ ثم لا يخطئ ولنختم بقوله عليه الصلاة والسلام: المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأصل كل داء البردة يعني التخمة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما قالت للطبيب: المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء الحديث قال لها: فما تقولين في الحمام? قالت: لا يدخله شبعان وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم البيت الحمام ينظف الجسد ويذكر النار، قال: فأي الحمامات أحسن? قالت: ما عذب ماؤه واتسع فضاؤه وطاب هواؤه بحيث تكون أهويته أربعة خريفي وصيفي وشتوي وربيعي: قال: فأخبريني أي الطعام أفضل? قالت: ما صنعت النساء وقل فيه العناء وأكلته بالهناء، وأفضل الطعام الثريد لقوله عليه الصلاة والسلام: فضل الثريد على الطعام كفضل عائشة على سائر النساء قال: فأي الأدم أفضل? قالت: اللحم لقوله عليه الصلاة والسلام: أفضل الأدم اللحم لأنه لذة للدنيا والآخرة، قال فأخبريني فأي اللحم أفضل? قالت: الضان ويجتنب القديد لأنه لا فائدة فيه، قال: أخبريني عن الفاكهة، قالت: كلها في إقبالها واتركها إذا انقضى زمانها، قال: فما تقولين في شرب الماء? قالت: لا تشربه شرباً ولا تعبه عباً فإنه يؤذيك صداعه ويشوش عليك من الأذى أنواعه ولا تشربه عقب خروجك من الحمام ولا عقب الجماع ولا عقب الطعام إلا بعد مضي خمس عشر درجة للشاب وللشيخ بعد أربعين درجة، ولا عقب يقظتك من المنام قال: أحسنت فاخبريني عن شرب الخمر قالت: أفلا يكفيك زاجراً ما جاء في كتاب الله تعالى حيث قال: )إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون(. وقال تعالى: )يسألونك عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون(. وقال تعالى: )يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما(. وأما المنافع التي فيها فإنها تفتت حصى الكلى وتقوي الأمعاء وتنفي الهم وتحرك الكرم وتحفظ الصحة وتعين على الهضم وتصح البدن وتخرج الأمراض من المفاصل وتنقي الجسم من الأخلاط الفاسدة وتولد الطرب والفرح وتقوي الغريزة وتشد المثانة وتقوي الكبد وتفتح السدد وتحمر الوجه وتنقي الفضلات عن الرأس والدماغ وتبطئ بالمشيب ولولا الله عز وجل حرمها لم يكن على وجه الأرض ما يقوم مقامها. وأما الميسر فهو القمار قال: فأي شيء في الخمر أحسن? قالت: ما كان بعد ثمانين يوماً أو أكثر وقد اعتصر من عنب أبيض ولم يشبه ماء ولا شيء على وجه الأرض مثلها، قال: فما تقولين في الحجامة? قالت: ذلك لمن كان ممتلئاً من الدم وليس فيه نقصان في دمه فمن أراد الحجامة فليحتجم في نقص الهلال في يوم بلا غيم ولا ريح ولا مطر ويكون في السابع عشر من الشهر وإن وافق يوم الثلاثاء كان أبلغ في النفع ولا شيء أنفع من الحجامة للدماغ وتصفية الذهن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما وصفت منافع الحجامة قال لها الحكيم: أخبريني عن أحسن الحجامة، قالت: أحسنها على الريق فإنها تزيد في العقل وفي الحفظ لما روي عنه عليه الصلاة والسلام: أنه كان ما اشتكى إليه أحد وجعاً في رأسه أو رجليه إلا قال له احتجم وإذا احتجم لا يأكل على الريق مالحاً فإنه يورث الجرب ولا يأكل على أثره حامضاً، قال: فأي وقت تكره فيه الحجامة? قالت: يوم السبت والأربعاء ومن احتجم فيها فلا يلومن إلا نفسه ولا يحتجم في شدة الحر ولا في شدة البرد وخيار أيامه أيام الربيع، قال: أخبريني عن المجامعة، فلما سمعت ذلك أطرقت وطأطأت رأسها واستحيت من إجلالاً لأمير المؤمنين ثم قالت: والله يا أمير المؤمنين ما عجزت بل خجلت وإن جوابه على طرف لساني. قال لها: يا جارية تكلمي، قالت له: إن النكاح فيه فضائل مريدة وأمور حميدة منها أنه يخفف البدن الممتلئ بالسوداء ويسكن حرارة العشق ويجلب المحبة ويبسط القلب ويقطع الوحشة والإكثار منه في أيام الصيف والخريف أشد ضرراً في أيام الشتاء والربيع قال: فأخبريني عن منافعه قالت: إنه يزيل الهم والوسواس ويسكن العشق والغضب وينفع القروح هذا إذا كان الغالب على الطبع والبرودة واليبوسة وإلا فالإكثار منه يضعف النظر ويتولد منه وجع الساقين والرأس والظهر وإياك من مجامعة العجوز فإنها من القواتل. قال الإمام علي كرم الله وجهه: أربع يقتلن ويهرمن البدن: دخول الحمام على الشبع، وأكل المالح والمجامعة على الامتلاء ومجامعة المريضة، فإنها تضعف قوتك وتسقم بدنك والعجوز سم قاتل، قال: فما أطيب الجماع? قالت: إذا كانت المرأة صغيرة السن مليحة القد حسنة الخد كريمة الجد بارزة النهد فهي تزيد قوة في صحة بدنك.
قال: فأخبريني عن أي وقت يطيب فيه الجماع? قالت: إذا كان ليلاً فبعد هضم الطعام وإذا كان نهاراً فبعد الغداء، قال: فأخبريني عن أفضل الفواكه? قالت: الرمان والأترج، قال: فأخبريني عن أفضل البقول قالت: الهندباء وقال: فما أفضل الرياحين? قالت: البنفسج والورد، قال: فأخبريني عن قرار مني الرجل? قالت: إن في الرجل عرقاً يسقي سائر العروق فيجتمع الماء من ثلثمائة وستين عرقاً ثم يدخل في البيضة اليسرى دماً أحمر فينبطح من حرارة مراج بني آدم ماءً غليظاً أبيض رائحته مثل رائحة الطلع، قال: أحسنت فأخبريني عن طير يمني ويحيض قالت: هو الخفاش أي الوطواط، قال: فأخبريني عن شيء إذا حبس عاش وإذا شم الهواء مات، قالت: هو السمك قال: فأخبريني عن شجاع يبيض? قالت: الثعبان فعجز الطبيب من كثرة أسئلته وسكت، فقالت الجارية: يا أمير المؤمنين إنه سألني حتى عيي وأنا أسأله مسألة واحدة فإن لم يجب أخذت ثيابه حلالاً لي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن لما قالت لأمير المؤمنين إنه سألني حتى عيي وأنا أسأله مسألة واحدة فإن لم يجب أخذت ثيابه حلالاً لي، قال لها الخليفة: سليه، قالت: ما تقول في شيء يشبه الأرض استدارة ويوارى عن العيون فقاره قليل القيمة والقدر ضيق الصدر والنحر مقيد وهو غير آبق موثق وهو غير سارق مطعون لا في القتال مجرو ولا في النضال يأكل الدهر مرة ويشرب الماء من كثرة وتاره يضرب من غير جناية ويستخدم لا من كفاية مجموع بعد تفرقه متواضع لا من تملقه حامل لا لولد في بطنه مائل، لا يسند ركنه فيتطهر ويصلي فيتغير يجامع بلا ذكر ويصارع بلا حذر يريح ويستريح ويعد فلا يصيح أكرم من النديم وأبعد من الحميم، يفارق زوجته ليلاً ويعانقها نهاراً مسكنه الأطراف في مساكن الأشراف.
فسكت الطبيب ولم يجب بشيء وتحير في أمره وتغير لونه واطرق برأسه ساعة ولم يتكلم فقالت: أيها الطبيب تكلم وإلا فانزع ثيابك فقام وقال: يا أمير المؤمنين أشهد على أن هذه الجارية أعلم مني بالطب وغيره ولا لي طاقة ونزع ما عليه من ثياب وخرج هارباً فعند ذلك قال هلا أمير المؤمنين: فسري لنا ما قلتيه فقالت: يا أمير المؤمنين هذا الزرار والعروة.
وأما ما كان من أمرها مع المنجم فإنها قالت: من كان منكم منجماً فليقم فنهض إليها وجلس بين يديها فلما رأته ضحكت وقالت: أنت المنجم الحاسب الكاتب? قال: نعم قالت: اسأل عما شئت وبالله التوفيق قال: أخبريني عن الشمس وطلوها وأفولها? قالت: اعلم أن الشمس تطلع من عيون وتأفل في عيون فعيون الطلوع أجزاء المتسارق وعيون الأفول أجزاء المغارب وكلتاهما مائة وثمانون جزءاً. قال الله تعالى: )فلا أقسم برب المشارق والمغارب( وقال تعالى: )هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب(، فالقمر سلطان الليل والشمس سلطان النهار وهما مستبقان متداركان. قال الله تعالى: )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون(. قال: فأخبريني إذا جاء الليل كيف يكون النهار وإذا جاء النهار كيف يكون الليل? قالت: )يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل(، قال: أخبريني عن منازل القمر، قالت: منازل القمر ثمان وعشرون منزلة وهي: السرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسمك والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود، وسعد الأخيبة والفرع المقدم والفرع المؤخر والرشاء وهي مرتبة على حروف أبجد هوز إلى آخرها وفيها سر غامض لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم، وأما قسمتها على البروج الاثني عشر فهي أن تعطي كل برج منزليتن وثلث منزلة فتجعل الشرطين والبطين وثلث الثريا للحمل وثلثي الثريا مع الديران وثلثي اللعة للثور وثلث الهقعة مع الهنعة والذراع للجوزاء والنترة والطرف وثلث الجبهة للسرطان وثلثيهما مع الزبرة وثلثي الصفة للأسد وثلثها مع العواء والسماك للسنبلة والغفر والزباني وثلث الإكليل للميزان وثلثي الإكليل مع القلب وثلثي الشولة للعقرب وثلثها مع النعايم والبلدة للقوس وسعد الذبائح وسعد بلع وثلث المقدم للجدي وثلثي المقدم مع المؤخر وثلثي الرشا للحوت وثلث الرشا وسعد السعود وسعد الأخبية للدلو. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما عدت المنازل وقسمتها على البروج قال لها المنجم: أحسنت فاخبريني عن الكواكب السيارة وعن طبائعها وعن مكثها في البروج والسعد منها والنحس وأين بيوتها وشرفها وسقوطها? قالت: المجلس ضيق ولكن سأخبرك. أما الكواكب فسبعة وهي: الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، فالشمس حارة يابسة نحيسة بالمقارنة سعيدة بالنظرة تمكث غي كل برج ثلاثين يوماً والقمر بارد رطب سعيد يمكث في كل برج يومين وثلث يوم وعطارد ممتزج سعد مع السعود نحس مع النحوس يمكث في كل برج سبعة عشر يوماً ونصف اليوم، والزهرة معتدلة سعيدة تمكث في كل برج من البروج خمسة وعشرين يوماً والمريخ نحس يمكث في كل برج عشرة أشهر والمشتري سعد يمكث في كل برج سنة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح

وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المشتري سعد يمكث في كل برج سنة وزحل بارد يابس نحس يمكث في كل برج ثلاثين شهراً والشمس بيتها الأسد وشرفها الحمل وهبوطها الدلو والقمر بيته السرطان وشرفه الثور وهبوطه الحمل ووباله السرطان والأسد، والمشتري بيته الحوت والقوس وهبوطه العقرب ووباله الجدي، وزحل بيته الجدي والدلو وشرفه الميزان والسرطان وهبوطه الجدي ووباله الجوزاء والأسد، والزهرة بيتها الثور وشرفها الحوت وهبوطها الميزان ووبالها الحمل والعقرب، وعطارد بيته الجوزاء والسنبلة وهبوطه الحوت ووباله الثور، والمريخ بيته الحمل والعقرب وشرفه الجدي وهبوطه السرطان ووباله الميزان.
فلما نظر المنجم إلى حذقها وعلمها وحسن كلامها وفهمها ابتغى له حيلة يخجلها بها بين يدي أمير المؤمنين فقال لها: يا جارية هل ينزل في هذا الشهر مطراً? فأطرقت ساعة ثم تفكرت طويلاً حتى ظن أمير المؤمنين أنها عجزت عن جوابها فقال لها المنجم: لم لا تتكلمين? فقالت: لا أتكلم إلا إن أذن لي بالكلام أمير المؤمنين فقال لها أمير المؤمنين: وكيف ذلك? قالت: أريد أن تعطيني سيفاً أضرب به عنقه لأنه زنديق، فضحك أمير المؤمنين وضحك من حوله، ثم قالت: يا منجم خمسة لا يعلمها إلا الله تعالى وقرأت: )إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير(، قال لها: أحسنت إني والله ما أردت إلا اختبارك، فقالت: اعلم أن أصحاب التقويم لهم إشارات وعلامات ترجع إلى الكواكب بالنظر إلى دخول السنة وللناس فيها تجارب قال: وما هي? قالت: إن لكل يوم من الأيام كوكباً يملكه، فإذا كان أول يوم من السنة يوم الأحد فهو الشمس ويدل ذلك والله أعلم على الجور من الملوك والسلاطين والولاة وكثرة الوخم وقلة المطر وأن تكون الناس في هرج عظيم، وتكون الحبوب طيبة إلا العدس، فإنه يعطب ويفسد العنب ويغلو الكتان ويرخص القمح من أول طوبة إلى آخر برمهات ويكثر القتال بين الملوك ويكثر الخير في تلم السنة والله أعلم.
قال: فأخبريني عن يوم الاثنين قالت: هو القمر ويدل ذلك على صلاح ولاة الأمور والعمال وأن تكون السنة كثيرة الأمطار. وتكون الحبوب طيبة ويفسد بزر الكتان ويرخص القمح، ويكثر العنب ويقل العسل ويرخص القطن والله أعلم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخمسين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما فرغت من بيان يوم الاثنين قال لها: أخبريني عن يوم الثلاثاء قالت: هو المريخ ويدل ذلك على موت كبار الناس وكثرة الفناء وإراقة الدماء والغلاء في الحب وقلة الأمطار وأن يكون السمك قليلا ويزيد في أيام وينقص في أيام، ويرخص العسل والعدس ويغلو بذر الكتان، في تلك السنة وفيها يفلح الشعير دون سائر الحبوب، ويكثر القتال بين الملوك ويكثر الموت بالدم ويكثر موت الحمير والله أعلم.
قال: فأخبريني عن يوم الأربعاء، قالت هو عطارد ويدل ذلك على هرج عظيم يقع في الناس وعلى كثرة العدو وأن تكون الأمطار معتدلة وأن يفسد بعض الزرع وأن يكثر موت الدواب وموت الأطفال ويكثر القتل في البحر من برموده إلى مسرى وترخص بقية الحبوب، ويكثر الرعد والبرق ويغلو العسل ويكثر طلع النخل، ويكثر الكتان والقطن، ويغلو الفجل والبصل والله أعلم.
قال: أخبريني عن يوم الخميس قالت: هو للمشتري ويدل ذلك على العدل في الوزراء والصلاح في القضاء والفقراء وأهل الدين، وأن يكون الخير كثيراً وتكثر الأمطار والثمار والأشجار والحبوب ويرخص الكتان والقطن والعسل والعنب ويكثر السمك والله أعلم.
قال: أخبريني عن يوم الجمعة، قالت: هو للزهرة ويدل ذلك على الجور في كبار الجن والتحدث بالزور والبهتان وأن يكثر الندى ويطيب الخريف في البلاد ويكون الرخص في بلاد دون بلاد ويكثر الفساد في البر والبحر ويغلو بذر الكتان ويغلو القمح في هاتور ويرخص في وامشير ويغلو العسل ويفسد العنب والبطيخ والله أعلم.
قال: فأخبريني عن يوم السبت، قالت: هو لزحل ويدل ذلك على إيثار العبيد والروم ومن لا خير فيه ولا في قربه وأن يكون الغلاء والقحط كثيراً ويكون الغنم كثيراً ويكثر الموت في بني آدم والويل لأهل مصر والشام من جور السلطان وتقل البركة من الزرع وتفسد الحبوب والله أعلم.
ثم إن المنجم أطرق برأسه وطأطأ رأسه فقالت: يا منجم أسألك مسألة واحدة فإن لم تجب أخذت ثيابك قال لها: قولي: أين يكون سكن زحل? قال: في السماء السابعة قالت: فالشمس? قال: في السماء الرابعة قالت: فالزهرة? قال: في السماء الثالثة قالت: فعطارد? قال: في السماء الثانية قالت: فالقمر? قال: في السماء الأولى، قالت: أحسنت وبقي عليك مسألة واحدة قال: اسألي، قالت: فأخبرني عن النجوم إلى كم جزء تنقسم? فسكت ولم يجب قالت: انزع ثيابك فنزعها ولما أخذتها قال لها أمير المؤمنين: فسري لنا هذه المسألة فقالت: يا أمير المؤمنين هم ثلاثة أجزاء جزء معلق بسماء الدنيا كالقناديل وهو ينير الأرض وجزء ترمي به الشياطين إذا استرقوا السمع. قال الله تعالى: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجاماً للشياطين. والجزء الثالث معلق بالهواء وهو ينير البحار وما فيها. قال المنجم: بقي لنا مسألة واحدة فإن أجابت أقررت لها قالت: قل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه قال: أخبريني عن أربعة أشياء متضادة مترتبة على أربعة أشياء متضادة، قالت: هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة خلق الله من الحرارة النار وطبعها حار يابس، وخلق من اليبوسة التراب وطعمه بارد يابس وخلق من البرودة الماء وطبعه بارد رطب، وخلق من الرطوبة الهواء وطبعه حار رطب، ثم خلق اثني عشر برجاً وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وجعلها على أربع طبائع ثلاثة نارية وثلاثة ترابية وثلاثة هوائية مائية، فالحمل والأسد والقوس نارية، والثور والسنبلة والجدي ترابية، والجوزاء والميزان والدلو هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مائية. فقام المنجم وقال: اشهدوا على أنها أعلم مني وانصرف مغلوباً.
ثم قالت: يا أمير المؤمنين أين الفيلسوف? فنهض إليها رجل وتقدم وقال: أخبريني عن الدهر وحده وأيامه وما جاء فيه? قالت: إن الدهر هو اسم واقع على ساعات الليل والنهار وان هي مقادير جري الشمس والقمر في أفلاكهما كما أخبر الله تعالى حيث قال: )وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم(. قال: أخبريني عن ابن آدم كيف يصل إليه الكفر? قالت: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الكفر في ابن آدم يجري كما يجري الدم في عروقه حيث يسب الدنيا والدهر والليلة والساعة، وقال عليه الصلاة والسلام: لا يسب أحدكم الدهر والليلة والساعة، وقال عليه الصلاة والسلام: لا يسب أحدكم الدهر فإن الدهر هو الله ولا يسب أحدكم الدنيا فتقول: لا أعان الله من يسبني ولا يسب أحدكم هذه الساعة فإن الساعة آتية لا ريب فيها ولا يسب أحدكم الأرض فإنها آية لقوله تعالى: )منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى(.
قال: فأخبريني عن خمسة أكلوا وشربوا وما خرجوا من ظهر ولا بطن، قالت: هو آدم وشمعون وناقة صالح وكبش إسماعيل والطير الذي رآه أبا بكر الصديق في الغار. قال: فأخبريني عن خمسة في الجنة لا من الإنس ولا من الجن ولا من الملائكة، قالت: ذئب يعقوب وكلب أصحاب الكهف وحمار العزيز وناقة صالح ودلال بغلة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فأخبريني عن رجل صلى صلاة لا في الأرض ولا في السماء قالت: هو سليمان حين صلى على بساطه وهو على الريح، قال: أخبريني عمن صلى صلاة الصبح فنظر إلى أمة فحرمت عليه فلما كان الظهر حلت له فلما كان العصر حرمت عليه فلما كان المغرب حلت له فلما كان العشاء حرمت عليه فلما كان الصبح حلت له، قالت: هذا رجل نظر إلى أمة غيره عند الصبح وهي حرام عليه فلما كان الظهر اشتراها فحلت له فلما كان العصر أعتقها فحرمت عليه فلما كان المغرب تزوجها فحلت له فلما كان العشاء طلقها فحرمت عليه فلما كان الصبح راجعها فحلت له.
قال: أخبريني عن قبر مشى بصاحبه? قالت: هو حوت يونس بن متى حين ابتلعه، قال: أخبريني عن بقعة واحدة طلعت عليها الشمس مرة واحدة ولا تطلع عليها بعد إلى يوم القيامة قالت: البحر حين ضربه موسى بعصاه فانفلق اثني عشر فرقاً على عدد الأسباط وطلعت عليه الشمس ولم تعد له إلى يوم القيامة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والخمسين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفيلسوف قال بعد ذلك للجارية أخبريني عن أول ذيل سحب على وجه الأرض، قالت: ذيل هاجر حياء من سارة فصارت سنة في العرب، قال: أخبريني عن شيء يتنفس بلا روح قالت قوله تعالى: )والصبح إذا تنفس(، قال: أخبريني عن حمام طائر اقبل على شجرة عالية فوق بعضه فوقها وبعضها تحتها فقالت: الفرقة التي فوق الشجرة إلى التي تحتها إن طلعت واحدة منكن صرتن الثلث وإن نزلت منا واحدة كنا مثلكن في العدد، قالت الجارية: كان الحمام اثنتي عشرة حمامة فوق منهن فوق الشجرة سبع وتحتها خمس فإذا طلعت واحدة صار الذي فوق قدر الذي تحت مرتين ولو نزلت واحدة صار الذي تحت مساو بالذي فوق والله أعلم، فتجرد الفيلسوف من ثيابه وخرج هارباً.
وأما حكايتها مع النظام فإن الجارية التفتت إلى العلماء الحاضرين وقالت: أيكم المتكلم في كل فن وعلم? فقام إليها النظام وقال لها: لا تحسبيني كغيري فقالت له: الأصح عندي أنك مغلوب لأنك مدع والله ينصرني عليك حتى أجردك من ثيابك فلو أرسلت من يأتيك بشيء تلبسه لكان خيراً لك فقال: والله لأغلبنك وأجعلنك حديثاً يتحدث به الناس جيلاً بعد جيل، فقالت له الجارية: كفر عن يمينك، قال: أخبريني عن خمسة أشياء خلقها الله قبل خلق الخلق، قالت له: الماء والتراب والنوم والظلمة والثمار، قال: أخبريني عن شيء خلقه الله بيد القدرة، قالت: العرش وشجرة طوبى وآدم وجنة عدن فهؤلاء خلقهم الله بيد القدرة وسائر المخلوقات قال لهم: كونوا فكانوا. قال: أخبريني عن أبيك في الإسلام قالت: محمد صلى الله عليه وسلم قال: فمن أبو محمد? قالت: إبراهيم خليل الله قال: فأخبريني ما أولك وما آخرك? قالت: أولي نطفة مذرة وآخري إلى التراب. وقد قال الشاعر:
خلقت من التراب فصرت شخصا                    فصيحا في السؤال وفي الجواب
وعدت إلى التراب فصرت فـيه            كأني ما برحت مـن الـتـراب

قال: فأخبريني عن شيء أوله عود وآخره روح، قالت: عصا موسى حين ألقاها في الوادي فإذا هي حية تسعى بإذن الله تعالى، قال: فأخبريني عن قوله تعالى: ولي فيها مآرب أخرى قالت: كان يغرسها في الأرض فتزهو وتثمر وتظله من الحر والبرد، وتحمله إذا عيى، وتحرس له الغنم إذا نام من السباع، قال: أخبريني عن أنثى من ذكر وذكر من أنثى، قالت: حواء من آدم وعيسى من مريم، قال: فأخبريني عن أربع نيران نار تأكل ونار تشرب ولا تشرب ونار تشرب ولا تأكل ونار تأكل ولا تشرب قالت: أما النار التي تأكل ولا تشرب فهي نار الدنيا وأما النار التي تأكل وتشرب فهي نار جهنم وأما النار التي تشرب ولا تأكل فهي نار الشمس وأما النار التي لا تأكل ولا تشرب فهي نار القمر قال: أخبريني كم كلمة كلم الله موسى? قالت: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلم الله موسى ألف كلمة وخمسمائة عشرة كلمة، قال أخبريني عن أربعة عشر كلمة رب العالمين، قالت: السموات السبع والأرضون السبع لما قالتا: أتينا طائعين. فلما قالت له الجواب قال لها: أخبريني عن آدم وأول خلقته، قالت: خلق الله آدم من طين والطين من زبد والزبد من بحر والبحر من ظلمة والظلمة من ثور والثور من حوت والحوت من صخرة والصخرة من ياقوتة والياقوتة من ماء والماء من القدرة لقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
وآكلة بغـير فـم وبـطـن           لها الأشجار والحيوانات قوت
فإن أطعمتها انتعشت وعاشت             ولو أسقيتها مـاء تـمـوت
قالت: هي النار، قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
خليلان ممنوعان من كل لـذة              يبيتان طول الليل يعتـنـقـان
هما يحفظان الأهل من كل آفة             وعند طلوع الشمس يفترقـان
قالت: هما مصراعا الباب قال: فأخبريني عن أبواب جهنم قالت: سبعة وهي ضمن بيتين من الشعر:
جهنم ولظى ثم الحـطـيم كـذا               عد السعير وكل القول في سقر
وبعد ذلك جـحـيم ثـم هـاوية               فذاك عدتهم في قول مختصـر
قال: فأخبريني عن قول الشاعر:
وذات ذوائب تـنـجـر طـولا                 وراها في المجيء وفي الذهاب
بعين لم تذق للنـوم طـعـمـا                 ولا ذرفت لدمع ذي انسـكـاب
ولا لبست مدى الأيام طـعـمـا              وتسكوا الناع أنـواع الـثـياب

قالت: هي الإبرة قال: فأخبريني عن الصراط وما هو وما طوله وما عرضه? قالت: أما طوله فثلاثة آلاف عام ألف هبوطه وألف صعوده والف استواء وهو أحد من السيف وأرق من الشعرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما وصفت له الصراط قال: أخبريني كم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من شفاعة? قالت له: ثلاث شفاعات قال لها: هل كان أبو بكر أول من أسلم? قالت نعم. قال: إن علي أسلم قبل ابابكر قالت: إن علي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين فأعطاه الله الهداية على صغر سنه فما سجد لصنم قط قال: فأخبريني أعلي أفضل أم العباس? فعلمت أن هذه مكيدة لها فإن قالت: علي أفضل من العباس فما لها من عذر عند أمير المؤمنين فأطرقت ساعة وهي تارة تحمر وتارة تصفر ثم قالت: تسألني عن اسمين فاضلين لكل منهما فضل فارجع بنا إلى ما كنا فيه، فلما سمعها الخليفة هارون الرشيد استوى قائماً على قدميه وقال لها: أحسنت ورب الكعبة يا تودد فعند ذلك قال لها إبراهيم النظام: أخبريني عن قول الشاعر:
مهفهفة الأذيال عذب مذاقـهـا             تحاكي القني لكن بغير سنـان
ويأخذ كل الناس منها منافـعـا             وتؤكل بعد العصر في رمضان

قالت: قصب السكر قال: فأخبريني عن مسائل كثيرة قالت: وما هي? قال: ما أحلى من العسل وما أحد من السيف وما أسرع من السهم وما لذة ساعة وما سرور ثلاثة أيام وما أطيب يوم وما فرحة جمعة وما الحق الذي لا ينكره صاحب الباطل وما سجن القبو وما فرحة القلب وما كيد النفس وما موت الحياة وما الداء الذي لا يداوى وما العار الذي لا ينجلي وما الدابة التي لا تأوي إلى العمران وتسكن الخراب وتبغض بني آدم وخلق فيها خلق من سبعة جبابرة قالت له: اسمع جواب ما قلت ثم انزع ثيابك حتى أفسر لك ذلك قال لها أمير المؤمنين: فسري وهو ينزع ثيابه قالت: أما ما هو أحلى من العسل فهو حب الأولاد البارين بوالديهم، وأما ماهو أحد من السيف فهو اللسان، وأما ما اسرع من السهم فهو عين الميعان، وأما لذة ساعة فهو الجماع وأما سرور ثلاثة أيام فهو النورة للنساء، وأما ما هو أطيب يوم فهو يوم الربح في التجارة، وأما فرحة جمعة فهو العروس، وأما الحق الذي لا ينكره صاحب الباطل فهو الموت، وأما سجن القبر فهو الولد السوء، وأما فرحة القلب فهي المرأة المطيعة لزوجها وقيل: اللحم حين ينزل عن القلب فإنه يفرح بذلك، وأما كيد النفس فهو العبد العاصي، وأما موت الحياة فهو الفقر، وأما الداء الذي لا يداوى فهو سوء الخلق، وأما العار الذي لا ينجلي فهو البنت السوء، وأما الدابة التي لا تأوي إلى العمران وتسكن الخراب وتبغض بني آدم وخلق فيها سبعة جبابرة فإن الجرادة رأسها كرأس الفرس وعنقها عنق الثور وجناحها جناح النسر ورجلها رجل الجمل وذنبها ذنب الحية وبطنها بطن العقرب وقرنها قرن الغزال.
فتعجب الخليفة هارون الرشيد من حذقها وفهمها ثم قال للنظام: انزع ثيابك فقام وقال: أشهد على جميع من حضر هذا المجلس أنها أعلم مني ومن كل عالم ونزع ثيابه وقال لها: خذيها لا بارك الله لك فيها، فأمر له أمير المؤمنين بثياب يلبسها ثم قال أمير المؤمنين: يا تودد بقي عليك شيء مما وعدت به وهو الشطرنج وأمر بإحضار الشطرنج والكمنجة والنرد فحضروا وجلس الشطرنجي معها وصفت بينهما الصفوف ونقل ونقلت فما نقل شيئاً إلا أفسدته عن قريب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما لعبت الشطرنج مع المعلم بحضرة أمير المؤمنين هارون الرشيد صارت كلما نقل نقلاً أفسدته حتى غلبته ورأى الشاه مات، فقال: أنا أردت أن أطعمك حتى تظني أنك عارفة لكن صفي حتى أريك، فلما صفت الثاني قال في نفسه: افتح عينيك وإلا غلبتك وصار ما يخرج قطعة إلا بحساب وما زال يلعب حتى قالت له: الشاه مات، فلما رأى ذلك منها دهش من حذقها وفهمها فضحكت وقالت له: يا معلم أنا أراهنك في هذه المرة الثالثة على أن أرفع لك الفرزان ورخ الميمنة وفرس الميسرة وإن غلبتني فخذ ثيابي وإن غلبتك أخذت ثيابك.
قال: رضيت بهذا الشرط ثم صفا الصفين ورفع الفرزان والرخ والفرس وقالت له: انقل يا معلم فنقل وقال: ما لي لا أغلبها بعد هذه الحطيطة وعقد عقداً وإذا هي نقلت نقلاً قليلاً إلى أن صيرت له فرزانا ودنت منه وقربت البيادق والقطع وشغلته وأطعمته قطعة فقطعها، فقالت: الكيل كيل وافي والرز رز صافي فكل حتى تزيد على الشبع، ما يقتلك يا ابن آدم إلا الطمع أما تعلم أني أطعمتك لأخدعك انظر فهذا الشاه مات ثم قالت له: انزع ثيابك فقال لها اتركي لي السراويل وأجرك على الله وحلف بالله لا يناظر أحداً ما دامت تودد ببغداد ثم نزع ثيابه وسلمها لها وانصرف. فجيء بلاعب النرد فقالت له: إن غلبتك في هذا اليوم فماذا تعطيني? قال: أعطيك عشر ثياب من الديباج القسطنطيني المطرز بالذهب وعشر ثياب من المخمل وإن غلبتك فما أريد منك إلا أن تكتبي لي درجاً بأني غلبتك قالت له: دونك وما عولت عليه فلعب فإذا هو قد خسر وقام وهو يرطن بالإفرنجية ويقول: ونعمة أمير المؤمنين إنها لا يوجد مثلها في سائر البلاد، ثم إن أمير المؤمنين دعا بأرباب آلات الضرب? قالت: نعم فأمر بإحضار عود محكوم مدعوك مجرود صاحبه بالهجران مكدود فوضته في حجرها وأرخت عليه نهدها وانحنت عليه انحناءة والدة ترضع ولدها وضربت عليه اثني عشر نغماً حتى ماج المجلس من الطرب وأنشدت تقول:
أقصروا هجركم أقلوا جفاكم               فؤادي وحقكم ماسـلاكـم
وارحموا باكياً حزيناً كئيبـا                 ذا غرام متيم في هـواكـم

فطرب أمير المؤمنين وقال: بارك الله فيك ورحم من علمك، فقامت وقبلت الأرض بين يديه، ثم إن أمير المؤمنين أمر بإحضار المال ودفع لمولاها مائة ألف دينار وقال لها: يا تودد تمني علي، قالت: تمنيت عليك أن تردني إلى سيدي الذي باعني فقال لها: نعم فردها إليه وأعطاها خمسة آلاف دينار لنفسها وجعل سيدها نديماً له على طول الزمان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة أعطى الجارية خمسة آلاف دينار وردها إلى مولاها، وجعله نديماً له على طول الزمان وأطلق له في كل شهر ألف دينار وقعد مع جاريته تودد في أرغد عيش فأعجب الملك من فصاحة هذه الجارية ومن غزارة علمها وفهمها وفضلها في كامل العلوم، وانظر إلى مروءة أمير المؤمنين هارون الرشيد حيث أعطى سيدها هذا المال وقال لها: تمني علي فتمنت عليه أن يردها إلى سيدها فردها إليه وأعطاها خمسة آلاف دينار لنفسها وجعل سيدها نديماً له، فأين يوجد هذا الكرم بعد الخلفاء العباسيين رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
جملة حكايات تتضمن عدم الاغترار بالدنيا والوثوق بها وما ناسب ذلك ومما يحكى أيها الملك السيعد أن ملكاً من الملوك المتقدمين أراد أن يركب يوماً في جملة أهل مملكته وأرباب دولته ويظهر للخلائق عجائب زينته فأمر أصحابه وأمراءه وكبراء دولته أن يأخذوا أهبة الخروج معه، وأمر خازن الثياب بأن يحضر له من أفخر الثياب ما يصلح للملك في زينته وأمر بإحضار خيله الموصوفة العتاق المعروفة ففعلوا ذلك ثم إنه اختار من الثياب ما أعجبه ومن الخيل ما استحسنه، ثم لبس الثياب وركب الجواد وسار بالموكب والطوق المرصع بالجواهر وأصناف الدرر واليواقيت، وجعل يركب الحصان في عسكره ويفتخر بتيهه وتجبره، فأتاه إبليس فوضع يده على ممخره ونفخ في أنفه نفخة الكبر والعجب فزها وقال في نفسه: من في العامل مثلي وطفق يتيه بالعجب الأكبر ويظهر الأبهة ويزهو بالخيلاء ولا ينظر إلى أحد من تيهه وتكبره وعجبه وفخره.
فوقف بين يديه رجل عليه ثياب رثة، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام فقبض على عنان فرسه فقال له الملك: ارفع يدك فإنك لا تدري بعنان من قد أمسكت، فقال له: إن لي إليك حاجة، فقال: اصبر حتى أنزل واذكر حاجتك، فقال: إنها سر ولا أقولها إلا في أذنك فمال بسمعه إليه فقال له: أنا ملك الموت وأريد قبض روحك فقال: امهلني بقدر ما أعود إلى بيتي وأودع أهلي وأولادي وجيراني وزوجتي فقال: كلا لا تعود ولن تراهم أبداً فإنه قد مضى أجل عمرك، فأخذ روحه وهو على ظهر فرسه فخر ميتاً ومضى ملك الموت من هناك.
فأتى رجلاً صالحاً قد رضي الله عنه فسلم عليه فرد عليه السلام فقال ملك الموت: أيها الرجل الصالح إن لي إليك حاجة وهي سر، فقال له الرجل الصالح: اذكر حاجتك في أذني فقال: أنا ملك الموت فقال الرجل مرحباً بك الحمد لله فإني كنت كثيراً أراقب مجيئك ووصولك إلي، ولقد طالت غيبتك على المشتاق إلى قدومك فقال له ملك الموت: إن كان لك شغل فاقضه، فقال له: ليس لي شغل أهم عندي من لقاء ربي عز وجل فقال: كيف تحب أن أقبض روحك، فإني أمرت أن أقبضها كيف أردت وأحببت، فقال: أمهلني حتى أتوضأ وأصلي فإذا سجدت فاقبض روحي وأنا ساجد فقال ملك الموت: إن ربي عز وجل أن لا أقبض روحك إلا باختيارك كيف أردت وأنا أفعل ما قلت فقام الرجل وتوضأ وصلى فقبض ملك الموت روحه وهو ساجد ونقله الله تعالى إلى محل الرحمة والرضوان والمغفرة.
وحكي أن ملكاً من الملوك كان قد جمع مالاً عظيماً لا يحصى عدده واحتوى على أشياء كثيرة من كل نوع خلقه الله تعالى في الدنيا ليرفه عن نفسه حتى إذا أراد أن يتفرغ لما جمعه من النعم الطائلة بنى له قصراً عالياً مرتفعاً شاهقاً يصلح للملوك ويكون لائقاً ثم ركب عليه بابين ووثب له الغلمان والأجناد والبوابين كما أراد، ثم أمر الطباخ في بعض الأيام أن يصنع له شيئاً من أطيب الطعام وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته وسيادته واتكأ على وسادته وخاطب نفسه وقال: يا نفس قد جمعت لك نعم الدنيا بأسرها، فالآن تفرغي وكلي من هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل والحظ الجزيل، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والخمسين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما حدث نفسه وقال لها: كلي من هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل والحظ الجزيل، ولم يفرغ مما حدث به نفسه، حتى أتاه رجل من ظاهر القصر عليه ثياب رثة وفي عنقه مخلاة معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق حلقة باب القصر طرقة عظيمة هائلة كادت تزلزل القصر وتزعج الشرير، فخاف الغلمان فوثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا له: ويحك ما هذه الفعلة وسوء الأدب اصبر حتى يأكل الملك ونعطيك مما يفضل، فقال للغلمان: قولوا لصاحبكم يخرج إلي حتى يكلمني فلي حاجة وشغل مهم وأمر ملم، قالوا: تنح أيها الضيف من أنت حتى تأمر صاحبنا بالخروج إليك? فقال لهم: عرفوه ذلك فجاؤوا إليه وعرفوه فقال: هلا زجرتموه وجردتم عليه السلام ونهرتموه، ثم طرق الباب أعظم من الطرقة الأولى فنهض الغلمان إليه بالعصي والسلام وقصدوه ليحاربوه فصاح بهم صيحة وقال: الزموا أماكنكم فأنا ملك الموت فرعبت قلوبهم وذهبت عقولهم وطاشت حلومهم وارتعدت فرائصهم وبطلت عن الحركة جوارحهم، فقال لهم الملك: قولوا له أن يأخذ بدلاً مني وعوضاً عني، فقال ملك الموت: لا آخذ بدلاً ولا أتيت إلا من أجلك، ثم أن ملك الموت قبض على روحه وهو على سريره قال الله تعالى: )حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون(.
ومما يحكى أن ملكاً جباراً من ملوك بني إسرائيل كان في بعض الأيام جالساً على سرير مملكته فرأى رجلاً قد دخل عليه من باب الدار وله صورة منكرة وهيئة هائلة، فاشمئز من هجومه عليه وفزع من هيئته فوثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل، ومن أذن لك بالدخول علي وأمرك بالمجيء إلى داري? فقال: أمرني صاحب الدار وأنا لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى اذن ولا أرهب سياسة سلطان ولا كثرة أعوان أنا الذي لا يفزعني جبار ولا لأحد من قبضت فرار، أنا هادم اللذات ومفرق الجماعات، فلما سمع الملك هذا الكلام خر على وجهه ودبت الرعدة في بدنه ووقع مغشياً عليه فلما أفاق قال: أنت ملك الوت قال: نعم قال: أقسمت عليك بالله إلا ما أمهلتني يوماً واحداً لأستغفر من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأرد الأموال التي في خزائني إلى أربابها، ولا أتحمل مشقة حسابها، وويل عقابها فقال ملك الموت: هيهات لا سبيل لك إلى ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والخمسين بعد الأربعمائة

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الموت قال للملك: هيهات لا سبيل لك إلى ذلك وكيف أمهلك وأيام عمرك محسوبة وأنفاسك معدودة وأوقاتك مثبوتة مكتوبة? فقال: أمهلني ساعة فقال: إن الساعة في الحساب قد مضت وأنت غافل، وانقضت وأنت ذاهل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك إلا نفس واحد فقال: من يكون عندي إذا نقلت إلى لحدي? قال: لا يكون عندك إلا عملك، فقال: ما لي عمل قال: لا جرم أنه يكون مقيلك في النار ومصيرك إلى غضب الجبار، ثم قبض روحه فخر ساقطاً عن سريره ووقع إلى الأرض فحصل الضجيج في أهل مملكته وارتفعت الأصوات وعلا الصياح والبكاء ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم عليه أكثر وعويلهم أشد وأوفر.
ومما يحكى أنه كان في بني إسرائيل قاض من قضاتهم وكان له زوجة بديعة الجمال كثيرة الصون والصبر والاحتمال، فأراد ذلك القاضي النهوض إلى زيارة البيت المقدس فاستخلف أخاه على القضاء وأوصاه بزوجته وكان أخوه قد سمع بحسنها وجمالها فكلف بها فلما سار القاضي توجه إليها وراودها عن نفسها فامتنعت واعتصمت بالورع فأكثر الطلب عليها وهي تمتنع، فلما يئس منها خاف أن تخبر أخاه بصنيعه إذا رجع فاستدعى بشهود زور يشهدون عليها بالزنا، ثم رفع مسألتها إلى ملك ذلك الزمان فأمر برجمها، فحفروا لها حفرة وأقعدوها فيها ورجمت حتى غطتها الحجارة وقال: تكون الحفرة قبرها فلما جن الليل صارت تئن من شدة ما نالها فمر بها رجل يريد قرية فلما سمع أنينها قصدها وأخرجها من الحفرة وحملها إلى زوجته وأمرها بمداواتها حتى شفيت.
وكان للمرأة ولد فدفعته إليها فصارت تكفله ويبيت معها في بيت ثان، فرآها أحد الشطار فطمع فيها وأرسل يراودها عن نفسها فامتنعت فعزم على قتلها، فجاءها الليل ودخل عليها البيت وهي نائمة ثم هوى بالسكين إليها فوافق الصبي فذبحه، فلما علم أنه ذبح الصبي أدركه الخوف فخرج من البيت وعصمها الله منه ولما أصبحت وجدت الصبي مذبوحاً وجاءت أمه وقالت: أنت التي ذبحتيه ثم ضربتها ضرباً موجعاً وارادت ذبحها فجاء زوجها وأنقذها منها وقال: والله لم تفعل ذلك.
فخرجت المرأة فارة بنفسها لا تدري أين تتوجه وكان معها بعض دراهم فمرت بقرية والناس مجتمعون ورجل مصلوب على جذع شجرة إلا أنه في قيد الحياة فقالت: يا قوم ما له? قالوا لها: أصاب ذنباً لا يكفره إلا قتله أو صدقه كذا وكذا من الدراهم، فقالت: خذوا الدراهم وأطلقوه فتاب على يديها ونذر على نفسه أنه يخدمها لله تعالى حتى يتوفاه الله ثم بنى لها صومعة أسكنها فيها وصار يحتطب ويأتيها بقوتها، واجتهدت المرأة في العبادة حتى كان لا يأتيها مريض أو مصاب فتدعو له إلا شفي من وقته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


ألف ليلة وليلة الجزء السادس